إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الحكيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ۩ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ۩ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ۩ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ۩ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ۩ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ۩ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ۩ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ۩ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۩ يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ۩ كَلَّا لَا وَزَرَ ۩ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ۩ يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ۩ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ۩ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ۩ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ۩ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ۩ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ۩، وفي معنى هذا القول الجليل المُباشِر الصادمة الذي يضع الإنسان مُباشَرةً وتماماً إزاء ووجاه مسئوليته أو مسئولياته عن شتى اختياراته ومسالكه وأفعاله قوله – تبارك وتعالى – وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ۩ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ۩، في الحقيقة ثمة مسألة أو مُشكِلة تُؤرِّق المرء ولطالما أرَّقت كبار المُفكِّرين والمُستبصِرين والفلاسفة وهى إلى أي حد وإلى أي مدى يُمكِن أن تتأكَّد حرية الإنسان وبالتالي يُمكِن أن تتقرَّر مسؤليته عن أفعاله ومسالكه؟ إلى أي حد؟ فهناك تأثيرات نابعة من الوراثة تجعل المرء نسبياً ما هو عليه من ناحية مورفولوجية أو شكلية وأيضاً من ناحية مضمونية، مضمونه الوراثي الذي يجعل لياقاته على نحوٍ مُعيَّن، واستعدادته بطريقةٍ مُحدَّدة وقدراته وإمكاناته في حدود بأعيانها، إنه القدر الوراثي، لا يُنكَر هذا، ثم هناك القدر الاجتماعي البيئي السياقي الثقافي، كون الإنسان ابن بيئة مُعيَّنة وابن ثقافة مُعيَّنة يجعله يصطنع أنماطاً مُحدَّدة في التفكير، في الفهم، في التعليل، في التحليل، ومن ثم في الاعتذار والاعتلال عن مسالكه وأفكاره وعن مقبولاته ومأتياته ومرفوضاته أيضاً، هذا القدر البيئي، القدر الاجتماعي، القدر السياقي، يُمكِن أن يُعتَل بهذا القدر لتبرير اختيارات الإنسان الدينية، لماذا هو مُلحِد وليس مُؤمِناً؟ لماذا هو مُؤمِن وليس مُلحِداً؟ لماذا هو مُؤمِن على النحو الكذائي؟ ليس مُؤمِناً مسيحياً وإنما هو مُؤمِن مُسلِم – مثلاً – فلماذا؟ هو من جماعة المُسلِمين، فلماذا هو مُسلِم سُني وليس شيعياً أو شيعي وليس سُنياً؟ يُعتَل دائماً بهذا القدر، القدر السياقي، يُقال قدره هكذا، كان يُمكِن أن يُقدَّر له قدر على نحو مُغاير تماماً أو مُغاير نسبياً، في كل الدوائر أو في دائرة وليس في كل الدوائر، يشترك مع أخيه الآخر في كونه مسلماً، وبالتالي في كونه مُوحِّداً وليس مُلحِداً، يختلف معه في الطائفية، أنه شيعي وليس سُنياً وهكذا، إذن هذه أقدار، هذه أنواع من الأقدار، الظروف أيضاً المُتاحة للإنسان أو الشروط التي تكتنف الإنسان نوع من القدر، هُيَّأ لهذا ما لم يُهيَّأ لغيره، مَن يُولَد وفي فمه ملعقة من ذهب ومَن يُولَد لإسرة أرستقراطية أو أسرة ملوكية أو أسرة برجوازية غير مَن يُولَد لأسرة مُعدِمة فقيرة ليست تجد شيئاً، هذا يُساهِم في تشكيل عواطف الإنسان وانفعالات الإنسان، طبعاً هذه الطريقة ماركسية التي تتعلَّق بالطبقة، من أي طبقة أنت؟ أنت محكوم بالقدر الطبقي، كونك تنتمي إلى الطبقة الكذائية يجعلك تتقبَّل مفروضات مُعيَّنة وترفض مفروضات أخرى بالإزاء، هذا القدر الطبقي، ضمن القدر البيئي الواسع أو القدر الاجتماعي الواسع وهكذا، طبعاً ربما لاحظتم أيها الإخوة والأخوات أننا لا نزال نُبديء ونُعيد كثيراً في هذه المسائل ونُؤكِّد عليها كثيراً، كنا نتلمَّح ونلحظ من خلال التأكيد على هذه المسائل شيئاً بعينه، ما هو؟ هو أن يتخفَّف الإنسان من غلوائه، من غلواء الوهم الذي استبد به وسطا عليه وأخذ بناصيته فظن أنه هو الناطق بإسم الغيب وبإسم الحقائق المُطلَقة،  كل ما لا يتطابق وكل مَن لا يتطابق معه فله الويلات، له الثبور في الدنيا ويوم النشور أيضاً، ما هذا؟ نُريد أن نتخفَّف من هذا الغلواء، ودائماً ما يُقال ويُكرَّر أن ليس الافتخار وليس الانتفاخ بالمواهب وإنما إن كان هناك مُبرِّر للافتخار والزهو فإنما الافتخار والزهو بالمكاسب، غير جميل ولا ينبغي وغير حقيق بالإنسان أن يفتخر بأنه طويل، الله خلقك طويلاً، أنت لا تفتخر بشيئ صنعته بنفسك، أنت لم تختر أن تكون طويلاً أو جميلاً أو قوياً، أليس كذلك؟ لم تختر هذا، فلماذا تفتخر بهذا؟ هذا ليس مزيةً لك، هناك من أُوتي ذاكرة حديدية، بعض الناس يُولَد وهو عنده ذاكرة لاقطة تصويرية من صغره، لا ينبغي له أن يفتخر بهذا، هذه موهبة إلهية، والقدرة واسعة أن تُعطي الجميع مثلما أعطته ولكن الحكمة قاضية، فالقدرة واسعة ولكن الحكمة قاضية، قال الله تبارك وتعالى وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ ۩ وقال أيضاً وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ ۩، هذه حكمة، هنا تفعل الحكمة، هذا صنع الله فلماذا تفختر؟ لماذا تزهو بنفسك؟ لماذا تنتفش؟ لا يجوز، إنما بالمكاسب، ماذا فعلت بهذه المواهب؟ أين صرَّفتها؟ كيف تصرَّفت فيها؟ كيف تعاطيت معها؟ هذا ما يحق لك أن تفتخر وأن تزهو به إن كان هناك ثمة مجال للافتخار والزهو، والمفروض أن الإنسان يتواضع دائماً، الكبرياء لله، العلو لله تبارك وتعالى، لكن اليوم نُريد أن نتناول هاته المسألة التي طالما أبدأنا وأعادنا فيها وأكَّدنا عليها من زاويةٍ أخرى، وفي الحقيقة طالما أرَّقتني هذه المسألة وتُؤرِّق الكثيرين من بني الإنسان – من بني البشر – وهى ما مدى مسئوليتنا – كما قلت صدر الخُطبة – إذن؟ إذا كنا محكومين بكل هذه الأقدار ما مدى مسئوليتنا؟ لماذا نُساءل إذن؟ لماذا نُحاسَب ونحن صنعة الوراثة وصنعة المُجتمَع وصنعة الثقافة وصنعة الطبقة والطائفة التي نننتمي إليها وصنعة كذا وصنعة كذا؟ نحن مُجرَّد منتوج فكيف يُمكِن أن نُحاسَب؟ في أي حدود؟ وإلى أي مدى؟ وليس هذا فحسب، بعد هذا كله هناك ما هو أصعب وأغمض وألغز، الدوافع والبواعث التي تفعل من الخلف، بواعثنا اللاواعية واللاشعورية التي تبعثنا على وتحفزنا إلى وتدعونا إلى أن نُقارِب أشياء مُعيَّنة وأن نتعاطف مع أشياء في مواقف مُحدَّدة دون أشياء، نظن أننا نعرف لماذا نفعل هذا، وفي الحقيقة نحن غائبون تماماً تقريباً عن حقيقة بواعثنا، نظن أننا نُريد العدالة، لذلك نصدع بإسمها وبأمرها، ونرفع شعارها أو شعاراتها، وفي الحقيقة نُريد أن نتشفَّى، نحن نُريد أن ننتقم من عدوٍ سقط لليدين وللفم، ما الحقيقة؟ هل هو التشفِّي والانتقام أم العدالة؟ هل هى الحقيقة أم الزيف؟ هذا يُتعِب الإنسان كثيراً، الإنسان الذي هو إنسان يشعر بإنسانيته ويشعر بحريته، هو يشعر بهذا، لو لم يكن شاعراً بحريته ما عذَّبه ضميره ولا ثار مثل هذا التساؤل في نفسه أصلاً لانه مُجبَر، هو صنيعة هذه الأقدار التي ذكرنا فلا يتساءل، ولكن طالما تساءل وطالما وقف وطالما جعل مسافة بينه وبين ذاته وبينه وبين موقفه فهذا يعني أنه يشعر بحريته، علماً بأن هذا قوام الحرية من المنظور الوجودي، أنت تقف في لحظة ثم تتراجع، تُحدِث فاصلةً بينك وبين موقفك وبينك وبين اختياراتك لكي تُقيِّم ولكي تتساءل بصدد هذا الموقف وبصدد هذه الاختيارات، هذا قوام الحرية، وبالتعبير الوجودي هذا ما يجعل الإنسان أكبر من نفسه وأكثر من نفسه، هذا يجعلك أكثر من نفسك، لماذا؟ لأنك الآن تتسلَّط على نفسك وعلى مواقفك بالتقييم من منظور نقدي فتكون أكبر من نفسك، هذا ما يُسمى بالتعالي، هذا هو التعالي، والإنسان قد يتعالى على نفسه أفقياً حين يُريد مزيداً من الانفتاح على العالم وحين ينظر إلى المُستقبَل وإلى الغد ولا يقنع بالحاضر وبالفوري والآني، هذا تعالٍ، هذا مسلك Transcendently، هذا مسلك مُتعالٍ، لكن هذا تعالٍ أفقي، وهناك تعالٍ رأسي، حين يقنع الإنسان لا بنفسه كما هى ولا بالعالم أن ينفتح عليه وهو ينفتح عليه ولا بالمُستقبَل أن يستشرفه وهو يفعل ولكن يُريد أيضاً أن يتصل بالله تبارك وتعالى، يُريد أن يُحكِم وصلته بالله، هذا هو التعالي الرأسي، هذا هو الإنسان الحقيقي.

في الحقيقة الذي بعث على هذا الموضوع وهذه الخُطبة بخلاف هذا الأرق الوجودي الذي يتعاود المرء بين الفينة والآخرى حديثٌ قصير جرى بيني وبين أحد إخواني وأحبابي في الله، فكان هذا الأخ يتساءل عن أحدهم مِمَن سيرته معروفة في التنكر للفضائل وللحقائق بل للأوطان والأديان والإنسان، وليس نسيج وحده، ليس وحده،  كثيرون هم هذا الرجل، كثيرون هم ذاك الإنسان والعياذ بالله، قال لي كيف يُمكِنه أن ينظر في وجهه في المرآة؟ قلت هو لا يفعل، هذا مُستحيل، هل أنت تظن أنه ينظر في وجهه؟ طبعاً المُراد النظرة الوجودية، أن يُحدِث هذه الفاصلة لكي يتساءل بصدد أفعاله، قلت له هو لا يفعل، هؤلاء لا يُمكِن أن يكونوا ما هم – لا يُمكِن أن يكونوا ما هم عليه – ولا يُمكِن أن يُواصِلوا هذا التنكر للأديان وللإنسان وللحقائق وللمعايير وللأوطان وللشرف وللنبل وللكرامة ولكل شيئ جميل في حياة الإنسان ولكل ما يجعلنا بني آدم – ما يجعلنا بشراً وأناسي – ولا يستطيعون أن يستمروا في هذا إلا بفضلِ أو بسبب أو بعلة أنهم هاربون من أنفسهم، لا ينظرون في أنفسهم إطلاقاً، لا يُوجَد وقت، هم يُعدِمون فرصة أن يُعطوا أنفسهم فرصة أن ينظروا إلى أنفسهم، نيتشهNietzsche يكتب مرةً لكي يُعرَّف الإنسان تعريفاً لطيفاً جداً ومُبتدَّعاً مُبتكَّراً – فيه إبداع وابتكار، فيه عبقرية حقيقية – قائلاً الإنسان هو الحيوان المُقيِّم،Man is an evaluating animal، وهو يُريد المُقيِّم بالذات لمواقفه، هذا هو الإنسان، وهنا قد تقوللي لكن هذا إنسان لا يُقيِّم، أقول لك ليس إنساناً، هذا مُجرَّد حيوان يأكل ويشرب ويدب على الأرض ويسعي في الأرض بالفساد، الحيوانات تفعل هذا، لكن هذا يفعل هذا باقتدار أكبر من الحيوان، لأن كل ما كان يُمكِن وكل ما يُرشِّحه أن يُصبِح إنساناً حقيقياً انحط به لكي يُؤكِّد حيوانيته الهابطة الرابضة والكامنة في دمه وفي عروقه وأعصابه والعياذ بالله، هؤلاء لا يُعطون أنفسهم أبداً فرصةً أن يلتقوا مع أنفسهم وأن ينظروا إلى أنفسهم، لذلك يعيشون في الوهم والزيف، يعيشون هذه الحياة الغامضة المُضبَّبة الواهمة الفارغة،  يُمكِن أن يُصبِح أحدهم رئيس دولة، وهذا أمر عادي، كثيرون من هؤلاء يُصبِحون كذلك، هؤلاء بالذات مُرشَّحون أن يقبضوا على مقاليد الأمور لاستعدادهم اللامُتناهي للتنازل وعن كل شيئ، صنف غريب من عباد الله،  موجودون وكثيرون هم هؤلاء، فهذا هو الذي بعث على هذه الخُطبة، لكن – كما قلت لكم – الأغمض والأصعب والألغز هو البواعث اللاواعية، الدوافع اللاواعية واللاشعورية، كيف الخلاص من هذه الإشكالية؟ ماذا نفعل؟ في المُقابِل نجد القرآن الكريم واضحاً تماماً، قال الله بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ۩،القرآن مَن تأمَّله وجودياً ومَن قرأه قراءة وجودية – إن جاز التعبير – يجد أنه يُراهِن على المُؤمِن القوي – الهائل القوة – وبالتالي الإنسان الكامل بلغة الرومي ومحمد إقبال وابن عربي أيضاً والجيلي وأمثال هؤلاء، هذا هو الإنسان الكامل فانتبهوا، والقرآن هنا صادم وصارم – حقيقةً هو صادم وصارم – ولكنه مُربٍّ ومُعمِّق ومُنضِج للشخصية، قاشع للأوهام والضباب – ضباب الغموض والاعتلال والاعتذار الفارغ هذا – أيضاً، القرآن رفض كل ألوان وصنوف التعليلات الميتافيزيقية التي تستند إلى القدر، كأن يُقال الله يُريد هذا، الله شاء هذا، هو يُريد هذا عز وجل، هو خلقنا هكذا، هو أرادنا أن تكون هكذا، لكن هذا كله غير صحيح، القرآن قال هذا كذب، هذا غير صحيح، هذه العلة غير مقبولة عند الله، مقبولة في الثقافات، تعيش عليها أمم وتنحط بها، أمم وحضارات تنحط وتهوي من حالق  وتبقى في الحضيض لأربعمائة أو خمسمائة أو ألف سنة بهذه الفلسفة العدمية، لكن القرآن غير مسؤول عنها إطلاقاً، تقول الآية الكريمة وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ۚ – الله يُريد هذا، ما الذي يمنع من أن الله – عز وجل – يهديأبا جهل وأبا لهب كما هدى عماراً وبلالاً وصهيباً مثلاً؟ هو لم يفعل، هم لم يشأ، وهذا كله خير، وهو منطق المُسلِمين اليوم، هذا منطق عدمي، يقولون كله خير، إن شاء الله خير، لكنه ليس خيراً، أين الخير؟ هذا كله شر، هذا كله كذب وتزييف – كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ – الله يقول هكذا تنحط الأمم، هكذا تزوي الحضارات بهذا المنطق العدمي وبهذه الرؤية، وفي نهاية المطاف شئنا أم ابينا  مسالكنا وأفعالنا هى مرآةٌ للرؤى التي عندنا، للرؤى التي نختزن، وذلك على مُستوى الفرد وعلى مُستوى الأمة والثقافة والجماعة، المسلك مرآة للاعتقاد وللإيمان وللرؤية  Vision، الله قال هذا هو، وهذا سبب دمار السابقين – فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ۩، يقول حتى هذه الحُجة لا تستأهِل ولا تحتاج أن تُناقَش، لأنها ظاهرة البطلان، فليعتصم الدعاةُ من وراء الأنبياء والمُرسَلين بتبيان الحقائق فقط والدعوة إليها، اتركوا هذا الجدل العقيم الفارغ، لأنه جدل فارغ لا يُدمِنه ولا يمرن عليه ويتمهَّر فيه إلا الفشلة، انظروا في الأفراد حولكم، انظروا في أقرب الناس إليكم – معارفكم وأصدقائكم وأحبابكم –  تجدوا إن نظرتم أن الفاشل ديدنه في صباحه ومسائه ووقته كله أن يعتل وأن يعتذر، يقول بسبب هذا وهذا ولو لم يحدث هذا ما كان هذا، باستمرار عنده علل، هذا هو الفاشل، ولن تجدوا القوي المُنجِز الناجح يرضى بمنطق الاعتلال أبداً، القوي الماضي العزم والكبير الإنجاز كلما سقط وكلما كبا لم يعتذر، وإنما لام نفسه مُدرِكاً خطأه، يقول هذا مني، هذا من حماقتي، هذا من غبائي، ومن هنا – كما قلت لكم – أدب الاعتراف، يعترف قائلاً هذا من حماقتي، هذا من ضعفي، أنا هنا ضعفت، قال الله أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا القرآن يُؤدِّب الصحابة – قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ۩، أنتم السبب، إياكم أن تعتلوا بالقدر وبالغيب، لا تقولوا الله شاء والله لم يشاء وكل هذا الكلام الفارغ، كلام الأمم المُنحَّطة الضعيفة الواهنة الفاشلة التي أدمنت الفشل واستمرأته واستعذبته، تعشق الفشل وتُحِب أن تُنتِجه وأن تُعيد إنتاجه بألف صورة ولون، تلاوين جديدة كل ساعة وكل حين، لكن الناجح لا يُؤمِن بهذا المنطق أبداً.

قبل جان بول سارتر Jean-Paul Sartre  – الفيلسوف والأديب الوجودي الأشهر ربما في القرن العشرين – أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين قال عبارة من أروع ما يكون، هذه العباة مُلخَّصها نحن مجبورون على أن نكون مُختَارين، الله خلقنا هكذا، لم نشأ أن نختار، هو خلقنا الكائن المُختَار، كان يُمكِنه تبارك وتعالى أن يجعلنا على نحو الأشياء المادية – على نحو الشمس والقمر مثلاً- التي تلف وتدور دونما إرادة منها، أليس كذلك؟ تفعل هذا دون دافع داخلي أو باعث، هى محكومة بهذا كرهاً، تلف كرهاً رغماً عنها، لكن نحن لسنا كذلك، نحن نسجد أو نكفر ونتواضع أو نتشامخ ونُؤمِن أو نُلحِد ونعبد أو نُجدِّف باختيارنا، نفعل هذا باختيارنا، الله شاء أن يخلقنا هكذا، إذن نحن مجبورون على أن نكون مُختَارين، ماذا قال جان بول سارتر Jean-Paul Sartre؟ قال نحن محكومون بالحرية، هذا مكتوب علينا، كلمة محكوم تعني مكتوباً، لكن هو لا يُؤمِن بالله طبعاً ولا بكتاب الله، إنما يُؤمِن بالمنطق الوجودي ذاته فقط، هكذا قدرنا الكوني – ضمن الكون وهو لا يتعالى على الكون – أننا محكومون بالحرية، يقول الشيئ الوحيد الذي لا خيار لنا فيه  هو أن نكون مُختَارين، هذا لا خيار لك فيه، إذا كنت مجبوراً في شيئ  فهذا هو الشيئ الذي أنت مجبور فيه فقط، أن ليس لك الخيار في أن تكون مُختَاراً، نفس مفهوم أبي حامد الغزالي، ولكن كلٌ من منطلق رؤيوي مُختلِف، ذاك مُنطلَق إيماني وهذا مُنطلَق وجودي، ولكنهما نفس الشيئ، أنت محكوم بالحرية، قدرك أن تكون كائناً مُختَاراً، لابد أن تختار في كل مرحلة، إياك أن تدع غيرك يختار عنك لأنك ستخسر نفسك، ستخسر إنسانيتك، جوهر الوجود هو أن تكون موجوداً حراً، فمَن يخسر حريته يخسر وجوده، كأنه غير موجود، في نهاية المطاف هذا الذي لا يختار ويدع الظروف تختار له وتختار عنه وتختار باسمه وتُصوِّت بالتالي باسمه هو إنسان موجود وجوداً فائضاً، أي زائد عن الحاجة، كأنه سقط سهواً في الوجود، ليس له أي تأثير، بخلاف الإنسان الحقيقي الذي يُساهِم في تغيير مسار الحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية والدينية والسياسية، هو يُساهِم وقد يخط خطاً تتبعه من ورائه أمة كاملة، كالذين يبتدعون هذه المذاهب الفكرية والفسلفية والاقتصادية والأخلاقية، ثم البشرية أو شطر منها أو أشطار تقنع بهذا المذهب وتسير في نهجه، هذا شيئ غريب، وهو بشر واحد مثلنا من لحم ودم، يصل وزنه إلى سبعين كيلو أو ثمانين كيلو ويفعل هذا، هذا هو، هذا هو الإنسان، هذا لا يُمكِن أن يُقال أنه سقط سهواً أو وجوده وجود زائد أو فائض عن الحاجة، بلغة سورن كيركجور Søren Kierkegaard أب الوجودية المُؤمِن الدنماركي (إما أو)، هذا كتابه الأشهر (إما أو)، عليك أن تختار إما هذا أو هذا، دائماً في كل شيئ إما هذا أو هذا، ويُشبِّه الإنسان في هذه الحالة بربان السفينة، السفينة تمضي في البحر على طيتها عامدةً لكن في مرحلة مُعيَّنة على الربان أن يختار إما أن يُسيِّرها في هذه الجهة أو في تلك، عليه أن يختار الآن، إن تركها ستمضي في وجهتها من تلقائها، وفي النهاية كما يقول كيركجور  Kierkegaard قد يصل هو ومَن معه بالسفينة إلى لحظة لا تكون لديه مُتاحة فرصة إما أو، انتهى الأمر، يقول خسر نفسه لأن غيره اختار عنه، هل تعرفون ما الذي اختار؟ القدر، السفينة والريح وما إلى ذلك هم الذين اختاروا، لم يتدخَّل هنا الوعي الإنسان الهادف، هنا تركنا هذه الأقدار تختار وخسرنا أنفسنا في هذه المرحلة ووصلنا إلى مرحلة ليس فيها إما أو، انتهى الأمر، هذه فرصة تجربة، علماً بأن هذا هو جوهر فلسفة الابتلاء الدينية بالضبط، قال الله خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ ۩، هذا ابتلاء، ابتلاء مُستمِر مع كل نفَس، ليس في كل ساعة فقط وإنما مع كل نفَس وفي كل فعل، ابتلاء مُستمِر، الإنسان هو الكائن المُبتلى، المُبتلى بماذا؟ بحريته، والمسؤول على وفاق هذه الحرية كفاء ما أُوتِيَ، فأنت محكوم بالحرية، عليك أن تختار دائماً، وهنا قد تقول لي حتى الآن لم نأت بجديد، أنا لا أدري ما الذي يبعثني على أن أختار هذا دون هذا؟ هناك بواعث لا شعورية، وقد قلت لك القرآن واضح، يقول لك لا، أنت على نفسك ومن نفسك على بصيرة، كيف هذا؟ سوف نفك هذا اللغز إن كان ثمة لغز أصلاً، إذن القرآن يرفض أي تعلة ميتافيزيقية قدرية، إياك أن تحتج بالقدر، كيف تحتج بما لا تعلم؟ هل اطلعت على الغيب أصلاً أنت؟ هل أطلعك الله على اللوح المحفوظ؟ كيف تحتج بشيئ لم تطلع عليه؟ لا يجوز لك، لا تكذب على الله، قال الله وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۩، مرةً أخرى كيف هذا الاحتجاج الكاذب بالقدر؟ كيف هذا الزيف والتزييف والبهتان على الله تبارك وتعالى؟ من أين لك؟ الذي حصل ويحصل في الحقيقة أنك وبمحض حريتك اخترت شيئاً من أشياء – اخترت شيئاً من بين أشياء – ثم لما رأيت النتيجة ليست على هواك وليست في مصلحتك أو في جانبك ولا تُعلي رصيدك قلت القدر الذي اختار، هذا كذب، أنت الذي اخترت، هذا هو الترتيب السليم، أنت الذي اخترت، أما أن القدر مُحيط بهذا فطبيعي، الله لا تخفى عليه خافية  ولا يُمكِن أن يسبقه إنسان بشيئ، ولكنه لم يُجبرِك ولم يُكرِهك، هو حكمك بأن تكون مُختَاراً حراً، هذا فعلك أنت، ولذلك يُنسَب إليك قرآنياً وتُحاسَب عنه يوم القيامة، فإما وإما أيضاً، ستُحاسَب عليه لأنه فعلك أنت، ليس جبراً عنك ولا رغماً منك وعنك.

أيضاً القرآن الكريم  لم يقبل الاعتداد بـ واعتبار التعليلات والاعتذارات الاجتماعية بالقدر الثقافي والبيئي، هذا مرفوض قرآنياً، كيف هو مرفوض يا أخي؟ كيف هذا؟ هذه مُصيبة، هو مرفوض وذلك حين رفض القرآن المنطق الآبائي ومنطق التقليد، قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ هكذا الثقافة والأنماط – أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ۩، إذن ما تزال أو لا تزال للإنسان المُكنة والقدرة والفرصة أن يُميِّز ما في هذه المواريث وما في هذه الأنماط وما في هذه التقاليد والأعراف من أنصباء الصواب والخطأ والحق والباطل، هذا النور الهادي، سماه ديكارت Descartes النور الطبيعي في الإنسان، هذه هى الفطرة، قال الله وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، الفلاسفة الأخلاقيون الانفعاليون بالذات في القرن التاسع عشر بالغوا جداً في المنظور الانفعالي وتنكَّروا لكل عقلانية يُمكِن أن يُبرَّر بها الفعل والاختيار الأخلاقي، قالوا هذا انفعالات، مُجرَّد انفعالات، عقلانياً لا تُوجَد إمكانية، لماذا؟ هذا تحت تأثير الوضعية بالذات في نُسختها العلمية، ما لا يُكمَّم وما لا يُقاس ليس عقلياً، ليس علمياً وبالتالي ليس عقلياً، هو انفعالي عاطفي، برتراند راسل  Bertrand Russell  فيلسوف مُلحِد ولا أحد يتهم عقلانيته أيضاً، فيلسوف رياضياتي من طبقة نادرة جداً في القرن العشرين، وهو مُلحِد طبعاً، ليس على أسس دينية يتساءل مَن ذا الذي يُمكِن أن يتقبَّل منطق الفلاسفة الأخلاقيين الانفعاليين؟ يرفضه، يقول في كل خيار أخلاقي وفي كل موقف أخلاقي هناك جذر عقلاني، كيف؟ يقول مَن ذا الذي يُمكِن أن يتقبَّل الحالة التي تعتري الإنسان من القرف والاشمئزاز حين يرى القسوة العارية المُبالَغ فيها – قتل البرءاء وظلم الضعفاء وانتهاك الحقوق، هذه الأشياء الإنسان بفطرته يشمئز منها – تُعربِد – هكذا تُعربِد عاريةً – ويزعم أن هذا من باب ما يروق لي وما لا يروق لي؟ كأن يقول هذا فقط لا يروق لي، هذا غير صحيح، يقول برتراند راسل  Bertrand Russell الموضوع لا يتعلق بأن يروق لك أو لا يروق، يُوجَد شيئ هنا يحكم على الجميع، ومن هنا الطبيعة الكونية للأخلاق، هنا نعود إلى كانط Kant إذن، هذا هو كانط Kant الفيلسوف الألماني العظيم، يقول الأخلاق بما هى والدائرة الأخلاقية بما هى -هذه هى الدائرة الأخلاقية، وهى غير الجمالية وغير الدينية – طبيعتها في كونيتها وفي عمومها وفي شموليتها، اسلك كما لو كنت البشرية كلها، اسلك كما لو كنت الناس كلهم، واسلك كما تُحِب أن يسلك كل الآخرين إزاءك، هذا نفس منطق حتى يُحِب لأخيه ما يُحِب لنفسه، بمعنى أن الذي يكذب لو تشبَّع بالمنطق الكانطي لما كذب، لماذا؟ لأنك حين تكذب لكي تأخذ – مثلاً – جزءاً من ماله أو شيئاً من ماله أو تأخذ حق أي مسكين ظلماً أنت لا تُحِب أن يكذب هو أيضاً ولا أن يكذب الآخرون، لأنه لو كذب الجميع كذبك إذن لن يُفيد، ستتضرر أنت ويتضرر الكل، والكذب لن يغدو كذباً، ولكن الكذب هو كذب إزاء الصدق.

إذن الفسق واللأخلاقية هى إرادة الاستثناء من شمولية القانون الأخلاقي، نحن نُحِب من الناس جميعاً أن يكونوا صادقين وأن يكونوا أتقياء وأن يكونوا عادلين ومُنصِفين لكن نحن نُشكِّل استثناءً، نُحِب أن نكذب أحياناً وأن نظلم أحياناً وألا نُنصِف من أنفسنا، هذا الاستثناء باللغة الكانطية هو الفسق، هذا هو الفسوق، تُحِب أن يحترم الناس عِرضك لكن أنت لا تحترم أعراض الناس، ولذا هذا فسوق، تُحِب أن تسطو على عَرض غيرك ولا تُحِب من أحد أن يسطو على عِرضك، ولذا هذا فسوق، ولذلك النبي – عليه السلام – في الحديث العبقري علَّمنا هذا المعنى، هذا حديث عبقري وقطعاً هو حديث لرسول الله بغض النظر عن الأسانيد، في هذا الحديث الذي رواه أحمد قال أترضاه لأمك؟ قال لا، فقال وكذلك الناس لا يرضونه، أترضاه لأختك أو لابنتك أو لعمتك أو لخالتك؟ قال لا، فقال وكذلك الناس لا يرضونه، ماذا يُريد النبي أن يقول؟يُريد أن يلفته زأن يُنعِش فيه كونية القاعدة الأخلاقية، يقول له القاعدة الأخلاقية عامة، لماذا يا بُني تفعل هذا؟  انظروا إلى النبي، لم يكن فيلسوفاً هنا مثل كانط Kant، ولكنه أجمل وأحسن وأعظم تعليماً من كانط Kant ولذا أقنعه مُباشَرةً، لماذا تُريد لنفسك أن تكون استثناءً؟ لماذا تُريد أن تلغ في أعراض الناس وأن تسطو على أعراض الناس وتتسلل على أعراض الناس ولا تُحِب أن أحداً يفعل هذا في عرضك أو بعرضك؟ لماذا إذن؟ ما سر هذه الاستثنائية؟ الفسق، هذا هو الإنسان الفاسق فقط، حين يكون فاسقاً فاجراً أو داعراً أو ظالماً أو طاغية أو ديكتاتوراً يرى نفسه استثناءً،  لكنك ليس استثناءً، إذا أردت أن تكون إنساناً وأن تعيش في مُجتمَع من البشر ومن الناس عليك ألا تكون استثناءً، إياك أن تُحاوِل أن تكون استثناءً، ولا تتفلسف ولا تعتذر ولا تعتل وفق هذا المنطق الاستثنائي، هذا لن يخدم إلا الفسوق، لن يخدم الأخلاق.
نعود إلى موضوعنا العتيد أيها الإخوة، ما الحل؟ كيف نعرف بواعثنا؟ أنا أقول لكم المنظور القرآني – والله تبارك وتعالى أعلم – واضح في رفضه الاعتذار – كما قلنا – الميتافيزيقي ورفضه الاعتذار بالبيئة وبالسياق وبالمُجتمَع وبالثقافة ومُراهَنته على الجانب العقلي في الإنسان، لا يزال فيك ذاك النور الطبيعي، نحن نُسميه النور الإلهي أو الفطرة، قال الله وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، قال أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ۩، هم لا يعقلون، أنت لماذا لا تعقل؟ عندك عقل أيضاً، هم أُفِنوا في عقولهم، لماذا تُؤفَن أنت في عقلك؟ ضحوا بها وتنازلوا عنها واستقالوا، أنت لماذا تستقيل؟ الله يقول لك هذا، استخدم عقلك أنت، ومن ثم قد تقول هل أنا لدي عقل فردي إذن ويعمل في إطار فردي خارج شروط الثقافة الجمعية؟ نعم، موجود هذا، يُمكِن أن تتعالى على هذه الثقافة الجمعية، كما يُمكِنك أن تتعالى على ما هو أصعب منها، أي على نفسك كما قلنا، أنت يُمكِن أن تُحدِث مسافة بينك وبين نفسك وتُقيِّم نفسك، هذه النفس التي تخضع لأقدار كثيرة ومن بينها القدر الاجتماعي، ومع ذلك أنت تتعالى عليها بكل أقدارها حين أنجزت اختيارها وتحكم لها أو عليها، هذه قدرة جبَّارة، هذا جوهر الحرية الإنسانية، هذا هو الإنسان الحيوان المُقيِّم كما قال نيتشه  Nietzsche، هذا هو، الله يقول نعم، الرهان عليك، تستطيع أن تفعل هذا، ولكن هذا سيُكلِّفك كثيراً، إذا فعلته لما بنجاعة ولم تفعله لمرة ستنجح، ولابد أن تفعله باستمرار إلى أن تلقى الله، ستفقد الكثيرين مِمَن حولك، ربما تُلعَن، ربما تُرجَم، ربما تُسجَن، ربما تُنفَى، وربما تُقتَل، ستُتهَم في كل شيئ، في عقلك – كما قلنا – بالجنون، في عِرضك، في أمانتك بأنك مدفوع، سيُقال مدفوع لك، أنت كذَّاب مأجور جاسوس عميل زنديق كافر ومُجدِّف، ستُتهَم بخمسين ألف لون من ألوان الاتهامات، ولكن في النهاية أنت لن تفقد نفسك، ستفقد هؤلاء جميعاً ولا بأس، لكن ستجد نفسك، لا تزال موجوداً، لا تزال أنت أنت، وبالله أنت أنت، وإلا ماذا – كما قال المسيح – يكسب الإنسان لو خسر نفسه وكسب العالم كله؟ خسرت كل شيئ، هل تعرف لماذا؟ أنت لم تكسب في النهاية، أنت الخاسر، قال الله ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ۩، فعيسى – عليه السلام – لم يكن دقيقاً جداً أو كان دقيقاً إذا عقلنا مقولته، لكن القرآن الكريم قال ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ۩، الذي خسر نفسه وأهليه هو أكبر خاسر، هل تعرفون لماذا؟ لأن الذي يخسر نفسه لا يُمكِن أن يربح العالم، لأنه لا ذات لتربح، الذات ذهبت واختفت وتبخَّرت، لا يُوجَد أنت أصلاً، لا يُوجَد أنا، ضاع كل شيئ، هذا الذي يظن أنه يربح العالم ليس هو الذات، هذا شيئ آخر، وهم باطل، باطل الأباطيل، قبض الريح، هذا غير موجود، وهم كبير، ولن يبقى له أثر حميد في الحياة، وهم من الأوهام، وهم تافه لا وجوداً حقيقاً له، إذن الذي يخسر نفسه لن تبقى نفسٌ بعد ذلك لكي يربح العالم، إذن هو خسر نفسه وخسر العالم، هذا هو المفهوم الصحيح لعبارة المسيح – عليه السلام – وهذا نص كتاب الله، قال الله ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ۩، وذلك حين قال خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ ۩، أنت خسرت نفسك، لم يبق شيئ لتربحه، لا العالم ولا شيئ من العالم، لا المناصب ولا الأموال ولا السُمعة والشهرة ولا المُتعة ولا اللذة ولا أي شيئ، لأنك لن تلتقي بنفسك أصلاً، لن تعود قادراً على أن تُحِب، لأن الحب يحتاج إلى تضحية، يحتاج إلى ذات تُضحّي، ولا ذات أصلاً هنا، لا تُوجَد ذات لكي تُضحّي، إذن أنت غير قادر يا مسكين حتى على الحب، هذا هو المنطق القرآني إن فهمناه وجودياً وإن غلغَّلنا النظر فيه.
أيها الإخوة:

قد يقول لي أحدكم كيف؟ هذا يتعارض مع العلم، يتعارض مع الفلسفة، يتعارض مع نموذج اللاوعي – كما قلنا – واللاشعور، يتعارض مع النموذج الدوركايمي – نسبة إلى إميل دوركايم Émile Durkheim – في علم الاجتماع،
الإنسان ابن الاجتماع، ضحية القدر المُجتمَعي، يقول دوركايم Durkheim الشخصية لا تتحدَّد منطقياً وعقلياً وإنما تتحدَّد مُجتمَعياً، أي بحسب المُجتمَع، لذلك يُمكِن لمُجتمَعات أن تقبل أشياء كثيرة غير عقلانية في نظر مُجتمَعات أخرى، كَمَا تَرَانِي يا جَمِيْلُ أَرَاك، هذا نفس الشيئ أيضاً، أنت تراني لا عقلانياً وأنا أراك لا عقلانياً، أي أنه نفس الشيئ، فهذا كلام  دوركايم Durkheim  وفرويد Freud وكثيرون، ماذا نفعل إذن؟ ماذا نفعل؟ أنا سأقول لكم بتأملي في القرآن العظيم خاصة في مثل هذه الآيات التي صدمتني – وحق لها أن تصدم كل مَن يتأمل فيها – وجدت أن القرآن ينتهج نهجاً في تربية الإنسان، وهذا النهج طبعاً لا يجوز أن نصفه بأنه عبقري وما إلى ذلك وإلا يكون تخيفضاً له، هذا كلام رب العالمين، هذا نهج إلهي ونهج رباني في تربية الإنسان وفي توعية الإنسان بنفسه، هذا النهج يُقهَر به الأقدار، ليس أقدار الله بالمعنى الثيولوجي أو اللاهوتي وإنما أقدار المُجتمَع والثقافات والبيئة وحتى المواريث كلها، يُقهَر بها كل هذا، ولذلك هذه الخُطبة هى خُطبة قاهر الأقدار لأنها بهذا المعنى، ليس بالمعنى الثيولوجي أو الكلامي، كيف يا إخواني؟ حين يُراهِن القرآن باستمرار ويلفت إلى الغاية لا الباعث، انتبه إلى أن القرآن يلفت إلى الغاية وليس الباعث وليس الدافع، القرآن لا يعتني كثيراً بالبواعث والدوافع، تقريباً لا يُشير إليها، لا يُقيم لها وزناً، دائماً يُليح على الغايات، وبالتالي على الإرادت وعلى النوايا، نيتك أن تفعل ماذا؟ أن تصل إلى ماذا؟ أن تُنجِز ماذا؟ أن تُحقِّق ماذا؟ باعثك لا يهمني، وجدت أن القرآن يتبع هذه الطريقة، وإن صح هذا فإنه يكون شيئاً عظيماً جداً جداً ومُبارَك، هذا شيئ قرآني عظيم البركة، هذا من بركات كتاب الله، إن صح هذا فأنا أقول لكم يبدو إن هذا سيكون الأسلوب الأمثل لعلاج ضروب كثيرة من الاختلالات المسلكية التي يُعاني منها أشخاص مُختَّلون عقلياً ونفسياً وعُصابياً وذُهانياً، هذا سيكون أحسن أسلوب في العلاج، فهو على خلفية قرآنية، الربط بالأهداف والربط بالغايات وما يُيسيِّرها وما يُهيِّأها، ليس بالدوافع وليس بالبواعث، وسأوضِّح هذا، هذا جوهر خُطبة اليوم بعد كل هذه المُقدِّمات الطويلة العريضة المُزعجة ربما.

كما تخفى البواعث والدوافع على الإنسان نفسه في الأغلب تخفى في كل الأحوال على الآخرين، هى علىّ خافية في أغلب أحوالي، فعلى الآخرين في كل الأحوال خافية، لا أحد يطلع على نيتي، لم نُؤمَر ولا نستطيع أصلاً أن نشق على قلوب الناس كما كان النبي يقول، لا تستطيع أن تشق على قلوب الناس لتعلم حقيقة دوافعم وبواعثهم، لذلك من العبط واللغط والفشل أيضاً في التعاطي مع الأمور أن نُحكِّم أنفسنا باستمرار في الدوافع ونقول هؤلاء مدفوعون وهؤلاء مأجورون وهؤلاء قالوا هذا لأن كذا وكذا من نياتهم، ما أدراك ما النية يا رجل؟ اترك هذا، لن تستطيع وستفشل باستمرار، هذا سيزيد الأمورغموضاً والتواءً وخفاءً والتباساً، هناك طريق أحسن بكثير للحكم وللتقويم وللتقييم أيضاً وللتعديل والتربية، كيف؟ الغايات بطبيعتها أكثر تحدُّداً لجهة الكم، الغايات دائماً أقل بكثير كمياً من الدوافع، أي غاية قد يدفع إليها عشرات الدوافع وهى غاية واحدة، إذن كمياً الغايات مُحدَّدة أكثر، كيفياً مُحدَّدة بطريقة أوضح، أي على المُستوى الكيفي، أمامك طريقان كما قال ابن الرومي، هذا هو، قال الله وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ۩، الله يقول هناك طريقان، أليس كذلك؟ مُستقيمٌ وأعوجُ، طريق ينتهي إلى غاية وهو طريق اليمين، اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين، الغاية واضحة هناك، ما هذه الغاية لكي أنظر فيها وأرى فيها؟ الصلاة والصوم والصدقات والحج وذكر الله  وبر الوالدين واحترام الناس وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ۩ والعلم والعمل الصالح والبر، أشياء طيبة وواضحة لا تُرهِق الضمير، لا تُرهِق الإنسان، علماً بأن هذه بالذات هى الأشياء الأخلاقية التي تحدَّث بعبقرية فلسفية كانط Kant عن كونيتها وشموليتها، انتبهوا إلى هذا، أكثر مَن كان يُمكِن أن يُنتظَر منه اللدد في الخصام حول هذه المسألة  هم الوجوديون الملاحدة مثل سارتر Sartre، يقولون هذا غير موجود ثم يتحدَّثون عن الفردية، لأنه الوجودية هى فلسفة الفرد، أي فسلفة الذاتية، ليست فلسفة القطيع Herd أو الدهماء Plebs كما قال  كيركجور  Kierkegaard، هى فلسفة الفرد، فلسفة الأنا، الـ One بلغة سارتر Sartre، فلسفة الواحد الفرد، لكن سارتر Sartre حين جدَّ الجد لم يفعل، لم يستطع لأنه يعلم أن فلسفته ستكون فلسفة فاشلة ومرفوضة تماماً، في سنة ثلاث وأربعين نشر كتابه العظيم الكبير – عظيم في حجمه طبعاً لكن قيمته شيئ آخر – الوجود والعدم، الكتاب في زُهاء تسعمائة صفحة، مُعقَّد وطويل جداً، وهو مثل ما قيل يعني في أصل الأنواع لداروين Darwin  كتاب يُقتبَس ولا يُقرأ، من النادر أن تجد مَن يقرأه إلا الفلاسفة الذين قرأوا هذا الكتاب بطوله، كتاب مُرهِق جداً جداً وطويل وفيه استطرادات لم يكن لها داعٍ، تسعمائة صفحة عن مقولتي الوجود والعدم من منظور وجودي، فهذا الكتاب يُقتبَس ولا يُقرأ، مثل أصل الأنواع يُقتبَس ولا يُقرأ، إلا للمُتخصِّصين الذين يقرأون ما هنالك، على كل حال في أكتوبر خمس وأربعين بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها كان سارتر Sartre أمام جماهير عريضة في مُحاضَرة مسائية في باريس وتحدَّث عن هل الوجودية فلسفة إنسانية؟ اعتُبِرَت بعد أسابيع يسيرة هذه المُحاضَرة بمثابة إعلان عن ولادة الفلسفة الوجودية، مع أنه قبله عشرات الفلاسفة الوجوديين مِمَن أبوا أن يُسموا هكذا، فقط هو سارتر Sartre  وسيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir صديقته وعشيقته لم يرفضا أن يُنعتا بالوجوديين، وقالا لا تُوجَد مُشكِلة، نحن وجوديون، هما فقط مَن وافقا، أما كل الوجوديين قالوا لا لسنا وجوديين وسموا أنفسهم أسامي أخرى، هذا هو الإعلان، وهذه مُحاضَرة بسيطة قرأناها في زُهاء ثمانين صفحة وهى مطبوعة بالإنجليزية وما إلى ذلك وبالعربية تُرجِمَت، أتت في زُهاء ثمانين صفحة فقط، انتبهوا إلى هذا، لماذا؟ ماذا كانت غاية هذه المُحاضَرة؟ الغاية أن يتصدى للنقد القوي الجارح ربما لنرجسيته كفيلسوف كبير الذي لقيه كتابه الوجود والعدم وبالتالي فلسفته بشكل عام – هذه الفلسفة الوجودية – في أثناء وأعقاب حرب عالمية دمَّرت كل شيئ بسبب جنون الفاشية، هذه تراجيدية الفاشية، تراجيدية النظم الشمولية، الشيوعية والنازية والفاشية مرة واحدة، العالم دفع الثمن الرهيب جداً، وخاصة العالم الأوروبي، أمريكا تقريباً لم تُعان شيئاً، هى أكبر كاسب، لكن أوروبا هى التي دُمِّرَت، وكان لابد من إعادة البناء، ليس فقط مشروع مارشال وكذا وإنما إعادة بناء الإنسان وترميم عقل الإنسان وعواطف الإنسان ورؤية الإنسان لنفسه وللوجود، الرؤية الكونية عند الإنسان تحطَّمت بالكامل، كانوا أشبه بحطام سفينة، كان الناس هنا أشبه بحطام سفينة غارقة في لج المُحيط، قالوا له أنت فقط تُخدِّر نرجسية الشباب المدعوين إلى إعادة بناء المُجتمَع بما يفي بمُتطلَبات العدالة الاجتماعية في عالم عانى كثيراً، صح ليس طويلاً – أقل من عقد – ولكنه عانى كثيراً، مُعاناة صعبة جداً حتى النخاع من ويلات الفاشيات، وأنت تُحدِّثنا عن الفردية وعن الخيار الفردي وعن التفرد والانعزال وعن كذا وكذا، لكن هذا لن ينفع، نُريد أن نبني مُجتمَعاً الآن، ويفي بمُتطلَبات العدالة الاجتماعية، يعني باللغة العادية مُجتمَع صالح أو مُجتمَع جيد Good، فماذا فعل؟ طيلة المُحاضَرة الرجل لم يصدر ولم ينطق إلا بنبرة كانطية، هو كانط Kant، الآن كانط Kant يتحدَّث وليس سارتر Sartre، اقرأ هذه المُحاضَرة، تماماً هو كانط Kant الذي يتحدَّث، كان يقول على الفرد أن يتساءل هل أنا ذلكم الفرد أو الإنسان الذي يسلك بطريقةٍ بحيث يجد المُجتمَع الإنساني كله نفسه مدعواً إلى أن يُنظِّم أو يُعيد تنظيم نفسه وفق ما أسلك؟ هذا نفس الشيئ، هذا كلام  كانط Kant، وتحدَّث سارتر Sartre بلغة أخلاقية كانطية وتخلّى عن بعض ما قاله، لذلك ندم عن هذه المُحاضَرة، علماً بأنها هى التي شهرته في العالم، هى التي تُقرأ – قُرِأت ملايين ملايين المرات – وليس الوجود والعدم، ندم عليها لأنها ضربة في الصميم لوجوديته طبعاً وللفردية النرجسية التي ذهب إليها، وفي نهاية المطاف هى فردية تتناسب مع البرجوزيين على الأقل وليس مع الطبقات المُعدِمة، ولذلك سُئل قبل ذلك نقدياً لماذا أنت تُمثِّل كل مسرحياتك عبر شخوص برجوازية وحتى في مسارح برجوازية وذلك في النطاق البرجوازي من الأحياء الباريسية البرجوازية؟
أجاب بذكاء وطبعاً هو رجل ذكي وأديب وواسع الحيلة، قال لأنه ما من برجوازي يحضر مسرحيةً لي إلا ويُثير أسئلةً سخيفة عن طبقته،
يتساءل بصدد طبقته البرجوازية، يبدأ الآن يتساءل نقدياً بسخافة، هو يفعل هذا، وأنا هذا الذي أُريده، وهذا نوع من الاعتذار أيضاً، ولذلك – كما قلت لكم –  كونية الأخلاق وشمولية الأخلاق وعمومية الأخلاق هى ما يُراهِن عليه القرآن الكريم وتُراهِن عليه كل الأديان، قال الله أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ۩، عليك أن تتعالى على الطبقة، عليك أن تتعالى على أبيك وعلى جدك وعلى شيخك وعلى مُعلِّمك وعلى طائفتك وعلى مذهبك وتتساءل هل ما يجري هذا أخلاقي وعادل وجميل أم أنه غير أخلاقي وظالم وقبيح وشرس ووحِش – باللغة العامية – وشيئ سيئ جداً؟ يجب أن تقول هذا، وستدفع الثمن طبعاً، ونحن اعتدنا كثيراً على أن نسمع مثل هذا الملام العاتب والغاضب أحياناً، كأن يُقال كيف تقول هذا؟ كيف تقول هذا وهو يُدين جماعتك ويُدين حزبك؟ كيف تقول هذا وقد أغضب طائفتك؟ أنت أغضبتهم يا رجل، أغضبتهم بهذا القول، لماذا تقوله؟ وهذا أمرٌ عجيب، المعيار هو أن يرضوا فانتبهوا، المعيار هو الطائفة، ليس الحقيقة وليس الجمال وليس الحق وليس العدل، المعيار هو الحزب والطائفة والمذهب وأهل البلد والوطن، ولذا يُقال كيف تقول هذا؟ هذا لا يصب في مصلحة أهلك وعشيرتك، هذا يُغضِب مُحبيك ويُغضِب المُتعاطِفين، أعلم أنه يُغضب، ولكن أنا التزامي بشيئ أبعد من هذا، ليس التزامي بالطائفة وبالمذهب، التزامي بشيئ أبعد، التزامي بما يجعلني أطمئن على إنسانيتي، أنني ما زلت أتحسس أنسانيتي، ما زلت إنساناً، ما زلت ذلك الإنسان المُحترَم المُلتزِم بالإنساني فيه وفي جوهره، أليس كذلك؟ هو هذا، لكن لا تزال هذه الثقافة بعيدة جداً عنا، أنا أقول لكم بعيدة جداً جداً جداً عنا، الثقافة التي تأكلنا وتُحطِّمنا وتمتصنا وتمتص بقية الوعي عندنا هى الثقافة المُعاكِسة تماماً والتي تلوم كل التزام بما هو كوني وعام وشامل وإنساني، هى لا تُحِبه، تُبخِّسه وتُسخِّفه وتستسخِفه أيضاً وتُزهِّد فيه وتُرغِّب عنه، هذه تُهمة كما قلنا قبل ذلك، كل مُؤسَّسات الرأي العام تُفكِّر بالنيابة عنك، التلفزيون Television يُفكِّر بالنيابة عنها، الصحافة العامة تكتب وتُفكِّر بالنيابة عنك، الكل يُفكِّر بالنيابة عنك، لم تُفكِّر أنت يا رجل؟ لماذا تُفكِّر؟ نحن نُفكِّر بالنيابة عنك، كل صُنَّاع الرأي العام يُفكِّرون بالنيابة عنا، لذلك لنا معهم مُشكِلة ومشاكل، كل المُؤسَّسات الدينية من كنيسة إلى كنيس – Synagogue – إلى مسجد إلى أزهر إلى زيتونة إلى كذا وكذا يُؤمِنون بالنيابة عنك، هؤلاء يُحدِّدون ما هو الديني وما هو غير الديني وأين الجنة وأين النار، أنت ليس لك علاقة، وينبغي أن تتبع هؤلاء تماماً، لكن هل أترك كلام النبي؟ النبي قال استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك وأفتوك، قالوا هذا الكلام لا نُعوِّل عليه كثيراً فاتركه، المُؤسَّسة تُؤمِن عنك، لكن المُجرَّد لا يُمكِن التعاطي معه حقيقةً، ثم أن هل هذه المُؤسَّسة ستدخل الجنة؟ وهل إذا دخلت المُؤسَّسة الجنة سأدخل معها؟ لا طبعاً، لا يُمكِن أن تدخل المُؤسَّسة الجنة وأن ندخل نحن معها لأننا كنا نُصفِّق لها، لا يُوجَد هذا الكلام، قال الله وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ۩، لا يُوجَد شيئ إسمه مُؤسَّستي وأُريد أن تأتي مُؤسَّستي لكي تدافع عني، لا يُوجَد هذا الكلام في الآخرة، في الدنيا يُوجَد هذا الكلام، تذهب تشترك في رابطة كذا أو في نقابة كذا ومن ثم تُدافِع عنك هذه وتدفع عنك مالاً وما إلى ذلك، هذا في الدنيا، لكن في الآخرة لا يُوجَد مثل هذا، لا تُوجَد مُؤسَّسة ولا نقابة ولا رابطة ولا عضوية ولا أي شيئ، قال الله فَرْدًا ۩، كما خلقك فرداً تأتيته ويُحاسِبك فرداً، وترك لك القدرة على أن تخدم هذه الفردية، موجودة في فطرتك وفي التُقوى التى أُلهِمتها وفي الفجور، ولماذا أُلهِمتَ الفجور؟ أنا أقول لك لماذا، وهذا معنى عصمة النبي، هل تعرفون ما معنى أن يكون النبي معصوماً؟ أنه أُلهِم الفجور أيضاً، لو لم يُلهَم النبي الفجور ما كان معصوماً طبعاً، وإلا معصوم من ماذا وهو ليس عنده هذا أصلاً؟ هو عنده الفجور، لكن لماذا؟ لماذا اختار ربنا هذه الطريق الطويلة وأستغفر الله؟ بالعكس هذه الطريق الصحيح الحكيم، هذه الطريق الصحيح، لكي يقدر النبي على أن يختبر دواعينا أيضاً ودوافعنا، لكي يقدر على أن يعيش بعض شروطنا، لكي يعرف لماذا تضل حين تضل ولماذا تُكابِر حين تُكابِر ولماذا تتأبَّى وتتمنع ولماذا تتهشَّش وتزوي وتضعف وتسقط ولماذا تقع، النبي يعرف هذا الشيئ، هذا موجود لكن هو معصوم بفضل الله تبارك وتعالى، يشعر به لكن لا يقع تحت وطأته لأنه معصوم، هذا منطق العصمة، لذلك في نفسية النبي يُوجَد فجور وتُوجَد تقوى، والفجور لا يغلبه، دائماً تغلب التقوى، هذا يُعطيه قدرة على أن يُعايشك وعلى أن يختبر حالتك ومن ثم يقدر على أن يتفهمك، وهذا معنى أن يكون النبي بشراً، وإلا لبعث الله ملائكةً رسلاً، فهم لن يقدروا على اختبار حالتنا، لن يكونوا رحيمين بنا كهذا النبي البشري لأنه منا ومن لحم ودم، أليس كذلك؟ هو هذا، هذا معنى العصمة، ثم أن هناك الفلسلفة السائدة والأيدلوجيا، ونحن عندنا في العالم العربي والإسلامي بل وفي العالم كله أحزاب وما إلى ذلك عندها فلسفات مُعيَّنة ورؤى مُعيَّنة، وفي نهاية المطاف هذه أيدولوجيات، هذه أيدولوجيا فانتبهوا، هذه الأيدولوجيا السائدة سواء في المُجتمَع أو في الحزب أو في الجماعة أو في التنظيم تختار بالنيابة عنك، واحد يُفكِّر بالنيابة عنك وواحد يُؤمِن بالنيابة عنك، وواحد يختار بالنيابة عنك، يضعوا الرؤية العامة وأشياء كان من شأنها أن تكون قرارات فردية، وهى قراراتي أنا التي تختلف عن قراراتك أنت وعن قراراته هو، وقد تتطابق لكن فردياً، باختيارتي أنا الحرة، لكنها مُسِحَت كلها لصالح اختيار واحد شمولي أيدولوجي، هو اختيار الحزب أو الجماعة أو المُنظَّمة أو الطائفة أو البلد كما في الحكم السوفيتي السابق وحكم الفاشيين والنازيين، البلد كله يخضع لأيدولوجيا واحدة، هذا غير معقول، يذوب الأفراد ويزوون ويغيبون بالكامل، لذلك الذي يُنازِل هؤلاء جميعاً محكومٌ عليه بالعزلة، محكوم على هذا المسكين بالتفرد، ماذا قال سيدنا عمر رضوان الله عليه؟ قال ما ترك الحق لعمر صديقاً، قال رأيت أن كلهم انفضوا عني، أقرب الناس إليّ انفضوا عني، لماذا؟ قال أنا مُلتزِم بالحق، عمر مُلتزِم بالحق ومُلتزِم بالعدل رضوان الله عليه، لكن الناس لا يُعجِبهم هذا ، أقرب الناس لا يُعجِبهم هذا، ولكن عمر مُلتزِم بالكوني وبالشامل وبالعام، هذا هو، لا تُوجَد استثناءات، قال الله وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۩، حين تُؤدي الشهادة تشهد بالحق وبالقصاص المُستقيم حتى على نفسك، تقول نعم أنا الذي بدأ، أنا الظالم، وهذا سوف يُكلِّفك ومن المُمكِن أن تُسجَن، لكن لا بأس، لا تُوجَد مُشكِلة، سوف أرتاح وأكسب نفسي أيضاً، سأُسجَن دون أي مُشكِلة، سأدفع غرامة من المال ويُقال أنني المُخطيء وسأُنزِل رأسي وأقول آسف – Sorry – دون أي مُشكِلة، سأفعل هذا وأكسب نفسي وأتعمَّق وأُصبِح إنساناً كريماً وإنساناً عظيماً، أنا أقول لكم نحن تربينا بطريقة – والله العظيم – لا تجعل عندنا قدرة على أن نُواجِه أنفسنا وأن نُواجِه المُجتمَع بأصغر أخطائنا، يُنكَر أي شيئ، لو وقع أبريق وكُسِر يُقال الله أعلم مَن الذي أوقعه، يا أخي أنت الذي أوقعته، لكنه لا يعترف، إذا لم يره أحد يقول لست أنا مَن أوقعه، الله أعلم مَن فعل هذا، وكأن الجن الذي أوقعه يا أخي، الغيب هو الذي أوقعه، هذا غير معقول، ما هذه الشخصيات الضعيفة جداً جداً؟ شخصيات في مُنتهى الضعف، لكن الصحابة كانوا يعترفون على أنفسهم بالزنا، يقول أحدهم زنيت، وآخر يقول أتيت أهلي – والعياذ بالله – في دبرها، وأنتم تعرفونه وهو صحابي جليل قال حوَّلت رحلي يا رسول الله، هلكتُ، وما ذاك؟ أحدهم قال له أنا أفطرت اليوم، أتيت أهلي في رمضان، أمام الناس يعترف، لا يقول سنرى ما رأي الشيخ الفلاني لنعرف ما وضع امرتي وأولادي، يقول أُريد أن أعترف يا أخي، أنا أخطأت وأُريد أن أعترف، أُريد حلاً لهذا، لكن نحن كلنا ملائكة لا نغلط والحمد لله، نحن كلنا ملائكة وفي كل شيئPerfect، لا يُخطيء أي أحد ما شاء الله، في كل شيئ نحن Perfect، هذا غير معقول يا أخي، يجب أن نعترف، وليس على المُستوى الفردي فحسب وإنما على المُستوى الجماعي بالذات، حين يُوجَد مذهب أو طائفة أو حزب أو جماعة أو تنظيم  ويُخطيء في حق الأمة أو في حق نفسه أو في حق أتباعه لابد أن يعتذر وأن يُصدِر بياناً كبيراً بحجم غلطه ويقول  غلطنا في واحد واثنين وثلاثة، وغُلِطَ علينا في واحد واثنين وثلاثة، لكننا غلطنا، والله غلطنا، الشهادة لله نحن غلطنا في عشر أشياء يا أخي، قال الله قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ ۩، اعترف يا رجل، لكن نحن لابد أن نلعب دائماً دور الضحية  ولذا سنكون ملعونين، هناك أقوام تُصِر على أن تلعب دائماً دور الضحية – كما تعلمون – فضربهم الله باللعنة إلى يوم القيامة، لا تُوجَد قدرة – كما قلنا – على أن يُحدِثوا هذه المسافة لكي يُقيِّموا أنفسهم، لا يقولون غلطنا يا أخي وقد ذبحنا الأنبياء وقتلنا الناس، لا يقولون هذا، دائماً هم ضحية القدر، الله أكبر يا أخي، متى تعترفون؟ لن يعترفوا، إذن حاقت بهم اللعنة إلى يوم القيامة، وهكذا هو الملعون، هذا هو الملعون لأنه إنسان لا يستطيع أن يُدين نفسه، حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا.

إذن حتى لا نتشتَّت يا إخواني نقول أن الغايات واضحة مُحدَّدة، قال الله وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ۩، طريق اليمين وطريق الشمال، طريق الشمال معروف، فيه زندقة وفيه خيانة للوطن وخيانة للضمير وفيه الزنا وفيه السرقة وفيه الغيبة وفيه النميمة وفيه الربا وفيه الظلم وفيه الفحش وفيه البذاء وفيه الكزازة وفيه البخل وفيه الحرص الشديد وفيه تضييع الحقوق، هذا طريق الشمال، واضح جداً يا أخي هذا، وهو يتسم العمومية كما قلنا، هذه مسائل أخلاقية واضحة، لا يُوجَد بشر في الدنيا يقول لك السرقة جيدة فاسرق مال الناس، هذا مُستحيل يا أخي، لا يُمكِن أن يُقال تكلَّم في حق الناس في ظهرها بكلام سيء وفي وجوهها اضحك لها، الفطرة تكره هذا، لا يُمكِن أن يُقال اذبح الناس إذا واتتك الفرصة، إذا كانت عندك قوة اذبحهم، وحين تواتيهم قوة العق أحذيتهم، ما هذا الإنسان الحقير؟ ما هذه الثقافة الحقيرة؟ لأ يا أخي، لن أكون هكذا، لا ألعق الحذاء ولا أذبح، كما كان يقول طاغور Tagore اللهم إني أستعيذ بك أن أكون جزَّاراً وأستعيذ بك أن أكون نعجةً تُذبَح، لا أحب أن أكون جزَّار، ولا أحب أن أكون نعجة وأُذبَح أيضاً، أحب أن أكون الإنسان المُحترَم الذي له قوامه وكيانه، هو هذا، فهذا واضح إذن، ما الذي يحدث الآن؟ انتبهوا إلى هذا، بغض النظر عن بواعثك ودوافعك قل لي ماذا تُريد؟ هنا الاختبار، قال الله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ ۩، هنا الاختبار، وهنا يأتي موضع الآية التي تقول بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩، طبعاً ليس للإنسان بصيرة على نفسه في البواعث، والله يعلم هذا، أنت لا تُحيط عليماً ببواعثك، الله يعلم هذا، بواعثك أكثر التواءً وغموضاً والتباساً وتركَّباً من أن تُدرِكها، الله يعلم هذا وهو أرحم بنا من أنفسنا، هو يعلم هذا لكنه يقول لك أنا لن أُحاسِبك على البواعث، وإنما سأُحاسِبك على الإرادات، أنت ماذا أردت؟ وهنا سنرجع إلى كونية القانون الأخلاقي الذي يكون للكل، وهذا ما لم تكن مغلوباً على عقلك، لذلك رُفِعَ القلم عن ثلاثة، ثلاثة لا يُحاسَبون وهم غير مُكلَّفين، وذلك في الحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي عن الإمام عليّ عليه السلام، قال صلى الله عليه وسلم رُفِعَ القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ وعن الغلام حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل، أي يفيق من جنونه، يُوجَد جامع مُشترَك بين الثلاثة وهو واضح لكم، هل تعرفون ما هو يا إخواني وأخواتي؟ الجامع المُشترَك الغياب الكلي أو الجزئي للعقل، فالمجنون عقله غائب كلياً،
والنائم عقله غائب كلياً جزئياً نسبياً، في الظرف الذي يكون نائماً فيه لا يُوجَد عقل، قد يكون وزيراً وتخرج منه أشياء مُضحِكة، أليس كذلك؟ لأن هذا المسكين كان نائماً، هو غير مُحاسَب على ما يفعل وما يقول، يحلم ويسب وحتى لو جدَّف وكفر وهو نائم ولا نقدر على أن نُحاسِبه ونقول هذا ارتَد وتزندق، هو كان نائماً، أليس كذلك؟ والنائم يزني والعياذ بالله، أليس كذلك؟ يحتلمون فيزنون، يزني في مَن يشتهي، هذا الله لا يُؤاخِذ به، هذا مرفوع عنه القلم، هذا مجنون في هذا الوقت فقط، وماذا عن الغلام؟
يغيب عقله جزئياً لأن عقله غير تام، عنده تمييز ويعرف شماله من يمينه ويعرف كذا وكذا ويتعلَّم لغة وما إلى ذلك لكنه ليس راشداً، هو لا يزال صغيراً، يُوجَد حد قطعاً للنزاع وللكلام، قالوا يُوجَد حد البلوغ، لكن هذا ليس حداً بالإطلاق في كل أحد، وإنما هو حد أغلبي، وإلا يُوجَد من الناس مَن هو  في الأربعين أو في الخمسين أو في السبعين من عمره وعقله عقل صبي مُميِّز، مثل عقل ابن عشر سنوات، لذلك الفقهاء تحدَّثوا عن العته أيضاً، تحدَّثوا عن المجنون والمعتوه، مَن هو المعتوه؟ المعتوه ليس المجنون، خيرٌ حالاً من المجنون ولكنه دون العاقل، هو الذي يُسمونه هنا بالأحمق، إنسان أحمق لا يعرف كيف يضع الهناء مواضع النقب، لا يعرف كيف يضع الأشياء في مواضعها، هو ناقص العقل، عنده نقص من العقل، ربما يكون عقله في حجم عقل صبي مُميِّز ، لكن لما كان لم يكن صبياً وكان راشداً وبلغ الحلم سُمى المعتوه، هذا هو المعتوه، عمره وصل إلى عشرين سنة وعقله عقل ثماني سنين، ولذا الناس يقولون عنه المعتوه، إذن المُشترَك هو غياب العقل، أنا أقول لكم كل قرارات تصدر عنا بلا وعي حقيقي وواضح بها فيها نوع من الجنون ونوع من غياب العقل، وهذا كله داخل في حساب الله، وكل هذا لن يُعقِّد المسألة، وهى مُعقَّدة الآن، كيف إذن لن تتعقَّد المسألة؟ بالنظر إلى الغايات، قل لي ماذا تُريد أنت؟ هل تُريد العدالة أم تُريد الظلم؟ كُن واضحاً مع نفسك، طبعاً يا ويلك إن رأيت أنك في مُعظم إراداتك ومُراداتك تُريد الفحش أو تُريد الظلم أو تُريد البغي أو تُريد الشر، إذن أنت انتهيت، وعند نفسك أنت أصلاً مُنتهٍ، قال الله كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ۩، قد تقول لي هل يُوجَد بشر على هذا النحو؟ نعم يُوجَد بشر هكذا، ويكون الواحد منهم واعياً جداً ويعرف هذا، يقول لك أنا لا أُريد العقل، أُريد أن أُدمِّر هذا الشرع، أُريد أن أُدمِّر هؤلاء الناس، أُريد أن أنشر الشر والفحش، أُريد أن تُعاني الناس، أنا أتمتع بمُعاناة البشر، فهو يعلم هذا ويقوله، هذا شر، هذا إبليس، هذا استقال فيه الإنسان وتمحَّض شيطاناً عفريتاً مريداً والعياذ بالله، هؤلاء بالذات – وهم قلة قليلة بفضل الله – هم المُرادون بقول الله تبارك وتعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ ۩، هذا مخلوق لجهنم لكن ليس قدراً كما فهمتم أو جبراً عنه وإنما بأفعاله واختياراته، لكن أين هذا؟ قليل جداً جداً جداً بفضل الله عز وجل، مُعظم الناس يقول لك أنا أُريد الخير، أُريد الجمال، أُريد الحق، وأُريد العدالة، أقول له جميل، عليك أن تلتزم بهذه الإرادة وستُحاسَب عليها، ينبغي أن تلتزم بطريقها، أين يحدث الالتباس الآن؟ حين نخلط المُجرَّد أو العام أو الشامل بالعياني والمُتشخِّص، في هذه القضية بالذات أحد طرفي النزاع هو ابني أو أنا حتى، لكن الله قال هنا انتبه، المفروض في كل عياني وفي كل مُتشخِّص مُتعيِّن أن تستلهم المُجرَّد الكلي الشامل دائماً، انظر إليه بهذه الطريقة، إذا لم تستطع استقل وتراجع إن كنت  قاضياً الآن مثلاً، نفترض أنك قاضٍ أو مُحامٍ، أحد طرفي النزاع صديقك، والناس ربما لا يعلمون، هو صديق قديم، إذا غلبت عليك عاطفة الوفاء لهذا الصديق استقل، قل  هذه القضية لن أقضي فيها فليأخذها زميلي فلان، لماذا؟ قل عندي أسباب خاصة ومن ثم لا أُريد، أرى أنني غير قادر على أن أفصل فيها، غير قادر على أن أُوائم بين العام وبين الخاص وإلا سأُغلِّب الخاص مُباشَرةً، مثل هذا الفقيه الذكي الورع – سبحان الله – الذي كان عنده في بيته  بئر ماء، وهذا البئر كان مُكلِفاً جداً، أن تحتفر بئر يخرج منه الماء وفي البيت أيضاً كان عملية صعبة جداً قديماً، هذا البئر سقطت فيه دويبة صغيرة، وفي نفس اليوم – سبحان الله – بعد سويعة جاء واحد يسأله عن هذه المسألة، ما حكم ماء البشر الذي سقطت فيه النجاسة؟ تشوَّش الفقيه الآن، فأمر بطم البئر، قال لابد أن تُردَم البئر أولاً لك يختار بعد ذلك بين المذاهب وبين الأقول وهو مُتجرِّد للحق، انظروا إلى درجة وصل الورع، شيئ غير طبيعي، هؤلاء أولياء الله، هذا العلم الرباني، هذا العلم الحقيقي، صاحبه حقيق أن نثق به وأن نُكبِر مقامه وقدره، ولذا استقم.

بروتس Brutus القنصل الروماني بروتس Brutus – أعطى إذناً بل أصدر أمراً بتطبيق العقوبة التي تقضي بها القوانين – قوانين المشائخ، قوانين مجلس الشيوخ – على ابنه، ثبتت عليه جريمة الخيانة العُظمى، يقول المُؤرِّخون كان يُمكِن أن يتدَّخل – مُجرَّد تدخل بسيط – ويُنقِذ ابنه لكنه رفض وأُعدِمَ ابنه، هنا العظمة، هذا شخص غير مُسلِم، القنصل الروماني بروتس Brutus كان رجلاً وثنياً وأُعدِمَ ابنه، قال يُعدَم، لأن العام عنده أولوية ويحكم على كل خاص، بغض النظر كان هذا الخائن للوطن ابني أو أخي أو أي أحد، لابد أن يُعدَم، لكي تبقى السطوة والهيبة والجلالة للعام، سقراط Socrates نفسه حين حكم عليه القضاة بالإعدام كانت عنده فرصة سانحة أن يهرب، وحتى بوَّاب السجن كان مُتعاطِفاً معه وكان يُمكِن أن يسمح له بالهروب، لكنه قال لا، أنا لا أُريد هذا، نعم هذا الحكم ظالم، هو ظلمني وسألقى حتفي من جرائه، لقد أخطأ هذا الحكم شاكلة الصواب، ولكن العام عنده أصالة وعنده أولوية، ما هو العام؟احترام القانون، القانون يسري على الجميع بما فيهم سقراط Socrates، يُخطيء القانون مرة ومرات لكن يُصيب في ألوف المرات، وأنا لست استثناءً، انتبهوا إلى هذا، كما قلت لكم هنا العهر وهنا الفسق حين تجعل نفسك استثناءً، كأن تقول أنا مع القانون ومع كذا وكذا لكن أنا استثناء، هذا غير صحيح، أنت لست استثناءً، ولذلك قال النبي لو أن فلانة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، يا سلام، هذا كله موجود في الدين، نتفلسف ونذهب ونأتي ثم نجد أن هذا كله في الدين، هذا إذا فهمنا الدين، لكن الدين نحن ابتذلناه وهذه هى المُشكِلة، نحن ابتذلنا الدين، لم نُحوِّل الدين إلى صيغ تربوية عملية فانتبهوا، حوَّلناه فقط إلى خُطب منبرية، نقول لو أن فاطمة كذا وكذا دون أن نفهم، وهذا كلام فارغ، نقوله ثم نخرج ونُطبِّق عكسه تماماً ونحن مرتاحين.

إذن هذه هى البواعث وهذه هى الغايات، الغايات مُحدَّدة، يُمكِن اختبار النفس بصدد موضوع الغايات، قل لنفسك ماذا أُريد؟ هل أُريد تحقيق العدالة – كما قلت لكم – أو أُريد الشماتة للعدو الذي سقط لليدين وللفم؟ إن قلت اختلط على الأمر فأنا أقول لك تراجع، لا تتدخَّل، لا تُلق بكلمة، لا تشهد، لا تُؤدي الشهادة هنا، تراجع ودع غيرك يُؤديها، أمرك مُلتبِس ومن ثم أنت لا تعرف، لكن يُوجَد معيار أيضاً عقلي يستطيع به الإنسان أن يختبر نفسه، هل تعرفون ما هو؟ يُوجَد معيار عقلي كمي، انظر في كم المرات التي أدليت فيها بشهادة لغير صالح أودائك وأحبابك، كم مرة فعلت هذا ضدهم؟  ضد ابنك أو ضد أبوك أو ضد أمك أو ضد كذا وكذا، إذا فعلت هذا كثيراً لا تخف على نفسك، أنت مُمتاز، أنت أخلاقي، لكن إذا لم تفعل هذا مرة، والمرات المعدودة المحدودة فعلتها حيادياً إزاء أشخاص أنت مُحايد إزاءهم أو أشخاص لا تستروح لهم ولا يروقونك فأنا أقول لك تراجع، أمرك خطير.

وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة ٌ                   وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا.

حين تتصدَّق سل نفسك ما الذي تُريده؟ ما هى الغاية من الصدقة؟ لماذا تُخرِج مائة يورو وتدفعها لهذا الفقير أو لهذا المسكين أو لهذه الأرملة؟ لماذا تفعل هذا؟ سل نفسك، إذا قلت أفعل هذا طلباً لرضا الله – تبارك وتعالى – ورحمة بهذه المسكينة وقلت أنا أُريد أن أرحمها وأن أرفع الضر عنها وأن أُساهِم في إسعادها وبُنياتها وأبنائها اليتامى الغلابة المساكين فأنا أقول لك جيد، هذا يُمكِن اختباره، هل حين تفعل هذا في مُعظم الحالات – ليس شرطاً في كلها على كل حال حتى قرآنياً وإنما في مُعظمها – تفعله خُفية؟ وهل فعلاً تستبقى هذه الخُفية؟ هل تسكت ولا تُحدِّث بها أحداً مثل زوجتك أو ابنك أو أي أحد؟ أنت قلت أنا أعملها رحمةً بها  وقد رحمتها  وطلباً لما عند الله والله موجود ولا يضيع أجر مَن أحسن عملاً، فلماذا تتحدث إذن؟ تقول أنا لا أتحدَّث بفضل الله، أنا أعرف نفسي، أفعل هذا بيني وبين نفسي، عملت هذا مئات المرات ولم يعرف أي أحد، أقول لك هنيأً لك، أنت أنت، هذا شيئ جميل جداً، في المرات المعدودة التي تُلَز لزاً لأن تُعطي أمام الناس – لا تُوجَد إمكانية إلا أن تُعطي – يُمكِن أن تُعطي إن شاء الله، قال الله إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ۩، أحياناً قد تُضطَر أن تُعطي أمام الناس، لا يُوجَد مجال إلا أن تُعطي، لكن انتبه جيداً، هذا – كما قلت لك – يُمكِن اختباره، إن كنت لا تتصدَّق إلا تحت أضواء الكاميرات – Cameras – وتحت عيون الجماهير وتحت أقلام الدعائيين لكي يُقال عنك المُحسِن الكبير فأنا أقول لك يا ويلك، يا ويلك، يا ويلك من أنت، وهنا أنا لم أحكم على بواعثك، حكمت على الغايات، انتبه إلى هذا، الحكم بالغايات الآن وليس بالبواعث، ماذا يُريد؟ واضح من تصرفه أن غايته الظهور، لا يفعل إلا أمام الناس، وهو حريص على هذا، وحين لا يحضر الشهود يقول استدعوا الصحافة، استدعوا التلفزيون Television استدعوا فلان، يا فلان أنا الحمد لله اليوم أعطيت كذا وكذا، أنا أقول لك ما هذه المُصيبة؟ لكن يُوجَد أناس يعيشون هكذا، إذا أراد أن يُوصِل أمانة أو يدفع مالاً لابد أن يُنوَّه به في الجرائد وفي التلفزيون Television، هنا لا تُحدِّثني عن البواعث، أنا لا تهمني بواعثه، واضح من غاياته  أنه إنسان مُحِب للظهور، أليس كذلك؟ هو هذا، ما غايتك؟ قد تقول لي أنا غايتي نشر العلم، لكن لماذا تبخل به إلا على مَن يدفع؟ الذي يُريد نشر العلم يا أخي لا يفعل هذا،
الأنبياء دعوا من غير أجر، تقول الآية الكريمة وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، لا يُوجَد أجر، الذي يُريد أن ينشر العلم والفضيلة يفعل هذا لوجه الله تبارك وتعالى، هناك أُناس حين تتصل به – وقد جرَّبنا هذا – وتقول له والله نحن عندنا مُؤتمَر إسلامي ونُريد كذا وكذا يقول لك كم تُعطونني؟ ليس عندنا ما ندفع، يقول السلام عليكم، بعضهم يغضب ويصرخ في وجهك قائلاً هل أنا عندي وقت فارغ؟طبعاً وقته من ذهب حقيقي، يتحوَّل إلى ذهب، ويُريد فندقاً – Hotel – خمس نجوم وسيارة مرسيدس Mercedes وفي الساعة كذا وكذا، شيئ رهيب، ولهم لحى طبعاً فانتبهوا، نحن نتحدَّث عن المشائخ ونشر العلم الشرعي، أصحاب العلم العادي عندهم نُدحة، لكن هؤلاء أصحاب العلم الديني، لذلك في قضية الغايات هل تعرفون ما هو المنطق الذي يُجسِّدها ويُعبِّر عنها ويُصوِّرها؟ منطق الدعوة – وَاللَّهُ يَدْعُو ۩ – لكن هل الدعوة تكون إلى باعث ولا إلى غاية؟ إلى غاية، أنا أدعوك، لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ۗ ۩، أي تعال، تعال إلى هذه المحطة، القرآن الكريم عاد منطقه منطق الدعوة، ومنطق الدعوة منطق غائي، يتحدَّث عن الغايات وعن الأهداف وعن المراحل، النبي منطقه منطق الدعوة باستمرار، وهذا في الأحاديث التي كان يُعلِّمنا فيها، قال النبي فإنك بأرض سوء فاخرج عنها إلى أرضٍ يُعبَد فيها الله، اذهب مع أُناس آخرين عندهم غايات آخرى غير غايات هذا المُجتمَع وسوف ينصلح حالك بإذن الله تعالى، هذا علاج لك، ليس الدوافع واللاشعور والشعور والأقدار وما إلى ذلك وإنما الغايات، حدِّد ما هى الغاية، قال الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ۩، غيِّر علاقاتك الاجتماعية، لماذا أنت تجلس دائماً مع هذه المجموعة الفاسدة؟ ثم تقول لا أعرف لماذا يغلبني الفسوق، المجموعة التي تجلس معها فاسدة، حدِّد هل تُريد أن تكون صالحاً غير فاسق، إذن اترك هذه الظروف وغيِّر علاقاتك الاجتماعية، اترك الكاذبين وكُن مع الصادقين، اترك الفسقة العهرة وكُن مع الأتقياء البررة، أليس كذلك؟ منطق بسيط جداً جداً ، يُمكِن أن يُعالِج أشياء كثيرة، لذلك هذا منطق الدعوة، الله يدعو والأنبياء يدعون والمهديون من الدُعاة الصُلحاء يدعون والشيطان يدعو والكفرة يدعون والعياذ بالله، هذا كله منطق الدعوة، كلٌ يدعو إلى طريق، وهما طريقان لا ثالث لهما، قال وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ ۩، يقول لنا تعالوا يا عبادي، هذا الله، القرآن كله كتاب دعوة، لا إله إلا الله، يدعو الناس إلى الخير وإلى الهدى المُستقيم، إلى طريق الجنة، إلى النجد الأربح والأظفر والأزكى والأذكي والأوقى، إذن الله يدعو، قال أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ ۩، إذن الله يدعو، الله أعم مَن يدعو لا إله إلا هو، وهو خالق الدعاء إلى الخير، هو الله لا إله إلا هو، الأنبياء يدعون، ماذا قال نوح بعد تسعمائة وخمسين سنة؟ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا ۩ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا ۩ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ۩ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ۩ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ۩، قال هو يدعو دائماً، من تسعمائة وخمسين سنة وهو يدعو باستمرار فقط، كيف يدعو؟ هل يُحاسِب البواعث ويُراهِن على البواعث؟ لا يفعل هذا، وإنما يُحدِّد الغايات، قال هذه الغاية فتعالوا إليها فقط، ثم أن الغاية واضحة – كما قلنا – وهى محكومة بعمومية القانون الأخلاقي القادر به الإنسان على الميز بين الخير والشر وبين النور والظلام وبين الحق والباطل، هذه دعوة الأنبياء، تعالوا إلى هنا، قد يقول أحدهم هذا الشيئ غير جيد، لكن هذا غير صحيح، هو جيد وواضح أنه جيد، لا يدعوك إلا إلى كل شيئ جيد حسن بفضل الله تبارك وتعالى، النبي نفسه أكبر داعية، الله قال له وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ۩، وقال الله أيضاً قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۩، الرسول أكبر داعية، قال الله فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ ۩، كُن قدوة، أليس كذلك؟ هذا هو، والمُؤمِنون دُعاة يدعون إلى الخير، قال الله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ۩، ليس دعا الله، دعا الله تعني طلبه، ولكن دعا إلي الله تعني دعا إلى الغاية التي تُوصِل إلى مراضيه – لا إله إلا هو – وتُباعِد  من مساخطه، هذه هى الدعوة، الشيطان أيضاً يدعو، قال وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ لعنة الله عليه – إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ ۩، قلت لكم تعالوا هنا فأتيتم جرياً إلى طريق الزنا والسرقة والغيبة والنميمة والقتل والتعصب والكره والإلحاد والكفر والشرور، أتيتم جرياً، هذا ليس ذنبي، أنا فقط دعوت، دعا والعياذ بالله منه، قال الله أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۩، دعاة النار من الكفرة والمُشرِكين يدعون أيضاً ولكن إلى غاية أخرى، فالكلام ليس عن البواعث، الكلام عن الغايات، هذه هى الدعوة وهذا منطق الدعاة، ثم أن الله قال وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ  ۩، الله قال أئمة دُعاة إلى النار، لذلك في الحديث الجميل – هذا الحديث من الأحاديث الجميلة فاحفظوه، أخرجه أحمد والإمام الترمذي عن النواس بن سمعان – يقول عليه الصلاة وأفضل السلام ضرب الله مثلاً صراطاً مُستقيماً – غير معوج، غير حائد، بيِّن، لائح، واضح، لاحب وعريض، الصفات كثيرة في صفات المُستقيم وقيل تسع – وعلى جانبي الصراط – في رواية كنفي الصراط، الكنف هو الجانب، أي الجنبة، ومنه اكتنفه، اتخذه من جانب، وقف عن جانبه – سوران – هنا سور وهنا سور – وفي السورين أبوابٌ مُفتَّحة – يقول النبي عليه الصلاة وأفضل السلام هنا أبواب وهنا أبواب مُفتَّحة، أي مفتوحة – وعلى الأبواب ستور مُرخاة – أي مُدلاة، هناك حُجب وأغشية، يُوجَد حجاب على كل باب، لكن يُمكِن مُباشَرةً كشف الحجاب والدخول من الباب، الأبواب ليست موصدة، انتبهوا إلى أنها أبواب مُفتَّحة وعليها فقط ستائر، النبي يقول ستور مُرخاة، ترفع الستر ثم تدخل، هذه سهولة ماذا هنا؟ سهولة المعصية، سبحان الله دائماً التدلي سهل، لا إله إلا الله، لكن الترقي صعب، سهل أن يكذب الإنسان، سهل أن يزني، سهل أن يتكلَّم في أعراض الناس، ولكن صعب أن يمنع نفسه عن هذا ويقول إني أخاف الله، هذا صعب جداً، هذا هو التعالي كما قلنا، هذا تجاوز للنفس وتجاوز لضعف البشرية، أما المعاصي سهلة،  النبي قال الأبواب ليست مُغلَّقة وما إلى ذلك، الأمر سهل فقط ترفع الستر ومن ثم تقع مُباشَرةً، انظروا إلى النبي، مُعلِّم يا أخي، أعظم مُعلِّم في تاريخ الدنيا، وداعٍ يدعو على رأس الصراط – عند رأسه في الآخر يقف داعياً يا عباد الله هلموا أو هلم يا عباد الله – وداعٍ يدعو في جوف الصراط، وفي رواية على الصراط – في قلب الصراط، أي أنه قريب منك، يقف أمامك ويدعوك، يقول لك تعال – فإذا أراد أن يفتح – أن يكشف ستراً، العبد يُريد أن يكشف هنا الستر، والآن عرفنا ما هذه الأبواب، النبي قال هذه حدود الله – قال له يا عبد الله لا تكشفه، يا سلام على التعليم، وهنا قد يقول لي لماذا؟ أنا أقول لك لماذا، إياك أن تُحاوِل أن تختبر المعصية، المعصية – كما قال أستاذنا المرحوم المسيري – عندها جاذبية Attraktiv، وسلوا كل أهل العصيان – والعياذ بالله – الذين ابتُلوا بالعصيان وانسلخوا من إنسانيتهم، هناك مَن يعيش حياته الأسرية جحيماً لا يُطاق، يُوجَد جحيم حقيقي، جحيم على نفسه وجحيم على زوجته، لا يجد اللذة والمُتعة إلا في الزنا والعياذ بالله، وحين تسأله يقول لك يا أخي لا أعرف، هذه الزوجة الخامسة، لا يتمتع إلا في الزنا والعياذ بالله منه، والنبي في حديث الرؤيا  الشهير رأى رجالاً عندهم آنية طيبة فيها لحمٌ طيب نضيج، يتركونه ويأتون إلى آنية فيها لحم مُنتِن أسود كريه الريح ويأكلون منه تاركين هذا اللحم الطيب، لماذا؟ قال هؤلاء الرجال – والعياذ بالله منهم – من أمتي، يكون أحدهم عنده بالحلال الزوجة الصالحة الطيبة الجميلة العفيفة الشريفة النظيفة، أنظف من هذا البعيد الوسخ، يتركها فيواقِع الحرام، لأن صار عنده التياث في فطرته وفي شخصيته وفي تقويمه، عنده التياث كبير، هل تعرفون لماذا؟  لأنه لم يُراع أمر الله في حد الله، هل تعرفون ما الحدود؟ ليست العقوبات، لم يقل الله في القرآن الكريم ولو في مرة واحدة أن الحدود هى العقوبات، الحدود هى الفيصل بين ما أحل الله وحرَّم الله، قال لك الله هذا حد، على الجانب الأيمن هذا لك، على الجانب الأيسر ليس لك، انتبه وإياك أن تتقحَّم حدي، هذا الحد أنا الذي حددته، ليس البرلمان ولا الفرنسيين في قانونهم ولا السويسريين ولا الأنجلوساكسون، أنا مَن فعل، حين تُفكِّر في هذا تخاف، هذا شيئ مُرعِب، الله يقول لك أنا حرَّمت هذا، قلت لك ممنوع، لذلك حين يُفكِّر الإنسان يجد أن كل شيئ منعه الله في نهاية المطاف باعتبار من الاعتبارات هو كبيرة من الكبائر، لأن مَن الذي منع منه؟ الله تبارك وتعالى، إذن لا ينبغي أن نتجرأ عليه، الله لايُريد هذا الشيئ ومن ثم لن نفعله مهما كان الثمن ومهما كان المُقابِل، لن نقدر على هذا، لكن هناك مَن يقول هذا حرام لكن الله غفور رحيم، لا والله، والله ما عرف أن الله غفورٌ رحيم مَن أصر على المعصية ومَن دأب على العصيان، لا والله، بالعكس هذا مثل الذي يقول لك أبي طيب جداً جداً جداً وأبي مُتسامِح ثم يُبصِق عليه، يقول أبي جيد ثم يضربه، يقول أبي جيد ثم لا يسأل عنه، العياذ بالله منك، الذي يعرف أن الله غفورٌ رحيم هل تعرفون مَن هو؟ هو الذي آده الذنب، الذنب كسر ظهره وأتعبه، قال الله وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ۩ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ۩، الذي كسر ظهره الذنب، يبكي على ذنبه ليل نهار، يقول كيف فعلت هذا؟ كيف تجرَّأت على حد من حدود الله؟ كيف لم استح منه وهو يراني ويرقبني لا إله إلا هو؟ كيف فعلت هذا؟ هذا الذي يعرف في النهاية لكي لا ييأس ولا يتحطَّم تحت تاثير بهاظة وثقل الذنب أن الله غفورٌ رحيم، قال الله قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۩،وليس مَن يفعل الذنوب ثم يقول باستمرار الله غفورٌ رحيم، هذا يستهزئ كما قال أحد الصحابة، هذا يستهزئ بربه لا إله إلا هو، هذا مُستهزئ، يقول أبي جيد ثم يبصق عليه، يقول أبي جيد ثم يضربه، يقول أبي جيد ثم لا يبره، يقول أبي رحيم ثم يفعل كذا وكذا، أعوذ بالله، ما هذا؟ هذه شيطنة هذه والعياذ بالله، في تتمة الحديث قال النبي فإذا أراد فتح شيئ من تلك الأبواب قال يا عبد الله لا تكشفه، لا تكشف الستر، الستر هو الإسم – الشيئ – والستر هو المصدر، لا تكشف هذا الستر فإنك إن تكشفه تلجه، أي أنك ستدخل، هذه كلمة الدكتور المسيري، أعني جاذبية المعصية، المعصية لها جاذبية خاصة، نجلس مع بعضنا ثم يظهر – مثلاً – شخص مُهِم له اعتبار في المُجتمَع على الناس في التلفزيون Television، تكلَّم عن وجهة نظره، ينبغي أن نتكلَّم عنه باحترام ونقول هو أخطأ هنا ومن ثم نحن نُخالِفه، ليس أن نسبه ونقول هو كذا وكذا، تُوجَد جاذبية هنا، جاذبية إنسان وضيع وصغير لا يُساوي فلساً للأسف الشديد، إنسان عادي وهو فاشل من الفشلة ومع ذلك يتكلَّم عن إنسان كبير – كبير في العلم أو في السياسة أو في الدين أو في أي شيئ – وهو إنسان ناجح ومُحترَم ومعروف من تاريخ حياته أنه إنسان مُحترَم، هذا لا ينبغي، تكلَّم عنه باحترام، انتقده باحترام، تُوجَد جاذبية لكي تُهشِّمه تهشيماً وتجعله كأنه صعلوك لا شيئ له، ومن ثم تشعر بالعزاء، هذا نوع من العزاء، فإياك وهذه الجاذبية اللعينة، هذه جاذبية الباطل، قال النبي فإنك إن تكشفه تلجه، طبعاً وإذا ولجته وقعت في غضب الله، وقعت في الحمى الذي حماه الله تبارك وتعالى، بماذا يختم النبي – عليه السلام – ويقول؟ يقول الصراط هو سبيل الله تبارك وتعالى – هذا الصراط المُستقيم، صراط الأنبياء – والأبواب المُفتَّحة هى حدود الله – هذه حدود الله فاصلة بين الحلال والحرام، ومن ثم هذا ممنوع – والداعي على رأس الصراط كتاب الله – أكبر داعية مَن هو؟ الله – عز وجل – بكلامه لا إله إلا هو، أي القرآن، ارجع إلى القرآن، القرآن دستورك، فلسفتك في الحياة – والداعي في جوف الصراط أو على قلب الصراط واعظ الله في قلب كلِ مُؤمِن، وهنا قد يقول لي أحدكم أنا حين حاولت أن أفعل هذا الحرام – والعياذ بالله – لم أستحضر القرآن، لم يكن يُتلى على مسامعي، لم تخطر لي الآية، هذا أقول له لا، يُوجَد شيئ غير هذا، يُوجَد الواعظ في قلبك الذي قال لك لا يا عبد الله، لا تفعل، هذا حرام، هذا الشيئ سيء، هذا غير جيد، ابعد عنه، اتركه وواصل السير، هناك حُجة عليك من نفسك، قال الله كَفَى بِنَفْسِك الْيَوْم عَلَيْك حَسِيبًا ۩.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اهدنا واهد بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا يا أرحم الراحمين، اللهم لا تُشمِت بنا الأعداء ولا تجعلنا مع القوم الظالمين، واكفنا ما أهمنا من أمر دنيانا وأمر أخرانا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا وتوفنا وأنت راضٍ عنا، جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المُنكَرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا خزايا ولا نادمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أصلِح ذات بين المُسلِمين، اللهم أصلِح ذات بين المُسلِمين، اللهم ألِّف بين قلوبهم، اللهم ألِّف بين قلوبهم، اللهم اجمع كلمتهم على التُقى وعلى ما تُحِبه وترضاه برحمتك يا أرحم الراحمين، وجنِّبهم الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن، وجنِّبهم مكر الماكرين وشر الأشرار وفجور الفجّار إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)



تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليقان 2

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: