إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ۩ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ۩ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ۩ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ۩ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ۩ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ۩ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ۩ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ۩ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ۩ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

لعل أول سؤال يتبادر إلى خاطر الصائمين بعد انقضاء شهر رمضان الكريم، هو هل تقبَّل الله – تبارك وتعالى – منا صيامنا وحسنات أعمالنا، أم لم يتقبَّل؟

وجواب هذا السؤال، الذي قد يبدو صعباً جداً، قد يكون ميسوراً جداً. معرفة هذا الأمر تتوقَّف على حالك بعد رمضان، مَن وجد نفسه بعد رمضان سائراً أو مُواصِلاً السير في طريق الانكفاف عن المعاصي كما كان في رمضان، الاستكثار والتزود من الطاعات والخيرات، فهذه علامة شبه مُؤكَّدة على أن الله – تبارك وتعالى – قبل منه، وقد أفلح وأنجح، وقد أفلح وأنجح!

كيف ينجح المرء منا في امتحان الدنيا؟ في أي امتحان، مدرسي، أو جامعي، أو وظيفي. كيف؟ حين يُفلِح في الجواب عن السؤال بالطريقة الصحيحة، سؤال الصوم، ما هو؟ تكميل النفس، تكميل النفس! القُرب من الله، زيادة المُستوى التقوي، أو التقوائي – إن شئتم -. وكيف يُعرَف هذا؟ هذا هو الجواب. هذا السؤال وهذا هو الجواب! إن حصلت هذه الزيادة، إن حصل هذا الاستكمال للنفس بالانكفاف عن المعاصي والتزود من الطاعات، بتحسين الخُلق الظاهر والباطن يا إخواني، بالشعور بمزيد من التقوى والقُرب من الملك الحق – لا إله إلا هو -. واضح أننا أجبنا عن السؤال إذن، إذن نجحنا، إذن قُبلنا، هذه هي المسألة.

بعض الناس يا إخواني – ونسأل الله أن يكونوا هم الأقلين – كأنه يخطف خطفة في رمضان، ثم يُدبِر بعد ذلك عائداً في حافرته، عائداً في حافرته! يعود كما كان قبل رمضان، وربما أسوأ، لأنه ظن أنه ربما غُفِر له، وقد سمع الإمام أو قرأ في كتاب أن مَن صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، وفي روايات وما تأخَّر أيضاً. قد يتوهَّم أنه حصل له هذا الفضل العميم، إذن لِمَ الاجتهاد؟ لِمَ التعب؟ لِمَ رياضة النفس ومُجاهَدتها وخطمها وزمها ومنعها من شهواتها وأهوائها؟ لا! لا بأس إذن.

وهذا تلبيس عظيم من إبليس، على المُسلِمين، على المُؤمِنين، على العاملين. تلبيس عظيم، من أعظم التلبيس! لأنه غرور واستناد واتكاء على وهم، ما أدراك؟ ما ومَن أدراك أن الله قد غفر لك ما تقدَّم من ذنبك؟ وواضح أنه لم يفعل – تبارك وتعالى -، كيف؟ لأنك أسوأ الآن منك في رمضان، في رمضان كنت أفضل، وهذه معناها أنه لم يقبل منك، لأنه لو قبل منك، لظهرت علامة القبول. علامة القبول أنك ارتفعت الآن درجة في سُلم التقوى، أو درجات – بفضل الله -، وحالك يُنادي عليك بأنك لم ترتفع، بل تسفلت وانحططت، إذن لم يقبلك ولم يغفر لك. هذا من تغرير الشيطان – لعنة الله عليه – بالعاملين السائرين إلى الله – تبارك وتعالى -.

ثم الأمر من وراء الكلام عن القبول والرد، أخطر من هذا وأعمق من هذا. إنه أمر استشعار العبد حاجته، أن يكون قريباً من الله – تبارك وتعالى -، هل تستشعر هذا بحق؟ وقد سمعت قول مولاك – لا إله إلا هو – يَا أَيُّهَا النَّاسُ ۩. ولم يقل – جل مجده – يا أيها الذين آمنوا. قال يَا أَيُّهَا النَّاسُ ۩. وفي الحقيقة هذا الخطاب يعم الخلق كلهم، لكن المقصود الآن مُخاطَبة هذا الخلق العاقل المُكلَّف، الآدميين! وإلا فمن عرشها إلى فرشها مُفتقِرة إلى الله – تبارك وتعالى -، كل شيء عدا الله – لا إله إلا هو – فقره ذاتي له، من ذاته! بوصف مخلوقيته، بوصف مربوبيته لله، انتهى! هو فقير، وفقير من جميع الحيثيات والنواحي والجهات، مُبتدأً ومُنتهىً وتوسطاً. فقر الخلق ذاتي لهم، لا لأمر خارج عن كونهم مخلوقين. بما أنك مخلوق، فأنت فقير، مُباشَرةً! بعنوان المخلوقية، أنت مخلوق، لست خالقاً، فإذن أنت فقير ومن جميع الجهات. هو – لا إله إلا هو – خالق، غير مخلوق، بل هو خالق الخلق ومُدبِّرهم – لا إله إلا هو -، غني لذاته، من ذاته، لا لأمر خارج. هو غني، لأنه خالق – لا إله إلا هو -، غير مخلوق، ليس له بداية، وليس له نهاية، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ۩، لا إله إلا هو! قبل كل شيء، وبعد كل شيء، وفوق كل شيء، ومالك طبعاً ومُدبِّر لكل شيء، وقاهر لكل شيء – لا إله إلا هو -، فغناه ذاتي له، لا يُفسَّر بأمر خارج كونه هو هو – لا إله إلا هو -، لأنه الله، لأنه الخالق، فهو غني غنىً ذاتياً، لا يُفسَّر بأمر خارج.

وكما يقول المناطقة والفلاسفة الذاتيات لا تُعلَّل. الذاتيات لا تُعلَّل! وقلنا مرة وضربنا مثالاً بسيطاً وقريباً بحلاوة السكر؛ أنت تُعلِّل حلاوة الشاي بما وُضِع فيه وأُذيب فيه من السُكر، ولكن بِمَ تُحلِّل أو بِمَ تُعلِّل حلاوة السُكر؟ لا تُعلَّل، لأنها ذاتية. حلاوة الشاي ليست ذاتية له، الشاي بحد ذاته مُر، أقرب إلى المرارة، أليس كذلك؟ أما السُكر فهو حلو من ذاته، تركيبته الكيمياوية تجعله كذلك، هذه ذاتيتها والذاتي لا يُعلَّل، الذاتي لا يُعلَّل!

ولذلك فقر العالم إلى مولاه – لا إله إلا هو – بعنوانه، لأنه ليس الله، لأنه غير الله، لأنه سوى الله، فقير! ولا نحتاج ربما إلى طريقة الفلاسفة، أن نُعلِّل افتقار العالم بالإمكان، ولا إلى طريقة المُتكلِّمين من علماء العقيدة الإسلاميين، بأن نُعلِّل فقر العالم إلى الله بالحدوث، ربما لا نحتاج لا إلى التعليل بالحدوث ولا إلى التعليل بالإمكان، هو فقير ذاتياً، لأنه ليس الله، لأنه خلق، مخلوق، انتهى! فقير.

ففقر المخلوقات ذاتي، فكيف بفقر الإنسان الذي نص الكتاب الأجل على أنه خُلِق – لا إله إلا الله، أي بُنيَ، كُوّن، صيغ، أُفرِغ – ضعيفاً؟ خُلِق ضعيفاً! وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا ۩، أنت كائن ضعيف، أضعف بكثير مما تتوهَّم. والإنسان أكثر كائن ربما في الكون – والله أعلم – يخضع للأوهام والأحلام والخيالات وصنوف وألوان الغرور، حتى أنه قد يبلغ به الأمر والحال أن يدّعي الربوبية، أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ۩، مثل فرعون المجنون، جُن! أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ۩، كيف تكون رباً؟ ما هذا الرب الذي مُعظَم ما حوله أقوى منه في باب باب، في باب باب؟ هذا أقوى منه في كذا، وهذا أقوى منه في كذا، وهذا أقوى منه في كذا. مُعظَم ما حوله من الحيوانات والمخلوقات أقوى منه، فكيف يدّعي هذا؟ هو ضعيف، أضعف مما يظن هذا المسكين، أضعف مما يظن! وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا ۩. ومن هنا هو أحوج إلى العطاء والرحمة والمدد، أحوج إلى عطاءات الغني القوي – لا إله إلا هو -.

وسُبحان مَن جلت حكمته في كل شيء وظهرت واستبانت ونادت على نفسها بنفسها. تدريج خلق الخلق، ومن بين الخلق الإنسان بالذات، والكلام عن الإنسان الآن، تدريج خلقه! أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ۩، ثم بعد ذلك برزت مُقوماته الأولية، نُطفة الأب، ونُطفة الأم – أي بُييضة الأم -، نُطفة مذرة، صغيرة، حقيرة الشأن في حد ذاتها، لا شيء! مئات الملايين منها، نطاف الرجل تذهب هباءً هكذا، ليس لها قيمة في حد ذاتها والقرآن دائماً يذكرها، لكي نعلم قلتها وضآلتها وحقارتها في ذاتها.

ثم جرت عليه الأطوار المذكورة في القرآن الكريم والموصوفة في بعض الآثار بالتارات السبعة، وقد ذكرناها في خُطبة قريبة، بالتارات السبع! ثم خرج قطعة لحم ضعيفة، تموء كالقطة، ضعيفة! أضعف طفل من أطفال الثدييات هو الطفل الإنساني، وهو أطول الثدييات طفولة أو طفولية، يحتاج تقريباً إلى خمس عشرة سنة وهو في قيد الطفولية، لا يستقل بنفسه، وترون ثدييات أُخرى كثيرة، مثل الحصان والأبقار والثيران، بعد أن تلد برُبع ساعة أو بعشرة دقائق تقوم، تلحسها أمها وتقوم، وتبدأ تعدو وتبدأ تجري، تستقل بنفسها بسرعة شديدة، إلا هذا المسكين، ضعيف! ضعيف ولا يعرف شيئاً من العالم إلا ثدي أمه، العالم كله مُختزَل في أمه، التي لا يرى وجهها بشكل جيد، يحتاج تقريباً إلى أربعين يوماً حتى يبدأ يستبين الوجوه. قضية التمييز والتفرقة لا تزال موضوعاً آخر، ضعيف ضعيف ضعيف، لا يستقل عن أمه إطلاقاً هنا.

ثم أيضاً في أطوار الطفولية يبدأ الاستقلال شيئاً فشيئاً، شيئاً فشيئاً. تدريج في الخلق وتدريج في الاستقلال، لئلا تقع في وهم أنك مُستغنٍ ومُكتفٍ وغني بذلك، لست كذلك، لم تكن لحظة أو لُحيظة ولن تكون، إلى أن تموت، لست كذلك! لكن – سُبحان الله – الإنسان عجيب، قدر ما أوتيَ من الذكاء ونور العقل ونور الفطرة، لكنه بطمسه لها – لهذه الأنوار: نور العقل ونور الفطرة – بالأهواء والأميال النفسانية والثقافات المغلوطة المُسمَّمة الإبليسية (أبالسة الإنس والجن)، يغدو من أغبى وأحمق المخلوقات، يدّعي دعاوى لا يملك عليها أدنى دليل، ويعيش وفق فلسفة لا يُمكِن أن تنهض على ساق واحدة، فضلاً عن أن تنهض على ساقين، كأنه خلق نفسه، وأوجد نفسه، ويقوم نفسه كما قال ذلك المُلحِد في كتابه Man Stands Alone. يقوم وحده – قال -. الإنسان يقوم وحده. لا! لا يقوم وحده، مَن قال لك هذا؟ متى قُمت وحدك؟ أنت الآن أصلاً لا تقوم وحدك، وسنُثبِت هذا. حياتك، تنقلاتك، تدرجاتك، وهيئتك الاجتماعية التي تعيش فيها، تُؤكِّد أنك لا تقوم وحدك، ولا تستطيع، حتى وإن كنت ملكاً على البلاد أو رئيساً مُسلَّطا، مُنتخَباً أو غير مُنتخَب، لا تقوم وحدك، وستموت وأنت لم تقم لُحيظة واحدة وحدك يا مسكين، من أين لك هذه الأوهام والتغريرات والجهالات المُتراكِبة المُتراكِمة؟

غر نفسه، وغره هواه وجهله المسكين، هكذا! فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ ۩، القرآن يقول هذا. الإنسان يفتن نفسه أحياناً، بأن يبتلع فلسفات وأفكاراً باطلة، هبائية، عدمية، ويُصدِّقها، وهو يُحِب أن يُصدِّقها، لكي يُشبِع نزعة – هذه نزعة – إبليسية في نفسه، أنه شيء كبير، أكبر بكثير مما ينبغي أن يتواضع لحقيقته.

يبدأ يستقل عن ثدي أمه، حين يُصبِح مُهيئاً لتناول الطعام، هناك شيء من الخُبز أو شيء من الأشياء السميكة. فيبدأ يستقل، إلى أن يستقل عنها بالفصال، ينفصل! لكنه لا يستقل عن الطعام الذي تأتيته به وتُعده له وتُهيئه له. فإن استقل عن ذلك، لم يستقل عمَن يأتيه بهذا الطعام، بثمن هذا الطعام، عن أبيه! حتى إذا أصبح شاباً قادراً على العمل والتكسب أو الاكتساب بيديه، بكد يمينه وبعرق جبينه، شعر أنه استقل عن أبيه، مع أنه استقلال زائف أيضاً، مبني على ماذا؟ على الاعتماد الأول. والاستقلال الذي قبله مبني على ماذا؟ على الاعتماد السابق. كلها! لم تكن بداية استقلالية، هي بداية اعتمادية مُنذ الأول.

دائماً يخطر لي: ماذا لو أن الله – تبارك وتعالى – لم يضع في قلوب الوالدين (الأمهات والآباء) هذه الرحمة وهذا التحنان الغامر على صغارهم، في عالم الحيوان عموماً، والإنسان من ضمنه؟ لانقرضت الأنواع سريعاً وانتهى الأمر، لانقرضت الأنواع سريعاً! وخاصة النوع الإنساني – كما قلنا -، لأن الطفل الإنساني أعظم أطفال الثدييات اعتماداً على والديه، إطلاقاً! أول نوع ينقرض هذا النوع، على أنه بحسب الأدلة العلمية نوع قريب العهد بعمارة الأرض، أي عُمره بضع مئات الألوف من السنين، أي يصل عمره إلى مائتي ألف أو ثلاثمائة ألف، أي في هذه الحدود فقط، النوع الهوموسابيانس Homo sapiens! أما السابيانس سابيانس Sapiens sapiens وهو نحن فيختلف، ربما يصل عمره إلى مائة ألف سنة فقط، فقط! قريب العهد. وهم يحدسون الآن بأنه أيضاً وشيك الانقراض لحماقاته، علماء كبار في الأنثروبولوجيا Anthropology وفي أحياء التطور وفي أشياء كثيرة، يقولون لك هذا قريب، هذا النوع سينقرض قريباً. لماذا؟ يبدو لأن تمكنه من استعمار الأرض والسيطرة عليها لم يترافق مع قدر مطلوب لهذه العمارة من الحكمة. وربما هذه ضرورة الشريعة، تنزل الشرائع الإلهية لأن الله – تبارك وتعالى – يعرف هذا، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ۩، يعلم أن هذا المسكين لا يستطيع أن يستقل وحده، سوف يُخرِّب حياته وسوف يُخرِّب الكوكب، وقد خرَّبه على فكرة، الكوكب الآن في طريق التخريب، أنتم تعرفون هذا وتقرأون عن البيئة ومشاكل البيئة، لأن هذا الحكيم الغبي، هذا الحكيم المُتربب الزائف، الإنسان أنقص ذكاءً وحكمة من أن يستمر طويلاً، فقالوا ربما يكون من أقل الأنواع عمراً على الإطلاق. والكوكب عمرته ملايير الأنواع في بعض التقديرات، ملايير! وهذا سوف يكون الآن ربما أقصر الأنواع عمراً، أي هذا المسكين، هذا المُستكبِر على ربه، غير المُدرِك لحقيقته، لذاتياته! صاحب الأوهام، الذي يعيش في نسج أوهام نسجها له غروره وجهله، نعم!

فيستقل الآن، يشعر أنه استقل عن أبيه، ولكنه غير مُستقِل عمَن؟ عمَن علَّمه المهنة. إن استقل عمَن علَّمه وأعطاه شهادة الاختصاص، لم يستقل عمَن يُوظِّفه ويعطيه راتبه ورزقه. إن استقل وأنشأ عملاً، لم يستقل عن الدوائر الحكومية التي تعطيه الأذونات بهذا. وهكذا هكذا، كل واحد يعتمد على ماذا؟ على آخرين. كما قلت لكم حتى الملك والرئيس، مُنتخَباً كان أو غير مُنتخَب، غير مُستقِل، على الأقل ليس عن البطانة وعن الحرس وعن الجيش الذي يحميه، لا! ليس مُستقِلاً حتى عن شعبه، الذي إذا عنّ له أن يثور عليه، دمَّر كل شيء، مثل البحر الهائج الطمطام، لم يقف أمامه لا حرّاس ولا جيش ولا استخبارات، دمَّر كل شيء! ونرى كيف تُدمِّر الثورات وتحرق وتأكل الأخضر واليابس. يبقى دائماً في حالة خوف المسكين!

حتى لو فُرض أن هناك مَن يشعر بأنه مُستقِل عن كل أحد، هل هو مُستقِل عن رحمة ربه – لا إله إلا هو -؟ هل هو مُستقِل عمَن يعطيه أنفاس حياته نفساً فنفساً؟ ومعروف وبالعقل وبالحساب البسيط أن كل إنسان يموت يكون له آخر نفس يتنفسه، هناك نفس واحد، خرج ولم يعد كما يُقال، زفر ولم يشهق، مات! آخر نفس.

يا أيها المعدود أنفاسه                                    لا بد يوما أن يتم العدد.

عدد وأنفاس محصية، أنفاس محصية! يُحكى عن العارف الخطير المُعاصِر عبد الواحد يحيى، المُهتدي الفرنسي، الفيلسوف والمُفكِّر البحّاثة العالمي رينيه جينو Rene Guenon، أنه قال لأولاده وكان يلفظ آخر نفسه، قال يا أبنائي انتهى، انتهى النفس. ومات – قدَّس الله سره – بعد أن استعلن بكلمة الشهادة. قال انتهى النفس. هذا آخر نفس، آخر نفس!

أنت غير مُستغنٍ، ولا تدري هل هذا الذي تتنفسه آخر نفس أو قبل الأخير بواحد أو باثنين أو بعشرة أو بمليون؟ لا أحد يعلم، لا أحد يعلم!

وغريب شأن الأمراض يا إخواني، كم تقدَّم الطب في هذا العصر! لم يتقدَّم في عصر من الأعصار سبق مثلما هو مُتقدِّم في هذا العصر، ولكن تبقى هناك طائفة طويلة أو قائمة طويلة جداً من الأمراض، تتحدى الطب والعلم والتقدم بشكل مُزعِج، يُزعِج العلماء والأطباء، ويُخيف الجنس البشري، يُرعِبنا، يُرعِبنا! موجودة دائماً دائماً دائماً. وهناك أمراض حتى لا سبيل إلى فهمها فهماً دقيقاً، كيف تنشأ؟ ما القضية؟ ما الأمر؟ ما قضية هذه الأمراض؟ شيء غير مفهوم يا إخواني، على كل حال هذا هو.

ولذلك أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۩، والله يُخاطِب الناس جميعاً، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ۩. الفقر فقران يا إحبابي – إخواني وأخواتي -: فقر اضطرار، وفقر اختيار. أما فقر الاضطرار فلا يتعلَّق به مدح ولا ذم، ولا عقوبة ولا مثوبة. محكوم به الخلق كلهم، كما قلنا بعنوان المخلوقية، الخلق كله فقير إلى الله – تبارك وتعالى -. فهذا فقر اضطرار طبعاً، بما أنه مخلوق وليس خالقاً، فإذن هو فقير، انتهى! هذا فقر اضطرار، لا يتعلَّق به لا مدح ولا ذم، ولا ثواب ولا عقاب، ولا يستطيع أحد أن يُفلِت منه أصلاً، وهو محكوم به، فلا يُمكِن لأحد أن يقول لكم أرأيتم؟ أنا انبثقت إلى الكون بغير أسباب، وبغير تدرج، وبغير نُقلة. فجأة وجدتني هكذا ووجدتموني هكذا، كائناً تاماً، لم يُحمَل بي، لم أُولَد، لم أتدرَّج. كائناً تاماً، شاباً قوياً أيداً أسد أشد، قد أخرق الأرض، قد أبلغ الجبال طولاً، لا أمرض، لا أتعب، لا أنام، لا أنسى، لا أُستفَز. أين هذا؟ لا يُوجَد مثل هذا، هذا الإله الكاذب غير موجود.

وهذه حكمة أن الله خلقنا – كما قلت لكم – بالتدريج، لكي تعرف أنك مشمول مُكتنَف بالضعف والفاقة والحاجة من جميع جهاتك وفي كل أطوارك، إياك أن تظن أنك مُستغنٍ. وعلى فكرة الذي تستغني به وتظن أنك تستغني به عن الله – تبارك وتعالى -، من أب أو أم أو رئيس أو مُعلِّم أو سُلطان أو… أو… إلى آخره، هو أيضاً فقير مثلك، غريق يتعلَّق بغريق. وكما نقول دائماً أنت تستغني به اليوم لحاجة غد، يأتي غد وهو غير موجود، مات! ماذا تفعل؟

ولذلك روى الإمام الحاكم وصححه في مُستدرَكه، يقول الله – جل مجده – يوم القيامة مُخاطِباً عباده أليس عدلاً مني أن أولي كل أحد منكم ما تولاه في الدنيا؟ والله هذا عدل يا رب. اللهم اجعلنا مِمَن لم يتول إلا الله، لأنه سيولينا ذاته – لا إله إلا هو -، يقول أنا اليوم وليكم، أنا اليوم وليكم كما جعلتموني واتخذتموني وليكم مُدة بقائكم في الدنيا. آخرون تولوا الأصنام أو الأحجار أو البشر أو الإنس أو الجن، انتهى! أو الشمس أو القمر، والله سوف يقول لهم اذهبوا إلى مَن توليتم. وهذا عدل! أنت كنت توليته، واعتمدت عليه، وجعلت ثقتك واعتمادك جميعاً عليه وبه، فاذهب إليه، اذهب إليه!

وعلى فكرة هذه النتيجة حتى في الدنيا – كما قلنا قبل قليل -، ولكن الناس لا تفهم، الناس تعيش مع المظاهر، أنني أتولى هذا الرجل القوي الغني، يستطيع أن يمنعني ويستطيع أن يُعطيني وأن يُغنيني وأن… وأن… أنت تُريده لغد، ويأتي غد وهو غير موجود، ربما يكون في المُعتقَل، وربما يكون في القبور تحت الأرض، وربما غيّب،  سُلب الذاكرة، لم يعد يعرفك، ولم يعد يعرف أصلاً أحداً، لم يعد يعرفك ولا يعرف حتى أحداً من أقرب قرباته وذويه، هذا هو، انتهى، عدم! كأنه معدوم هذا المسكين، فلا يُمكِن هذا، ولذلك وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ۩، انظر إلى القرآن، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ۩.

وأيضاً فكِّروا في قوله كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ ۩ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ۩، ما أعظم القرآن! أَن رَّآهُ ۩، الله يقول لا يُمكِن لأحد أن يستغني، هو يظن أنه استغنى. أرأيتم القرآن؟ عجيب. كان يُمكِن أن يقول كلا إن الإنسان ليطغى * أن أستغنى. ومَن قال هذا؟ هذا كذب، هذه دعوى كاذبة، هذه أكبر دعوى كاذبة، لا يُمكِن لأحد أن يستغنى، هو يظن أنه استغنى. الله قال هو يظن أنه استغنى، رأى من حاله أنه استغنى. ترى من حالك أنك استغنيت؟ كيف وبماذا؟ بماذا؟ بأموالك التي يُمكِن أن تجلب لك أعظم الأطباء في العالم؟ نعم، ها هو جاء، ليس طبيباً، بل فريق من أعظم الأطباء في العالم، ولم يفهموا علتك. يا سيدي فهموها، ولا يملكون لها دواءً، ماذا تفعل؟ لم تستغن، لا بمالك، ولا بسُلطانك، ولا بهؤلاء، ماذا تفعل؟

المُستغني بالله، والمُتولي لله، دائماً عنده ماذا؟ ما يستغني به. يرفع كفيه إلى السماء؛ يقول يا رب، يا رب اشف وحيدي، اشف حبيبي، اشفني أنا. إن تأذن الله بإجابة دعائه، رأى الفلاح قبل الصباح، ينتهي كل شيء في لحظة. وهذا مُتواتِر – بفضل الله – ويحدث دائماً دائماً مع أهل الله، باستمرار! ومَن لا يُحِب أن يُصدِّق، فهو حر. حر! دعه، فليستغن بغير الله. وجرِّب هذا، جرِّب أن تستغني بغير الله. قال لك كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ ۩ أَن رَّآهُ۩، انظر إلى هذا، عظمة! أَن رَّآهُ۩.

ولذلك حين عرَّف العارفون بالله ومَن تكلَّموا في الفقر وحقيقة الافتقار، قالوا هو البراءة من رؤية المِلك. لم يقولوا البراءة من المِلك. قالوا من رؤية المِلك. لماذا؟ لأن العارف من رُتبة نبي الله، الملك، ابن الملك، ابن النبي، سُليمان بن داود، الذي أوتيَ مُلكاً لم يُؤته أحد بعده، وكانت دعوة مُستجابة، دعوة مُستجابة! الله استجاب وأعطاه هذا، وسلَّطه في مُلكه وما ملّكه وخوّله، وقال له بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩، لن أُحاسِبك، فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩، لا حساب عليك. كأن الله – تبارك وتعالى – يقول له ضميرك وتقواك مثلهما يُعوَّل عليهما. أنت عندك من الضمير والتقوى والحكمة والورع الإيماني ما يُعوَّل عليه. اذهب وتصرَّف كما تُريد في هذا المُلك. وهو يعلم خُلق هذا النبي الملك، الذي كان يُجالِس الفقراء والمحاويج، يأكل معه ويجلس معهم. يا نبي الله – قالوا – أنت نبي وملك ابن ملك، ما ملك مُلّك كما مُلّكت، لماذا تفعل هذا؟ قال أخشى إن تركتهم، أن أنساهم. أنا أُريد بمُجالَستي إياهم أن أتذكَّر جوع الجائعين وفقر المُفتقِرين. نعم! طبعاً هو هذا، أعط أو أمسك، لا حساب عليك.

هل ترون سُليمان – ومَن مثل سُليمان؟ عليه السلام – كان يرى نفسه مالكاً للدنيا؟ أبداً أبداً أبداً! وهو بحسب النظر الظاهر يملك أو لا يملك – الملك المجازي -؟ يملك. مُملَّك في الإنس والجن والطير والوحش والأرض والبر والبحر والجو (الريح)، مُملَّك في كل شيء في هذه الأرض! ولكنه هو يرى أنه مُستخلَف ومُختبَر، قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۩، فهو يعلم أن هذا امتحان، والمُلك للملك – لا إله إلا هو -، وعما قريب سأموت، ويرث المُلك صاحب المُلك – لا إله إلا هو -، وربما يستخلف غيري فيه أو في بعضه وبعض أنحائه. فهو يفهم هذا، ولذلك هو لا يرى أنه ماذا؟ أنه مالك. يرى أنه مُستخلَف، وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۩.

فإن ورد ما يُفهِمك أنك تملك ما خُولت، فهذا من باب مُناغاة الأنانية فيك. فالإنسان فيه أنانية ضيقة صغيرة حقيرة، وهذا من باب المُناغاة لها، لكن في باب العرفان يقول لك إياك أن تحمل هذا المجاز على الحقيقة، هذا مجاز، وأنت لا تملك، لا تملك شيئاً.

يُحكى عن خليل الله إبراهيم – عليه الصلاة وعلى نبينا وسائر الأنبياء والمُرسَلين الصلوات والتسليمات، أشرفها وأكملها وأتمها وأدومها – أنه وقد علت سنه دخل ذات يوم إلى داره. فتح، فإذا رجل بهيئة جميلة وقورة ينتظر، فغضب إبراهيم وقال يا رجل ما الذي أدخلك داري ولست فيها؟ هل يدخل أحدٌ دار أحد بغير استئذان من مالكها؟ قال له قد أذن لي مالكها. فقال له أنا مالكها يا رجل! قال له لا، أذن لي الذي يملكني ويملكك ويملكها. فجلس إبراهيم، وقال إذن أنت ملك الموت. قال أينعم، أنا ملك الموت. أي إياك – قال له – أن تُصدِّق هذه المجازات، أنك تملك دارها، أنت مُستخلَف فيها، مُختبَر فيها، هذا اختبار، فقط! نزلت فيها ليال معدودات، ثم ترتحل عنها وترى نتيجة الاختبار.

قال له أذن لي الذي يملكني ويملكك ويملكها. عرف! قال له إذن أنت أنت ملك الموت. قال له أينعم، أنا ملك الموت. إلى آخر الحكاية الجميلة، ولا نُريد أن نُطوِّل، لأن فيها عظات أُخرى.

هذا هو، هذا هو الفهم الحقيقي. وسلوا – سلوا، اذهبوا وسلوا – مَن يموتون من الأغنياء والكبرياء، قولوا له الآن ماذا تملك؟ سيقول لكم واضح أنني الآن لم أعد أملك شيئاً، غيري سيملك. قولوا له لا، لا أنت ولا هم، لا أنت ملكت ولا هم سيملكون، أنتم تُستخلَفون وتُختبَرون. إياكم أن تُضيِّعوا هذا المعنى! إياكم أن تُضيِّعوا هذا المعنى!

إذن فقر اضطرار يا إخواني، حاكم على المخلوقات. وفقر اختيار، وهذا الذي يُشمِّر إليه المُشمِّرون، ويمهد إليه السائرون، ويطمح إليه الطامحون، ويرتفع به المُرتفِعون، في درج العرفان والقُربان. اختيار! أنت تختار هذا، أنت تجتهد وتروض نفسك، لتكون فقيراً هذا الفقر المُغني. اللهم أغننا بالافتقار إليك، ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك.

وهذا الفقر ليس بالضرورة أن يجعلك مُعدماً، لا تحوذ شيئاً، أو لا تملك مجازياً من الدنيا شيئاً، بالعكس! أي – كما قلنا – قد تكون مثل سُليمان، ملك الدنيا وما فيها، وهو أزهد زهادها، وأفقر فقرائها، هذا فقر الاختيار، فقر الاختيار! لم يكن يرى أنه يملك، هو بارئ من رؤية المِلك، ويعلم أن المُلك لله، لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۩. الله يقول، يوم القيامة يوم يبيد كل شيء، ويُدمَّر كل شيء، ويُبث ويُنثر هباءً كل شيء، حتى الجبال، وتستطرق الأرض مثل قُرصة النقي. يقول النبي، مثل رغيف الخُبز من الطحين أو الدقيق الأبيض، من غير شوائب، لم يُعمَل عليها بمعصية. يُنادي الملك – لا إله إلا هو – بصوت يسمعه مَن بعد كما يسمعه مَن قرب: لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۩. عشتم وأنتم تظنون أنكم تملكون. هذا يقول مالي. هذا يقول علمي. هذا يقول سُلطاني. هذا يقول سيارتي. هذا يقول بيتي. هذا يقول جيشي. هذا يقول حرسي. هذا يقول أنا. هذا يقول أولادي. وهذا يقول زوجاتي. وكل هذا غير موجود!

ولذلك العارفون يبرأون من هذه الحروف، لا يُحِبونها: عندي، ولي، ومني، وبي. لا يُحِبون هذه النسب والأحرف: عندي، ولي، ومني، وبي. يبرأون منها، ويعلمون أن كل شيء لله، وأننا فقط مُخوَّلون مُستخلَفون مُختبَرون. ولا تستطيع أن تُنكِر هذا الواقع، أن هذا يحتاز ما لا تحتاز. نعم، نعم ولكنه لا يمكله، لا يملكه! ولا يستطيع هذا المسكين أن يستديم مُلكه، لا يستطيع، لا هو ولا أي قوة في العالم، لا إله إلا هو.

وكما نقول دائماً الأمر لا يتعلَّق فحسب ببشر يخرجون من الدنيا. هناك حضارات وأمم تخرج أيضاً من الدنيا، وتُصبِح من التاريخ، تنتهي إذن، تُصبِح أثراً بعد عين، خبراً! وربما سطراً في كتاب من كُتب التاريخ، هي سطر، وقد كانت أمة كاملة أو حضارة، انتهت وذهبت. عشرات الحضارات سادت، ثم بادت، ثم الآن مُعظَمنا لم يسمع حتى بأسمائها. حضارات وبشر وصناعات وأشياء وجيوش وحروب وسلام، وكله انتهى. المُلك لله – لا إله إلا هو.

إذن فقر الاختيار، وحتى لا نُطيل – ونختم بهذا – نقول وهذا على درجات، بعضها أشرف من بعض وأعلى من بعض، والأدنى كالوسيلة للأعلى، وهكذا!

أول درجة – هذه أول درجة، وهذه فقر الزهّاد – ألا يهتم قلبك بالدنيا. لا ينبغي أن يُوجَد اهتمام حقيقي مُحرِق مُقلِق أبداً. أن تطلب الدنيا، هذا معاش، حتى الأنبياء فعلوه، تطلب الدنيا، الأنبياء رعوا الغنم وطلبوا وسألوا الله الرزق والفضل، عادي وكلنا نفعل هذا أبداً. وقد تطلب دنيا عريضة، تملك الملايين أو الملايير، لا بأس، لا يُخرِجك هذا من حقيقة الفقر – إن تحققت بها -. الدنيا في يدك، ولكنها ليست في قلبك، ليست هماً حقيقياً، الهم الحقيقي عندك رضاه وسخطه – لا إله إلا هو -، همك الحقيقي وطلبك أن يرضك. خوفك وفزعك وحُزنك ونكدك أن يسخط، ليس أنك ربحت أو خسرت، ربحت أو خسرت، هذا عادي، والناس كلها تربح أو تخسر، ولكن هذا عند الناس، هذا كلام كله، هذا كلام، كلام منابر! في الحقيقة الأمر ليس كذلك، لا! مُعظَم البشر على الإطلاق، مُسلِمين كانوا أو غير مُسلِمين، همهم الأكبر الدنيا. يُصابون بالجلطات وبالفالج، وبعضهم يموت إذا خسر صفقة عظيمة، إذا خسر نصف ثروته أو أكثر أو أقل، يموت، لا يتحمَّل المسكين. فما هذا؟ هذا عابد، ليس لله، هذا عابد للدنيا.

هناك أُناس صالحون ليسوا كذلك، كما قلنا الواحد منهم همه العظيم ألا يعصي الله في فعل واحد، ولو فعل هذا المسكين ما يسوء، يركبه من الحُزن والهم والغم والنكد ومقت النفس الشيء الذي لا يُقادر قدره. حتى يستشعر أن الله رضيَ عنه بأفعال أُخرى عظيمة، يُصلِح بها ماذا؟ ما أفسد وما خرَّق. فهذا هو، هذا الفقر!

ولذلك قال لك من علامات هذا الفقير – أول رُتبة – أنه لا يكترث بالدنيا مدحاً ولا ذماً حتى. ليس عنده كلام طويل عند الدنيا، لا يقول احذر الدنيا والدنيا الحقيرة. قال لك لأن مدح الدنيا وذم الدنيا على قدر الانهمام بها. وعلى فكرة يُوجَد عندنا شيء يُسمونه التحويل أو التصوير العكسي في علم النفس وفي الطب النفسي. حين تجد شخصاً يُبالِغ – وخاصة إن كانت امرأة مثلا، رجل يُبالِغ في مقت امرأة، أو امرأة تُبالِغ في مقت رجل، خاصة – في مقت امرأةً، أو امرأةً تُبالِغ في مقت رجل وكرهه، وتقول هذا الرجل كذا وكذا، فهذا قد يكون علامة على أنها تُحِبه حُبه شديداً جداً جداً، ولكنها لم تنله، لم تتحصَّل عليه. وهكذا الذي دائماً دائماً يتحدَّث على مدار الأربع وعشرين ساعة عن الدنيا وما الدنيا، ويقول احذروا الدنيا، هي كذا وكذا. وحين تذهب وتُفتِّش، تجد أنه تزوَّج من عشرين امرأة. عجيب! تزوَّجت من عشرين امرأة يا رجل؟ نعم. عنده تاريخ، سجل أو ريكورد Record فيه عشرون، يُطلِّق ويتزوَّج. هذا (يموت في الدنيا) – أي يُحِبها بشدة -، هذا – ما شاء الله – مُتوسِّع جداً، ويقول لك الدنيا كذا، والدنيا كذا. كلام دائم عن الدنيا، أكثر من كلامه عن معرفة الرب – لا إله إلا هو -. لماذا هذا الكلام الزائد؟ هذا الكلام زائد جداً! لأن هناك اهتماماً حقيقياً بالدنيا، هذا اهتمام حقيقي بالدنيا، وهو يذمها على قدر ماذا؟ شوقه إليها، وهمه بها، وإرادته إياها. ولم تحصل له! فقال الدنيا الحقيرة كذا وكذا، وذكر أشعاراً وقصصاً. لأنه مُهتم!

العارف الحقيقي غير مُهتم بها، لا مدحاً ولا ذماً، يكف لسانه عنها، هو غير مُهتم وهي أحقر من أن يلتفت إليها، أليس كذلك؟ أنت الآن إذا رأيت رجلاً – مثلاً نفترض – من أهل العلم، يُبدئ ويُعيد في أن الجاهل فلاناً – مثلاً – رد علىّ ونقدني وأنا أقول له كذا وكذا، فستعلم أن الأمر ليس كذلك، واضح أنه ليس جاهلاً عندك، وواضح بحسب هذا المعنى أنه زلزلك، لماذا أنت تجلس وتشتغل على مدار الأربع والعشرين ساعة بالحديث عنه؟ لو كنت ترى حقاً أنه لا وزن له في العلم، وأنت عالم حقيقي، فلن تلتفت إليه أصلاً، لن تلتفت!

ولقد أمر علي اللئيم يسبني                            فمضيت ثمت قلت لا يعنيني.

لا هو قال ولا أنا سمعت. فهذا فعلاً مَن يتكلَّم بمنطق حقيقي، لأن هذا لا يعنيه، لكن أما وقد وقف عنده طويلاً، وأبدأ وأعاد وأخذ وصدَّعنا، فهذا معناه أنه مُهتم جداً به. وكذلك الحال مع الدنيا، حين تتكلَّم كثيراً عنها، لا تهتم – قال لك -، كف لسانك عنها، وامض. إن جاءت، جاءت. إن لم تجئ، فهي حرة. إن جاءت، فهي في اليد، وليست في القلب. في اليد! هذا مُهِم جداً جداً، أن تكون في اليد، وليست في القلب.

بعض الصالحين يطلبون الدنيا، وأن تكون في أيديهم، يتخذونها مرقاةً إلى الله – تبارك وتعالى -، لكي يُعطي الواحد منهم ويتصدَّق ويبني ويكفل وكذا، من أجل هذا فقط! ليس من أجل أن يفتخر. بعض الناس يدّعي ما ليس له من الدنيا، مُفاخَرةً وإغاظةً لأقرانه وربما أخصامه. ومعروف هذا وهو موجود، هناك مَن يُصور نفسه عند عمارة، ثم يبعث الصورة إلى أهله، ويقول لهم هذه عمارتي في أوروبا، اشتريتها وما إلى ذلك. وهناك مَن يُصور نفسه عنده مرسيدس إس كلاس Mercedes S Class 560 – لا أعرف ماذا يُسمونها هذه -، ويقول لك هذه سيارتي، وعندي الكثير منها. لماذا (الهبل) هذا؟ مسكين هذا، لكي يفتخر، لكي يغيظ ابن عمه أو أخاه أيضاً، لأن هناك حسداً حتى بين الإخوة، أي أنا عندي هذا في أوروبا وأنتم ليس عندكم أي شيء. فكيف هذا؟ عقول صغيرة! هل خُلقنا لهذا؟ هل خُلقنا لهذا؟ وقد خُلقنا لنعرف الله، حتى ما عرفنا أنفسنا.

ولذلك قيل فقر الاختيار بدرجاته الثلاثة يا أحبابي هو نتيجة اجتماع معرفتين، وعلى قدر وضوح هاتين المعرفتين وقوتهما، يكون هذا الفقر والتحقق بهذا الفقر الشريف المُغني، المُغني بالله حقاً. المعرفة الأولى معرفة العبد ربه بالغنى المُطلَق. يعرف أن الغني مُطلَقاً هو الله، وليس أي واحد آخر إطلاقاً، الله وحده. والمعرفة الثانية معرفة نفسه بالفقر المُطلَق. حتى ولو ملك الملايير، يقول لك أنا الفقير، أن الفقير حقاً مُطلَقاً، وأحتاج إلى غناه وإلى رحمته ونواله وعطائه وإحسانه في كل نفس، في كل نفس!

بقدر استحكام هاتين المعرفتين، يتحقَّق العبد بماذا؟ بالفقر. وهنيئاً لمَن وُصف ونُعت وسُجّل في ديوان الفقراء عند الله! أنه فقير إلى الله، ليس فقر اضطرار، فكلنا فقراء فقر اضطرار، لا! فقر اختيار، هو اختار هذا وأدرك الحقيقة، وهذا هو العارف. ولذلك بعض العارفين قال لك هذه أعلى المقامات. ومن عندي أُجازِف، وقد أكون مُخطئاً، فأقول الآتي.

كل مَن ادّعى – هذا ليس قولي، وسأُعلِّق على هذا القول، لكن هم قالوا هذا – حالاً مع الله، وُكل إليها. وهذه مسألة مُهلِكة ومُخيفة، أنت ادّعيت حالاً مع الله، تُوكل إلى ما ادّعيت. أنا أقول من المُمكِن أن تكون الدعوى – هذا من المُمكِن، ويُمكِن أن يكون مُخطئاً، فأستغفر الله – الوحيدة التي يُستحَب لك أن تدّعيها وتعمل على أن تتحقَّق بها – أي بهذه الدعوى – الفقر. أن أنا الفقير. أكيد فقير! طبعاً من المُؤكَّد أنك فقير، أنا الفقير وهو الغني، لا أملك شيئاً من نفسي. وكلما خطر في بالك أنني أملك في دماغي الصغيرة هذه شيئاً من علم، قلت لك لا، علم ماذا يا أخي؟ قرأت ألف كتاب، أو ألفي كتاب، أو عشرة آلاف كتاب، أو خمسين ألف كتاب، أو سبعين ألف كتاب؟ ما قيمة السبعين ألف كتاب هذه كلها؟ وأنت قضيت خمسين سنة، حتى قرأت خمسين ألف كتاب أو سبعين ألف كتاب، بمُعدَّل عشرة كُتب أو أحد عشر كتاباً أو اثني عشر كتاباً في اليوم، حتى هلكت حالك، ويُمكن أن تفقدها – والله العظيم – في لمح البصر، فتُصبِح وقد انتهى الأمر، أبيض! أبيض في لحظة، تلتحق ليس بالمُخرِّفين، وإنما بالمجانين، تقول لإحداهن مَن أنتِ؟ تقول يا بابا أنا فاطمة. تقول فاطمة مَن؟ أنت ابنة مَن؟ وتقول لآخر مَن أنتَ؟ انتهيت.

فإذن تحتاجه حتى فيما تظن أنه هنا، مُخزَّن في دماغك الصغير، ولا يُوجَد أي شيء! وتحتاجه أيضاً – كما قلنا – في كل نفس، أنت تحتاجه أصلاً في وجودك، في جُملة وجودك وتفاصيله. لذلك أنا أستغفر الله مما كنت أُردِّده من وراء أيضاً سادة طيبين وعلماء مُبارَكين – رضوان الله عليهم، وألحقنا الله بهم -، أننا شحاذون على باب الله. لا! كيف يُقال إننا شحاذون؟ هذه العبارة اتضح أنها ضعيفة جداً جداً، ولن أقول ولن أصفها بشيء آخر، وهي لا تصف أي شيء. كيف يُقال إننا شحاذون؟ لا! أنت شحاذ على باب الغني، على باب الملك، على باب صاحب السُلطة، لكن أنت لست شحاذاً على باب الله، كيف تكون شحاذاً هنا يا أخي؟ أنت شحاذ؟ أنت حين تشحذ من غني، ماذا تشحذ أيها الشحاذ – نُخاطِب الشحاذين -؟ تشحذ عمامة، تشخذ لباساً، تشحذ شيئاً تركب عليه، مثل دابة، تشحذ مالاً تملأ به معدتك ومعدة أطفاله. لكن لا تشحذ رأساً، ولا تشحذ رجلين، ولا تشحذ قامة وبدناً.

قال مولانا الرومي – قدَّس الله سره، أي جلال الدين الرومي – الأمير يُهدي عمامة والرب أعطى الرأس، الأمير يُهدي ثوباً والرب أعطى القامة. إذن نحن لسنا شحاذين فقط، كيف يُقال إننا شحاذون؟ لا ينفع هذا، هذه الشحاذة من غير الله. أنت لا تشحذ رجلين، لكنك تشحذ كل شيء من رب العالمين، تطلب كل شيء من رب العالمين. تقول يا ربي أنا مُستحضِر وواعٍ وأعيش هذا المعنى، قوامي وكياني ووجودي كله المُوعى به – وأنا أعي به -، كله من فضلك ومن جودك، وهو بعض فيض خزائن رحمتك، لو سحبت المدد لحظة، لانتهى كل هذا إلى العدم. فأنا… كيف يُقال إنني شحاذ؟ هل أنا شحاذ فقط؟ لا إله إلا الله! شيء لا يُوصَف، هذا مُهِم لكي تفهموا حقيقة الفقر، ولذلك الدرجة الثانية مُهِمة.

إذن الدرجة الأولى عدم رؤية ماذا؟ أعراض الدنيا، وإن امتلكتها، لا بأس! أنت لا ترى أنك تملكها، أنت تحوذها مُستخلَفاً فيها، فلا تلتفت إليها، حتى وإن كانت في يدك، لا تلتفت إليها، ولا تهتم بها، أنت مُهتَم بربك – لا إله إلا هو -. إذن هذه الدرجة الأولى، وما الدرجة الثانية؟ الغيبة عن رؤية الأعمال الحسنة، الأحوال والمقامات وأنني كذا وكذا. تغيب عنها أيضاً، لماذا إذن؟ لأنهك تُطالِع السبق في عالم الفضل، وتعلم أنه لو لم يسبق لك ولم يُيسّر لك – لا إله إلا هو – هذا الفضل، ما أجدت عنك الأسباب والوسائل، ولا كانت الأسباب والوسائل، التي هي أيضاً من خزائن جوده وكرمه.

وانظروا إلى أعظم الخلق ممنونية، النبي المُحمَّد الأمجد الزاكي الأطهر الأبر الميمون – عليه الصلاة وأفضل السلام -، بماذا خاطبه الله – تبارك وتعالى -؟ قال له وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ۩، كان يُمكِن أن تضل، ولن ينفعك الوحي الذي نزل عليك ولا النبوءة التي نُبئت بها ولا كل العمل والتزكية التي جاهدت فيها وبها، لا بد وأن تظل مُفتقِراً إلى فضلي ورحمتي في استمرار، في كل لحظة من لحظات حياتك يا حبيبي ويا خيرتي من خلقي، في كل لحظة! ولا يُمكِن أن تستغني لُحيظة بما أسلفت من صالح العمل، لا يُمكِن أن تغتر بأعمالك التي عملتها وتقول أنا كذا. وهو أيضاً نبي ورسول وخاتم الأنبياء، لا يُمكِن هذا أبداً!

قال له وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ۩، قال له التثبيت أتى مني، وليس منك. لو وكلتك إلى نفسك لُحيظة، لخارت قواك – قال له -، لتسلل إليك الضعف البشري، وركنت إلى هؤلاء المُشرِكين. إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ ۩. الله أكبر! شيء يقشعر له البدن – أُقسِم بالله – وهو شيء مُخيف، قال له لضاعفنا عليك عذاب الدنيا، وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ۩، وعذاب الآخرة، هناك ضعفان – قال له -. يُضعّف لك العذاب في الدنيا والآخرة – قال له – يا محمد. شيء مُخيف، أعان الله رسول الله حين نزل عليه هذا الكلام، شيء مُخيف، شيء يُخيف ويُزلزِل، أُقسِم بالله العظيم! نحن حين نقرأه نتزلزل، قال له وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ ۩، التثبيت منا – قال له -، وليس بعملك وباجتهادك وبقيامك الليل وقد تفطرت قدماك، ليس بهذا!

فدائماً الفقير الحقيقي إلى الله في الرُتبة الثانية، وهي أشرف من الأولى، دائماً لا يقف ولا يغتر ولا يأبه لما عنده من أحوال ومقامات ومُنازَلات ومُطالَعات وكرامات إلهية أبداً أبداً، ويعلم أن هذا كله بفضل الله وبسبق الرحمة منه – لا إله إلا هو -، فيصير التعويل كله على الله، ليس على العمل، وليس على النفس. وهذا شيء جميل.

وآخر رُتبة، وهي أشرف الرُتب وأسناها وأرفعها وأشرفها، التي عُبِّر عنها بقولهم – هذه رُتبة العارفين الحقيقيين – العارف مَن لا يزول اضطراره. قالوا دوام الاضطرار. وهذه الرُتبة الثالثة في الفقر، كما في منازل أبي إسماعيل الهروي – رضوان الله عليه -، قال لك دوام الاضطرار. ومَن يستطيع هذا؟ اللهم اجعلنا مِمَن أدمت ضرورتهم – أي اضطراراهم – إليك. فهذه مسألة صعبة، صعبة!

تعرف أنت ما حال المُضطَر؟ مثل الغريق، يغرق في مُنتصَف البحر المُحيط. كان راكباً سفينة، ضربت في جبل جليد، مثل تيتانيك Titanic، انكسر كل شيء، مات كل مَن حوله، وبقيَ هو يتشبث بخُشيبة صغيرة، ويغوص ويخرج، يعرف القليل من السباحة، وشرب بعض الماء، شيء مُخيف طبعاً، فكيف تكون الآن الضرورة؟ كيف تكون يا الله؟ كيف تكون هذه؟ هل يُخالِطها واحد من مليار من الشك، أن هناك إلهاً ويسمع وأنه وحدي المُنجي – لا إله إلا هو -؟ ضرورة! والعارفون بالله عندهم هذه الضرورة باستمرار، يا الله! شيء مُخيف، عندهم هذا الشعور باستمرار، وسيدهم ومُقدَّمهم رسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله -، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك ولا إلى أحد من خلقك. طرفة عين: لا. فالنبي كان دائماً في حال اضطرار مع الله – لا إله إلا هو -، باستمرار، باستمرار! في الليل، في النهار، في الحل، في الترحال، في السفر، في القرار، في الخلوات، في الجلوات، في الصحة، في المرض، باستمرار! حال اضطرار، حال اضطرار دائماً دائماً دائماً دائماً.

هذه هي أعلى رُتبة، هذه أعلى رُتبة من رُتب الفقر يا إخواني، وهذا أغنى البشر، هذا أغنى المُكلَّفين، إطلاقاً! أي مَن عنده هذه الرُتبة.

اللهم ألحِقنا بالصالحين واسلك بنا مسالكهم يا رب العالمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فيا فوز المُستغفِرين!

 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

إخواني وأخواتي:

تذكَّر يا أخي المُسلِم، يا أختي المُسلِمة، أنك تحتاج إلى الله – تبارك وتعالى – بالمُطلَق وأنت وحدك، وبالمُطلَق وأنت بين الناس. أنت الآن من أهل النمسا، تعيش في النمسا، تحتاجه وأنت هنا في النمسا. تركب الطائرة، تحتاجه وأنت في الطائرة، لتذهب إلى أستراليا أو إلى آخر العالم، تحتاجه وأنت في أستراليا هناك، مع أُناس لا تعرفهم. تحتاجه وأنت في حال الصحة، كما تحتاجه وأنت في حال المرض. وأنت في حال الغنى، وأنت في حال في الفقر. وأنت موعود بشيء، وأنت محروم من شيء. تحتاجه في هذه الحالات! تحتاجه وأنت فوق، وتحتاجه حين تنتقل من هذه الأرض. تحتاجه وأنت تحت الأرض، في عالم البرزخ، وتحتاجه يوم العرض. لا إله إلا هو! تحتاجه.

تذكَّر أنك تحتاجه في كل أحوالك، وتذكَّر أنه الوحيد – لا إله إلا هو – الأوحد الذي تجده في كل أحوالك، ولا يغيب عنك – لا إله إلا هو -، الوحيد! أي شيء آخر يغيب، بلدك يغيب، ناسك يغيبون، مالك يغيب، علمك يغيب، إلى آخره! كله يغيب، إلا هو – لا إله إلا هو -، لا يغيب، وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ۩.

تذكَّر مثال أو أمثولة التجاوز، وأنك يُمكِن أن تتجاوز ثدي أمك وأنك… وأنك… وأنك… وأنك… ثم في نهاية المطاف، هل يُمكِن أن تتجاوز الأرض؟ فماذا عن إمكانية أن تتجاوز الكون – الكوزموس Cosmos – كله؟ حتى لو تجاوزت هذا الوجود المخلوق كله، وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ۩.

لذلك الله – تبارك وتعالى – هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩، قبل كل شيء وبعد كل شيء ومع كل شيء وفوق كل شيء، لا إله إلا هو! بعلمه وقهره ومُلكه وجبروته، وكل شيء! إله عظيم، لا إله إلا هو!

وعلى فكرة هنيئاً لنا – والله -! يا ربي لك الحمد عدد خلقك، ورضا نفسك، وزِنة عرشك، حمداً يليق بجلال ذاتك دائماً بدوام ذاتك، أنك شرَّفتنا وألهمتنا وأعطيتنا في كتابك العزيز، عبر رسولك الأكرم – صلوات ربي وتسليماته عليه، إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين – هذه الصورة المُعتقدية عنك، لا إله إلا أنت. من أين لفكر بشري أن يعتقد في الله هذا الاعتقاد؟ وقد ضلت فيه المُعتقَدات والآراء والفلسفات. ويا سلام، كم تاهوا! وكم خبطوا! وكم خلطوا! وكم ضربوا ضرب عشواء في عمياء – أي هؤلاء المساكين -! نحن عندنا صورة… ماذا أقول؟ هذه الصورة، هذه الصورة المُعتقَدية اللائقة بذي الجلال والإكرام، تعرَّف إلينا هكذا في كتابه، هنيئاً لنا! شرفاً لنا – والله -! يا سُعدانا في الدنيا والآخرة يا إخواني!

دائماً استحضروا هذه الصورة، استحضروا هذه العقيدة، عيشوا بها، حاولوا أن تعيشوا بها حقاً، تحقَّقوا بها – بإذن الله تبارك وتعالى -، إن تحقَّقتم بها واستشعرتم هذا الفقر حقيقةً، صرتم أغنى الناس أو من أغنى الناس بالله – لا إله إلا هو -.

اللهم أغننا بالافتقار إليك، ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك. اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك وأبناء إمائك، نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك.

نسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وذهاب غمومنا وجلاء همومنا وأحزاننا يا رب العالمين، وارزقنا تلاوته على النحو الذي يُرضيك عنا آناء الليل وأطراف النهار، علِّمنا منها ما جهلنا، وذكِّرنا منه ما نُسينا، وأقمنا على سوائه، حتى نلقاك وقد رضيت عنا الرضا التام الذي لا رضا بعده يا رب العالمين.

اللهم ارزقنا حمدك وحُسن الثناء عليك بما يليق بجلال وجهك وبعظيم سُلطانك، لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين.

رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۩، رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۩، وَتُبْ عَلَيْنَا ۩، يا مولانا، إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۩.

اهدِنا إلى الحق وإلى الطريق المُستقيم، أعِذنا من شر نفوسنا وألهِمنا رُشدنا، اللهم ألهِمنا مراشدنا وأحسن ختامنا. اللهم أقرن بالعافية غدونا وآصالنا، وحقِّق بالزيادة آمالنا، واختم بالسعادة آجالنا وبالباقيات الصالحات أعمالنا.

اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 14/6/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: