إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ۩ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى ۩ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ۩ إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ۩ وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ۩ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى ۩ فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ۩ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ۩ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ۩ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ۩ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ۩ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ۩ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ۩ 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني في الله وأخواتي:

يكثرُ أن يأمر الله – تبارك وتعالى – عباده المُؤمِنين وأولياءه الصالحين بالإكثار من ذكره، لا بُمجرَّد ذكره وإنما بالإكثار من ذكره، قال الله اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۩وقال أيضاً وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ۩ في مُقابِل المُنافِقين – كما قلنا في الخُطبة السابقة – الذين قال الله عنهم وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً  ۩، هذا وصفهم وهذه حالهم فهم لا ينبعثون في ذكر الله – سبحانه وتعالى – لأن النفاق غلَّف قلوبهم وغلب على أرواحهم ونفوسهم – والعياذ بالله – فليسوا يستروحون إلى ذكر الله، بخلاف أولياء الله – سبحانه وتعالى – الذين ينبعثون إلى ذكر وفيه تلقائياً كالنفس، هذه صفة أهلُ الجنة – اللهم اجعلنا منهم برحمتك يا أرحم الراحمين – حيث أن أهلُ الجنة يُلهَمون التسبيح والتقديس كما نُلهَم النفس، وأولياء الله في الدنيا هكذا فيُلهَمون التسبيح والتهليل والتحميد والتقديس كما يُلهَمون النفس.

أخرج الإمامُ مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرةَ  – رضيَ الله تعالى عنه – أنه قال: كنا نسير مع رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلَّم – بطريق مكةَ فقال “هذا جُمدان – يُشير إلى جبل معروف بمكة إسمه جُمدان – سيروا سبق المُفرِّدون”، قالوا: يا رسول الله وما المُفرِّدون؟!

قال “الذاكرون الله كثيرا والذاكرات”، إذن هؤلاءهم المُقرَّبون، قال الله وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ۩، أعلى درجة تُتاح لمُؤمِنٍ صالح أن يكون من المُقرَّبين بإزاء الأبرار في جنات النعيم، أما هؤلاء فهم المُقرَّبون، والمُقرَّبون هم السابقون على ما ذكر الحق سبحانه وتعالى ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ  وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ ۩، في السلف الصالح كانوا ثُلة، أما في الأخلاف فهم قليل – اللهم اجعلنا من هؤلاء القليل – لكن من أخص خصائص هؤلاء وأظهر أوصافهم أنهم لاهجون بذكر الله تبارك وتعالى، علماً بأننا لا نتحدَّث عن دروشة ولا نتحدَّث عن مُصطلَحات، وهذا أمر مُهِم يجب الانتباه إليه، وإنما نتحدَّث عن قرآن وسُنة، نتحدَّث عن كتاب الله ومن ثم ينبغي للمرء أن يُراقِب نفسه وفكره وظنه وتعليقه، فبعض الناس يتهوَّك – والعياذ بالله – بل يتهوَّر ويقول “أن هذاحديث دروشة”، وهذا غير صحيح فأنت بهذه الطريقة تصف كلام الله – تبارك وتعالى – المُتواتِر العزيز الأقطع وفي مواضع كثيرة بأنه دروشة، إذن أنت على خطر عظيم دون أن تدري لأن القلب – والعياذ بالله – لا يُبصِر، هو قلب أعمى مأخوذ بالدنيا وشهواتها وملذاتها ومن ثم لا يستريح ولا يستروح إلى هذه الأمور وهى جوهر الدين ولبه وحقيقته وروحه، ونعود إلى الحديث حيث يقول النبي  “هذا جُمدان – يُشير إلى جبل معروف بمكة إسمه جُمدان – سيروا سبق المُفرِّدون”، قالوا: يا رسول الله وما المُفرِّدون؟!

قال “الذاكرون الله كثيرا والذاكرات”، علماً بأن الحديث في مسلم، والله يقول اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ۩، قال هؤلاء هم المُقرَّبون وهؤلاء هم السابقون.

هذا الحديث أخرجه أبو عيسى الترمذي – رضوان الله تعالى عليه – وفي آخره قيل: يا رسول الله وما المُفرِّدون؟!
قال “المُستهتَرون بذكر الله – والمُستهتَر بالشيئ هو المأخوذ به فلا يُبالي العزلة والملام، فمهما عزلته ومهما لومته لا يلتفتُ إليك فهو كالمُحِب الواله، والمُحِب الواله لا يلتفت إلى عتب الناس وملامهم وإلى ماذا يُقال فيه لأنه مأخوذٌ بحبه ووله لمعشوقه، كذلكم أحباب الله تبارك وتعالى، فاللهم اجعلنا من أحبابك وأودائك وخلصانك برحمتك ومنك،  حيث أنهم  مُستهتَرون بذكر الله ولا يُبالون ما قال الناس فيهم مثل أن يُقال عنهم أنهم دراويش وصوفية ومساكين ومجاذيب ومهابيل ومجانين، هم لا يهمهم شيئاً، المُهِم هو أنهم مُستهتَرون بذكر الله فلا ينقطعون عن ذكره لا إله إلا هو  – تبارك وتعالى  يأتون يوم القيامة خفافاً قد وضع الذكر عنهم أثقالهم”، الله أكبر، هم يأتون يوم القيامة خفافاً بمعنى ليس لهم أوزار كثيرة لأن الذكر أذاب خطيئاتهم، فالذكر وضع عنهم أوزارهم، علماً بأنه يُمكِن أن يُفسَّر هذا القول الكريم للنبي المُصطفى – صلوات ربي وتسليماته عليه – “قد وضع الذكر عنهم أوزارهم” على نحوين، نحو قريب بمعنى أنه كفَّر عنهم سيئاتهم  ونحو أعمق وأبعد بمعنى أنه محق الشهوات والنزوع إلى الباطل في نفوسهم فلم يكن لهم أثقالٌ أصلاً، فهذا الباب من أبواب البلاغة دقيقٌ كقول الشاعر:

عَلى لاحِبٍ لا يَهتَدي بِمَنارِهِ                                إِذا سافَهُ العَودُ النُباطِيُّ جَرجَرا

والأصل أنه لا منار له ليُهتدى به، وكقول بعضهم في قوله رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۩ أنهم أهل الصفة، والمعنى لا تجارة لهم أصلاً ولا بيع ليلهيهم عن ذكر الله، فهذا الشيئ منفيٌ في الحقيقة والظاهر إثباته وهو ضربٌ عميق من ضروب البيان العربي، فيُمكِن أن نُفسِّر الحديث المصطفوي الكريم على هذا النحو إن شاء الله تبارك وتعالى.
وقد أخرج الإمام أحمد في مُسنده عن أبي سعيد الخدري مالك بن سنان – رضى الله تعالى عنه وأرضاه – أنه قال “قال  – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلَّم – اذكروا الله – تعالى – حتى يُقال مجنون”، النبي قال هذا، أي حتى يظن الناس أنك مجنون، ولذلك كان أبو مسلم الخولاني – عبد الله بن ثوب التابعي الجليل والولي الصالح المُؤيَّد بالكرامات الباهرة، وشهد له الصحابة أنفسهم ولُقِّبَ بريحانة أهل الشام – كان يذكر الله دوماً وعلى كل أنحائه وفي كل أحواله حتى مع الصبيان، فإذا جلس مع الصبيان يأخذ في ذكر الله تبارك وتعالى، فقال أحدهم: ما به؟!

أبه جنون؟!

فقال له “يا ابن أخي ليس بالجنون، ولكن اذكر الله حتى يُقال مجنون، النبي قال هذا”، وكان عبد الله بن ثوب – أبو مسلم الخولاني قدَّس الله سره الكريم – له سبحة – كانوا يُسمونها التسبيح أو المسبحة، وعبد الله بن ثوب مُتوفى سنة ثنتين وستين للهجرة، وهذا يرد على مَن قال لم تُعرَف المسبحة إلا في القرن الثاني الهجري، هذا غير صحيح لأنها عُرِفَت في القرن الأول، وأبو مسلم الخولاني كان يتخذها – يضعها هكذا في يده وربما في ذراعه ويُسبِّح بها، علماً بأنها كانت كبيرة ليُسبِّح، فغلبته عيناه ذات ليلة فنام فالتفت المسبحة على يده وجعلت تدور وتُسبِّح وتقول “سبحان مُنبِت النبات، سبحان دائم الثبات”، فاستيقظ وإذا بها تُسبِّح فقال “يا أم مسلم هلم – علماً بأن هلم يستوي فيه الذكر والانثى والاثنان والجماعة والمُفرَد، ولك أن تُوافِق مَن تخاطب فتقول هلم أو هلمي أو هلما أو هلموا أو هلممن وإلى آخره، الله يقول وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ ۩ ، أي أنه قال هلم ولم يقل هلموا، فهذا إذن يجوز –  فانظري إلى أعجب الأعاجيب” وذلك بعد أن أيقظها من نومها، فجاءت وإذا بالسبحة التفت على ذراعه تدور تُسبِّح الله ذي الجلال وتقول “سبحان منبِت النبات، سبحان دائم الثبات”، فقالت زوجه “الله أكبر”، فلما جلست أم مسلم سكنت السبحة، وهذا شيئ عجيب.

أحد إخواننا – علماً بأنه يعرف هذا الإخوة الذين كانوا معنا في رحلة بروكسل – له جد كان من كبار الصالحين وله مسبحة ألفية تُعلَّق في الحائط  وكانت ربما جعلت تدور وتُسبِّح وحدها، وهذا ثابت عنه!

الشيخ القطب عبد القادر الجيلاني – قدَّس الله سره – كان له سبحة تُسبِّح وحدها، الشيخ عبد الوهاب الشعراني يذكر عن شيخه الشيخ أحمد الكعكي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أن كان له مسبحة من ألف حبة كبيرة، فيُعلِّقونها هكذا في السقف ويديرونها ويُسبِّحون بها، حيث أن لهم أوقات مُعيَّنة يستيقظون من الليل ويجعلون يُسبِّحون إلى السحر حتى ينفجر الفجرُ ويطلع عموده، فهكذا كان لهم أوراد لأنهم لا ينامون كأهل الغفلات وأهل اللذات وأهل التعليقات الذين يقولون عن هذا أنه كلام دروشة وكلام صوفية، ولكن هذا لا يهم فسوف نرى يوم القيامة مَن الذي يفرح ومَن الذي يحزن، وأقول لهؤلاء تفكَّروا في كتاب الله قبل أن تُعلِّقوا. 

نعود إلى عبد الوهاب الشعراني حيث يقول عن شيخه أحمد الكعكي أن كان له مسبحة من ألف حبة كبيرة  يضبط بها أوراده في الليل والنهار، فجاء أحدهم – أحد الفقراء من الصوفية – فسرق منها سبع حبات ولا ندري لماذا، فلم يفطن له الشيخ   الشيخ أحمد الكعكي  – شيخ الإمام عبد الوهاب الشعراني رضوان الله عليه – لكن عرض له النبيُ – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – في المنام وقال له “يا أحمد لك كذا وكذا يوماً تُصلي بعددٍ ناقص”، لأنه كان يضبط بها الصلوات على رسول الله، فالنبي لاحظ هذا وقال له “أنت تُصلي علىّ بعددٍ ناقص”، يعني لو أنه يُصلي على الرسول خمسة آلاف صلاة، ستنقص خمس وثلاثون صلاة لأن مسروق من المسبحة سبع حبات، فاستيقظ الرجل فعدَّها فإذا بها ناقصة فعلاً كما أخبر الرسول، وصدق رسول الله الذي قالمن رآني في منامه؛ فقد رآني حقًا”،  فالرسول أخبره أن الذي سرقها الفقير فلان الفلاني ومن ثم ذهب الشيخ إلى بيته وقال له “يا فلان الرسولُ أخبر أنك فعلت”، فقال “صدق رسول الله” وأخرج إليه الحبات السبع الناقصة، فهذه آية من آيات الله!
الإمام الحافظ والمُؤرِّخ والفقيه الكبير عماد الدين بن كثير صاحب التفسير وصاحب التاريخ  “البداية والنهاية ” حين ترجَم – رحمة الله تعالى عليه – للرجل الصالح والعالم العامل عبد الله اليونيني – قدَّس الله سره – قال وهو يذكر وفاته “وصلى بالناس صلاة الصبحِ إماماً ومسبحته في يده، فتُوفيَ جالساً وهو يُسبِّح، فما سقط وما سقطت السبحة من يده”، أي أنها ظلت هكذا في يده فرأى الناس عجباً ككرامة لرجل ميت حيث أنها لم تسقط من يده ولم يسقط هو وهو جالس يُسبِّح، والرجاء أن الله يبعثه مُسبِّحاً – إن شاء الله تعالى – لأن الرسول قال “المرء يُبعَث على ما مات عليه”، وهناك آخر يموت في خمارة وآخر يموت في فاحشة وآخر يموت في مجلس غيبة وآخر يموت نائماً كاسداً باطلاً فلا عبادة ولا ذكر، وهذا الإمام الحافظ يموت – الله أكبر – بعد صلاة الفجر جماعة يُسبِّح ومسبحته في يده – رضيَ الله عنه وأرضاه – فأُخبِرَ الملك الأمجد – أي ملك بعلبك، حيث أنه كان ملك المنطقة في ذلك الوقت – فجاء بنفسه ليرى هذه الآية من آيات الله، يقول الحافظ بن كثير: فلما رآه قال “لو جعلنا عليه بنياناً كما هو، فيأتي الناس فيرون آية من آيات الله”، أي كرامة له ككرامات الصالحين، فقال له العلماء “ليس هذا من السُنة”، فابن كثير هو الذي ذكر هذا، وطبعاً الآن سيستغرب بعض الذين يتعجَّلون ويقطعون على الناس سُبل الخير ويقولون أن المسبحة بدعة سيئة فهى ليست من الدين بل هى شعار الدراويش، وكأن العلماء الكبار لم يكونوا يعرفون هذا وكأن الله لا يعرف هذا وهو يُكرِم عباده الصالحين، علماً بأننا سنعود إلى الموضوع بمزيد تفصيل – إن شاء الله – بما يُناسِب المقام العاجل.

الإمام اليافعي – رحمة الله تعالى عليه – المُتوفى سنة أربعين وسبعمائة للهجرة في كتابه الإرشاد والتطريز في فضل ذكر الله وتلاوة كتابه العزيز ذكر قصة عجيبة وقعت في زمن الإمام اليافعي اليمني – رضوان الله عليه – فقال “أخبرني مَن أثقُ به – وهو زوج المرأة كما سيأتي في آخر الحكاية – عن امرأة صالحة – وهى زوج الذي أخبره – أنها رأت النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – في المنام فأطالت معه الحديث – لذَّ لها الحديث وشاقها مع رسول الله، ولا ألذ ولا أطيب ولا أشرف ولا أكرم – ثم قالت له يا رسول الله ما أشتهي أن أُفارِقك، أي لا أُحِب ان أُفارِقك وأُحِب أن أبقى معك أبداً، فمدَّ يده اليُسرى الشريفة – عليه الصلاة وأفضل السلام – فأخذ شيئاً من تراب جدار القبلة – جدار كان في القبلة فأخذ منه – ثم بحث بيمناه الشريفة الأرض فنبع الماء من بين أصابعه – وهذه رؤيا عجيبة لكن هذا هو رسول الله وهذه الرؤيا حق – فأخذ وعجن التراب الذي في يسراه – صلوات ربي وتسليمه عليه – ثم أخذ السِبحة التي كانت مع المرأة أو السُبحة – أي المسبحة أو التسبيح – وطيَّنها بهذا الطين  – طيَّن السبحة – ثم وضع السبحة على جسده الشريف، طرفاً على صدره والآخر على وجهه ورأسه الشريف ثم دفعها إليها وقال لها إن أردتِ ألا تُفارِقيني في الدنيا والآخرة فلا تُفارِقي هذه السبحة، أي كأنه يقول لها عليكِ بالذكر ليل نهار، فأخذتها المرأة”، يقول الراوي وهو زوجها “فاستيقظت وعليها الطين”، أي أن السبحة كانت مُطيَّنة، الله أكبر، فهل تظنون أمثال هؤلاء الصالحين والصالحات يحتاجون إلى براهين زائدة على وجود الله وكرم الله وصدق الله وصدق رسول الله  في كل ما أخبر عن الله؟!

لا والله، فهذا هو الإيمان حقاً.

 الإمام اليافعي – قدَّس الله سره الكريم – قال “وأخبرني زوجها أن الطين لايزال إلى الساعة – أي أنه لا يزال موجوداً إلى الآن – وقال لي إن شئت تأتي وترى هذا الطين”.

هذا يُذكِّرني بالقصة التي ذكرها شيخُ الإسلام بل مُجدِّد الإسلام في دورته في القرن الثالث عشر الهجري أحمد بن عبد الرحيم المعروف بشاه ولي الله الدهلوي – قدَّس الله سره – علماً بأنه كان إمام الإسلام في وقته وشيخ مشايخ الهنود، فهو ذاك الرجل العارف العالم الفقيه المُحدِّث الذي أحيا الله به سُنة الإسناد في ديار الهند، والآن لا يُوجَد مُحدِّث أو حافظ في الهند إلا وهو يعود إلى شاه ولي الله الدهلوي في سنده، فهو كان إماماً عجب، وله كتب مشهورة وأنتم تعرفونها مثل  حُجة الله البالغة والمُسوَّى شرح الموطأ والدر الثمين في مُبشِّرات النبي الأمين، ذكر في دره الثمين وأنه لدرٌ ثمين أن والده يوم كان غُلاماً اعتل فأشفى على الموت، فسنح له النبي المعصوم – صلوات ربي وتسليماته عليه – في المنام وقال له: يا غُلام ما تشتكي؟!

قال “ما ترى يا رسول الله”، أي أنا وجِعٌ بعد أن برَّح بي الألم، فقال “لا بأس عليك يا بُني بعد أن أضع يدي هذه على رأسك سوف يزول البأس”، قال “ووضع يده الشريفة على رأسي في المنام ثم أعطاني شعرتين من شعور لحيته الشريفة المُكرَّمة وقال خُذ هاتين بركةً لك ولذُريتك”، فقام الغُلام ليس به شيئ كأنه لم يكن وجِعاً وفتح يمينه فإذا بها الشعرتان،  شيخ الإسلام ومُجدِّد الإسلام شاه ولي الله الدهلوي – قدَّس الله سره – يقول “أما إحداهما فأعطانيها – وذلك حين تزوَّج وأتى الشيخ أحمد – فهى عندي إلى اليوم – ويا لها من كرامة ويا لها من شعرة لا تُثمَّن بكنوز الدنيا والله – وأما الأخرى فلا أدري ما فعل بها”، فهذه آيات من آيات الله، وصدق رسول الله حين قال “من رآني في منامه؛ فقد رآني حقًا”، ليست رؤيا تتعلَّق بأشياء في المخ والدماغ والتهاويل وإنما رؤيا حق، ولكن لا ندري كيف يحصل هذا، الله أعلم لأن العقل محدود والذهن مكدود، ولكن هذا حق  بإذن الله لا إله إلا هو!
إذن ذكر الله كثيراً عصمةٌ ونجاة وفلاح ونجاح وجمال وأذواق وأحوال في الدنيا والآخرة بإذن الله تبارك وتعالى.

روى الإمام أبو بكر بن أبي الدنيا – رحمه الله تعالى رحمةً واسعة – أن رسول الله -عليه الصلاة وأفضل السلام – قال “رأيت ليلة عُرِجَ بي – ليلة المعراج – رجلاً مُغيَّباً في نور العرش – الله أكبر، هو مأخوذ وموضوع في نور عرش الرحمن، مُغيَّب في النور، وهذا مقامٌ عظيم استدعى لفت انتباه النبي – فقلت: مَن هذا؟ أنبيٌ هو؟ 

فقيل لي “لا”، قلت: أشهيدٌ هو؟ قيل “لا”، قلت: أملكٌ هو من الملائكة؟ قالوا “لا”، قلت: فمَن ذا؟ قالوا “رجلٌ كان في الدنيا – من أهل الدنيا – لسانه رطبٌ من ذكر الله – ذكر على مدار الأربع والعشرين ساعة، ليل نهار ذكر، في كل وقت الفراغ ذكر -تبارك وتعالى -وقلبه مُعلَّقٌ بالمساجد ولم يستسب لوالديه”، ومعنى لم يستسب لوالديه أي لم يأت ما يحمل غيره على سب والديه، لأن بعض الناس يأتي من الفواحش والبوائق وأذية الخلق ما يحملهم على أن يسبوه ويسبوا مَن ولده فيقولون كذا لك ولمَن ولدك، وبعض الناس  يحمل الناس حملاً بلطفه وخيريته وكرمه وصلاحه وحُسن تأتيه على أن يقولوا رحم الله صُلباً انحدر منه ورحماً حمله، فاللهم اجعلنا منهم.

ولذلك صفاتٌ ثلاث في هذا الرجل “لسانه رطبٌ من ذكر الله، قلبه مُعلَّقٌ بالمساجد، ولم يستسب لوالديه”، أي لم يكن سبباً في سبهما.

روى الترمذي وابن ماجه – رضيَ الله تعالى عنهما – أن رجلاً أتى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – فقال “يا رسول الله قد كثرت علىّ شعب الدين – أو قال شعب الإسلام، أي أن هناك أشياء كثيرة من فرائض ونوافل ومحاب، ويبدو أنه كان رجلاً مشغولاً بمرمة معاشه وليس عنده وقتٌ فائض أو وقتٌ زائد  – فمُرني بعملٍ أتشبث به”، أي أنه لا يستطيع أن يُحصي كل هذه الأعمال، كما أخرج مالك في الموطأ أن الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال “استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة”، ومعنى استقيموا ولن تُحصوا أي أنك لا تستطيع إحصاء كل الأعمال بمعنى المُداومة والمُحافَظة عليها وليس بمعنى عدَّها، وهذا أمر هام يجب أن ننتبه إليه ولذلك يُستفاد من هذا الحديث في فهم الحديث المُخرَّج في الصحيحين وهو “إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة” أن مَن أحصاها لا تعني مَن عدَّها وكتبها في ورقة، وإنما أحصاها كإحصاء الأعمال، أي العمل بمُقتضياتها والتخلق بما يلزم التخلق به منها على النحو اللائق بالعبودية بإزاء الربوبية، فهذا هو معنى الإحصاء طبعاً، وليس أن يكتبها المرء في ورقة ويُعلِّقها في السيارة فيدخل الجنة، هذا كلام فارغ وفهم صبياني عامي عاطل كاسد باطل، إذن الرسول قال “استقيموا ولن تُحصوا” والرجل لا يستطيع أن يُحصي الأعمال فقال “فمُرني بعملٍ أتشبث به يا رسول الله”، وانظروا الآن إلى مَن أوتيَ جوامع الكلم وإلى خير مُعلِّم ومُذكِّر ومُربٍّ حيث قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – له “لايزال لسانك رطباً من ذكر الله”، وهذه وصية جامعة، فلم يقل له أبداً وال بين الحج والعمرة أو كثر من النافلة في الصلاة ولم يقل له حتى أكثر من تلاوة القرآن لأن الناس لا يستطيعون هذا فهو صعب لأن القرآن يُريد الطهارة وبعضهم لا يحفظه ومن ثم يُريد صحفاً يقرأ منها، وقد يكون نائماً أو يكون مضطجعاً أو يكون على غير طهارة لأنه كان مُحدثاً حدثاً أصغر أو حدثاً أكبر أو يكون في سفينة أو يكون على ظهر دابته أو يكون يمشي أو يكون يستمع إلى أحد الناس فلا تتيسر قراءة القرآن مع أنها أفضل الذكر بإطلاق، فأفضل الذكر بإطلاق تلاوة الكتاب العزيز ولكن لا تتيسر هذه التلاوة دائماً، أما ذكر الله باللسان فيُواطيء هذا القلب هو الأفضل لأن هذا يتيسر حتى للمُحدث حدثاً أكبر، فهذا يجوز له بإجماع العلماء، ومن ثم أنت تذكر الله في كل الأحوال، تستيقظ من النوم فتذكر الله، تكون مع الناس وهم يتكلَّمون وأنت تسكت فتذكر الله، تكون في المُواصَلات العامة أو الخاصة أو تقود سيارتك أو تركب في طائرة أو في سفينة أو على دابة فتذكر الله، وهكذا هو الثابت في الحديث الصحيح حيث أن أم المُؤمِنين عائشة – رضوان الله تعالى عليها – كانت تصف حال النبي  – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلَّم – قائلة “كان ذاكراً لله على كل أنحائه”، أي أنها تقول أن النبي كان يذكر الله في كل الأحوال ولا يتوقَّف عن ذكر الله، فهو يذكر الله – تبارك وتعالى – باستمرار.

إذن هذه السُنة الحقيقية إذا كانوا تحدَّثون عن السُنة، هذه جُمَّاع أعمال الخير، أي جماعها، ومن هنا النبي يقول “لايزال لسانك رطباً من ذكر الله”.

أنا مُتأكِّد خُطبة كهذه لا جرم ستكون ثقيلة جداً جداً جداً جداً إلى انقطاع النفس عليه  لأنها ستُلهِم بعض الناس وتحفز همتهم على أن يبدأوا في ذكر الله ، وهذا الشيئ لا يُريده الشيطان الملعون – لعنة الله تعالى عليه – بل أنه يُجنِّنه، فالذكر من أعظم العبادات ومن أعظم الأعمال على الإطلاق، وبالتالي ماذا سيفعل الشيطان الملعون إذن؟!

سيأتي لك لكي يقول لك “اذكر الله ولا بأس في هذا، فنحن لا نستطيع أن نُكذِّب القرآن والسُنة وسير الصالحين من الصحابة والتابعين وإلى اليوم، فذكر الله هو ديدن الصالحين وشعارهم ولكن احذر البدعة، المسبحة بدعة وبالتالي إياك والمسبحة كما يفعل البوسنويون والأتراك والأندونسيون والماليزيون والشيشانيون وكل هؤلاء الأعاجم والفرس، نحن عرب ونفهم الدين أحسن من هؤلاء – ما شاء الله على العرب – وبالتالي إياك والبدعة، المسبحة بدعة”، وتقتنع بهذا وتذكر الله لمدة يوم أو يومين أو ثلاثة أو أسبوع ثم تعود إلى ما كنت فيه، بخلاف ما لو اتخذت مسبحةً لك طهَّرتها بالدموع وزكَّيتها بالخشوع وأوترتها بالخضوع وطيَّبتها بالمسك والعنبر وجعلتها معك في ليلك ونهارك وحلك وترحالك وإقامتك وقرارك وذكرت الله فيها دائماً، ومن ثم ستغلب الشيطان بإذن الله تعالى، لكنه قد يأتيك من باب الرياء ويقول لك “احذر الرياء” وهذا غير صحيح، نحن نُصلي الآن الجمعة والجماعات فهل هذا من الرياء في شيئ؟!

هذا ذكر الله، سنذكر حتى لو داخلنا شيئٌ من رياء في البداية لأن الذكر سيحرف هذه الأشياء – بإذن الله – في النهاية، وإلا نترك الصلوات ونترك الجماعة لأن فيها رياء ونترك الجمعة لأن فيها رياء ونترك الخطابة والعلم لأن فيهما رياء، وهذا غير صحيح، لكن مَن عمل عملاً  لأجل الناس أو تلمحاً للناس أو لفتاً لأنظار الناس – والعياذ بالله – فهذا يُعَد مُشرِكاً، هذا مُشرِك أو مُرائيٍ بالأحرى لأنه يُرائي الناس بعمله، ومَن تركه لأجل الناس أيضاً يُعَد مُشرِكاً، قال الفضيل بن عياض “مَن عمل من أجل الناس فهو مُرائيٍ، ومَن تركه لأجل الناس – مثل أنه لا يُحِب أن يذكر من أجل الناس حتى لا يُقال إنه مُرائي ٍ – فهو مُشرِك، والنجاة ان يُعافيك الله منهما”، فالصحيح هو البُعد عن الشرك وعن الرياء.
إذن اجعل معك مسبحتك ولا تخجل، احملها هكذا باستمرار فإذا تحدَّثت تسكت المسبحة وإذا استمعت وأخوك يتحدَّث  تذكر الله، وهذا شيئ جميل جداً جداً جداً!

هل تظنون إنساناً يُدمِن على التسبيح والذكر بهذه الطريقة يعصي الله بسهولة بعد ذلك؟!
يخجل من نفسه ويخجل من مسبحته ويخجل حتى من إخوانه فضلاً عن ربه، فلا يُمكِن أن تذكر الله الآن وبعد دقيقة  – سبحان الله – تسب أحد الناس وتقول عنه فلان الكذا كذا كذا، هذا لا يُمكِن والقلب لا يُريد ولا يستريح إلى هذا، واللسان لا يُطاوِع بإذن الله تبارك وتعالى، وبالتالي تُصبِح عبداً ذاكراً مُنوَّراً طيباً، فلا يصدر منك إلا كل طيب بإذن الله تبارك وتعالى، وهذا له أصلٌ في السُنةِ أصيل، ولذلك حافظ الإسلام  السيوطي المُتوفى سنة تسع وتسعمائة أو إحدى عشرة وتسعمائة للهجرة – رضوان الله عليه – له جزء لطيف في زُهاء أربعة صحائف أسماه المنحة في السُبحة وهل هى سُنة أو بدعة، فقال “هذه من أفضل الأعمال، ولم يُؤثَر عن أحد من السلف أو الخلف أنه عدَّها بدعةً سيئة”، هذا الشيئ ليس ببدعة بل هو شيئ طيب جداً!

شيخ مشائخ المسلمين محي الدين النووي – قدَّس الله سره الكريم – في كتابه تهذيب الأسماء واللغات – الكتاب في ثلاث مُجلَّدات – تحدَّث عن السُبحة تحت مادة سبح قائلاً “وهى معروفة – أو معروف اللفظ – ويتخذها الصالحون دائماً”،  السبحة شعار الصالحين من الصحابة والصحابيات فمَن دونهم وبعدهم من التابعين وتابعي التابعين وإلى اليوم.

في الحديث أن الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – دخل على أم المُؤمِنين صفية بنت حيي بن أخطب وبين يديها نوى – النوى هو عجم  التمر – فقال: ما هذا يا بنت حيي؟!

قالت “يا رسول الله أربعةُ آلاف حصاة أو نواة – مسبحة من أربعة آلاف ولكن غير منظومة لأنهم لم يكونوا يعرفون النظام هذا وإنما نوى مُفرَّق هكذا أمامها فتضعه في طست أو في دلو أو في كيس وتُسبِّح واحدة واحد  فتعرف أنها سبَّحت أربعة آلاف مرة لكي تُشجِّع نفسها من خلال هذا الورد الذي لا تُريد أن ينقص عن هذا، وقد يزيد ولكنه لا ينقص عن أربعة آلاف، وهذا شيئ جميل جداً – أُسبِّح بها”، تُريد أضبط تسبيحاتي بها لأعرف كم سبَّحت، فقال لها عليه الصلاة وأفضل السلام”لقد قلت مُذ قمتُ على رأسك ما عدل بما قلتِ”أو كما قال، أي أنه يقول أنه في هذا الوقت البسيط جداً قلت شيئاً عدل بما قلت، قالت “فقلت علِّمني يا رسول الله” لأنها تُسبِّح أربعة آلاف مرة وهذا يستغرق منها وقتاً يصل إلى ساعتين أو ثلاث ساعات في حين أن الرسول في أقل من نصف دقيقة قال ما يعدل هذا، وهنا النبي سيُعلِّمها الجوامع –  جوامع الأذكار – فقال “قولي يا صفيةُ سبحان الله أو سبحان الله وبحمده عدد ما خلق من شيئ”، وكم خلق الله من أشياء لكي يُكتَب لها بكل شيئ حسنة إذا نطقت بهذه الكلمة؟!

أعداد لا تُحصى، فكل حبة رمل تُعَد شيئاً خلقه الله، وكل حبل رمل فيها ملايين الذرات،  وكل ذرة فيها عدد من الإلكترونات – Electrons – والبروتونات  -Protons – وكل هذه الأشياء أشياء مخلوقة ومعدودة عند الله – لا إله إلا الله – الذي قال وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ۩، فكل شيئ مُحصىً أو محصيٌ عند الله تبارك وتعالى، فيُكتَب لك أنك سبَّحت بهذا العدد – الله أكبر – ولكن لا ينتهي الأمر هكذا، فلا يأتينا مُتنطِّع صارف لنا عن ذكر الله يقول أننا لن نُسبِّح الله بالحصى والنوى وما إلى ذلك وسنكتفي فقط بهذه المقولة، هذا غير صحيح بل أننا  سنقول أربعة آلاف مرة كما قال الرسول “سبحان الله وبحمده عدد ما خلق الله من شيئ”، وانظر إلى أعداد الحسنات التي لا يعلم عددها إلا الله لأنها تفوق بلايين الحسنات بمراحل، ولذلك هذا الذكر يُثقِّل الموازين.

بعض العلماء زعم أن قول النبي لصفية”ما هذا؟” استنكار، وهذا غير صحيح وكذب على رسول الله، أين رائحة الاستنكار هنا؟!

هو لم يقل لها أن هذا الذي تفعلين زيادةٌ في شرعي ومن ثم يستحقُ الذم ولكنه علَّمها صيغة تُضاعِف أجورها، علماً بأن تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بإجماع الأصوليين، وليس لرسول الله أن يُؤخِّر البيان عن وقت الحاجة، فلو كان فيما أتته أم المُؤمِنين صفية – رضوان الله عليها – شيئٌ من بدعة أو ما يستحق المذمة لنبّهها على كذلك، لكنه علَّمها الجوامع وكأنه يقول لها “داومي على ما أنتِ فيه ولكن بالجوامع، فلا تقولين سبحان الله وبحمده فقط وإنما قولي سبحان الله وبحمده عدد ما خلق من شيئ، فيضّاعف أجرك ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى”، وهذا الحديث أخرجه الترمذي وغيره كالحاكم.
وأخرج أهل السُنن الأربعة أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصحَّحه وأظن ابن حبان أيضاً عن سعد بن أبي وقاص – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنه قال “مررتُ مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بامرأةٍ – جالسة  تذكر الله – وبين يديها نوى أو حصى – كومة هكذا – تذكر بها الله تبارك وتعالى، فسألها النبي فأخبرته أنها تذكر الله وتُسبِّحه وتُهلِّله تُقدِّسه بهذه الحصيات أو بهذا النوى، فقال: أفلا أدلكِ على ما هو أفضل وأيسر؟!

أي أن هناك طريقة أسهل، فقالت “بلى يا رسول الله”، وهنا نفس الشيئ سيتكرَّر حيث أن النبي سيُعلِّمها الجوامع كما علَّم صفية، فقال “قولي سبحان الله عدد ما خلق اللهُ في السماء، سبحان الله عدد ما خلق اللهُ في الأرض، سبحان الله عدد ما خلق اللهُ بين ذلك – أي بين السماء والأرض -، سبحان الله عدد ما هو خالقٌ، ومثل ذلك – أي قولي مثل ذلك – الحمد لله ومثل ذلك لا إله إلا الله ومثل ذلك لا حول ولا قوة إلا بالله”، إذن النبي علَّمها الجوامع لكي تقول هذه الكلمات في كل مرة ولكنه لم ينّهها عن استخدام الحصى والنوى، ولذلك رأينا العلماء الأماثل الأكابر عبر العصور يحتجون بهذين الحديثين على مشروعية السُبحة، ومن أواخرهم القاضي الإمام المُجتهِد محمد بن عليّ الشوكاني صاحب نيل الأوطار شرح مُنتقى الأخبار، علماً بأن مُنتقى الأخبار للمجد أبي البركات بن تيمية وهو جد ابن تيمية شيخ الإسلام –  رحمة الله عليهما جميعاً – ومن ثم عليكم أن تقرأوا مُنتقى الأخبار، وقد بوَّب باباً أسماه باب جواز عقد التسبيح – أي بالأنامل أو بالأصابع – وعدِّه بالحصى والنوى ونحو ذلك، إذن هو بوَّب للسُبحة، فيجوز أن تتخذ السُبحة، والشوكاني احتج بالحديثين وبآثار أخرى وقال “لا فرق بين النوى والحصى مُفرَّقاً وبين النوى والحصى إذا كان منظوماً في نظام وهو المعروف بالسُبحة”، وهذا كلامٌ مقبول جداً ويسير في مهيع العلماء عبر العصور – رضوان الله تعالى عليهم – فلا يُوجَد فرق حقيقة، وحتى من المُعاصِرين الذين لا يتساهلون في شؤون البدع والمُحدثات قالوا “السُبحة ليست من البدع، السُبحة شأنٌ عاديٌ لا عبادي”مثل الشيخ المرحوم عبد العزيز بن عبد الله بن باز مُفتي المملكة السعودية حيث قال “هذا الشأن عادي وليس شأناً عبادياً”، وإن قالوا عقد التسبيح والأذكار بالأنامل أفضل لورود ذلك في السُنة ولأنهن مُستنطَقات لحديث أبي داود الترمذي عن يُسيرة – علماً بأن يُسيرة هى إحدى المُهاجِرات، لكن للأسف تجد في بعض الكتب يُكتَب أن إسمها بُسرة وهذا خطأ، والصحيح هو أن إسمها يُسيرة بالتصغير – التي قالت “قال رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم – للنساء – أي أنه مر بنساء فقال لهن هذا القول – سبِّحن وهلِّلن وقِّدسن ولا تغفلن عن الذكر فتنسين الرحمة  – الله أكبر، النبي يقول  لا تغفلن عن ذكر الله فتنسين الرحمة، أي سُبل الرحمة وطرق الرحمة، قال الله  وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ  ۩، فهذه هى الغفلة إذن، وهى الغفلة عن ذكر الله، فالذي لا يذكر الله دائماً وفي كل أحواله هو رجلٌ غافل، والقرآن هو الذي يقول هذا لخيرة خلق الله، والرسول يقول للنسوة المُؤمِنات الصالحات الصحابيات سبِّحن وقدِّسن وهلِّلن ولا تغفلن عن الذكر فتنسين الرحمة – واعقدن بالأنامل – أي إحصاء العدد  بالأنامل – فإنهن مُستنطَقات”، بمعنى أنها تشهد يوم القيامة، وقد يقول قائل أن الأرض أيضاً مُستنطَقة وهذا – والله – صحيح، والسجادة التي تُصلي عليها مُستنطَقة، والثوب الذي صليت فيه مُستنطَق، وكل شيئ مُستنطَق وسيشهد لك أو عليك، الله يقول يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا  بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ۩، فتقول – مثلاً – يا رب فلان ركع علىّ كذا وكذا ركعة أو يا رب فلان بكى علىّ هنا وهنا وساحت وانداحت دموعه هنا، فهى تشهد لك يوم القيامة، وكذلك السُبحة أيضاً ستشهد لك طبعاً،والثوب سيشهد لك، فكل شيئ سيشهد لك بإذن الله تعالى، ولكن نحن نتساءل مع العلماء والصُلحاء: ثلاثة وثلاثون أو تسعة وتسعون أو مائة يُمكِن أن تُضبَط بالأنامل فهذا شيئ سهل جداً ونحن نفعل هذا بالأنامل لأنها في هذه الحالة أفضل من السُبحة، ولكن ألف وألفان وعشرة آلاف وثلاثون ألفاً وخمسون ألفاً بعض الصالحين كيف تُضبَط بالأنامل؟!

ضبط هذه الأعداد بالأنامل سيُلهيك عن الحضور في الذكر، ولذلك قال بعض المُحقِّقين”الأفضل إذا كثرت الأعداد أن تتخذ السُبحة، فهذا أفضل من الأنامل” وذلك لكي لتحضر في الذكر ويحضر قلبك لأنك – الحمد لله – لن تنشغل بموضوع الضبط، والآن يُوجَد السبحة الميكانيكية والسبحة الإلكترونية الديجيتال Digital ولا مُشكِلة في هذا، بل أن هذا أحسن لأن المُهِم هو أن تحضر في الذكر مع الله – تبارك وتعالى –  ولا تتشاغل بالضبط، عليك أن تذكر وأن تحضر أنت وقبلك، وبالتالي هذا اجتهادٌ مُمتازٌ جداً قاله الإمام ابن علان – رحمة الله تعالى عليه – الصديقي الشافعي شارح الأذكار وشارح رياض الصالحين والمُؤلِّف المشهور والفقيه المُتوفى سنة ألف وسبع وخمسين للهجرة في القرن الحادي عشر، علماً بأن له كتاب إسمه إيقاظ  المصابيح  في اتخاذ المسابيح، فهذا الكتاب عن السُبحة ولكنه أطول من كتاب السُبكي، والإمام عبد الحي اللكنوي – رضوان الله تعالى عليه – المُتوفى في أول القرن الرابع عشر الهجري – تحديداً في ألف وثلاثمائة وأربعة للهجرة – له كتاب عظيم جداً أنصح بقرائته إسمه نُزهة الفكر في سُبحة الذكر، وهذا الكتاب عن السُبحة أو المسبحة حيث استحسنها جداً وذكر فضائلها ومزاياها واستدل لها بأشياء كثيرة على سُنة العلماء الكبار. رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم.
إذن المقصود والشاهد في الحديث أن الشيخ ابن باز لم يعد المسبحة بدعة وقال “هى من الأمور العادية”، وعودوا إلى فتاوى اللجنة الدائمة التي كان يرأسها في وقتها الشيخ العلَّامة ابن باز – رحمة الله تعالى عليه – وقال “هذه مسألة عادية”، وهذا صحيح لأن المسألة العبادية هى الذكر نفسه، أما كيفية ضبط الذكر فهى مسألة عادية، فالآن نحن نرفع النداء لصلاة الجمعة – مثلاً – وللصلوات كلها بالميكروفون Microphone، وبعضهم يرفعه حتى بطريقة إلكترونية كأن يكون هناك جهاز يُؤذِّن بشكل جاهز وهذا لا بأس فيه وإن كان الأفضل بصوت إنسان حي، لكن في الغالب نحن نُبلِغه للناس بالميكروفون Microphone وليس بالصوت المُجرَّد ولا في جرة مكسورة ولا إلى ذلك، وهذا يجوز لأن هذا يُعَد شأناً دنيوياً تقنياً فنياً، أما الشأن التعبدي فهو الأذان نفسه وكلمات الأذان، ومن ثم لا تقل لي “هذه بدعة، فلم يكن الرسول والصحابة يرفعون النداء بالميكروفون Microphone  والأجهزة الحديثة” لأن هذا الشأن دنيوي، فالميكروفون Microphone  وسيلة فقط ومن ثم هذا شأن وسلي – علماً بأن النسبة إلى وسيلة وسلي وليس وسيلي، فهذا خطأ لأن النسبة إلى فعيلة  فعلي – لكن التعبدي هو النداء، وكذلك الحال في الحج حيث أننا نذهب إليه الآن بالطائرات وبالسيارات وليس على الجمال والبغال، وهذا يجوز لأن هذا الشأن وسيلة، ولذلك قال العلماء في اللجنة الدائمة في المملكة السعودية “يجوز استعمال السُبحة لأنها وسيلة لا مقصد”، فلا تقل لي أنها بدعة، وطبعاً بعض الناس حكم ببدعيتها للأسف الشديد وله ذلك، لكن ليس له أن يُشنِّع على الناس وأن يقول لنا أنتم مُبتدِعة، فإذا كُنا مُبتدِعة فمشائخ الإسلام وهم بالمئين استحبوا السبحة وندبوا إليها واستحسنوها واتخذوها، ومن أمثلهم على الإطلاق شيخ الإسلام وأمير المُؤمِنين في الحديث الحافظ أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري الذي كان له سُبحة، أي أنه اتخذ السُبحة فلم يقتصر الأمر أبداً على الشعراني والسيوطي مثلاً بل أن شيخ المشائخ الحافظ بن حجر – رضوان الله تعالى عليه  – اتخذها، ونُحِب لإخواننا أن يرفقوا بنا وبالأمة وأن يتعلَّموا وأن يُعلِّمونا التواضع، فلا تأت أيها العالم وتُشدِّد على الناس وتأخذ قولاً مرجوحاً وشاذاً ولا دليل عليه وتُريد أن تُلزِم به الأمة – مثل يحدث في مسألة التسابيح أو المسابح هذه – وأن تحرمها من من خيرٍ كثير تُسأل عنه يوم القيامة، سيُقال لك: أنت تتنطَّع وتتشدَّد وتتغمَّق في المسائل، فلماذا حرمت الأمة من هذا الخير الكثير؟!

نعم بعض العلماء – كما قلنا – قالوا بدعة ولكنني لا أُحِب أن أذكر أسماءهم حتى لا يُساء الظن بهم من بعض الناس انفعالاً، ولكن لهم ذلك وهذا اجتهادهم وإن كانوا  قلة، فالكثرة الكاثرة على استحسان المسبحة بفضل الله تبارك وتعالى.

فقيه أهل المغرب الإمام سُحنون – طبعاً يُكتَب الإسم بالضم أو بالفتح، أي سَحنون أو سُحنون، وهو إسم طائر ببلاد المغرب معروف شدة اليقظة ومن ثم سُميَ به هذا الإمام الجليل – اتخذ المسبحة، علماً بأنه قيل ليس بين مالك وسُحنون مَن هو أفقه مِن سُحنون”، أي ولا حتى عبد الرحمن بن القاسم وهو شيخه ولا عبد الله بن وهب وهو شيخه ولا أشهب وهو شيخه، فهو تتلمَّذ لهم وصار نظيراً لهم بل تفوَّق عليهم ولذلك قيل “ليس بين مالك وبين سُحنون مَن هو أفقه مِن سُحنون”، فهو كان أفقه من أساتيذه – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – وكان رجلاً عابداً وكان قاضياً – علماً بأنه هو صاحب المُدونة، فالمُدونة لسُحنون  وقصتها معروفة – وكان يحضر مجلس علمه العبّاد الذين يأتونه من أنحاء الدنيا وأسقاعها أكثر مما يحضر طلاب العلم، لأنه كان عابداً قبل أن يكون عالماً، وكان رجلاً مُتألِّهاً صالحاً ربانياً – رضوان الله تعالى عليه – فقيل “لم يُبارَك لعالمٍ أو لأحدٍ في أصحابه بعد رسول الله ما بُورِك لسُحنون –  ولا حتى للصحابة، هو أكثر رجل بُورِكَ له في أصحابه، حيث أن الألوف أخذوا عنه وقيل عنهم ” كانوا بالبلاد – أي أصحابه – أئمة”، فأصحاب سُحنون أصبحوا أئمة، فهم ليسوا علماء عاديين وإنما أئمة وهذا لبركة وصدق سُحنون  رضوان الله تعالى عليه.

يقول أحد تلاميذ سُحنون “دخلت على إمامنا وشيخنا سُحنون وإذا به قد علَّق تسابيح في عنقه ليُسبِّح بها”، إذن قل لإمام الأئمة وفقيه أهل المغرب وشيخ الإسلام في وقته – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنت مُبتدِع ولا تفهم السُنة، وقل هذا أيضاً لابن حجر ولأمثال هؤلاء لأنهم – رضوان الله تعالى عليهم – اتخذوا مسبحة يُسبِّحون بها، لكن بعضُ الناس يقول لو كان فيها خيرٌ ما تركها رسول الله فرسول الله لم يكن له مسبحة، وأما ما يزعمه بعض الناس أن الرسول خلَّف في تركته تسعة أشياء ومن ضمنها المسبحة فهذا غير صحيح كما قال صاحب التراتيب الإدارية عبد الحي الكتاني، فالرسول لم يُخلِّف مسبحة ولم يتخذ أصلاً مسبحاً خرزاً في نظام، الصحابة فعلوا ذلك ولكن من غير نظام، ففعل ذلك الإمام عليّ – عليه السلام – وأبو هريرة – رضوان الله عليه – وأبو الدرداء وأبو سعيد الخدري وسعد بن أبي وقاص وأبو صفية أحد موالي رسول الله وأم المُؤمِنين جويرية  بنت الحارث التي كانت تُسبِّح بالنوى وبالحصى وصفية والمرأة في حديث سعد بن أبي وقاص الذي أخرجه أهل السُنن وغيرهم، فهذه آثار ثمانية تقريباُ يُمكِن أن تقفوا عليها مُفصَّلةً في بعض كتب السُنن كأبي داود والترمذي، والأفضل أن تقفوا على كل هذه الآثار في مُصنَّف ابن أبي شيبة. 

روى أبو داود في سُننه عن رجل من طفاوة – أي من قبيلة الطفاوة – أنه قال “تثويت أبا هريرة بالمدينة – علماً بأن تثويته تعني نزلتُ عليه ضيفاً أو حللت عليه ضيفاً، وهذه لغة جميلة – المُنوَّرة، فلم أجد أحداً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم – أشد تشميراً – أي في العبادة – ولا أقوم على ضيفٍ منه – وطبعاً هو يقول لم أجد ولكن هذا لا ينفي أن هناك مَن هم كذلك، لكن عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود – ورأيته يجلسُ على سريرٍ له وعنده كيس ملأه بالنوى يُسبِّح بها – يقول مثلاً سبحان الله ويرمي بالنواة إلى الأرض – حتى إذا أنفذ ما في الكيس من النوى –  دفعه إلى جاريةٌ سوداءُ تجلس تحت السرير – أي رمى بالكيس إليها – فجمعته – أي النوى – في الكيس فأعادته إليه”، وهكذا ورد طويل جداً جداً جداً، الله أعلم فعلها أبو هريرة كم ألف مرة، لكن قيل “كان لا ينام حتى يُسبِّح ثنتي عشرة ألف مرة”، هذا ورد أبي هريرة – رضوان الله عليه – قبل النوم، فيا حسرة على أمثالنا، أضعنا العمر سبهللة ولسنا أصحاب رسول الله ولم نُجاهِد جهادهم ولم نتضوَّأ برؤيتهم ومع ذلك نحن ما شاء الله مُستغنون، فلا نفعل هذا ولا نُتعِب أنفسنا هذا التعب وكأننا أحسن منهم – ما شاء الله-  ولسنا في حاجة إلى الحسنات التي احتاجوا هم إليها، نحن مساكين إذن، فنسأل الله أن يُعيننا على ذكره وشكره وحُسن عبادته.

الجواب عن اعتراض وشُبهة “لو كان فيها خير ما تركه الرسول” سوف يكون في الخُطبة الثانية، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

القاعدة هى عدمُ الفعل ليس بدليل، فكونه النبي لم يفعل شيئاً لا يُعَد دليلاً على عدم مشروعية هذا الشيئ، فالنبي لم يجمع القرآن في مُصحف، الذي فعل هذا أبو بكر وعمر – رضيَ الله تعالى عنهما – ولم يُعمِّمه على الأنصار بل الذي فعل هذا هو عثمان – رضيَ الله تعالى عنه – علماً بأن هذه الأشياء من أفضل ما فعل هؤلاء على الإطلاق وإلا لربما ضاع المُصحف بطريقة أو بأخرى ولم يتيسَّر كما هو مُيسَّر الآن بفضل الله تبارك وتعالى، إذن هناك أشياء كثيرة فعلها الصحابة ولم يفعلها الرسول، والقاعدة تقول عدمُ الفعل ليس بدليل ، فهذه المسألة من مسائل الفقه والأصول تُسمَى بمسألة الترك، وأنا سأُعطيكم خُلاصة تحقيق المُحقِّقين فيها – إن شاء الله – ربما في دقيقتين وهى كالتالي:

الذي يتركه رسول الله قد يتركه لأسباب وبواعث كثيرة، فقد يتركه لسببٍ جبلي   ونفورٍ طبعي، كما ترك أكل لحم الضب، حيث أنه يُؤتى به فلا يبسط يده إليه، فسُئل: أهو حرام؟!

لأن قد يظن البعض أن معنى أن النبي تركه أنه مُحرَّماً وهذا غير صحيح، فقال “ليس بحرام ولكنه لم يُعرَف بأرض قومي فأجدني نفسي تعافه”، إذن لسبب جبلي طبيعي ترك أكله في حين أن الصحابة أكلوه وخالد بن الوليد أكله أمامه بعد ذلك ولا مُشكِلة في هذا لأن سبب الترك هو سبب جبلي، وهذا هو السبب الأول للترك.

قد يكون النبي ترك شيئاً مما هو مفروض حتى أو مُستحَب لسهوٍ أو نسيان، وهذا هو السبب الثاني علماً بأنه ليس قدوةً لنا هنا فلا نتناسى ونقول “الرسول نسيَ ونحن نتناسى، وسنترك ما ترك من الصلاة – مثلاً – أو من القرآن”، فهذا لا يجوز، ولكن هذا حدث مع النبي وذلك حين سها في إحدى صلاتي العشي – الظهر والعصر – فسلَّم على رأس ركعتين وذلك في حديث الخرباق  بن عمرو المعروف بحديث ذي اليدين الذي أُفرِدّ بالتصنيف، لكن هنا لا حُجة في الترك!

السبب الثالث في الترك هو أن النبي قد يترط شيئاً مخافة أن يُفرَض على أمته مع أنه في ذاته مُستحَبٌ وطيب كما ترك التجميع بالناس في صلاة القيام من رمضان، حيث أنه صلى بهم في أول ليلة وفي ثاني ليلة وثالث ليلة لكنهم اجتمعوا إليه فيما بعد فلم يخرج إليهم إلى الفجر ثم أخبرهم عن السبب قائلاً “خشيت أن تُفرَض عليكم”، وإلا التجميع في التراويح في رمضان من أحب الأعمال إلى الله – تبارك وتعالى – والأمة تفعله طُراً بفضل الله عبر القرون، والذي فعل هذا لأول مرة هو عمر بن الخطاب حيث جمعهم على إمامٍ واحد وقال “نعمت البدعةُ هذه”، أي أن هذه بدعةُ حسنة ومُستحسَنة، إذن الترك قد يكون خشية أن يُفرَض على أمته أمرٌ.

السبب الرابع في الترك هو أن النبي قد يتركُ شيئاً مخافة الفتنة أو درءاً للفتنة كما ترك هدم البيت المُكرَّم المُشرَّف وإعادة بنائه – أي ترك إعادة بنائه – على أساس إبراهيم – أي على قواعد إبراهيم – مخافة أن يُفتَن بعض الناس من الذين دخلوا الإسلام حديثاً، فهم حدثان العهد بالإسلام ومن هنا تركه، علماً بأن الحديث في الصحيحين عن أم المُؤمِنين عائشة رضوان الله عليها.

أخيراً قد يكون تركه – عليه الصلاة وأفضل السلام – لأمرٍ من الأمور، أي لسببٍ يخصه ولا قدوة فيه، فالنبي كان لا يتعاطى بعض المأكولات ويقول “إني أُناجي مَن لا تناجي”، فهو رجل يُكلِّم الملائكة ويُكلِّم جبريل، لكن أنا وأنت لا نُناجي وبالتالي هذا أمر يخص النبي وهو ثابت له، ولا قدوة في الخصاص.

إذن هذه هى مسألة الترك، فإذا تأملتم في هذه الأنحاء الخمسة لمسألة الترك استخلصتم القاعدة الصحيحة أصولياً ووقفتم على مدى الغلط الذي يتورَّط فيه بعض الفقهاء المُعاصِرين بقولهم “هذا ليس مِما فعله الرسول أو فعله الصحابة والسلف، فهذه بدعة سيئة” وهذا غير صحيح لأن هذه الطريقة في التفقه رثة وبالية جداً ولا يُمكِن أن يتورَّط فيها فقيه وأصولي حاذق يفهم ما هو الفقه وطريقة الاستنباط والاجتهاد، فهذا كلام فارغ ولم يقل به أحد من العلماء المُحقِّقين.

إذن مسألة الترك خُلاصتها في جُملة واحدة وهى أن ما تركه الرسول باستثناء ما تركه سهواً ونسياناً كما نبَّهت قُصار دلالته أنه يدلُ على جواز تركه، أما أنه يجب أن يُترَك أو ربما يكون مُستحَباً أن يُفعَل أو غير ذلك فهذا الحكم يُؤخَذ من أدلة أخرى لا من مُجرَّد الترك.

على كل حال للعلَّامة المُعاصِر المُتوفى إلى رحمة الله عبد الله بن الصديق الغماري – رضوان الله تعالى عليه – رسالة لطيفة جداً وقوية ودقيقة ومُحقَّقة أسماها أو عنَّونها بحسن التفهم والدرك لمسألة الترك، فيُمكِن أن تعودوا إليها وتتفقَّهوا مزيد تفقه في هذه المسألة، نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفقِّهنا في الدين وأن يُعلِّمنا التأويل.

اللهم أوزعنا شكر نعمتك وألهمنا ذكرك، اللهم ألهمنا ذكرك واجعلنا من الذاكرين لك بالبكر والأصائل وفي كل أوقاتنا وعلى جميع أنحائنا وأحوالنا حتى ترضى يا ربنا يا إلهُ يا كريم يا رب العالمين، ربنا ارزقنا حُسن النظر فيما يُرضيك عنا وارحمنا أن نتكلَّف ما لا يعنينا وارحمنا بترك المعاصي أبداً ما أبقيتنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما جنينا على أنفسنا وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤِمنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.

عباد الله:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩

اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وسلوه من أفضاله يُعطكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليقان 2

اترك رد

  • الله الله الله ما أحلى ذكر الله و أهل الله … [ مثل الذي يذكر الله و الذي لا يذكره كمثل الحي و الميت ] … من أحس بقسوة في قلبه و مواتٍ في قؤاده فليستمع لهذه الخطبة و الله إنها لتحيي الموتى و توقظ الضمائر من كل غفلة و كأن الصبح يتنفس من جديد بعد ليلٍ عسعس … و كأن الماء نزل من السماء على أرض القلوب القاحلة فإذا بها تحيا بعد موتها لتصبح مخضرة بإذن الله .. كم عندنا شوق و فضول بالله عليك يا شيخ ، ماذا رأيت النبي قبل هذه الخطبة و بأي حال حتى كان هذا التدفق و الحيوية و الروعة التي ما بعدها روعة ؟… أذاقنا الله مما ذقت و عرّفنا مما عرفت و أسعدنا بما أسعدك به اللهم آمين ….

%d مدونون معجبون بهذه: