إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، اللهم اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك ورأفة تحننك على هذا النبي العربي الأُمين الكريم وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ وعلينا وعليكم والمُسلِمين والمُسلِمات معهم أجمعين، بفضله ورحمته ومنّه.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

 

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ۩ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ۩ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ۩ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ۩ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ۩ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ۩ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ۩ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

نستروح في هذه الأيام المُبارَكة والليالي الزاهرة العطرة، روائح وأنسام ذكرى ميلاد شرف الموجودات وسيد المخلوقات، صلوات ربي وتسليماته عليه، الذي يكفيه من الشرف، وقد نال ذروته ومُنتهاه وأقصاه، قول مولاه فيه – سُبحانه وتعالى – وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، فليس بعد هذا الشرف شرف، وليس فوق هذه التكرمة تكرمة.

إخواني وأخواتي:

يُدرِك المُسلِم والمُسلِمة عِظم المنّة بإرسال هذا الرسول الخاتم، النبي العربي التُهامي الكريم الأمين، حبيب الحق، وسيد الخلق، يُدرِك عِظم المنّة، بقدر ما يئتسي بهذا النبي العظيم – عليه الصلاة وأفضل السلام -، لأنه بمقدار ما يئتسي به المُسلِم، يلوح ويظهر له، بل يتبرهن ويثبت، معنى قوله – تبارك وتعالى – وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩. ليس بالضرورة أن يفهم أحدنا جوانب هذه الرحمة في العلاقة التي تحكم وضع المُسلِمين وتصرف المُسلِمين مع غير المُسلِمين، كما يلوح كثيراً، ويُردِّده أيضاً – وهو صحيح في ذاته – كثيرٌ من العلماء والوعاظ. قبل ذلك لا بد أن نبدأ من استجلاء مظاهر هذه الرحمة في أنفسنا، في خواصنا، في ذواتنا. وهذا لا يتأتى ولا يتهيأ، إلا بالمُتابَعة. كلما حاولت واجتهدت وصدقت وخلصت في هذا – أن تكون مُئتسياً مُقتدياً مُتابِعاً لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً، يجب أن تُحاوِل أن تكون على قدمه، أن تسير في أثره وفي نهجه، عليه الصلاة وأفضل السلام -، تبرهن لك معنى قوله إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩؛ لأنك ستصير من أكثر الناس توفيقاً وسعادةً واستقراراً، باطنياً وظاهرياً؛ لأنه لن يُعلِّمك إلا كل خير، ويُعلِّمك – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما يعز، وأحياناً يستحيل، أن تجده عند غيره، يستحيل أن تجده عند غيره! لكن لن تفهم هذا، ولن تُدرِك هذا، إلا بالمُتابَعة، ليس بالسماع، وليس بالمواعظ، وليس بتقرير الحقائق الإجمالية العالية، أنه – صلوات ربي وتسليماته عليه – كذا وكذا وكذا وكذا، هذا لا يُفيد كثيراً، هذا لا يُفيد كثيراً بمقدار ما تُفيد المُتابَعة الحقيقية.

قبل فترة يسيرة، أُشيرَ إلى أن مُتابَعته – عليه الصلاة وأفضل السلام -، في أبواب يسيرة، عبر أحاديث معدودة منزورة، يقلب حياتك الاجتماعية رأساً على عقب، رأساً على عقب! إن أردت أن تستحيل حياتك الزوجية وعلاقتك بزوجك، بأبنائك، ببناتك، بقراباتك، وبذوي أرحامك، إلى أحسن صورة مُرتجاة لها، فعليك بمُتابَعة الحبيب – عليه الصلاة وأفضل السلام -. هناك أحاديث يسيرة، أحاديث يسيرة انتهت إلينا من طرق صحيحة عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، ستقلب كل شيء. لن تهتم بهذا، ولن تُلقي إليه بالاً، بل ستضرب عنه ليتاً وصفحاً، ستعيش إذن ضمن حكمتك الخاصة، التي يُوشِك أن تكون حماقة محضة، وستدفع الثمن أولاً وتوسطاً ومُنتهىً، وأنت الملوم، يداك أوكتا وفوك نفخ!

فنفسك لُم، ولا تلم المطايا                            ومت كمداً، فليس لك اعتذار.

لأنك تركت المنبع، تركت المصدر؛ تركت مصدر النور والخير والهُدى، وذهبت تعتمد على قال وقيل، وعلى أرى وأشتهي وأهوى وأُحِب، فستجني عاقبة وستصير إلى عاقبة غير مرضية وغير محمودة بالمرة.

الأبواب التي يُقتدى فيها – عليه الصلاة وأفضل السلام -، يُوشِك أن تكون غير محصورة، في كل شيء! وهذا ما شهد به الأبعدون قبل الأقربين، غير المُسلِمين، مع المُسلِمين، وبعد المُسلِمين. النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – لم ينحصر دوره في الحياة التي أسعدها الله به على كونه نبياً ورسولاً.

وبالمُناسَبة نحن نعيش في زمن سعيد، عجيب! هذا الزمن سعيد؟ هذا الزمن سعيد. كل زمن لا يزال يُذكَر فيه رسول الله، وتُحفَظ فيه سُننه وأقواله وهديه، هو سعيد، لمَن أسعده الله بالمُتابَعة. نحن مُمتنون جداً لله، والله لا نُحِب الدنيا ولا نُريدها، ولو خُيرنا، ما اخترنا أن نكون في دنيا ليس فيها محمد بن عبد الله – صلوات ربي وتسليماته عليه -، والله لا قيمة لها، لا جمال فيها، لا نور لها، فعلاً هو نور الوجود، هو جمال الوجود، مرة أُخرى ورابعة وخامسة وعاشرة: لمَن تابع، ليس لمَن تكلَّم وتحفَّظ، لمَن تابع، لمَن اجتهد أن يكون وارثاً محمدياً كاملاً، سائراً في آثاره وعلى خُطاه – صلوات ربي وتسليماته عليه -، فزمنه كان زمناً سعيداً، أسعد الأزمان، وأضوأ الأزمان الأنوار، به – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

لم ينحصر دوره في كونه نبياً ورسولاً، وهذه أعظم أوصافه وأجل وأشرف نعوته، لا ريب! لكن أيضاً كان أباً – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وكان زوجاً، وكان جداً، وكان جاراً، وكان صديقاً، وكان قائداً سياسياً، وكان قائداً عسكرياً، عافس الحياة وعافسته، لابس الناس ولابسوه، باع واشترى، أعطى وأخذ، ادّان واقترض ورهن درعه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، لابس كل شؤون الحياة، وترك لنا في كل محطة وفي كل مرحلة أسوة عظيمة وقدوة هائلة باذخة ماجدة، يُستفاد منها إلى انقضاء الأزمان، كل الأزمان!

ومن هنا جامعية الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وقد خلَّد القرآن أهم هذه الجوانب وأشرف تلكم المحطات في الرحلة النبوية الرسولية المُبارَكة السعيدة؛ رحلة إمام الكل، وسيد الكل، ومُقدَّم الكل – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

سأقتصر في هذه الخُطبة الوجيزة، على موضوعة واحدة، نتناول منها بعض جوانبها، وهي موضوعة: ما الذي ينبغي أن نُظهِره من أعمالنا وأحوالنا وشؤوناتنا؟ وما الذي ينبغي أن نخبأه ونكتمه ونُخفيه؟ القرآن أرشدنا، والنبي علَّمنا – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

من ذلك يا إخواني – وهذا ما يغفل عنه كثيرٌ من المُسلِمين والمُسلِمات – أن نخبَأ – طبعاً يُقال خبَأ وخبَّأ، خبَأ خبْأً، والشيء خبء ومخبوء، وخبَّأ تخبئةً، ذاك خابئ وهذا مُخبّئ، والشيء مُخبَّأ هنا، على كل حال هذا هو، الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، أي الشيء الذي خبَأه أحدهم، خبَأه خبْأً، فهو خبء ومخبوء، أو خبَّأه، فهو مُخبء – ونكتم ما ابتلانا الله به – تبارك وتعالى -، من الأوصاب والأوجاع والبليات، ولا نشكو الله – تبارك وتعالى -، بل نضرع إليه، ونشكو ما بنا إليه، فهذا من الضراعة، التي يُحِبها الله – تبارك وتعالى -.

ومن جهة سيكولوجية أو نفسية، مثل هذه الطريقة بلا شك، تُوحي لصاحبها بقُرب الفرج، وأيضاً تُوحي إليه وحياً وإيحاءً ذاتياً باحتمال ما نزل به واستخفافه. فإذا نزل بالمرء مُصاب أو بلية، فسامحت بها النفس كما قال الأول، كان للكره أذهبا، يخف عليك الأمر! أما الذي يظل يتسخط ويئن ويتأوه ويتوجع ويشتكي، فيعظم عليه المُصاب، ويبعد من أمام ناظريه أمل الفرج؛ أمل الفرج القريب، وأفضل العبادة انتظار الفرج.

قال السادة العلماء الشكوى الناس فيها على صنفين رئيسين: جاهل وعارف – اللهم اجعلنا من أعرف العارفين بك -. فأما الجاهل، فهو عريق في الجهالة، وغارق في الغفلة، فهو الذي يشكو ربه إلى العباد، عجيب! الله – تبارك وتعالى – ابتلاك بمرض، ابتلاك بفقد في نفسك أو في أهلك أو في مالك، ابتلاك ليُكفِّرك، أي ليُكفِّر عنك، وليُطهِّرك، ويرفع مثوبتك ودرجتك. أنت أبيت إلا أن تشكوه للناس، هل نفعوك؟ هل أشكوك؟ أنت شكوت، فهل أشكوك؟ هل رفعوا شكاتك؟ هل عالجوك وشفوك من مرض؟ هل أغنوك من قلة؟ هل أعادوا إليك الحبيب الذاهب الغابر مع الزمن القريب؟ أبداً.

ولذلك قال الشاعر، وقد جوَّد وأحسن ما شاء:

وإذا عرتك – من الدهر – بلية                  فاصبر لها، صبر الكريم، فإنه بك أعلم.

فإنه بك أعلم – لا إله إلا هو -.

وإذا شكوت إلى ابن آدم، إنما                         تشكو الرحيم، إلى الذي لا يرحم.

أنت تشكو الرحمن الرحيم، إلى مَن لا يرحم؟ العباد يُعيِّرون ولا يُغيِّرون، يُعيِّرون ولا يغفرون، الله – تبارك وتعالى – يغفر ويرفع ويُقيل ويكشف الضراء والسوء ولا يُعيِّر – لا إله إلا هو -، هو لا يُعيِّر، وله الحمد والمنّة.

فهذا حال الجاهل – اللهم باعد بين أحوالنا وبين أحوال الجهلة -! وأما العارفون، فهم على رُتبتين، إحداهما أسنى من الأُخرى وأرفع. الرُتبة الأولى هم الذين يشكون إلى الله – تبارك وتعالى – ما نزل بهم وما أصابهم، سواء من لدن السماء أو من لدن العباد، لا يشكون إلى الناس، إنما يشكون إلى الله – تبارك وتعالى -، وهذه مرتبة جيدة. أجود وأحسن منها وأشرف منها؛ العارفون – وهم أعرف العارفين، اللهم اجعلنا منهم بفضلك ومنّك – الذين لا يشكون حتى العباد إلى الله، ولا يشكون إلى الله إلا أنفسهم، دائماً! يشكون أنفسهم، يذمون أنفسهم، لا يلحظون ولا يرمقون إلا نقائصهم وعيوبهم ومثالبهم، فيظلون يشكون هذه النفوس إلى الله، عسى الله أن يُصلِحها، وهذا جوهر التعبد لله، وجوهر العبادة.
العبادة يا إخواني جوهرها وحقيقتها وأُسها ومبناها على تعبيد العابد لله. ومعنى التعبيد – مثل تعبيد الطريق – التمهيد، التثقيف، التسوية، التحسين، حتى تزول رعونات النفس، جهالة النفس، غفلة النفس، وحشتها، قسوتها، أنانيتها، شُحها، بُخلها، حرصها؛ حرصها الذي لا ينتهي ولا ينقطع، وكل أوصافها الذميمة، إنما تزول بماذا؟ بالعبادة. وهذا هو، هذا معنى العبادة، تعبيد، تعبيد! فيُصبِح العابد بأخرة أو في آخر أحواله من أجمل مَن تراه ظاهراً وباطناً، ليس أجمل من صورته الظاهرية إلا صورته الباطنية. لا حقد، لا كذب، لا غش، لا استكبار، لا عُجب، لا جهالة، لا قسوة، لا مُؤامَرة، لا انتقام، لا حسد، ولا بغي، شيء غريب! ورضاء بالله وأقضيته، وسرور بها، وتسليم له، وانتظار فرجه – لا إله إلا هو – وموعوده، شيء جميل!

وهذه آية وعلامة صحة العبادة، مِمَن عبد، أنه باستمرار يُصبِح ألطف وأرق وأقرب وأحسن، ظاهراً وباطناً. أما مَن عبد، ولو تطاولت به آماد العبادة؛ إلى عشر أو عشرين أو ثلاثين سنة، ولم تتحسَّن صورته الظاهرية والباطنية، وظل على جهله وغروره وعُجبه وشُحه وقسوته، فهذا ما عبد، هذا قلَّد العابدين، دون أن يعرف معنى العبادة وكيف تُعبِّد العابد لله – تبارك وتعالى -. اللهم اجعلنا من أحسن مَن عبدك، وعبَّدتهم لك، بطاعاتك والانتهاء عن مناهيك ومساخطك، يا رب العالمين.

إذن أحسن الأحوال، وهي حال أعرف العارفين، الذين لا يشكون إلا أنفسهم، إلى الله – تبارك وتعالى -.

مما يُؤصِّل لهذا ويشهد له، أن الله – تبارك وتعالى – ذكر الصبر الجميل؛ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۩، قالها يعقوب الكريم ابن الكريم ابن الكريم – عليهم الصلوات والتسليمات أجمعين -، قال فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۩، ثم برهن لنا عبر أحواله السنية على صدق قوله، حين قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ۩، قال أنا لا أشكو الله إلى العباد، أنا أشكو ما أجد إلى الله – لا إله إلا هو -. فهل يجوز أن يشكو المرء ما يجد من الأقضية والأقدار إلى الله، قاضي الأقضية، ومُقدِّر الأقدار؟ نعم، هذا مطلوب شرعاً، وهو من العبادة، فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ۩، الله يُحِب التضرع، أن تضرع، تتضرع إلى الله. قال سيد الكل – عليه الصلاة وأفضل السلام – اللهم إليك أشكو. إليك أشكو، وقدَّم المُسنَد إليه؛ إليك. كأنه يقول لا أشكو إلا إلى الله. إلا إليك، لا أشكو إلا إليك. اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا رب العالمين، أنت رب المُستضعَفين، وأنت ربي، إلى مَن تكلني؟ الحديث المشهور جداً.

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ۩، هو شكا إلى الله، نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ۩، وهذا الضُّرُّ ۩ كان من عند الله، من عند الله! ونسبه إلى الشيطان، تنزيهاً لله؛ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ۩ في الآية الأُخرى، لكن هو يعلم أنه من عند الله، ولكن لا يُنسَب إلى الله، أدباً مع الله، إلا الخيور والبركات، مسألة معروفة! وهكذا موسى – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ۩، لم يرج شيئاً منهما، ولا من قومهما اللؤماء، إنما رجا من الله، وكان جائعاً جداً، أضرت به المسغبة، إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ۩. وهكذا سائر الأنبياء، ولا نُطوِّل، دائماً رغبتهم ورهبتهم إلى الله وشكواهم إلى الله، إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ۩، لا يشكون إلا إلى الله، يُسلِّمون ويصبرون، بل ويرضون.

حكى أحد الصالحين الآتي عن رجل يُدعى أبا محمد أو يُكنى بأبي محمد، وواضح أنه كان من عيون الصالحين، وإن لم يكن من مشاهيرهم على الألسنة. قال ذهب نصفه الأسفل. قُطع! ولم يبق منه إلا روحٌ في بعض جسده، وهو مع ذلك ضرير – لا يرى -، قضى حياته على سرير خشبي مثقوب، لأجل الحاجة. قال دخلت عليه ذات صباح، فقلت يا أبا محمد، كيف تجدك؟ قال ملك الدنيا. كيف أجدني؟ أنا ملك الدنيا، أنا أعظم إنسان في هذا العالم. قال ملك الدنيا، مُنقطِع إلى الله – تبارك وتعالى -، لم تبق لي إليه حاجة، إلا أن يتوفاني على الإسلام. قال أنا مُنقطِع، مُنقطِع! تسبيح وتحميد وذكر واستغفار، روحي هائمة في الملكوت، عقلي جائل مع الله – تبارك وتعالى – ومع أنعامه ولُطفه، يكفي أنه أعطاني هذه اللطيفة، التي أُدرِك بها جلاله وجماله، وأعطاني قلباً وواعية وفاهمة، أُفكِّر بها في آلائه ونعمائه وفي قدرته ومجالي صُنعه، وأرجو بها الفرج القريب. نعم – قال – عظيمة. ملك الدنيا. قال، أصبحت ملك الدنيا، مُنقطِع إلى الله – عز وجل -، لم تبق لي إليه حاجة إلا أن يتوفاني على الإسلام. رضيَ الله عن هذه الأرواح الطيبة. في مثل هؤلاء قال العارف بالله:

ويمنعني الشكوى إلى الناس                          أنني عليل، ومَن أشكو إليه عليل.
ويمنعني الشكوى إلى الله، أنه عليم                                 بما أُبديه قبل أقوله.

أي قبل أن أقوله.

قال:

ويمنعني الشكوى إلى الناس                          أنني عليل، ومَن أشكو إليه عليل.

عليل يستنجد بعليل؟ غريق يشتغيث بغريق؟ الاثنان هالكان طبعاً، غريق!

ويمنعني الشكوى إلى الله، أنه عليم                                 بما أُبديه قبل أقوله.

أي قبل أن أقوله، وفعلاً هو هذا.

هناك مسألة مُهِمة؛ هل قول الإنسان أنا مريض، أنا سقيم، أنا وجع، اشتد مرضي، اشتد وجعي، يُخرِجه من دائرة الصابرين صبراً جميلاً؟ مُختلِف فيه، والأرجح أنه لا يُخرِجه، وهذا أيضاً من رحمة الشريعة. بعضهم تشدَّد، وبعضهم منع حتى الشكوى إلى الله، قال لا تشك حالك حتى إلى الله. عجيب! كيف؟ الأنبياء فعلوا هذا، الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام  – وهو أعرف منا ومن كل مُتحدِّث ومُجرِّب، فعل هذا. ولذلك بوَّب الإمام البخاري – رحمة الله عليه – في صحيحه ما يُرخَّص هذا؛ باب قول المريض إني وجع أو وا رأساه أو اشتد بي الوجع، وقولِ أيوب – أي باب قولِ، وقولِ أيوب، عليه السلام – أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ۩. على كل حال باب وقول أيوب أُخِذ على الإمام البخاري، لماذا؟ لأنه من المفروغ منه أن البشر يشكون إلى الله – تبارك وتعالى -، لكن أُجيب بما لفت إليه لتوي، أن بعض المُتكلِفين منع الشكوى حتى إلى الله، فكأن البخاري رد عليهم، وقال ها هو أيوب، شكا إلى ربه، قال نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ۩. إذن الشكوى جائزة، والأنبياء هم أعرف الخلق بالحق – لا إله إلا هو -، هل هذا واضح؟

للأسف بعض العلماء، مثل أبي الطيب، وابن الصبّاغ، وجماعة من الشافعية، جزموا بأن التأوه والأنين من المريض – أن يئن، أو يقول آه آه، لما حل به من السقم والوجع والتباريح – مكروه، قالوا هذا مكروه شرعاً. وكأنه يتناقض مع الصبر الجميل. غلَّطهم شيخ الإسلام النووي – قدَّس الله سره -، قال هذا ضعيف، أو باطل. غير صحيح! كيف؟ هناك أدلة في الكتاب والسُنة يا أخي، غير صحيح! قال هذا ضعيف، أو باطل؛ لأن المكروه لا يصير مكروهاً إلا بنص عليه بخصوصه. أين النص؟ علم هذا، هات النص من كتاب الله ومن سُنة رسول الله، على أن الأنين والتأوه يُنافي الصبر الجميل، وهو مكروه، أو ورد النهي عنه، أين؟ ثم أورد الإمام النووي – قدَس الله صره – حديث أحمد والدارمي – رضيَ الله عنهما -، من حديث عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها -، أم المُؤمِنين الصدّيقة قالت رجع رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – من جنازة من البقيع. كان في البقيع، يُشيِّع جنازة. قالت فوجدني قد وجعت. تشكو صداعاً، كانت مُصدَّعةً، تشكو صداعاً! فوجدني أقول وا رأساه. تشكو، ولم ينهها، بل قال لها بل أنا يا عائشة وا رأساه. أنا عندي ألم، عندي صداع شديد. إذن هي شكت، ولم ينهها، ثم هو ذكر هذا. هل هذا من الشكوى المذمومة؟ كلا، هذا من الإخبار بالحال.

ثبت مثل هذا عن الصدّيق أبي بكر، وعن ابنته أسماء، وعن غير واحد من الكبار – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم -، أنهم أظهروا مثل هذا. هذا ليس من الشكوى المذمومة أبداً، لا يتنافى مع الصبر الجميل، ولا مع صبر العارفين، بل هذا من باب الإخبار بالحال. ما الفرق بين الشكوى التي تتنافى مع الصبر الجميل، وبين الإخبار بالحال؟ الشكوى التي تتنافى وتتعارض مع الصبر الجميل، هي التي يكون فيها لون اعتراض، أو تسخط، أو تقصٍ في الإخبار بما يجد من ألم؛ أجدني مُحطَّماً، ألم شديد جداً، كأن كذا، وكأن كذا. لماذا؟ لماذا هذا التقصي؟ فقط أنت مريض، قل أنا مريض، أنا وجع، أسأل الله العافية، انتهى كل شيء، لا تتقص، وإياك أن تُكثِر من التقصي، فقد يخرج بك هذا أو بعضه إلى بعض ما يمس أو يغمز قناة الإيمان، أي نوع تضجر، نوع تسخط، نوع إنكار، ولا يجوز هذا. المطلوب هو ماذا؟ التسليم، والصبر الجميل.

ولذلك يجوز للمُؤمِن والمُؤمِنة، أن يذكر حاله للطبيب؛ أجد كذا وكذا وكذا وكذا، لكي يُحسِن تشخيصه، ويصف له الأدوية، ويصف له صنوف العلاجات. هذا لا يُخرِجه – إن شاء الله – من دائرة الصبر الجميل. وهذا الباب طويل، وفيه كلام كثير – إخواني وأخواتي -، نكتفي بهذا القدر.

أيضاً مما ينبغي أن يُخبأ ويُكتَم ويُستَر ولا يُنشَر، الشؤون الحميمة، التي تكون بين الزوجين. ممنوع ذكرها، والنبي علَمنا في هذا تعليماً كبيراً، والقرآن علَّمنا أيضاً، نزلت سورة كاملة، سبب نزولها أمر من هذا، وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ۩، ثم جاء التهديد والوعيد؛ إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ۩ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ ۩… الآية الكريمة! ولذلك لا يجوز للمرأة أن تُفشي سر زوجها، وخاصة ما يتعلَّق بالشؤون الحميمة، وطبعاً من باب أولى لا يجوز للرجل – والرجال يفعلون هذا أكثر من الناس – أن يفعل هذا، هذا ورد فيه نهي شديد جداً عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

في حديث الإمام مُسلِم في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري، تبشيع شديد لهذا الأمر، وأنه من أسوأ ما يلقى به العبد ربه يوم القيامة. وهذا من باب خيانة الأمانة، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ۩، هذه أمانة! كيف لا، إذا كان المجالس العادية بين الناس، تقول ويُقال لك بالأمانة؟ خاصة إذا حصل التفات؛ يقول لك يا فلان سأقول لك شيئاً. ثم يلتفت، هذه أمانة، ممنوع أن تُخبِر بها، حتى لو لم يستحلفك، ولم يستأمنك بصريح القول؛ أن انتبه، هذا سر، لم يحدث هذا أبداً، بما أنه التفت، انتهى الأمر. والنبي قال هذا لنا، انظر إلى هذا، انظر! انظر إلى الأدب، أين هذا؟ أين علَّم مُعلِّم في العالم هذا؟ أنه إذا حدَّثك مُحدِّث بحديث، فالتفت، فهي أمانة، وتُسأل عنها يوم القيامة. لا تعتذر، ولا تعتل بالقول؛ هو لم يستحلفني، ولم يستأمني، ولم يُحرِّج علىّ في ألا أُخبِر. النبي علَّمك، أن الالتفات استئمان. يقول لك هذا بيننا.

قد يقول لي أحدكم عجيب، عجيب! ليس عجيباً فحسب، هذا عجيب إلى انقطاع الزمن وليس النفس، والله العظيم! والله لا مثيل لهذا الدين. كما قلت لكم مَن أخذ هذا الدين بطريق الائتساء بالنبي الكامل (أكمل الكملة)، صار هو من أكمل الكملة. أنت تصير من أجمل الناس، ومن أرقى الناس، أي كالذي يُسمونه باللُغة العامية الكبير. يقول لك كبير، هذا كبير. تصير كبيراً في كل شيء، وعند الله تصير كبيراً – إن شاء الله تعالى -، أي لن تظل صغيراً. هناك أُناس يصير عمرهم أربعين أو خمسين أو ستين سنة، ويبقى الواحد منهم مثل الطفل، مثل الطفل! لا يخبأ، لا يكتم سراً, يتحدَّث في كل شيء، مذياع، شيء عجيب! كأنه طفل غير مُربى، الإيمان يُربي، مَن لم يُربه حتى والدوه، رباه إيمانه وتدينه، من أجمل ما يكون، عجيب!

انتهى الأمر، من غير أن تقول لي لا تقل، إن التفت، فلن أُخبِر أحداً بهذا، سأعتبرها أمانة، وسأكظم عليها، وسأكتم ما جرى. وهذا المُؤمِن، المُؤمِن يطلب تكميل نفسه، وليس وعظ الناس بتكميل أنفسهم، هناك وعظ وكلام فقط، لا! هو ساعٍ في هذا، يُكمِّل نفسه ليل نهار، ولذلك يُصبِح كائناً عجيباً. الإنسان الكامل، الذي بحث عنه الفلاسفة، هو المُؤمِن صادق الإيمان، الكامل في إيمانه، هو هذا الإنسان الكامل، ولن تجد أكمل منه، ولن تجد أكمل من تعاليم النبي المُحمَّد – صلوات ربي وتسليماته عليه -، ولذلك أخبر في حديث آخر، وهو الذي أخرجه أبو بكر البزار – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، أخبر بنهيه عن هذا الأمر الشنيع البشع؛ أن يُفضي الرجل إلى امرأته، وتُفضي إليه، ثم ينشر سرها، كما في حديث مُسلِم، عند أبي سعيد الخُدري، واعتبره من أعظم الأمانة، التي يُسأل عنها العبد يوم القيامة، ثم يُفشي سرها!

وحذَّرهم أن يفعل أحدهم أو إحداهن هذا. ثم يخرج يُخبِر بما فعل؛ فعلت كذا وفعلت كذا. هل منكم مَن يُحدِّث؟ أي بمثل هذا؟ فسكتوا، وفي رواية أرموا. هل منكن مَن تُحدِّث؟ فسكتن. يقول الراوي فقامت فتاة كِعاب. أي نهد ثديها وارتفعت، أي بنت أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة، ليست طفلة صغيرة، فاهمة! فقامت فتاة كِعاب، فجثت على إحدى ركُبتيها، وتطاولت، لكي يراها رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ويسمعها، وقالت بلى يا رسول الله، إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن. هذا الحديث نستمع إليه أحياناً، رجال يتحدَّثون عن الأوضاع الحميمة، يفتخر أحدهم بفحولته ورجولته، وبعضهم يُشبِه أن ينتقل إلى الدياثة – أعزكم الله -، يبدأ يصف زوجه وجمالها، ديوث البعيد هذا، ديوث! ليس عنده رائحة الغيرة. تصف لمَن؟ ولماذا؟ المُؤمِن غيور كريم، هذا هو! والمُؤمِنة كذلك، غيورة على عِرضها وعِرض زوجها وعلى أسرار بيتها، فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۩، قيل حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ ۩ أي حافظات لغيب أزواجهن، تحفظ فرجها، عِرضها، وماله. وقيل تحفظ السر الذي بينهما، وخاصة في الشؤون الحميمة. وكلٌ صحيح، كله داخل في عموم الآية؛ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۩.

أحد الصالحين علم الناس، أنه يُريد أن يُطلِّق زوجته – أي بعضهم طبعاً، من أقربائه وأصدقائه -، فقال له أحدهم يا فلان ما رابك منها؟ قال ليس من المروءة أن يهتك الإنسان ستره. قال هذا ستري، ما هذا؟ ستر بيتي؟ كيف أُحدِّثك بما بيني وبين زوجتي وأقول لك ما المشاكل؟ لا أفعل هذا، لا! انظر إلى هذا، أناس كبار، ليس كمَن يذهب ويُحدِّث كل مَن لقيه، يقول له زوجتي كذا وأنا كذا. ما هذا؟ طفل صغير، نحن نتعامل مع طفل صغير، مع ولد، مع عيل؟ أين الرجولة؟ وأين الغيرة؟ لا يوجد كل هذا، لا يتأدبون!

فطلقها، فأتاه الرجل نفسه، وقال له قد طلقتها، فما الذي كان؟ قال ليس من المروءة أن يتحدَّث المرء عن امرأة أجنبية. الله أكبر، أرأيتم؟ هذا أدب المُسلِمين. هل نحن مُسلِمون، بهذه الطريقة؟ هل نتأدَّب على هذه الآداب العالية؟ هل رُبينا عليها؟ هل نوعظ بها يا أخي؟ أم الحكاية فقط حكاية كلام وعناوين؛ مُسلِمون ومُسلِمون، فقط؟ قال ليس من المروءة أن يتحدَّث المرء عن امرأة أجنبية. طلَّقتها، فأصبحت أجنبية، ولا أتحدَّث. وهي زوجتي، أعلم أنها سري، عيبتي، وعِرضي، فكيف أتحدَّث عن عِرضي؟ لا أيضاً. هذا هو! والنبي علَّم هذا – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

وحتى وإن حصلت مُشكِلة وضرب زوج زوجه، وما أهانهن إلا لئيم، كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فقد ورد عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا يُسأل الرجل فيما ضرب زوجته. ممنوع، لا تتدخل وتسأل لماذا، هذه أسرار بيتية. فقط هذه إذا حكمت الأمور وتحرجت، تُنشَر وتُذكَر بقدرها، للحكمين؛ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ۩، فقط! للقاضي، إذا وصل الأمر إلى القضاء، لكن ليس للعوام، وليس للأقربين، ولا الأبعدين، لا تُذكَر لأحد، البيوت أسرار، تربية عالية، تربية عالية! الآن ترون العكس في هذا العالم البشع، المُسمى بعالم اليوتيوب YouTube وعالم الإنترنت Internet؛ لأنه جُزء من واقعنا. بصراحة مُعظَم مُساهَمات العرب والمُسلِمين في هذا العالم بشعة. أنا دائماً أُحِب أن أواجِه الحقيقة، لا أُحِب أن أُجامِل، ويُوجَد منها مُساهَمات مُمتازة كما أقول دائماً، ولكنها قليلة، هي الأقل، مُعظَمها بشعة وحقيرة، ويا ويل جيل يتربى على أمثال هؤلاء! تاركين محمداً وهدي محمد (رحمة العالمين)، ويتربون على فلان وعلان، الذين يقرأون كُتباً أجنبية وكُتباً غربية وشرقية، ويُعطونها كما هي، كما هي! لا، هناك أشياء حسنة تُؤخَذ، وهناك أشياء قبيحة جداً، تُنبذ نبذ النواة، ولا تُؤخَذ منهم، نحن عندنا معاييرنا، وعندنا قيمنا، وعندنا المرجعية الشرعية العالية، نُحسَد عليها يا إخواني، والله العظيم! نُحسَد على أمثال هذه الأشياء، لو فقهنا.

هذا هو على كل حال. ولذلك قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – أتدرون ما مثل مَن فعل ذلك؟ أتتحدَّث عن شؤونك الحميمة؟ قال، أتدري ما معنى هذا؟ مثل مَن فعل ذلك، كمثل شيطان، لقيَ شيطانة بسكة، فوقع عليها، والناس ينظرون. قال أنت تتشبه بالشياطين. وفي حديث آخر كمثل عير – أكرمكم الله -. أي مثل حمار. قال، مثل دابة، تتسافد مع دابة، أمام الناس. قال المُسلِم لا يكون هذا، المُسلِم لا يكون هكذا مُطلَقاً.

أختم هذه الخُطبة الأولى أيضاً بجانب ثالث؛ اكتم واخبأ معصيتك وفسقك. قال الإمام مالك – رضيَ الله عنه وأرضاه – مَن ذا الذي ليس فيه شيء؟ مالك يقول مَن؟ هل نحن ملائكة؟ لسنا ملائكة؟ هل نحن أنبياء معصومون؟ لسنا أنبياء معصومين. أكيد كل واحد فينا عنده أخطاء، على تفاوت! على تفاوت بحسب اجتهاد الناس وتقواهم لله. قال ولكن ليس المُجاهِر والمُصِر كغيرهما. هناك مَن ابتُليَ بقاذورة وبذنب! استر على نفسك، مطلوب أن تستر على الآخرين، فكيف على نفسك؟ هذا من باب أولى.

ولذلك صح في الصحيحين، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – كل أمتي مُعافىً إلا المُجاهِرين، وإن من المُجاهَرة أن يبيت الرجل على ذنب يستره الله – تبارك وتعالى -، فيُصبِح يُحدِّث الناس بما فعل، يهتك ستر الله عليه. قال هذا لا يُعفى عنه. لا إله إلا الله! هل تعرفون لماذا؟ لأنه جمع إلى قُبح إتيان المعصية، الاستهانة بمَن عصى – لا إله إلا هو -، فهو يخرج يُحدِّث الناس بأنه عصى الله. أهكذا بلغت؟ إلى هذا الحد بلغت بك الاستهانة برب العالمين – عز وجل -؟ تعصيه في الخلوة، ثم تُجاهِر بما فعلت في الجلوة، أمام الناس؟ ألا يُوجَد حياء؟ و: تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ۩؟ أي هذا عادي، ها أنا أفعله. وقد يكون منظوراً إلىّ، وأفعل هذا، عادي! ومرة أُخرى انظروا طبعاً إلى اليوتيوب YouTube، لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! انظروا إلى بنات المُسلِمين وأبناء المُسلِمين وما الذي يفعلونه بأنفسهم، في أحوالهم وسلوكاتهم وأشكالهم وأبدانهم، في مقاطع اليوتيوب YouTube، وهناك تقبيل وضم وأشياء من أقبح ما يكون! أقول لهؤلاء اتقوا الله. وطبعاً أقول لك لا تُشدِّد، لا! الدين كله يُسر، ولكن الدين أدب أيضاً، والدين توقير لله – تبارك وتعالى -، والدين تعظيم لما عظَّم الله، وتعظيم للحُرمات، وتعظيم للشعائر، وهذا كله هتك لحُرمات الله – تبارك وتعالى -، وقلة أدب، ودياثة، وانحلال، وفسوق، وفُحش. ووالله الذي لا إله إلا هو، لن يُفلِح ولن يُسعِد – أقول ولن يسعَد – مَن سلك مثل هاته المسالك. تظن أنها حين تفعل هذا ستسعد، ويظن أنه يفعل هذا ليسعد! والله لن تسعد وستشقى، ستشقى في حياتك الزوجية ومع أبنائك ومع نفسك، وشقوة الآخرة أبقى وأخزى – والعياذ بالله -، اتق الله في نفسك، وعُد مرة أُخرى، وراجع وسائل مرجعيتك، ما هي مرجعيتك؟ هل هي رسول الله؟ هل هي قال الله وقال الرسول؟ أو مرجعيتك… ماذا أقول لك؟ الفنانون والفنانات، من الغرب أولاً ومن الشرق ثانيا! هؤلاء ليسوا مراجع حتى لأنفسهم، هؤلاء من أشقى البشر وأتعس البشر، نسأل الله أن يهديهم وأن يُسعِدهم بالهداية والتوبة النصوح، أشقياء! هؤلاء أُناس أشقياء، ويتعاطون الكحول والمُخدِّرات، وطبعاً هناك الطلاق والمشاكل والمحاكم، أجعلت هؤلاء قدوة لك؟ هؤلاء أُناس فارغون.

انظر، كل إنسان يُريد أن يستقطر السعادة عبر التباهي والاستعراض وأخذ الاستحسان من الناس واللايكات Likes، هو إنسان فارغ، أي Hollow man، إنسان فارغ! وهو ليس سعيداً. السعيد ثقيل رزين، لا يطلب شيئاً من الناس، بصراحة! هو سعيد بنفسه، ومُغتنٍ بذاته. استحسنوا أو استقبحوا، لا يعنيه كثيراً. أما الذي يدور كالمحموم وكالسكران، نُشداناً لاستحسان الناس وعطاءات الناس، فهو فقير، والله العظيم! إياك أن تُحاوِل أن تغتني بأن تئتسي بمثل هؤلاء الفقراء، هؤلاء فقراء! هدانا الله وإياهم، وأسعدنا الله وإياهم.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً. اللهم جنِّبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، برحمتك يا أرحم الراحمين. اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

 

 (انتهت الخُطبة بحمد الله)

 

تكملة مُفيدة للموضوع

 

لو أن مُسلِماً أو مُسلِمةً، ذكر بعض ما مر به من متاعب ومن مُشكِلات، لأحد أودائه وأحبابه، هل هذا يُشرَع من حيث الأصل، أو أنه يدخل في باب الشكوى أيضاً؟ أعتقد أنه مشروع. الكلام الوارد اليوم في الخُطبة، هو الكلام المُتعلِّق بالإذاعة العامة، وليس المُراد الراديو Radio طبعاً، وإنما أن تُذيع هذا على العموم، لجيرانك وأصدقائك والناس. أما أن تخص أحداً من المُقرَّبين جداً، كزوج أو زوجة أو صديق ودود صادق، فربما تبثه بعض شكواك، فهذا حصل من رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، من أشهر ذلك ما قال لعائشة – رضيَ الله عنها وأرضاها – أتدرين، يا عائشة، ما أشد ما لقيت من قومك! ثم سرد لها حكايته مع الطائف – ثقيف في الطائف – وقرن الثعالب. وفيها الحديث الذي رواه ابن إسحاق وغيره؛ أنت رب المُستضعفين. قال اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين. فهذا هو، حكى لها بعض مجارياته. هذا مسموح، وكما قال بشّار:

ولا بد من شكوى إلى ذي مروءةٍ                         يُواسيك أو يُسليك أو يَتوجع.

أي لا بد من الشكوى إلى ذي مروءةٍ، أي الإنسان أحياناً يحتاج إلى مَن يبثه بعض الأشياء، لعله يواسيك أو يُسليك أو يتوجع معك. وهو يُخفِّف عنك، حين يتوجع معك. وهذا اسمه الإسعاد في اللُغة الفُصحى، في الجاهلية سموه الإسعاد! أي إذا طرقك مثلاً ما أبكاك، فبكى جليسك، أسعدك، لأنه يُخفِّف عنك، أسعدك ببُكائه! أيضاً يُسعِدك بتوجعه، يتوجع معك ويتأوه لحالك، فهذا يُخفِّف عنك، هذا يُخفِّف عنك! فجائز، ولكن – كما قلنا – في هذه الحدود الضيقة.

من المسائل المُهِمة التي بيَّنها الشرع الشريف، والنبي الكريم – صلوات ربي وتسليماته عليه -، مما ينبغي أن يُخبأ ويُكتَم ولا يُظهَر، طبعاً كما نعلم جميعاً الأعمال الصالحة، الأعمال الصالحة! وطبعاً هذا باب طويل جداً جداً، ويدخل في موضوع الإخلاص، وتعرفون الأخبار والآثار وحتى الآيات القرآنية في موضوع الرياء وموضوع إظهار الأعمال الصالحة الطيبة، رياءً ومُراءًة للناس، وكيف يُحبَط العمل. هذا موضوع طويل ومعروف، ولكن هناك أيضاً تفريعة – كما يُقال – بسيطة، جرى التنبيه عليها أكثر من مرة؛ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۩، فها هو الله يُبيح – تبارك وتعالى – ويفتح هذا الباب، يقول بإبداء الصدقات، وأنعم بها، أنعم بها – عز وجل -، قال إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۩. قال وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ۩.

وطبعاً هذه الآية باختصار – لا نُريد أن نجعلها موضوع مُحاضَرة، لكن نتحدَّث على عجل، وقد سبق فيها الحديث أكثر من مرة، وهي من سورة البقرة طبعاً – اختلف فيها العلماء على قولين؛ أكثر العلماء، مثل ابن عباس وقتادة والربيع وسُفيان الثوري، وهناك كثيرون! على أنها في صدقة التطوع، هذه في صدقة التطوع! القاعدة في صدقة التطوع أن إخفاءها خيرٌ من إظهارها. قاعدة! بل روى ابن جرير الطبري في تفسيره بسنده عن ابن عباس – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – أن صدقة التطوع يعدل إخفاؤها إظهارها بسبعين ضعفاً. إذا أظهرتها، تأخذ حسنة – مثلا -. إذا خبأتها، تأخذ سبعين حسنة، فكيف لو كانت هذه الصدقة عند الله – مثلاً – بألف حسنة؟ إذن هناك سبعون ألف، تخيَّل! هذا إذا خبأتها؛ لأنها أدل على الصدق والإخلاص، وأيضاً أسلم وأحفظ لمروءة المُتصدَّق عليه، أليس كذلك؟ وهذا إذا افترضنا أنك تتصدَّق عليه أمام الناس، لكن يُمكِن أن تتصدَّق عليه في خفية، ومع ذلك تُظهِر هذا، تقول أنا تصدَّقت وأنا فعلت. أيضاّ هذا الشيء نفسه، لا! الأفضل دائماً الإخفاء.

أما المفروضات، مثل الصلاة، الحج، عُمرة الإسلام، وصوم رمضان – وبين قوسين أقول (واختَلف في الزكاة) -، فاتفق العلماء من عند آخرهم، على أن إظهارها خيرٌ من إسرارها، لأن هذه شعائر، شعائر الدين! ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ۩، فلا تقل لي لا، أنا لا أُريد أن أُصلي في المسجد، ولن أُصلي جماعة، ولن أُصلي الجُمعة أيضاً، حتى لا أقع في الرياء. هذه مفروضة، كل المُسلِمين من المفروض أن يُصلوا، أي أنت لم تأت بشيء استثنائي، أنك تُصلي، طبيعي أنك تُصلي، أليس كذلك؟ فصل، صل في الجماعة وفي الجُمعة، وهذا أجزل في المثوبة بلا شك. وكذلك الصوم، أي طبيعي أنك تصوم، أي هذا ليس شيئاً استثنائياً، أنك تصوم، هذا صوم، مفروض هذا.

فإذن انتبهوا، القاعدة في المفروضات، أن إظهارها خيرٌ من إسرارها. قال ابن عباس يعدله بخمسة وعشرين ضعفاً. قال لعله بخمسة وعشرين! في المُتطوَّع بها – أي المُتطوَّعات – بسبعين ضعفاً، لكن في هذه بخمسة وعشرين ضعفاً. واختُلف في الزكاة، الزكاة مفروضة، ولكن اختُلف، بعضهم قال لا، الزكاة استثناء، الأفضل إسرارها، حمايةً لكرامة المُزكى. لا! هذا ليس شرطاً، نحن يُمكِننا أن نُعطي الزكاة بشكل علني، في مسجد أو في شارع، في أي مكان! والكل يقول لك هذه زكاة مالي، أنا اليوم أدفع زكاة مالي. لكي يُعوِّد الناس، أن يُخرِجوا الزكوات، وهي مفروضة أصلا، ليس لك فضل، ليس لك فضل! وفضلك على نفسك على فكرة، هذه حق هؤلاء؛ أصحاب الحقوق، وليست حقك. وعلى فكرة هذا المال حين تُخرِجه – أي حين تُخرِج زكاته – لا يكون من مالك. أنت لا تُخرِج مالك، هذا ليس من مالك، هذه الزكاة ليست مالك، هي لأصحابها الذين عيَّنهم الله – تبارك وتعالى -، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ۩، حَقٌّ مَعْلُومٌ ۩، أيضاً ورد هذا، إذن هذا حق معلوم، هذا ليس فيه أي فضل، حتى ولو كانت زكاتك بالملايين، لا يُوجَد فضل، هي مفروضة عليك، والويل لمَن منع زكاة ماله! وعندنا آية الكي؛ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۩، ويُسمونها آية الكنز، شيء مُخيف! فالأرجح في الزكاة أن إظهارها أيضاً مثل سائر المفروضات خيرٌ من إبطانها. وبعضهم خالف، فيها خلاف المسألة هذه، لكن هذا هو. فهذه هي القاعدة في هذا الموضوع.

هذا رأي جماهير العلماء، وهناك رأي لمُفتي مصر وعالمها الأشهر في وقته، يزيد بن أبي حبيب – رضيَ الله عنه وأرضاه -، وكان من صغار التابعين، هذا أدرك بعض صغار الصحابة، على كل حال هو عالم ثقة، وأحاديثه في الصحاح والسُنن. يزيد بن أبي حبيب – رضوان الله عليه – قال هذه الآية في فقراء ومحاويج اليهود والنصارى. في فقراء ومحاويج أهل الكتاب، وليس في المُسلِمين، ليس في المُسلِمين! أما في حق فقراء المُسلِمين، فدائماً إسرار الصدقة المُتطوَّع بها هو المطلوب، قال هذا هو، ولكن هذه في حق الفقراء من اليهود والنصارى، يُمكِن أن تُظهِر الصدقة عليهم. لماذا؟ لماذا ذهب إلى هذا المذهب؟ كأنه يقول لكي تُبيِّن للناس مشروعية هذا. بعض الناس يتحرَّج، أن يُعطي صدقة، يتطوَّع بها – وليس المفروضة طبعاً، وإنما يتطوَّع بها -، على غير المُسلِمين. فكأن مُفتي مصر وعالمها – رضوان الله عليه – ابن أبي حبيب قال لا، أظهِر هذا، يجوز. وإخفاؤها أفضل أيضاً. فالآية في مَن؟ في محاويج أهل الكتاب، ليست في محاويج المُسلِمين. لكن محاويج ومحتاجي ومساكين وفقراء المُسلِمين، دائماً الصدقة المُتطوَّع بها عليهم أفضل إسرارها، وهي القاعدة. فهذا قوله – رضيَ الله عنه وأرضاه -.

يُوجَد أيضاً حديث يتعلَّق بباب آخر من أبواب الكتم وما إلى ذلك، عن رسول الله، صحَّحه الشيخ الألباني من المُعاصِرين – رحمة الله عليه -، وهو قوله الشائع جداً على الألسن؛ من الأحاديث المُشتهِرة، قوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – استعينوا على قضاء حوائكم بالكتمان. لماذا؟ علَّل بقوله – صلوات ربي وتسليماته عليه – فإن كل ذي نعمة محسود. حتى لا يتطرَّق الحسد إلى بعض مَن في قلبه ربما حسد، ولن نقول شيئاً آخر، ومن ثم أنت تهيج، تهيج وتبعث هذا الحسد، بإظهارك أنك ستفعل كذا، ستبني بيتاً، ستشتري سيارة فارهة، ستتخرج عما قريب برُتبة حصلت فيها على ماجستير أو دكتوراة. قال لا، حين تنتهي وما إلى ذلك، عساه يظهر. إذا ظهر، ظهر، فماذا سوف تفعل؟ صارت السيارة عندك، صارت الشهادة عندك، لكن أنت لم تُظهِر هذا. قال استعينوا. وكأن النبي يُؤكِّد أن الحسد له تأثير. سُبحان الله! نعم، لأن بعض الناس على فكرة لا يُدرِك هذا، وهذا غير العين، هذا لا يزال غير العين، مع الخلاف الشديد بين العلماء في المسألة هذه، ولكن عموماً بعض الناس يتأدى به الحسد إلى البغي، يذهب ويُعرقِل نجاحك، والله! يذهب ويكتب تقريراً فيك، يذهب ويؤز عليك، يذهب ويشوِّه سُمعتك، شيء غريب، الحسد! يقول لهم هذا؟ هذا؟ تُوظِّفون هذا؟ تُوظفِّون هذا عندكم وبهذا المرتب؟ هذا خائن، هذا يخون الأمانة. ماذا؟ ضاعت عليك هذه الأشياء، حين أخبرته، وأنت الذي قطعت الطريق على حالك. وهذا حدث كثيرا، وكم شكا لي بعض أحبابي، أنه كان أمام إنجاز شيء كبير، وحين أخبر بعض الناس انقطع! وبعد ذلك عرف أن بعض مَن أخبره هو الذي قطع عليه سبيل التوفيق، ما هذا الشيء؟ حسد. أُناس عندها بغي، يبغي الواحد منهم! أي ليس كافياً عنده أن الله ابتلاه بهذه البلوى العظيمة التي يُستعاذ بالله من صاحبها، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ۩، ألحق نفسه بالشياطين!

وعلى فكرة قضية الأوصاف والنعوت يا إخواني هذه اهتموا بها وأولوها مزيد عناية، مُهِمة جداً جداً جداً! أي على ذكر الآن الخبء والإظهار في قضية الأعمال الصالحة والرياء والتسميع، أقول انظر إلى نفسك حين تعمل عملاً صالحاً، سواء كان صدقة أو غير صدقة. حين تخبأ الأمر – أي بينك وبين الله -، يُدخِلك هذا في زمرة المُصدِّقين والمُصدِّقات، والمُتصدِّقين والمُتصدِّقات، والأمر نفسه مع المُستغفِرين بالأسحار، الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، والذين وجلت قلوبهم، والذين كذا وكذا. وهذه كلها نعوت، أنت تكون من هؤلاء… ومن هؤلاء… ومن هؤلاء… لأن هذا بينك وبين الله. حين تُظهِره للناس، وتبدأ تفرح به، وتستعلن، وتُسمِّع، وتُرائي، يُخرِجك من نعوت المُصدِّقين والمُصدِّقات، والصائمين والصائمات، والذاكرين، والحافظين، و… و… و… إلى آخره، إلى نعوت مَن؟ المُرائين والمُسمِّعين. وتُنادى بهذا يوم القيامة؛ يا مُسمِّع، يا مُرائي. لا إله إلا الله! وأنت الذي عملت هذا في نفسك، وهذه حماقة، حماقة! لا ينبغي هذا، فكُن دائماً حريصاً أن تكون ضمن أصحاب النعوت السنية الربانية، ولا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وكل شيء بإزاء ما عند الله هو أدنى، الذي عند الله هو الأعلى والأفضل والأسنى دائماً، ولا تهتم بالناس، أهم شيء هو كيف يكون لقبك عند الله؟ ما صورتك عند الله؟ ما منزلتك عند الله في الملأ الأعلى؟ وليس عند الناس، ليس لك علاقة بالناس، دعك منهم، الناس حالهم كما ترى، ها هم!  وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ۩، مُعظَمهم يحسد، هل تظن أنك حين تذكر لأحدهم أنك تتعبد وما إلى ذلك، أنه سيفرح لك كثيراً؟ أبداً، هو سيحسدك، وفي قلبه سيقول مُنافِق هذا، مُراء هذا، ويرى نفسه، و… وهكذا! من باب الحسد، فالأحسن ألا تفعل، هل هذا واضح؟ وكذلك في سائر الشؤون، في سائر الشؤون والأمور.

إذن استعينوا على قضاء حوائكم بالكتمان. يُروى الآتي عن ابن عباس وعن عليّ وعن أبي هُريرة وعن أنس وعن مُعاذ بن جبل وعن عدد من الصحابة، رواه ابن عدي في الضعيف، والكامل في الضعفاء طبعاً، والبيهقي، والطبراني في ثلاثته، أي في المعاجم الثلاثة؛ الكبير والأوسط والصغير، وصحَّحه – كما قلت – الشيخ الألباني وغيره، فيبدو أنه حديث صحيح، استعينوا على قضاء حوائكم بالكتمان. لا تُخبِر عن مشروعاتك، عن أهدافك. والنبي هو الذي علَّمنا الكلام هذا، اكتم، اكتم وارزن، وهذا كان موضوع خُطبة اليوم، المُؤمِن رزين، المُسلِم الصادق رزين، رزين! ليس مذياعاً، لا يتكلَّم كثيراً، كلام، كلام! على مدار الأربع والعشرين ساعة كلام، رزين! وكل شيء عنده برزانة، رجل كامل، المُؤمِن إنسان كامل، والمُؤمِنة إنسانة كاملة، هكذا الدين علَّمنا، وهكذا الدين يُعلِّم، وهكذا يُخرِج، هذه منتوجات الدين الصحيح يا إخواني، أُناس مُختلِفون، والله العظيم! فإن كل ذي نعمة محسود.

قولٌ مثل هذا يُنسَب إلى الإمام الصادق – عليه السلام -، ويُنسَب إلى الحُكماء، ويُنسَب إلى رسول الله، على أن ابن الجوزي ذكره في الموضوعات، ورواه الطبراني في المُعجَم الأوسط هذا، وهو ماذا؟ استر عن الناس ثلاثة؛ ذهبك، وذهابك، ومذهبك. ثلاثة أشياء، كلها لها علاقة بالذهب. ذهبك!.. أي أموالك؛ كم مرتبك؟ كم تحويشتك؟ لا تذكر هذا أمام الناس، لا تقل! تخيَّل الآن أن مُرتبك يصل إلى ألفي يورو أو ثلاثة آلاف، وأن شخصاً آخر مُرتبه سبعمائة يورو! ستتحرَّك عقارب الحسد، أليس كذلك؟ أي هو لن يكون سعيداً، وبعد ذلك لماذا أنت تقول له هذا؟ لماذا تقول له أنا مرتبي ثلاثة آلاف، أو مُرتبي عشرة آلاف؟ وتقول هذا لواحد (غلبان) مُرتبه أقل من ألف، فلماذا أنت تقول له هذا إذن؟ أي هل تتباهي أمامه، أو تستطيل عليه؟ تُحزِنه، وتكسره أنت هكذا، أنت تكسر نفسيته وتُحزِنه، والنتيجة لن تكون جيدة، اخف هذا الشيء، اخفه! وإن سألك سائل، فعلِّمه ترك الفضول، أي أقصِر من فضولك، بطريقة مُعيَّنة أفهمه أن أقصِر من فضولك، لا تسأل. والمُؤمِن المُهذَّب لا يسأل الناس لا عن مُرتباتهم، ولا عن نجاحاتهم؛ أي على كم حصلت في الامتحان؟ أو على كم حصل ولدك؟ عيب! ولا عن أسرارهم. المُؤمِن أيضاً يكون هكذا!

ذهبك، ومذهبك؛ اليوم عند الأوروبيين هناك الــ Taboos هذه، عندهم ثلاثة تابوات مشهورة؛ الجنس، والسياسة، والدين. أي معناها الشيء نفسه، لا تتكلَّم فيها، استرها. إذا عندك توجه ديني مُعيَّن، فلا تقله، لأن عندهم الهرطقة – الــ Heresy ، وتم ذبح الهارطقة قديماً، وتعرفون الألبيجين وما إلى ذلك، وهذه مشاكل! والآن حتى هناك الشيء نفسه، هناك تشنيع ومشاكل على الإنسان وما إلى ذلك، بسبب هذا، فقال لك نعم، نحن عندنا الشيء نفسه. وفي القديم كانت هناك قصة كبيرة! وحالياً أو الآن أصبحت هذه عندنا، في آخر عشرين سنة؛ شيعة وسُنة وإباضية وسُنة ووهابية وصوفية وأشعرية وماتريدية و… قصة كبيرة! فطبعاً هذا صعب، واليوم الناس تقوم بعمل العكس، تتبجح بأنها تُدافِع عن مذاهبها وعن أديانها وما إلى ذلك. ونحن نقول الأفضل أن تربع على ظلعك، لا تشتد، لا تتحمس، كُن مع العام، كُن مع الإسلام، مع الكتاب والسُنة، مع محمد – عليه السلام -. ما علاقتي بفلان وعلان؟ وهذه ليست أشياء كبيرة على فكرة، قبل أن يُوجَد ابن إباض وابن أبي كريمة والصادق والشافعي وأبو حنفية وزيد، وقبل كل هؤلاء الإسلام تم وانتهى الأمر؛ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ ۩، أي بصراحة لم يكن محتاجاً لهم أيضاً، تم الإسلام وانتهى الأمر، على يد محمد، فانتبهوا! الإسلام عنده كتاب ورسول، وتم من قديم، فلا تتعصب كثيراً للأئمة هؤلاء ولمذاهبهم وأقوالهم واجتهادهم، وتصير كأنها هي الدين، هي ليست الدين، هذه اجتهادات في الدين، احترمها واحترم الاجتهادات الأُخرى، وكُن مُتواضِعاً ومُتسامِحاً، ولا ترفع الراية دائماً؛ أنا سُني وهابي، أنا سُني أشعري، أنا سُني صوفي، أنا زيدي، أنا إمامي، إنا إباضي. لا ترفع هذه الراية، وكُن مع راية الإسلام، هذا أحسن لك، واعتقد الجميع إخواناً، وادع أن يكونوا لك في الحق أعواناً، فهذا أحسن لك، أحسن بكثير من قضية مذهبك، قديماً هذه كانت تطير بسببها الأعناق، أي المذهب، بسبب المذهب. إذا دخلت في قرية ولست على مذهبهم، ذبحوك، وقبلها يقولون لك مَن أنت؟ هل أنت شيعي؟ تعال، اذبح الشيعي. هل أنت سُني؟ اذبح هذا السُني اللعين، وهكذا! ونحن اليوم عندنا شيء قريب من هذا، لكنه لم يصل إلى هذه الدرجة.

وذهابك؛ أي الخُطط، الذهاب الخُطط بشكل عام، ليس شرطاً السفر، أي أين تُسافِر؟ ذهابك؛ أي هم يقصدون الخُطة العامة، خُطتك في الحياة، ماذا أمامك؟ ماذا سوف تعمل؟ إلى أين ستذهب؟ ماذا تعمل؟ هناك صفقة وما إلى ذلك. استر. ونحن مع الحكمة هذه، بصراحة تبقى أيضاً حكمة، الثلاثة الأشياء هذه معروفة قبل أن يقولوا هناك تابوات، أي الغربيون، عندنا ثلاثة تابوات: ذهبك، مذهبك، وذهابك. ذهابك، أي أين أنت ذاهب؟ من أين أتيت؟ وما الذي حصل؟ اسكت.

لن تجد تقريباً غربياً من الأشخاص المشاهير في التنمية البشرية وفي الأدب والفكر، والأمر نفسه مع حكمائهم، إلا وينصحك بأن تكتم تجاربك الروحية. يقول لك اسكت. إن حصل لك هكذا نوع من الكرامة أو مسألة عجيبة، فاسكت، إياك أن تتحدَّث. إن رأيت رؤيا صالحة وتحقَّقت بحذافيرها، فاسكت، لا تحك عن الرؤيا الصالحة. إن جاءك إلهام، وأنقذك من ورطة كبيرة الإلهام هذا، أو فتح لك باب خير عظيم، فلا تحك عنه. كلهم هكذا ينصحونك، كلهم! لغاية أن كارل جوستاف يونج Carl Gustav Jung – عالم النفس التحليلي العظيم، صديق فرويد Freud، ثم عدوه علمياً بعد ذلك – حصل معه الآتي؛ المسكين كان عنده كتاب، رسم فيه رسوماته – وأنا عندي الآن النُسخة التي بخطته، طُبعت قبل سنوات يسيرة -، بعنوان The Red Book، أي اسمه الكتاب الأحمر، وهو كتاب ضخم. الرسومات – أي الــ Paintings – هو مَن رسمها بنفسه أيضاً، وكتب بخط يديه ما فيه، ولكنه قال لا، هذا لن يُنشَر إلا بعد خمسين سنة، أي بعد أن يكون غبر على وفاتي نصف قرن. ووُضع في خزنة – أي Safe -، في بنك، في سويسرا، وفعلاً بعد خمسين سنة بمُقتضى وصية كارل جوستاف يونج Carl Gustav Jung أُفرِج عن الكتاب ونُشِر، وأنا عندي النُسخة الأصلية الضخمة هذه من هذا الكتاب، وقد جاءتني هدية من أخ – بارك الله فيه -، اسمه الكتاب الأحمر. الكتاب هذا جوهره! وطبعاً لأن كارل جوستاف يونج Carl Gustav Jung كان رجلاً مُتروحِناً، أدرك أن كلام فرويد Freud؛ سيجموند فرويد Sigmund Freud، و(هجصه) الفارغ المادي هذا، المُوغِل في المادية، لا قيمة له، وكذلك إنكاره للأديان والروح والخلود، أدرك أن كله كلام فارغ، لا! تُوجَد روح، ويُوجَد إله – لا إله إلا هو -، وتُوجَد آخرة، ويُوجَد غيب، قصة كبيرة! والأمر مُعقَّد جداً جداً وعميق، الروح هذه عندها تجليات وتظاهرات كثيرة جداً عبر تاريخ البشرية، تاريخ الإنسانية!
لكن يُوجَد عندنا حديث مشهور في الصحيحين؛ حديث أبي سعيد الخدري، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – إذا رأى أحدكم رؤيا مما يُحِب، فهي من الله – تبارك وتعالى -، فليحمد الله عليها، وليُحدِّث بها. هو قال لك حدِّث، قل للناس. وفي رواية – هذه الرواية موجودة في الصحيح، وهذه الرواية أيضاً في الصحيح – ولا يُحدِّث بها إلا مَن يُحِب. وأنا أُرجِّح الرواية هذه، هذه أنا أرى أنها أرجح. حدِّث بها ولكن مَن؟ مرة أُخرى مَن يُحِبونك وتُحِبهم؛ منعاً للحسد. هناك أُناس يحسدونك. ويشهد لها قوله – تبارك وتعالى – قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ ۩، لأن أباه يعرف أن هناك الحسد، هم يحسدونه ولا يُحِبون له الخير، فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۩، حسد يتحوَّل إلى بغي، وقد حصل، حصل! لا إله إلا الله، حصل البغي هذا، ومن غير أن يقص الرؤيا، لمُجرَّد فقط الحُب القديم من أبيه له، أيضاً أهلكوه ورموه في الجُب، فكيف لو سمعوا بالرؤيا هذه؟ كان من المُمكِن أن يذبحوه ذبحاً، كانوا سيسفكون دموه وينتهى كل شيء، ولكن ربنا حال دون ذلك. أبوه قال له انتبه، ولا تقل.

ولذلك العلماء يقولون الرؤيا لا يُحدَّث بها إلا ذا ود. إلا مَن؟ ذا ود. أي الذي يُحِبك ويُحِب لك الخير. وفي الصحيح أيضاً الآتي؛ في الصحيحين، من حديث سمرة، كان مما يُكثِر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يقول – أي كان يُكثِر أن يقول، أي كان من ضمن الأشياء التي عوَّدنا النبي أنه يُكثِر الكلام فيها والسؤال عنها، قال كان مما يُكثِر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يقول – هل رأى منكم أحدٌ رؤيا؟ فيقص عليه مَن شاء الله أن يقص… إلى آخر الحديث، وهو طويل، من الأحاديث الطوال هذا في الصحيح. إذن النبي كان يُعوِّد الصحابة كثيراً، أي كل يوم بعد أن يُصلي بهم الفجر – وهذا كان بعد الفجر بالذات – ويستغفر وما إلى ذلك، يقول لهم هل رأى منكم أحدٌ رؤيا؟ فيرفع هذا يده، ويقول أنا. فيقول له تفضَّل، قل. لأن النبي يعلم أن المرائي الصالحة نوافذ على الغيب، على الغيب! وكم وكم رأى أُناس رؤى، وسُبحان الله جاءت مثل فلق الصُبح! ولا تُفسَّر لا فرويدياً ولا نفسياً، لا تُفسَّر إلا غيبياً، أنها – سُبحان الله – استلهام من الغيب، أو اتصال الغيب بالشهادة، الغيب بعث لك شيئاً. فنسأل الله أن يُنوِّرنا ويفتح علينا، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ ۩.

نحن في زمن الزيغ يا إخواني، قلوب تزيغ، أفئدة تزيغ، عقول تزيغ، الناس تكفر وتُلحِد وتُجدِّف وتترك الدين، وتظن أنها مسكت الحقيقة كما يقولون، وأنهم توقفوا عن الخداع وأنهم كانوا مخدوعين، يقولون خُدِعنا كثيراً بالدين. والله أنت المخدوع، أُقسِم بالله! أنت المخدوع الذي لا يعرف شيئاً، وذاهب إلى مخدوعين أكثر منك، فيا للخسارة! أنت تقطع الطريق على نفسك، الحق من قريب وارجع، لكن ارجع إلى الطريق الصحيح. صحيح مثلما في غير المُتدينين موجود كذا وكذا، موجود أيضاً في أهل الدين الدجّالون والنصّابون، موجود، موجود! ليس لك علاقة بهؤلاء، انظر إلى الصالحين، انظر إلى الناس الصادقين.

فأقول إلى إخواني الذين صاروا ينزعون نزوعاً مادياً وإلحادياً، ويكره الواحد منهم الدين وما إلى ذلك، ويقول لك لا، كله كلام فارغ، وكنا مخدوعين. أقول له لا تغضب، ولا تحزن، ولا تنخدع بهؤلاء المُخادِعين الكذّابين، من أهل الظاهر، ومن أهل التصوف، كلهم دجّالون – أي هؤلاء، وطبعاً أقصد الدجّالين، كل هؤلاء الدجّالين – ولا عليك منهم. وفي أهل الظاهر – وهم الأكثرون إن شاء الله -، كما أيضاً في أهل الطريق والصوفية – وإن شاء الله هم الأكثرون -، الصالحون والصادقون والمُتابِعون لرسول الله. ابحث عن هؤلاء، ابحث عن الصادقين، الصادقين حقيقةً، واختبرهم. حين ترى أن أحدهم صادقاً وما إلى ذلك، كُن معه، هذا – إن شاء الله – لن يضرك، هذا سوف يفيدك، لكن إياك أن تخرج – والعياذ بالله – إلى الإنكار والإلحاد والشك وترك الدين، ونسأل الله أن يحفظ علينا إيماننا.

 

(انتهت التكملة بحمد الله)

فيينا 8/11/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: