إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله -سبحانه وتعالى – من قائلٍ في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ۩ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ۩ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ۩ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ۩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ۩ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا ۩ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ۩ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ۩وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ۩ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ۩ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ۩ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ۩ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ۩ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

بمُجرَّد سماع هذه الآيات يتبادر إلى ذهن المُستمِع أن هذا نسيجٌ أخلاقي، هذا المقطع الطويل من سورة الإسراء مقطعٌ أخلاقي بامتياز ويُغطي مجالات أخلاقيةً لا نُريد أن نُضيِّع الوقت في تصنيفها لأنها شبه مُصنَّفة وواضحة لمَن أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ۩، الأساس الإلهي للأخلاق – ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ۩- والأساس الديني للأخلاق مسألة لم تعد مُسلَّمة في العصر الحديث وبالذات في هذا الوقت المعيش للأسف الشديد بعد أن تراجعت سُلطة الدين على ضمائر الناس وعلى البُنى والمُؤسَّسات الاجتماعية على اختلافها فصار من الصعب إلى حدٍ ما أن يُدافَع عن الأساس الديني للأخلاق رغم أن بقيةً من الفلاسفة على أن بعضهم ملاحدة مثل كارل بوبِّر Karl Popper يُؤكِّدون أن الأساس الرئيس للأخلاق هو ديني بامتياز وليسوا يشكون في هذا، والمسألة مُعقَّدة جداً وبالحري لا يُمكِن أن يكون مقام خُطبة جمعة ظرفاً مُناسِباً لتناولها بالطريقة اللائقة، ولكن باختصار نُريد أن نمس جوانب يسيرة منها لعلنا ننتفع بها في حياتنا وفي مسالكنا، أعتقد أنه ليس يخفى علينا جميعاً أننا نُعاني أيضاً كمسلمين في هذه الحقبة وفي هذه اللحظة التاريخية من حياتنا وحياة أمتنا من انهيار أخلاقي مُريع وعلى جميع المُستويات، لم يعد بوسع المسلم الآن أن يتبجَّح أو يفتخر كما كان يفعل قبل ثلاثين وأربعين سنة ليقول “نحن أهل الأخلاق أو حتى نحن أهل الروح والروحانيات” ، لم يعد هذا مُمكِناً بالمرة للأسف الشديد لأننا نُعاني هذا الانهيار – Collapse – شبه التام للأسف الشديد في طبقات مُختلِفة وفي مجالات مُختلِفة، وحين نتحدَّث عن الطبقات أُشير إلى الشرط البشري والوضعية البشرية، وحين نتحدَّث عن المجالات أُشير إلى ما يُشبِه أن يكون مجالات السلوك المُختلِفة، وعلى كل حال كيف يُمكِن لنا أن نتناول هذه المسألة التي فرغت لتوي من وصفها بالمُعقَّدة والمُعقَّدة جداً؟!

يكفي في البداية أن نلتفت أولاً ونلفت غيرنا إلى أن كل الذين يطعنون في الأساس والمهاد الديني الإلهي للأخلاق يتورّطون بطريقةٍ أو أخرى في النسبية الأخلاقية، وبلا شك النسبية الأخلاقية الآن مقبولة على نطاق واسع جداً في العالم خاصة في العالم الغربي فتكاد تكون هى العملة الرائجة الوحيدة، أما مذهب المُطلَق فتقريباً طوى بساطه من حين ومضى إلى حيث لا يعلم إلا الله وربما نفر قليلون جداً من الفلاسفة وكبار المُفكِّرين، فالنسبية الأخلاقية حين نتعمَّقها من الصعب أيضاً أن نُدافِع عن أكثر ما دأبنا على الدفاع عنه من الأخلاقيات من قبيل حقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق الشعوب والأمم وحقوق الإنسان بعامة، وفي الحقيقة النسبية الأخلاقية أكبر روادها وأعظم الزادة عنها والمُدافِعين هم السفسطائيون الأوائل الذين هم أكمل النسبيين، فأكمل النسبيين هم السفسطائيون الأوائل وخاصة السفسطة العندية وليس العنادية، حيث يقول لك أحدهم “هذا عندك جميل وعندي قبيح، وعندك خيِّر وعندي ليس بخيِّر، وعندك مقبول وعندي غير مقبول، فما عندك عندك وما عندي عندي”، إذن نسبية مُغرِقة في النسبية، وقد دافعوا عنها بذكاء مشهود عن هذا فهم أكمل النسبيين، ولكن بعد ذلك – كما قلت – حين تراجعت سطوة وسُلطة الدين عادت هذه النسبية لتتلبَّس بلبوس فلسفي أكثر حداثةً الآن وأكثر عصرية أو مُعاصَرةً وأكثر رونقاً وأكثر جاذبيةً، فلماذا لا يتمَّكن النسبي من الدفاع بنزاهة فكرية وبنزاهة فلسفية تنظيرية عن أكثر أو عن كل تقريباً ما دأب على الدفاع عنه؟!

لأن النسبية الأخلاقية تقتضي ما يُعرَف بالنسبية المعيارية Normative Relativism – مذهب النسبية المعيارية المشهور جداً في علم الأناسة أو في علم الأنثروبولوجي Anthropology – التي تقول أن كل مُجتمَع من المُجتمَعات نظامه المركزي من القيم يُلائمه ويُناسِبه هم الذين جرَّدوه واستخلصوه من تجاربهم ومن تاريخهم وهم أحرار في التزام وانتقاء هذه المنظومة المركزية من القيم ولا يحق لنا أن نتدخَّل فيها.

كان علماء الأنثربولوجيا Anthropology بالذات هم الشهود الأوائل على فداحة التدخّل الغربي في منظومة القيم للشعوب المُستعمَرة في آسيا بالذات وأفريقيا وفي غيرهما، وشاهدوا كيف جرَّ هذا التدخّل ومُحاوَلة استجلاب قيم بعيدة عن الشرط وعن الظرف الذي يختص بالبلد الفلاني أو بالحضارة أو بالمُجتمَع أو بالثقافة الفلانية إلى نتائج فادحة وفادحة جداً خرَّبت تقريباً كل شيئ، وبالمُناسَبة هناك شيئ من هذا يحدث الآن في عالم العرب، فالعربي الآن هو العربي التائه حيث أننا لم نعد نتحدَّث عن اليهودي الحائر واليهودي التائه ولكن الآن نتحدَّث عن العربي التائه والعربي الحائر الذي لا يعرف وجهته بشكل جيد والذي لا يعرف كيف يتصرَّف وكيف يسلك وماذا يفعل وما هو الصح وما هو الغلط وما هو الخير وما هو الشر على أن هذا العربي للأسف الشديد في جزء كبير منه هو هذا العربي المسلم الذي يقرأ الوحي الإلهي لكنه لم يعد يكاد ينتفع من هذا الوحي الإلهي بشيئ، وحين يُحاوِل أن يفعل هذا في أحيان كثيرة يجلب الكوارث على نفسه وعلى العالم أيضاً، وأنتم تفهمون ماذا أقصد، ففعلاً يجلب الكوارث ولذلك نحن نعيش وهو يعيش هذه الكوارث، وبيدي لا بيد عمرو بمعنى أن العربي المسلم خصوصاً للأسف الشديد هو الذي يجأ في بطنه ويقتل نفسه ويُطلِق الرصاص على قدمه، فهذا هو العربي التائه الحائر، ولذلك أعتقد أن فتح مثل هذه الملفات وتعمّقها قليلاً قليلاً سوف يُجدي جدوى عظيمة على هذا العربي الساذج الذي أعطى ضميره ودماغه أو ذهنه لصنّاع الرأي وخاصة صناع الرأي الديني مِمَن لا دراية لهم مُعتبَرة وجديرة وحقيقة بالاحترام في هذه المسائل، فللأسف قطاعٌ لا بأس به منهم هم الذين برَّروا ولايزالون يُبرِّرون الجريمة والكارثة بإسم الدين وهذا شيئ عجيب، فمن هنا طبعاً يُضحَك على الناس لأن هذا يقع بإسم الدين فيُقال لك “هذا الله وهذا شرع الله”، وهذا شيئ عجيب وكأنهم فعلاً ينطقون بإسم الله ولا ينطقون ولا يُفرِغون عن فهمهم هم لشرع الله، ومن هنا يجب أن نُنبِّه وأن نلفت إلى هذه النُقطة دائماً، لأن هذه النُقطة على بساطتها وبداهتها عظيمة الخطر وجديرة بالاهتمام، لأن المدخل الأكبر لاستغفال الناس وتضليل الشباب والمُجتمَعات هو عدم الالتفات إلى هذه النُقطة، فالناس تُصدِّق أنهم يتكلَّمون فعلاً بإسم الله وأن هذا ما يُريده الله، وهذا غير صحيح لأن هذا ليس ما يُريده الله وإنما ما فهمته أنت، فما نصيب هذا الفهم من الصحة ومن الدقة ومن الصوابية ومن العمق؟!

هذا سؤال مفتوح يُجاب ثم يُفضي الجواب إلى سؤال، والسؤال إلى سؤال وهكذا يبقى سؤالاً تقريباً مفتوحاً ومُرهِقاً جداً، فهو ليس حتى من باب الأسئلة المُغلَقة السريعة كأسئلة نعم ولا، وإنما هو سؤال مُرهِق جداً!
إذن النسبيون الأخلاقيون الذين فرَّخوا النسبيين المعياريين يقولون لك “لا يحق لك أن تتدَّخل في أخلاق الشعوب الأخرى”، إذن لا يحق لنا بمُقتضى النسبية الأخلاقية أن نفعل هذا، فكل نسبية أخلاقية تُفضي إلى نسبية في الحقائق ومن هنا لا يُمكِن لنسبي أخلاقي أن يقول لك أن هناك حقائق مُطلَقة، فالحقائق أيضاً نسبية، كل الحقائق نسبية مثل الحقائق الانطولوجية والحقائق الإبستمولوجية المعرفية، فلا يُوجَد حقيقة مُطلَقة، وطبعاً في البداية لا يُوجَد أمر مُطلَق ولا يُوجَد أخلاق مُطلَقة، ومن هنا انتهى كانط Kant صاحب الأمر المُطلَق أو الحتمية الجازمة Categorical Imperative، فلا يُوجَد شيئ إسمه أمر مُطلَق أو أخلاق مُطلَقة أو أخلاق الواجب، كأن يكون هناك واجبات ينبغي عليك أن تضطلع بها وأن تلتزم بها وأن تُنجِزها بغض النظر عن تبعاتها وعواقبها حتى لو دمَّرتك ولو أفقرتك ولو أدت بك إلى الوفاة إلى أن تخسر كل شيئ، فيجب عليك أن تقوم بها مثلما قال كانط Kant، فكانط Kant كان صارماً جداً وأخلاقياً جداً ولكنه كان شكلانياً جداً أيضاً فهو يقول لك “عليك أن تقوم بها لا لأنك تُحِبها ولا يعنيني أنك تُحِبها أو تكرهها لأنها واجبات، وبالتالي عليك أن تقوم بها ليس لأن المُجتمَع يُحبِّذها أو يُريدها أو يُصادِق عليها فلا يعنيني هذا ولكن تقوم بها فقط لأنها واجب”، ولا يقبل كانط Kant أن يقوم الفرد بها لأن الله أراد هذا فقال “حتى هذا لا أقبله، فلا يعنيني أن الله أرادها ويُثيب عليها”، وطبعاً شكلانية مُغرِقة، ولا يقبل كانط Kant أن الفرد يقوم بها لأنه يُسر بها فقال “لا يعنيني أنك تُسَر أو تحزن، ولكن إن قمت به لأنه يسرك فلست أخلاقياً، فيجب أن تقوم به لأن العقل يقول أن هذا هو الواجب، فإن قمت به وأنت تكرهه فأنت تكون أخلاقياً الآن”،وهذا شيئ عجيب، ولذلك وقف فيلسوف الجمال الرائع الكبير والشهير شيلر Schiller يعتب ويسخر من هذه الروح الكانطية الشكلانية ويقول “أُحِبُ من كل قلبي أن أُسدي معروفاً إلى جاري ولكنني أجد سروراً بالغاً في نفسي بسبب هذا الفعل ومن هنا ينبغي علىّ أن أخشى على أخلاقيتي لأنني لست أخلاقياً”، هو يسخر من كانط Kant إذن ويقول “طبيعي أن نفعل الأشياء الطيبة بروح مُحِبة وأن نُحِب هذا الشيئ وأن نُسَر”، لكن كانط Kant يقول لا مكان للعواطف وللمشاعر في نظامه الأخلاقي، وطبعاً هذه الأخلاقية الصارمة العالية انتهت بالكامل فهى مُستحيلة ومن ثم يُسخَر منها الآن تماماً ويُقال طبعاً في اللعلوم الاجتماعية أن لكل مُجتمَع أخلاقه وظروف، وتعلمون طبعاً دور العلوم الاجتماعية بالذات وعلم النفس وعلم الاجتماع السوسيولوجي Sociology وعلم الأنثروبولوجيا Anthropology والنظرية الماركسية طبعاً وغيرها في هذا الصدد، فكل هذه العلوم ساهمت في تفهيم الناس أن الأخلاق وليدة الاتفاق المجموعي ووليدة الظروف أيضاً، فالأخلاق الماركسية وليدة الطبقات المُسيطرة، فهناك أخلاق برجوازية وأخلاق رأسمالية، وحين يصير المُجتمَع مُجتمَع العمال الطبقة الكادحة والپروليتاريا تتواجد حين إذن أخلاق الطبقة الكادحة وهكذا، فلا يُوجَد أخلاق شمولية للكل، هذا غير صحيح لأن الأخلاق طبقية وفقاً للطريقة التي يُفكِّر بها الماركسيون، ودوركايم Durkheim كان نفس الشيئ وهذا شيئ خطير، ومع ذلك بعض الناس يراه علمياً ويعتبرونه منهجاً وضعياً علمياً، لكن هذا غير صحيح وهو خطير جداً!

إذن لا يحق لنا بهذا المنطق النسبي أو النسبوي المُغرِق في النسبية والذي لا يعترف إلا بالنسبية فقط فيُصبِح نسبوياً أن نستنكر أي أخلاق في أعصار سابقة على خلفية الآن أو على خلفية ما جدَّ في الباب مثل الرق مثلاً، هذا ممنوع فلا تقل لي الرق كان شيئاً سيئاً، هذا غير صحيح لأنه كان شيئاً حسناً في ظرفه وفي زمانه وفي مُجتمَعات مُعيَّنة، فهو حسن لهم وليس لنا، فأنت ترى الرق سيء في مُجتمِعك لكن لا تقل أنه في ذلك المُجتمَع كان سيئاً فهذا ممنوع!

التعذيب – Torture – في محاكم التفتيش وما يتعلَّق به من كل صنوف التعذيب كان مقبولاً في المُجتمَعات آنذاك، فالعصور الوسطى اشتُهِرَت بالتعذيب في المسيحية بالذات أما الإسلامية فكانت أقل منها بكثير حقيقةً، ولكن ممنوع أن تعترض على هذا لأن هذا الشيئ كان يُوافَق عليه وكان المُجتمَع يقبله ورجال الدين يقبلونه والكنيسة تقبله والمُجتمَع بشكل عام يقبله، بل أن المُجتمَع كان يُشارِك في حفلات الباربكيو Barbecue البشرية ويُشارِك خوزقة الناس على الخوازيق وحرقهم على الخوازيق – Stakes – فهو كان يُوافِق ويهلِّل ويُبارِك هذا الشيئ.

في العصر الحاضر أو في اللحظة المعيشة لا يحق لك أن تستنكر أوضاع المرأة – مثلاً – في العالم الثالث، فهذا ممنوع وفقاً للنسبية المعيارية، فإن كان هذا يُناسِبهم فليُناسِبهم ولكن نحن لا يُناسِبنا هذا الشيئ، ولكن هذا لا يُعطينا الحق أن نقول نحن على صواب مُطلَق وهم على خطأ، فالمسألة نسبية وهذا شيئ عجيب، إذن هذا يعني أن كل دعوات التبشير بحقوق الإنسان وما إلى ذلك ستذهب أدراج الرياح لأن كل هذه عبث طبعاً بحسب منطق النسبية المعيارية، فلا يحق لنا أن نتدَّخل وأن نستنكر هذه الأفعال المُشينة، وطبعاً نحن نشعر هنا أن هناك ثمة شيئ هو خاطيء وغالط مائة في المائة هنا، فمُحاوَلات النسبيين لإلباس نظرياتهم لبوساً علمياً بأن يُقال أن هذا هو العلم ونحن نقوم بالوصف – Description – فقط كما تُوصَف الحقائق الطبيعية الواقعية مُحاوَلات تصدَّى لها آخرون وأثبتوا مقدار ما فيها من زيف ومن خطورة أيضاً طبعاً، وأول شيئ هناك باب للنقد يتمثَّل في القول ما هو تعريف المُجتمَع وحدوده؟!

الآن أنت يُمكِن أن تتحدَّث عن مُجتمَع – مثلاً – قبل خمسمائة سنة أو ستمائة سنة وخاصة في أوروبا بطريقة أسهل مما تفعل الآن لأن المُجتمَعات وخاصة قبل ثورة الإصلاح الديني كانت مُتجانِسة إلى حد بعيد، فكانت تُعَد قالباً واحداً يُصَب فيه الناس ويُفرَغ فيه الناس، وكذلك الحال نفسه في الدين والفكر والتصور والرؤية الكونية شيئاً واحداً، فلا يُوجَد مجال للمُختلِف ولا يُسمَح أصلاً هنا في العصور الوسطى الأوروبية بالمُختلِف، ثم بعد ذلك أتت ثورة الإصلاح الديني ثم الحروب ،التي خلَّفت ملايين الضحايا لأنهم لم يكونوا ليقبلوا بالاختلاف أصلاً والمُختلِف، ولكن ماذا عن الحال اليوم؟!

نأخذ عاصمة مثل لندن – مثلاً – التي تحتوي على ثلاثمائة وأربعين لغة فضلاً عن عشرات إن لم يكن مئات الديانات والأفكار والثقافات، فمن الصعب أن تقول لي أن هناك ثقافة واحدة للمُجتمَع الإنجليزي، والصحيح هو أن هناك ثقافات كثيرة جداً جداً جداً، وهذا ما يُسمى بالثقافات التحتية أو الثقافات الفرعية – Subcultures – وهى ثقافات كثيرة، ففي المُجتمَع نفسه هناك مَن يرى – مثلاً – أن الجنسية المثلية شيئٌ مُنكَر ولكن هناك مَن يُدافِع عنها بحماس بالغ، هناك مَن يرى أن تعاطي المُخدِّرات شيئٌ مُنكَر وشيئٌ شرير وغير صالح وغير جيد ولكن هناك مَن يرى أن تعاطي المُخدِّرات لغاية الترويح عن النفس شيئ مقبول وطيب جداً، وهذا يحدث في نفس المُجتمَع، فالآن كم ينبغي أن تكون نسبة هؤلاء الذين يخرجون عن الخط العام – Mainstream – لكي يُشكِّلوا مُجتمَعاً؟!

هذا السؤال مطروح في نطاق السوسيولوجيا Sociology أو علم الاجتماع، علماً بأن مثل هذه المسائل تُعد مسائل صعبة، ففي عاصمة يصل عدد سُكانها – مثلاً – إلى خمسة ملايين من المُمكِن أن يُوجَد لدينا – مثلاً – ثلاثة أرباع مليون يُفكِّرون بطريقة مُختلِفة، وهؤلاء يُشكِّلون مُجتمَعاً بطريقةٍ ما، ولذلك هذه المسائل مُعقَّدة جداً حيث ستنشأ لديك في المُجتمَع الواحد بذور انهيار وبذور تفتيت وبذور تمزيق، وبالتالي غير مُستغرَب وغير مُستبعَد وليس بعيداً أن تجد مَن يقول لك أن القتل ليس حراماً وليس ممنوعاً وليس محظوراً بالمُطلَق.

في أخلاق المسيحية كما الأخلاق الكانطية يُوجَد أخلاق الواجب، فهذه الأخلاق تُسمى بالأخلاقيات المبنية على نظرية الواجب Duty -based Ethics – وهى أخلاقيات مبنية في الأصل على أن القتل يمُحرَّم محظور بالمُطلَق، صح وُجِدَ بعد ذلك فقهاء ولاهوتيون مسيحيون حاولوا أن يُبرِّروا حالات استثنائية كالحرب العادلة – Just War – وأشياء مثل هذه ولكن هؤلاء قلة، أما الآن في هذه المُجتمَعات والثقافات الفرعية يُوجَد سيولة معرفية هائلة جداً، وطبعاً نحن العرب الآن نُعاني من هذه السيولة المعرفية بسبب النت Net الذي يضخ ضخاً معلومات ونظريات وأفكار ومُقارَبات ومقاطع هائلة، والشباب طبعاً – خاصة الشباب الصغار بالذات دون العشرين والذين هم في العقد الثالث – لديهم وقت ولديهم حماس ولديهم فضول معرفي رهيب على عكس الكبار والكهول الذين عجَّزوا ولا يفعلون شيئاً سوى أنهم يأكلون ويشربون، فالواحد من هؤلاء الشباب يُحِب أن يُغيِّر العالم والكون وأن يُناقِش قضايا كبيرة وصغيرة ومحلية وإقليمية وعالمية، فهكذا هم الشباب شُعلة من الجنون ومن النشاط كما يُقال، ولكن هؤلاء المساكين يُعانون – والله – من تأثير هذه السيولة المعرفية، ومن هنا التيه كما قلت لكم، حيث يُوجَد تيه وحيرة وضياع وتخبط رهيب، فأين مِن المُفكِّرين والعلماء الكبار مَن يُلهِم ومَن يُمكِن أن يُعطي إطاراً للتفكير ومَن يُعطي منارات على الطريق ومَن يُمكِن أن ينخرط في هذه النقاشات العميقة مع الشباب أيضاً ويفتح عيونهم على ما ينبغي أن تُفتَح عليه؟!

على كل حال المُجتمَع يُمكِن أن يُهدَّد بالانهيار الكامل إذن لأنك لن تعدم مِن أبناء وبنات هذا المُجتمَع مَن يقول لك – مثلاً – أن القتل ليس محظوراً بالمُطلَق بالعكس يُوجَد استثناءات، ويدخل لك من أشياء أيضاً هى أشبه بالجدلية كالقتل الرحيم – Euthanasia – مثلاً، فيقول لك أن القتل الرحيم مسألة فيها نقاش، ثم بعد ذلك يتطرَّق به الأمر إلى أشياء أُخرى أكثر وأكثر، علماً بأن هذه النزعات تظهر وتستند على صنوف من التمييز العرقي واللغوي والديني والطائفي والفئوي، فالمُجتمَعات كلها لا تزال تُعاني بأقدار مُختلِفة أيضاً من صنوف من التمييز، وهذه الإشكالات الفلسفية العميقة جداً موجودة من أيام المسيح ومن ثم هى مطروحة في هذا الدين المسيحي، نعم لم تكن تُسمى أطروحات فلسفية ولكنها كانت مطروحة والناس كانوا يتداولونها.

جاء ناموسي – الناموسي هو أحد الكتبة المُختَّصين بتفسير الشرع الموسوي، أي بشريعة موسى وتعليمها في المجامع للناس وللطلاب، والناموسي هذا في الكتاب المُقدَّس يُسمَّى الكاتب والمجموع هو الكتبة – إلى يسوع – عليه السلام وقال له “يا يسوع – وتعرفون طبعاً المُعاداة بين الكتبة وبين يسوع بشكل عام – اخبرني ماذا ينبغي علىّ أن أفعل كي أحيا الحياة الأبدية”، فقال له عيسى: ناموس الرب كيف تُفسِّره أنت؟!

قال له “تُحِب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل قوتك ومن كل فكرك، وتُحِب قريبك كما تُحِب نفسك”، وهذا شطر القاعدة الذهبية المعروفة في الكونفوشيوسية وفي البوذية وفي اليهودية وفي المسيحية وفي الإسلام، فالقاعدة الكاملة هى أن تُحِب لغيرك من بني البشر وليس فقط لقريبك ما تُحِب لنفسك وأن تكره لهم ما تكره لنفسك، هذه هى القاعدة الذهبية وهى إحدى صور الأمر المُطلَق أو الحتمية الجازمة عند إيمانويل كانط Immanuel Kant، فالأمر المُطلَق له صور كثيرة وهذه إحدى صور الأمر المُطلَق الكانطي، فقال يسوع – عليه السلام – للناموسي “بالصواب أجبت، افعل هذا لتحيا”، أي إذا كانت تُريد الحياة الأبدية فافعل هذا بالضبط، وهذا الجواب جميل جداً طبعاً، كأن يسوع يقول أن طريق الحياة الأبدية ليس هو طريق السفسطات اللاهوتية كالتي تتعلَّق بأن القرآن مخلوق أو غير مخلوق وأن صفات الله هى ذاته أو غير ذاته ولكن طريق الحياة الأبدية هو طريق النجاة الذي يتمثَّل في أن تُؤمِن بالله وتعمل ماذا صالحاً، قال الله – تبارك وتعالى – في القرآن الكريم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، فالمسألة لا تتعلَّق بالعناوين وباليافطات وبالسفسطات اللاهوتية وتشكيك الكلام في عويصات مسائل الاعتقاد، وإنما بعمل الصالحات، قال رسول الله “إنما بُعِثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق”، وقال يسوع من قبل أن هذا هو طريق الحياة الأبدية، ولكن هذا الناموسي – علماً بأنه عالم إسرائيلي أو عالم يهودي مُتعمِّق وهو من أعداء يسوع – أراد أن يُحرِج يسوع على عادتهم وأن يُحاصِره بالأسئلة، فماذا قال له إذن؟!

قال له مثل ما سألنا قُبيل قليل عن المُجتمَع وقلنا: ما هو المُجتمَع؟!

هذا سؤال كبير جداً، وهناك كتابات تصل إلى ألوف الصفحات من أجل الإجابة عنه، أنا لدي كتاب أكثر من ألف صفحة إسمه ما المُجتمَع؟ علماً بأنه يضم عدة أبحاث لكبار علماء السوسيولوجي Sociology في مُحاوَلة تعريف وإعادة تعريف المُجتمَع، إذن هذه مسائل مُعقَّدة جداً وليست بسيطة كما تبدو لأول وهلة.

قال الناموسي ليسوع: مَن هو قريبي يا يسوع الذي علىّ أن أُحِب له كما أُحِب لنفسي؟!

إذن هو السؤال نفسه لأن المسألة تتعلَّق بمسألة الفصل وخطوط الفصل ومسائل التمييز، وكل مسائل التمييز طبعاً هى مُشكِلة أخلاقية، والآن لا تعدم من المسلمين طبعاً كما من المسيحيين واليهود وأتباع الديانات الأُخرى مَن يُحاوِل أن يكون جيداً جداً مع أهل دينه ولكنه ربما يتعبَّد الله بالإساءة إلى غير أهل دينه وهو يظن أن هذا من الدين، وهذا مُستحيل طبعاً ومن ثم ستشعر أنت في عمقك إذا كنت إنساناً أخلاقياً أن في هذا المسلك وفي هذه الطريقة من التفكير والسلوك شيئاً غير أخلاقي وشيئاً تبرأ منه روح الدين، روح دين رب العالمين وليس رب المسلمين أو المسيحيين أو اليهود أو البوذيين، فسوف تشعر بوجود شيئ ليس كما ينبغي وليس في مكانه كما يُقال.

على كل حال خطوط الفصل والتمييزات هى تحدي للأخلاقية والأخلاقيات دائماً، ومن هنا قال الناموسي ليسوع: إذن مَن هو قريبي الذي علىَ أن اُحِب له كما اُحِب لنفسي؟!

وانظر إلى أسلوب يسوع النبي الذي عنده طريقة في التعليم مُذهِلة جداً جداً جداً، وعموماً لو أردنا أن نصف أسلوب عيسى – عليه السلام – في التعليم سنقول “هو التعليم بالحكاية وضرب المثل”، هذا هو أسلوبه وهو الأسلوب الأكثر تأثيراً فعلاً في مُعظم الناس، فهذا أسلوب سلس ومقبول وسهل على أنه عميق جداً حين تُفكِّكه، والصوفيون الإسلاميون في الصوفية الإسلامية بالذات – الصوفيون المُسلِمون وليس الصوفيين الهنود أو المسيحيين – اتخذوا الأسلوب ذاته في التربية والتعليم، علماً بأنني كنت أُريد أن تكون هذه الخُطبة بعنوان جحا واعظاً دون أن أمزح في هذا، وتعرفون طبعاً أن جحا هو الخوجة نصر الدين أو الشيخ نصر كما يُقال في التراث الإسلامي، لكن هو شخصية صوفية وليس شخصية هزلية كما يُعتقَد، هو شخصية صوفية ابتدعها المُتصوِّفة وأجروا على لسانها ألوف الحكايا لإيصال المعارف الإلهية الدقيقة، فمُعظم ما تسمعون من نكات هى في الحقيقة ليست نكاتاً، لكن هى تدريبات وإضاءات واستبصارات عرفانية من أعلى مُستوى.

على كل حال حكى يسوع – عليه السلام – للناموسي حكاية وقال له “ذات مرة يا ناموسي كان رجلٌ يهودي – وهذا الناموسي يهودي، كأنه يقول له أن هذا الرجل مثلك ومن قومك ومن شعبك – مُسافِر على طريق أورشاليم أريحا – هذه الطريق تمتد زُهاء إثني عشرة كيلو متراً – وكانت مباءةً ومرتعاً وملعباً للصوص وقطَّاع الطريق – هذه المنطقة كانت خطيرة جداً – ولكن هذا الرجل كان مُسافِراً – أكرمكم الله – على أتانه أو حماره في هذا الطريق أو على هذا الطريق، فقطع الطريق عليه جماعة من اللصوص ونزعوا ملابسه وأخذوا ما معه من زاد وزواد وأموال وأبرحوه ضرباً – ضربوه ضرباً مُبرّحاً – ثم تركوه بين الحياةِ والموت بلا ملابس، ولكن من حُسن الحظ مرَّ كاهن – كان مُسافِراً على الطريق ذاتها – بعد قليل ورأى هذا المسكين بين الحياة والموت جريحاً مُدمىً ومُلقىً على الأرض، ففكَّر وتردَّد ثم ثنى عِطفَه وواصل طريقه كأنه لم يره”، أي أن هذا الكاهن كان يهودياً وكذلك الجريح كان يهودياً ومع ذلك لم يُسعِفه، ثم يستتلي يسوع قائلاً “ثم مرَّ بعد قليل لاويٌ – من أبناء لاوي أيضاً وهو أحد العلماء في الدين الإسرائيلي أو اليهودي – فنظر إليه ولكنه آثر ألا يصنع له معروفاً فتركه بين الحياة والموت وواصل طريقه ومضى، ثم أتى سامري – علماً بأن السامري يُمثِّل حالة استثنائية، فهناك عداء شديد جداً وتمييز رهيب بين السامريين وبين هذا الشعب اليهودي، وهذا معروف في الكتاب المُقدَّس، وهذا سامري ولكن يبدو أنه كان سامرياً صالحاً – ورأى هذا الرجل اليهودي المُدمى الجريح – أكيد لا يعرف أن هذا الرجل كان يهودياً أو غير يهودي، ولكنه رأى إنساناً يحتاج إلى معونة – فتحرَّكت عاطقته وحنانه ونزل عن أتانه أو حماره – أكرمكم الله – وحاول أن يُداوي بعض جراحه وألبسه شيئاً من خرق كانت معه، ثم حمله على دابته ومضى به إلى أقرب نُزل – شيئ أشبه بالخانة، أي فندق قديم بدائي – وأودعه هناك ووصى صاحب النزُل عليه ودفع له فضيتين – أي قطعتين من الفضة وهذا مبلغ كبير – وقال له اعتن به وإنفق عليه ومهما كلَّفك هذا أزيد من الفضيتين اكتبه وسأدفعه لك حين أعود”، وهذا مُمتاز فالسامري يفعل صالحاً وخيراً ليهودي من أعدائه ومن شعبه، وأنهى يسوع القصة ثم نظر إلى الناموسي وهو في قوم جلوس وقال له: والآن مَن مِن هؤلاء الثلاثة أصبح قريباً لهذا اليهودي الجريح؟!

لكن الرجل كبُرَ عليه أن يقول السامري لأنه يُعتبَر عدواً له فقال “الرجل الذي أخذته الشفقة والحنان به وداواه”، فقال يسوع “هكذا فافعل تحيا”، كأنه يقول له أنت أيضاً افعل هذا وكُن مُتمسِّكاً بالأخلاق الشاملة والأخلاق المفتوحة والأخلاق العامة التي لا تعرف خطوط الفصل بين اليهودي والسامري والعربي والمسلم والشيعي والسُني والغربي والشرقي والأوروبي وما إلى هنالك، فلا مجال لوجود مثل هذا الكلام، قال النبي “الناس لآدم، وآدم من تراب” وكان يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – دُبر كل صلاة “أشهد أن العباد كلهم إخوة”، أي أن الناس كلهم إخوة، ولكي أريح ضميري سأقول أنني مُتأكِّد من أن ربما تنبثق وتبزغ الآن في أذهان بعض مَن يسمع هذه الخُطبة أفكار مُعاكِسة فيقول لي – مثلاً – أحدهم “لكن لدينا مجموعة نصوص – بالذات النصوص الحديثية – تُخالِف مثل هذه النزعة الأخلاقية المفتوحة والعالمية الشاملة”، ولكن أنا أقول لك حتى لا تُضلَّل – نعوذ بالله أن نضل أو نُضَل أونذل أو نُذَل ونعوذ بالله أن نخدع أو نُخدَع – دائماً قس الأمور بميزان الله عز وجل، فالقرآن كلام إلهي ومليء بالحكمة الإلهية، قال الله ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ۩، فهو كلم إلهي معصوم مُتواتِر محفوظ لكن الروايات تبقى روايات، مهما قيل لنا وقيل فيها تبقى روايات، فهى نقل بشر عن بشر وواحد عن واحد وجماعة عن جماعة وناس عن ناس، وبالتالي والله أعلم قد يتطرَّق إليها ما يُمكِن أن يتطرَّق إليها، فحين تُخالِف هذا الكتاب المعصوم المُتواتِر المحفوظ الذي لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ ۩ علينا أن نشك في هذه الروايات ولا نفعل العكس فنُضيِّع القرآن من أجل رواية ونقول روى أبو يعلى الموصلي وروى الطبراني وروى فلان وعلان، فهذا لا يجوز، وهذا المسلك أنا أعتبره – أُقسِم بالله – مُصيبة من مصائب المسلمين بل هو مُصيبة من مصائب الأديان عموماً، ومن ناحية علمية هو مسلك غير علمي أصلاً، وعلى كل حال نمضي عن هذه النُقطة المُثيرة للجدل ونعود لنقول أن النسبية الأخلاقية إذن موقف بالجد – إذ جدَّ الجد – من الصعب أن يُدافَع عنه أخلاقياً على أنه أيضاً موقف يفتقر إلى الاتساق لأن موقف غير مُتسِق بل هو موقف مُتناقِض مع نفسه، فكل نسبية أخلاقية تقتضي نسبية في الحقائق أيضاً، إذن لابد من وجود نسبية في الحقائق، والنسبيون يقولون كل الحقائق نسبية وكل الأحكام الأخلاقية – Value judgments – أحكام نسبية، لكن لكي تكونوا مُتسِقين مع أنفسكم ينبغي أن تكون نظريتكم في النسبية هى الأُخرى نسبية، لأن بما أن كل حقيقة نسبية وكل حكم نسبي إذن حتى هذه النظرية – Theory – التي تُدافِعون عنها الآن والتي تُسمى بالنظرية الأخلاقية النسبية – Moral Relativism – ينبغي أن تكون نسبية، فلا تُلزِمني إذن بها، ولكن أنتم تُدافِعون عنها وتُحِبون أن تُقنِعونا كأنها مُطلَقة، أي أن المُطلَق يتحدَّث عن النسبي وهذا غير صحيح، فهذا الموقف في لغة الفلسفة والفكر يفتقر إلى الاتساق، لأنه غير مُتسِق ذاتياً!
اعذروني طبعاً فكم أُحاوِل أن أُبسِّط ولكن مُضطَّر أن أستخدم بعض المُصطلَحات والتعبيرات الفلسفية حتى أُوضِّح لكم المعنى ولكن سوف ترون الحصيلة والنتيجة بُعيد قليل.

من أكثر مَن تصدَّى لهذه النسبية الأخلاقية هو الفيلسوف الإنجليزي الشهير جورج إدوارد مور George Edward Moore صاحب Principia Ethica مباديء الأخلاق فهو أحد أعظم الإنتاجات الفلسفية الاخلاقية في القرن العشرين المُنصرِم وهو طبعاً رئيس الحدسيين، مور Moore كان يسخر طبعاً من هذا الموقف النسبي وله طريقته في تزييفه وكان يقول “الأحكام الأخلاقية والقيمة بشكل عام – خاصة القيمة الخُلقية – شيئٌ فريد جداً – Unique – ومُتميِّزعن أحكام العقل وأحكام الذهن ولا يُمكِن أن يُعرَّف”، أي أنك إذا أردت تعريفاً له كما يفعل المناطقة فلن تستطيع، فلا يُمكِن أن تُعرِّف ما هو الخير أو ما هى الصوابية الأخلاقية – Rightness – طبعاً أو الخطأ والصوابية – Wrongness And Rightness – لأن هذا سيكون مُستحيل من منظوره الحدسي ويقول مور Moore أن السبب في هذا هو أن القيم الأخلاقية كامنة باطنة في الأشياء، إذن هو يصدر عن نظرة موضوعية للأخلاق وليس عن نظرة تفضيل ذاتي كأن يقول عندي وعندك فهذه سفسطائية نسبية، لكن القيم كامنة في الأشياء كمون اللون، أي مثل اللون، ثم ضرب مور Moore مثلاً باللون الأصفر، فلا يُمكِن لأحد منكم أن يُعرِّف الآن تعريفاً جامعاً مانعاً للون الأصفر، هذا مُستحيل ولكن أكثر ما يُمكِنك تقريباً أن تفعله هو أن تأتي تعريفاً ليكون تعريفاً بالمثال، ولكن هذا ليس التعريف الجامع المانع، فالتعريف بالمثال كأن تقول الأصفر مثل اللون كذا، لكن هذا غير كافٍ بالمرة لأنني أُريد تعريف للأصفر في ذاته، ومن هنا سيكون من المُستحيل أن تُعرِّف اللون الأصفر لشخص أعمى لم ير الألوان في حياته تعريفاً يعود منه بفائدة حقيقية، هذا مُستحيل ولكن نحن نعرف الأصفر بالمُواجَهة المُباشِرة، فكان يُقال لنا مُذ كنا صغاراً
“هذا أصفر،هذا يلبس الأصفر، عبَّاد الشمس هذا أصفر” فعرفنا اللون الأصفر وانتهى كل شيئ، فيجب إذن أن تعيش التجربة وأن تُواجِه الشيئ بالاكتشاف، هذه هى النظرية الحدسية، فيقول لك مور Moore تماماً كما هو الحال مع اللون الأصفر هو الحال مع القيمة ومع الخير، أنت ستعيش وسوف تعرف، ولكن قد يُقال لنا “هذا غير صحيح لأن يُوجَد من بعض الناس مَن هم يعيشون ولا يعرفون هذا، يُوجَد بعض الناس يعيش حياته إلى أن يقضي في جريمة مُتصِلة، فهو نصَّاب ودجَّال وأكَّال للحرام وغيَّاب ونمَّام وزنوي وقاتل وخائن لوطنه وخائن لمَن حوله كما لو كان شيطاناً، وهذا شيئ رهيب”، يقول لك جورج مور George Moore “هذا طبيعي وموجود، كما يُوجَد في عالم الألوان مَن لديه عمى ألوان يُوجَد في عالم الأخلاق مَن لديه عمى قيمة أو عمى أخلاقي”، أي يُوجَد عمى أخلاقي عند بعض الناس، وهؤلاء الناس تقريباً القرآن وصفهم بقوله وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ۩، أي أن هناك من البشر مَن هم مخلوقين لهذا، فالله قال ناس هؤلاء هم من حطب جهنم، فالواحد منهم يعظه يسوع ويعظمه محمد ويعظه الخليل إبراهيم ويعظه رب العالمين في كلامه ومع ذلك – والله – لن ينفع، والذين يعرفون المُشكِلة الأخلاقية يعرفون مدى صعوبة هذه الحالة، وفي علم النفس يُسمَّى هذا الشخص بالسيكوبات – Psychopath – أي الشخص المُضاد للمُجتمَع، فهم يُسمون الشخص العدو للمُجتمَع بالسيكوبات Psychopath، وقالوا أن الطريقة الوحيدة للتصرف معه هى أن تهرب، اهرب – Escape – فإياك إياك أن تقف معه، لأنه دائماً سيضحك عليك ودائماً سيخدعك ودائماً هو غير صادق وليس لديه تأنيب ضمير ولا مُلاوَمة داخلية أبداً ولا يعرف شيئاً إسمه الضمير والتوبة، إذن مور Moore يقول “هذه الحالة معروفة والناس يعيشونها، هذه حالة عمى أخلاقي مثل عمى الألوان”، ولكن البشر عموماً ليسوا كذلك، البشر يشعرون أن هذا عدل وأن هذا ظلم – مثلاً – وهكذا، وبعض علماء النفس الآن من سنوات يسيرة بدأوا يتحدَّثون عن العدالة المزروعة ويقولون “هناك عدالة مزروعة بحيث أن الطفل الصغير ابن أشهر يصدر عن حس أو إحساس بهذه العدالة”، فتجارب في علم النفس تُؤكِّد أن الطفل الذي لم يتعلَّم ولم يسمع ولا يستطيع أن يفقه هذه الأشياء لديه هذا الإحساس، وهذا يُعيدنا مرة أخرى إلى ما قبل نظرية الحدس الأخلاقي، أي إلى الحاسة الخُلقية، فهذه إذن مثل الحاسة، فالطفل يسمع والطفل يرى والطفل يشم ويلمس وكذلك أيضاً لديه حاسة أخلاقية فيعلم أن هذا يُعَد صحيحاً وأن هذا يُعَد غالطاً، ويعلم أن هذا يُعَد خيراً وأن هذا يُعَد شراً، فهو عنده إحساس بالعدالة مزروع في داخله، فهو يُولَد به كأنه شيئ فطري، وكل هذا أذكرني بقول الحق جل مجده وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩ فقول الله فَأَلْهَمَهَا ۩ بمثابة عبارة نادرة جداً جداً جداً في كتاب الله، فالله لم يقل علَّمها فجورها وتقواها، وإنما قال فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩ في حين أنه قال في سياق آخر الرَّحْمَنُ ۩ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ۩ خَلَقَ الْإِنْسَانَ ۩ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ۩، لكن في في مسألة القيمة قال فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، وهذا الشيئ تقريباً يفتح على نظرية مور Moore الحدسية في الأخلاق، فيقول لك هذا شيئ مُتميِّز تماماً ولا يُمكِن اشتقاقه بالطريقة الوضعية الوصفية العلمية من الكائن والواقعي، علماً بأنني سأُوضِّح هذا فهذا سهل إيضاحه، لكن عموماً هذا يُسمّيه مور Moore بالمُغالَطة الطبيعية أو بمُغالَطة الطبيعيين وهو ضد الطبيعيين الأخلاقيين، فيُقال لك – مثلاً – أن الناس يجدون أن كل ما يبعث على اللذة والسعادة هو شيئ صالح وهو شيئ خيِّر لكن مور Moore يقول أنه لا علاقة بين أن الناس يجدون لذة في شيئ ما وبين أن هذا الشيئ يُعَد خيراً، وطبعاً هناك مذاهب في هذا الصدد مثل مذهب اللذة أو اللذائذية – Hedonism – حيث يرى أتباعه أن الغاية الأسمى والخير الأسمى والخير الأبعد هو السعادة أو اللذة، وطبعاً هناك اللذة الأخلاقية أومذهب السعادة الأخلاقية ومذهب السعادة أو اللذة النفسية، وهذه قصة طويلة، ولكن على كل حال يقولون مُعظم الناس – مثلاً -على الإطلاق يرون أن هذا هو الخير لأنهم يجدون لذة فيه، علماً بأن هذه النظرية موجودة في التراث الإسلامي عند الغزالي وعند مسكويه وعند ابن حبان البُستي وعند الماوردي وعند الكثر، بل أن كل مَن كتب تقريباً في الأخلاق تكلَّم عن موضوع السعادة واللذة واستجلاب اللذة ودفع الألم، وتتطوَّر هذه النظرية مع النظرية النفعية – Utility – أو مذهب النفعية – Utilitarianism – على يد بنتام Bentham وميل Mill، المُهِم هو أنه يُقال أن الناس يرون أن اللذة ودفع الألم هو الخير، لكن مور Moore يقول: لا يُوجَد علاقة بين هذا وذاك، فما علاقة أن الناس يجدون أن اللذة شيئٌ يقبلونه ويرغبون فيه وبين أن اللذة خير وليست شراً؟!

ثم يستتلي قائلاً: كيف عبرتم الهوة بين ما هو كائن – Is – وبين ما ينبغي أن يكون؟!

الأخلاق كلها هى ما ينبغي أن يكون، الأخلاق افعل ولا تفعل، الأخلاق هى نظام من الواجبات والإلزامات والإرشادات القيمية، لكن مور Moore يقول: هذا Ought وليس Is، أي أنه شيئ ينبغي أن يكون أو شيئ لازم، فكيف عبرت الهوة أنت من Is إلى Ought؟!

ثم قال “عبور هذه الهوة مُستحيل، لكن الحل هو أن تُسلِّم معي كما سلَّمت أنا واكتشفت أن القيم الأخلاقية قيم نعرفها بالحدس، فهى ليست قيماً يُمكِن أن يُنظَّر لها كأي قيم معرفية أخرى، فالقيم الأخلاقية ليست قيماً معرفية أبداً ولا تُستخلَص من مُعطيات ووقائع طبيعية، ومن ثم يُوجَد هوة لا تُردَم بين Is و Ought”، علماً بأن هذه يُسمَيها بمُغالَطة المذهب الطبيعي وعنده قصة طويلة في تفنيدها، لكن هذا أيضاً هذا يُذكِّر مرة أخرى بقول الله فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، فأنت تعرف هذا وكفى لأن من الواضح أنك تشعر بأن هذا صحيح وهذا غير صحيح، فحتى لو أفتاك المُفتي وقال لك هذا الشيئ يُعَد حلالاً وعليك أن تأخذه وحتى لو القاضي قضى لك على خصمك الذي ذهب ليُقاضيك فأنت تعلم بداخلك أنك غير مُحِق، فقل لي بربك في الداخل ما هو إحساسك؟!

ستقول “أنا غير مُطمئن”، هذا هو الصحيح، فهنا تُوجَد الأخلاق لأنك تشعر أن هذا يُعَد شيئاً صحيحاً وهذا يُعَد شيئاً غالطاً،والنبي أشار إلى هذا أيضاً، وقال الله فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، وقال أيضاً لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ۩ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ۩،فيا ويل أمة تُربِّي أبناءها وأجيالها على إسكات وتصميت وإنامة الضمير وصوت الضمير من أجل أن نخضع لأحكام القانون والفقهاء والقضاة، هناك شيئ إسمه ضمير من قبل ومن بعد وهو الذي ينبغي أن يُوجِّه الجميع بما فيهم الفقهاء والقضاة، وإن خانوا هم ضمائرهم فأنا كخصم في القضية ينبغي ألا أخون ضميري وينبغي أن أكون وفياً بدرجة أولى لضميري أنا، قال رسول الله “إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكل امريءٍ ما نوى”، فهذه هى الأخلاق الدينية إذن، لكن هذا الموضوع طويل وضافي الذيول، وسأختم بقضية أخرى مُهِمة جداً ولها علاقة بالنظرية التطورية السائدة الآن والتي لها للأسف الشديد نصيب الأسد و قصب السبق في تلحيد الشباب العربي المسلم وغير المسلم للأسف الشديد والخروج من الدين ومن الإيمان على خلفية هذا الفهم التطوري وأيضاً التنصل من حقيقة الإلزامات الأخلاقية من المنظور أو الوجهة التطورية، فهناك شيئ إسمه علم الأخلاق التطوري أو علم النفس التطوي وهو علم يقول لك تطورياً أن كل الأخلاق هذه من تعاطف ورحمة وكرم وتسامح وغير ذلك هى بمثابة خدع خدعتنا بها جيناتنا، فهى ليست إلهية وليست أشياء كامنة في طبيعة الأمور والمواقف أبداً، وإنما هى نوع من الخدع من الجينات Genes فقط، ولكن ما علاقة هذا بالجينات Genes؟!

يقولون لك أن البقاء موجود في الجينات Genes، فهدف الجينات Genes هو أن يبقى النوع الإنساني وأن يبقى الفرد الإنساني وأن تبقى القبيلة وأن يبقى الشعب، وهذا ما يُسمّيه ريتشارد دوكنز Richard Dawkins بالجين الأناني – The Selfish Gene – حيث يقول “نحن مُجرَّد عربات أو مركبات مُثقَلة بالجينات Genes، غالجينات Genes خلقتنا روحاً وعقلاً أو عقلاً وجسماً، والجينات Genes هى التي تُحدِّد الفرد، والفرد يُحدِّد المُجتمَع، فالجينات Genes إذن تُحدِّد المُجتمَع”، وطبعاً هذه النظرة حري بأي عالم سوسيولوجي Sociology أن يُغرِق في الاستغراب من سذاجتها، فأي إنسان درس السوسيولوجي Sociology يعلم أن هذا تبسيط ليس فقط مُخِل بل أكثر من مُخِل بكل الشروط في تعريف المُجتمَع، فهى ساذجة جداً لأن المُجتمَع لا يتحدَّد بهذه الطريقة إطلاقاً، وهذه هىى مُشكِلة التطوريين حيث أنهم تركوا العلم والبيولوجي Biology وجاءوا يتكلَّمون في الفلسفات وفي اللاهوت وفي السوسيولوجي Sociology وحتى في علم النفس وفي الأخلاقيات، وهذا شيئ غريب ومن ثم أحدثوا مُغالَطات وخلطوا الأوراق كلها، ومَن يتأثَّر بهم سيكون حاله الشيئ نفسه، فالمسكين سيُصبِح مُشوَّشاً لا يعرف له سبيلاً ولا يهتدي طريقاً، لكن ما هى الحكاية إذن؟!

الحكاية في نظر هؤلاء أن الجينات Genes تعمل بطريقة بحيث تُمرِّر نفسها فقط حتى لا تفنى، لكن ماذا عن موضوع الإيثار؟!

لماذا أنا أُفضِّل غيري على نفسي؟!

لماذا أقتطع اللقمة من فمي وأُعطيها لجاري أو لابني أو للغريب في الشارع مثل القصة التي ذكرناها الآن عن السامري الصالح واليهودي الذي يُعَد عدواً له؟!

قصة السامري الصالح واليهودي تتحدَّى المنظور التطورية، وهذه القصة لها أمثال أعمق وألطف وأحسن منها ألوف المرات، ليس من حيث القصة وإنما من حيث التضحية، فهناك مَن يُضحي نفسه من أجل أُناس أغارب – أي غُرباء – لا تُوجَد أو لا يمت إليهم بأدنى صلة، ولكن يتحدَّث التطوريون عن الإيثار على أنه نوعان، أي إيثاران، وعندهم طريقة في الإقناع ولكنها غير مُقنِعة بالمرة ويقولون هناك إيثار يُسمَّى إيثار انتخاب أو انتقاء الأقارب – Kin Selection – بمعنى أنني أكون مُستعِداً أن أُضحي وأن أوثر غيري على نفسي إذا كان الغير ابناً لي أو أخاً لي أو قريباً من لحمي ودمي Flesh And Blood، وفي هذا الإطار أُذكِّركم بأمثولة شهيرة لعالم الأحياء التطوري الدارويني المُحدَث جي بي اس هولدين J. B. S. Haldane حيث سأله صحفي ذات مرة قائلاً “بروفيسور Professor هولدين Haldane هل أنت مُستعِد أن تُضحي بنفسك من أجل إنقاذ أخ لك يغرق؟!

علماً بأنه يُريد طبعاً أن يُفحِمه بهذا السؤال الذكي جداً والعميق، فقال له “أنا مُستعِد أن أُضحي نفسي من أجل أخوين لي – أي لأُنقِذ أخوين – أو ثمانية أبناء عم”، فهو رجل ذكي ومن هنا حسب المسألة رياضياً لأنه يعلم أنه يتشارك في علم الوراثيات Genetics أو في علم الجينات Genes مع إخوانه في نصف الجينات Genes ومع أبناء عمه في ثمن الجينات Genes، ويعرف هذا كل مَن يعرف علم الأحياء طبعاً والجينات Genes، وهذا حلو وجميل ولكن هل في الحقيقة الناس تفعل هذا؟!

الناس تُضحي نفسها من أجل مَن لا يمت إليهم بصلة وهذا يحدث هذا باستمرار، وهنا يذكرون أمثلة للمحرقة – الهولوكوست Holocaust – ولغير المحرقة على هذا، فهذا يحدث باستمرار في الدنيا كلها، فيُضحي الواحد من البشر نفسه من أجل طفل غريب عنه لغةً ولوناً وديناً، ولكن كيف يُفسِّر التطوريون الماديون والملاحدة الذين يصدرون عن منطق الأخلاق التطوري هذه الحالة العجيبة؟!

يأتي هنا أكثر مَن دافع عن هذه النظرية العجيبة وهو ريتشارد دوكنز Richard Dawkins صاحب كتاب الجين الأناني The Selfish Gene ويقول بغير هذا الاستثناء اقبلوا نظريتي على أنها مُتماسِكة وقوية، وطبعاً أنا شعرت هنا بنوع من العجز ونوع من اليأس ونوع من الاستسماح، كأنه يستسمحنا أن نقبلها ولكن بالعكس هذا الاستثناء يضرب نظريته في الصميم، وجميل أنه أقر بهذا الاستثناء، حيث قال “يُوجَد استثناءٌ كبير – Big Exception – يتمثَّل في أن الوعي لدى الإنسان جعله يجتاز ويتعالى على إملاءات جيناته الأنانية”، وهذا هو الذي نقوله تماماً، فنحن نؤكِّد باستمرار أن الإنسان من منظور ديني وإلهي هو نشأة أخرى وخلقٌ آخر، قال عز من قائل ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ۩، ولا تُحدِّثني عن جينومي My Genome ومدى تشابه مع الشِمْبانزِي Chimpanzee ومع الأورانجوتان Orangutan لأن هذا لا يهمني، لكن الذي يهمني هو هذه الاستثناءات – Ausnahmen – التي جعلتني بالفعل خَلْقًا آخَرَ ۚ، ومن ثم أتحدى كل هذه المُقارَبات المادية والإلحادية المُخيفة والعجيبة، وطبعاً هذا يحتاج أيضاً إلى إسهاب لنعرف ما هى هذه الاستثناءات وبالتالي هذه الموضوعة تحتاج إلى مُحاضَرة لنتحدَّث عنها ولنعرف ما هى الاستثناءات في عالم الإنسان التي تتحدَّى كل مُقارَبة مادية واحدية بسيطة ومُغلَقة، فهو هو اعترف بهذا ولكنه لم يُقدِّم جواباً عن هذا السؤال وإنما قدَّم مُقارَبتين، فالتطوّريون يُحاوِلون أن يُجيبوا عن هذا التحدي الكبير ولكنهم يفشلون، وطبعاً هناك النوع الثاني من الإيثار وهو الايثار التبادلي، إذن الإيثار الأول هو انتخاب الأقارب وهو فاشل كما قلنا، والإيثار الثاني هوالإيثار التبادلي بمعنى حك لي لأحك لك واحمل عني لكي أحمل عنك، فهذا هو الإيثار التبادلي، أي نوع من مُقايضة المنافع، فهى مٌقايضة حيث يجب عليك أن تنفعني لكي أنفعك ويجب عليك أن تُقدِّم لي الخميس لكي أُعطيك الجمعة.

إذن لدينا نوعان من الإيثار، لكن – كما قلت لك – حتى هذا الإيثار التبادلي يفشل مع بعض الناس ويُعَد كلاماً فارغاً بل ويفشل تماماً خاصة مع الأخلاق الدينية، فكلما فكَّرت وقرأت وحاولت أن أجد بديلاً للأخلاق الدينية أجدني أفشل في هذا لأن هذا لا يُمكِن أن يحدث، فلم أُفلِح – والله العظيم – لحظة واحدة أن أعثر على بديل للأخلاق الدينية الإيمانية الصحيحة المُؤسَّسة على إيمان حقيقي وليس إيمان رياء وإيمان نفاق وإيمان طقوس، وإنما إيمان عيش وتجربة وحياة بالله ومع الله ولله وفي الله تبارك وتعالى، قال رسول الله “ورجلٌ تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه”، هو نفسه لا يعلم ماذا أنفق وليس امرأته أو أبوه أو ابنته، هو نفسه يعمل هذا الشيئ وينسى أنه عمله، فهناك طبقة من البشر يفعل الواحد منهم المعروف ويُلقي به في البحر كما تقول العامة – اللهم اجعلنا منهم – بمعنى أنه ينساه فعلاً، وحين يُقال له “يا أخي أنت قبل خمسة أشهر أعطيت ثلاثة آلاف “، يقول “أنا لم أُعط شيئاً”، ولكن هو طبعاً أعطى ثلاثة آلاف بل وأكثر ولكنه ينسى لأنه عمل هذا لله، فلم يعمله أبداً لكي يكتبه ويُقيِّده في دفتر ولكي يقول أنا عملت كذا وكذا، لم يعمله أبداً لكي يتمنَّن به على من عمله له ويقول له “لحم كتافك من خيري” ومثل هذا الكلام الفارغ السخيف اللاأخلاقي، قال الله إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ۩، فصحيح أن الرسول قال “مَن لا يشكر الناس لا يشكر الله” لكن إذا هو لم يشكر وكان جاحداً هذا لا يعنيني، فلا يهمني شكره ولا يهمني جحوده، فإن شكر شكرت له شكره، وإن لم يشكر فلا يهم لأنني لم أفعل لكي يشكر وإنما فعلت هذا لله، لذلك في الحديث العظيم الذي يهز – والله – عند الترمذي لما خلق الله – تبارك وتعالى – الجبال قالت الملائكة: يا رب هل هناك ما هو أقوى من الجبال؟!

قال طبعاً هناك ما هو أقوى من الجبال، وهكذا إلى آخر الحديث حتى وصلنا إلى ما هو أقوى من الجبال ومن الماء ومن النار ومن الريح ، أي أقوى من الكل وهو ابن آدم المُؤمِن، فهو أقوى قوة خلقها الله في الكون كله وليس فقط في الأرض، فليست الملائكة التي لديها خمسمائة جناح هى الأقوى وليس جبريل وليس أي مخلوق آخر، وإنما ابن آدم هو الأقوى، لكنه ليس الأقوى في العدو أو في الشم أو في الحواس أو في القوة أو في الحمل أو في العقل أو في الذكاء أو في أي شيئ من هذه الأشياء، قال الرسول “ورجلٌ تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه”، ومن هنا الله يقول في الحديث القدسي الجليل عنه أنه أقوى قوة في الكون، إذن ائت لي بأخلاق تحل محل هذه الأخلاق، ائت لي بأخلاق بلا إله تكون مثل أخلاق كانط Kant، علماً بأنني أحترم شخصية كانط Kant جداً الذي بنى هذه النظرية في الواجب والأمر المُطلَق، فهو شخص مُحترَم جداً وبالتالي أكيد كان إنساناً عظيماً بلا شك، يكفي أنه حين كان يموت ابتسم وقال آخر كلمة له وهى “كل شيئ كان جيداً”، فهو يقول أن كله جيد وكأن جاءته البُشرى، فهو إنسان عظيم وإنسان طيب، وشهادة الدكتوراة الخاصة به موجود في رأسها حتى الآن عبارة “بسم الله الرحمن الرحيم” مكتوبة باللغة العربية، فاقرأوا هذا لأنه كان عقلاً جبَّاراً، ولكن مَن مثل كانط Kant؟!

مُعظم الفلاسفة سخروا من فلسفته وقالوا “فلسفة شكلانية تُعطيك إطاراً للأحكام ولكن لا يُمكِن أن تُسعِفك عملياً حين تتضارب القيم”، لذلك يُقال هى فلسفة فارغة Empty Philosophy.

إذن استثن كانط Kant وهو ليس له أمثال كثيرون بعد ذلك وقل لي من أين يُمكِن أن تأتي ببديل عن مثل هذه الأخلاق الدينية الإلهية التي يغدو بها صاحبها أقوى قوة في الكون فعلاً وبالتالي يفعل الأشياء العجيبة التي ذكرتها، ولا تُحدِّثني عن إيثارالأقارب وعن الإيثار التبادلي لأن هذا – والله – يُعَد كلاماً فارغاً!

في تاريخنا الإسلامي تعرفون كلكم الوقف الأهلي أو الوقف الذُري، وهذا يُعجِب التطوريون ويقولون أن هذا هو إيثار انتخاب الأقارب – Kin Selection – لأنك تجعل جزءً من مالك لأقاربك حتى تحفظ جيناتك وجينات Genes العائلة، ولكن هناك شيئ آخر لدينا يُمثِّل ضربة أو صفعة على وجه التطوريين وهو الوقف الخيري، فالإنسان يقف نصف ثروته ويتبرَّع بها من أجل مَن لا يعلم، فكل إنسان حر في حياتي، ومن ثم أنا حر ومن المُمكِن أن أتبرَّع بتسعين في المائة من أموالي وأنا حي لكن بعد وفاتي سيكون ممنوعاً أن أفعل هذا فالوصية بالثلث فقط، وعلى كل حال الوقف هذا هو الذي بنى الحضارة الإسلامية، فمُعظم حضارتنا بناها الواقفون بأوقافهم مثل الجامعات والمدارس والمشافي، وهذا شيئ عجيب لأن هذا الوقف يكون وقفاً خيرياً للجميع وليس على أهلي وأقاربي فقط، وإنما على مَن يحتاجه من الفقراء ومن التائهين ومن أبناء السبيل ومن طلاب العلم ومن المُطلَّقات ومن اليتامى ومن الأرامل، فهناك أنواع كثيرة من الأوقاف هى التي بنت حضارة كاملة، وهذه الأوقاف لا علاقة لها بالإيثار التبادلي ولا بانتخاب الأقارب فكيف يُفسِّرها التطوري إذن؟!

هل تعرفون ماذا يقول التطوريون؟!

هل تعرفون ما هو الوعد التطوري أو الوعد الملاحدي لهؤلاء الملاحدة؟!

يقولون “هؤلاء الذين يفعلون الخير لغيرهم وينسون أنفسهم ويُؤثِرون الغير سواء كانوا من الأقارب أو الأباعد وسواء كانوا مِمَن عرفوا أو مِمَن لم يعرفوا – علماً بأننا لابد أن نذكر هنا أن النبي قال “وتقرأ السلام على مَن عرفت وعلى مَن لم تعرف”، وقال أيضاً “خيرُ الناس أنفعهم للناس”، فضلاً عن أن الله قال كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩،أي لكل الناس وليس للمُسلِم أو للمُؤمِن فقط – فعلوا هذا بسبب جينات Genes أخطأت في التكيف – Adaptation – ولم تُحسِن أن تتكيَّف مع الظروف، وهذا البرنامج الجيني لهؤلاء الإيثياريين ولهؤلاء العظماء – مثل الأم تريزة Teresa مثلاً في السياق المسيحي الكاثوليكي ومثل الخزندارة في السياق الإسلامي في القاهرة – هو برنامج فاشل ويَؤول إلى الفناء، فسيفنى هؤلاء ولن تستمر جيناتهم لأنها فشلت أن تتكيَّف وفشلت أن تكون أنانية”، إذن هذا وعد بالأنانية، فهم يقولون أن الأنانية هى التي تُفسِّر، ولكنني سأُجيب بكلمة واحدة وهى أن هؤلاء يجهلون مرة أخرىكما جهلوا التعريف الدقيق للمُجتمِع أن البشر لا يعيشون بالجينات Genes، وهذا شيئ مُهِم يجب أن ننتبه إليه، فالبشر يعيشون بشيئ أرقى بكثير من الجينات Genes فضلاً عن أنهم لا يعيشون أيضاً بالمادة وبالحس وما يتحدَّد بالمادة والحواس، فالأم تريزة Teresa صح أنها لم تتزوَّج طبعاً لأنها راهبة كاثوليكية ومن ثم لم تُخلِّف ولم تُعقِب ولكنها ليست فانية فنحن الآن نذكرها، والخازندارة في مصر ليست فانية، وكذلك الحال مع ابن رشد والغزالي وأرسطو Aristotle وسقراط Socrates وأينشتاين Einstein، علماً بأنه لا أحد يهتم بمعرفة الوضعية العائلية لسقراط Socrates أو الوضعية العائلية لأرسطو Aristotle أو الوضعية العائلية لابن رشد أو الوضعية العائلية للإمام الغزالي، فأنا الذي يهمني هو الغزالي أو ابن رشد أو جلال الدين الرومي أو العقاد أو فلان من الناس، فهؤلاء عاشوا وخُلِّدوا – وهم خالدون – لا بجيناتهم التي مرَّت أو مرَّروها وإنما بإلهامهم لنا وبإيحائهم لنا وبقدرتهم العاطفية والفكرية والأخلاقية والروحية، إذن الإنسان لا يعيش بالجينات Genes فقط، والمُجتمِعات لا تقتات ولا تتغذّى على الجينات Genes وما تُعطيه الجينات Genes ، لكن التطوريون يجهلون هذا تماماً ولا يلتفتون إليه.

أما الجواب الثاني للتطوِّريين فهو جواب لا أخلاقي وهو أسوأ من صاحبه الأول الذي لا يتعارض معه طبعاً، حيث يقولون “أمثال هؤلاء ليسوا فقط مُتكيِّفين سيئين بل بالعكس هم في حقيقتهم وفي أعماقهم أنانيون ومُنافِقون”، الله أكبر، كيف يُقال عن الذين عاشوا من أجل البشر والبشرية وضحوا بكل شيئ أنهم أنانيون ومُنافِقون؟!

عالم الأحياء الأمريكي المُتخصِّص في علم بيئة النمل والذي كان مُعجَباً جداً ولا جرم بسطوة الغرائز ككل علماء الحشرات إدوارد ويلسون Edward Wilson وصاحب الكتاب الشهير الذي أثار زَوْبَعة في السبعينيات وإلى الآن تقريباً لم ينكشف نقيعها وغبارها وهو كتاب البيولوجيا الاجتماعية ال Social Biology كان يتحدَّث دائماً في نطاق الغرائز والماديات والجينات Genes طبعاً، وكان يقول “حتى هؤلاء الذين ضحوا من أجل البشرية كانوا يطلبون الشهرة ويطلبون الاعتبار ويطلبون التكريم ويطلبون التخليد المعنوي أو حتى يطلبون وجه الله والجنة”، أي أن حتى طلب وجه الله وطلب الجنة يُعتبَر نفاقاً ويُعتبَر مُخادَعةً عنده إدوارد ويلسون Edward Wilson، فهل الجين الأناني The Selfish Gene هو الذي يُمثِّل الإخلاص والنزاهة والأخلاقية في خدمة البشرية وخدمة الناس؟!

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

(12/2/2016)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليق 17

اترك رد

  • بكل صدق
    السنة المقبلة انشاء الله سأفهما، ما أحبه في خطبك د.عدنان هو أنها تضع نقاطا كبيرة في فضاء دماغي أبني عليها جسور ا توصلوني الى كوكب الأرض،
    و في نفس الوقت تلقي بي في أبعاد أخرى أغوص بها في الفضاء المظلم و هذه هوايتي المفضلة السباحة الحرة بلا كلمات….. ♥
    كيف يمكنني أن أصلي؟
    هذا سؤال حر
    .

  • التعبير أو التعليق بعد سماع خطبة من خطبك صعب، لعدة أسباب، خطبك معقدة و ليست بسيطة مع هذا هي جميلة بعمقها…… شخصيا لا أستمع لخطبك لأستفيد معلوماتيا بل لأبحر في أعماق نفسي لأصلحها، كونك مصلح في أمة تنتج الأمراض بشتى أنواعها و الإضطرابات المستعصية ربما هو ما يجعل فلسفتك تغوص نحو اتجاهات مختلفة لتعود في النهاية الى السطح بفائدة….. تعود على المستمع بالنفع تجاوزت الخمس و الثلاثين من عمري أحيانا تبدو لي كبيرة و أحيانا أخرى قصيرة جدا…. كلماتي هذه بالنسبة لي ربما تعبر عن شيء مما أحدثته كلماتك و عندما تقرأ ها أنت أو أو أحد آخد ستفهمهما و تؤولها حسب خلفياتك و الحقيقة هي أنها من الممكن أن لا أفقه مبتغاها [أنا] صاحبتها أو أنت قارءها لأنك لست في مكاني و الكلمات بالنسبة لك ليست هي الكلمات بالنسبة لي…. و أحزاني ليست هي أحزانك و موقعي ليس هو موقعك… أحيانا أشعر أني أحترم الكلمات كثيرا و لهذا أفضل أن لا أترجم المعاني و أتركها خالدة في الفضاء بعيدة عن هذا العالم و لو نسبيا…. تمنيت لو أني لست هنا… في هذا العالم… ♥

  • الصلاة سؤال؟ شغلني طوال حياتي
    لا أقتنع بأي جواب ليس لأني ملحدة بل ربما {….}
    أريد أن أصلي و تمنيت لو كنت مطيعة لكن الأمر ليس كذلك
    لست مطيعة على الإطلاق ، و هذا أمر أحيانا يؤلمني و أحيانا يجعلني أتمرد أكثر… العلاقة بين الله و العبد هي علاقة بين الله و العبد خطبتك مشركون و لا نعلم استخلصت منها حقيقة ان يكتسب المرأ شخصية قوية و مهما كانت المصيبة التي نزلت على رأسه بعلاقته مع الله يمكن أن يستغني بل أن يخطو خطوات نحو تجاوز الزلازل المدمرة التي خلفت الحطام و أفقده الثقة في البشر و من هذا المنطلق أرغب بالصلاة لكني أخاف أن أصبح منافقة

    • صلي وسترتاحين، علاقتكي مع الرحمان إحساس و شعور تجدينه و أنت له مستسلمه مسلمه، صلي بخشوع و تواضع و فرائسك مسترخيه و قلبك متلئلأ بنور القرآن، حينها ستشعرين بقربك للرحمان.

  • على فكرا منذ صغري و أنا أحب كل أطفال العالم و لم أنجب خوفا من تعذيبهم والآن مسحت فكرة بناء عائلة من دماغي بالكلية لأن البشر تساوو في نظري و ما يمكنني أن أعطيه لأبنائي من صلبي أتقاسمه مع أبناء الناس الكل أولادي و هذه هي أفكاري الا أريد أن يصخط عني الله. هل اذا لم أصلي يغضب الله عني؟ كيف أصلي؟ كيف؟

  • خطبك تصيبني بالارق على فكرة أشياء كثيرة كنت أظن ذاتي لن اتجاوز ها وبمجرد تطرقك لها حلت، الأشكال هو أنه وأنا مسبقا كنت أعرف أنها فرض لم أصلي و سأصلي مثلا لتأكدي بأنك ستأمرني بالصلاة أعلم تماما اضطراباتي النفسية لكن السؤال هل نحن كبشر لا نطلع الله حتى نطلع العبد لأنك اذا امرتني بها ربما سأفعل لا أدري لدي شعور بهذا… هل هذا عرض مرضي؟ لم أعد أميز حقيقة…..

  • بعد اذن مسؤولي الصفحة. اريد ان اعرض نصيحة لكل من يعاني اضطراب ديني. وقصدي المساعدة فقط والله يشهد. لاني عانيت منه لفترة محدودة ووجدت الحل له بعون الله تعالى. واتمنى ان تكون مفيد بحق. على كل من يعاني اضطراب ديني ان يؤكد في داخله ان الله موجود وان دين الاسلام هو دين الحق ويردد ذلك. مرة بعد مرة صدقوا ان من يفعلها في نفس اللحظة سوف يشعر باطمئنان مما يدلك ان هذه الكلمات التي ترددها هي حق وغيرها هو من يثير لديك الاضطراب. وعند تصل لهذه المرحلة عليك ان تكمل الطريق حتى تصل الى السعادة الحقيقية.

  • ربما من أسباب هذا الانهيار الأخلاقي الذي نحن فيه تأخُر الزواج ، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الزواج نصف الدين ] و هذا الحديث أصله هو الآية الكريمة { ووجدك ضالاً فهدى } حيث أن هذه الآية أتت بين حالتين هما اليُتم { ألم يجدك يتيماً فآوى } و حالة العَيْلة { ووجدك عائلاً فأغنى } و حتماً مايسبق العيلة هو الزواج لأنه طبعاً لا يأتي العيال إلا بعد الزواج فعلينا نحن أن نفهم أن حالة الضلال المذكورة يُقصَد بها العزوبية و ما قبل الزواج و قد عبّر عنها سبحانه بالضلال و هو ضلال نسبي ـ كما قال الدكتور و ليس مطلقاً و هو حالة من التشتُت الفكري و الاضطراب النفسي و تخبُط في الخطى يشبه إلى حدٍ بعيد الضلال المعروف و لذلك وصف رسول الله الزواج بأنه [ شطر الدين ] … أعان الله الشباب على ما هم فيه و بدل حالهم إلى أحسن حال إنه أرحم الراحمين …

  • اذا اعتبرنا ان العزوبية ضلال فكل العوانس ضالات بموجب العنوسة و العزوبية ليس ضلال و لا مرض و لا اضطراب و لا نتيجة لحالة اجتماعية…… هناك قوقعة مفاهيمية أكثر من ضيقة بل ضالة جدا مفادها أن العزوبية هي سبب الانحلال الاخلاقي كما لو أن المتزوجين كلهم أولياء الله.. لا علاقة للانهيار الاخلاقي بالزواج من عدمه.. عندما لا نريد بدل مجهود في التفكير و البحث الجاد الذي يتطلب زرع رأس جديد فإننا نبحث لمعضلاتنا عن أقرب شماعة…. الفهم الخاطئ للدين هو السبب و تسييس الدين عندما فقد الدين غاياته قبل قرون مع تعرضه للحث لم يتجدد مفاهيميا فأصبح سلطة تعوض السوط فبدل أن يتخلل الى حياة المسلم و يشكل رادعا داتيا تحول الى أحد مسببات الاضطرابات من أهمها النفاق العميق الذي لا يدري صاحبه أنه منافق و كذاب يهرف بما لا يعرف لمجرد اراحته ضميره الذي تراجع قرونا الى الوراء و انقبر بلا رجعة…. الدين بدل أن يكون بانيا تحول الى مدمر هذه هي المعادلة العليا لتأتي تحتها باقي الإشكالات…..

  • عملاً بثناء الشيخ عدنان على كيفية مواعظ عيسى عليه السلام و أن طريقته كانت بضرب الأمثال و أخذ العِبَر من الحكايا تذكرتُ حلقة من حلقات مرايا لياسر العظمة عن امرأة ذهبت إلى القاضي تشكو حياتها مع زوجها و تريد الطلاق منه فقال لها نعم لكن أريد منك أن تصنعي لي قالب كاتو بشرط أن تأخذي كل مادة من مواده من عند جارة من جاراتك أو أقاربك و فعلاً ذهبت هذه المرأة و كلما زارت واحدة من هؤلاء النسوة حكت لها همومها و المشاكل الكثيرة التي تعاني منها فما وصلت لآخر ما يتطلب القالب إلا و وجدت حالها يا ما أحلاه بجانب غيرها و أن ما تعانيه لا يشكل جزءاً بسيطاً مما يعاني غيرها و بعد أن استكملت المواد صنعت الكاتو و قدمته للقاضي قائلة : تفضل يا سيدي القاضي لكني تراجعت عن طلبي الطلاق لأنني سمعت من القصص ما يشيب له الرأس قال لها : و هو المطلوب ما أردت منك هذا القالب إلا لهذه الغاية … فما أعظم القضاة أيام زمان كانوا فعلاً مخلصين لله و يريدون وجهه لا يفرحون بقضية تأتيهم ليأخذوا عليها الفلوس و يجدون في خصومات الناس فوائد كثيرة ليس فقط بما يشبعون بطونهم بل بما يملكون به العقارات و الأراضي و الأملاك الكبيرة على حساب تخاصم الناس و كثرة مشاكلهم …… ! ..

  • على كل حال الدكتور يبعث الطمانينة في النفوس المضطربة لمن اراد ان يبدا حياة متفائلة تتوق للنجاح لمن يطلب النبل ويترفع عن الدنايا ويربك للمستقبل خير المطايا والله اصدقكم القول ان نفسيتي سمت سمو السحاب ونضرتي للاخرين صارت تشبه الى حد كبير جسور الود والمحبة الاخوية لاتخالطها ضغينة ولا حسد بل على العكس مملوؤة بالخير والنماء والارتياح الدي اتمناه لكل من يحس انه بحاجة لدالك

  • قطي كان يمشي على مفاتيح الحاسوب و ضغط على زر لتشكيل الخطبة و اسمعها مرة ثانية و اذا بي اسمع خطبة اخرى مختلفة تماما عن التي سمعتها في الاول و استغربت الامر اذ بي اتذكر اني كنت وسط الضجيج و تذكرت اني كنت اشد شعري و أنتفه كي يصمتو لكن لا جدوى هذا ليس لأبرر
    عدم فهمي لكن فعلا لما وصلت الى المنتصف تبين لي ان المزاج يلعب دورا… و الانسان زعلان لا يكاد يفقه شيئا الاسبوع الماضي كانت ذكرى وفاة والدي و دون ان اشعر مر علي الاسبوع اسود رغم انه كان ثمة مبررات كثيرة لأفرح لكن لم اشعر بشيء الا الحزن و لم اتذكر الذكرى الا اليوم بعد ان قمت بمراجعة احداث الاسبوع… اسبوع مليئ بالضجيج… على كل حال انا متأكدة انني في المرة الثالثة سأسمعها بلون مختلف… كنت اعتقد دوما أني غبية لكن تبين لي أن الحياة مجرد زوايا هناك اختلاف في القدرات طبعا لكن من المهم ان يجد الانسان زاوية ابصاره الحياة أحيانا تبدو لي معقدااااا ا أحيانا بسيييطة وأحيانا سوداء قاتمة وأحيانا ملونة وأحيان ا بلا لون كما التيفوييد لكن شيء لا يكاد يتغير جنون الانسان حقيقة شبه مطلقة الناس مجانين و الله العظيم ياااا لاااااهوييي مصيبة و كارثة و الله… أنا مجنونة و الآخر مجنون و كل الناس مجانين و لي ربي رضى عليه يهديه… بصراحة انا بدأت أخاف شيء غريب لا تكاد تكمل جملة مفيدة علك تعثر على من هو أعقل منك فلا تلبث ان تخرج أحدهم من إطاره حتى ينهار بكل معنى الانهيار. أنا حزينة هذا اليوم و البارح و غدا قررت أن أحاول فهم خطبك بعمل مفيدة دون أن أستغرق عاما أو عامين هي المدة التي تتطلبها معالجة المعلومة في دماغي طويلة هههههههه لكن سأجد حلا أكيد لأن المسافة هذا الاسبوع تقلصت بسبب تغير مزاجي وكأني قطعت عدة أشهر و حاولت وأنا أسمع أشياء أخرى تغيير توجه أفكاري فكانت نتيجة غير متوقعة عموما اليأس غير جيد و لو الناس قساة جدا جدا عزائي هو أنني أرى المسكين مسكين و المجنون مجنون و الظالم مخدوع و أنا لدي الحق في الحياة…. و الحياة لعبة و ليس كل ما يلمع ذهبا و نحن أمم مسكينة و الارض و السماء و الشجر يرثون لحالنا و يستغفرون الله لنا…….عندما تخلو الحياة من المحبة يرتفع العلم هذا ما يبدو لي لأن الايمان الحقيقي بالله هو حب الغير بغض النضر…. و الاشكال هو انك ترى الناس كلهم يقولون و يرددون نفس الكلام بين عند الفعل أشباح… الحب هو العلم بذاته لا يمكن أن تحب الخلق الا إذا عرفت رب الخلق و العلوم بشتى أنواعها تزرع في القلب المحبة لأنها بساط سلامة العقل….. المهم نحن قوم قساة القلوب حقيقة هذا ما يحزنني.

  • عَرض الدكتور في آخر خطبته لشبهة التطوريين في جوابهم عن خاصية الإيثار والعمل الخِّير من كونها ناتجةً عن جينات خاطئة في التكيف اولا ، وثانيا – ما نقله عن ادوارد ويلسون – من كونها تصرفات تعود في نهاية الأمر الى تعزيز رغبة الأنا وتصب في تغذيتها ، ثم أجاب عنها بأجوبة خطابية ضعيفة لا تُكافيء وقعها في النفس .. وهذا أمر مُلفت وعجيب !! .. هل يريد الدكتور أن يلفت انظارنا الى الشبهة أكثر من لفتها الى دحضها ؟!

%d مدونون معجبون بهذه: