إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ ۩ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ۩ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ۩ نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ۩ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ۩ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۩ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ۩ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ۩… قال جمهور المُفسِّرين عند الاحتضار، في ساعة الموت والانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة الباقية، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ۩ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ۩…

نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۩… لأن هؤلاء العباد – جعلني الله وإياكم وأحبابنا جميعاً منهم – هم العباد الطيبون، أطايب عباد الله، طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ۩، هؤلاء هم الطيبون، هم البرآء، هم الأطهار، هم أهل الإيمان والاستقامة، هم الأنقياء، هم الذين لا يلم بهم الشيطان إلا لُماماً، ولا يستكينون ولا يستخزون لوساوسه وزخارفه وتسويلاته، على أن الملائكة تُلم بهم كثيراً، وللملك لمة بابن آدم، كما قال المعصوم – صلوات ربي وتسليماته عليه -، وللشيطان لمة.

هؤلاء اعتادت الملائكة أن تُلِم بهم كثيراً، لأنهم يُسعِدونها، يُلبونها، يُجيبونها إلى ما تطلب وما تُحِب وما تُريد، ومن هنا قوله نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۩… لقد كنتم عباداً ملائكيين، أنتم عباد طيبون ملائكيون، أطهار، نظفاء، أنقياء، مُستقيمون، أوفياء، وفيتم لله بما عاهدتم عليه، وفيتم لله بما عاهدتم الله – تبارك وتعالى – عليه، ولذلك لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.

ومن هنا يا إخواني استبشار هؤلاء، يَسْتَبْشِرُونَ ۩، تنفرد أساريرهم، وتنشرح نفوسهم، وتسطع الأنوار من وجوههم، عند موتهم، وكم رأينا وكم سمعنا عن هؤلاء! جعلني الله وإياكم منهم، وهذا بفضل الله – تبارك وتعالى -، حتى أن أحدهم جاءه أهله وأحبابه مُشفِقين عليه، إنها ساعة الرحيل، وجلسوا عنده لا يتكلَّمون، كأن على رؤوسهم الطير، فما كان منه إلا أن ابتسم ابتسامة عريضة، وقال إن كان كذلك، فإنه لموت هنيء، إنه لموت هنيء. كان فرحاً جداً، ما أهنأه! يقول، ما أهنأ هذه النُقلة! ما أهنأ هذا الترحال! إنه لموت هنيء، لموت هنيء.

إخواني وأخواتي:

مِن المُؤمِنين – بفضل الله تبارك وتعالى وبره بهم ومنّه عليهم – مَن يموت ساجداً أو راكعاً أو في البيت الحرام طائفاً ساعياً مُلبياً، منهم مَن يموت وهو يُصلِح بين اثنين، منهم مَن يموت وهو في عيادة مريض، منهم مَن يموت وهو ذاهب لإعطاء صدقة، أو بذل معروف، أو فعل خير، منهم مَن يموت وهو مُتوضيء نائم على أحسن العزائم أن يقوم ورده من الليل.

وفي المُقابِل – والعياذ بالله تبارك وتعالى – مِن المُسلِمين مَن يموت وهو في حال الفاحشة، يرتكب فاحشة، وسمعنا عن هؤلاء، وسمعنا عمَن أراد الفاحشة بفتاة صغيرة، ولكن القدر لم يُمهِله، فاحشة! أراد الفاحشة، لم يتزوجها ولا عُرفياً حتى، لم يُمهِله، بادره، فانطلقت هي، وتركته حتى أرم وأنتن وجيّف، فعلم به جيرانه، ولا أُحِب أن أذكر أكثر من هذا، الذي يُتابِع يعرف الأخبار ويعرف حقيقة هذه الأخبار، شيئ مُخيف – والعياذ بالله -، هذه ميتته؟ هكذا مات؟ وكان كبيراً في السن، جاوز الستين من عمره، كبيراً في السن، يموت على فاحشة، يلقى الله هكذا!

منهم مَن يموت وهو سكران مخمور – والعياذ بالله -، ما شاء الله! ومَن مات على شيئ بُعِث عليه، كما ثبت عن المعصوم – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله -، يُبعَث المرء على ما مات عليه. تخيَّل مَن يُبعَث ساجداً، راكعاً، مُلبياً، فاتحاً صحائف المُصحَف، يتلو كلام الله، قائماً الليل، يبذل معروفاً، يُعطي صدقةً، يُصلِح بين اثنين، يذكر الله – تبارك وتعالى -، يتفكَّر في عظمة الله، يُسبِّحه، يحمده، يسعى في خير البشرية، في خير الناس، في خير أمته، أهله، جيرانه، أهل محلته. ومنهم مَن يموت – كما قلنا – في حال زنا – والعياذ بالله -، أو في حال شرب الخمر، أو في حال مجلس غيبة وتفكه بأعراض الناس، أو في حال قرض حتى أديم الناس – والعياذ بالله – وهتك أعراضهم ورميهم بالعظائم، بالصغائر وبالعظائم!

منهم مَن يموت وهو في حال نميمة – والعياذ بالله -، وكم سمعنا عن هذا! ادخلوا على اليوتيوب YouTube واقرأوا الكُتب أيضاً والمنشورات، هناك قصص حقيقية كثيرة، وطبعاً الذين رووها ما كذبوا على الله، هم من أهل الله ومن أهل الآخرة، أُناس طيبون، يحتسبون تغسيل الأموات وعمل الصالحات لوجه الله ويسترون، لا يذكرون أي شيئ يُمكِن أن يشي بماهية وحقيقة هذا المائت، لا مكان موته ولا زمانه ولا حتى بقعته ومحلته، مات رجل – يقولون – من أهل البلد. وفقط! ويذكرون أشياء والله تقشعر لها الجلود والأبدان، أشياء مُخيفة، لا تكاد تُصدَّق، والشهود عليها كُثر، ليس المُغسِّل فقط، شهد بذلك الذين ساعدوه والذين رأوا أيضاً هذا – ربما من أهل الميت وأرحامه وأصهاره وذويه -، رأوا العجب – والعياذ بالله -، بدل أن تسطع الوجوه بالأنوار والبشر والبسمة، بعد الموت هذا، انتبهوا! لا نقول إن هذا نوع من الاختناق ونوع من الانسداد، هذا بعد الموت، على المغسلة، على الآلة الحدباء، يبدأ السواد يغزو الوجه، يُصبِح أسود شديداً مُربداً، حتى أن ابن أحد هؤلاء صرخ، وخرج يصرخ كالمجنون، قال مُستحيل، مُستحيل أن وجه أمي أصبح بهذه الطريقة، كالقار، كالزفت! سألوه وألحوه عليه، ماذا؟ قال أمي كانت تفعل الأفعال الطيبة، كانت تُصلي، وكانت تصوم، وكانت تتصدَّق أحياناً، وحجت، واعتمرت، لكن كان فيها خصلة بالغة السوء…

وما كان علينا أن ننتظر حتى نسمع هذه القصص يا إخواني، وهي قصص حق، لأنه سبق من المعصوم – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن حذرنا، وقال بشكل واضح لا يدخل الجنة نمّام، القتّات النمّام، الذي يأتيك، يقول لك هل علمت ماذا فعل فلان وماذا قال عنك؟ فلان قال عنك كذا وكذا، ويأتي لفلان، ويقول له فلان قال عنك كذا وكذا – والعياذ بالله -، الذي يُفسِد بين الناس، الذي ينم، ينقل الكلام من هذا إلى هذا ومن هذا إلى هذا، النبي قال بحرف واضح وفي حديث صحيح – مُخرَّج في الصحاح -، قصير، وجيز، بليغ، لا نقاش فيه، لا يدخل الجنة نمّام.

لكي يُصدِّق الله هذا الحديث عن نبيه – عليه الصلاة وأفضل السلام – أرانا مثل هذه الحالات المُتواتِرة، أخبار النمّامين عند الموت مُتواتِرة، والله مُذ كنت صغيراً كنت أسمعها، حصل لفلانة كذا، حصل لفلان كذا، ما شأنه؟ يقول لك نمّام، كان إنساناً طيباً وكذا، ولكنه نمّام، أو نمّامة – والعياذ بالله -، يهلك! حتى عند الموت الله يُحذرنا من مصيره، يقول هذا من الهلكى، وما عساها أن تنفعه الصلاة والصوم والحج والعمرة؟ العبادات لكي تطيب يا رجل، يا أمة الله، يا أختي، يا أخي، العبادات لهذا، الله حاشاه أنه يُريد من هذه العبادات صورها، أنك تركع وتسجد، الله غني عنك وعن العالمين وعن كل عباداتك، الله يُريد العبادة، يُريد الذكر، يُريد القرآن، الصيام، والقيام، من أجل أن تطيب نفسك يا رجل، افهم! افهمي يا أختي، من أجل أن تطيب النفس، تطهر، تُصبِح نفساً ملائكية خيّرة، تهوى الخير وتعشقه وتُحِبه وتأتيه وتدل عليه وترتاح إليه، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ ۩، اللهم اجعل نفوسنا مُطمئنة بذكرك وبعمل الصالحات وبإرادة وجهك من دون خلقك جميعاً يا رب العالمين.

حتى تطمئن النفس، تعلمون ما هي النفس المُطمئنة؟ هي التي تطمئن بالخير وبما يُرضي الله، ولا تطمئن، ترتاب، وتضيق عليها الأمور يا إخواني، إذا كان الأمر ليس خيراً، ليس مما يرضاه الله، هذه النفس المُطمئنة، لكن ما الفائدة من صلاة وصيام وحج وعمرة وزكاة وصدقة مع غيبة ونميمة – وخاصة النميمة، الشبت بين الناس والعياذ بالله، تقطيع أوصال المُحِبين والمُتوادين من عباد الله يا رجل -؟

قال أمي كانت كذا وكذا، أي تفعل هذه الأعمال الصالحة، لكن كان فيها خصلة واحدة سيئة جداً، وكم من مرة نهيناها! حتى أتينا لها ببعض المشايخ، ليعظها في البيت، لا يجوز يا أمة الله، يا أختي، يا أم فلان. تقول نعم، نعم، نعم. وتعود! قال حتى أنها كانت تذهب إلى الأعراس التي لا تُدعا إليها، ولا بأس، العرب فيهم كرم، والمُسلِمون عموماً فيهم كرم وفيهم تسامح، أهلاً وسهلاً، تعالي، احتفلي وكُلي واشربي، لا بأس، لا! هي لا تذهب لكي تأكل وتشرب، هي بخير، تذهب لكي تسمع ماذا قال هذا، وتنقل من هذا لهذا، وهناك في العرس أيضاً تشبت بين هذه وهذه وبين هذه وهذه، قال هكذا كانت عادتها، النميمة تجري في دمها – والعياذ بالله -.

خُتم لها بأسوأ خاتمة – والعياذ بالله -، وجهها أصبح مثل القار، ابنها خرج يصيح، يصرخ كالمجنون، وهذه القصص مُتواتِرة، اسأل، سل أباك الكبير وأمك الكبيرة، وادخل على اليوتيوب YouTube وانظر إلى قصص النمامين – والعياذ بالله -، وأيضاً قصص أصحاب المعاصي، يقول لك هذا لم يركع لله في حياته ركعة، قد يقول لي أحدهم ما الكلام هذا؟ هل جئت لتُشدِّد علينا؟ نعم يا أخي، هو لم يُصل، ولكنه مُسلِم ومُوحِّد. يا رجل أنت أيضاً لم تُدرِك جوهر المسألة، فتح الله عليك وعلينا بالحق، لم تُدرِك جوهر المسألة، يا رجل هذا مُسلِم – يدّعي أنه مُسلِم – ومُؤمِن، لم يتوجّه إلى القبلة مرةً، ليُحيي ربه، ليتعبد لربه، هل تظن مرةً أُخرى أن الله تنقصه أو تُغنيه أو تُفيده هذه الصلوات إذن وهذه الحركات؟ هذه لك يا رجل، لأنك إن صليت وكابدت الصلاة وحاولت واجتهدت أن تفهم ما هي الصلاة وأن تُصلي حقاً – ليس أن تنقر، وإنما تُصلي حقاً، تُقبِل على الله، تستحضر بين يدي مَن تقف أنت الآن، بين يدي مَن؟ تستحضر هذا -، فسيُعيد هذا – كما أقول دائماً – جوهرتك، سيُعيد بناء نفسك، روحك، أخلاقك. وذلك بعد سنة أو شهر حتى أو أسبوع، يوم بعد يوم، أسبوع بعد أسبوع، شهر بعد شهر، سنة بعد سنة، بعد عشر سنوات، بعد عشرين سنة من الصلاة، والله تُصبِح أشبه بالملاك يا رجل، إذا كنت تُصلي حقاً، هذه الصلاة تُنشئك نشأة جديدة، تخلقك خلقاً جديداً، إن كنت تُصلي! ولذلك فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۩، طبعاً لماذا اتبع الشهوات؟ لأنه أضاع الصلاة، لو كان يُصلي، مُحال أنه يتبع الشهوات، كيف؟ يُصلي حقاً، يُصلي! يقوم الآن في الشتاء، ويقوم في الساعة الخامسة والنصف أو في الساعة السادسة، في البرد الشديد، بالــ Minus درجة الحرارة، تصل إلى ناقص سبعة وناقص ثمانية وناقص عشرة في بعض المرات، ويقوم ويتوضأ، وبعض الناس يحرص حتى على أن يتوضأ بالماء البارد، ويقول لك إسباغ الوضوء على المكاره. يُحاوِل أن يتسنن، ويقوم ويُصلي ويُطوّل الصلاة، ليس بــ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۩ وبالكوثر ثم يرجع وينام، لا! يُصلي ويُطوّل.

قال لك لا أحفظ القرآن. لا بأس، خُذ الآيفون iPhone الخاص بك، خُذ التليفون Telephone، وأنزل عليه برنامجاً، هناك برامج بالمئات، وإن كان حقيقةً من أفضلها برنامج القرآن الذي عمله بنك التمويل الكويتي، وفيه تفسير، فهو من أجمل ما يكون! خُذ هذا واقرأ منه، حتى في الفرائض اقرأ منه، ولا تُوجَد حركات كثيرة، تعمل هكذا – أي تُحرِّك أصبعك – وتقلب الصفحات، اقرأ صفحتين أو ثلاث صفحات أو أربع صحفات، كم يفتح الله عليك!

وبالمُناسَبة، هل سألت نفسك: هل التذذت بالعبادة؟ سل نفسك: متى التذذت بالعبادة؟ أسمع عن الذين يتلذذون بطاعة الله وذكر الله ويقفون بين يدي الله، والله قبل أيام سمعت عن امرأة عجوز، كبيرة في السن، حقرت نفسي إلى جانبها، والله! امرأة من عامة المُسلِمين، ليست عالمة، وليست داعية، وليست مُؤلِّفة، وليست… وليست… امرأة عادية، عادية! تبعث للشيخ، تسأله، تقول له هل يجوز ما أفعله الآن؟ كنت دائماً أقوم في الركعة بجُزء، والآن تعبت جداً وتهدمت، فأنا أقوم بأقل من جُزء، هل يجوز هذا أم أن الله يعتب علىّ؟ قلت لا إله إلا الله، ألا أُفٍ لنا وتُف، تباً لنا، امرأة عجوز تفعل هذا! ما الذي أقامها؟ وما الذي يُقيمها؟ تقرأ في الركعة بجُزء! اللذة، لذة الطاعة، لذة مُناجاة الله، هي تقرأ بلذة.

يا أخي أنت فكّر حتى حين تقرأ القرآن وحين تسمع القرآن، يا رجل اعمل فاصلة هكذا – أي Abstand أو Distance -، اعمل فاصلة وفكِّر فيما تسمع، والله الذي أنزله ليس بكلام بشر هذا، ولا يستطيع بشر أن ينظمه ولا ينظم قريباً منه، المُتكلِّم هو الله يا إخواني، القرآن في عمومه ليس كلاماً لمحمد يُخبِر فيه عن الله، بل الله مُباشَرةً يتكلَّم، إِنَّا نَحْنُ ۩، مَن المُتكلِّم؟ الله هنا، شيئ تقشعر له الأبدان لمَن فكَّر، الله هو المُتكلِّم، إِنَّا نَحْنُ ۩، هو يقول لك إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ۩، نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ۩، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ۩ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ۩، وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا ۩، الله يتكلَّم مُباشَرةً يا رجل، أنت حين تقف وتسمع الكلام هذا، أنا مُتأكِّد ستغرق في البكاء وفي النحيب وفي النشيج، وستصير لك حالة عجيبة، وستقول الآن بدأت أُصلي، الآن بدأت أقرأ القرآن، أنا كنت مُغيباً، أنا كنت ضائعاً، أنا كنت تائهاً، الآن فهمت كيف يلتذ العابدون بتلاوة كلام الله – تبارك وتعالى -، الآن علمت كيف يقفون بين يدي الله الساعات الطويلة.

بعض العابدين في عصرنا هذا – ليس في الأعصار التي خلت – في السجدة الواحدة في الليل يقضي خمس ساعات، لا يرفع رأسه، تفضَّل! ائتني بأكبر طبيب يُفسِّر هذه الحالة، سيرتفع ضغطه، سيُفجِّر حتى شرايينه، خمس ساعات هكذا على الأرض، لا يرفع رأسه، تعرفون لماذا؟ بعضهم أخبر عن نفسه، قال لا أستطيع، تعتريني حالة من الخجل والحياء، هذا الاستحضار طبعاً، هو في الحضرة، يعيش في حضرة الله، في حضرة النور الإلهي الكامل، يقول تعتريني حالة من الخجل والحياء، لا أستطيع أن أرفع رأسي، وطبعاً هذا غير التلذاذ والنعيم، تعرفون ما هي الأسباب؟ ما الذي يبعث على هذه الحالة؟ قد يقول لنفسه أنا مَن؟ أنا صنعة الله، أنا عبد الله، أنا خلقة الله، أنا مملوك لله، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩، أليس كذلك؟ جميل! سجدت الآن خمس دقائق أو ست دقائق، هل أبخل علىّ مَن كل مدين له بمزيد من الوقت؟ يستحي أن يرفع رأسه، يستحي، يستحي، يستحي.

الآن تخيَّل، توهَّم نفسك، لو كنت فقيراً، مُدقع الفقر، ركبك الدين وأهمك وأغمك، جاء أحدهم هكذا بلا سابق منّة منك ولا معروف ولا فضل عليك، وقال لك تعال يا أخي، أو تعال يا ابني، أو تعالي يا أختي، أنت مدين وفقير و(غلبان) ومُعيل؟ آه والله يا سيدي، قال لك خُذ لك هذه، وهي خمسة ملايين يورو، ماذا؟ وطبعاً سيُغمى عليك مُباشَرةً، أنت لا تملك خمسة آلاف، وأعطاك هذه، ولا تملك خمسمائة ربما، لكنه يُعطيك خمسة ملايين، أنا مُتأكِّد ربما على الأقل لمُدة عشر سنوات ستتحسن مُعامَلتك لهذا الإنسان، هذا على الأقل، إلا أن تكون من أساتذة الجاحدين والناكرين، وهذا موجود، البشر هكذا! البشر يجحدون ربهم يا إخواني، البشر يكفرون بنعمة الله نفسه، وها انظروا، انظروا كيف هو الكفر الآن.

بين قوسين حتى لا أنسى أقول الآتي: (قبل أيام سمعت أن هناك هيعة وأن هناك تعليقات كثيرة على فيلم وثائقي، لن أُعلِّق عليه، ولن أقول إن هذا الفيلم كذا وكذا، أنت شاهده واحكم عليه، فيلم! اسمه (في سبع سنين) تقريباً، وهو يتحدَّث عن حالة الكفر والردة التي أصابت كثيراً من شباب العرب والمُسلِمين، شاهدت الفيلم وعموماً الانطباع الذي خرجت به أن هؤلاء كفروا بدين أُفهِموا أو فهموا – بالأحرى أُفهِموا وفهموا – أنه هو الدين، دين السُلطة! تُريد الإسلام لكي تُسلِّط سُلطة ولكي تعمل نظاماً اقتصادياً ونظاماً اجتماعياً ونظاماً مالياً ونظاماً عالمياً، وكأن هذا من وظائف الدين، وكأن الشرق والغرب والصين والعالم كله من الذين يعملون أحسن نهضة وأحسن اقتصاد وأحسن إدارة عندهم كتاب وسُنة، هذه أشياء بشرية – أطال الله عمرك -، أدخلتم فيها الدين، ولم يسأل أحد نفسه – هذا اللعب بالإسلام، هذا اللعب بالإسلام من تسعين سنة – عن الآتي، لم يسأل أحد نفسه ما هذا الدين السياسي والإسلام السياسي وقصة الحكم وغير الحكم، والقرآن كم آية نزلت في السياسة فيه؟ هناك آيتان أو ثلاث أو أربع، فماذا عن الآيات التي تتحدَّث عن علاقة العبد بربه، خلق الإنسان خلقاً جديداً، ليُصبِح أكثر روحنةً وأكثر خُلقاً وأكثر صدقاً وأكثر استقامةً؟ هذا ضيعتموه، هذا غير مهِم، ليس هذا الدين، وكأن الدين أتى لكي يُعلِّمنا هذا، لا! الذي يُعلِّمنا الاقتصاد والسياسة بصراحة أهل الدنيا، وهم (أشطر) – أي أحذق – منا، وعندهم كل شيئ، الدين يُعلِّمك كيف تكون مع الله، وكيف تكون مُستقيماً، وكيف تكون مُؤمِناً صالحاً، ومُتخلِّقاً، وإنساناً، عملة نادرة! لا يُمكِن ان يُعلِّمك إياها لا اشتراكي ولا رأسمالي ولا الصين ولا أمريكا ولا فلاسفة الغرب والشرق، والله العظيم! يُعلِّمك إياها القرآن ومحمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -، قسماً بالله! وهذه الخُطبة الآن ستكشف جانباً عن هذا النقاب، هو هذا، هؤلاء كفروا بهذا الإسلام، الذي بين قوسين أقول إنهم يُسمونه (الإسلام السياسي)، فالإسلام هو أن تُصلوا وأن تصوموا وأن تقولوا الإسلام هو الحل، ومن ثم يأتيكم الحُكم، وحين يأتيكم الحُكم افعلوا ما تُريدون، إن لم يأت إليهم الحُكم أو ضاع منهم الحُكم، يقولون إنهم كفروا، هذا الدرس على فكرة، الذي شاهد هذا الفيلم البسيط، يعلم أن هذا هو درسه، أنا أقول لهم هداكم الله، وفتح الله عليكم، أنتم كفرتم بدين لم تعرفوه، أنتم كفرتم بدين ليس هو الدين هذا، ليس هو هذا الدين، وليس لأجل هذا بعث الله محمداً وبعث الأنبياء والمُرسَلين، لكي يقول لك كيف تقنتص السُلطة وكيف تعمل لي أنظمة، هذا يفعله البشر قبل محمد وقبل الأنبياء وبعد محمد وبعد الأنبياء، وما زالوا يفعلونه ومن غير دين، أطال الله أعمركم، كفى كذباً على الناس، كفى تزويراً لعقول الناس، لأن الضريبة الآن تُدفَع من الإسلام نفسه، من مُستقبَل الإسلام وصدقية الإسلام ومُستقبَل الدين كله.

هذا شيء كنفثة مصدور لابد أن أقولها، في خُطبة من المفروض أن تكون خُطبة روحية، لكن لابد أن أقول هذا، حتى أُبريء ضميري وذمتي، والله! هؤلاء الشباب أنا – بالعكس – رثيت لهم، أشفقت عليهم، وأدعو بأن الله – تبارك وتعالى – يردهم إليه رداً حميداً وطيباً، وأن يفتح عيون بصائرهم وأبصارهم، أقول لهم يا إخواني ويا أخواتي ويا أحبابي، كفرتم بشيئ لم تعرفونه، ليس هذا الدين الرباني، لا! لو تعلمتم الدين من أول يوم لكي يكون هذه الصلة المتينة الحقيقية بينكم وبين الله، ولكي تقتربوا من الله، لكان من المُستحيل أن تتخلوا عنه. يا إخواني جوهر الدين هو ماذا؟ عبدٌ وربٌ، هناك رب، لا إله إلا هو، وهو ليس ربك وحدك، وإنما هو رب الأكوان، رب العالمين، لا إله إلا هو! وأنت واحد من عباده ومن عبيده الذين هم بالملايير الملايير، ما يعلمهم إلا الله، واحد أنت يا مسكين. فهذه الربوبية وهذه العبودية، هذه الربوبية الغنية وهذه العبودية الفقيرة، هذه الربوبية المُقتدِرة وهذه العبودية العاجزة، هذه الربوبية العالمة وهذه العبودية الجاهلة، والعبد لا ينفك عن عبوديته مهما كابر، حتى المُلحِد الذي قال لك أنا لا أعترف بإله ولا أعترف بربوبية ولا بكذا وكذا، هو عبدٌ رُغماً عنه، الله قال طَوْعًا وَكَرْهًا ۩، كرها! وتُعامَل مُعامَل الكافر يوم القيامة إذا كفرت بهذه الطريقة، لكن أنت عبد، والدليل على عبوديتك: امنع نفسك أن تموت، لا تستطيع، امنع نفسك أن تمرض، لا تستطيع، خلّد نفسك، أبق نفسك، صر مثل الجبال طولاً، اخرق الأرض – الله قال -، لن تستطيع، ستظل عبداَ ضعيفاً، حشرة أو فيروس Virus يُمكِنه أنه يقضي عليك ويُدمِّرك، لن تصير رباً أبداً، ولن تستغني عن الرب أبداً، لا إله إلا هو! أنت في قبضته، ولا أحد يُعجِزه، آمن أو اكفر، أنت حر، لكن هذه هي الحقيقة.

تماماً مثل الوالد والولد، هذه حقائق، هذه ليست إنشاءات، هذه ليست هكذا، هذه أخبار، هذه قضايا خبرية، ربٌ وعبدٌ، مثل والدٌ وولدٌ، وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ۩، يبقى الولد ولداً، مهما تكبَّر ومهما استكبر ومهما جحد ومهما ند ومهما هرب وضل، يبقى الولد، وهذا أبوه، وليس أي واحد آخر هو أبوك، هذا أبوك، الذي أنت من صلبه، لا يُمكِنك غير هذا أبداً، أحببته أو لم تُحِبه، أحسن إليك أو تشدد وشدد عليك وامتحنك وآذاك، هو يبقى ماذا؟ يبقى أباً لك، يبقى أباك، وكذلك الرب.

لذلك مَن فهم جوهر العبودية، وبه يُفهَم جوهر الدين أيضاً، لا يكفر ولا يُلحِد ولا يرتد، هل تعرف لماذا؟ لأن يا سيدي هذا هو الجوهر، هذا الرب، لا إله إلا هو! أحسن إليك، فالحمد لله هو ربي، امتحنني وشدّد علىّ وقدر علىّ في رزقي وغيره، هو ربي، له أن يمتحنني وله أن يختبرني، وأنا علىّ أن أُبرهِن لنفسي أولاً وأن أُريه من نفسي الخير وأنني ذلكم العبد المطواع الراضي بقدره – لا إله إلا الله -، المُستكين لقضائه، لا أستكبر! إذا استكبرت، فلك وعليك السخط واللعنة، ماذا تعمل؟ ولا تعمل شيئاً، ولا تقدر على أن تعمل شيئاً، وستواجه وستموت، مثل هؤلاء الأموات، الذين قلنا منهم مَن يموت على هذه الحالة، ومنهم مَن يموت على هذه الحالة، ستصير إليه، ستصير إليه!

مَن هاب شيئاً أو مَن خاف شيئاً فر منه، ومَن خاف من الله فر إليه. إلى أين ستذهب؟ لن تستطيع الفرار منه، أليس كذلك؟ في الدنيا حين تخاف من شيئاً تهرب منه، حين تخاف من سُلطان أو من حاكم، تهرب من دولته، تذهب وتأخذ لجوءاً في الغرب وفي الشرق، أهلاً وسهلاً، وحين تخاف من الله، إلى أين تهرب يا مسكين؟ أين تهرب والعوالم كلها في قبضته؟ لا إله إلا هو! وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۩، أين تهرب؟ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ۩. مَن هاب شيئاً فر منه، ومَن هاب الله فر إليه. نفر من الله إلى الله. أعوذ برضاك من سخطك. انظر إلى النبي! قال لك أنا أستعيذ برضا الله من سخط الله، أفر من الله إلى الله، أعوذ برضاك من سخطك، وبمُعافاتك – وأعوذ بمُعافاتك – من عقوبتك، وبك منك. لا إله إلا الله! أرأيتم العبد؟ هذا العبد، سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ۩، هذا محمد، وليس كما تُريد أن تُصوِّره، زير نساء وقتّال، والهبل هذا والكلام الفارغ الخاص بالحاقدين والشانئين والأغبياء، محمد سيد العابدين، سيد مَن علّم العالمين كيف تكون العبودية، ائتني بواحد قال مثل هذا الكلام، ائتني بواحد قال هكذا، خاطب الله وقال أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمُعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحضي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. هذه هي العبودية.

لو تعلَّمنا الدين عبودية، ما كفرنا بالله، ولا تركنا الدين، لكن حين تتعلَّم الدين سياسة وأنه سُلطة وسنصل إلى السلطة وسنعمل ما نُريد، يحدث العكس، لا! ولما طبعاً الطرق تكون غير سالكة للوصول إلى السُلطة – ورأينا هذا في بلاد عربية وإسلامية كثيرة – يأتي الذبح والسلخ والقتل، طبعاً! شيوخ تقتل شيوخاً، مُتدينون يقتلون مُتدينين ركعاً سجداً، يقتلونهم ركعاً سجداً في بيوت الله، وقال لك هذا باسم الدين ومن أجل تحكيم الدين ومن أجل تحكيم شرع الله. ما شاء الله على الدين وعلى شرع الله! ما شاء الله على هذا الدين! ما شاء الله! واضح الأمر، المكتوب معروف – كما تقول العامة – من عنوانه، لا إله إلا الله! مرة أُخرى رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ۩).

نعود إلى ما كنا فيه، إخواني وأخواتي:

إذن انتبهوا، هناك الذنوب – والعياذ بالله -، وخاصة الذنوب المُحذَّر منها، وفي رأسها النميمة، وهل تعرفون لماذا؟ أكثر ما يغيظ الأب – ولله المثل الأعلى، هذا أكثر ما يغيظ الأب الشفوق، الحنون، المُربي، الواعي، الكامل العقل، المُتزِن – من واحد من أبنائه أو بناته، هل تعرفون ما هو؟ الذي يُفرِّق بين أبنائه وبناته، يغضب جداً منه، حتى ولو كان أخاً لهم، حتى ولو كان ابناً – كما قلنا – أو بنتاً، أو حتى ولو كان أحد الأصهار أو الأرحام أو القرابات، يغضب جداً جداً، يقول تُفرِّق بين أبنائي؟ كذلكم الله يغضب جداً مِمَن يُفرِّق بين عباده، إياك أن تُفرِّق بين اثنين، إياك أن تنم، تنقل كلام هذا إلى هذا يا رجل؟ لن تدخل الجنة يا مسكين، أفسدت كل شيئ على نفسك يا نمّام، هذه الذنوب انتبهوا منها.

والدين، الدين! حقوق الناس، إياك أن تغش وتضحك وتلعب وتحتال وتُخادِع الناس عن أموالها، من أجل أن تأخذ أموالهم ولو أفلاساً، لو فلوساً، إياك يا رجل، والله العظيم أنت تورطت ورطة ما منها مخرج، ما منها مخرج!

في سُنن النسائي يروي أحد الصحابة، يقول كان رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – جالساً حيث الجنائز، أي في مكان يُؤتى إليه بالجنائز، ويُصلى عليها هناك، فالنبي جالس في المكان هذا، قال إذ رفع رأسه إلى السماء، ثم خفضه ووضع يده على جبهته، وقال سُبحان الله، سُبحان الله، ما أُنزِل من التشديد؟ النبي ريع، دخلته روعة، ريع – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وقال سُبحان الله، سُبحان الله، ويده على جبهتيه، ماذا أُنزِل أو ما نزل من التشديد؟ قال هناك تشديد، تشديد رباني، الصحابة خافوا، موقف عظيم، ولم يتجرأ أحد على أن يسأله، كفوا عنه، يقول حتى إذا كان من الغد سألناه، قلنا يا رسول الله قلت بالأمس كذا وكذا، فما هو التشديد الذي أُنزِل؟ تشديد في ماذا؟ الصحابة كانوا خائفين، هذا شيئ يُخيف يا أخي، هذا نبي، هذا حاله ليس كحالنا، ليس واعظاً ومُتكلِّماً وفيلسوفاً، هذا نبي، يتكلَّم عن الغيب يا جماعة، جبريل يأتيه، ويرى أشياء أحياناً، يرى الجنة والنار رأي عين، رآهما مرة في حديث الكسوف، فهذا شيئ مُخيف، الصحابة تخاف وحُق لهم أن يخافوا والله.

قال في الدين، قال التشديد الذي نزل كان فيه، انظروا إلى هذا، وهذا نزل طبعاً عند الجنائز، لأنه مُناسِب، هذا المُناسِب بالضبط، قال في الدين، والصحابة كانوا ينتظرون، أي كيف هذا؟ والذي نفسي بيده – يقول هذا، اسمعوا محمداً، عليه الصلاة وأفضل السلام – لو أن رجلاً قُتِل في سبيل، ثم عاش – أي أُحيي، ولكن هنا قال عاش – ثم قُتِل ثم عاش ثم قُتِل… هل هناك ما هو أكثر من أن تُقدِّم نفسك رخيصةً لله – عز وجل -؟ أعظم شيئ هذا، ليس وقتك ومالك، وإنما نفسك، نفسك! تترك أهلك وأموالك وكل شيئ، أعظم شيئ، قال لا، لو أن رجلاً قُتِل في سبيل الله ثم عاش ثم قُتِل ثم عاش ثم قُتِل، وعليه دين، ما دخل الجنة، حتى يقضي ما عليه من الدين. قال أنا لم أر مثل هذا، قال هذا شيئ صعب جداً جداً.

ولذلك في صحيح مُسلِم – السابق كان عند النسائي، لكن هذا في صحيح مُسلِم – قال – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – يُغفَر للشهيد – الشهيد، ها هو قُتِل في سبيل الله – كل ذنب إلا الدين. واضحة! هذه واضحة، إلا الدين. واليوم الناس تتساهل، تقول هذا عادي، صاحبه نسيه، ولم يأخذه، غلّبته! أخذته منه رخياً سهلاً، ما شاء الله! طلبته بعد أن ذهبت واستعطفته، فأعطاك هذا المبلغ، أعطاك ألفاً أو ألفين أو عشرة آلاف أو مائة ألف، أعطاك إياهم بسهولة هذا المسكين، على أساس أنك أخ في الله وأخ في الدين، أحب أن يُساعِدك، بارك الله فيك وكثّر من أمثالك، (طلعت عيونه، طلعت له نفسه)، مر أكثر من عشرات سنوات عليك ولم تُرجع له دينه، فأحضر لك قطّارة، ولا تزال إلى الآن غير مرجع لكل الدين، يا ويلك، يا ويلك لو أتتك منيتك وأنت على هذه الحالة يا مسكين، ستُسلَم لعذاب الله، والآن أنا أقول لكم هذا من كلام رسول الله عن الدين وحقوق الناس، أرأيتم العدل؟ هذه عدالة الله، وسوف نرى لماذا، سوف نرى لماذا هذا التشديد، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الأمر والله، آمنت بالله وبرسوله، والله هذا هو العدل، هذا هو الحق، هذا دين الحق – بفضل الله -، وليس الدين الذي تُكوِّنه لنفسك وترسمه لنفسك على كيفك أنت، وتستحل به ما أحببت أن تستحل، وتُحرِّم ما أحببت أن تُحرِّم، وتظن أنك هكذا مُتدين، لا! هذا الدين، الحقوق ومقاطع الحقوق، إياك وأعراض الناس ودماء الناس وأموال الناس، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد. في خُطبة الوداع، قبل وفاته بثلاثة أشهر تقريباً – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

المُهِم قال لك إذن إلا الدين، في الطبراني يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا بني فلان هل ها هنا أحد من بني فلان؟ (ويبدو أنه كان مات لهم رجل أو ربما حتى قُتِل في سبيل الله)، هل ها هنا أحد من بني فلان؟ لقد حُبس صاحبكم على باب الجنة، في دين لم يُوفه، فإن شئتم فأطلقوا صاحبكم، أو أسلموه إلى عذاب الله. نعم! دين، ولذلك أحد العلماء الصالحين قال لغُلام أبي بكر الشبلي – الشيخ الصوفي، قدّس الله سره، الرجل الصالح – الآتي، قال له يا فلان ما أعجب ما رأيت من شيخك حين احتُضِر؟ قال له أعجب ما رأيت من شيخي أبي بكر – قال له هذا – حين احتُضِر هو أنه دعا بي، فأتيت، فقعدت عنده، فقال لي يا بُني – لغُلامه، لخادمه – علىّ درهم في مظلمة، في يوم من الأيام كان لواحد علىّ درهم، لم أُرجعه، وهذا الواحد إما مات أو ذهب، ولا أعرف كيف أوصله إياه، تصدّقت عنه بدله بألوف. يا الله! لم يتصدّق بدرهم، وإنما بألوف الدراهم، وكلها له، يا ربي هذه الصدقات لفلان، هذه في ميزان فلان، من أجل ماذا؟ أن يُسامِحه الله، عن درهم! قال يا فلان علىّ درهم مظلمة، تصدّقت عنه – أي لصاحبه – بألوف، ما شيئ أثقل على نفسي منه، قال له هذا الذي يُخيفني ويقطع قلبي الآن وأنا ذاهب إلى ربي، الدرهم هذا، ولكن أنت تصدّقت عن صاحبه بألوف، قال لك لا يُوجَد غير هذا، خائف! ربما صاحبه لا يُسامِح، ويقول لك أنا كنت أحتاج هذا الدرهم، لا تتصدّق عني، أنا أُريده، هذا شيئ يُخيف يا إخواني، أُقسِم بالله هذا شيئ يُخيف.

هذا الدين على فكرة، أي خل الغرب والرأسمالية والاشتراكية والفلسفة والنُظم والمناهج وعلم النفس، خلهم يعلمونك كيف تكون شخصية بهذه الطريقة، إلا الدين! الذي يخلق ضميراً بمثل هذه الدرجة من الصحو واليقظة والرهافة والانشحاذ – ضمير مشحوذ – فقط الدين، فقط الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ۩، مثل المسطرة، هكذا كالسيف، هذا الدين، ولذلك نقول لكل الذين يعوون وينبحون وما إلى ذلك على الدين نحتاج الدين، والبشر – والله – كانوا ولا يزالون يحتاجون الدين، لكن هذا الدين بهذا المعنى، وليس دين السياسة ودين الكذب والغش واختداع الناس، وكله صراع من أجل الدنيا وباسم الدين، لا، لا! حاشا لله، نبرأ إلى الله من هذا، لا نُؤمِن به، فهذا الدين.

المُهِم ثم قال له وضئني، وضئني للصلاة، يُمكِن أن تدخل الصلاة، فأُصلي قبل أن أموت، قال فوضأته، ونسيت أن أُخلل لحيته، وهذه سُنة من السُنن، قال وقد أُمسِك لسانه، ما عاد يتكلَّم، قال فأخذ بيدي، حتى أدخلها في لحيته، قال ففهمت أنه يُحافِظ على هذه السُنة، انظر إلى هذا، انظر إلى أي درجة بلغ الورع، والدرهم لم ينسه، ليس مثل اليوم، يهتمون كثيراً باللحية وتخليل اللحية، و- ما شاء الله – سمان عظام هم وأهلوهم وقراباتهم من أموال الناس ومن حقوق الناس، كذب! كله كذب، هذا ليس له إلا النار، كله كذب هذا، والله لن ينفع.

جابر بن عبد الله – وأظن أنكم جميعاً تعلمون هذا الحديث، لكن لا بأس، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ۩، حديث جميل والله، وتنفع الذكرى به، جابر بن عبد الله الصحابي المُعمّر، عُمّر طويلاً، ما شاء الله، حتى عمي، وسقطت جفونه على عينيه، وهو صاحب جليل، وابن شهيد، رجل صالح، من خيرة أصحاب رسول الله جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري، رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – يقول الآتي، يقول جابر سمعت عن أحد أصحاب رسول الله سمع من رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – حديثاً في القصاص، ليس في الدماء، لا! القصاص الأعمال، واحد ضرب واحداً، أو تكلَّم في عرض واحد، أو أخذ منه درهماً، وما إلى ذلكم، كله قصاص يوم القيامة، يوم القيامة قصاص! لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ۩ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۩… لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۩… هذا يوم القصاص، يوم القيامة يوم القصاص، قال في القصاص ما سمعه أحد غيره، قال فرحلت أو قال فاشتريت دابة، ليس عنده دابة تصلح للسفر الطويل، وفي مصر هذا الصحابي، تخيّل! جابر في المدينة، وهذا في مصر، ويُريد أن يُسافِر من أجل حديث واحد، أرأيتم العلم؟ نحن اليوم في خُطبة واحدة نأتي بعشرة أو بعشرين حديثاً، لا، لا! ولا ينفعنا هذا.

والله اليوم وأنا أقرأ – أُقسِم بالله – اعترتني هكذا هذه الفكرة، قلت لا إله إلا الله، هذه الآية التي أتلوها على العادة – تعوّدت، وأنتم تعوّدتم أن تسمعوها – تكفي، والله – قلت في نفسي – هذه وحدها تكفي، أُقسِم بالله! والله تكفي الصادق المُخلِص الذي يُريد أن يستقيم هذه الآية، مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ  ۩، أُقسِم بالله تكفي، تكفي! انتهى كل شيئ، لا تحتاج إلى شيئ، انتهى، انتهى هذا، مثلما سأل جد الفرزدق الرسول، قال له أنا رجل كبير وهرم وما عاد ذهني يُمسِك شيئاً، علّمني طريق الجنة ولا تُكثِر علىّ، قال له فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۩ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ۩، قال له كفيت وأبلغت يا ابن أخي، وذهب، فقط هذا هو، هذا هو! هل تحتاج إلى ما هو أكثر من هذا؟ ماذا تُريد؟ تُؤمِن بالله، وتُؤمِن بأنك مُلاقيه وراجع إليه، اعمل الصالحات وانته عن السيئات واستقم، استقم ولا تلعب بدينك، ستموت وحدك وتُبعَث وحدك وتُحاسَب وحدك وتلقى الله وحدك، لا تلعب بدينك.

وكل الخداع والكذب والدعاوى والزيف يسوغ على الناس، لا شيئ منه يسوغ على رب العالمين، لا إله إلا هو، انتهى! هذا انتهى، وسيبدو لك كل شيئ حتى لحظة الموت، نسأل الله أن نكون جميعاً من الذين يُبشَّرون برحمة الله ورضوانه ونعيمه المُقيم.

المُهِم قال فاشتريت دابة، ثم رحّلتها – أي حط عليها الرحل -، وقصدت إليه، سافرت شهراً – يقول جابر -، الله أكبر! سافر شهراً في حديث؟ في حديث واحد، قال لك نعم، لأن هذا حديث، لم يسمعه أحد إلا هذا الصحابي، أُريد أن أسمعه، وانظر ماذا قال النبي في القصاص، كيف الله سيُحاسِب عباده يوم القيامة؟ كيف؟ كيف يضع الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۩؟ كيف؟ أُريد أن أعرف التفاصيل – قال -، انظر كيف تكون الأرواح الماجدة، هذه الأرواح جميلة، إذا عندك هذا الروح، عندك تقديس للعلم الشرعي، تقديس للعلم الرباني، تقديس لفكرة أن تفهم وأن تتفلسف في أشياء تتعلق بالله وبدينه، فهذا يعني أن روحك ربانية، عندك الروح هذه مُشتعِلة، إذا لم يكن عندك هذا وكنت على مدار الأربع والعشرين ساعة تدور على الدنيا وشهوات الدنيا وأعراضها ومناصبها، فهذا يعني أن روحك خابية، ميتة، مُنطفئة يا مسكين، والله العظيم! وضعك لا يُمكِن أن يُقال عنه لا بأس به، أبداً! به البأس كله.

قال حتى أتيته، فخرج لي غُلامه، فقلت له قل لسيدك بالباب رجل يُريد أن يلتقيه، فعاد، قال له يقول لك مَن؟ أنت مَن؟ قال قل له جابر بن عبد الله، فلما سمع قال جابر بن عبد الله؟ يقول جابر فخرج يطأ ثوبه، لم يبق إلا أن يقع على وجهه هذا المسكين، لأنه صحابي جليل هذا وكبير في السن وعالم ومن خيرة أصحاب رسول الله، قال فخرج يطأ ثوبه، قال فالتزمني، أخذه وعانقه هكذا وكذا، غير مُصدِّق، جابر يزورني في بيتي في مصر؟ أهلاً، يا أهلاً!

ما الذي جاء بك يا صاحب رسول الله؟ قال له حديث، في رواية أبى أن يجلس، قال له لا، ما جئت لأجلس، لا جئت لأجلس، ولا جئت لآكل، ولا جئت لأشرب، أُريد أن أسمع منك الحديث هذا، وأولي، أرجع، لكي تكون السفرة لوجه الله، قال له حديث لم يسمع من رسول الله أحد غيرك في القصاص، قال نعم، سمعته – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – يقول إذا كان يوم القيامة حشر الله الناس عُراةً غُرلاً بُهماً… غُرلاً، أي الغُرل التي قُطِعت من كل ذكر من ذكورهم في الدنيا، أي الختان، تعود إليه، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۩، كله كامل، هذا معنى غُرلاً، معنى الغُرلة، أي الــ Glans هذه، غُرلاً بُهماً، ما ما معنى بُهماً؟ ليس معهم أي شيئ، لا معك شهادة ولا معك جنود ولا معك حرس ولا معك فلوس ولا معك مُلك ولا معك حاجة، ولا حاجة! الملك مثل أقل صعلوك، والأنبياء أيضاً، الكل الكل سيأتي هكذا، كلهم حُفاة عُراة غُرلاً بُهماً، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله! هذا الموقف، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۩، الله يُنادي، قال فيُناديهم بصوت، يسمعه مَن بعد كما يسمعه مَن قرب، يقول أنا الملك، أنا الديّان، لا تظالموا اليوم، يقول أنا الملك، أنا الديّان، لا تظالموا اليوم، إنه لا ينبغي أحد من أهل الجنةِ أن يدخل الجنةَ ولأحد من أهل النار قِبله مظلمة، دين، حتى يقضيه، ألست ولياً صالحاً، كنت تُصلي في اليوم مائة ركعة، وحججت عشر مرات، وتصدّقت بملايين؟ ولن تدخل الجنة – الله قال له -، لأن هناك واحداً كافراً ظلمته، قال من عبادي الكفّار، هم عبادي، لا إله إلا الله، آمنت بالله، وقال لك محمد يكذب على الله، يا جماعة هذا رب العالمين، ومحمد رسول رب العالمين، الذي يُخبِر عن ربه بهذه الطريقة، هذا رسوله، وهذا رب العالمين، لا إله إلا هو! هذا العدل، لأنه رب العالمين، ليس رب العارفين والمُوحِّدين والمُسلِمين فقط، رب العالمين، قال لك هو كافر، سيأخذ جزاءه اليوم، والأعمال الطيبة التي عملها في الدنيا جوزي بها في الدنيا، لأن الله لا يضيع أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ۩، عمل عملاً دنيوياً حسناً، ما أراد به وجه الله، الله وفاه أجره في الدنيا، مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ۩ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩، في سورة هود. هو هذا، هذا عدل الله، عدل! رب عدل، لا إله إلا هو، اسمه الحق، قال لك أنا الحق، وهذا الحق، يُحِق كل شيئ، لا إله إلا هو! وهل تُريد أن تصل إليه بخُطوة واحدة، من غير أن تُتعِب نفسك؟ كما قلت مرة في خُطبة دُر مع الحق، اعتقد الحق، قل به، أحبه، أعمل به، ادع إليه، تحاكم إليه، ارض به، تحقَّق يا رجل، أُقسِم بالله تصل إلى الله في لحظة، وتُستجاب دعوتك، وتنقى نفسك، حق! حتى ولو على نفسك وعلى أقرب الناس إليك ومهما كان مُراً ومهما كان فاضحاً، الحق! وأين هو؟ وأين مَن يعمل بالحق هذا؟ هذا الحق، الملك الديّان، وإنه لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ولأحد من أهل الجنة قِبله مظلمة أو قال دين، حتى يُوفيه. حتى اللطمة باليد، لو واحد لطم واحداً هكذا، سيُقال له تعال، أين هذا؟ إلى أين أنت ذاهب؟ لكن يا رب هذا كان كافراً، وأنا كنت ولياً! لا ولي ولا كافر، هذا عبدي وأنت عبدي، لا يُوجَد غير هذا.

فقالوا يا رسول الله وكيف؟ هم يُحشَرون عُراةً غرلاً بُهماً، أنت تقول هذا إذن، أنت الذي قلت هذا، يُحشَرون عُراةً غرلاً بُهماً، أنت قلت بُهماً، ليس عندهم أي شيئ، لا عند الواحد منهم لا سُلطان ولا مال ولا أي شيئ، كيف يُؤديه؟ قال من الحسنات والسيئات، لا إله إلا الله, لا إله إلا الله! أي أنت مُسلِم، وظلمت الكافر هذا، وأنت ذاهب إلى الجنة، وهو ذاهب إلى النار، الله يقول لك قف ويقول له قف، أنتما الاثنان يجب أن تقفا، أعطه حقه، يا مُسلِم، يا عابد، يا صالح، أعط الكافر، أعط عبدي الكافر، لأنه عبدي، أعطه يا عبدي حقه، يا ربي ليس عندي أي شيئ، يقول لك لا، أعطه حسنات، وأنا الذي أعرف أن المظلمة هذه تُساوي ألف حسنة، ألف يا ربي وأنا محتاج إلى حسنة؟ قال لك ألف حسنة، والألف هذه ستنزلك في الجنة الكثير من الدرجات، ضاع عليك هذا، لأنك ظلمت كافراً، فكيف لو ظلمت مُسلِماً؟ كيف لو ظلمت ولياً من أولياء الله؟ كيف لو ظلمت رجلاً من عيون العارفين بالله، وكنت تهينه وعلى مدار الأربع والعشرين ساعة تُؤذيه؟ لا إله إلا الله!

قبل يوم كنت أقرأ الآتي، وهذه قرأتها قبل ذلك، ووالله لم أكد أصدق، أُقسِم بالله! قلت لزوجتي لا أكاد أُصدِّق، كنت أسمع الشيخ المنشاوي – قدَّس الله روحه الكريمة -، الصوت الباكي، المُرتِّل الخشوع، ورحمة الله على شيخنا العارف بالله، الشيخ الشعراوي، ورضيَ الله عنه وأرضاه، لما قاله عن المنشاوي، قال المنشاوي وإخوانه الأربعة – لا أعرف مَن هم، ربما مُصطفى إسماعيل، والشيخ عبد الباسط، ومحمد رفعت، لا أدري، قال وإخوانه الأربعة – مركب تُبحِر في بحر الله، في بحر كتاب الله، لن ينقطع الاستماع إليها حتى يرث الله الأرض ومَن عليها. نبوءة قالها العارف بالله، ويبدو أن هؤلاء الناس فعلاً – إن شاء الله – سيظل يُسمَع القرآن بأصواتهم الربانية حتى يرث الله الأرض ومَن عليها، وها نحن دخلنا عصر الديجيتال Digital، ولن ينتهي هذا أبداً، انتهى! كله موجود، كل هذا التراث وكل قراءاتهم نسمعها، كل يوم نسمع الجديد منها.

فالشيخ المنشاوي، الصوت الباكي – رضيَ الله عنه وأرضاه -، الرجل الصالح، الذي كان يعرف ما هو القرآن، ويقرأ بقلب صادق، الذي بعث له الرئيس عبد الناصر – رحمه الله وغفر له -، بعث له وزيراً من وزرائه، قال له تعال تشرَّف، اقرأ القرآن بين يدي رئيس الدولة، قال له أنا أتشرف؟ ولماذا لا يكون الشرف لعبد الناصر بأن يسمع كلام الله بصوت الشيخ المنشاوي؟ والله لن أذهب إليه، وقال لقد أرسل إلىّ الرئيس عبد الناصر أسوأ رُسله، وكان وزيراً، أرأيتم الناس الذين يعرفون قيمة الدين وقيمة القرآن وقيمة العلاقة بالله؟ لا يرى لا الرئيس ولا الملك، هذا الحق – قال له -، لا يُمكِن لأحد أن يقول إن القرآن سيصير له الشرف لأن سمعه فلان، لا! دع ذاك، هذا المنشاوي، مات وعمره خمسون سنة بالضبط، عن خمسين سنة، شاب صغير، رحمة الله على روحه الطاهرة.

يقرأ القرآن ذات عشية، يأتيه هناك أحدهم، يخلو به ويقول له يا شيخنا، يا شيخنا سامحني، وأسألك بالله أن تكتم علىّ وإلا هلكت، قال له ما الأمر يا ابني؟ قال له صاحب هذه الدار (تقريباً) الذي دعاك وهو يُقدِّم لك العشاء أمرني أن أضع لك السُم في إنائك، أنا جعلت أبكي، لا أكذب عليكم، جعلت أبكي كالطفل، وقلت لها يا فلانة – أي لزوجتي – أرأيتِ؟ قلت لها الأشرار لا يدعون الأخيار، الشيخ المنشاوي! تعرفون، الشيخ المنشاوي لو كان عالماً ومُؤلِّفاً وكاتباً، لقلنا نعم، هناك أُناس حقدوا عليه، عنده اجتهادات، عنده آراء، عنده أقوال لم تُعجِبهم، لكن هذا رجل يقرأ القرآن وفقط! لم يُعط درساً أبداً، أليس كذلك؟ هل سمعتم مرة درساً للشيخ المنشاوي؟ مثل عبد الباسط – رحمة الله عليهم -، هؤلاء فقط يقرأون القرآن، حياتهم كلها طيب في طيب، أنا بصراحة دائماً ما أقول لنفسي الآتي، لو الله خيّرني، قال لي لو لم أخلقك كما خلقتك الآن، وأُريد أن أخلقك إنساناً آخر، لقلت له اخلقني كأحد هؤلاء القرّاء، أقضي حياتي كلها أتلو كلامك وأُحبِّب الناس في كلامك، وفقط! لا أُريد شيئاً من الدنيا، أُقسِم بالله، أجمل شيئ، كم أحسد هؤلاء الناس! كم أغبطهم! رضيَ الله عنهم وأرضاهم، حياتهم كلها تلاوة، يتلون كتاب الله، كل حياتهم! نغمهم، تلذاذهم، نعيمهم في كتاب الله، حببونا في كتاب الله، رضيَ الله عنهم وأرضاهم والله، رفع الله مقاماتهم في عليين.

يُريدون أن يسموه، أرأيتم الأشرار؟ الأشرار أشرار، وطبعاً هناك قتلة الأنبياء، حتى الأنبياء قُتِلوا، أليس كذلك؟ و: الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ۩ كانوا يُقتَلون، يُوجَد مَن هم كذلك، فعلاً وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ۩، هناك أُناس خُلِقوا لجهنم، ما رأيك؟ وطبعاً من المُسلِمين والمسيحيين واليهود، ومن كل الأمم، ومن المُسلِمين طبعاً، خُلِقوا لجهنم، هم ناريون، جهنميون – والعياذ بالله منهم -، لا كثَّر الله في الأمم والبشرية من أمثالهم.

نعود إلى ما كنا فيه يا إخواني:

إذن هذه هي القضية، وهذا هو جوهر القضية، الحق والعدل، فإياكَ وإياكِ وإياكم وإياكن وإياي أولاً قبل الجميع أن نلقى الله ولأحد في عنقنا أو أعناقنا مظلمة، من عرض أو مال أو دم أو غير هذا.

كُن كيف شئت فإن الله ذو كرم              وما عليك إذا ما أذنبت من باس.

إلا اثنتين، فما تقربهما أبداً                   الشرك بالله، والإضرار بالناس.

لأن الشرك بالله لا يغفره الله، أبو العباس بن سُريج – رحمة الله عليه، شيخ الشافعية في القرن الثالث، ومُجدِّد الإسلام في ذلك القرن – قال رأيت مرةً – وهذا قبل وفاته بقليل – الآتي، قال رأيت مرةً وكأن القيامة قد قامت، وكأن الله – تبارك وتعالى – حشرني في زُمرة العلماء، وأوقفنا بين يديه، وقال يا معاشر العلماء، قد أودعتكم علمي، فماذا عملتم به؟ قال وكان سؤالاً صعباً وعسيراً، قال فأجاب بعضهم، قالوا يا ربنا وإلهنا وسيدنا، قصَّرنا وأسأنا، قال فأعاد السؤال، وكأنه لم يرض الجواب، في الرؤيا! هو رأى هذا، قال فتقدَّمت، فقلت يا رب العالمين جئتك بصحيفة ليس فيها الشرك، وقد وعدت أن تغفر ما دونه، قال اذهبوا، فقد غفرت لكم.

ولذلك إياكم والشرك بالله – تبارك وتعالى -، ثم – بعد الشرك مُباشَرةً – إياكم وماذا؟ والعياذ بالله وحقوق العباد، إياكم وظلم الناس، إياكم! وهذه طريق سهلة أيضاً للنجاة والتخلص.

نسأل الله أن يُنجينا وأن يُخلِّصنا من سوء المصير ومن سوء عذابه وعقابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، إخواني وأخواتي:

لن أُطيل عليكم، في الحقيقة كان الموضوع الذي أردت أن يكون محور هذه الخُطبة، هو الموضوع الذي الآن سأُلخِّص الكلام فيه في جُملة أو جُملتين، ولعل الله – تبارك وتعالى – يكتب لنا موعداً آخر، نُوسِّع فيه الكلام، ويُمكِن أن يكون هذا حتى بعد صلاة العصر – إن شاء الله، لمَن شاء -، وهو السبب الثاني لسوء الخاتمة وسوء المصير والانقلاب عند الموت – والعياذ بالله -، وطبعاً على فكرة – حتى لا أضل يا إخواني – لا يُختَم لإنسان بخاتمة سيئة ويلقى الله على أسوأ النهايات – والعياذ بالله – هكذا جُزافاً، أي كما يظن بعض الناس، أي أن أحد الناس كان مُستقيماً وطيباً، وفي آخر حياته – في آخر يوم أو يومين – انقلب، أي هذا البعيد ومات هكذا، لا! مُستحيل، حاشا لله، حاشا لله أن يفعل هذا بعباده، ولكن المسألة مثل الامتحان، مثل الامتحان طبعاً، وواضح أن مسار هذا الطالب عبر الفصل الدراسي كله وبعد ذلك مساره في الامتحان هو الذي حدَّد ماذا؟ نتيجة الامتحان، وليس فجأة الأمور انقلبت هكذا، أنه كان شاباً مُجداً ومُمتازاً ومُواظِباً ومُذاكِراً وقرأ واستعد وعمل وكل شيئ، وفي الأخير قال إنه رسب، مُستحيل! لا يحدث هذا، لا يحدث هذا بصراحة، العكس هو الصحيح، وكذلك هذا، وكذلك يوم القيامة، أي سوء الخاتمة مثل سوء المصير، سوء المصير ما هو؟ فَمَن ثَقُلَتْ ۩… وَمَنْ خَفَّتْ ۩…  فَمَن ثَقُلَتْ ۩… هذا – ما شاء الله – أفلح، وَمَنْ خَفَّتْ ۩…  ذهب إلى ستين داهية، فأمه هاوية، خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۩… ليس عنده أي شيئ، ليس عنده أي أعمال صالحة، لماذا؟ لأن عنده ذنوب كثيرة، وذنوب كبيرة، وجبال من الذنوب الصغيرة، جبال! وطبعاً الذنوب الصغيرة حين تكون كالجبال تكون أكبر من كثير من الكبيرة التي لم يحتقب في حبلها الكثير، فمثلاً واحد عمل كبيرة مرة أو مرتين وتاب، قد يتوب الله عليه، وإن شاء أخذه بما فعل، هل هذا واضح؟ لكن هذه هي الكبيرة – (ملحوظة) أشار فضيلة الشيخ إلى أن حجمها كبير نسبياً -، وذاك يرتكب صغائر كثيرة، صغائر، صغائر، صغائر… طيلة حياته وهو في الصغائر، يأتي وذنوبه ليست في حجم الكبيرة السابقة، وإنما في حجم الجبال، جبال! والنبي قال هذه، هذه هي! قال إياكم والمُحقَّرات، وأنتم تعرفون الحديث، مُحقَّرات الذنوب، تحقرها وتقول هذه صغيرة وهذه صغيرة وهذه صغيرة، ثم تجد عندك جبال – والعياذ بالله -، يخف بها ميزانك، أو يخف بها ميزان البعيد، يخف بها ميزانه يوم القيامة، فيهلك، مع أنه لم يكن يرتكب الكبائر، لكن حياته كلها صغائر، صغائر، صغائر، صغائر… ومن المُحتمَل أيضاً أنه لم يكن يُصلي ولم يكن يتوضأ ولم يكن… هلك هذا، أليس كذلك؟ وإلا من رحمة الله أن الوضوء يُكفِّر لك الصغائر، الصلاة تُكفِّر، الجمعة إلى الجمعة تُكفِّر، ورمضان إلى رمضان يُكفِّر.

ولذلك – كما قلنا – هذا وضع الناس الذين يُختَم بخاتمة سيئة لهم، في حياته – قال لك – ما صلى، وهذا ليس لأن الله غضب كثيراً لأنه لم يُصل، ليس هذا، كل ذنوبه عليه، كل صغائره موجودة، أليس كذلك؟ وكونه لم يكن يُصلي يعني أن نفسه أصبحت نفساً خبيثة ونفساً جريئة، وربما مات على الشك والكفر والإلحاد، أو حتى كان Agnostic، أي مُتردِّداً، هل هناك الله أم لا؟ ضاع عليه هذا، وهذا من المعاصي، أرأيت؟ ولذلك العبادات مُهِمة لك، انتبه! مٌهِمة لك، وإذا كان عندك مقام عند الله، فأنت لن تبلغه إلا بعمل صالح، والعمل الصالح التيسير إليه من فضل الله، نعم! ومن رحمة الله، ولكن لابد من عمل، إياك أن يضحك الشيطان عليك، فيقول لك نم واسترح، المكتوب مكتوب، غير صحيح! الله قال لمُحمَّده، لخيرته من خلقه، قال له وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ ۩… أصعب شيئ! أصعب شيئ صلاة الليل، اترك الفراش الوثير الدفيء وكذا في الليلة الباردة وقم، قم وأنت تعبان، قال له وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ ۩… انف الهجود، انف النعس عن عينيك، قم، فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ۩… لماذا؟ قال له عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ۩، قال له هل تُريد المقام هذا؟ إذن لابد وأن تقوم لكي تُصلي الليل أيضاً، هذا غير صلاتي؟ قال له غير صلواتك الخمس وكذا، لابد وأن تقوم أيضاً في الليل يا محمد، لم يقل له لا، نم واسترح، واصل النوم، وأنت ستكون أعظم شيئ، لا! قال له لابد وأن تعمل، أرأيت؟ النفس تحتاج هذا، إذا كانت نفس محمد تحتاج هذا، فكيف بنا نحن المساكين الفقراء (الغلابة)؟ نحتاج، نحتاج العبادة.

فالمُهِم، النُقطة التي أُريد أن أقولها يا إخواني هي أن ما يجعل خاتمة المُسلِم وخاتمة المُؤمِن سيئة – والعياذ بالله – ضلال العمل، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً ۩ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ۩، ستقول لي هؤلاء هم الكفّار، كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ۩… نعم! هذا صحيح، ولكن الضلال على مراتب، وما من أحد إلا يعتري الضلال أعماله، فيُفسِد منها الكثير والقليل، وما السر في ضلال الأعمال؟ كلمة واحدة، ونُفصِّل ربما بعد العصر في سؤال وجواب.

السر في ضلال الأعمال هو الآتي، الضلال هو بُطلانها، أي إذهابها هباءً، مثل أعمال الكفّار، مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ ۩… وكذا، أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ۩… لا يُوجَد إلا هذا، كله سراب، ضاع، ضلال! هذا ضلال، عمل وعمل وعمل، ثم لم يجد شيئاً، عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ۩ تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً ۩، إذن وأين أعمالي؟ قال لك أعمالك ما أردت بها وجهي، أعمالك كانت رياءً، وكانت شركاً خفياً، وكانت من أجل وجوه الناس ومحمدة الناس وكلام الناس، لم تكن لي، إذن لا شيئ لك، ضاع عليك هذا، لا إله إلا الله، ضعنا! أرأيت؟ ولذلك يُمكِن أن ترى واحداً، كان ظاهره يشي بأنه مُتدين وطيب ومن أهل الدين، وعند الموت تخبطه الشيطان، ومات بحالة سيئة جداً، وقال أشياء فظيعة وقبيحة، لماذا؟

بعضهم قيل له يا رجل قل لا إله إلا الله، قال أنا بكافر بالذي تدعونني إليه، وهذا من قريب – والعياذ بالله -، ولن نحكي عن هذا، نسأل الله أن يستر على الجميع وأن يرحم الجميع، شيئ مُخيف! قال أنا كافر بالذي تدعونني إليه، يا رجل استغفر الله، وكذا، اتلوا عليه القرآن، قال أنا كافر بهذا القرآن، ومات هكذا، أرأيتم؟ وهو مُسلِم، عاش مُسلِماً طيلة حياته هذا، أي على أساس أن هذا مُسلِم، يُمكِن أن يكون هؤلاء – كما قلنا – أصحاب ذنوب، ويُمكِن ألا يكونوا كذلك، يكونون أصحاب طاعات، ولكن في الحقيقة – وهذا لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، الملائكة نفسها ربما لا تعلم هذا – الله يعلم أن كل هذه الطاعات وكل هذا الدين وكل هذا الشغل لم يكن لله، كان للناس، ولأجل حتى اقتناص ماذا؟ الدنيا بهذا الدين، فهؤلاء بطل عنهم وضل عنهم سعيهم وما كانوا يعملون.

نعوذ بالله من ضلال السعي، نعوذ بالله من خسار الصفقة، نعوذ بالله من سوء الخاتمة، من سوء المصير، ومن سوء العاقبة.

اللهم ربنا آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير مَن زكاها، أنت وليها ومولاها.

نعوذ بالله من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن علم لا ينفع، ومن دعوة لا تُسمَع، ومن عمل لا يُرفَع، ومن الجوع، فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة، فإنه بئست البطانة.

اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك، يا رب العالمين، اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما جنينا على أنفسنا وما أنت أعلم به منا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين.

اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

_____

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

 (تكملة قصيرة للخُطبة حول ضلال الأعمال)

في تسع دقائق – إن شاء الله – نذكر بعض الأشياء، التي كنا سنذكرها بعض صلاة العصر يا إخواني، اللهم صل على سيدنا محمد.

تذكّرت أيضاً في موضوع الدين أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا إخواني وأخواتي كان من عادته أنه إذا أوتي بجنازة ليُصلي عليها، كان يسأل عليه دين؟ فإن قيل نعم، عليه دين، فإن كان مع النبي، فهو أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۩، وكان يقول مَن ترك ديناً أو ضياعاً أو عيالاً فإلىّ وعلىّ، ومَن ترك مالاً فلورثته. وهذا شيئ عجيب، أي المغارم والأشياء هذه أنا أتحملها إذا كنت أقدر، وإذا ترك مغانم، فهي لأهله وورثته. انظر إلى هذا القائد العظيم والنبي الكريم، صلوات ربي وتسليماته عليه، النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۩، فالقرآن يقول هذا، فإن كان معه ما يقضي به الدين، دفع – أي النبي – وقضى عنه، وإن لم يكن تأخَّر، وقال صلوا على أخيكم، لماذا؟

في حديث آخر أفاد أن صلاته لن تنفعه، تخيّلوا! وهو النبي – عليه السلام -، هذا النبي! أي هل تُريد مَن هو أكرم على رب العباد من رسول الله؟ أكرم أكرم ما خلق الله، والله لا يرده خائباً، لكن الله هو الحق، والنبي فهم أن هذا قانون الحق عند الله، أنا لا أردك يا عبدي ويا حبيبي، ولكن هذه حقوق العباد، حتى يُسامِح بها صاحبها، وطبعاً انس وانسي يا أختي أن يُسامِحك أي واحد يوم القيامة، صدّقوني، انس! الأم تتقاضى ابنها حقها، تقول له أعطني، ويقول لها أنا ابنك، ولكنها تقول له أعطني، والابن لا يُعطي أمه، بل ويرغب في أن يأخذ منها أيضاً، الأم! فانس أن يقول لك أي واحد يوم القيامة سامحتك، هذا الكلام غير موجود، ولذلك مَن يُريد أن يُسامِح، فليفعل هذا في الدنيا، والأمر نفسه مع مَن يُريد أن يُصفي حساباته، اذهب وصف هذا الآن في الدنيا قبل أن تلقى الله، أرجع للناس حقوقها، استسمح منها، كُف عنها في الدنيا، قبل أن تترحل.

فأفهمنا أن صلاته لا تنفعه، أي ولو صليت عليه – قال – هذا سيكون تضييعاً للوقت، الله لن يقبله، شيئ غريب! أي دعاء النبي له لن ينفع، لأن عليه دين، عليه دين وهذه حقوق العباد. ولا أعتقد أن هناك ديناً يُشدِّد في حقوق العباد مثل الإسلام، وأقول بين قوسين الآتي، وأنا ممرور والله ومحزون: (ولا أعتقد أن هناك أمة تتساهل في حقوق العباد، وحتى في الدماء الآن، مثل أمة محمد، والله عندنا نوع من التساهل الغريب، شيئ غريب جداً! وتسمع قصصاً عن هذا، ولن أحكي أكثر من هذا، أي لن أحكي لكم ما تعرفونه جميعاً، اليوم من الصعب جداً أن تدخل جداً مع أي مُسلِم – حتى ولو كان معك في الصلاة ويُصلي هنا – في شركة أو تجارة، تخاف على أموالك، أليس كذلك؟ أين الأمانة؟ أين الأمانة؟ انس، وقال لك نحن مُسلِمون، هدانا الله، جعلنا الله مُسلِمين، جعلنا الله فقط مُسلِمين، نكون نحن مُسلِمين، نحن مُتعَبون، نحن مُتعَبون يا إخواني، نحن مُتعَبون، نخدع أنفسنا كثيراً جداً جداً، نكذب على أنفسنا كثيراً جداً جداً، هكذا هي الأمة هذه، للأسف! ولذلك أحوالنا كل يوم في النازل، أليس كذلك؟ كل يوم في النازل، لأنه لا يُوجَد صدق مع الله).

المُهِم أن هكذا كان، فأحياناً كان يتقدَّم بعض الصحابة، ويقول له أحدهم أنا يا رسول الله، أنا أدفع، فإذا دفع الدين يتقدَّم النبي ويُصلي، وإلا لم يُصل، ويقول صلوا على أخيكم أو على صاحبكم، ولذلك روى أبو داود في سُننه، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما لقيَ الله رجلٌ بذنبٍ بعد الشرك بالله والكبائر التي نهى الله عنها – كبائر الذنوب معروفة طبعاً، مثل القتل والسرقة والزنا والربا وكذا، قال والكبائر التي نهى الله عنها، من ماذا؟ – من دين، يموت ولا يدع ما يقضيه. مات هو ولم يترك أموالاً تقضي هذا الدين، وهذا لم يمهمه، مهما كان هذا الدين ضئيلاً، فالقضية خطيرة، قضية الدين والحقوق عموماً (حقوق العبادة) خطيرة، خطيرة! ولا يُكفِّرها الحج، انس هذا، هناك أُناس قالوا لك لو واحد حج غُفِر له، فلتحج، أهلاً وسهلاً، الحج لا يُكفِّر التبعات، ما التبعات؟ حقوق الناس التي عليك، لا يُكفِّرها الحج، إذا كانت الشهادة لا تُكفِّرها، فهل الحج سيُكفِّرها؟ إذا كانت الشهادة في سبيل الله لا تُكفِّر حقوق العباد والديون، فهل سيُكفِّرها الحج؟ الحج لا يُكفِّر هذا، انس! مَن يقول لك هذا يكذب عليك، كلام لبعض العلماء وفيه شذوذ، لا يُكفِّر! الحج لا يُكفِّر هذا، يُكفِّر ذنوبك التي بينك وبين الله، لكن حقوق العباد لا تُكفَّر بالحج أيضاً، فهذا شيئ مُخيف.

نرجع إلى النُقطة الثانية – كما قلنا – يا إخواني، وهي قضية ضلال الأعمال – والعياذ بالله -، طبعاً أعظم ما تضل به الأعمال ما هو؟ وما معنى الضلال؟ الضلال هو البُطلان والتيه والذهاب، إذا الشيئ تاه وذهب واختفى وضاع وانتهى تقول عنه ماذا؟ ضل، أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۩، وما معنى ضَلَلْنَا ۩ إذن؟ ذُبنا وانتهينا وتلاشينا، ومن هنا يُقال الضلضلة، وهي الحجر الذي تكون في قلب النهر، أي تحت، فهو مُخبأ بالأسفل، ضائع، يُسمونه الضلضلة، لأنه ضائع، غير مُبيَّن، وكذلك الضلال، كذلك الضلال! يقول لك ضل عمله وخاب سعيه، ما معنى ضل إذن؟ بطل وانتهى وكأنه لم يكن، وكأنه لم يكن!

أعظم مُوجِب لضلال الأعمال ما هو؟ الشرك بالله، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ۩… هذه هي! الحبوط، الضلال، البُطلان، ينتهي كل عملك الصالح، وكأنك لم تعمله، ويبقى ماذا؟ العمل الطالح، وتُحاسَب عليه – والعياذ بالله -، شيئ مُخيف! لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۩، وهذا أكيد طبعاً، هل تعرفون لماذا؟ قد يقول لي أحدهم لماذا؟ ولماذا ربنا يتشدَّد؟ انظر إلى هذا، انظر! الأسئلة هذه لن أصفها وصفاً غير لائق، ولكن بصراحة هذه أسئلة غريبة، وهذه أسئلة مُستفِزة، يا رجل هذا هو الحق، لماذا أنت لا ترضى بالحق ولا تفهم الحق ولا تسعد بالحق؟ هذا هو الحق، واحد قال لك أنا لم أعمل لوجه الله، أو أنا – هذا البعيد – لم أؤمن بالله، وإذا كنت آمنت بأنه موجود، فأنا لم أعمل هذا لوجهه، عملته من أجل شريك آخر، عملته لوثن أو لإله، عملته للعباد، الشرك الأصغر، الرياء! عملته للناس، وليس لله، جميل، الله قال لك الحق، وعندي لا يسوغ ولا يمر ولا يدخل ولا ينفذ إلا الحق، ولماذا أنا أقلب الحقائق وأزيّف؟ لن يحصل هذا أبداً، الله لا يُزيّف ولا يقلب، يُعطيك كل شيئ كما هو، قال لك الحق والحقيقة أن هذا العمل لم يُعمَل لي، عُمِل لشيئ ثانٍ، اجعل الشيئ الذي عملت من أجله يُعطيك، أنا لن أُعطيك، أليس كذلك؟ فلا تزعل، ولا تقل الله يُشدِّد عليّ، الله لم يُشدِّد عليك، الله يُعلِّمك الحقيقة، أليس كذلك؟ ولماذا تكذب على الناس؟

وعلى فكرة جميل، جميل إذا أردت الآتي، تعال وقل للناس يا جماعة بصراحة أنا صلاتي وعبادتي وتخاشعي ومنظري المُتدين هذا ليس لله، وإنما لكم، لكي تحترموني وتثقوا بي وتُعطوني أماناتكم. الكل سيبصق عليك، أليس كذلك؟ لكنك ستكون صادقاً على الأقل، فستقول لهم أنا مُخادِع، أُخادِعكم باسم الدين وألعب باسم الدين. ولن يحترمك أحد، أليس كذلك؟ الكل سيبصق على وجهك، وسيقول لك وماذا نُريد منك يا مُخادِع، يا نصّاب، يا مُنافِق، يا كذا، ويا كذا؟ ولكن أنت لا تُريد هذا، أنت تلعب على الاثنين إذن، تدّعي أنك تعمل هذا لله وكذا – إلى آخر ما لا أدريه -، وكل قصدك الناس، وفعلا الناس يحترمونك ويُحِبونك ويُقبِّلون يديك ويُعطونك أماناتهم ويُعطونك أموالهم ويُعطونك كرامات ويتصدّقون عليك ويغنوك وما إلى ذلك، وكله باسم الدين – والعياذ بالله -، تأكل الدنيا بالدين، نفاق رهيب وواضح ومكشوف، الله يوم القيامة قال لك لن يسوغ هذا أبداً، أنا أحط الأشياء في أنصبتها الصحيحة، كل شيئ في مكانه.

 

(انتهت التكملة بحمد الله)

فيينا 8/2/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: