إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ۩ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ۩ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ۩  فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ۩ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ۩ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ۩ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ۩ قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ۩ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ۩ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ۩ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۩ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ۩ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ۩ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۩ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ۩ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ۩ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

بسؤالٍ نبدأ: هل نُسامِح أنفسنا؟ هل يُسامِح أحدنا نفسه؟ هل يقول أحدنا أحياناً لن أُسامِح نفسي على الفعل الفلاني أو الفعل العلاني؟ سيُسارِع أكثرنا بالحري إلى القول طبعاً فهذا شيئٌ بدهي، نُسامِح أحياناً أنفسنا أو أحياناً لا نُسامِحها ونُرهِقها بالتأنيب والتبكيت واللوم والمعتبة، وفي الحقيقة قبل أن نُبادِر إلى جوابِ هذا السؤال الذي سيظهر أنه سؤالٌ كبير وغائرٌ في أعماق خبراتنا الروحية والنفسية والمسلكية أُحِب أن أقول بداهةً أن المُسامَحة لا تكون إلا بعد مُحاسَبة، قد تدق هذه المُحاسَبة وقد تكون مُستفصِّلة وقد تكون مُتساهِلة مُتسامِحة إلا أنه لابد منها لكي تأخذ المُسامَحة معناها ودلالتها، فلا يُقال برَّأت المحكمة المُتهَم إلا إذا كانت محكمة، لابد من محكمة أولاً حتى يُبرَّأ هذا المُتهَم، أما أن يُبرَّأ بلا محاكمة فهذا لا معنى له، هذا تبرير للجريمة وتقنيع للجريمة وتزييف للجريمة ثم انتهاك لمعنى البراءة وتجاوز لضرورة المُحاكَمة والمُحاسَبة، لكن  ما علاقة هذا بسؤالنا هل يُسامِح أحدنا نفسه أو هل نُسامِح أنفسنا؟

إخواني وأخواتي:

لازمة من لوازم الإنسان – من لوازم ابن آدم – أن يُسامِح نفسه، لماذا؟ لأن من لوازمه الندم، والندم لازمة من لوازم الذنب والتقصير والخطيئة، وهذا هو الإنسان، وإلى الآن ما من جديد فهذا يحصل معنا جميعاً، فالذنبُ والخطأُ والتقصيرُ والخطيئةُ من لوازم الإنسانية، قال رسول الله لو لم تُذنِبوا وتستغفروا لذهب الله بكم ولأتى بقومٍ آخرين يُذنِبون فيستغفرون فيغفر لهم، لماذا؟ لأن هذا هو الخليفة الذي أراده الله تبارك وتعالى، لو شاء أن يستخلف أملاكاً مُنزَّهين معصومين لفعل كما في سورة الزخرف، ولكن لم يشأ – لا إله إلا هو – هذا، هو لم يُرِد أن يستخلف الأملاك أو الملائكة المُسبِّحين المُقدِّسين المعصومين – لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ  ۩– ولكن شاء وأراد – سبحانه وتعالى وجل وعز – أن يستخلفنا نحن الكائنات الخطَّاءة، وأبونا أول خاطيء – تقول الآية الكريمة وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ۩، وتقول آية أخرى أيضاً رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسنَا ۩ – طبعاً، فهو أراد هذا، ولكن ما معنى هذه الفرضية أيضاً التي تقول لو لم تُذنِبوا؟ لماذا يقول النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – هذا القيل؟ حتماً هو تلمَّح وربما لمس ورأى أنفاراً  وأعداداً منزورين من الناس يلعبون هذا الدور الزائف التألهي، ليس حتى الملائكي وإنما التألهي الزائف، وهو دور الإنسان الكامل الذي لا يُخطيء ولا يقترب من الخطيئة ولا من وراء وراء ولا من بعيد بعيد،
وبالحري لمس – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن هؤلاء بالذات هم أشد الخلق على الخلق وهم أكثر الناس قسوةً على عباد الله  تبارك وتعالى، فهؤلاء هم الذين يلعبون -انتبهوا لم أقل الذين يُؤدون لأن هذا الدور لا يُؤدَّى، وما من بشر يستطيع أن يُؤدِّي هذا الدو ، هذا الدور ليس لنا،  فنحن أبناء آدم وكل بني آدم خطَّاء – هذا الدور، لكن النبي قال كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ، فلماذا يُقرِّر النبي هذه البدهات؟ يُقرِّرها لكي يُقيم بها حاجزاً وسداً منيعاً دون طوفان هذه الدعاوى المُخيفة المُرعِبة، وهى دعاوى الاستكمالية والربوبية والتأله الزائف وأننا الأفضل وأننا الذين لا نُخطيء وأن منا تُؤخَذ معالم التُقى وسوى الطريق، فنحن المعيار ولذا حتى النص عند اللزوم يتأخير، فانتبهوا لأن النصوص تتأخَّر والشرع يتأخَّر ويتقدَّمون هم لأنهم هم المعيار، فمُخالَفتهم مُخالَفة لقطعي النص الذي لا يحتمل وجهين، وهكذا يتصرَّفون، لذلك هم خطيرون جداً ولذلك يُسارِعون إلى التكفير وإلى جلد الناس وإلى إصدار أوامر حتى بإفناء الناس وبإعدام الناس، ويقولون هؤلاء هم محل الغضب واللعنة فلنُعجِّل بهم إلى أمهم الهاوية بالقتل، لماذا لا؟ وهذا شيئ خطير، لكن كل الأديان وكل البشر عموماً مُصابون بهذا، فهذا الدور إن جاز أن يُسمَّى أو يُوصَف أو يُنعَت هو دورٌ إبليسي، هذا ليس دور البشر إنما هو دور الشيطان، فالشيطان لا يُسامِح نفسه، لماذا؟ لأنه لا يعلم للخطيئةِ معنى، فالشيطان لا يعرف معنى الذنب ولا معنى الخطيئة، ولذا انتبهوا لأن هذا هو درس اليوم، فالإنسان حين لا يعرف معنى الذنب حقاً يستحيل شيطاناً، ولذلك نعود إلى السؤال الذي أصبح الآن كاللغز وهو هل تُسامِح نفسك؟ قبل أن تُسامِح نفسك لابد أن تُحاسِب وتُحاكِم نفسك، وقبل أن تُحاسِب وتُحاكِم نفسك لابد أن يكون لديك معناً واضحاً على الأقل معنىً مخبوراً للخطيئة وللذنب وللتجاوز وللهشاشة البشرية وللضعف الإنساني، فأبوك خبر هذا وأنت تدعي أنك ربما لم تخبره وأنك المعصوم وأنك الإله الكامل، فإبليس هكذا كان لأن إبليس لا يعرف للخطيئة معنىً، علماً بأننا سنُوضِّح هذا وسنُوضِّح بهذا الصدد معاني جديدة، فإذن لابد أن يكون للذنب وللخطأ وللخطيئة وللشرط البشري – نحن  نُسميه الشرط البشري لأن هذا هو الشرط البشري  –  دلالة مخبورة لديك، لأن الدلالات قد تكون دلالات مُتخارِجة أو خارجية وتُعطيها اللغة والدراسات النظرية وإصدار الأحكام على البشر وإدانة البشر ولكن كل هذا لا يُساوي شيئاً، فتكرار النصوص وتحفظها وقال الله وقال الرسول وقال سيدي فلان وسيدي علان وقال الشاعر وقال الناظم والناثر لا معنى له، فالمعنى الحقيق بأن يكون معنى هو الذي تخبره، لماذا؟ لأن هذا يتعلَّق بشرطك كإنسان، فهذا هو الشرط الإنساني، ونحن أبناء آدم الذي لم يجد الله له عزما على الخطيئة ولكنه أخطأ، وأياً ما كان المعنى الذي نذهب إليه في تفسير قول الله وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ۩ – هل هو بمعنى لم نجد له تماسكاً وعزيمةً تقيه أن ينزلق أو وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ۩ بمعنى إرادة جازمة على أن يعصينا – فالشرط الإنساني يتقوَّم بالهشاشة، وضعف الإرادة هشاشة والنسيان هشاشة – فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ۩ – أيضاً، فهذا هو إذن، ولذا يُوجَد عدم التماسك عند الإنسان الذي هو من طين وماء، لأنه مُستقطَّب – كما نقول دائماً – بين قطبي بعيدي التفاوت جداً، بُعد ما بين التراب ورب الأرباب، أليس قبضةً من تراب الأرض؟ أليس نفخةً من روح الله؟ هذا هو الإنسان وهذه هى دراما الإنسان، هو قبضة من تراب ولكنه نفخة من روح علوية، من روح الله لا إله إلا هو، ومن هنا دراما الإنسان ومأساة الإنسان المُتكرِّرة، فمطلوب منه أن يتوتَّر كيانياً وجودياً أنطولوجياً بين هذين القطبين، كيف؟ بُعد ما بينهما لا يُقدِّره إلا الله تبارك وتعالى، وإبليس اللعين حين برَّر إباءه وعصيانه – أَبَى ۩ – أتى بضرب خاص من ضروب العصيان، على عكس سيدنا آدم – وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ ۩ -، وقطعاً آدم عصى ربه ولكن إبليس معصيته من لون خاص، تُمثِّل ضرباً شديد الخصوصية لا يعرفه إلا أبالسة البشر الذين استحالوا أبالسة وقرَّروا أن يستحيلوا شياطين – شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ  ۩ – مِمَن اطمأنت نفوسهم بالشر، ومن ثم حين تقول لي ما تعريف الشيطان عندك؟ فإنني بكلمة واحدة أستوحي كتاب ربي وأقول هو الذي اطمأنت نفسه بالشر، فهو مُطمئن جداً بالشر ويُحِبه ويعشقه ويُزيِّنه للناس، فرسالته أن يُشيعه وأن يُسوِّده في الكون، أما المُؤمِن والإنسان الفطري الذي أُلهِمَ التقوى كما أُلهِم الفجور إن اطمأنت نفسه كإنسان – إذا لم يفقد إنسانيته – فلا تطمئن إلا بالخير وإلا بالتقوى، فيبقى إنساناً إذن، وإذا حصلت له الطمأنينة حصلت له المُفارَقة اللانهائية تقريباً للمسلك الشيطاني، فالشيطان في أفق وهو في أفق، لأن هذا مُطمئنٌ بالشر وهذا مُطمئنٌ بالخير، قال الله  يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً ۩، فهى ليست ملعونةً مسخوطة، لكن مَن هو اللعين المرجوم المسخوط ؟ إبليس، فهذا يرجع ملعوناً وذاك يرجع مرضياً، لأنه اطمأن بالخير، أما إبليس فاطمأن بالشر، كأن الانحياز إلى جانب الله – تبارك وتعالى – يعني الطمأنينة بالخير، وكأن الانحياز إلى جانب الشيطان يعني الطمأنينة بالشر، وهذا يجب أن يُقال لمَن أراد أن يُدافِع عن إبليس، وقد تقول لي وامصيبتاه، وهل ثمة مَن يُدافِع عنه؟ كثيرون، حتى بين أبناء العرب والمسلمين، وهذا شيئ غريب، فما هذه الفلسفة الكسيحة؟ ما هذه الفلسفة البائرة الخائبة؟ كيف يُقال هذا عن إبليس؟ طبعاً سيقول لك مَن يقول هذا أنا لي فلسفة خاصة، لأنهم طبعاً تأثَّروا بتوماس مان Thomas Mann وبجوته Goethe وبكثيرين مثل مفستوفيليس Mephistopheles شيطان جوته Goethe في فاوست  Faust، وطبعاً هو حوَّله إلى بطل وفيلسوف ومُتكلِّم كبير، فالرجل يُصدِّر ويُنتِج أفكاراً من نوع خاص، وعلى كل حال هم تأثَّروا بمثل مفستوفيليس Mephistopheles، وللأسف لدينا في التراث الصوفي فيما يُنسَب إلى بعضهم هذا، وهو موجود في المطبوع والمُحقَّق، مثل طواسين الحلَّاج، فهذه كارثة لأنه أول دفاع ماجد عن إبليس، إبليس في المنظور الحلَّاجي – الحسين بن منصور – يستحيل إلى العابد الأوحد لله، فحتى إبراهيم ونوح وإدريس ومحمد وموسى ما عبدوا الله كما عبده إبليس، وإبليس هو العارف الأوحد، أعوذ بالله، ما هذا؟ انتهاءاً بأمل دنقل الذي قال:

المجد – أستغفر الله العظيم – للشيطان .. معبود الرياح.

مَن قال “لا” في وجه من قالوا “نعم”.

مَن علّم الإنسان تمزيق العدم.

مَن قال “لا” .. فلم يمت,

وظلّ روحاً أبديّة الألم!

 فهو يقول المجد للشيطان، وهذا غير صحيح، فإذا كان المجد للسلب فالمجد للجهالة إذن، هذا ذوب الجهالة، هذا ليس شعراً وإنما هذا ذوب الجهالة من هذا الشاعر الكبير، وهم حتماً لم يلتقوا بالشيطان يوماً، فلم يكن هناك ثمة لقاء – Meeting – بينهم وبين الشيطان، هذا مُستحيل، وحتماً لم يُفض إليهم الشيطان بسيرة ذاتية أو بطبوغرافية سيكولوجية لشخصيته لكي يتعرَّفوا تفاصيل سايكولوجيا إبليس وتلافيف دماغه وأغوار نفسه السوداء المُظلِمة الزواحفية التمساحية، فإذن من أين لهم هذا المفهوم – Concept – وهذه الصورة – Image – عن إبليس؟ من الشائع بين الناس، الشائع الأسطوري الميثولوجي والشائع الديني التقليدي، ونحن هنا نتحدَّث باسم الدين ونُدافِع عن الدين وعن النص الإلهي، ولا تعنينا الميثولوجيا Mythology، فمَن أراد الميثولوجيا Mythology فليدرس الميثولوجيا  Mythology، فإرنست كاسيرر Ernst Cassirer وأمثال هؤلاء درسوا هذا الموضوع، وتستطيع أن تقرأ جوته Goethe وتوماس مان Thomas Mannدون أي مُشكِلة، ولكن نحن نتكلم هنا بإسم الدين على الأقل كما ندعي، وهذا تبجح – أعوذ بالله من التبجح – حين نقول أننا نتكلم بإسم الدين، لكن نحن نُحاوِل ونستلهم الدين، فيجب أن نتواضع وأن نتعلَّم أن نتواضع، وعلى كل حال بحسب التصور – وهذا الذي يعنينا – المأخوذ من المصادر الدينية التوحيدية في اليهودية والنصرانية والإسلام إبليس قوة لا يُمكِن أن تكون هى القوة التي علَّمت الإنسان تمزيق العدم، فهذا مُستحيل طبعاً، بل بالعكس هى التي تُعلِّم الإنسان بامتياز العدمية، أي أن يكون كائناً عدمياً، وتُعلِّم الإنسان أن لا مركزية للقيم وتُعلِّم الإنسان أن لا مركزية للشيئ، لكن في نهاية المطاف هذا الموضوع ميتافيزيقي طويل جداً، فهو أخلاقي ميتافيزيقي وأخلاقي فلسفي، ومن الصعب والصعب جداً إلى انقطاع النفَس تبرير الأخلاق – منظومة القيم البشرية الكُلية أو ما يُسمَّى بالإخلاق الكلية إن جاز التعبير – بغير استناد ما ورائي وبغير أن تستند إلى الله تبارك وتعالى، ولكن هذا الموضوع يحتاج إلى مُحاضَرة فلسفية على كل حال، لذلك انتبهوا إلى أن الله – تبارك وتعالى – يغفر الذنوب – إن شاء –  كلها، وذنبٌ واحد فقط غير مُرشَّح للمغفرة هو الشرك بالله، وهنا أيضاً لابد أن نفتح هامشاً جديداً لنقول أن الذنوب في المنظور القرآني – لن نُوسِّع لأن  يهمنا الآن القرآن فقط – ذنوب محدودة ومحدَّدة ومُفصَّلة، حيث يُوجَد في نوع من التفصيل لها بشكل واضح، فهل تعرفون لماذا؟ لأن الذنوب أيضاً في أديان وشرائع أخرى وفي فلسفات وميثولوجيات Mythologies وأساطير أخرى كثيرة جداً جداً جداً بحيث تقريباً لا يكاد ينجو شيئ من أن يكون خطيئة ومن أن يكون مُدنَّساً ومن أن يكون محظوراً مُحرَّماً،  من قائمة الـ Taboos إلى Fetish إلى Totem – الطوطم –  إلى سائر ما كان يُطلَق عليه المُقدَّس، وبالإزاء يُوجَد المُدنَّس، ففي الأديان البدائية هذه الأشياء قوائم بالمئين إن لم يكن الآلاف، ولاعتبارات مُتضادة تماماً، فشيئ يُحقَّر جداً يُصبِح مُحرَّماً، وشيئ يُقدِّس جداً فيُصبِح مُحرَّماً، شيئ يُحَب جداً فيُصبِح مُحرَّماً، وشيئ يُكرَه جداً يُصبِح مُحرَّماً، وهذا شيئ غريب، فما من شيئ تقريباً إلا دخل في منظومة التحاريم، لكن القرآن – شريعة الله الخاتمة النهايئة – يختلف تماماً، تقول الآية الكريمة  قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ – وهذا أمر عجيب، هل هذا مُمكِن؟ نحن أتينا فهل ستتلو ما حرَّم الله علينا ربنا في مقام واحد وفي أقل من دقيقية؟ كل مسلم يعلم هذه الحقيقة وهى أن الأصل في الأشياء الإباحة، الله خلق لنا ما في الأرض جميعاً، وكل شيئ مُباح، فليس كل شيئ مُرشَّحاً لأن يكون محظوراً وممنوعاً ومُدنَّساً، بل بالعكس – رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ ۩، فالله يقول المُحرَّمات هى واحد واثنان وثلاثة وأربعة وخمسة وانتهى كل شيئ، هذا هو إذن، وهو شيئ محدود جداً، ونحن إذا كنا  نُريد أن نصنِّف أو نعمل تصنيف أو نصطنع تصنيفاً لهذه المحظورات ولهذه الممنوعات فالقضية سهلة تماماً، حيث تتموضَّع هذه المحظورات في دوائر ثلاث: أولاً دائرة العلاقة بالآخرين من البشر بشكل أولي، وتدخل فيها حتى النباتات والحيوانات لكن البشر – الإنسان – يأتون أولاً، فهى تشمل دائرة علاقتك بأخيك الإنسان، ليس فقط بأخيك المسلم ابن الدين وإنما بأخيك الإنسان، ثانياً دائرة علاقتك بنفسك، وثالثاً دائرة علاقتك بالله تبارك وتعالى، وعند التحقيق نجد أن دائرة علاقتك بالله تعود إلى الدائرتين الاثنتين، فالله في غُنية عنا سواء كفرنا أم آمنا، فهذا لا يزيده ولا ينقصه، وتعرفون الحديث القدسي الجليل الذي يقول يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ إلى آخره، فلن أتلوه لأنه معروف للكافة بفضل الله، فهو يقول هذا كله ما زاد ذلك في ملكي شيئاً وما نقص ذلك من ملكي شيئاً أبداً، فلو أصبحنا كلنا كمحمد هذا لن يزداد الله بنا شيئاً، ولو أصبحنا كلنا كفرعون وكإبليس وكأبي جهل هذا لن ينقص ملك الله شيئاً أبداً، فإذن لماذا لا يغفر لنا حين نُشرِك به؟ سوف نفهم هذا، فهذا هو السر الذي يكمن في دائرة علاقتك بالبشر، ونتحدى أن تأتوا بمُحرَّم واحد يُحقِّق مصلحة للناس فيما بين بعضهم البعض والإسلام حرَّمه، هذا مُستحيل، فكل ما حرَّمه الله – تبارك وتعالى – بدءاً من الكذب والغش والغيبة والنميمة والحسد والحقد والسعي في المضرة والقتل والسرقة والزنا وهتك الأعراض والظلم والاستبداد والاستحقار والاستهزاء والإزدراء – النبي يقول بحسب امريءٍ من الشر أن يحقر أخاه، فحتى هذا شرٌ عظيم – حقيقٌ بها أن تكون محظورات ومُحرَّمات، وحقيقٌ بأن يكون انتهاكها سقوطاً في الانحطاط الإنساني وعلامة على التدلي القيمي والأخلاقي، فهذا هو إذن، وليس معنى هذا أن الدين حرَّمه دون سبب ومن ثم أنا أتأبى وأنا إبليسي – والعياذ بالله كما يقول أحدهم – وأنا أستاذي إبليس، إبليس كما عرَّفه جوته Goethe هو الروح التي تُنكِر باستمرار Mephistopheles. I am the Spirit that denies، لكن صدِّقوني في أن جوته Goethe هنا كان يفهم إبليس أكثر من هؤلاء، أكثر من  الفيسلوف المُلحِد السوري صادق جلال العظم – هداه الله – في نقد الفكر الديني للأسف الشديد، فهذه الروح دائماً ما تُنكِر، فقط هى تعرف الإنكار وتعرف التدمير وتعرف أن تقول “لا” باستمرار، وبـ “لا” لا يُبنى شيئاً فانتبهوا إذن، لكن هل تعرفون متى تكون “لا” جيدة؟ حين تكون سياجاً لبناء، لا للعدوان على هذه الحقوق وعلى هذه الحريات وعلى هذه المُنجَزات، لا للعدوان، لا للظلم، لا للهدم، ولكن حين تكون “لا” هى الجواب الأوحد في وجه كل “نعم” فهذا غير مقبول، لكن هذه التي مجَّدها أمل دنقل فهو قال مَن قال “لا” في وجه من قالوا “نعم”، ومَن الذين قالوا نعم؟ الملائكة وصالحو بني آدم، وهؤلاء الذين بنوا البشرية، فبناة الإنسانية وبناة الحضارة هم الذين قالوا نعم واستجابوا لأمر الله وتواضعوا وأدركوا شرطهم الإنساني، ولكن بالشرط الإبليسي يجب أن نقول “لا” على  الدوام وأن نُنكِر على الدوام، فهكذا قال مفستوفيليس Mephistopheles  أستاذهم الأكبر، أي إبليسهم الفاوست  Faust، ونعود إذن لكي نقول أن “لا” تصلح وتجمل وتحسن فقط إذا كانت حياطةً لما تم بـ “نعم” ولما أُنجِزَ بـ “نعم”، ولكن أن تكون “لا” هى الجواب الأوحد وعلى الدوام فهذا هو الدمار وهذه العدمية النيهلية كما يُقال، وهذه العدمية لا تُنتِج شيئاً، وقد يُقال لي لكن في الميثولوجيا Mythology حتى العربية إبليس قوة بناء وقوة إبداع، وهذا ما حصل طبعاً للأسف لكن هذه جاهليات البشر وجاهليات الشعراء وجاهليات الشعوب وخرافات الناس وأوهام البشر، فأي شيئ فيه إبداع يُضاف إلى إبليس، ويُقال لك عن المُبدِع أن عنده شيطان من الجن وأن شيطان يُوحي إليه الشعر والشيطان هو الذي أوحى إليه بهذا الأدب وبهذا الإبداع، علماً بأن هذا ليس فقط في الثقافة العربية الجاهلية وإنما في الثقافة العالمية تقريباً، فهناك ربطٌ متين بين الشيطان والإبداع، لكن في المنظور القرآني كلا، وهذا هو امتياز القرآن العظيم، ففي المنظور القرآني الشيطان له قدرة هدمية فقط وقدرة غير بانائية، فلا يستطيع أن يُوحي بأي بناء، هو يهدم فقط وإن ظهر أنه أوحى ببناء فهذا بناء للهدم، مثل القنبلة الذرية فهى بناء ولكنها مُؤهَّلة – ما شاء الله – للهدم ورسالتها العتيدة أن تهدم كل شيئ، فهذا شيئ صغير ومحدود لكن من المُمكِن أن يهدم حضارة عمرها ألفي سنة ومُمكِن يُزهِق أرواح ملايين البشر في ثواني، فهذا بناء لكنه بناء من نوع خاص، هذا بناء هدمي وبناء عدمي، بناء يتغيا العدم وأوحى به العدم والعقلية العدمية والعقلية التخريبية التهديمية.

نأتي الآن إلى الكره، إبليس ما من كائن يعرف الكره مثله، بل هو الكره نفسه، هو ليس فقط حسد آدم بل هو يكره آدم كرهاً شديداً، لذلك هو مُستعِد – وقلتها قبل ذلك مرات على لسان أبي نواس – أن يشتغل قوَّاداً، هو لا يعلم لهذه المهنة البشعة الحقيرة دلالة سلبية، وهو لا يعرف أصلاً السلب من الإيجا ، لأنه لا يعرف الإيجاب، فسلبه من منظورنا فقط، ولكن هو لا يحس بهذا الشيئ، ليس عنده معرفة الخبرة بهذه الأشياء، فهوكائن مُخيف والعياذ بالله، ولكن من منظورنا نحن نُوصِّفه هكذا، فهو مُستعِد أن يشتغل قوَّاداً  كما قال أبو نواس:

تاهَ عَلى آدَمَ في سجْدَة ٍ                   وصَارَ قَوّاداً لِذُرّيتِهْ.

قال الله شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ ۩، فهم يُزيِّنون للناس المعاصي والوساخات والقذورات، لكنهم يقولون أنهم يُزيِّنون المُحرَّمات، وما المُحرَّمات؟ هى مُجرَّد محاظير ومحظورات دينية لكننا سنُحطِّمها كما حطمَّها إبليس، لكن هذا غير صحيح، فهذه ليست مُجرَّد محظورات دينية وكفى، هذه المحظورات الدينية هى القيم الإنسانية وهى ما يجعلنا بشراً، فعجيب أن أُحطِّم ما يحظر علىّ أن أغتالك وأن أغتال سمعتك وأن أغتال نجاحاتك وأن أهتك عِرضك رمزياً أو مادياً وأن آخذ عرقك وأن أُزهِق روحك وأن أُعدِمك حياتك، ثم يُقال هذه محظورات دينية مُمكِن أن نتخطاها، هذا غير صحيح ولكنه مُمكِن بشرط واحد فقط وهو أن تتخلوا عن إنسانيتكم وأن تتحوَّلوا إلى شياطين وإلى أبالسة، لكن هناك مَن رضى بهذا الدور وأراد أن يتحوَّل إلى إبليس، وصحيح أنه إبليس بكرافتة لكنه إبليس، فهم يلبسون كرافتات بشكل عادي ويركبون السيارات الفخمة ويتحدَّثون الخُطب البليغة ولكنهم أبالسة حقيقيون، لا يطرف لأحدهم جفن وإن أزهق أرواح عشرات الألوف من البشر أو الملايين، فهم شياطين حقيقيون في شكل بشر ولكنهم ألوان شتى، فمنهم الأبيض ذو العينين الزرق والخضر ومنهم الأحمر ومنهم الأسمر ومنهم الأسود، هم أبناء آدم واستحالوا إلى شياطين بحجة أنهم يُحطِّمون – مُستلهِمين في ذلك سيدهم وأستاذهم الأكبر الأوحد إبليس – هذه المحظورات، فالواحد منهم منطقه هو التحطيم ولذا هو نيتشوي – نسبة إلى نيتشه Nietzsche – طبعاً، هذا منطق نيتشوي يقوم على التحطيم بالمعاول، فمنطقهم منطق المرزبة و القزمة والمطرقة Hammer، وكما قال مرة ماسلو Maslow  – أبراهام ماسلو Abraham Maslow  – مَن كان كل الأدوات المُتاحة له هى القدوم – أو القادوم  – فهو سيرى كل شيئ مسماراً أو زجاجاً قابلاً للتكسير، فهذه رسالته أن يُحطِّم وأن يُكسِّر لأن ليس معه إلا قدوم، ليس معه إبرة ينسج بها أو مغزل يغزل به أو قلم يكتب به الحضارة والمعرفة أبداً، عنده قدوم  فقط ولذا يُحطِّم، ويرى أن هذه رسالته ويتبجَّح بها.
نعود إلى موضوعنا مرة أُخرى، إذن الذي علَّم الإنسان تمزيق العدم يا أمل دنقل – غفر الله له وسامحه – ليس إبليس، بالعكس إبليس ضيَّعه في هوة العدم والأعدام، فالذي علَّم تمزيق العدم هو رب العالمين، حين علَّمه كيف يستملك الأشياء وكيف يحتازها وكيف يُكيِّفها لمصالحه ولغاياته وكيف يستثمرها ويرتفقها وكيف يُسخِّرها وهى مُسخَّرة له، وإلا كيف يرتفقها؟ إذ هى مُسخَّرة، قال الله وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا  ۩، فلما علَّمه الأسماء علَّمه تمزيق العدم، وسأوضِّح هذا المعنى بكلمة وهى أن أحياناً وخاصة في شأن مَن لم يتعلَّم الذي ليس عنده معرفة ثقافية بعلوم وخاصة بعلم النفس – مثلاً – يقول لك أشعر بشعور لا أستطيع أن أُميِّزه، وهذا الشعور الآن موجود ولكنه يُتاخِم العدم،  ويُمكِن أن يضيع في أي لحظة، فما لم يُسمَّ هو مُرشَّح للضياع، وهذا المسكين لا يستطيع أن يصفه، ولكن لو علَّمناه وقلنا له هناك في علم النفس – مثلاً – شيئ يُسمَّى الازداوجية العاطفية  Ambivalence قد يفهم، فنحن سنقول له أنت تشعر بازداوجية، تشعر بفرحة ولكن في نفس الوقت يُخامِرها حزن، ومن ثم سوف يقول بالضبط هذا هو، حزن مع فرحة أو فرحة محزونة أو حزنٌ فرح فلا أدري، وبالتالي نحن نقول له هذه هى الازدواجية العاطفية، فهو يقول – مثلاً – أشعر نحو فلان بالحب كما أشعر بالكره، نوع من الكره إزاءه لا أدري ما هو، لا أدري هل هو كرهٌ أم هل هو حسد أم هل هو غيرة أم تنافس غير شريف، ولكنني أشعر بحب ولعله ليس حباً وإنما إجلال، فلعله إجلال وتنافس أو إجلال وحسد أو إجلال وغيرة، ومن هنا نقول له هذه ازدواجية عاطفية، فيقول فهمت، وبعد ذلك يستطيع أن يقتنص بشبكة هذا المفهوم –  Ambivalence – لكن كيف هذا؟ وماذا يقتنص؟ كل هذه المشاعر إذ تُداخِله وإذ ينفعل بها وإذ تُخامِره فيقول ازودوجت عاطفتي نحو الشيئ الفلاني أو نحو الشخص العلاني، وهذا هو المطلوب، ولذلك التسمية سُلطة، فهى سُلطة حقيقية وهى تُخرِج الشيئ من عتمة العدم إلى فُرجة الوجود وإلى مشهد الوجود، إذن مَن الذي علَّمنا يا أمل دنقل تمزيق العدم؟ هل إبليس الذي علَّمنا؟ لا ليس هو وإنما رب العالمين، ولكن هذا شعر –  فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ۩ – له، وقبيح جداً أن تكون شاعراً قبل أن تكون فيلسوفاً حقاً، فإذا كنت تتفلسف بإسم الشعر وليس لديك فلسفة حقيقية فسوف تكون داهية على نفسك وعلى العالم وعلى الناس، سوفتكون شيطاناً صغيراً دون أن تدري وربما دون أن تُريد، ولكن هو مجَّد الشيطان وأراد أن يكون المجد للشيطان، فلماذا؟  هذا الشيطان الذي علَّم الإنسان تمزيق العدم لم يكن ولم يخلقه الله هو، فهذا الشيطان غير موجود، لكن الموجود هو مَن علَّم الإنسان أن يعيش بالعدم وفي العدم وللعدم، فهذه رسالة الشيطان!

نعود مرة أُخرى ونقول هل نُسامِح أنفسنا؟ هل أُسامِح نفسي؟ هل تُسامِح نفسك؟ لكي تُسامِحك نفسك وأُسامِح نفسي ونُسامِح أنفسنا لابد أن نخبر الذنب والخطأ والتقصير والهشاشة، فالشرط الإنساني لابد أن نخبره خبرةً، لا أن نتلقَّاه مُتخارِجاً مثل كلمة في المُعجَم أو آية في القرآن أو حديثاً في كتب السُنن أو موعظة على  منبر أو أي شيئ يُقال، لكن أنا أقول لكم بالألم وبكامل الألم أن – والله – مُعظم تديننا نحن المسلمين على هذا النحو، فهو تدين تخارجي ونحن لا نخبر ما نتكلم ولا نخبر معنى الخطأ بل لا نخبر معنى الاستقامة والتقوى والورع حقاً كخبرة حقيقية وليس كلاماً، وعند أول اختبار حقيقي نفشل، وكلٌ يفشل في مرحلة ما طبعاً، فهناك ختبار بالمال، وصاحب الملايين بالحري لا يفشل مع الألوف وإنما ينجح لأن عنده الملايين ولكن حين يُمتحَن بعشرات الملايين يرسب، وصاحب الملايير لعله لا يفشل مع الملايين، ولكنه يفشل مع أول مليار، يفشل لأن هذا إغراء فانتبهوا، وصاحب الثقة العالية بنفسه ينجح أمامك الشوهاء الكهلة العجوز الشمطاء، لماذا؟ لأنه لا يزال شاباً غضاً طرياً في شرخ شبابه وسيماً قسماً وطويلاً جميلاً، فلا يزال مرغوباً للحسان الغيد، وهذه أقرب أن تكون شوهاء ووجهها ليس جميلاً ولذا ينجح معها، لكنه يفشل أمام الغيداء الحسناء أُمنية كل راغب وطلبة كل طالب، فدينه هنا فشل وتقواه الكاذبة وتقواه المُتخارِجة التي تعلَّمها كلمات ومواعظ على المنابر ولم يعشها حقيقةً ولم يخبرها تفشل، لأن التربية الدينية لدينا تربية فاسدة من يومها وتربية تقوم على الاستهلاك الكلامي، فنحن لم نتعوَّد أن نستمع لا في الحضانات ولا في المدارس ولا في البيوت ولا في المساجد ولا على المنابر كلاماً نُفكِّك به خبراتنا – قطعاً لنا ثمة خبرات – تفكيكاً نغور به إلى أبعد أعماقها لكي نتفهَّمها ولكي نُطالِع أنفسنا في مرآة هذا التفكيك، فنفهم ونرى أنفسنا حقاً، لكننا تعوَّدنا دائماً المُؤمِن مرآة أخيه فيُقال للواحد منا أخوك يراك، لكن أخي أعمى مثلي، أي أعمى يقود أعمى لأنه لا يفهم، هو يُجامِلني ويكذب علىّ ويستغلني أيضاً ويُحوِّلني إلى إله وإلى صنم وإلى كذا لكي يستغلني، فهذه المرآة غير موجودةـ هذه المرآة منحرفة أو مُقعَّرة أو مُحدودِبة أو مكسورة أو مُهشَّمة، لكن أنا أحتاج مَن يُعلِّمني أن أفعل هذا بنفسي ولنفسي، فهل هناك مَن يفعل هذا؟ لكن إلى اليوم – اليوم سمعت هذا فقط – يخرج الإمام على المنبر بالجُبة والعمة، ما هو إلا أن يأتي بأبيات الشعر وإذا طوَّل فهذا يعني أنه حافظ كبير بل حفَيظ، وتبدأ الهمهمات ويُقال الله، فما هذا؟ هذه أمة مضروبة على رأسها، وهذا شيئ غريب وتربية غريبة بل تربية فاسدة تماماً، فهو يُسمِّع شعراً أياً كان هذا الشعر في ركته وفي سخافته وفي رسالته فهذا ليس مُهِماً لكن المُهِم هو أنه شعر مُرتَّب، ونحن نعيش مع الأشكال، لأن ما هو الشعر الآن؟ الشعر أشكال فقط، نوع من الفن الإلقائي الطقوسي، طقوس مُعيَّنة ولها قافية وما إلى ذلك، هو هذا فقط دون أن يفهم شيئاً، فهو لا يفهم ما يُقال – كما قلت لكم -ولا يفهم ما هى رسالة هذا الشعر، فهذا غير مُهِم، المُهِم هو أن الكلام موزون ومُقفَّى وجميل فيُقال له الله، وهكذا طبعاً على هذا فقس، وانظر إلى التدين – ما شاء الله – الذين لدينا، فكيف حاله الآن؟  تدين غريب عجيب من نوعه، لكن لابد أن نتعلَّم أن نخوض عالم الخبرة – الخبرة الروحية والخبرة الدينية – وأن نُدرِك هذه الأِشياء كخبرة، وأول شرط لإدراكها وأول شرط يتحقَّق بالالتفات إلى التجربة، أي أن ألتفت فلا أُهدِر التجربة، لكن إذا أهدرتها سوف تنتهي ومُستحيل أن تعيشها بعد ذلك، مُستحيل أن تعلَّم منها وأن تستلهمها، لكن عليك ألا تُهدِرها وعليك أن تلتفت إليها، والله لفتنا غير مرة وقال كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ۩، فالله قال للصحابة انتبهوا ولا تظنوا أنكم كذلك من أول يوم وأنكم  مُسلِمون وصحابة وأناس أتقياء، فهذا غير صحيح، وهذا لم يحدث إلا أمس – يُريد من قريب – فقط،  فأنتم كنتم كفاراً مُشرِكين وأنا مننت عليكم فأصبحتم اليوم مُسلِمين، فهؤلاء المُشرِكون اليوم هم في حالكم التي كنتم عليها بالأمس وهم مثلكم كأنتم بالأمس فانتبهوا، هذا هو إذن، لكن ما معنى هذا؟  معنى هذاأن تعيش الخبرة مرة ومرة ومرة، ولذلك تفاوتت تعريفات حتى السادة العارفين بالله للذنب والتوبة، فما هى التوبة؟ منهم مَن قال التوبة أن تنسى الذنب، ومنهم مَن قال التوبة ألا تنسى الذنب – لا تنساه – وتبقى تتعلَّم منه ويبقى معيناً لك، ومن خلال تجربتي حين أخطأت وفكَّكت هذه التجربة فهمت أنني أخطأت لأنني ضعفت، فقد كنت ضعيفاً وبريق الذهب أعماني وأنساني، أنساني قرآني وأنساني تقواي وورعي وأنساني مبادئي وقيمي، وكم ذا يُنسي بريق الذهب الناس ما تعلَّموا وما تربَّوا عليه، كم يُعمي من بصائر قبل أن يطمس من أبصار بريق الذهب، فعلاً المال معبود الناس من دون الله – لا أقول بعد الله وإنما أقول من دون الله – كما يُقال، ولذا أحياناً تشعر أن الرب الحقيقي للبشر هو المال أو السُلطة، والسُلطة يأتي بها المال ويأتي بها أشياء أخرى، فهذا هو المعبود الحقيقي وهذا هو الإله الحقيقي فانتبهوا، ولذلك – كما قلنا في خُطب سابقة – في سبيل السُلطة وفي سبيل المال الكبائر تغدو صغائر محقورات وفي رأسها القتل، فيقول أحدهم لنقتل إذن دون أي مُشكِلة، كيف تُزهِق النفس التي حرَّم الله إلا بالحق؟ لزوال السماوات والأرض أهون عند الله من قتل امريءٍ مُؤمِن بغير حق، لكن هذه هى السُلطة، وهناك مَن يُخرِّج فتاوى بهذا، والفتاوى جاهزة فلا تخافوا، هناك ألف وألف ألف فقيه يُخرِّج لك فتاوى بالقتل الإجمالي ويقول لك على طريقة المذهب الفلاني – لن أذكره حتى لا يكون انتقاصاً لهذا المذهب الجليل، فبعض الناس لا يفهم هذه الأشياء في سياقها، وحين تُنزَع من سياقاتها المعني يختلف – السُني يجوز قتل ثلث البشر أو ثلث الناس أو ثلث القرية، فيقول ما حجم سكان هذه البلد؟ هل هم عشرة ملايين؟ إذن اقتل ثلاثة ملايين ونصف دون أي مُشكِلة وسوف يعيش ستة ونصف بطريقة كريمة، يا سلام، ما هذا الفقه؟ ما هذه الفلسفة الإبليسية؟ هذه فلسفة مُخيفة مُرعِبة، وهذه لم يستوعبها ولم يُؤمِن بها وكفر بها عمر بن عبد العزيز، فمع عمر بن عبد العزيز تقريباً توقَّفت الفتوحات الإسلامية وقال لهم لا فتوحات – Conquests – ولا كلام فارغ، أنا لا أُريد كل هذا الكلام، لماذا؟ لأن حين أغزاهم بلداً في الشتاء من بلاد فارس – طبعاً في زمن عمر بن عبد العزيز بعث جيشاً إلى قسنطينة، وطبعاً مُنى الجيش للأسف بكارثة هناك، وحدثت مقتلة عظيمة فيه وخسرت الدولة أموالاً هائلة – مات رجل، فقال لماذا مات؟ قالوا مات بسبب الثلج، فقال  والله لا أغزوتكم بعد اليوم أبداً، لن يُوجَد غزو بعد الآن، لأن كيف يمت مسلم بسبب الغزو؟ لم يقل هذا واحد وسنفترض أنه مات في المعركة وقد فتحنا البلاد، فعمر يعرف أنها لا تُفتَح لوجه الله  – والله العظيم – ولا تُفتَح لفتح القلوب وإنما تُفتَح لكي تُفتَح الخزائن فقط وتصب الأموال، فهو يعلم هذا من سيرة بني أمية ويعرف هذا لأنه عاش هذا، ومن ثم يعرف هذه الحقائق، فكأنه اتخذها ذريعة وقال لهم لا فتوحات بعد اليوم، توقَّفنا عن هذه الأمور، فرضوان الله تعالى عليه، والله رضوان الله عليه، والله يرحم الدكتور مصطفى السباعي المُجاهِد السوري العظيم والعلَّامة الكبير، فمصطفى السباعي قال هذا هو الإسلام، هل تُريدون الإسلام؟ هذا هو الإسلام – هذا حين تحدَّث عن الحرب والسلم – كما أفهمه من كتاب ربي، ولكن ما جرى عليه المسلمون بعد ذلك – ماذا علموا وكيف فتحوا وكيف عاملوا الشعوب الأخرى وظلموها ونهبوها وبهدلوها – هذا يُسأل عنه هؤلاء من الحكام، أي يُسأل عنه الحاكمون ومَن أفتاهم، ولا يُسأل عنه الدين، فديننا براء من هذا، ومع ذلك يقولون لك فتوحات إسلامية لكنه قال ديني لا يُسأل عن هذا، اسألوا الحكام ومفاتي الحكام وفقهاء الحكام ولا تسألوا الله ورسوله ولا تكذبوا على كتاب ربكم لكي تُبيِّضوا تاريخاً أحياناً لا يتبيَّض، فأنا أُسميه تبييض الفحم، فأحياناً هناك أشياء لا تُبيَّض، وطبعاً كل الشعوب تُمارِس هذه الهرتلة وهذه الاعتباطية الفكرية، الآن  هناك جماعات من الروس -جماعات من الأكاديميين الروس والساسة طبعاً الروس – أخذتهم حمية أن يُعيدوا إنتاج ستالين Stalin – جوزيف ستالين Joseph Stalin – على أنه رجل عظيم ومُبارَك وطيب وليس أنه ذلك الطاغية المُتوحِّش، بل بالعكس قالوا ستالين Stalin رجل محبوب جداً، لكن هذا كمَن يُحاوِل أن يُبيِّض الفحم، وهذا مُستحيل، فالفحم لو قسمته ألف قسم سوف يبقى أسوداً، فهو أسود في باطنه وأسود في ظاهره وأسود من كل جنباته، وهناك عالم سوري – الله يرحمه ويغفر له – إسمه محمد أمين شيخو عنده أشياء عجيبة في كتاباته –  رحمة الله عليه – هو الآخر، فقد ألَّف كتاباً عن تيمورلنك وأخذني منه العجب العاجب، لم أقض منه عجباً، فهو يُريد أن يُقنِعنا أنهتيمورلنك كان رجلاً مُمتازاً مُحترَماً وتقياً وأنه كان ولياً لله وأن الله نصره على المسلمين الأوغاد، فالله سلَّطه على العراق ودمَّر ما دمَّر، علماً بأننا كلنا نعرف طريقة هولاكو وماذا فعل هولاكو ببغداد لكننا لا نعرف بعد هولاكو ماذا فعل تيمور الأعرج، فتيمورلنك أنسى الناس ماذا فعل هولاكو، أي أنه فعل أضعاف ما فعل هولاكو بالمسلمين، لكن انتبهوا إلى أن تيمورلنك كان لا يُفارِقه المُصحَف الشريف، فدائماً معه كتاب الله، وكان السادة الصوفية والدراويش بالمسابح الطويلة معه لكي يُسبِّحوا، فهو دائماً لا يفتر لسانه عن ذكر الله، لكنك قد تقول لي فماذ هذا إذن؟ هذا لزوم الشغل كما يُقال، لكن لابد أن تفهم، ومع ذلك أمين شيخو قال لك هذا الرجل تقي، وبما أنه معه القرآن والتسبيح والأذكار ويُحِب العلماء ويُحِب الصالحين وعنده بعض المحاسن فهو من أولياء الله، علماً بأن في سمرقند إلى اليوم عنده مقام عظيم وهو مقام سيدي تميورلنك قدَّس الله سره العزيز، فما رأيكم؟ وأهل سمرقند يطوفون به ويلتمسون البركات الإلهية بتيمورلنك، ونحن عندنا نفس الشيئ طبعاً، فعندنا فصول سوداء في تاريختنا، وهذا أنا أُسميه بتبييض الفحم لكن الفحم لا يُبيَّض، وهذا عيب طبعاً، فعيب أن تُنتهَك القيم والمباديء والمعايير من أجل أن نُبيِّض الفحم وأن نُبيِّض السواد الذي هو أسود من ظلمة الليل البهيم، هذا عيب وعلى كل حال نعود إلى ما كنا فيه، إذن يوم أُفكِّك سأعرف أنني ضعفت أمام بريق الذهب وأنه خطف لب تقواي وورعي وأنني ضعفت أمام الغريزة وأمام الشهوة، فأنا شاب أعزب وللأسف ضعفت طبعاً، وهذا ليس شيئاً جميلاً أن تضعف، هذا ليس جيداً  ولكن هذا ما حصل، فأنا ابن آدم، أنا ابن أبي الذي عصى، أنا لست ملكاً ولست إلهاً طبعاً بالحري ومن ثم ضعفت، فيوم أحس بهذا وأحس بأنني حاولت وحاولت وحاولت وحاولت وحاولت ثم فشلت سأرحم الذين يُخطئون وأُقدِّر أنهم حاولوا وحاولوا وحاولوا ثم فشلوا، وهذا معنى قول الله كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ ۩، فلن أشعر بأي امتياز لي في لحظة استقامتي عليهم في لحظة تدليهم أبداً، لن أحقرهم ولن ألعنهم فضلاً عن ان أُفتي بحقهم وأقول أنهم كذا وكذا وأنهم من أهل النار، علماً بأن هذه ليست وإنما هذا شرك – وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩ – فلا تقل لي هذه فتوى، وأنا سمعت بعض المشائخ في التلفزيون Television – هذا التلفزيون Television أسمعنا العجب – وفي اليوتيوب YouTube – هذا الذي أسميناه الفضَّاح – يقولون شيئاً لا يكاد يُصدَّق، فالواحد منهم يُقسِم لك بالله أن الرجل الفلاني من أهل النار، لكن يا رجل كيف عرفت؟ إلا إذا كان جبريل ينزل من ورائنا، فمن المُمكِن أن يكون عندك أدلة لكنك تُخفيها تُفيد بأن جبريل ينزل بعد محمد على الناس وأن جبريل نزل عليك ونحن لا نعرف، لكن مثل هذا الرجل من المُمكِن أن يكون مجنوناً طبعاً، فهنا يُوجَد جنون ديني، هذا نوع من الجنون – Wahnsinn – يُوجَد عند بعض الناس، وأنا أقول لكم أن أكثر الذين ادّعوا المهدوية في التاريخ بما فيهم قادة عظام من المجانين، وأنا في داخلي أعتقد أن من المُمكِن أن يكون محمد بن تومرت – طبعاً سوف يغضب أهل المغرب وأنا أشعري وهو أشعري لكن بحسب ما درست تبين لي هذا – أحد المجانين، وهذا ليس معناه أنه مجنون ويسيل لعابه ولكن معناه أن عنده نوع من الجنون كما يعرفه علم الأمراض العقلية والنفسية، فقج قرأت له أشياء وقرأت له تعبيرات واعتقادات مُعيَّنة وأشياء يُصِر عليها وهى نوع من الجنون الديني يُصيب بعض الشخصيات، وهو شخصية قائدة عظيمة وهو الذي عمل دولة من أعظم الدول في تاريخ الإسلام وهى دولة المُوحِّدين وذلك على أطلال دولة المرابطين الذين ذبَّحهم تذبيحاً، لكن من المُمكِن أن يكون هذا الشخص مجنوناً فانتبهوا، وقد ادّعى المهدوية وصدَّق الناس ومن ثم عاش بهذا ومات على هذا، وإلى اليوم إسمه المهدي محمد بن تومرت، لكن دعاوى المهدي كثيرة وأكثرها كانت هكذا، وقد قال لهم هذه تبقى فيكم إلى يوم يرث الله الأرض ومَن عليها، لكن ذهب المُوحِّدون وذهب كل شيئ واتضح أن هذا كله يُعَد كلاما فارغاً، ومع ذلك سكت الناس ولم يقدروا على اختبار هذا الشيئ، لكن كل شيئ ذهب وانتهى، فما هذا الكذب على الناس؟ وقد أكَّد لهم هذا استناداً طبعاً إلى ما أوحى إليهم من مصادر إلهامية، فقال أن هذا سبق في علم الله ومن ثم لن تخرج منكم هذه الزعامة إلى يوم الدين، وهذا لم يحدث، لا تُحدِّثني عن مهدي أو عن هذا الكلام الفارغ، فهم يضحكون على الناس، ومن المُمكِن ألا يكون قد ضحك على الناس لأنه – كما قلت لكم – قد يكون مجنوناً!
إذن في لحظة تدليك وفي لحظة ارتقائي وعلوي لن أتيه عليك أبداً، فالنبي هو الذي علَّمنا هذا، وقال لا تُفضِّلوني على أخي يونس بن مَتَّى، لكن لماذا يونس يا محمد – صلى الله على محمد وآله – بالذات؟ لأن يونس – كما تعرفون – اعتزل الشغل الإلهي واعتزل المُهِمة من غير إذن إلهي، فالله طبعاً ضيَّق عليه بالعقوبة، وقال له إلى أين أنت ذاهب؟ أنت تعمل مُوظَّفاً عند مَن؟ أنت مُوظَّف عندي وتشتغل بأمري ولا ينبغي أن تعتزل إلا عن إذني، هل تظن أن الأمر بيدك فتقول لأنهم لم يُؤمِنوا وكفروا ولم يطلبوا الإيمان سوف أتوقَّف عن العمل؟ كيف تتوقَّف عن هذا؟ تعال إلى هنا، ثم قذفه في بطن الحوت فعرف – عليه السلام – أنه أخطأ، لكن النبي قال لا تُفضِّلوني على هذا الرجل، لكي لا نتعلَّم مثل هذا المنطق فنقول أنه أخطأ لكن محمد – ما شاء الله عليه – لم يفعل هذا، والآية الكريمة تقول فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ۩ – هذه آية المعراج – في حين أن هذا في بطن الحوت، لكن النبي قال رغم هذا لا تُفضِّلوني، علماً بأن هذا يحتاج إلى كلام بحياله، فمن أكبر أسباب قوة الصحابة وقوة روحهم الديني سببٌ هو من أعظم أسباب ضعف روحنا الدينية، أي أنه نفس السبب، فما هو إذن؟ أنهم فهموا رسالة القرآن ورسالة محمد النبي العدنان في عدم الخوض في التفضيل، والله يقول تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ ۩ولكنه لم يقل بشكل صريح أن محمداً هو الأفضل، فلا تُوجَد آية واحدة في كتاب الله صريحة بأن محمداً هو الأفضل من بين الرسل، لكن هناك آيات كثيرة تحكي لكَ بطريق الإشارة والإيماءة أنه الأفضل، فلماذا لم يُصرِّح ولم يقل لنا هو الأفضل؟ لم  يقل هذا بالعكس قال  تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ ۩ولم يقل أن محمداً هو الأفضل هنا، ثم قال مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ۖ  ۩، مَن هذا؟ هذا موسى، ثم قال وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ ، وهذا عيسى، فهنا محمد يدخل في قوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ  ۩، لكن مَن البعض ومَن أكثر مَن رُفِعَ؟ لم يقل هذا، ولذلك النبي لديه نفس الشيئ، فهو قال لا تُفضِّلوني على يونس، لا تُفضِّلوني على موسى، وأنا أقول لك أن هناك مُناسَبات تقع، ففي كل مُناسَبة سوف يقول لا تُفضِّلوني على أبي إبراهيم – شيخ الأنبياء طبعاً – ولا تُفضِّلوني على أخي عيسى ولا تفضِّلوني على فلان، لكن هناك مُناسَبات وقعت فقال النبي ما قال، حيث اختصم مسلم مع يهودي في السوق فقال اليهودي لا والذي فضَّل موسى على العالمين، فصكه المسلم على وجهه كأنه يقول له ماذا تقول يا عدو الله؟ كيف تفضل موسى على محمد؟ ويلٌ لك من هذا، فجاء اليهودي يشتكي إلى رسول الله، فقال النبي لا تُفضِّلوني على أخي موسى بن عمران، لماذا؟ حين أقوم من قبري يوم الساعة أجد موسى باطشاً بقائمة العرش فلا أدري أسبقني – استفاق قبلي وخرج قبلي  – أم كان مِمَن استثنى – أي فلم يصعِق، علماً بأن من المُمكِن أن يُقال فلم يُصعَق أو فلم يَصعَق أو فلم يَصعِق، فهذا كله فصيح – الله؟ فلماذا النبي يقول هذا إذن وهو يعلم  أنه هو أفضل؟ لأن النبي لا يُريد منا أن نتشبَّع بمنطق أننا أمة النبي الأفضل وبالتالي نحن أحسن الأمم فينتهي كل شيئ ونترك العمل، لكن هذا ما فعلته الأجيال المُتأخِّرة من أمة محمد، فهم يقولون نحن خير أمة ونحن أحسن أمة من غير شرط، أي من غير أن نُؤدِّي شرط الله فينا، فنحن الأحسن على الإطلاق، فتدلينا للأسف الشديد، أما الصحابة فلم يكونوا هكذا، لكن نفس الشيئ يحدث مع اليهود والنصارى وأتباع رسول الله، فكلهم يقولون نحن الأحسن وديننا أفضل وكتابنا أقدم أو كتابنا أجد ونبينا كذا وكذا، لكن أنزل الله لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ۩، فلا تقل لي أنا محمدي ولا تقل لي أنا موسوي أو أنا عيسوي، فإذا كنت تعمل سيئات سوف تذهب إلى الحساب وإلى الغضب ومن ثم تُجازى بهذه السيئات، فلا تقل أنا محمدي، لأن ما معنى محمدي عند الله؟ هذا الكلام غير موجود عند الله فانتبه، إذا أنت محمدي اقتد بمحمد، إذا أنت محمدي حقيقي لتكن الأعمال برهان هذه الدعوى العريضة، فلا يُمكِن التعزي بالانتساب ولا يُمكِن أن يُقال أننا من خير أمة دون برهان، فهذا لا ينفع أبداً، لكن هذا الذي رفعهم أو بعض ما رفعهم وهذا الذي دلانا أو بعض ما دلانا، للأسف الفهم وطريقة الفهم خاطئة!

نعود إذن إلى موضوعنا – الآن للأسف تضيَّق الوقت – مرة أُخرى، فهل إبليس – لعنة الله تعالى عليه – عاش خبرة الذنب؟ هل أدرك أنه أذنب؟ هل خامره أو داخله شيئ من ندم مثلما اتفق لأبينا آدم؟ لم يحدث أبداً، لم يحدث قطُ قطُ قطُ، لكن هل تعرفون لماذا؟ الله يقول عن سيدنا آدم وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ۩ وإبليس مذكور بالعصيان في موضع واحد من كتاب الله – أي كلمة عصيان فقط – لكن كيف؟ بصيغة عجيبة وبصيغة غريبة حيث قال إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً ۩، فإذن هذه صيغة مُختلِفة عن صيغة وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ۩، فالله قال وَعَصَىٰ آدَمُ ۩، ولم يقل آدم العاصي أو العصيان أو العصي، وإنما أتى بالفعل عَصَىٰ ۩، فلا نقول أنه هو العاصي من مرة واحدة، مثلما يجهل عالم مسألة، هل نسميه الجاهل أم العالم؟ نسميه العالم، فهو جهل مسألة أو مسألتين أو مائة أو مائتين ولكنه يعرف عشرة آلاف مسألة ومن ثم يبقى عالماً ولا يُصبِح جاهلاً، لكن انتبهوا إلى أن الله قال في حق الشيطان إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً ۩، فعصيان إبليس – لعنة الله عليه – منذ البداية – كما قلت لكم – كنا من ضربٍ خاص جداً وهو ضرب الإباء، فهو قال لن أفعل من أولها – والعياذ بالله – وناكف الله وجعل نفسه نداً لله، وطبعاً نحن نقول للملاحدة والمُشرِكين ومَن يتكلم في هذه القضايا انتبهوا إلى أن كفر إبليس – وهو كافر بلا شك – ليس من باب إنكار وجود الله – إبليس يعرف أن الله موجود، لكن كيف هو إذن؟ هو تلَّقى أمر الله وأبى وعند واستكبر وعلا – ولكنه من باب أنه لا يُقرّ لله بالصلوحية المُطلَقة لإصدار الأوامر والنواهي، فهو قال له  هذه الصلوحية ليست لك دائماً، فليس كل ما تُريده – أستغفر الله العظيم – سوف تفعله، فما هذا؟ كيف تفضله علىّ من غير أن تأخذ رأيي؟ لكنه متى قال هذا؟ تقريباً هذا مُضمَّن في قوله تعالى قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ ۩ – هذه الآية مُضمَّن فيها هذا المعنى، كأنه يقول له أنت كرَّمته علىّ دون أن تستشيرني ودون أن تستأذنني، وفي قوله أَرَأَيْتَكَ ۩ سوء أدب مع الله، فلعنة الله عليه، فهو يقول لله أَرَأَيْتَكَ ۩، أي هل نتظر إلى هذا الذي كرَّمته؟ وهذا الأسلوب فيه قلة أدب مع الله – عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ – لذلك قلت لكم هذا ميراث الكره –  لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ۩، ولك أن تتخيَّل هذا فلعنة الله تعالى عليه، هذا هو إذن، ولذلك كان عَصِيّاً ۩، فإبليس لم يشعر مرةً بأنه أخطأ، لماذا؟ لأنه منذ البداية كان يرى نفسه نداً لله، لكنك قد تقول لي وماذا عن العبادة فهو كان مع الملائكة ويعبد ويُقدِّس؟ كل هذا تقنيع للشعور الزائف بأنه ندٌ لله، لكن الله قال في حق الملائكة فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ۩، ومعنى قوله  أَجْمَعُونَ ۩ أي في وقت واحد، ففي طرفة عين هووا من جبريل لآخر ملك مُباشَرةً، وبعد ذلك بدأنا مشوار المُغالَطات، فحين تقرأ للمُلحِد السوري صادق جلال العظم  – الله يصلحه  – تجد أنه يقول لك أن إبليس دافع عن موقفه دفاعاً منطقياً، يا عيني على المنطق يا صادق جلال العظم، يا عيني على الفلسفة والمنطق، أين المنطق في هذا؟قال حين أثبت وبرهن – كأنه برهن، وهذا ليس له علاقة بالبرهان كما علَّمناه أرسطو Aristotle، لكن  هذه مسائل فنية – ودلَّل أنه النار خيرٌ من الطين، فيا رجل – والله – ضحك عليك إبليس، أصلاً المسألة كلها أيضاً مُغالَطة Fallacy، فهذه مُغالَطة ولذلك الله – عز وجل – لم يُجِبه ولم يُعقِّب على هذا السخف وهذه التهافت، هل تعرفون لماذا؟لأنه المسألة في نصابها الحقيقي ليست مسألة مُوازَنة ومُعادَلة بين النار والطين، في رأيي لو كانت بين النار والطين لوُجِدَ احتمال أن تتفوَّق النار على الطين – يُوجَد احتمال  – لكن كقوة هدمية، فانتبهوا لأن كقوة بنائية الطين سوف يتفوَّق، وإلا من أين يأتي القمح والشعير والأوراد والأزهاير؟ أين يفعل الماء – سر الحياة – فعله؟ هل يفعل فعله في النار أم في الطين؟ هو عدو النار، فهذا مُستحيل هنا، وعلى كل حال يُوجَد هذا الاحتمال السلبي، أي أن يتفوَّق هدمياً، ولكن بحسب السياق القرآني المُعادَلة كانت بين ماذا وماذا؟ لم تكن بين الطين والنار وإنما كانت بين الروح والنار، فالقرآن الكريم يقول هذا، لكن حتى صادق جلال العظم ضحك عليه إبليس، وعلى كل حال القرآن يقول إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ – حتى الآن هذا أمر عادي، لأن ما هذا؟ هذا حمأ أو طين أو لعبة Doll، أي لا شيئ، فهو ليس له قيمة إلى الآن –  فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ۩، طبعاً لأن الطين حين تنفخ فيه من روحك – لا إله إلا الله – سوف يُصبِح  شيئاً آخراً، ومن ثم كله يُصبِح مسجوداً لهذا بأمر الله، لكن إبليس غض الطرف وكأنه لم يسمع الجزء الآخر من الكلام وقال أن المُعادَلة بين الطين والنار، لكن ليست المسألة تتعلَّق يا إبليس يا أهبل بالطين وإنما بالروح، لكن هكذا يضحك علينا – لعنة الله عليه – هذا البعيد، فهذا هو إذن، ولذلك إبليس – لعنة الله عليه – كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً ۩، لماذا؟ لأنه جعل نفسه نداً لله، أراد أن ينتقص من صلوحية الله المُطلَقة غير المُقيَّدة وغير المشروطة بإصدار الأمر والنهي، لماذا؟ لأنه هو الخالق المُبدِع، قال تعالى أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ ۩، بما أن الخالق هو خلقك وخلق كل شيئ فهو الوحيد الأوحد الذي عنده سُلطة مُطلَقة أن يأمر وينهى، وبصراحة كل سُلطة بعد ذلك مُقيَّدة بالمُطابَقة والمُوافَقة بشرع الله وإلا لا يُمكِن هذا لأنه هو الخالق، فكيف لا يكون له هذه السُلطة؟

سأختم بهذا الجزء، وهو أروع ربما ما تكشَّف عنه التأمل في كتاب الله في هذه القصة العجيبة، فما هو؟ في البداية أظهر موقفه المُعانِد الصلف الذي يُعرِب به عن اعتقاده الزائف أنه ندٌ لله، فهل هذا الموقف زائف أم غير زائف؟ طبعاً زائف، هذا أكبر زيف، فأكبر زيف أن مخلوقاً يدّعي الألوهية ضمناً، وطبعاً فرعون ادّعى الربوبية بشكل واضح  وقال لهم أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ۩ والعياذ بالله، فهذا يحدث حتى في شياطين الأنس، لكن القاعدة تقول أن الزائف يفشل بسرعة ويتلاشى بسرعة، فالزائف لا يثبت، لأن كلمة الحق في اللغة العربية معناها الشيئ الثابت، فيُقال حق الشيئ إذا ثبت ومن ثم لا يزول، فالحق هو الشيئ الثابت، وعكس الحق هو الباطل أو الزائف، والزائف يتلاشى بسرعة، ولذلك إبليس  – انتبهوا إلى الغة القرآنية  – الآن يقول  أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا ۩ ويقول أيضاً قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُد لِبَشَرٍ خَلَقْته مِنْ صَلْصَال مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون ۩، وهنا وُجِهَت الإلهية الزائفة بالإلهية الحق  قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ۩، هل يقدر على أن يقول “لا ” الآن؟ لا يقدر أن يقول هذا، فالله قال له اخرج وأنت ملعون ومرجوم، فأدرك مُباشَرةً وتلاشت الزيوف وتلاشت الإلهية الزائفة، فماذا قال إذن؟ قَالَ رَبِّ ۩،هل الآن تقول رَبِّ ۩ وكنت قبل قليل تقول أَرَأَيْتَكَ ۩ كما لو كنت ترفع أصبعك وتُهدِّد؟  فالآن قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۩، لكن انتهى الأمر، تخرج واللعنة الأبدية والنار والسموم في انتظارك، هيا أرجع إلى أصلك، لكنه على كل حال قَالَ رَبِّ ۩، فالآن عرف أنه ربه، مَن هو الرب؟ هل الآن عرفت معنى الربوبية يا إبليس؟ فإذن قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۩، لكن انظروا الآن إلى الإلهية الحق المُستغنية التي تتصرَّف في لا زمان فانتبهوا، علماً بأنني لا أدري هل أنا قلت هذه الجُزئية في درس من الدروس الخاصة وما إلى ذلك أم في خُطبة جمعة، لكن على كل حال لماذا مكر الله لا يُغلَب؟ لماذا الله لا يُسبَق؟ لماذا الله لا يُعجَز؟ لماذا مكرنا في أي لحظة من المُمكِن أن يفشله الله وأن يقلبه علينا مُباشَرةً مهما كنا أذكياء ومعنا أمريكا والصهيونية وإسرائيل والعالم كله؟ هل تعرفون لماذا يُمكِن لله أن يقلبه في لحظة؟ لأن الإنسان يتصرَّف في الزمان، والله يتصرَّف في لا زمان، هو في الأبدية فلا يقدر عليه أحد،تقول الآية الكريمة وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ۩، إذن هو –  لا إله إلا هو – يتصرَّف في اللازمان، فكيف تقدر عليه؟ ولذلك وبكل بساطة أيضاً هذا هو منطق المالك – لا إله إلا هو – للظروف كلها الزمانية والمكانية، تقول الآية الكريمة قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ اذهب ولا مُشكِلة في هذا – إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ۩، أي ارجع، فلعب الآن دور ماذا؟ الضحية، ولكن يا ملعون أنت قبل قليل  كنت تلعب دور الإله الزائف وجعلت نفسك نداً لله لكن الآن تلعب دور الضحية، تقول الآية الكريمة  قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ۩، فكيف تقول  بِمَا أَغْوَيْتَنِي ۩؟ هل الله هو الذي أغواك؟ لماذا تقول هذا؟ انتبهوا – هنا أختم بهذا – لأن هذا من المُهِم جداً أن نُدرِكه، فكل تأله زائف يُمكِن أن يكون تزييفاً وتقنيعاً وتلفيقاً لماذا؟ للمنطق الاستضحائي، أي أنه ضحية، لكن ما معنى التأله؟ التأله يعني الكمالية، فيُقال أنني لا أُخطيء ولا يند عني شيئ ولا أتجاوز وكل شيئ معلوم عندي وتصرفاتي محسوبة دقيقة صحيحة بالمُطلَق كأنني إله، ثم يأتي بعد ذلك دور الضحية  على العكس فيُقال أنا لست فاعلاً أصلاً، أنا ذات Object، أي مفعول بي، فالقدر ضدي والكون ضدي والأمريكان واليهود والمُنافِقون وكل العالم ضدي لكن أنا بريء، وهذا أمر عجيب، لكن هذه إرادة مُطلَقة وهذا لا إرادة، وهذا فاعل أوحد لكن هذا لا فاعل بل موضوع، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فكيف راوح إبليس بين المنطقين بسرعة في دقيقة؟ لأن الزائف – كما قلت لكم – يفشل، فالزائف يفشل بسرعة ولا يستطيع أن يبقى مُعتمِداً على موقف ادّعاء الإلهية الزائفة، ولذا يفشل هذا وقد فشل لما وُجِه بالإلهية الحقة، لكن قد يقول لي أحدكم الله قال له لإبليس اخرج وأنت مرجوم وملعون فماذا عنا نحن؟ كيف يحدث هذا؟ أنا أقول أن هذا يحدث بالمرض أحياناً،مرض مُدمِّر  مثل السرطان ويُقال لك بقيَ من عمرك خمسة أشهر، وهذا مُمكِن لأن بعضهم لا يستكين فيأتي الموت في نهاية المطاف ويقول له تعال هنا، وفرعون نفسه ماذا قال؟ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ۩، فما هذا؟ هل آمنت الآن يا فرعون؟ لأن الموت قال له تعال، فهنا تُواجَه أيضاً الزيوف بالحقائق الصعبة وبالربوبية وبتصرف الله المُطلَق لا إله إلا هو، وكل منا سيُواجَه بهذا يوماً بمعنى أو بآخر وبقدرٍ أو بآخر دون أي كلام  فتفشل الزيوف بسرعة، ولذلك يُراوِح كان بين موقفين في الظاهر أنهما مُتناقِضان تماماً وفي الباطن مُتطابِقان تماماً، فالإله الزائف هو ضحية زائفة، لماذا؟ لأن الذي يدعي أنه لا خطأ له تماماً كالذي يدعي أنه لا خطأ له، ولكن مرة هنا بإسم القوة حين يكون في موقف قوة ومرة هنا بإسم الضحية حين يكون بلا قوة، ولكن في المرتين هو بلا أخطاء، فهو لا يعترف بهذا، ولذلك إبليس لم يشعر مرة أنه أخطأ، فإذن  لم يشعر قطعاً وبالحري بالندم لكي يقول رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ۩، فلو قالها لغفر له مثل آدم لكنه لم يقلها، والآن نحن كبشر منا مَن يلعب دور إله زائف مثل فرعون أيضاً، والفراعين كثيرون فانتبهوا، لأن فرعون ليس حالة فردية، هذا نموذج ونمط  – Pattern – موجود، ومنا مَن يلعب – وهؤلاء الأكثر لأن أكثرنا ضعفاء طبعاً، بدليل وجود تسعين مليون شخص ورجل واحد مُستبِد و بدليل وجود خمسين مليون شخص وطاغوت واحد وهكذا، فأكثرنا ومُعظَمنا ذلك الضعيف – الضحية الذي هو بلا أخطاء أيضاً، فالكون كله يتآمر عليها ولكن هو بلا أخطاء، فهل هذا الموقف أو هذا الموقف هو موقف بشري؟ ليسا كذلك أبداً، فكلا الموقفين موقفان إبليسيان وشيطانيان، هذا تقنيع فقط، فأحدهما يُقنِّع الآخر، ولذلك المُراوَحة بينهما تُصبِح بسرعة، فينتقل من إله زائف إلى ضحية، وحين تعود إليه القوة والسُلطة ينتقل إلى إله زائف وهكذا، لكن أنا كإنسان أين أقع؟ أقع في المُنتصَف تماماً، فأنا لست بإله ولكن فيَّ من روح الله، إذن عندي الإرادة وعندي القدرة وأستطيع أن أتبيَّن رشدي وهُداي، ولكن أنا أيضاً ابن الطين ولذا أتدلى وأضعف وأغش أحياناً ويعتريني الملل واليأس والإحباط وخوف الفشل، وخوف الفشل شيئ عظيم التأثير في الإنسان، فماذا أفعل؟ هنا قال لك إدراكك لهذه الحالة الاستقطابية مع استمدادك للعون من الله – تقول الآية الكريمة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩، وهناك آية تقول أيضاً وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ۩ – هو الذي يجعلك تتوتَّر التوتر الصحيح، ومن ثم تعيش بشراً وتأبى أن تدعي إلهية زائفة – لا تلعب هذا الدور اللعين – وتأبي أيضاً أن تُحيل نفسك إلى ضحية بائسة، ومن هنا تقول هذا  خطأي وأنا أعترف به، أنا أخطأت وأعتذر منكم يا إخواني أو أنا أخطأت يا ربي فاغفر لي أوأنا أخطأت يا ابني ويا صاحبي ويا زوجتي فاغفروا لي لأنني اخطأت، أنا كنت مُخطئاً وهذا أمر طبيعي، هذا لا ينقص مني لأنني من البشر
والخطأ طبعي.

هنا عظمة الإنسان وهنا سر قوة الإنسان وهنا تماسك الإنسان من أن يلعب دوراً زائفاً يُكتَب عليه الفشل باستمرار في التأله أو الاستضحاء.

 أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

بجُملة قبل أن نمضي فقط أقول لماذا الله لا يغفر الشرك؟ لأن الشرك أساساً يعني التزاماً مبدئياً بالعدمية، بمعنى أنني لا أُبرِّر أي قيمة أخلاقية بما تتبرَّر به – وبه وحده تتبرَّر – وهو الاستناد إلى الماوراء وإلى الله تبارك وتعالى،ومن هنا فالشرك بلغة أخلاقية يعني ماذا؟ إمكانية مفتوحة وعلى الدوام لارتكاب أبشع الجرائم وأشنع القباحات، وهذا ما علَّمناه أيضاً درس التاريخ المُعاصِر وغير المُعاصِر، ففي أي لحظة ينهار التسامح وينهار التصالح وينهار السلم وتأتي الحروب التي لا تُبقي ولا تذر ولا تستند إلى أي معيار أخلاقي – والعياذ بالله  – وذلك من أجل مصالح دول وشعوب وطوائف وأشخاص وأحياناً أحزاب ضيقة وضيقة جداً، ولذلك الشرك لا يُغفَر ولا ينبغي أن يُغفَر لا لإنه انتقاص من جلال الله – الله لا يزيد ملكه ولا ينقص لا بإيمان ولا بشرك – ولكن لأنه اجتثاثٌ للشرط الإنساني من أصله، فبالشرك بهذا التحليل الفلسفي تستحيل الحياة الإنسانية ويستحيل وجود مُجتمَع، وقد تقول لي كيف هذا والآن هناك مُجتمَعات مُلحِدة؟ لكن أنا أقول لك أن جذر كل ما هو خيِّر في النهاية ضارب فيما في الماوراء وضارب في الديني بطريقة أو بأخرى، ولذلك بلغة علي عزت بيجوفيتش Alija Izetbegović – رحمة الله تعالى عليه – يُمكِن أن يُوجَد – وفعلاً موجود – ملاحدة أخلاقيون – ومعروف لماذا –  ولكن لا يُمكِن أن يُوجَد إلحاد – وإلحاد حقيقي – أخلاقي، فالإلحاد لا يكون أخلاقياً، لكن هل كشخص مُتعيِّن مُلحِد من المُمكِن أن يكون أخلاقياً؟ نعم هذا مُمكِن، لماذا؟ لأنه يتأثَّر بحسب تربيته وتأثير الفنون والآداب والأشعار والميثولوجيا – Mythology – والأمثال والقصص والحكايا وإلى آخره، وهذه كلها تضرب بجذورها في الديني وفي الميتافيزيقي وفي الماورائي، فيبقى لديه تأثير هذه الجذور دون أن يشعر.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، اللهم إنا نعبدك ونستعينك ونستغفرك ونستهديك فاهدنا الصراط المُستقيم فلا نضل ولا تغضب برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات، اللهم احفظ بلادنا كلها من كل سوء برحمتك يا أرحم الراحمين وجنِّبها الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ألهِم قاداتها الرشد وما فيه صلاح البلاد والعباد برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

(22/2/2013)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: