إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُه وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَالْفَجْرِ ۩ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ۩ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ۩ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ۩ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ۩ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ۩ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ۩ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ ۩ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ۩ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ ۩ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ ۩ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ۩ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ۩ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ۩ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ۩ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ۩ كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ۩ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۩ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا ۩ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الكريمات:

كل وضع من الأوضاع وكل حالة من الحالات – خاصة على مُستواها الجمعي أو الاجتماعي – تجد مُبرِّرها بشكل ما، بغض النظر عن صحة ونصيب هذه المُبرِّرات من الحق أو الباطل، لكن لابد من مُبرِّر، لأن الإنسان يبدو أنه لا يستطيع أن يعيش بلا إطار مرجعي، لا يستطيع أن يعيش بلا عدسات، لا يستطيع أن يعيش بلا نظرية، حتى وإن كان إنساناً غير فاضل وغير مُستقيم.

الآيات الكريمات التي تلوناها من سورة الفجر، فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ۩، وإن لم يشكر نعمة الله سُبحانه وتعالى، وإن لم يعرف حق هذه الكرامة، منطقه أن الله – تبارك وتعالى – اصطفاه محض اصطفاء، منطق أشبه بالعنصرية، أشبه بالعرقية، الله أحبه من بين سائر عباده، من غير أي مُبرِّر، من غير أي مُسوِّغ، ربما للونه، ربما لحسبه ونسبه، ربما لتراث أهله، وربما لمذهب جماعته، الله أحبه ولذلك أكرمه، وعطاء الله إياه علامة على كرامة الله له، هو يرى أن هذا من باب الاختصاص، في حين أن هذا الإنسان نفسه وعينه إذا ما حُرِم – إذا ما اختبره الله تبارك وتعالى وابتلاه بالحرمان وليس بالعطاء – ظن أن هذا الحرمان إهانة وعقوبة، والإنسان الأول الذي ظن خطأً أنه مُكرَّم لأن الله – تبارك وتعالى – اختصه بالثروة وبالمال وبالعز وبالجاه ينظر أيضاً إلى الفقراء والمعوزين على أنهم مُعاقَبون، وأنهم يستحقون ما وقع بهم، لا يستحقون كرامة الله!

القرآن هنا يُريد أن يعرض لنا بشكل واضح وجلي ومُبسَّط ومُباشِر منطقاً يجري إلى اليوم تدعيمه وتكراره على مدى القرون، وللأسف باسم الأديان، جرى اعتماد هذا المنطق لإفهام الفقراء والمُستضعَفين والمسحوقين أن هذا الفقر عقوبة إلهية على الأعمال الشريرة، وأن الغناء والتمول والثراء إنما هو مُكافأة الفضيلة ومُكافأة الأعمال الصالحة، مع أننا إذا فتَّشنا عن هذه الأعمال لن نجدها بين يدي وظهراني هؤلاء المُثرين والمُتموِّلين، القروش والحيتان! لكن هكذا عُلِّم ودُرِّسوا باسم الدين.

هناك منطق أشد شراسة من هذا، هذا المنطق شرس بلا شك وخطير، لكن هناك منطق أشد شراسة منه، يقول الفقير حين يكون فقيراً – ليس عنده مال والمُجتمَع لا يحتاج إلى ما يُتقِنه من صنعة أو من عمل – فلينصرف، الآن كيف ينصرف؟ هذه مُشكِلته، ليذهب! هل هناك مَن يقول هذا؟ نعم، مُؤسِّسو الاقتصاد الحديث، علماء كبار جداً وخطيرون، أظن أننا جميعاً سمعنا بمالتوس Malthus، أي توماس مالتوس Thomas Malthus، صاحب مقالة في مبدأ التكاثر أو الانفجار السكاني An Essay on the Principle of Population، ذكر في هذا الكتاب المُؤسِّس للاقتصاد الحديث – ذكر بالحرف، كما يُقال بالنص والفص – الآتي، قال أولئكم الذين يُولَدون من أبوين لم يتركا أو من أبوين – نستطيع أن نقول – أو آباء أو والدين لم يتركوا لهم ثروة كافية – أي لكي يرفعوا خسيستهم بها في المُجتمَع ويُحصِّلوا أغراضهم ومصالحهم – وفي الوقت عينه المُجتمَع في غناء أو في غُنية عن المهن والأعمال التي يُتقِنونها، ليس لهم أدنى حق في أن يُطالِبوا بأدنى قدر من الطعام، بل أكثر من ذلك عليهم ألا يكونوا حيث هم، وجودهم نفسه غير مُبرَّر، لماذا هم هنا؟ وبرَّر هذا العبث وهذه الوحشية التنظيرية – أي مالتوس Malthus – بقوله لأن مائدة الطبيعة العظيمة ليس فيها مكان شاغر، وحين يستأذن هؤلاء لن يُؤذَن لهم، ستصرفهم الطبيعة وستقوم بشكل سريع بتنفيذ أوامرها!

لذلك اليوم نحن نستغرب، لِمَ هناك حضارات وإمبراطوريات وقوى احتازت تسعة أعشار ثروات البشرية ثم هي تُدبِّر حروباً يُقتَل فيها الملايين؟ مئات الألوف والملايين يُقتَلون، لكي تستنزف البقية الباقية من ثروات وخيرات الشعوب، مُعدَّل استهلاكهم وتبديدهم للثروات وللنعيم المذخور في هذه الأرض يُوازي مئات وأحياناً أكثر من مئات أضعاف ما يستهلكه هؤلاء المسحوقون، إلا أنهم غير راضين، ويتوسَّلون كل وسيلة، أخلاقية كانت أو غير أخلاقية، من أجل أن يُتمِّموا مشوارهم هذا، ومن هنا دعا توماس كارليل Thomas Carlyle هذا الاقتصاد بعلم الاقتصاد المُتوحِّش وكان مُحِقاً، أي Savage، قال هذا علم مُتوحِّش، لأنه بُرِّر على هذا المنطق.

القرآن لم يخل من ذكر أمثال هذه التبريرات وحذَّر منها، وأراد أن يبني أمةً وأن يُنشئ جيلاً بل أجيالاً وأمة بالحري تنطلق من منظور مُختلِف تماماً، من إطار مرجعي يختلف تماماً عن هذا العبث المُتوحِّش، المُتردي برداء العلم، المُتلبِّس لباس النظريات العلمية، اقتصادية وغير اقتصادية، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ ۩، هؤلاء لا مكان لهم، الله هكذا اختار، جعلنا أغنياء وضربهم بفاقرة أو بفواقر الفقر، أنُعدِّل على الله؟ انتبهوا! بعض المُسلِمين يتوسَّل هذا المنطق الكفور الآثم الجحود، حين يقبض يده – والعياذ بالله – أو حتى – ليس حين يقبض يده فقط – حين يبخل بإمكاناته وقُدره المُختلِفة، يُبرِّر موقفه هذا وحالته المشينة الآثمة هذه بأنه لا يُريد أن يُعدِّل على الله في حكمته وتقديره، الله هو الذي شاء ما هو كائن، وليس في الإمكان أبداع مما كان، هذا ما أراده الله تبارك وتعالى.
هذا المنطق القدري الكفور بُرِّر به الشرك أيضاً والوثنية وعبادة الحجر والبشر والشجر، وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ۩، الله هو الذي اختار هذا، أليس كذلك؟ لأن هذا وقع في الكون، ولا يقع في الكون إلا ما يأذن به الله، إذن الله أراد الوضع على ما هو عليه، لماذا تأتي أنت يا محمد وأتباعك وأصحابك لتُعدِّلوا على الله تبارك وتعالى؟ نسيَ وينسى هؤلاء ويتغافلون عن حقيقة مُهِمة جداً جداً وبدهية، وهي أن الله – تبارك وتعالى – ليس من شأنه أن يتعرَّف علينا عبر القدر وحده، بالعكس! لو تعرَّف علينا عبر القدر وحده لساقنا إلى أن نكفر به وأن نُنكِره وأن نرى الظلم والشر والخطل وعدم ما يُفهَم وعدم ما يُبرَّر في ساحة الوجود، لكنه وعبر سلسلة الأنبياء الذهبية من آدم إلى الخاتم محمد – صلى الله عليهم وآل كل وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – شاء وشاءت حكمته أن يتعرَّف علينا عبر خطين مُتواصِلين: خط القدر وخط الشرع، وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۩، أين؟ أين في كُتب الله وأين في شرائع الأنبياء أنه أمر بالفحشاء، أنه أمر بقتل الفقراء، أنه أمر بطردهم مثلاً، أنه أمر برفع الأغنياء لغناهم والاستماع لكلامهم ونظرياتهم المُتوحِّشة فقط لأنهم أغنياء؟ أين في شرائع الأنبياء أن الله أكرمهم بأن أغناهم؟ أين هذا؟ أين هذا؟ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ۩.

إذن شاءت حكمته أن يتعرَّف إلينا عبر خطي القدر والشرع كليهما، حكمة القدر لن تُفهَم جُزئياً إلا عبر الشرع، وإذا لم تشأ أن تُحاكِم القدر إلى الشرع فسوف يبدو لك هذا القدر مُبهَماً مُستغلِقاً ومُتوحِّشاً وظالماً – غير عادل – طبعاً، ولنأخذ المسألة التي نحن بصددها، مسألة فقر الفقير – مثلاً – وغنى الغني.

الفقر كحقيقة وجودية موجود، شاء الله – تبارك وتعالى – أن يُعطيه حظاً ونصيباً في الوجود، هذا هو الجانب الأنطولوجي للمُشكِلة، ولكن أليس هناك جانب أخلاقي يتدخَّل فيه الإنسان وحرية الإنسان وخيارات الإنسان في هذه المسألة؟ بالعكس! هو الجانب الأعظم، لأن الإنسان المُختار يستطيع أن يُساهِم في رفع حاجة المُحتاجين وعوز المُعوزين، يستطيع أن يُساهِم في رسم بسمة على هذه الوجوه القاتمة المحزونة المكروثة، يستطيع! وهو مأمور شرعاً بأن يفعل هذا في كل شرائع الأنبياء والمُرسَلين، لكنه لا يفعل، إذن الشر الوجودي – إذا تعلَّق الأمر بالفقر – إذا ما وُضِع مُباشَرةً في سياق واحد تفسيري تحليلي مع الشر الأخلاقي بدا غير شر، بدا سؤالاً يطرحه القدر، هذا ابتلاء، انتبهوا! هو ابتلاء، هكذا نستطيع أن نفهم خُطة الله – تبارك وتعالى – في هذه المسألة وفي نظائرها ومثيلاتها من خلال المنطق الذي شاء الله – تبارك وتعالى في عليائه – أن يُقيم عليه الوجود الإنساني كله، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ۩، لماذا؟ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۩، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ۩، أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ۩، لا يُمكِن! مخلوق لتُبتلى، هذا هو المنطق العام، أي منطق الامتحان، الأوضاع القدرية هي مُجرَّد أسئلة يطرحها القدر في ساح التكليف الإنساني وفي ساح الاجتماع البشري، أسئلة! عليك أن تفهم هذا الوضع القدري على أنه اختبار إلهي، على أنه سؤال، وأنت عليك الإجابة، تحدٍ واستجابة! كيف؟ هل ستنجح أم سترسب في الامتحان؟ كثيرون جداً هم الراسبون والذين لا يزالون يرسبون ويُكرِّرون أخطاء الراسبين والفاشلين، كما قال توينبي Toynbee مرة لا شيئ يفشل مثل النجاح، الذين نجحوا قلة والنجاح يفشل كثيراً، الرسوب والفشل هو الذي يُكرِّر نفسه باستمرار، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ۩، الله يقول وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ۩، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۩، إذن لا شيئ يفشل مثل النجاح ومثل الفلاح، وهكذا!

أيها الإخوة:

فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ۩، هل هذه حقيقة؟ هل العطاء الإلهي للإنسان – عطاء الأموال والثروات والجاه والعز الدنيوي – علامة إكرام من الله لعبده؟ الله كذَّب هذا التبرير وهذا التفسير، وفي الحقيقة هو تبرير أكثر منه تفسيراً، انتبهوا! هو تبرير أكثر منه تفسيراً، فقال كَلاَّ ۩، كَلاَّ ۩ كذَّب بها – سُبحانه وتعالى – كلا قوليهم في كلتا حالتيهم، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ ۩، إذن المسألة ما هي؟ سؤال يطرحه القدر، الفقر سؤال، سؤال مطروح من قبل القدر، وغناك سؤال، انتبه! ليس حالة استحقاقية، ليس علامة على كرامة ورفاهية إلهية، أنت ممنوح وهو ممنوع، كَلاَّ ۩! وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ۩، الله قال كَلاَّ ۩، هذا غير صحيح وهذا غير صحيح.

ستقولون لي ما معنى كَلاَّ ۩ هذه وما أعقبها من قوله بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ۩؟ كيف ينتظم السياق؟ ما معنى هذا الترتيب للآيات؟ انتبهوا حتى نفهم القرآن فهماً صحيحاً، وأُحِب أن أفتح قوسين لأقول (إذا أحبننا أن نُمارِس أو نُحدِث ونُبلوِّر تغييرات جيدة لكنها في نهاية المطاف تبقى صغيرة وميسورة فعلينا أن نعتمد على تغيير المسالك، على تغيير الفعال، على تغيير الأساليب، أساليب العمل! يتحقَّق لنا تغييرات تراكمية صغيرة، إذا أردنا أن نُحقِّق تغييرات هائلة وبقفزات مُخيفة – شبه مُعجِزة – علينا أن نكف عن التفكير كثيراً في الأساليب والمُمارَسات، لننتقل أولاً وقبلاً إلى تغيير المنظورات، المفاهيم! المنظور في الأول لابد أن يتغيَّر، الــ Paradigm لابد أن يتغيَّر، ما يُعرَف في علم الاجتماع وفي الفكر بعامة بالــ Paradigm، أي الإطار المرجعي والعدسات التي ترى من خلالها موضوعك، ترى ذاتك بها، ترى العالم وترى موضوعك، أي حالة درسية، هذه العدسات تُسمى الــ Paradigm.

ولنأخذ هنا – مثلاً – هذه المسألة، إذا فهمنا أن الغنى والفقر هي علائم على الإكرام والإهانة – منظور خاطئ جداً – لن نصل ولن يُمكِن أن نُبلوِر أساليب عملية ومُمارَسات طيبة في إصلاح المُجتمَع، سنفشل دائماً! لماذا فشل هذا الفكر الذي أُسِّس – كما قلنا – على نظرات مُتوحِّشة؟ لن نذهب في فلسفة تطور هذا الفكر مذهباً أبعد مما تسمح به الخُطبة، وليس المقام مقام ذلك، على كل حال لن ننجح نجاحاً حقيقياً، الآن أكثر البشر جوعى أو متخومون؟ جوعى، اقرأوا الإحصائيات، بعضهم لا يشعر بهذا لأنه غير جائع، لا يشعر بالجوعى، ملايين يموتون من الجوع، ملايين يموتون بأسباب الأمراض، وعلاجها بسيط جداً جداً ببضعة دولارات، لكن مَن يُقدِّم هذه؟ لا أحد، لماذا؟ لأن منطق مالتوس Malthus لا يزال حاضراً، منطق توماس مالتوس Thomas Malthus لا يزال حاضراً! لا مكان لهم على مائدة الطبيعة العظيمة، فلينصرفوا! لكن يبدو أن الطبيعة ليست هي التي تُسارِع – كما قال مالتوس Malthus – إلى تنفيذ أوامرها وتلبيتها، بل هم البشر المُتوحِّشون، المُسمون علماء ومُنظِّرين واقتصاديين وحكّاماً وقادة وأباطرة للعالم، هم هؤلاء المُتوحِّشون! يُمارِسون هذه المذبحة الصامتة كل حين على حساب البشرية، على حساب مشوارها، وعلى حساب اعتبارها كبشرية، سيدينهم التاريخ ويدين الساكتين من أمثالنا!

هناك عبارة لرجل حكيم – حق حكيم – قال فيها لكي يعمل الشيطان ويُحقِّق انتصاراته لا يحتاج إلى أكثر من أن – ماذا؟ هل لا يحتاج إلى أكثر من أن يجتهد ويتعب ويعرق ويركض من مكان إلى مكان؟ – يجلس الأخيار دون أن يفعلوا شيئاً، هذا هو! ولذلك نحن كنا – وفعلاً كنا ولسنا الآن – خير أمة، ليس فقط لأننا نُؤمِن بالله – هذا أسس وتأسيس – ولكن لأننا مع ذلكم وإليه نأمر بالمعروف وننهى عن المُنكَر، ندمغ الباطل، نفضحه، نتحسَّس منه، لا نُطيقه، نُجاهِده، نُناضِله، ولذلك نحن في حرب مع كل الشياطين، انتبهوا! مع كل الأبالسة، من العوالم الظلمانية التحتية ومن العوالم الفوفية أيضاً المُظلِمة وإن ادّعت التنور، قال ليس على الشيطان لكي يعمل ويُحقِّق انتصاراته أكثر من أن يجلس الأخيار دون أن يفعلوا شيئاً.
تقول وأنا مالي؟ وأنت مالك؟! هذا الجواب لن يُجديك عند الله يوم القيامة، ستُسأل عنه، انتبه! كل قضية تحضر في وعيك أنت مُكلَّف بها نوع تكليف أمام الله تبارك وتعالى، ما رأيك؟ كل قضية تتحسسها وتعلم أنها مُشكِل ويحتاج إلى حل أنت مطلوب بالمُساهَمة في الحل ولو في إطار بسيط جداً جداً، تستطيع أن تقوم بأعمال صغيرة، ليس مطلوباً من كل واحد منا أن يقوم بأعمال عظيمة، العظماء قلة وندرة! ولكن لو كل واحد قام بعمل صغير طيب لاجتمعت هذه الأعمال ولأصبحت سيلاً يُشكِّل عملاً عظيماً فيه روح الجماعة، أليس كذلك؟ كل واحد يُنير شمعة، ومن ثم ستستنير المدينة في ليلة حالكة دامسة، لو كل واحد خرج بشمعة! لكن هذه السلبية لا يعرفها المُؤمِن الحقيقي، يعرفها المُؤمِن الشكلاني المُزيِّف، المُؤمِن الذي منظوره للإيمان وللعبادة منظور خاطئ بالمرة، خاطئ البتة من أصله!

وسأطرح سؤالاً هنا بمُناسَبة هذين القوسين المفتوحين، لا يزالان مفتوحين! أسأل نفسي وأسأل إخواني هل أجدني وهل تجد نفسك عابداً مُتديناً حين تُعلِّم الجاهل، حين تُطعِم الجائع، حين تُدرِّب التائه على الفضيلة والالتزام والأخلاقية، حين تنطق بالحق وتدمغ الباطل وتفضح هذا الباطل، حين تنصر الحق بموقف أو بكلمة أو بدعم مادي أو رمزي؟ هل تجد نفسك عابداً لله – تبارك وتعالى – تماماً كما تجد نفسك عابداً صافاً قدميك في محراب الصلاة أو طائفاً بالبيت العتيق؟ أكثرنا ليس كذلك، يجد نفسه عابداً فقط وهو يُصلي أو يُتمتِم بالأذكار ويُطقطِق بالمسبحة أو يطوف بالبيت أو يقرأ القرآن، هذه العبادة! أما أن يجد نفسه عابداً حقيقةً ويتزلَّف إلى الله ويشعر بالقُربان من الله وهو يُعطي الأرملة والمسكين ويرحم المُصاب ويكفي العوزى ويسد الخلة ويُساهِم في إصلاح المُجتمَع ويُنمّي العالم من حوله علماً ومسلكاً وأخلاقاً وأمناً وإيماناً وسلاماً وإسلاماً فلا، إذن منظور خاطئ، لذلك كل أفعالنا في نهاية المطاف هي أفعال تُشبِه أن تكون صفرية، بسيطة جداً جداً، لا أثر لها حقيقياً، أعني أفعال العبادة، أي الأفعال العبادية، المنظور خاطئ للعبادة.
مثلاً أين نحن من النصوص التي تُؤكِّد صحة المنظور الذي لم نصطنعه جيداً أو لا نعرف كيف نصطنعه؟ تقول عائشة – أم المُؤمِنين رضوان الله تعالى عليها – قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – مَن أدخل سروراً على بيت من بيوت المُسلِمين لم يرض الله له ثواباً – أي يوم القيامة – دون الجنة، هذا هو! لكن لا يُوجَد حديث يقول لك صل ركعتين أو صل فرض الجُمعة أو الظهر وسوف تدخل الجنة البتة، لا يُوجَد حديث على هذا النحو، غير موجود، بالعكس! تُوجَد أحاديث تقول لك لابد وأن تُصلي كل يوم خمس مرات، ولو تركت فرضاً واحداً عامداً فقد برئت منك ذمة الله، هذه أحاديث صحيحة، ممنوع! لكن أدخل سروراً على بيت من أبيات المُسلِمين أو حتى على بيت من بيوت عباد الله، من البشر المُحتاجين البائسين المكروثي، قال لم يرض الله له ثواباً – أي يوم القيامة – دون الجنة أو إلا الجنة، هذا حق! والنصوص مُتظاهِرة مُتكاثِرة على تأكيد هذا المعنى وتقريره.

مَن لقيَ أخاه المُسلِم بما يُحِب – يُوجَد شيئ أعده له، قضى له حاجة، أتاه بما يحتاج، أخبره بأنه قضى عنه دينه، أو سامحه في دينه هو، فهو مدين له، أي شيئ – ليسره سره الله يوم القيامة إذا لقيه، الطبراني في الأوسط بإسناد حسن، وهذا حق، هذا حق! لكن انظروا إلى الأنانية ماذا تفعل بأصحابها، الأنانية تجعله يلقاك لكي تُسَر بمسرته هو، يتمنى عليك أن تُسَر بنجاحاته هو، ماذا أعمل بنجاحاتك يا أخي وأنا فقير معوز؟ أنا مُحتاج، أنا عار، أنا ظمآن، أنا خمصان، أنا تعبان، وأنا مُذل ومُهان، ماذا أفعل بنجاحاتك؟ ألم تشبع نجاحاً؟ يُريد من الناس جميعاً أن يشبعوا بنجاحه هو، أن يسعدوا بنجاحه، أن يُسَروا! هذه الأنانية، مُشكِلة الإيمان أنه لا يُجامِع الأنانية، أول وأعظم ما يُعطيه الإيمان للإنسان أنه يُخرِجه من داعية أنانيته، يجعله للكل، يجعله للجميع، للأمة، للخلق، للبشر! يجعله عالمياً كما أن دينه عالمي، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، يجعله عالمياً كما أن نبي عالمي، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.

بالمُناسَبة الأنانية على عكس ما تظن، أي ما تظن الأنانية هي نفسها وأصحابها، على عكس ما تظن الأنانية! الأنانية لا تخدم صاحبها، لا تخدم ذاتها، الأنانية تتغذى على ذاتها، وبالتالي تستهلك نفسها، وبالتالي أنا أزعم أن كل أناني في نهاية المطاف سيكون فاشلاً، وسيكون ضحلاً ومُسطَّحاً وبلا عمق حقيقي، سيقف وحده كدودة الأرض التافهة، لا قيمة! هل تعرف كيف؟ بفلسفة بسيطة وميسورة جداً تماماً، الأناني ليس عنده قوة التواضع، علماً بأن التواضع قوة، انتبه! هذا مبدأ أخلاقي، كل الأخلاق قوة، أن تكون مُتواضِعاً هذه قوة، تحتاج إلى قوة شخصية، أن تكون مُتكبِّراً هذا ضعف، يستطيعه كل إنسان خاوٍ، كل إنسان خاوٍ وفاشل يستطيع أن ينتفخ لأنه ضعيف، لكن أن تتمتع بقوة التواضع هذه قوة، أن تتعلَّم وأن تسأل وأن تستفيد وأن تُقِر بالفضل لأهله وأن تُثني على الناس بما تعلمه منهم هذه قوة، تحتاج إلى قوة شخصية، لكنها قوة بارئة من كل شوب الأنانية.

فإذن الأناني ليس لديه قوة التواضع أن يرى مزايا الآخرين، إيجابيات الآخرين، عطاء الآخرين، وصلوحية الآخرين أن يُتعلَّم منهم، أن يُستفاد منهم، أن يُثنى عليهم، وأن يُتعاون معهم، لا يستطيع! ليس عنده القوة، يرى نفسه وحسب! أنا في بالي الآن وأنا أتحدَّث رجل أناني كبير، كبير بمعنى أنه شهير، لكنه صغير حتماً، هو كبير بمعنى أنه مشهور في العالم، هذا لا يستطيع أن يرى حتى في محمد – صلى الله عليه وسلم – رجلاً يُتعلَّم منه، يقول لماذا محمد؟ لماذا تُصلون على محمد، بماذا جاء محمد هذا؟ مسكين! مُشكِلته ليست فكرية، انظروا إلى فكره وفكر أمثاله، ضحل تماماً، ليس عنده شيئ من فكر، هذا هو طبعاً! هذه نظريتي في الأنانية، لا يُمكِن أن يكون الأناني صاحب فكر حقيقي، يستحيل! لا يُمكِن أن يكون صاحب شخصية غنية وثرية ومُكتفية، يستحيل! لذلك هو خاوٍ ومُسطَّح، طبل أجوف! لكن له صوت وله رنين وطنين وتطبيل، كالطبل يُسمَع صوته من بعيد وجوفه من الخيرات خالٍ، طبل! هؤلاء هم الطبول، أعني الأنانيين، يقول ما الذي جاء به محمد؟ ماذا عند محمد ليُعلِّمنا؟ طبعاً أنا أتفهم هذا الأناني المسكين، هو بسبب ضعفه وبسبب أنانيته ليس عنده قوة أو بصر أن يرى ما في الآخرين، محمد رأى فيه حتى أعداؤه وحتى المُستكبِرون العالميون وفلاسفة الشرق والغرب أكثر من عظيم، بعضهم رأى فيه أعظم عظيم في التاريخ، وهذا رأى الحق، أعظم عظماء التاريخ شئت أم أبيت رأوا هذا، هذه هي الحقيقة، وتراثه يقول إنه أعظم البنّائين، أعظم المُصلِحين، وأعظم المُنجِزين أبداً في تاريخ البشرية كلها.

على كل حال لا نُحِب أن نُطيل في هذا، فالأناني ليس عنده القوة أن يرى إيجابيات الآخرين، ولذلك الأنانية تغدو قوةً حاجبةً، تحجب الإنسان عن الآخرين وتحجبه عن نفسه، عن أن يُنمّي نفسه، عن أن يُزكّي نفسه، وعن أن يستفيد مما عند الآخرين رمزياً أو حتى مادياً، لا يستطيع أن يستفيد، هو في نفسه أضعف من ذلك، لكن كل ما يُريده وكل ما يهفو إليه أن يُصبِح حديث المُنتديات، أن يُصبِح رجل التاريخ، وألا يكف الناس عن تمدحه وعن الاستعانة بمنابع حكمته الأصيلة فهو مُتربِّع على عرش الحكمة، ولن يفعلوا، لن يفعلوا! لأنه في الحقيقة ليس عنده هذا، الناس عندهم قوة أن يروا الحقيقة أحياناً، والحقيقة أنه خالٍ وأنه طبل، انتهى كل شيئ، انتحر! انتحر بأنانيته.

وبالمُناسَبة العجيب في الأنانية أنها قد تتوسَّل الفضيلة والخير والحق أحياناً، ما رأيكم؟ كيف؟ انتبهوا! هذا الحديث مُعقَّد الآن، وهذا أيضاً فرع الحديث عن الإخلاص والصدق في الدين، أهم شيئ في الدين أن يكون مُخلَصاً وخالصاً لله، حتى لا يكون أنانياً، وحتى لا يكون ضعيفاً هشاً، كيف؟ مثلاً – من خلال المثال يتضح المعنى – أُمية بن أبي الصلت شاعر حكيم، شعره فيه حكمة وفيه توحيد لله، هو ثقفي، أي من ثقيف، وكان يدعو إلى الله وإلى توحيده وإلى الخير، وفي ذهنه نبي يُبعَث في آخر الزمان، كان يرسم – كما نقول بالعامية – على نفسه، يظن أن الله سيصطفيه لحكمته، الرجل في جوهره لم يكن فاضلاً، الرجل كان أنانياً، يتوسَّل كلمات الحق ويتوسَّل دعوة الصدق لكي يعظم هو في نفسه، لينتهي به الأمر والمطاف إلى أن يكون نبياً، يُسلَك في سلك الأنبياء العظام، أعظم البشر وأطهرهم، ولما بُعِث محمد – صلى الله عليه وسلم – القرشي – ليس الثقفي – جحده وكفر به، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – آمن شعره – أي لسانه – وكفر قلبه، فالرجل صغير وحقير، حقارته مُتأتية من أنانيته، لم يستفد بحكمته، لم يستفد بالحق الذي توسَّله وتاجر به، في النهاية لا ليخدم الحق، لو خدم الحق سيكون من أتباع محمد، بل سيرضى أن يكون أصغر أتباع محمد، لا بأس! لأن الحق هو الذي سينتصر، هذا هو الرجل الكبير البارئ من الأنانية، لكن إذا لم انتصر أنا نبياً وإذا لم أُجيَّر أنا نبياً فلا كانت النبوة ولا كان الحق، فعاد كافراً، فهو صغير، انتحر بالأنانية، حدود الأنانية ليست مفتوحىة، حدود مُغلَقة جداً، إنها حدود الذات الصغيرة، أما حدود الأخلاقية والإخلاص والصدق البارئ من التمثيل والادّعاء فهي حدود عالمية كونية، تنداح وتتسع باستمرار، وهذا شرط النماء الروحي والنفسي كما يُقال.

المُفارَقة – وهذا عجب، هذا برهان العظمة المُحمَّدية – أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين – رُغم كفر هذا الصغير به – الشاعر الصغير، الحكيم لسانه، الكافر قلبه – لم يمنع نفسه ولم يحرم نفسه حظها من أن يستفيد بحكمة لسان هذا الشاعر، كان يُحِب شعره، كان يستنشده حفظته، حتى أن استنشد يوماً أحد أصحابه من حفظة شعره أُمية بن أبي الصلت مائة بيت من أبيات شعره وأردفه على دابته، كان رديفه على الدابة وقال له مائة بيت في رحلة بسيطة جداً جداً على ظهر دابة، والنبي كان يقول له هيه، أي هات، زِدني زِدني، هذا الكلام حكيم، لماذا؟ لأن محمداً لم يكن أنانياً، محمد لم يكن ليعبد ذاته لأنه كان عاشقاً للحق، لا إله إلا هو! عاشق الحقيقة لا يكون أنانياً، والأناني لن يكون يوماً أو ساعةً عاشقاً للحقائق، انتبهوا! على الأمة أن تسبر هذا في قاداتها، في قاداتها السياسيين والعسكريين والروحيين، مَن تتبدى منه شوائب أنانية على الأمة أن تُنحيه، لأنه في الأخير سيتخذ من جماجم الأمة – جماجم أبنائها ورجالاتها – سلماً لمجده الشخصي، وهذا ما وقع فيه كبار أنانيي قادة البشرية، وعطَّلوا مشوارنا وأعاقونا، الإيمان يأتي براءة حقيقية من كل شوائب الأنانية مُنذ البداية.

بالأمس بعد صلاة التراويح قصصت على إخواني قصة، لابد – أجدني مدفوعاً – أن أقصها عليكم، أحزنتني حقيقةً، وأنا مُتأكِّد أنها ستُحِزن الجميع، في الأيام الأولى للمدارس – مدارس أولادنا هنا في النمسا – جاءتني بُنياتي وقلن أبتِ إننا نشعر بضيق شديد حين نستقل هذا الباص Bus – أي الحافلة – إلى المدرسة، ونحن نقطع محطتين، قلت لماذا؟ قلن زحام شديد جداً جداً، قلت لا بأس، الله المُستعان، هاتان محطتان! في اليوم الثالث تقريباً من أيام الدراسة جائتنا رسالة، بُعِثت طبعاً إلى كل الآباء والأمهات، رسالة طويلة ولطيفة جداً من إدارة المدرسة، تقول هناك مُشكِلة في المُواصَلات التي تُوفِّرها البلدية، لا تستطيع أن تُوفِّر عدداً أكبر من الباصات Buses، فالرجاء من الآباء والأمهات الذين يعلمون أن أبناءهم قريبو الموضع من المدرسة أن يندبوهم إلى أن يتمشوا بدل أن يستقلوا الباص Bus، لكي نُخفِّف العبء على البلدية ونُخفِّف على أبنائنا أيضاً، وهذا حتى من ناحية صحية قد يكون خيراً لأبنائكم وشكراً، وقِّعوا! فوقَّعنا، العجيب أن في اليوم التالي جاء البنات ليقلن أبتِ أصبح الباص Bus شبه فارغ، يعلم الله أنني فرحت بهذه الأخلاق الحضارية، ثقافة! ثم نتساءل لماذا تقدَّموا علينا؟ ماذا عندهم؟ عندهم أشياء كثيرة ليست عندنا، مع أن أصلها كلها في ديننا وأكثر منها والله بكثير، لكننا مردنا على أن نُتاجِر بالكلام، بالدين كلاماً، لا نستطيع أن نُحيله ثقافة حقيقية، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، وبين قوسين أقول {هذا بعد أن دفع الجميع رسوم الاشتراك في مُواصَلات المدرسة، كلنا دفعنا، كلهم دفعوا! بعضهم دفع من شهر ستة، في آخر شهر ستة، لم يقل أحد منهم لماذا أفعلها أنا؟ ليفعلها غيري وبالتالي سنجد الباص Bus غاصاً كما هو، الباص Bus فرغ في اليوم التالي مُباشَرةً، عشرات فقط الذي يأتون من المناطق البعيدة النائية، هل هنا روح أنانية؟ انتبهوا! لا يُمكِن أن تُشاد الثقافات والحضارات والمدنيات بالأنانيات، قد ترى أنانية في بعض جوانب الشخصية، لكن إذا تعلَّق الأمر بالمُجتمَع ورفاه المُجتمَع وحركة المُجتمَع والآخرين هناك غيرية ملحوظة، انتبهوا! لنكن صادقين ولنكن واقعيين، لنُغلِق الآن القوسين ولنعد إلى موضوعنا}).

إذن قرآنياً ليست القضية على هذا النحو المُتوحِّش من أنحاء التفسير والتبرير، إنما هي ابتلاء، إذا ما وضعنا الشر الوجودي كالفقر مثلاً – الفقر، المرض، الزلازل، والبراكين، هذه شرور وجودية كما يُقال – في سياق واحد مع الفقر الأخلاقي – بخل الأغنياء، لؤم الأغنياء، أنانية الواجدين، استكانة المعوزين وضعفهم، ودجل الدجاجلة من رجال الدين وتبرير هذه الأوضاع وتمنية الناس بالنعيم المُقيم إن هم صبروا على ما هم فيه بمنطق الدين، في كل الأديان هذا يجري تدعيمه باستمرار للأسف الشديد – سنرى أن الشر الوجودي ليس شراً، إنما هو مُجرَّد اختبار، سؤال! لو جاءك أستاذ في الجامعة وسألك سؤالاً ملغوماً هل ستقول هذا الرجل شرير والسؤال شرير؟ ليس شريراً، إنه عالم حاذق، يُريد أن يعرف حظك من العلم الحقيقي، لا يُريدك أن تستظهر معلومات هكذا، وإنما يُريد أن يعرف نفاذك في العلم كما يُقال، فلغَّم لك سؤالاً، ابتلاك بسؤال، بالعكس! هذا أستاذ مُتمرِّس، إن كنت طالباً فاشلاً ستفشل في الجواب عن السؤال وينتهي كل شيئ، وستبقى تعزف معزوفة أنه شرير، أنه أستاذ شرير، ليس شريراً وليس ماكراً، ابتلاك بسؤال صعب فقط، هذا سؤال صعب بلا شك، وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ۩، الله يقول هذا، بلا شك هذه فتنة وهذا سؤال صعب، لكن الله الذي شاء أن يتعرَّف علينا عبر قدره شاء أن يتعرَّف إلينا عبر شرعه، وأمرنا ألا نمنع الحقوق مَن يستحقها – ألا نمنعهم حقوقهم – وأن نُصرِّف الحقوق في مُستحقيها، وإلا فجهنم لنا بالمرصاد، وغضب الله دنيا قبل أُخرى في انتظارنا، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ۩، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ۩، وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ۩، حتى إن لم تأت العقوبة على النحو الذي تتخيَّله أنت، قد تأتي على نحو أكثر غموضاً، لكنه أكثر إيلاماً، فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۩، ستكون هذه الأموال سبب تعاستهم وتعاسى أولادهم وذويهم، ستكون سبب إخفاقهم وفشلهم، ستكون سبب الطلاق وانهيار الأسر وتمرد الآباء وفساد البنات وانتهاء الصدقات والمحبات والمودات، ستكون سبب الإفلاس الحقيقي، هذه الأموال نفسها ستكون هي السبب، هذه طريقة الله تبارك وتعالى.

إذن علينا أن نتعبَّد الله وأن نتعرَّف إليه كما تعرَّف إلينا عبر قدره وشرعه معاً، إن تعرَّفنا إليه عبر قدره وحده سيكون ما ذكرنا، لن نفهم خُطته، سنتهمه، لا إله إلا هو! أما إن تعرَّفنا إليه عبر الخطين فسنتعرَّف عليه حقاً، وسنُحمِّل أنفسنا وبالتالي سنتحمَّل مسئوليتنا إزاء الأوضاع.

قبل أن أختم هذه الخُطبة الأولى أُحِب أن أطرح سؤالاً جوابه في الخُطبة الثانية إن شاء الله تعالى، وبالتالي سؤال الخُطبة اليوم – هذه الخُطبة لها سؤال، وهو سؤال كل واحد منا، وسؤالنا جميعاً كمجموع أو كجماعة – ماذا فعلت إزاء الأوضاع؟ بماذا عادت الحياة مني؟ غداً أتولى، طال عمري أو قصر عمري غداً أتولى، هذه حكمة الله، أن تطول أعمار وتقصر أعمار هذه حكمة الله، لكن أنا مسؤول عن عملي وعن خياراتي، كما قال ابن الرومي:

أعمارنا جاءت كآي كتابنا                                منها طوال فُصلت وقصار.

ولكن سنتولى! وهنا سنُفاجأ بالمكتوب في لوح الله – تبارك وتعالى – بل في صحائف الأملاك المُكرَّمين، أن آثارنا كلها مكتوبة، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۩، كل ما تركت وكل ما خططت في هذه الحياة هو مكتوب، أرني خطك، أرني أثرك، كم طوله؟ كم عُمقه؟ كم عرضه؟ بعض الناس طول خطه متر في عرض نصف متر ربما وفي عُمق خمسة سنتيمتر، بعض الناس سيترك خطاً طوله من هنا إلى يوم القيامة، وعرضه ربما يسع أمة وربما يسع العالمين، وهنا عظمة الشخصية، وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۩.
سؤالك، سؤالي، سؤالها، سؤال الجميع في النهاية: ماذا قدَّمت للحياة؟ ماذا فعلت إزاء الأوضاع؟

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                    (الخُطبة الثانية)
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما جواب هذا السؤال – أيها الإخوة – فسأتلوه عليكم في شكل تجربة مُغرية ومُؤثِّرة وبالغة، تجربة ذاك الذي سمعتم أنه نال جائزة نوبل Nobel للسلام في أكتوبر ألفين وستة، وهو مُسلِم، بروفيسور Professor أو أستاذ الاقتصاد في جامعات بنغلاديش محمد يونس، طيَّب الله ذكره، هذا أقام من نفسه قدوة لأمته، استطاع أن يُترجِم كيف يكون التدين الحقيقي، وبدأت قصته كالتالي:

قال بدأت قصتي قبل عشرين عاماً، هذا قبل أن يتم مشروعه الذي سيأتيكم ذكره – إن شاء الله – أو نبأه، قال بدأت قصتي قبل عشرين عاماً، حين كنت بروفيسوراً Professor أو أستاذاً في الجامعات – في جامعات بنغلاديش – أُدرِّس الاقتصاد بالدكتوراة التي أنا فخور بها واحتزتها من جامعات USA، أي من أمريكا، وهي دكتوراة في الاقتصاد، أي الــ Economy، قال وفي يوم من الأيام – لحظة التفات، سُبحان الله! لحظة إشراق إلهي على صفحة قلبه – نظرت فوجدت أنني أُدرِّس في الجامعة هؤلاء الطلّاب الذين عندهم قدرة على دفع النفقات ومُواصَلة التعليم، لكن في الشارع هناك الآلاف بل الملايين الذين يرتقبون الموت، هياكل عظيمة! معروفة  بنغلاديش، من أكثر البلدان فقراً وهي بلد إسلامي للأسف الشديد، أين بترولنا؟ وأين خيراتنا؟ الله أعلم ونحن نعلم، المُهِم قال مشيت مرة في الشارع وشعرت بعبثية ولا جدوى الموقف، فعلاً وجد نفسه في مشهد سريالي، مشهد غير معقول، عبثي! يُدرِّس الاقتصاد ويقول الاقتصاد يُحقِّق الرفاه والكلام الفارغ هذا، أين الرفاه؟ أين المُوازاة؟ أين الفُرص؟ وأين التكافؤ؟ لا يُوجَد من كل هذا أي شيئ على الأرض، الناس تموت! قال شعرت بعبيثة ولا جدوى الموقف، هو نفسه جُزء من هذا الموقف السريالي العبثي، قال وقرَّرت أن أتخلى عن نظرة الطائر – أي Bird’s view – الذي ينظر من علٍ، هل تعرفون لماذا؟ لأن هذا الطائر كلما حلَّق بالذات يُجرِّد الأوضاع ويستطيع في نهاية المطاف أن يُحوصِلها في جُملة، هذه الجُملة لن تُترجِم ولن تُشعِرك بنبض الشارع وبنبض الجمهور، لن تسمع من خلال هذه الجُملة أنات، وهذه الجُملة قد تكون جُملة إحصائية، أي نسبة كذا وكذا، نسبة كذا وكذا تتمتع بكذا، ثمانون في المائة محرومون من كذا، لن تشعر من خلال هذا التجريد الذي حصل لك بنظرة طائر بنبض الفقراء، بأنات اليتامى والثكالى، وبحاجات الأرامل، كيف يُضحي الناس أحياناً حياتهم من أجل أولادهم لكي يُطعِموهم ما يتبلَّغون به؟ كيف تبيع النساء فروجهن ويُتاجِرن بأبضاعهن من أجل ألا يموت رضعائهن؟ لن تجد هذا أيها الطائر المُحلِّق، قال قرَّرت أن أُصبِح دودة – دودة أرض تتلمَّس وتشم – لكي أجد شيئاً مما هو حاصل عن قرب،عن كثب، وعن تجربة، أن أعيش هذا الوضع، ثم لأسأل نفسي هل عساني أستطيع أن أفعل شيئاً إزاء هذا الوضع؟ وكانت بدايتي – قال – مع امرأة صناع – تصنع جيداً، امرأة صناع، أي صناع اليد كما يُقال – تنسج الكراسي من الخيزران بجودة ماهرة وبجودة فائقة، قال وأدى الحديث إلى أن أفادتني أنها تربح كل يوم – ولله الحمد والمنّة – بنسين، أي تربح بنسين أمريكيين، وهو واحد من خمسين من الدولار، جُزء من خمسين من الدولار، تخيَّلوا! هذا ما تربحه في اليوم، قال كان هذا صادماً لي، ثم تأدى الحديث إلى أن سألتها ولِمَ؟ إنك صناع، أنت تصنعين كراسي جميلة ومُمتازة، وتستحقين أكثر من هذا الربح بكثير! قالت لأنني لا أملك المال الذي أشتري به الخيزران، أي المادة الخام – أي الــ Raw – ليست عندي، ولذا يُقرِضني تاجر، تاجر مُسلِم طبعاً، ليس بعيداً أن يكون إماماً في مسجد، انتبهوا! هذا يحدث في عالم المُسلِمين، هذه المُفارَقات السريالية تحدث، وهذا معروف، سمعنا عن بعض هؤلاء يُتاجِرون في أعراض النساء والعياذ بالله، شيئ فظيع، ولذلك هو يُقدِّم العبادة إلى الله – كما أقولها دائماً ولست نادماً عليها – كرشوة، يظن نفسه يرشو الله، أعبدك من هنا واسمح لي أن أفعل ما أُريد يا رب، فيرتاح! وهكذا المفهوم الشكلاني للعبادة في الأخير يُفرِّغها من حقيقتها ويُصبِح ضد رسالتها، انتبهوا! هذا ما يحصل للأسف بطريقة أو بأُخرى في عالمنا.

قالت اقترضه من تاجر، ثم – هذا الشرط – أُعيد إليه البضاعة لكي يأخذها مني بالثمن الذي يُريد هو، والنتيجة أنها تربح بنسين في اليوم، قال صُدِمت صدمة ثانية حين سألتها وكم هذا المال الذي تحتاجينه لكي تشتري الخيزران؟ قالت عشرين بنساً، قال شعرت بالعار، أي بالــ Shame، شعرت بالعار، هذا عار حقيقي! هل أنا مُسلِم؟ هل هذه أمة مُسلِمة فيها الالآف بل الملايين من أمثال هؤلاء العمّال المهرة الصنّاع الجيدين الماهرين الجادين في عملهم والذين يُؤكَلون وتُؤكَل أرزاقهم من أجل أننا لا نستطيع أن نُوفِّر للواحد منهم عشرين بنساً في اليوم؟ هل سنُعذَر أمام الله بكل السفسطات والفلسفات الدينية والفلسفية؟ قال شعرت بالعار، ولذلك بدأت بالعمل، أخذت أحد تَلامذتي – في الجامعة يدرس الاقتصاد – ودرنا على القرية، وبعد أيام كانت الحصيلة أننا استطعنا أن نُسجِّل أكثر من أربعين شخصاً ما بين ذكر وأُنثى عندهم مثل هذه المهارات، ويحتاجون إلى أموال قليلة لكي يربحوا أكثر مما يربحون، فعلاً مساكين! إنهم يُستغَلون استغلالاً غير مُكافئ كما يُقال في الاقتصاد، هذا استغلال غير مُكافئ، قال وكانت الصدمة الثالثة حين علمنا أن هؤلاء الأربعين في كامل القرية – طبعاً هؤلاء عائلو أسر – لا يحتاجون إلى أكثر من سبعية وعشرين دولاراً لكي يبدأوا بداية ثانية، قال ساهمت في رفع هذا العار، أخرجت هذه الدولارات من جيبي، وقلت لتَلميذي اذهب ووزِّعها عليهم كما استحقوها وكما أخبروا عن استحقاقاتهم، وأخبرهم حفاظاً على كرامتهم أنها سُلفة، بإمكانهم متى استطاعوا أن يُعيدوها، ولم أكتف بهذا، قال ذهبت إلى المصرف الذي له فرع في حرم الجامعة – أي في الــ Campus الخاص بالجامعة – وقابلت المُدير، أستاذ اقتصاد أنا! وقلت له كذا وكذا وكذا، قال ما المطلوب؟ قلت المطلوب أن نُوفِّر قروضاً بسيطة بحسب مُتطلبات هؤلاء الصنّاع المهرة لكي نرفع عوزهم، قال مُستحيل، هل أنت عاقل؟ قوانين البنك واللوائح لا تسمح بهذا، قلت لماذا؟ هؤلاء منا، أبناء بلدنا، ومُسلِمون مثلنا، قال الفقراء لا ثقة فيهم، الفقراء غير جديرين بالقرض، ثم لا يستطيعون أن يُقدِّموا ضمانة وكفالة القرض، قلت كلا، فكرتك خاطئة، سيُعيدون الأموال، قال حتى لو أعادوا فهذه مبالغ بسيطة جداً جداً لا تستحق أن تُعامَل مُعامَلة القرض والإقراض، كلام فارغ! الموضوع كله كلام فارغ، انتبهوا! انتبهوا إلى الإيجابي صاحب الضمير – أعني محمد يونس – وإلى هذا البيروقراطي الجاف المُدّعي العلم والدكتوراة والشهادة والمُديرية وهو مُجرَّد حجر، لا إنسان، بالعكس الحجر أشرف منه، الحجر لا قلب منه، أي عدم الملكة كما يقول المناطقة، لا قلب له، لا ضمير، لكن هذا عنده ضمير داسه بمصلحته، داسه بوظيفته، لكي يُحافِظ على مُديريته، شاهت الوجوه وبئست الموقف! لكن محمد يونس ذهب إلى مَن هم أعلى منه، حتى وصل إلى مُدير البنك المركزي، قال وكان الجواب دائماً ذات الجواب، هل أنت عاقل؟ هذا غير صحيح، الفقراء غير جديرين بالإقراض،لأنهم ليسوا أهلاً للثقة، وكذا وكذا، قال قلت في النهاية لمُدير البنك أنا سأقوم بكفالتهم بنفسي، ما رأيك؟ وكل مَن يعجز عن سداد دينه أنا سأدفعه من جيبي الشخصي، قال إذا كان كذلك فأهلاً وسهلاً، قال ولكنك ستندم، قال قلت لماذا؟ قال لن يُعيدوا إليك أموالك، أنا أعرفهم! قال من حُسن الحظ أنني لم أكن أنطلق من نفس القناعة، بالعكس! الفقراء أُناس طيبون وربما أطيب من الأغنياء وهم جديرون بالثقة، أوضاعهم صعبة، كما نقول دائماً هم طبيعيون – صدِّقوني! أكثر طبيعية من الأغنياء الذين أفسدهم البتر والترف – ولكن ظروفهم ليست طبيعية، هذا باختصار! ولذلك أحياناً يند عنهم تصرفات ليست بالطبيعية، هذا شيئ طبيعي ومفهوم.

قال وكانت المُفاجأة أنهم جميعاً أعادوا المبالغ سنتاً سنتاً وتقدَّمت أحوالهم، قال لأنهم قليل، لو أعطيت عدداً أكبر، قال وغامرت وأعطيت عدداً أكبر فأعادوا، قال ربما لأن المبالغ بسيطة، غداً تزيد المبالغ وينتهبونها ولن يُعيدوها، قال فرفعت المبلغ، صار هناك Marathon، هذا تحدٍ ماراثوني، رفعت المبالغ – قال – حتى يعملوا أكثر ويستفيدوا أكثر وأعادوها، قال ربما الحال هكذا في هذه القرية فقط، لأنها قرية تربت بشكل جيد، أي بنت ناس، قال فراهنوني على خمس قُرى وأعادوها، أي الأموال، ثم راهنوني على خمسين قرية وأعادوها، ثم راهنوني على مائة قرية وأعادوها، وارتفعت أحوال الناس! محمد يونس لا يستأهل نوبل Nobel فحسب، هذا يستأهل أن تُعمَل له جائزة مثل نوبل Nobel باسمه، يستأهل أن تكون هناك جائزة اسمها جائزة يونس بصراحة، لو هذه أمة إسلامية واعية عليها أن تُخصِّص جائزة للسلام حقيقةً اسمها جائزة يونس للسلام، ولا نُريد نوبل Nobel هذه، فقط لكي تخدم في هذه الأوضاع، يستحق أكثر من مائة نوبل Nobel، هذا عبقري، هذا مُسلِم عبقري، إنسان هذا، إنسان حقيقي! علماً بأن المُدير – مدير المصرف العام – وزملاءه لم يقتنعوا كما قال، ظلوا دائماً يُحاجون، يقولون سوف وسوف وسوف لأنهم غير جديرين، قال ثم قلت في نفسي لِمَ أُتعِب نفسي في هذه المباراة التعسة؟ قال وجاءت الخُطة الأخيرة، سأُكوِّن مصرفي بنفسي، وذهبت إلى الحكومة بعد أن أعددت الخُطة كاملةً واستغرق الأمر سنتين كاملتين، مُعامَلات وإجراءت واذهب وتعال، قال وبعد سنتين – في سنة ألف وتسعمائة وثلاث وثمانين – كان المصرف جاهزاً، Grameen Bank for poor people كما يقولون، هكذا اسمه! بنك غرامين Grameen Bank أو مُؤسَّسة غرامين Grameen Foundation المصرفية، قال وشرعنا بحمد الله  ونحن نُواصِل.

اليوم يا إخواني – نحن في ألفين وسبعة – هل تعلمون أن بنك غرامين Grameen Bank – ويرأسه البروفيسور Professor محمد يونس طيَّب الله ذكره وكثَّر من أمثاله، هذا المُسلِم العابد، هذه العبادة الحقيقية، هكذا يكون التقرّب إلى الله بأمثال هذه الإنسانية المُنفتِحة البارئة من الأنانيات وصغائر الذات الصغيرة – أو مُؤسَّسة غرامين Grameen Foundation المصرفية أقرضت أربعة ونصف بليون دولار؟ أقرضت أربعة آلاف وخمسمائة مليون، أي أربعة ونصف مليار بالألماني أو بالأمريكي بليون، أقرضت أربعة ونصف بليون دولار – مُنذ سنة ثلاث وثمانين – للفقراء والمساكين، يعمل فيها اثنا عشر ألف مُوظَّف، اثنا عشر ألفاً يعلمون فيها، وقد بدأت برجل واحد، وهو محمد يونس الذي يدور على هذا وعلى ذاك لكي يتوسَّل ويجعل نفسه كفيلاً، يعمل الآن عنده اثنا عشر ألف مُوظَّف، وهذه المُؤسَّسة المصرفية تتعامل مع ستة وأربعين ألف قرية في كامل بنغلاديش، تتعامل ستة وأربعين ألفاً! قل تتعامل مع خمسين ألفاً جبراً للكسر، تتعامل مع خمسين ألف قرية، هذا يعني أنها تتعامل مع عشرات الملايين، بجهود رجل واحد! سأل نفسه ما دوري؟ سأل نفسه ما دوري لرفع هذا الشر ولتخفيف هذه المُعاناة؟ أحس بالعار، أحس بالخجل من كونه مُسلِماً في أمة مُسلِمة تعيش هذه الأوضاع وتحتاج إلى عشرين بنساً.

هل تعرفون ما معنى أن يُوفَّر لها عشرون بنساً، أي خمس الدولار؟ أنها ستُعلِّم أولادها في الجامعات، ما رأيكم؟ أنها ستحفظ فروج بناتها، أنها ستُساهِم في إثراء المُجتمَع، في نبالة المُجتمَع، وفي رفع المُستوى الأخلاقي والقيمي للمُجتمَع، هذا معنى عشرين بنساً، لكننا ندفع في بارات Bars أوروبا وكازينوهات Casinos أمريكا الملايين – حاشاكم – في العهر، ثم نلبس لباس المشايخ ونتكلَّم باسم شرع الله والدين الإسلامي، ألا تباً لهؤلاء وتباً لهذه الأوضاع!

أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يفتح علينا وعلى أمتنا بالحق وهو خير الفاتحين، وأن ينتشلنا من هذه الوهدة التي تجد دائماً مُبرِّرها وتبريرها باسم الدين وفي آي الدين، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩.

اللهم اهدنا واهد بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا، واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر.

اللهم اغفر لنا في هذا الشهر الكريم في هذه الجُمعة المُبارَكة في هذه الساعة الطيبة المُبارَكة كل ذنب أذنبناه وكل خطيئة أسلفناها.

اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحُسنى ونضرع إليك ونبتهل أن ترحمنا في شهر رمضان وأن تغفر لنا ذنوبنا كلها في شهر رمضان وأن تجعلنا فيه من عتقائك من نار جهنم، اللهم اعتق فيه رقابنا من نار جهنم ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وقراباتنا وأنسبائنا وأصهارنا وجيراننا ومشايخنا وأساتيذنا والمُسلِمين والمُسلِمات أجمعين بفضلك ومنّك وكرمك إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكرو الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(21/9/2007)
http://www.facebook.com/Dr.Ibrahimadnan

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: