الحمد لله، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، الحمد لله الذي أرسى قواعد الدين، ونهج سبيل المُتقين، وأعان عباده الصادقين بحُسن العزيمة وصدق النية على أن يكونوا من زُمرة المُصلين والمُتصدِّقين والصائمين، ثم تفضَّل – سُبحانه وتعالى – فأجزل لهم العطية، وأحسن لهم الموهبة، فتقبَّل منهم، ودعاهم إلى أن يدعوه، وأوعدهم – سُبحانه وتعالى – أو وعدهم إن هم دعوه أن يُلبيهم وأن يُعطيهم وأن يمنحهم، فقال وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۩.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، خير مَن صلى وصام، وخير مَن حج واعتمر وطاف وصلى خلف المقام، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين الميامين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

الله أكبر على النفس إذ تنتصر على نفسها، الله أكبر، الله أكبر في حق مُؤمِن استطاع أن يقتحم العقبة، وأن يُبرهِن لنفسه أنه من عباد الله الأبرار المُتقين، كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، ومن هنا فلتكن بدايتنا أيها الإخوة والأخوات.

نشعر بفرحة ونشعر بحُزن على أن فارقنا هذا الشهر الذي اصطلح المُسلِمون على نعته بالكريم، ولنعم ما اصطلحوا عليه، فهل أكرم من رمضان؟! رمضان الذي وصل حبالنا بحبل الله – سُبحانه وتعالى -، فأحسسنا بالقُرب الخاص من مجده في جلاله – سُبحانه وتعالى – في أيام معدودات وليال مُنصرِمات.

رمضان الذي قوَّى علاقتنا بكتاب الله – سُبحانه وتعالى -، فدرسناه وتلوناه وتأملناه، ما لم ندرس وما لم نتل في غير رمضان، رمضان الذي جعلنا حليف بيوت الله أو حلفاء بيوت الله – سُبحانه وتعالى -، نتردَّد عليها كل ليلة، على مدى شهر كامل، نخضع ونخشع وندعو ونركع، ولعل الله يجعلنا من المقبولين.

رمضان الذي أطلق ألسنتنا لهجةً بذكر الله – سُبحانه وتعالى – في الأصابح والأماسي والغدوات والروحات آناء الليل وأطراف النهار، رمضان الذي رد إلينا ما استلبته منا أيدي الشهوات، وأعاد إلينا ثقتنا بنفوسنا، أننا بشر، وأننا آدميون، لكن يُمكِن أن نتسامى إلى منزلة ملكية، وأن نرقى مراقي صمدية – بإذن الله تبارك وتعالى -، فهذا هو رمضان.

رمضان الذي نزع من قلوبنا الغل فأحسننا بالأخوة والمحبة والتراحم، يدعو بعضنا لبعض، ويُعطي بعضنا بعضاً، ويسأل بعضنا عن بعض، ونلتقي بعضنا كل يوم وليلة – بفضل الله تبارك وتعالى -.

أليس كريماً ذاكم الشهر؟! إنه كريم وأي كرم، ولكن ماذا بقيَ من رمضان؟ علينا أن نسأل أنفسنا ماذا بقيَ من رمضان؟ إنه ميراث رمضان، ميراثه أن نظل سائرين في درب القرآن، لا نهجره ولا نقليه، بل نتلوه – إن شاء الله – آناء الليل وأطراف النهار وإن لم يكن بذاكم القدر، ولكن القرآن – إن شاء الله – ميراثاً ووفاءً لميراث رمضان لا يُترَك بعد اليوم، فهذا من ميراث رمضان.

ميراث رمضان أن نستمر سائرين في طريق الله – سُبحانه وتعالى -، لا نغفل عنه، نذكره في السر والعلن، في الخلوة والجلوة، ونلهج بذكره – سُبحانه وتعالى -، هذا ميراث رمضان، هذا الذي أورثنا إياه رمضان.

ميراث رمضان – أيها الإخوة والأخوات – أن نبسط أيدينا بالعطايا والصدقات لعباد الله البائسين، لعباد الله المُملِقين، الذين ربما يُسأل عنهم قليلاً وعن بعضهم لا يُسأل لا قليلاً ولا كثيراً، ولذلك رمضانكم وصيامنا مُعلَّق بصدقة الفطر، لماذا جعله رب العزة والجلال مرهوناً مُعلَّقاً بهذه الصدقة؟ رمزية عالية، وهي صدقة يسيرة، لا ترزأ أحداً ولا تفدحه في مال طائل، لكن رمزيتها أن مَن صام وتحقَّق بسر الصيام ونفذ فيه يتعالى بعد ذلك على أنانيته، يخرج من شرنقته، ليُصبِح عبداً باراً، ولا بر بغير تواصل، ولا بر بغير تراحم.

ولذلك الناس رجلان: بر تقي وفاجر شقي، ومغزى رمضان كامن في قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، فلا بر ولا تقوى إلا بالعطاء والرضخ مما أوسع الله – تبارك وتعالى – علينا، فهذه رمزية هذه الصدقة أو هذه الزكاة الجليلة، إنها تُريد أن تُبرِّرنا، وأن تجعلنا من عباد الله المُتقين.

ولأختم بهذه المُلاحَظة جواباً عن تساؤل يسير، رمضان بلا شك دواء، لعله ينجع مع بعض، ولا ينجع في بعض حالات، والعلة من القابل وليست من الفاعل، الدواء الناجع كيف يُختبَر؟ كيف تُعيَّر نجاعته؟ بظهور آثاره ومفاعيله، كذلكم رمضان، مَن أراد أن يعرف هل رمضانه مبرور وهل صيامه مقبول – إن شاء الله، جعلني الله وإياكم والمُسلِمين والمُسلِمات أجمعين من المقبولين والمسعودين والمبرورين – فعليه بالآتي، كيف يُعرَف هذا؟ بظهور آثاره ومفاعيله، ما هو أثره الرئيس؟ وما هو مفعوله العتيد؟ مرة ثالثة أو رابعة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، قال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩.

ولقد يسأل سائل وكيف أُعيِّر هذه التقوى؟ ما هي الآلية التي أستطيع أن أعرف بها مُستوى التقوى لدي؟ هناك طريقتان، الطريقة الأولى طريقة الاستقراء الكُلي لآيات كتاب الله التي نعتت المُتقين ووصفت مجالي وميادين التقوى، وهذه طريقة لا يتسع لها مثل هذا المقام، طريقة أُخرى أيسر وأقرب كثيراً، وهي البحث فيما يُقابِل التقوى، ما الذي يُقابِل التقوى؟ الفجور، وكما قلنا الناس رجلان: بر تقي وفاجر شقي، إذن هذه التقوى وهذا الفجور، ما هو الفجور؟ 

الفجور ألا يستحي المرء حين يستعلن بمعصية الله – تبارك وتعالى -، يفقد الحياء حتى ليس من الله، بل من البشر، فهذا إنسان فاجر – والعياذ بالله -، وهو بعيد من رحمة الله، إلا أن يُتدارك بتوبة صادقة، الفاجر – والعياذ بالله – بعيد من رحمة الله، إلا أن تُدرِكه توبة صادقة.

إذن التقي مَن هو؟ عكس الفاجر تماماً، ورمضان جاء ليُؤسِّس ويُرسِّخ ويُعلِّم التقوى، كيف لا تكون تقياً يا صائم وأنت لا تعصي الله في سرك؟! الصوم يُعلِّمنا أن نرقب الله – تبارك وتعالى – ونحن في خلواتنا، من حيث لا يرانا أحد إلا هو، لكننا أيضاً نزم شهواتنا، نأخذ بأزمتها، نقمع ونكمع نفوسنا، وننتصر علينا، ونتغلَّب عليها، من حيث لا يرانا أحد إلا الله، هذه هي التقوى، وهذه هي عكس الفجور تماماً.

فمَن وجد نفسه في غير رمضان يرقب ربه في سره وعلانيته، في خلواته وجلواته، يُحافِظ على عباداته، يُعطي الإنصاف من نفسه، لا يبتغي بهذا إلا وجه الله – تبارك وتعالى -، فإذن هذا نجع فيه رمضان، هذا يُقال فيه حقاً إنه صام رمضان، هذا هو الذي شُرِع له هذا العيد، العيد ليس لمَن أدرك رمضان وأدركه رمضان أبداً، إنما العيد لمَن قُبِل في رمضان، هذا هو عيده.

نسأل الله أن نكون جميعاً في علمه وبرحمته من الذين حق لهم وانبغى لهم أن يكونوا من المُعيِّدين.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا، نبتهل إليك ضارعين خاشعين، إن لم تكن قبلتنا في رمضان فاقبلنا في هذا العيد، لكي نكون من المسعودين، ولكي نكون من المسرورين المحبورين، برحمتك سألناك فلبنا وأعطنا، إلهنا ومولانا.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                     (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وعظيمنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، صَلَىَ الله – تعالى – عليه، وعلى آله الطيبين، وصحابته الميامين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

أيها الإخوة والأخوات:

ولا يفوتني في هذه المُناسَبة السعيدة الكريمة أن أُذكِّر نفسي وإخواني أن أول وأوجب ما ينبغي أن يعجل إليه المُؤمِن والمُؤمِنة في هذه الساعات الباكرة من هذا اليوم الكريم من أيام الله – يوم الجائزة كما ورد في الأخبار – هو أن يُهرَع إلى مَن بينه وبينه قطيعة أو خصومة، فيستصلح ما بينهما، فيستسمح أخاه أو قريبه أو رحمه، إن كان قريباً في كنفه أو كان بعيداً، فليُهاتِفه ولو بهاتف، انتبهوا! لأن الله – تبارك وتعالى – لن يتقبَّل عمل ولا صيام مَن أصبح في هذا اليوم مُهاجِراً مُخاصِماً لأحد من هذه الأمة، فلنتعال على غلنا وعلى أحقادنا وعلى ضعفنا، فهذا أيضاً من ميراث رمضان، رمضان علَّمنا أن نتعالى على ضعف النفس، على ضعف الشهوة، على ضعف البشرية والآدمية، فلنستصلح ما بيننا وبين إخواننا وأحبابنا وأرحامنا، وليُسامِح بعضنا بعضاً – إن شاء الله تبارك وتعالى -، فمَن يدري، لعل بعضنا لا يُدرِك رمضان القابل.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُحسِن لنا الجزاء ولأمة حبيبه – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – أجمعين.

اللهم تقبَّل عنا أحسن ما عملنا، وتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يُوعدون.

اللهم إنا نسألك ونبتهل إليك أن تُعيد رمضان وهذا العيد الكريم على أمة حبيبك – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – وهم في خير حال، وهم في حال خير من هذه الحال، بأمن وإيمان وسلامة وإسلام وعز وظفر وغلبة وتمكين، وقد وحَّدت صفوفهم، وجمعت كلمتهم، ولممت شعثهم، ورأبت صدعهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.

رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ۩، اللهم إنا نسألك أن تُكرِمنا في أنفوسنا وفي أزواجنا وفي أبنائنا وفي بناتنا وفي كل ما خوَّلتنا، إنك نعم الحسيب، ونعم الوكيل، وتقبَّل الله مني ومنكم ومن سائر المُسلِمين والمُسلِمات، وليهنأكم عيدكم هذا، والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

(3/9/2008)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: