إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ  ۩ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ۩ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۩ 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

لم يبق من رمضان – هذا الشهر الكريم الفضيل – إلا أيامٌ معدودات وليال منزورات ثم نستقبل عيدنا ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعله عيد نصرٍ وظفر وفرحةٍ وأمانٍ لأمة محمد جمعاء. صلى الله على محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ومما يُشرَع بالصوَّم في نهاية هذا الشهر الكريم وهم يستقبلون عيدهم أن يُخرِجوا ما يُعرَف بالفطرة، أي صدقة أو زكاةَ الفطر منسوبةً إلى الفطر من شهر رمضان وهى فريضة على كل مسلم ومسلمة من المُكلَّفين ومن غير المُكلَّفين لأنها تلزمُ غير المُكلَّفين في أموالِ مَن يعولونهم، ورأي الجمهور أنها تلزمُ الزوج عن زوجه أي عن زوجته خلافاً للإمام أبي حنيفة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – لما رواه الجماعة من حديث عبد الله بن عمر – رضيَ الله تعالى عنهما – حيث قال “قال صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم فرض الله – تبارك وتعالى – صدقةَ أو زكاةَ الفطرِ صاعاً من تمرٍ أو صاعاً من شعير على كل صغيرٍ أو كبير، ذكرٍ أو أنثى، حُرٍ أو عبد من المسلمين”، ولذلك هى غير واجبة على المسلم في زوجته غير المسلمة، أي إن كانت غير مسلمة فليست هذه الزكاة واجبة وإنما تجب عليه وتُعصَب بجبينه في حق مَن يعولوهم من المسلمين، وهذه الصدقة أو الزكاة أو الفطرة في رأي الجماهير – وهذا هو الرجيح – ليس يُشترَطُ فيها النصاب المشروط في زكاة الأموال وهو زُهاء تسعين أو اثنين وتسعين جراماً من الذهب، فلا يُشترَطُ في وجوبِ أو لوجوبِ إخراجها وفرضيتها ملك النصاب، فمَن لا يملك النصاب يجب عليه أيضاً أن يُخرِج زكاة الفطر لأنها تجبُ على كل مسلم ومسلمة إن كان يملكُ مقدارها فاضلاً عن قوته وقوت مَن يعول يوم العيد وليلته، أي فاضلاً أيضاً عن الحوائج الأصلية والضرورية من أثاثٍ ومسكن ولباسٍ ومركب، فإن زاد عنده هذا الشيئ وهو مقدار يسير جداً يجب عليه أن يُزكِّيه ويجب عليه أن يتصدَّق به، فهذه هى صدقة الفطر، إذن هى بمعنى أو بآخر ضريبة على الرؤوس – كما يُقال – وليست ضريبةً في الأموال، فالزكاة العادية ضريبة في الأموال لذلك اشتُرِطَ فيها – أي لوجوبها وفرضيتها – ملك النصاب، أما الفطرة – بالكسر – فلم يُشترَط فيها هذا في رأي الجماهير خلافاً للأحناف – رضيَ الله عن الجميع وأرضاهم – لكن هل لهذا معنى؟!

نعم له معنى وأي معنى، وله دلالة وأي دلالة، ولكن قبل أن نخوض – لأن تتمة الخُطبة ستكون تفصيلاً في هذه الدلالة – نُحِب أن نُعرِّج على حكمتها المُزدوَجة والتي أعرض عنها الحديث الذي أخرجه الإمام أبو داود وغيره عن ابن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما – حيث قال “قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – فرض الله زكاة الفطر طُهرةً للصائمِ من الرفثِ واللغو وطعمةً للمساكين”، إذن هى ذاتُ حكمةٍ ودلالة ومغزاً مُزدوَج، فهى طُهرة للصائم لأنه ما من صائم إلا وشاب صومه شيئٌ من إثمٍ، كأن يكون ذكر بعض الناس بسوء وكأن يكون طمحت عينه إلى ما لا يحل وكأن وكأن، ولذلك لا يجوز لأحد أن يقول “صومت رمضان كله وقومت رمضان كله” ولو صام ثلاثين وقام ثلاثين، يقول أبو بكر نُفيع بن الحارث صاحب رسول الله – رضيَ الله عنه وأرضاه – لا أدري أكره التزكية – قال الله  فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ۩، أي أنه يُكرَه الإنسان أن يُزكي نفسه، فلا تقل لقد صومت رمضان كله وقومت رمضان كله لأن مَن يقول هذا يفخر ويدل بعمله ولذلك يُكرَه له أن يفعل هذا – أم لابد من نقص أو كما قال، ولعله يشير إلى النقص الذي يشوب صوم الصائم وعبادة العابد في رمضان وهذا صحيح، والمعنيان لا يتنافيان بل يتآزران، قال الله فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ۩، أي يقبح بالإنسان أن يُزكي نفسه من غير داعٍ، لكن إن وجد الداعي فيا حياهلا كما قال يوسف إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ۩ لداعية مُعيَّنة، كأن يتعرَّض لمنصب يُريد أن يُصلِح من خلاله، ولكن من غير داعية فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ۩، وأيضاً يشوب الإنسان شيئٌ من النقص والتقصير، أعني عمله، ولذلك أتت هذه الفطرة أو هذه الزكاة لكي تجبر هذا النقصان وتُعفي على آثار ما عساه يكون ألمَّ به العبد الصائم القائم من مأثم، وهذا معنىً جميل جداً جداً، لذلك صومنا وقيامنا وعبادتنا في هذا الشهر الفضيل تبقى مُعلَّقةً بين السماء والأرض ومرهونةً بالفطرة، مَن أخرج صدقة الفطر رُفِعَ عمله وإلا يُرَد، لذلك هى مُهِمةٌ جداً، فينبغي ألا نتساهل فيها إذن.

لن أخوض الآن في الأحكام الفقهية ولكن باختصار مَن أحب أن يُخرِجها من اليوم يجوز، أبو حنيفة جوَّز تعجيل الفطرة من أول الحول، فمن أول العام الهجري تستطيع أن تُخرِجها قبل رمضان أصلاً، والشافعي جوَّز إخراجها من أول الشهر الفضيل، فمن أول رمضان تستطيع ان تُخرِج الفطرة، وأما أحمد فتوسَّط فجوَّز إخراجها في النصف الثاني من رمضان، والمالكية تشدَّدوا فمنعوا تعجيلها قبل وقتها، ووقت وجوبها عندهم بل عند الجمهور – عند الشافعي وعند أحمد ورواية عن مالك – هو بمغيبِ شمس آخر يوم من رمضان، لأن  رمضان سوف يكون انتهى وذهب الصوم، وهذا وجيه، وعند الإمام أبي حنيفة ومالك – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – في الرواية الأخرى – في ثاني روايتيه – إنما تجبُ بفجر العيد أو بطلوع فجر العيد، فلا تُؤخَّر بعد العيد، لذلك علينا أن ننتبه إلى أنه ورد أن مَن أخَّرها بعد العيد فإنما هى صدقة من الصدقات ولا تُصبِح زكاة، لذلك لابد أن نُخرِجها قبل، فنستطيع أن نُخرِجها من اليوم، ومَن أخرجها من قبل فلا بأس، وعلى كل حال هذا مُلخَّص الأحكام، لكن هل تجب على الجنين؟ لا تجب على الجنين، إن وُلِدَ قبل وقت وجوبها وجبت في مال أبيه، أما إن وُلِدَ بعض وقت وجوبها واختُلِف في وقت وجوبها فلا شيئ – إن شاء الله – فيه.
نعود إذن إلى موضوعنا، الحكمة الثانية من الحكمتين المُنوَّه بهما “وطعمة للمساكين”، قال عليه الصلاة وأفضل السلام “أغنوهم عن التطواف”، وقال حديثاً آخر “أغنوهم عن ذل الحاجة في هذا اليوم”، فهذا اليوم عيد تفرح فيه الناس، فليس يليق وليس يجمل أن يتكفَّف فيه الفقراء طعامهم، لمثل هذا يذوب القلب الحاني الرؤوف الرحيم، يذوب حين يرى بعض العوائل وبعض النساء وبعض الأطفال يتكفَّفون الناس في مثل هذا اليوم الذي يفرح فيه الفارحون بهداياهم من الأطفال طبعاً والصبيان وبألعابهم وبثيابهم وأزيائهم الجديدة وما إلى ذلكم وهؤلاء يشحذون ويتكفَّفون طعمتهم، فلا يليق أن يكون هذا في مُجتمَع مسلم، لذلك قال الرسول “وطُعمة للمساكين “، واللطيف في هذه الزكاة أنها تجبُ أيضاً على الفقراء لأن الذي لا يملك نصاب الزكاة المفروضة – النصاب هو اثنان وتسعون جراماً من الذهب – هو فقير وهذا أمر معروف، لأن الزكاة المفروضة تُعطى وتُصرَف في مصارفها الثمانية، وأهم هذه المصارف الفقراء والمساكين، فمَن هو الفقير؟ ومَن هو المسكين؟

في الجُملة الفقير هو الذي لا يملكُ نصاباً، فالذي لا يملك نصاباً هذا ليس غنياً، مَن ملك النصاب صار غنياً ووجبت الزكاةُ في ماله لكن مَن لم يملك نصاباً فهو الفقير الذي تجبُ له الزكاة فيمَن تجب لهم من المصارف الثمانية لأن هذا فقير، والذي ليس عنده ملكاً زائداً فائضاً عن حوائجه وخالياً من الدين والاستحقاقات الضرورية – اثنان وتسعون جراماً من الذهب – فهذا فقير، ولكن مثل هذا الفقير يُخرِج زكاة الفطر وهذا شيئ عجيب، لأننا قلنا الذي عنده مقدار زكاة الفطر – صاع من تمر، صاع من شعير، صاع من قمح، صاع من زبيب، هنا الآن صاع من أرز مثلاً، يعني أربعة أمداد تقريباً، أي عنده ألفين ومائتين جرام فقط لأن هذا هو الصاع – فليُخرِج، أبو حنيفة قال نصف صاع، والجمهور قالوا صاع، وهذا نص الحديث، لكن على كل حال يُخرِج ألفين ومائتين جرام فقط، أي اثنان كيلو تقريباً، كيلان من هذه الأشياء أو من طعام غالب طعام أهل البلد، وهذا شيئٌ يسير جداً، فإن زاد عنك هذا وعن كل رأس مِن مَن تمون وتعول – كما قلت – بشرطه يجبُ عليك أن تُخرِجه، فإذن يُخرِجها الفقير أيضاً، وهذه حكمة إلهية عجيبة جداً، لأن هذا شرعٌ رباني وهذا وضعٌ إلهي، فالشريعة أوضاع إلهية وهذا فعلاً وضعٌ إلهي من كل جهة وبكل اعتبار، لكن كيف هذا؟!

حوائج الناس لا تنقضي، وحوائج الناس كثيرة، في أرقى الدول وأغنى الدول ليست تكفي البرامج الحكومية الرسمية لسد حاجات وخلل كل الناس، هذا مُستحيل، وإلا ائتني بأي دولة تفعل هذا، لكن في حقيقة الأمر سوف تجد فيها بعض المعوزين وبعض المُحتاجين، نعم هناك مَن يُشمَل – مَن هو مشمول – بالضمان الاجتماعي مالياً وصحياً لكن أنواع خاصة من العمليات – مثلاً – في ظروف مُعيَّنة لا يستطيع أن يُجريها ولا يشملها الضمان، وهذا في أرقى الدول، فكيف الحالفي الدول الإسلامية اليوم وفي الدول العربية التي هى من حيث الموارد أغنى الدول بلا شك – من حيث الموارد الريعية – ولكن مُعظم أبنائها وبناتها وأهليها من الفقراء؟ كما يُقال فقرٌ يمشي على أرض من ذهب، إذن لابد للمُجتمَع أن يقوم بعضه ببعض، فما الذي يمنع الناس أن يُعنوا بأنفسهم وأن يقوم بعضهم ببعض، فيقوم الغنيُ بالفقير والقوي بالضعيف والواجد بالمُعدِم؟!

الشح – قال الله وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ ۩- والحسابات المنطقية المادية الاقتصادية والتقديرات العقلائية، فتجد الغني في نظرك وفي نظري يرى نفسه تقريباً شبه فقير، لأنه لا يُقايس نفسه إليك وإلىّ وإنما يُقايس نفسه إلى أصحاب المليارات فيقول “أنا مسكين، أنا عندي ملايين – عنده ملايين، عشرة مليون أو عشرون مليون وبالتالي يعتبر نفسه فقير جداً المسكين، فيري العشرين مليوناً لا شيئ – يسيرة فقط لكن فلان عنده ألفا مليون أو عشرون ألف من الملايين، أي عشرون مليار أو بليون Billion  بالأمريكي، فأنا فقير”، وصحيح إلى حدٍ ما هو فقير إذا قيسَ بالنسبة إلى هؤلاء، فصاحب المليون قطعاً هو فقير بالنسبة إلى صاحب العشرين والثلاثين والخمسين مليون، وصاحب المائة ألف يقول لك “أنا فقير، أنا مُضجِع، أنا على الحديدة كما يُقال، أنا كما خلقتني يا مولاي، مائة ألف يورو لا شيئ، فأنا غليان وليس عندي أي شيئ”، في حين أن صاحب الألف الذي ليس إلا ألف أو خمسة آلاف يرى الذي عنده مائة ألف من الأغنياء ويقول لك “هذا غني جداً يا أخي، عنده مائة ألف”،وهو لا يتخيَّل هذا الرقم، وأبو المائة ألف يرى صاحب المليون من أغنى الأغنياء وهكذا، إذن فالقضايا نسبية، فأرادت هذه الفريضة الربانية الإلهية الحكيمة أن تُشعِر الناس بهذه النسبية لفك أمر مُعيَّن ولإبطال أمر مُعيَّن وهو أنه لا يجوز أن نريث أو نتريث في بذل الندى وفعل الخير والتوسع في وجوه البر ريثما نُصبِح في أنظار أنفسنا وعند ذواتنا من الأغنياء، لأننا لن نُصبِح، فما من غني إلا يرى نفسه فقيراً، لذلك علينا أن ننتبه إلى أنه يُوجَد فعلاً من أصحاب الملايين مَن لا يُخرِج زكاته، لأنها في حُسبانه تنقص ماله، وماله لابد أن يُستثمَر مزيد استثمار لأنه ليس من أصحاب الملايير فيقول “لماذا أُضيعه في زكاة وصدقات وفطرة وكلام فارغ؟ ليس عندي وقت لهذا، أنا أُريد أن ألحق بالركب، أُريد أن ألحق بنادي أصحاب المليارات وهم في بلدي فلان وعلان”، فلا يُخرِّج زكاته، وهكذا صاحب المائة ألف وصاحب المليون وصاحب العشرة آلاف وإلى آخره، فلا يُخرِّجونها أبداً، وهذا غير صحيح، فهذه الزكاة تفتأ عن كل واحد منا على أن ما نملكه أكثر بكثير مما نحتاجه وعلى أن ما عندنا هو أزيد وأسبغ بكثير مما ينبغي أن يكون عندنا ولكنه فضل الله تبارك وتعالى.

تُريد هذه الفريضة وهذه الزكاة أن تُنقِذنا من ورطة ربما تكون من أخطر الورطات التي يتهوَّر فيها الإنسان وهى أن نعيش وأن نموت تعساء، وصدِّقوني مُعظم الأغنياء ومُعظم الواجدين في الشرق والغرب مِمَن لا يُعنون بأبناء بلادهم وأبناء ملتهم وأبناء دينهم، فهم لا يُعنون بالآخرين ولا يدورون إلا على محاور ذواتهم والدائرة الضيقة جداً مِمَن يعولون، يعني الواحد منهم لا يهتم إلا بزوجته وأولاده فقط، ولكنه لا يعتني حتى بأخوته ولا بأشقائه – بعضهم طبعاً وليس كلهم – ولا بشقيقاته، وإن أعطى يُعطي القليل ويمن، وقد يكون ذلك على سبيل القرض أحياناً وهذا شيئ مُقرِّف ومُقزِّز مع أن عنده مئات الألوف أو الملايين، فعلاً شيئ يبعث على القرف والاشمئزاز، ما هى الورطة؟ الورطة أنه – كما قلت لكم – سيعيش تاعساً ويموت خائباً في تعاسة مُتصِلة، يقول أحد الفلاسفة – وقد أحسن ما شاء بقولته هذه – الغربيين “احذروا الفشل الأعظم وهو الاكتئاب”، فهذا أعظم فشل على الإطلاق في نظره، وطبعاً بالنسبة لنا كمسلمين الفشل الأعظم هو الكفر، ولذلك الخاسرون الحقيقيون الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ  ۩، فأعظم فشل أن يعيش المرء كافراً وأن يموت كافراً، صحيح ليس بكافر فلان من المسلمين وليست بكافرة فلانة من المسلمات  ولكنه قريبٌ ولكنها قريبة من الكافرين ومن الذين لا يحضون على طعام المسكين ومن الذين منعون الماعون ومن الذين يقبضون أيديهم، وكل هذه شيات وسمات وعلائمة الكفار، فصحيح أنك مسلم بالإسم والرسم ولكنه بالسلوك والنوازع والدوافع والفعال كافر، فأفعالك هذه أفعال الكفرة تماماً ومن ثم أنت تلتقي معهم فيها، لأن الشح والكزازة والبخل والإحصاء والمنع من صفات الكفار، فلا تبض يدك بقطرة ولا يلين قلبك ولا يذوب حزناً ورأفةً وتحناناً على هؤلاء المنكوبين وعلى الضحايا – ضحايا الفقر والمجاعات والحروب والكوارث الطبيعية – بل لا تُفكِّر فيهم رغم أنهم من ضحايا الظروف وضحايا التفاوت الاجتماعي والظلم السياسي والاقتصادي في بلادنا، ومع ذلك أنت لا تُفكِّر فيهم!

الفيلسوف هذا يُفيدنا أن مثل هذا الشخص سيكون أتعس الناس، مع أنه فيلسوف وليس دارساً لعلم النفس لكن تقريره صحيح مائة في المائة وتستطيع أن تحلف عليه يميناً مُغلَّظة ولا تحنث في يمينك، قل لي “فلان عنده مئات الملايين ولكنه لا يُعطي ولا يهتم ” وأنا سوف أحلف لك على كتاب الله آية آية أنه من أتعس عباد الله وأنه يعيش تاعساً ويموت خائباً خاسراً، وبالتالي هو ليس سعيداً، فأنت فقير وعندك خمسة آلاف يورو ولكنك أسعد منه مليون مرة، أنت سعيد حقيقي وتنام ملء جفنيك وتُقهقه ملء شدقيك وتضحك من قلبك ضحكة الإنسان عاشق الحياة والأحياء، الإنسان الفرح بنفسه وبأقدار الله والراضي المُطمئن الواثق المُوقِن بكفاية الله وإحسابه.

مُؤسِّس علم النفس الفردي وأحد تلامذة سيجموند فرويد Sigmund Freud كما تعلمون ألفريد أدلر Alfred Adler كان قبل هذا الفيلسوف بحوالي خمسين سنة، وكتب يقول “مَن أراد أن يتخلَّص من الاكتئاب وآلام الاكتئاب – Depression – فقط يستطيع أن يفعل ذلك في أربعة عشر يوماً”، فالذي يقول هذا هو ألفريد أدلر Alfred Adler وهو مُؤسِّس لعلم نفس كامل وهو علم النفس الفردي Individual Psychology، فهذا ليس إنساناً يُعاني من الهبل أو إنساناً يُجازِف بمثل هذا الكلام أو إنساناً عاطفياً أو خطيباً مثل أمثالنا أو واعظاً، فهذا عالم يتكلَّم كل شيئ ببرهان ودليل، وهو قال هذا قبل أن يُكتشَف البروزاك Prozac وغير البروزاك Prozac، فأنت تستطيع أن تتخلَّص من الاكتئاب في أربعة عشر يوماً، وهذا شيئ عجيب، لكن هذه وصفة سحرية غير شائعة بين الناس حتى هنا في الغرب، فلنعمل على إشاعتها ولنُجرِّبها، فإن صدقت فلابد أن نصرفها روشتة سريعة المفعول لكل هؤلاء المُكتئبين، فأعظم حوادث الانتحار وأكبر نسبة في المُنتحِرين إنما تقع بين المُكتئبين أكثر من المُصابين حتى بالشيزوفرينيا  Schizophrenia، فقبل اكتشاف البروزاك Prozac وانتشاره خاصه في عقد السبعينيات كان ينتحر خمسون في المائة من المُصابين بالاكتئاب Depression، فمن بين كل اثنين كان يقتل واحد نفسه، لأن ألم الاكتئاب – والعياذ بالله – لا يُطاق، مثل ضيق الصدر وضيق الدنيا، ف تضيق عليهم الدنيا بما رحبت ويعيشون في نكد مُتصِل على مدار الساعة، لكن  ألفريد أدلر Alfred Adler قال “في أربعة عشر يوماً تستطيع أن تشفى وأن تبرأ من الاكتئاب”، فكيف هذا يا أدلر Adler؟!

قال “فكِّر يومياً وبطريقة إيجابية وجدية في إسعاد إنسان آخر”، ففي كل يوم ضع قائمة لك بإسم الأرملة الفلانية أو اليتيم الفلاني أو المُهاجِر أو الطالب أو الغلبان أو المُعيل الذي عنده عشرة أو اثنتا عشرة من الأولاد وليس عنده مصدر كافي للإنفاق، ففي كل يوم لابد أن تُحاوِل عملياً أن تُسعِد أحد هؤلاء بفعل حقيقي إيجابي، قال أدلر Adler “في خلال أسبوعين سوف تشفى من الاكتئاب”، وهذا صحيح بنسبة مائة في المائة، والقاعدة الشرعية التي يعلمها العامة والخاصة تقول “الجزاءُ من جنسِ العمل”، فهذه قاعدة في الفهم الشرعي الملي، أسعدت عبادي لأسعدنك يا عبدي، أشقيتهم لأشقينك، لأن الجزاءُ من جنسِ العمل، ولذلك أشقى الناس على الإطلاق الحكام العرب طبعاً، لكن الحكام في الغرب ليسوا كذلك، فبعضهم سعداء جداً ويتمشون في الأسواق  Markets، ورأيناهم يأكلون ويتذوَّقون ويمشون بلا حراسة، إنهم من الناس السعداء، أسعدهم الله بالعدل والتواضع والإنسانية والآدمية، أما حكام العرب فهم أشقى عباد الله على الإطلاق، قال الشاعر:

بِذَا قَضَى اللَّهُ بَيْنَ الْخَلْقِ مُذْ خُلِقُوا                   أَنَّ الْمَخَاوِفَ وَالْأَجْرَامَ فِي قَرَنِ

وبذا قضى الله بين الخلق مُذ خُلِقوا أن المخاوف والإجرام – في حبل واحد أو في سياق واحد  – في قرنِ، فهؤلاء أتعس عباد الله.

 إذن ألفريد أدلر Alfred Adler قال “في أسبوعين تستطيع أن تشفى وأن تبرأ من الاكتئاب”، لأن الجزاء من جنسِ العمل، فمَن بنى بيتاً لغيره بنى الله بيته، ولذلك إذا كنت تُريد أن يعمر بيتك وإذا حرقت البيوت لا يحترق بيتك فعليك بإعمار بيوت الناس، و المقصود بالحريق هو الحريق المجازي طبعاً ولكن قد يشمل الحريق المادي أيضاً، فهناك بيوت تحترق لأن البنت تخرج عن طوع أبيها وتُصاحِب رجلاً من غير إرادة أهلها أو ترتكب الفاحشة وبالتالي يحترق البيت، والولد نفس الشيئ، فقد يُنهي دراسته بغير شهادة ويترك الدراسة ويقطعها من أول الطريق، وبالتالي الأب طبعاً تُصيبه الآفات القلبية والأمراض الوعائية وضغط الدم، والأم كذلك، ثم يصل الأمر إلى التلاوم والتعاتب، فالأب يلوم والام تلوم وبالتالي يقع الطلاق ويخرب البيت كله، وطبيعي أن يخرب، لأن رب هذا البيت وربة هذا البيت لم يسعيا يوماً في تعمير بيت من البيوت الخربة، هناك بيوت خربة لأناس لا تجد ما تأكل ولا ما تشرب، فلماذا لم تُعمِّر هذه البيوت؟ لماذا لم تُعط يا أخي؟ وفِّر عن فمك بعض الشيئ وأعط للناس، لكنك لم تُعط ولم تُفكِّر إلا في نفسك وكنت تقول “أنا وعيالي وأهلي، والعمل عبادة والسعي على الأهل عبادة”، ثم ماذا إذن؟ هل ينتهي كل شيئ إذن ونضع نُقطة؟ نعم السعي على الأهل عبادة ولكنه على الآخرين أيضاً عبادة، يقول الله أيضاً وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۩، فالجزاء من جنسِ العمل.

سأحكي لكم قصة أصيخوا إليها لأنها من أجمل ما ستستمعون في حياتكم، قصة دبَّجتها يراعة الأديب الفيلسوف والمُفكِّر الإنساني الرحيم الذي ذكرت لكم على ما أعتقد مرة أنه قضى مسلماً، والآن الأدلة أصبحت قوية على أنه قضى مسلماً فرحمة الله عليه بل رضوان الله عليه وهو ليو تولستوي Leo Tolstoy صاحب آنا كارنينا Anna Karenina والحرب والسلام والثلاثية المشهورة، فهو هذا الإنسان العظيم الذي تخلَّى عن الملايين، وكان أوسع الكتَّاب انتشاراً وكتبه الأوسع مبيعاً في وقته ولكنه تخلَّى عن كل هذا الريع للفقراء والمساكين وبات بلا بيت، حيث طرده زوجته فبات بلا بيت وقضى على السكة الحديد في الشار، فرحمة الله على هذه الروح الماجدة الكبيرة.

تولستوي  Tolstoy عنده قصة بعنوان علام يعيشُ الإنسان؟ وهى قصة من أروع ما تقرأون، نعم هى خيالية ولكنها واقعية في المعنى العميق الجوهري، علام يعيشُ الإنسان؟ هى قصة مَلك فسق عن أمر ربه، وهذا لا يجوز ولا يكون طبعاً، ولكن عقلية كتابية تستوعب هذا وعقلية إسلامية خُرافية – هاروت وماروت – تستوعب هذا، ولكن عقلية قرآنية عقدية صحيحة لا تستوعب هذا، قال الله لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ۩، على كل حال هى قصة خيالية والمُهِم بالعبرة، فهى عن مَلك فسق عن أمر ربه لأن الله – تبارك وتعالى – أمره بما لا يروق له، وكأنه كان من أعوان ملك الموت فأمره الله أن يقبض نفس امرأةٍ أرملة على يتيمين أبوهما قد درج وقضى من قبل، فهما يتيمان توأمان صغيران وربما في السنة الأولى من حياتهما، فالمَلك أخذته عاطفة الرحمة وقال “يا رب كيف هذا؟ أبوهما قد قبضنا نفسه منذ زمن أو نفسه، والآن نقبض نفس الأم، فلمَن يبقيان؟ لا لن أفعل”، فطرده الله – تبارك وتعالى – من الملكوت ومثَّله في شكل إنسان وأنزله إلى الأرض عارياً بلا أجنحة، أي أنه أخذ منه جناحيه فأصبح الآن إنساناً، ولكن جوهره في الداخل مَلكي لأنه لا يزال بروح مَلك وبنفس مَلك وبإدراك مَلك، فهبط الأرض عارياً وشاء الله طبعاً وشاء الراوي تولستوي  Tolstoy أن يهبط في أرض روسية شديدة الزمهرير والقر والبرد، فهبط في ليلة روسية شتوية شديدة البرد ومن ثم كان يرتجف بشدة، وكان من لطف الله – تبارك وتعالى – أن قيَّض له صانع أحذية رفيقاً شفوقاً وقنوعاً هو وزوجته بما رزقهما الله، فالله – تبارك وتعالى – قال له لن تعود إلى الملكوت حتى تكتشف الجواب عن ثلاثة أسئلة – احفظوا هذه الثلاثة الأسئلة – وهى : السؤال الأول ما الذي مُنِحَه الإنسان؟ أي ماذا منح الله الإنسان؟ السؤال الثاني ما الذي مُنِعَه الإنسان؟ أي ماذا حُرِمَ الإنسان؟ والسؤال الثالث والأخير علام يحيا الإنسان؟ أي بماذا نحيا وعلام؟

هذه هى الدراما البشرية، فما الذي يُعطي حياتنا معنى؟ ما الذي يجعل الحياة والعيش جديراً بأن يُعاش ويجعل حياتنا جديرة بأن تُحيا؟ ما هو هذا الشيئ؟ كل فلسفات الناس هنا مُتضارِبة، فهناك مَن عنده المال وهناك مَن عنده السُلطة وهناك مَن عنده الشهوة وهناك مَن عنده العلم وهناك مَن عنده الكسل وهناك مَن عنده الدين وهناك أشياء كثيرة غير ذلك، فلا ندري أين الصحيح في هذا، وبالتالي نُريد أن نعرف أين الصحيح!

إذن الأسئلة الثلاثة هى: ماذا مُنِحَ الإنسان؟ وماذا مُنِعَ الإنسان؟ وعلى ماذا يحيا الإنسان؟

أي ما هو مغزى الحياة وما الذي يُمعنيها، أي يعطيها معناها، معنية الحياة أو معننة الحياة كما يٌسميها بعضهم.
المُهِم أخذه هذا الإسكافي أو الإسكاف الرفيق الشفوق الرحيم وأدخله بيته وستره مُباشَرةً بشيئ من ملابسه وهى يسيرة جداً وقليلة، لعل كان عنده زوج من الملابس  فأعطى أحدهما لهذا الرجل الغلبان ولا يدري أنه مَلك، ثم قدَّم له طعام الضيافة وأدفأه واستقبله في بيته كم شاء، فقال له “تبقى عندي كم تشاء، يوماً أو يومين أو عشرة إلى أن تجد سبيلاً لك”، فعثر المَلك على أول جواب لأول سؤال، وهو ما الذي مُنِحَه الإنسان؟ أي ما هو أعظم ما مُنِحَه الإنسان؟ وطبعاً سوف تقول لي نحن مُنِحنا خمسين ألف شيئاً وهذا صحيح طبعاً لكن نحن نُريد الآن أعظم ما منح الرب الإنسان، فالذي مُنِحَه الإنسان هو حب الآخرين، بمعنى أن تُحِب الآخرين، فالحب هو أعظم شيئ، وبلا حب لا معنى للحياة، وكلنا سوف نضيع في يوم من الأيام، لذلك علينا أن ننتبه لأن  في ظرف من الظروف وفي وقت من الأوقات سوف نضيع كلنا، إذن أول جواب هو الحب وهو جواب صحيح.

ثم بعد ذلك قيَّض الله لهذا الملك المُؤنّسَن أن يتصل حبله بحبل رجل فخور غني مُكاثِر مُدِل مُعجَب بنفسه وبثروته، فيأتيه الشحاذون والسائلون فيرد أكثرهم بلا نوال، ويُعطي أقلهم العطاء الشحيح الذي لا ينقع غلة ولا يشفي علة كما يُقال، أي أنه يُعطي  عطاءً قليلاً محقوراً، ولكنه في يوم من الأيام – علماً بأن المَلك رأى هذا تماماً وعاشه – بعث إلى مجموعة من الحذّائين وحصلت عروض ومُقايضات لأنه يُريد زوجين من النعال – أي يُريد نعلين – لم ير الرائون مثلهما، ويكونان من أفخر جلد مُمكِن من جلود كذا أو كذا او كذا، فمَن الذي سوف يُقدِّم أحسن شيئ؟ المُهِم وقعت القرعة على أحدهم وذهب وجعل يتفنَّن في صناعته، وفي اليوم الذي أتى هذا الحذّاء الإسكاف بزوجي النعل أو الحذائين لاحظ المَلك أن الله – تبارك وتعالى – عاجل الفخور الغني فلم يلبسهما – لم يلبس النعلين – وضاعت الحياة، فالحياة – مثل هذه الحياة – لا تُساوي نعلين في النهاية، فوضح له الجواب عن السؤال الثاني، فالذي مُنِعَه الإنسان هو لياقة وحكمة تحديد أهدافه وغاياته الحقيقية في الحياة، فالحياة ليست نعالاً والحياة ليست لباساً والحياة ليست سيارات والحياة ليست شهوات والحياة ليست سُلطة فارغة، وإلا أين سُلطة القذَّافي اليوم؟ أينسُلطة الزين وما هو بزين بل هو الشين؟ أين سُلطة مُبارَك الممحوق؟ أين سُلطة الفراعين والقوارين والهوامين؟ كل هذا ذهب مع أمس الدابر والزمان الغابر وكله كلام فارغ، فليست هذه هى الحاجات الحقيقية، ولكن للأسف يُخطيء بعض الناس – أستغفر الله ليس بعض الناس وإنما مُعظم الناس – إلى هذا، فمُعظم الناس ليس لديهم حكمةَ أن يُحدِّدوا أهدافهم الجوهرية الحقيقية في الحياة فيضلون عنها، يعيش الواحد منهم ثلاثين سنة من أجل أن يُصيب سُلطة، فحتى إذا أصابها أفسدته وأفقدته روحه ومعنوياته وأفسدت عليه حب الآخرين.

سأسألكم سؤالاً: كلكم بلا شك زرتم وعودتم عدداً من المرضى في المشافي، بالله قولوا لي حين كان يتفق أن تزوروا رجلاً من ذوي الهيئات أو رجلاً صاحب منصب من علية القوم غنياً مُثرياً كأن يكون عالماً جليلاً أو سياسياً أوعسكرياً  مُبرِّزاً أو أي شيئ – إذا اتفق لكم أو لبعضكم هذا – هل حدث مرة – وجدتم أو سمعتم – أن أحد هؤلاء وهو مريض طبعاً علَّق في غُرفة مشفاة شهاداته العلمية؟ هل يقول أحد هذه الشهادت العلمية الخاصة بي، فعليكم أن تنتبوا إلى أنني الدكتور العلَّامة البروفيسور Professor والأستاذ الزائر في كذا وفي كذا الذي عمل كذا؟ لا أحد يقول هذا أبداً حتى ولو رئيس دولة أو رئيس حكومة، هل علَّق أحدهم نياشينه في غُرفة المشفى؟  هل علَّق أحدهم النياشين والسيوف والأشياء المُسدَّسة والمُخمَّسة والمُذهَبة والمُفضَّضة؟ لم يحدث هذا أبداً، هل علَّق ثبتاً بحساباته المصرفية، كأن يقول أنه يمتلك سبعة مليار ونصف واثنين مليون كذا، وعنده أسهم كذا وكذا في شركة كذا، وفي البورصة لديه كذا؟ لم يفعل هذا أحد أبداً، فماذا يُعلِّقون؟ أو بالأفصح ماذا يتعلَّقون؟ ماذا يُعلِّقون عندهم؟ وبماذا يتعلَّقون؟

يُعلِّقون أو يتعلَّقون ببطاقات صغيرة أحياناً مرسومة ومخطوطة ومكتوبة بأيدي الأطفال البرءاء الملائكة يتمنون فيها الرحمة والشفاء والعافية لحبيبهم أو حبيب الجمهور أو حبيب الشعب زوراً طبعاً وظلماً وما هو بحبيب لأحد، ولكن هذا هو، بطاقات من الزهور ومن الأوراد مع بطاقات صغيرة.
هذا هو إذن، وحين يستشعر أو يشم ريح الموت يُصبِح أعظم أمله أن يُقيِّض الله له بعد توليه ودروجه وبعد أن يقضي ويموت بعض مَن يُحِبه بصدق، لأن المنصب ذهب والأموال ذهبت وكل شيئ ذهب، هو كله ذهبت على بعضه، ذهب الغني وذهب الرئيس ومات ودُفِنَ في التراب وأكله الدود، لذلك يأمل في أن يُقيِّض الله له مَن يُحِبه بصدقٍ ويدعو له دعوة بظهر الغيب عسى أن تناله رحمة الله وعافيته ومغفرته.

هذا هو، وهذا الكلام الذي نسمعه يُعتبَر كلاماً جميلاً ولكن أنا مُوقِن أن مُعظم الناس يسمعه ولا يفهمه، وإذا اعترضت قائلاً “أنا أفهمه وأحفظه” سوف أقول لكم نعم تحفظه ولكنك لم تفقهه جيداً، فإذا لم يُغيِّر حياتك هذا الكلام أنت لم تفقهه، إذا لم تجد نفسك بعد هذه الخُطبة تغيَّرت قيمك في الحياة ومسالكك ونوازعك وتصرفاتك فأنت إذن لم تفقه شيئاً، فليس الفقه أن تحفظ الكلام كالأطفال أو كالمُسجِّل – Recorder – ثم تُعيده وتقيئه، ليس هذا بالمرة، وهذه هى مُشكِلة الناس لأن ليس لديهم حكمة حقيقية، فهم مثل هذا الغني الفخور صاحب الحذائين الذي لا تُساوي حياته حذائين،إذن علينا أن ننتبه إلى أن من أهم الأشياء وأشرفها وأخطرها في حياتنا أن نُحدِّد غاياتنا في الحياة، فما هى غاياتي في الحياة؟ بعض الناس غاياته مُعظمها يتمحوَّر حول إغاظة وإذاية الآخرين، وحول أن يُلحِق الأذى بالآخرين، فهناك أُناس مُوفَّقون سعداء ولكنه يُريد أن يُخرِّب عليهم بيوتهم، فيُخبِّب الرجل على زوجته وتُخبِّب المرأة على زوجها ويقع الطلاق فتفرح ويفرح، وأنا أقول له ما أنت إلا شيطان وما أنت إلا إبليس من الأبالسة والله العظيم، لكن هذه هى حياته، فهو يسعى إلى أن يُشوِّه سُمعة أي إنسان نبيل معروف بالفضل والإحسان بين الناس، وأن يُثير حوله عجاجة وغباراً فيقول للناس”أنتم لا تعرفون الحقائق كلها”، لكن هذا المُتألِّه الكاذب ما شاء الله هو الذي يعرف، فهذه هى أهداف حياته فقط، هو يدور نفسه فقط من أجل أن يدور الآخرين، ولكم أن تتخيَّلوا أن هذا من البشر، فهل هذا آدمي؟ البهائم أشرف من هؤلاء – والله العظيم – لأن البهائم لا تضر الناس هذا الضرر، فما الإنسان هذا؟ وفي النهاية  هو حطبة من حطب جهنم، ليعلم إذن أن الله يُسعِّر به جهنم، فهذا من أوائل مَن تُسعَّر بهم جهنم لأنه سيكون من حطب جهنم، ومن ثم علينا أن ننتبه فأن تُحدِّد الغايات العُليا في الحياة تُعَد قضية خطيرة، فإذن ما هى غايتك؟ ما هى أهدافك؟

بقى السؤالُ الثالث وهو علام يحيا الإنسان؟ وهذا أهم شيئ على الإطلاق، فهو أهم من السؤالين المُتقدِّمين، فعلام يحيا الإنسان؟ ما الذي يجعل لحياتنا معنى؟ إذن حتى السؤال الثاني مرهون بمعرفة جواب السؤال الثالث.

اكتشف الملك أن الذي يجعل لحياته معنى هو التالي، لكن قبل أن أُقرِّر كيف اكتشف هذا قال “لما هبطت مُؤنَسَناً بلا جناحين لا خبرة لي ولا تمهر ولا دُربة كيف أكسب رزقي وكيف أستر عورتي وكيف أسد خلتي وكيف أُدفيء بردتي – لا خبرة أبداً له لأنه مَلك مسكين جاء في عالم لا يستطيع أن يتصرَّف فيه – قيَّض الله لي ذلكم الإسكاف الرفيق الشقوف العطوف الحنون، ولولا ذلك لهلكت”، إذن ما يجعل لحياتنا معنى هو رعايةُ وخدمةُ الآخرين، هو مُساعدة الآخرين، أي أن نُساعد الآخرين وإلا تضيع الحياة كلها، وهنا اكتشف حكمة الله التي كان جهله بها سبباً في طرده من الملكوت، لكن لماذا؟!

حيث غلبته الرحمة والعطف فلم يُوافِق على قبض روح أم اليتيمين لئلا يظلا بلا عائل فيضيعا في الحياة أو يتعرضا للهلكة المُحقَّقة، لكنه الآن قال “لا، قطعاً ذلك اليتيمان الصغيران الله – تبارك وتعالى – قيَّض لهما من الأوادم – من بني آدم أو من البشر – الذين ملأت المحبة والرحمة قلوبهم مَن يعيش لأجلهم ومَن يخدمهم ومَن يُعنى بهم” وهذا ما حصل فعلاً، قال “لم أفهم هذا ولكن حصل معي أنا وأنا كبير، فأنا لست طفلاً صغيراً يتيماً ومع ذلك هناك مًن عُنيَ بي”.

عالمة الاجتماع الأمريكية المشهورة  ليندا ويلسون Lynda Wilson تقول ” من بين مائة كارثة طبيعية درستها بدقة – علماً بأن هذه دراسة ذكية جداً ولطيفة، فهى درست مائة كارثة طبيعية مثل كارثة تسونامي Tsunami الأخيرة – انتهيتُ إلى أن الضحايا الذين كان يُحاوِل كلٌ منهم أن يسعى في إنقاذ الآخر نجو جميعاً”، أي أن الساعي والمسعي عليه في مائة كارثة درستها السيدة البروفيسورة Professor/ ليندا ويلسون Lynda Wilson كلهم نجوا وهذا شيئ غريب، وصدق رسول الله حين قال “نَجَوْا ونَجَوْا جَميعاً”، فهذا ينجو وهذا ينجو!

وهناك قصة في الأدبي النيجيري – قصة أفريقية جميلة جداً – تتحدَّث عن قرية صغيرة من أكواخ من القصب والخشب اشتعلت فيها النيران، وطبعاً لابد على أهل القرية جميعاً أن يُغادِروا المكان، فأطلق كل منهم ساقيه للريح دون أن يلوي، لكن بقيَ رجل مُقعَد أشل لا يستطيع الحركة وآخر يستطيع الحركة ولكن لا يُهدى السبيل، وهكذا تبادلا المنفعة، فقال الأعمى الذي يستطيع الحراك للمُقعَد الذي يُبصِر ولا يستطيع حراكاً “اعمل لك مركبة – أي أنا ركوبة لك، أنا دابة لك أو أنا سيارة لك أو أنا عجلة لك – فتركبني، وأنت تعمل لي عينين” فنجا الاثنان، وهكذا يُمكِن أن ينجو الناس كلهم حين يتعاونون ويتراحمون، ولذلك قال عليه الصلاة وأفضل السلام “مَن منح منيحة لبن أو ورق أو هدى زقاقاً كان له كعتق رقبة”، فهل تُريد هذا؟ قد يقول لي أحدهم “اليوم لا يُوجَد أي رقاب لكي نعتقها”، وهذا صحيح لذلك النبي قال “كان له كــ”، فليس شرطاً أن يكون هذا موجوداً، ولذلك أهم شيئ كاف التشبيه (كـ) لأن اليوم لا يُوجَد أي رقاب ومع ذلك سيُكتَب لنا عتق رقاب وأي رقاب بإذن الله لأن الرسول قال مَن منح منيحة لبن أو ورق أو هدى زقاقاً كان له كعتق رقبة”، لكن ما معنى أنتمنح منيحة لبن؟ ما هى المنيحة؟ علماً بأننا أدرنا خُطبة كاملة ذات مرة عن المنيحة، ففي صحيح مسلم من حديث جابر يقول عليه الصلاة وأفضل السلام “ألا رجلٌ يمنحُ أهل بيتٍ ناقةً تغدو بعس وتروح بعس إن أجرها لعظيم”، فصلى الله على مُعلِّم الناس الخير.

أنا قرأت كتباً في الرعاية هذا أصبح علماً إسمه  علم الرعاية Care – وفي علم خدمة الآخرين وفي الإحسان – Charity – كما يُقال بالإنجليزية ووالله الذي لا إله إلا هو غير مُبالِغ ولا فخور بالكذب لأنني محمدي مسلم أنني ما وجدت أحداً – والله – تحدَّث عن هذه الأشياء حديث محمد بن عبد الله، والله العظيم ما وجدت هذا، وهذا شيئٌ عجب، ولذلك هذا لا يكون إلا عن وحيٍ إلهي وإلهام صمداني عُلوي لأنه شيئ غريب، لكن هذا يحتاج إلى خُطبة، ولعلنا الآن في دقيقة من الدقائق نشير إلى أشياء سريعة فقط ومنها قول الرسول “أَلَا رَجُلٌ يَمْنَحُ أَهْلَ بَيْتٍ نَاقَةً، تَغْدُو بِعُسٍّ، وَتَرُوحُ بِعُسٍّ، إِنَّ أَجْرَهَا لَعَظِيمٌ“، ومعنى أن المنيحة تغدو بعس أن في الصباح يُحلَب من هذه الناقة عس كبير – وهو القدح العظيم – وبالتالي هذا يقوت أهل بيت، ومعنى أن نتروح بعس – الرواح هو وقت العصر، أي في المساويات – أن يُحلَب منها وقت المساء أيضاً عس، لكن ما معنى منيحة؟ بعد شهرين أو بعد ستة أشهر أو بعد سنة أو بعد سنتين سوف أسترد  رقبتي أو أسترد الناقة، فأكون إذن منحت منافعها بعد أن أقول لأحدهم “خُذها وانتفع بوبرها وانتفع بلبنها وانتفع بها كركوبةً، أي انتفع بظهرها، ولكن إلى سنة أو إلى ستة أشهر”، فهذه تُسمى المنيحة، وهذا أسلوب عجيب جداً، لكن النبي تكلَّم عن المنيحة، ولذلك الصحابة كانوا يمنحون!

وفي هذا الحديث “مَن منح منيحة لبن – فهمنا أن المنيحة من المُمكِن أن تكون عنزة أو  شاة أو بقرة أو ناقة حلوب أو غير ذلك، فهذا كله منيحة لبن، وكله بحسب حجمه وبحسب دخله ونتاجه –  أو منيحةَ ورق – أي أموال ودراهم فضة، فلم يقل دنانير من ذهب لأنها كثيرة وإنما قال دراهم من فضة، كأن تُعطي أحدهم هذه الأموال وأن تُقرضه قرضاً حسناً وتقول له خُذ هذه الدراهم اتجر بها وانتفع وحينما تقدر على السداد أعدها إلى – أو هدى زقاقاً كان له مثل عتق رقبة“.

والعجيب – كما ذكرت في درس أمس تقريباً أو أول أمس، لا أدري لأنني أصبحت أنسى – أن الصدقة أجرها على النصف من أجر القرض الحسن، فحين تُقرِض أخاك قرضاً حسناً وتسترده في الوقت أو في الأجل أو تُنظِره بعد ذلك إن أعثر فإن ثوابك سيكون مُضاعَفاً وخاصة إذا جاء الأجل وكان أخوك مُعثِراً فجعلت تُنظِره، فسوف يكون لك بكل يوم ضعفا الصدقة، فلماذا تأخذ بكل يوم ضعفا الصدقة إذن؟

القرض الحسن بشكل عام ومن حيث هو أجره أضعاف أجر الصدقة، لأنه يحفظ للناس ماء وجوههم، فأشرف لإنسان ألف مرة أن يأخذ قرضاً ينتفع به ويستثمر ثم يعيده من أن يُقال له خُذ هذا صدقة لوجه الله، فأنا لا أُريد صدقة وإنما أُريد قرضاً حسناً وأقول أيضاً للهبة والهدية أهلاً وسهلاً إذا كانت بين الإخوة، ومن هنا الحسن البصري كان يقول “ولأن أُعطي أخي في الله درهماً أحبُ إلىَ من أن أتصدَّق بمائة درهم”، فهناك شيئ إسمه الهبة، لكن هناك نوع من الناس لا يُعطي أصدقاءه، وإنما يُعطي فقط الفقراء والمساكين لأن هذا يسد حاجة في نفسه، فهو يُحِب أن يشعر أنه أنه هو الذي يتفضَّل على الناس وهو الذي يُعطي الناس المحتاجين، وهذا غير صحيح، فالأمر لا يقتصر على أن تُعطي المحتاجين فقط بل ينبغي أن تُعطي غير المُحتاجين أيضاً من إخوانك هدايا، وقد يكونون في مثل وضعك المادي ومع ذلك أهدهم مبالغ طائلة، فلم لا؟ وهو يهديك أيضاً لأن الرسول قال “تهادوا تحابوا”، وهذه أجرها أعظم من الصدقةـ حيث جاءت نصوص نبوية في أن أجر الهدية أعظم من الصدقة حتى لإنسان مُستغنٍ، لأن هذا يُمتِّن الوصلة الاجتماعية بين الناس ويُخرِج الإنسان عن داعية الشح والبخل والتعبد في محراب المال كشأن مُعظم الناس والعياذ بالله.

إذن قال رسول الله “مَن منح منيحة لبن أو منيحة ورق – دراهم – أو هدى زقاقاً كان له مثل عتق رقبة”، فما معنى هدى زقاقاً؟ 

 هدى زقاقاً تعني دلَّ ضالاً عن طريقه أو أعمى لا يستبين هديه في الطريق على سبيله، فقال – مثلاً – له “اذهب من هنا ثم سِر يميناً عشر خُطوات، وهذا له مثل أجر عتق رقبة، فما أجمل التعبير النبوي هذا!

صلى الله وسلَّم وبارك وزاد وشرَّف وكرَّم على مُعلِّم الناس الخير بل الخيور وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا ثواب ويا فوز المُستغفِرين!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون،  ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد إخواني وأخواتي، أيها المسلون والمسلمات:

اليوم نحن مدعوون في وقت الإفطار على صلاة المغرب لدى إخواننا المُؤسِّسين والعاملين في هيئة إغاثة سوريا الشهيدة الجريحة، ولذلك راعيت أن يكون موضوع الخُطبة هو هذا الموضوع من باب التمهيد أيضاً لدعم إخواننا في هذه الهيئة المُبارَكة التي من على هذا المنبر أود أن أُعرِب لهم عن شكرنا وامتنانا لأنهم ساعدونا ويُساعِدوننا على أن نُساعِد، فرحم اللهُ مَن فتح طريقاً لعون الناس وأعان مَن يُحِبوا العون على أن يُعينوا.

في الدراسات العلمية والاجتماعية ثابتٌ أن البشر بطبيعتهم ليسوا أنانيين بل غيريون وإيثاريون ويُحِبون أن يبذلوا وأن يُعطوا ولكن مُعظمهم لا يعرف كيف وبعضهم يحتقر ما عنده ويقول ” ماذا عندي؟ الذي عندي قليل جداً، فإذا أعطيته فإنه سوف  لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ۩”، لكن هناك قواعد في هذا الباب يجب أن ننتبه إليها، ومن قواعدِ هذا الباب “لا تنتظر أن تُصبِح مليونيراً حتى تُعطي عطاءً يُشكِّل فرقاً كما يُقال باللغة الإنجليزية Makes Difference”، فأنت تُريد أن تُعطي عطاءً يُشكِّل فرقاً وهذا غير صحيح، فليس بالضرورة أن تُصبِح مليونيراً لكي تُعطي، أنت تستطيع أن تُعطي الآن، لأن ما يُمكِن أن تُعطيه الآن ولو كان أقل القليل سيكون كثيراً عند غيرك، فلو تبرَّعت بيورو واحد على اعتبار أن كل ما لديك هو يورو واحد أو لو تبَّرغت باثنين يورو على اعتبار أن كل ما عندك هو خمسة يورو فهذا سوف يكون جيداً.

لا تقل “هذا اللي عندي فقط ومن ثم لا أستطيع أن أُساعد لأنني طالب غلبان وشحاذ”، فلا يُوجَد أي مُشكِلة في هذا، تبرَّع ولو بيورو أو باثنين يورو، فهذا إن لم يُغيِّر الآن وللتو وجه العالم أو وجه سوريا أو وجه العراق أو وجه فلسطين أو غير ذلك فإنه سيُغيِّر حياتك، فهذا يبدأ الآن في تغيير حياتك طبعاً، فإذا كان عندك خمسة يورو وأعطيت اثنين – أي تقريباً نصف ثروتك – فإن هذا سيُغيِّر حياتك.

آخر عنده مائة ألف وتبرَّع بعشرين ألف أو بثلاثين ألف سوف يُغيِّر حياته، لأن هذا الإنسان اقتحم العقبة – فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۩ – وأصبح إنساناً آخر لأنه  تجاوز شحه وبخله وعبادته للمال وشارك الآخرين في مآسايهم.

نحن لا نستطيع أن نُوقِف العدوان الآن على إخواننا في اليمن وفي سوريا بالذات وفي ليبيا، ولا نستطيع أن نُوقِف المجاعة، في الصومال والقرن الإفريقي فهذا فعلي إلهي – يقولون لك الطبيعة وفعل الطبيعة – و بالتالي لا نستطيع لأن هذا ليس بيدنا، ولسنا نملك أزمة القرار في العالم حتى نُوقِف ما يحدث في سوريا من إجرام وتقتيل وتذبيح، لا نستطيع أن نمنع وقوع الضحايا، أي أن يقع ضحايا وأن يُقعَد أطفال وشباب وشابات ونساء، لا نستطيع أن نمنع أن يكون هناك أرامل ويتامى، ففي كل يوم يزيد عدد الأرامل واليتامى في سوريا وفي ليبيا وفي فلسطين وفي كل مكان، لكن يُوجَد هذا بكثرة في سوريا لأن سوريا الآن على النار حيث تُطبَق محنتها، فكان الله لها، كان الله لكِ يا شام وكان الله على أعدائك بالمرصاد.

فنعم لا تستطيع كل هذا، ولكن ما الذي تستطيعه؟!

تستطيع أن تمسح دمعة، تستطيع أن ترسم ابتسامة، تستطيع أن تُشارِك بشيئ في نظرك قد يكون تافهاً ويسيراً ولكن صدِّقني ربما في نظر مَن يصلهم يُلبِّي لهم حلماً ضل يُدغدِغ خيالهم عشر سنين، فبعض الناس عنده حلم أن يتحصَّل على مائة يورو لكي يشتري درَّاجة يذهب بها إلى عمله في الوقت المُناسِب ويُنجِز بها أعماله ولكن هذا المسكين عندهما يشتري به درَّاجة – Fahrrad  Bicycle, – طبعاً، فهذه الدرَّاجة تُعتبَر شيئاً كبيراً بالنسبة له، فبعض الناس حلمه أن يشتري درَّاجة نارية بخمسائة يورو أو بستمائة يورو اكي يذهب إلى العمل ويُوصِّل عليها بعض الناس، فأنت حين تتبرَّع بألف يورو وتشتري درَّاجتين له ولأمثاله تكون قد حقَّقت له حلماً.

بعض الناس بألفي يورو يستطيع أن يفتح بيتاً وأن يتزوَّج في قرية فقيرة في فلسطين أو سوريا أو في غير ذلك، بألفين يورو فقط يستطيع أن يفعل هذا في قرية فقيرة، فيدفع ثلاثمائة يورو مهراً ويُكوِّن بيتاً وما إلى ذلك، وبالتالي من المُمكِن أن تتبرَّع بعشرة وأن يتبرَّع غيرك بمائة وغيرك بألف وهكذا فيصل المبلغ إلى مائة ألف أو مائتين ألف أو مليون فتفتح بيوتاً وتقضي على مشاكل كثيرة، فأحياناً بعض اللا شيئ يُشكِّل لآخرين شيئاً عظيماً لكنه  بالنسبة لك ليس بشيئ!

قد يقول لي أحدكم “أنا الآن صائم، وأنا يومياً أستغني عن وجبتين، فلماذا لا أفعل هكذا؟ وهذا غير موضوع الزكاة وغير موضوع صدقة الفطر، فأنا أحسب الوجبات التي وفَّرتها في شهر رمضان وأتصدَّق بثمنها كله، وأعتبره كما لو كان شهراً عادياً، وبالتالي  سيُصبِح رمضان هذا مُضاعَفاً – بإذن الله – أضعافاً مُضاعَفة” وهذا صحيح، لكن هل تعرفون كم يُضاعِف الله؟ أنتم استمعتم إلى الآيات التي قرأتها من سورة البقرة في أول أو في صدر الخُطبة، فكم يُضاعِف الله إذن؟ كم يُضاعِف الله مئوياً؟ يُضاعِف إلى سبعين ألف، أي يُضاعِف إلى سبعين ألف في المائة، لأن ما معنى السبعمائة مُقابِل الواحد؟ أي سبعمائة إلى الواحد، اجعل الواحد مائة واضرب في مائة واضرب هنا وسوف تكون النتيجة هى سبعون ألفاً في المائة ببساطة، ائت لي ببنك في العالم كله عبر التاريخ يعطيك مائة في المائة، وهذا لا يُعطي مائة في المائة وإنما يُعطي سبعين ألف في المائة، الله أكبر، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ۩.

أختم بقصة عن الرجل المحبوب – رحمةُ الله تعالى عليه – والشيخ العلَّامة والأديب والقاضي والفقيه علىّ الطنطاوي، هذا الرجل كان محبوب الجماهير لأنه كان عالماً صالحاً وصادقاً، فلم يكن من المُتشدِّقين ولا من المُعسِّرين ولكنه كان صادقاً، وكان يُحدِّث عن نفسه قائلاً “أنا ظللت أعمل وأكسب وأعول أهلي وعيالي – وطبعاً كل عياله بنات فكان يعولهن فضلاً عن زوجته، رضوان الله على روحه الشريفة، فلم يرزقه الله الذكور وإنما رزقه البنات، إحداهن وقعت شهيدة في ألمانيا بيد النظام البعثي في سوريا، فهم قتلوها وهى صُغراهن، روَّح الله روحها في أعلى عليين، ولا يزال هذا النظام المُجرِم يُعمِل في أبنائنا وبناتنا الذبح والتنكيل والتقتيل، فحسبنا الله ونعم الوكيل، الله أكبر من كل كبير وأعظم من كل ظالم مُتجبِّر – لمدة ثلاثين سنة ولم يكن لي من العملِ والعبادة الشيئ الذي أُؤمِّل فيه، وإنما كنت أتصدَّق بكل ما زاد عن مصروف أهلي لا أدخر شيئاً”، الله أكبر، كفى بالعلم يا شيخ طنطاوي-  رحمة الله عليك – أن أوصلك إلى هذه المنقبة والله العظيم، هذا شيئ تقشعر له الأبدان، فهذا هو العلم وهذه هى المشيخة!

قال الطنطاوي “كنت لا أدخر فلساً، وكانت زوجي تلوم وتعتب وتقول يا عليّ لو تصدَّقت بالقليل وادخرت بعض الشيئ لكي تبني بيتاً لبناتك لكان ذلك أفضل – أي أن لديك بنات وحريم، فاترك لهن بيتاً على الأقل لأن ليس عندنا أي بيت إلا هذا البيت المُؤجَّر – لكن كنت أقول لها يا فلانة خليها – أي اتركيها – على الله”، فهو – رضوان الله عليه – يُريد أن يقول “الله معنا فلماذا أدخر؟ لا أدخر شيئاً”، ومن هنا كم أحببت هذا الرجل فعلاً!
ثم قال أيضاً “وانظروا ماذا فعل الله لي الذي يدخر لي حسناتي في بنكه الذي يُعطي سبعين ألف في المائة، حيث قيَّض الله لي صديقاً كريماً مُوسرِاً من ذوي الهيئات من أهل الشام – من دمشق –  فأقرضني ثمن بيت كقرضاً حسناً، وهذا كان مبلغاً هائلاً لكنه قال لي خُذ هذا، وتبرَّع عدد من إخواني الأفاضل الطيبين ببناء البيت وتجهيزه حتى تم على أحسن كيفية، فلا والله ما علمتُ ولا عرفتُ عنه شيئاً إلا كما يعرف أحد المارة في الطريق – لم يعرف كيف بُنيَ ولا كيف تم دهنه وتبليطه وتأثيثه ولا أي شيئ، لم يكن له أي علاقة به – لأنني كنت مشغولاً بالعلم والخطاب والقضاء والتأليف”، فالرجل لم يكن مُتفرِّغاً لمثل هاته الأمور لأنه رجل عالم، ثم سُلِّمَ البيت وقيل له “تفضل يا أستاذنا هذه المفاتيح”.
قال “ثم يسَّر الله تبارك وتعالى  بعد ذلك ما لن لم أحتسبه فرددت به ووفيت به الدين كله، وإلى اليوم ما طلبت من الله شيئاً إلا أعطاني ولا احتاجته في شيئ إلا لبَّاني” إي والله، ثم قال – رضوان الله على اليقين، رضوان الله على أصحاب اليقين وأصحاب الثقة بالله، اللهم اجعلنا منهم – لنا “واضرب لكم مثلاً – ما أجمله من مثل – الآن على هذا، شيخ والدي هو الشيخ سليم المسوتي قدَّس الله سره – سليم المسوتي كان شيخ والده، وهذا الرجل كان من علماء الشريعة، وكان رجلاً صالحاً ومشهوراً بالبذل والعطاء، فهو من أكرم مَن سُمِعَ عنه. رضوان الله عليه -، وكأين من مرة كان يلبس فيها فروة أو جُبة ويمشي فيتفق أن يرى رجلاً مقروراً من البرد فيخلع جُبته ويكسوها الرجل – يُوجَد كرم محمدي بشكل لا يُصدَّق – ويعود بإزاره إلى البيت، وذات مرة في رمضان – ونحن الآن في رمضان لذلك هذه القصة مُناسَبة – كان يجلس على مائدته وقد هيَّأت له زوجه طعاماً له ولأولاده وإذا بالباب يُطرَق، فخرج – علماً بأنه كان يترقَّب السائلين لأنه يُحِب هذا – فإذا بسائل، فارتقب وانتهز غفلةً من زوجته لأنها دخلت تأتي ببعض الثلج والماء فأخذ الطعام كله وأعطاه للسائل، ومن ثم لم يتبق له أي فطار  له أو لأولاده – رضوان الله على روح الشيخ سليم المسوتي الشريفة – لأنه كان يُحِب الكرم، فلما عادت زوجه جُنَّ جنونها – ركبها العفريت كما يُقال – وقالت له ما هذا؟ هل هكذا سوف نبيت جوعى ونحن في رمضان؟ ثم أقسمت بالله لا تقعد معه، وهو ساكت – رضوان الله عليه – ولا يتكلَّم – انظر إلى الناس الأولياء، فهذا هو الدين وليس ألا تُعطي ومع ذلك تُقرِّض أديم الناس بلسانك، فالواحد من هؤلاء يتكلَّم في الناس ولا يُعطي ويقول لك عنه نفسه أنه مُتدين لأنه يُصلي الخمس صلوات في المسجد، الله أكبر، هذا  كله كلام فارغ ولعب بالدين – لكن لم تمر إلا نصف ساعة فقط وإذا بالباب يُطرَق وإذا بخدم يحملون صنوفاً من الحلل والأواني والأطباق فيها من كل صنفٍ من أنواع الطعام والفاكهة والحلوى – وهذا شيئ عجيب – فسأل الشيخ سليم ما هذا؟ فقالوا سعيد باشا كان قد دعا جماعة من الكبار فاعتذورا في آخر ساعة فغضب غضباً شديداً وأقسم بالله ألا يأكلن أحد من هذا الطعام وأنه لابد أن يُرسِله إلى بيت الشيخ المسوتي – وبالفعل أرسله إليه، فانظر كيف هو ربك -، فنظر إلى زوجه – أي إلى زوجته – وقال لها فعل الله أحسن يا أم فلان، هل رأيتِ كيف هو فعل الله؟ فعل الله أحسن يا فلانة”، فهذا هو.

26/08/2011

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: