إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ۩ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ۩ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ۩ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ۩ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ۩ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۩، قلنا ذات مرة من قريب من الخطأ بل من الكارثة أن يُحدَّد الإسلام وسلياً أي وسائليلاً، ينبغي أن يُحدَّد بغاياته قبل أن يُحدَّد بوسائله وإلا فهى الكارثة الكارثة، حين تشيع يا أحبتي في الله العدمية بكل ما تستجره وتستتليه وتستتبعه من التدميرية ومن النزعة النحرية والانتحارية ومن الجنون المُنفلِت يصير السؤال هو سؤال المعنى، وتُعلَّق سائر الأسئلة إلى وقتٍ آخر، تُعلَّق سائر الأسئلة ولا تغدو أسئلة اللحظة، لا تغدو أسئلةً تكتسي أهمية في اللحظة المعيشة، إنما السؤال سؤال المعنى، معنى الوجود، معنى الحياة، وخاصة الحياة الإنسانية، وإذا ذُكِرَ الإنسان وحياة الإنسان ذُكِرَ سؤال معنى الدين، معنى الأخلاق، معنى الأدب والفن، ومعنى الفكر والعلم والمعرفة والفلسفة، إذن السؤال هو سؤال المعنى، ما معنى هذا كله؟ لكي نفهم معنىً – لله معنى – لحالة العدمية التي نعيشها لابد أن نعود إلى سؤال المعنى الذي يبدو أننا لم نطرحه بشكل جيد ولم نتعان البحث عن جواب أو جوابات له من منظوراتٍ مُختلِفة، ليس بالضرورة مُتعارِضة وإنما مُتعدِّدة، سؤال المعنى قبل سؤال الهدف، لا معنى للسؤال عن الهدف قبل أن نُجيب سؤال المعنى، لأن الهدف يتلو المعنى بالضرورة، إذا تعيَّن المعنى سَهُلَ تحديد الهدف، أما أن ننبعث في ادّعاء وفي تحديد أهداف دون أن نُجيب عن سؤال المعنى هذا معناه أننا نتآكل، نتحلل، نذوب، نتعارض ونتفارق باستمرار، طبعاً أعني هنا النحن بالمعنى الوجودي العميق العريض، النحن المعرفية، الثقافية، الدينية، والحضارية، كل شيئ ينتهي، كل شيئ يذوب ويتحلل، يتفارق ويتعارض، يتآكل ولا يتكامل، بالضبط هذه هى الحالة التي نعيشها الآن كأمة مُسلِمة، أمة في طور التحلل والذوبان والتفكك، واضح أنها تعيش هذه الحالة من أسف شديد.
يعنينا يا أحبتي في الله – إخواني وأخواتي – في هذا المقام ونحن نطرح السؤال الكبير ولعله أكبر الأسئلة – سؤال المعنى – أن نجتزيء ونكتفي لمُبرِّرات لا تخفى عليكم وعليكن بسؤال معنى الدين، لأن روح هذه العدمية التي نُعاني ونُكابِد للأسف دينية، جذرها ديني للأسف شئنا أم أبينا، وأُذكِر يا أحبتي في الله بما تعرفونه جيداً، أن السماء بخير، السماء بخير وحالها على ما يُرام، ليس فيها خصومات، ليس فيها نزاعات، ليس فيها إرادات للهيمنة والتسلط والإلغاء والإقصاء، السماء بخير، لذلك يجب أن نكون واضحين مع سؤال الدين، الدين ليس للسماء، كل تفسير وكل تأويل يُحاوِل أن يُفهِم أن الدين للسماء وأن التدين للسماء فاشل بل خبيث ومُخادعِ ومُلتوٍ، يُخفي في النهاية إرادة هيمنة، ستقول بل إرادة تغييب، الإرادة الأبعد هى دائماً إرادة هيمنة فانتبه، لو سُئلت عن الشر الأكبر الذي يُمكِن انتزاعه سأقول إرادة الهيمنة، لا أدري بانتزاع جيناته مثل الجينات – Genes – الثقافية حتى أم ماذا، كجينات دوكنز Dawkins والميمات Memetics، إذا كان لنا الخيار أن ننتزع بضربة واحدة شراً وحيداً من الإنسان من بين عشرات إن لم يكن مئات وآلاف الشرور فأنا لن أن أتردد في أن هذا الشر الأكبر الأعظم والأدهى الذي ينبغي مُباشَرةً أن نجتزيء بتنحيته وإزالته هو إرادة الهيمنة، إرادة تسلط الإنسان على الإنسان، أكثر ما كرث ودمَّر المجتمعات البشرية وأكثر ما لوَّث وسمَّم الدين والقيم والأخلاقيات والمُثُل وكل المعاني النبيلة دائماً إرادة الهيمنة، هيمنة شعب على شعب أو أمة على أمة أو دولة على دولة أو حزب على حزب أو جماعة على جماعة أو طائفة على طائفة أو رجل على جماعة أو رجل على طائفة، مرة بإسم الدين بل مرات بإسم الدين – هذا يحدث كثيراً – ومرات بإسم السياسة والمصالح والاقتصاد، إرادة الهيمنة اللعنة الكبرى، في نظري وبكل تواضع أعظم علاج لإرادة الهيمنة الإيمان، لكن ليس الإيمان الوثني، مُعظَم أنماط وصور الإيمان التي ينطوي عليها المُتدنيون من سائر الأديان هى أنماط وثنية فانتبهوا، الإيمان بالله – تبارك وتعالى – على أنه الأكبر والأوحد والأعظم والمُطلَق في كل صفاته – لا إله إلا هو – ونعوته أعظم علاج، في نظري هو العلاج الأخير والأوحد أيضاً لكل صنوف النرجسية الإنسانية، لكل صنوف الأنانيات، ومن ثم لكل صور وأنماط الهيمنة، لابد من الإيمان بالله، لكن للأسف الشديد هذا العلاج العظيم الذي تكرَّمت به السماء على الأرض مُباشَرةً عبث به الرجال، رجال الدين بالذات ورجال السياسة معهم، والحلف مُتواصِل من قديم بين هؤلاء وهؤلاء – بين أصحاب العرش وبين رجال الكهنوت – باستمرار للأسف الشديد في كل الأمم، وكلٌ لمصالحه، كلٌ لاعتبارات تخصه، مُباشَرةً كان يتم توثين مفهوم الإيمان بالله، مُباشَرةً تُغتصَب هذه الصورة – هذه الصورة المُعتقَدية كما أدعوها – وتُختَزل وتُخفَض لتخدم أغراضاً مُختزَلة ودنيئة دائماً – دائماً دنيئة، لا يُمكِن أن تكون رفيعة ونبيلة – بإسم الله تبارك وتعالى، هذا يحدث بإسم الله فانتبهوا، بإسم الله وبالإحالة على الله تُبرَّر أبشع صور الجرائم والكوارث، هذا يحدث بإسم الله، في يوم من الأيام صاح أحد رجال الدين هنا في الغرب الكاثوليكي قائلاً آه يا الله، كم باسمك كرهنا بعضنا البعض وذبجنا بعضنا البعض، بإسم الله، ليس فقط بإسم الحرية في العبارة المشهورة بل حتى بإسم الله، أكثر شيئ كان بإسم الله، أذكر الآن في هذه اللحظة النزاع المشهور الذي شب بين الديمقراطيين أعداء الرئيس الأمريكي السادس عشر أبراهام لينكون Abraham Lincoln وبين رجال حزبه الجمهوريين حول التعديل الثالث عشر في الدستور الأمريكي، وهو التعديل الذي اقترحه لينكون Lincoln لتحرير العبيد ولإلغاء مؤسسة العبودية مُغامِراً بمُستقبَله السياسي برمته، بعض الجمهوريين كانوا ضد ذلك، كل الديمقراطيين كانوا ضد ذلك، تُغامِر بمُستقبَلك السياسي، لكن الرجل كان نبيلاً وكان نافذ البصر، كان ذا بصيرة وألح، على كل حال في جلسات الكونجرس Congress نقاشات مُحتدِمة لأسابيع، قام أحد الديمقراطيين البُلغاء من أصحاب الألسنة السليطة والألفاظ القوية المُعبِّرة المُوحية ليقول شيئاً عجيباً، قال هذا التعديل مُعارِض لإرادة الرب ولشرع الله – تبارك وتعالى – الذي أراد البشر أن يكونوا مُختلِفين، خلقهم أسود وأبيض لكي يستعبد الأبيض الأسود، هذه إرادة الله، يقول هذا طبعاً بإسم الله، الكل يتحدَّث بإسم الله لتبرير العبودية، كل أشكال العبودية، ليست عبودية البشر السود فقط أو المُلوَّنين وإنما عبودية البشر كبشر مُلوَّنين وغير مُلوَّنين، ودائماً بإسم الله، المذابح – ذبح الأخرين وتصفية الأخرين – تتم بإسم الله وعلى أنه الجهاد في سبيل الله، هذا هو الجهاد، هذا مُراد الله تبارك وتعالى، هكذا يُقال، يقولون الله يريد هذا، وهذا أمرٌ عجيب، إلى هذه الدرجة ممكن أن نتجرأ على الله – تبارك وتعالى – ونغتضب صلاحيات الله ونتكلَّم بإسم السماء بمثل هذا العنفوان وهذا الغرور وهذا الانتفاخ الساذج؟
حين تُدقِّقون وتُمعِنون النظر تجدوا – كأنها جواب الشرط – أن كل الحروفيين وكل الجامدين وكل الذين يتعاملون مع النص الكريم والنص المُقدَس – كما يُقال – بمجانية وباستخفاف غير مُكلِّف يستخفون تماماً أن يعزوا إلى الله ما شاءوا وإلى رسوله وإلى الأديان وإلى الفطرة والطبيعة وإلى قانون الله الكوني، كل هؤلاء يُعانون من إعاقة، أنا أعتقد أنها إعاقة في الدماغ على المُستوى العصبي، علماً بأنني أتكلَّم الآن بلغة العلم، العلم الطبيعي الذي يُمكِن أن تُستقصى فيه الحالات تجريبياً وليس تأملياً، كيف؟ كل الحروفيين وكل الجامدين كارهون للمجاز، يكرهون المجاز، يفشلون دائماً في أن يمضوا مع النص خطوة واحدة – فضلاً عن أن يمضوا خطواتٍ في ساحة – في طريق الرمزية وفي طريق المجاز وفي طريق ما هو أبعد من الحرف المُباشِر الذي يُمكِن أن يتلقَّاه الإنسان الأكثر عادية واعتيادية والأكثر سذاجة وأُمية ثقافية، يفشلون في هذا ويكرهونه ويُؤصِّلون لهذا بطرق نظرية، الآن في علم الأعصاب وفي علم الدماغ يُعتبَر هذا مرضاً، في الحقيقة هو مرض، هو مرض تم اكتشافه، أن الذين يُعانون من انقطاع بعض الاتصالات – لن أتلكم الآن بلغة فنية حتى لا نُعقِّد الموضوع – يُعانون من هذا، صعب جداً عليهم أن يتخيَّلوا، لا يفهمون اللغة الرمزية، أحياناً يُعاني الواحد منا من بعض الناس، حين تذهب تُمازِحه وتُفاكِهه يأخذ الأمر دائماً بجد، هذا ينطبق عليه نفس الشيئ، هذا المسكين يُعاني عصبياً، عنده مُشكِلة عصبية ومن ثم لا يفهم الشيئ رمزياً ومجازياً Metaphorically، هم لا يعرفون هذا ولا يستطيعونه، يفشلون في هذا، عندهم عجز وعندهم عوق، عندهم إعاقة عصبية، حين يُصبِح هؤلاء مُنتِجين لفكر ومُنتِجين لتأويل ومُنتِجين لتفسير للدين هى الكارثة، الناس العوام المساكين لا يعرفون هذا، يعرفون المظاهر فانتبهوا، يعرفون لحية وجلباب وألقاب ويُصدِّقون، مَن عرَّفهم طبعاً؟ لا نلوم عليهم، لكن نلوم على أهل الفكر، وطبعاً هنا أنتهز هذه الفرصة لكي أقول نلوم ونلوم ونلوم ولابد أن نلوم بمقدار التقاعس والعجز والكسل وعدم إبراء الذمة من المسئولية وخاصة مسئولية الوقت، قليلٌ من حنظل الشر يُفسد الكثير والكثير جداً من عسل الخير، نحن نعيش هذا دائماً، هذا شيئ يومي أصبح مُبتذَلاً، أنت الآن يُمكِن أن تُحسِن إلى أحد الناس عشر سنين ثم تُسيء مرة، ينسى كل إحسانك ويتذكَّر دائماً هذه المرة، على كل حال هذا شيئ سيء جداً ولكنه في نهاية المطاف للأسف في التحليل الأخير إنساني، هذا طبع الإنسان، الفرد والجماعة، يُمكِن لأمة أن تُقدِّم الكثير لغيرها وللحضارة وللمعرفة البشرية ثم تُسيء مرة أو مرات، تُضخَّم هذه الإساءة باستمرار، هذه طبيعة البشر سبحان الله، لا يحتفون كثيراً بالخير وبالإيجابي، لكن يفتحون عيونهم فناجين على الشر وعلى الزلة وعلى الفضيحة وعلى الخطأ، يُحِبون هذا جداً، ولذلك تُعاني الآن الأمة الإسلامية، الإسلام نفسه يُعاني من أخطاء بعض أبنائه، وكما نقول دائماً هم نسبة ضئيلة، هذا ليس كلامي، هذه إحصائيات علمية في الاتحاد الأوروبي، جالوب Gallup وغير جالوب Gallup، يقول لك هذا، أكثر من خمسة وتسعين – في بعض الإحصائيات أكثر من سبعة وتسعين في المائة – من المُسلِمين مُسالِمون طيبون وادعون، حياتهم تُؤكِّد أنهم مُسالِمون، علماً بأن أكثر الضحايا على وجه الأرضهم من المُسلِمين، نحن أكثر الناس ضحايا، نحن أكثر الناس الذين نُظلَم، أي المُسلِمون، لكن البقية لديهم موقف مُختلِف، طبعاً هذه الدراسات العلمية تُؤكِّد – وهذا شيئ جيد وهذا من إنصاف هذه الدراسات – وتقول حتى هذه البقية المُبرِّرات الحقيقية لمواقفها المُتشدِّدة سياسية في الجوهر، يُسعِدني أن يكون الأمر كذلك ولكن أنا كمُسلم لا أحب أن أُغرِّر بنفسي، لا أُوافِق على هذا تماماً، لماذا؟ هناك شيئ لابد من إيضاحه، لو كانت البواعث الحقيقية سياسية وهى كذلك إلى حد بعيد جداً ولو لم يكن هناك ظلم نزل وحاق بالمُسلِمين في بلادهم وفي أوطانهم وبشعوبهم وبأهليهم لما ابنعثت كل هذه الحركات المجنونة المُتطرِّفة التي صار أكثر من يُعاني منها الآن المُسلِمون أنفسهم في بلادهم وعلى أرضهم، إذن هناك أسباب سياسية واضحة أو من طبيعة سياسية، أي أسباب من طبيعة سياسية، هذه بواعث ولا نستطيع أن نُنكِر هذا لكن انتبهوا الآن، ما هى الوسيلة التي يتوسَّلها هؤلاء الغاضبون الناقمون الساخطون والمُحبَطون؟ الدين، ما هو الخطاب الذي ينطلقون منه ويُظهِّرون به أهدافهم ويُبرِّرونها؟ الدين، هذه هى المُصيبة الآن، والدين يدفع الثمن، من الصعب أن تُفهِم إنساناً غير مُتمرِس في الدرس العلمي وبالأسلوب والآليات العلمية أن هؤلاء مظهرهم دين ويتكلَّمون لغة دينية ويُبرِّرون أفعالهم بالدين وبالنص وقال الله وقال الرسول ثم تقول الإسلام براء، الإسلام لا علاقة له، من الصعب جداً أن يفهم الآخر هذا، وخاصة الآخر غير المُسلِم، المُسلِم نفسه من الصعب أن يفهم هذا، فكيف بغير المسلم؟ من الصعب أن يفهم هذا، وخاصة – كما قلت لكم – أن قليل من الشر للأسف يُعفّي على كثير في سجل الخير، طبعاً الشر بطبيعته هكذا، الشر بطبيعته ناري جحيمي، سبحان الله شرارة واحدة من المُمكِن أن تحرق مدينة أو تحرق غابة، الشر هو هكذا جحيمي ناري، من طبيعة نارية، من طبيعة فوضوية Chaotic، ليس له خُطة، ليس له منطق، مثل النار حين تستشري، ليس لها منطق، لا تستشري بمنطق مُعيَّن، من الصعب بل من المستحيل أن نتنبأ بمسارها بدقة، وكذلك الشر، نار الشر كما يُقال هى هكذا، من طبيعة فوضوية.
تفكَّروا – مثلاً – في معلومة تصل إلى هيئة مطار يعج بألوف المُسافِرين والمُتحرِّكين فيه جيئةً وذَهاباً عن فرد انتحاري في هذا المطار، كافية هذه المعلومة أن تجعل هذه الألوف الكثيرة من الناس تُعاني الإجراءات الأمنية المُشدَّدة، من أجلها ومن أجل مصلحتها، من أجل شخص مجنون بلغت عنه معلومات أو وصلت معلومات وأنباء أنه مُنتوٍ أن يُفجِّر نفسه أو يُحدِث تفجيراً في مطار، الكل سيُعاني، طبعاً من الممكن أن يكون هذا على مُستوى مدينة، ول أهل المدينة يُعانون، من أجل مجنون واحد، لكن من أجلهم في نهاية المطاف، بسببه ومن أجلهم، ماذا نفعل؟ هذه طبيعة الشر، الآن الأمة الإسلامية – أكثر من مليار ونصف – تُعاني في كل مكان، أنت مُسلِم فعليك تقريباً أن تخجل، وهذا أمرٌ عجيب، لماذا أخجل من ديني؟ ماذا فعلت أنا؟ ماذا فعل هو أو هى؟ هكذا لأنك مُسلِم، المُسلِمون هكذا وضعونا في موضع لا نُحسَد عليه، أصبحنا مُحرَجين حقيقةً رغماً عنا، لا نستطيع أن نُنكِر هذا، نحن مُحرَجون، أحرجونا وأحرجوا دينهم تماماً وأحرجوا أمتهم بسبب هؤلاء، لذلك أنا أقول نلوم ونلوم ونلوم، الأكثرية هى التي تُعاني بسبب هذه الأٌقلية المنزورة فلماذا لا نرى تصدياً فاعلاً من هذه الأكثرية؟ ما الذي يحدث؟ لماذا لا نرى أصواتاً كثيرة ترتفع بالإدانة، بالدمغ، بالتحليل، بالتفسير، بالتفكيك، وبالتعقيم؟ أين التعقيم الثقافي؟ أين التعقيم الفكري؟ لا يُوجَد أي تعقيم، أنا لا أشاهد تعقيماً، بالعكس أنا أشاهد لغة في الأكثر لغة تبريرية، لغة نعم، طيبـ ولكن، لغة لكن كما قلت، وقد أسميتهم مرة أبناء ابن لكن، يقولون ولكن باستمرار، والشباب يفهمون الرسالة، أن المسألة ليست بتلك الدرجة من السوء، ليست بتلك الكارثية، يُمكِن لك في يوم من الأيام أن تُصبِح من هؤلاء، من هذا الحزب، هذا أمرٌ عادي، لماذا؟ هذا هو السؤال، لماذا؟ هذا شيئ مُحيِّر جداً، لماذا الأكثرية صامتة؟ في خمسينيات القرن العشرين المُنصرِم عانى الغرب الأوروبي والأمريكي من حالة مُشابِهة، خرج من حرب عالمية ثانية، زهاء ثمانين مليون ضحية، حرب مُدمِّرة، علماً بأن القرن العشرين كما وصفه بريجنسكي Brzezinski هو أكثر قرن في تاريخ البشرية دموية، والإحصاءات تتراوح بين ثمانين مليون – هذه الحرب العالمية الثانية، وأضيف أليها حوالى عشرين مليون الأولى، إذن مائة مليون – إلى مائة وثمانين مليون، البعض يقول ضحايا القرن العشرين بلغوا مائة وثمانين مليوناً، هذه بعض الدراسات لبعض المُختصين وليس لصحفيين، هذا شيئ كارثي، لم تشهد البشرية في تاريخها مثل القرن العشرين، القرن العشرون قمة العلم والتكنولوجيا والفلسفة فيه هذا، حالة مُخيفة، لماذا؟ نريد أن نُشبِّك بين حالتين وبين وضعين، على كل حال خرجت من حرب عالمية ثانية أحرقت الأخضر واليابس، دمَّرت كل شيئ، أحالت العامر إلى خراب كُلي، وبدأ التحضر لحرب نووية وأنتم تعلمون كيف، هناك الحرب الباردة وهناك الحرب النووية، يُمكِن أن ينفلت العقال في أي لحظة وتشب الحرب النووية، ستنسي كل حروب التاريخ البشري إن قامت بين القوتين العظميين، العجيب ما سجَّله المُحلِّل والمُفكِّر الإنساني الكبير إريك فروم Erich Fromm، فروم Fromm قال لُحِظَ أن الجماهير الكثيرة – الملايين المُملينة – لم تُبد فاعلية حقيقية ملموسة في إنكار الوضع، كأنها ليست مُشكِلة، كأنها تقول لا نبالي، نحن لا نبالي، هل لا تبالون؟ لا نُبالي، لماذا؟ يقول فروم Fromm قُدِّمت تفسيرات كثيرة تُفسِّر جوانب وتعجز عن تفسير سائر الجوانب، قال الذي أقترحته أنا – ويبدو أنه تفسير صائب إلى حد بعيد – أن السبب الجوهري والعميق كره الناس لحياة، قال الشعوب لدينا ليست شعوباً فقط غير مبالية بل بالعكس هى شعوب كارهة للحياة وتقريباً مُفتتَنة بالموت، أصبحت تعشق الدمار، تعشق الخراب، تعشق الموت، بلغة المُحلِّلين النفسيين نيكروفيلية، أصبحت شعوباً Necrophilic أو Necrophilist، الشخص النيكروفيلي Necrophilist Person – – هو هذا، العاشق للدمار والعاشق للموت، أوسع من عاشق الجثث فقط أو التعاطي الجنسي مع الجثث، النيكروفيليا Necrophilia لا تزال أوسع بكثير من هذا، لكن بكلمة واحدة هى عشق الموت وعشق الخراب وعشق الدمار، كيف؟ الحضارة الغربية انبثقت فيها فلسفة تعشق الخراب والدمار، نعم هذا الذي حدث وهذا الذي يُفسِّر قيام حربين مجنونتين في ربع قرن فقط، شيئ لا يكاد يُصدَّق، هذه انتهت في عام ألف وتسعمائة وثمانية عشر وتلك بدأت في ألف وتسعمائة وتسعة وثلاثين، شيئ لا يكاد يُصدَّق طبعاً، لأن الفلسفة العامة هنا هى فلسفة آليانية، فلسفة تغريبية، فلسفة ميكانيكية تتعاطى مع الإنسان على أنه شيئ من الأشياء، بالكاد تراه إنساناً، فلسفة ميكانيكية آلية تُشَيِّءُ الإنسان، وطبعاً هذا غير طبيعة الحياة، بالعكس طبيعة الحياة عضوية وهى مُختلِفة تماماً عن الطبيعة الآلية الميكانيكية من كل وجه تقريباً، يقول فروم Fromm وقد لمست هذا الافتتان بالموت حتى في الأمثلة وحتى في الكلمات، وللأسف هذا عند العرب أيضاً، عند أكثر الشعوب، يُقال (أُحِبه موت) فما معنى هذا؟ كيف تقول بحبه موت؟ كيف يُمكِن هذا؟ يقول (أُحِبه موت)، يقول لك الإنجليزي (هذا يقتلني)، أي أنه جميل جداً، ليس بمعنى Cool ولكن بمعنى أنه شيئ فظيع، إذن يُقال (يقتلني وأُحِبه موت)، هو حب الموت إذن، هى النزعة النيكروفيلية، يحيا الموت إذن، Viva la Muerte، أي يحيا الموت، هذا شعار العدميين، شعار القتلة، يقولون يحيا الموت، أنا سألتقط هذا الخيط – انتبهوا – لكي أقول لكم ليس اكتشافاً أن ثقافة المُتعصِّبين الجامدين الإرهابيين التدميريين تُسمى الثقافة الجهادية ظلماً وعدواناً، أنا أقول لكم يحدث هذا ظلماً وعدواناً، دائماً أنا لا يُمكِن إلا أن أُؤكِّد على الطابع الإنساني للجهاد القرآني، هو إنساني، إنساني بكل معنى الإنسانية، ما رأيكم؟ إي والله، إنساني بكل معنى الإنسانية، كاتبة يهودية لاأدرية Agnostic، هى ليست مُلحِدة لكن لاأدرية، ليست متدينة بالديانة اليهودية، لكن هى يهودية أمريكية، تتحدَّث عن قراءة القرآن، تتحدث في محفل عام في الولايات المتحدة الأمريكية عن قراءة القرآن وتقول يُتهَم القرآن بأنه يميل إلى العنف وأنه مُتعاطَف مع العنف ويتحدَّث في آيات كثيرة عن القتال والجهاد، قالت وأنا وجدت القرآن حين يتحدَّث عن القتال والجهاد يقول نعم هو يسمح بالقتال ويسمح بالجهاد ويسمح بالعنف Violence، أكيد يتعاطى مع العنف، لكن كيف؟ قالت بشروط بسيطة وهى تمزح وتسخر من هؤلاء الذين يكذبون على القرآن، وهى يهودية أمريكية لاأدرية، لا علاقة لها بالأديان أصلاً، تقول القرآن يقول يُمكِن يُسمَح لكم أن تقاتلوهم بشرط أن يُقاتِلوكم هم أولاً، بشرط – القاعدة – ألا يكون هذا في الحرم إلا رداً لعدوان بمثله، بشرط أن تنقضي مدة السماح، تُشير إلى آية التوبة، بشرط أيضاً أن تلتزموا مبدأ التناسبية Professionality، فكلمة Proportion تعني مُتناسِب وكلمة Professionality تعني التناسبية، ومبدأ التناسبية يعني مُكافأة رد الفعل للفعل، هو اعتدى عليك وأن ترد العدوان لكن بطريقة مُتكافئة، الآن يُسمى عدم الإفراط في استخدام القوة، هذا ممنوع، ثم تقول وبشرط وبشرط وبشرط، ثم تقولولأن الله رحيم وغفور وصفوح فيقول لكم الأفضل ألا تقتلوهم في نهاية المطاف، طبعاً هذا هو القتال قرآني، عن أي عنف نتحدَّث؟ أنا شخصياً كإنسان قرأت التاريخ وتاريخ الأفكار وتاريخ الحضارات لا أستطيع أن أفقه وأن أفهم وأن أستوعب – وإن لم يستوعب هذا لكن بالعكس هؤلاء المُنتفِخون أدعياء الثقافة والفكر الذين يطعنون في القرآن ويطعنون في محمد لأنهم لا يفقهون شيئاً، بكل تواضع لا يفقهون شيئاً، يهودية مثل هذه قالت القرآن فيه شهور يحرم فيها القتال، وفقهت ورأت ما لم يره هؤلاء الأدعياء من أبناء المسلمين للأسف الشديد – كيف كان يُمكِن أن ينبثق مثل هذا التشريع ومثل هذا التقييد للحرب ولجنون الحرب في القرون الوسطى وبالذات في مُجتمَع الجزيرة العربية وبالذات من طرف المُسلِمين إزاء الأطراف الأخرى التي حزمت أمرها وآلت إلا أن تستأصلهم من جذورهم، أقسمت ألا يكون لمحمد وأصحابه حق في الحياة والوجود، كيف يكون هذا هو رد فعل محمد ؟ لا أستطيع أن أفهم هذا إلا إنه فعلاً دين إلهي، دين رب أغنى من أن ينتقم من البشر ومن أن يتصرَّف بنزق إنساني، البشر هو الذي ينتقم، قل لي أين مفهوم الانتقام في القتال الإسلامي؟ تحدَّثنا عن مبدأ التناسبية، فأين مفهوم الانتقام إذن؟ طبعاً يتفرَّع من مبدأ التناسبية ومبدأ التكافؤ تحريم الانتقام، ماذا يقول الله تبارك وتعالى؟ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ۩، هذا أمرٌ عجيب، لا يُوجَد انتقام، الانتقام حقٌ لله تبارك وتعالى، محمد لا ينتقم، الصحابة لا ينتقمون، الجندي المُسلِم الحق القرآني لا ينتقم، لا يُوجَد انتقام، وهنا قد يقول لي لم أفهم، كيف يُوجَد قتال وعنف وضرب لرقاب ولا يُوجَد انتقام؟ ما المقصود؟ أنماط العنف ما هى؟يتحدَّث العلماء والمُختَصون عن أنماط أربعة على الأقل من العنف تناولها أيضاً فروم Fromm وغير فروم Fromm، النمط الاول هو الأكثر اعتيادية، هو نمط عادي، بالعكس هو طيب، وهو العنف اللعوب، باعثه ليس الكره وغايته ليست التدمير،كالرياضات العسكرية والرياضات الحربية، هذه رياضات ولا تنتهي إلى قتل، تُريد شحذ القوة وتنشيطها وتهذيبها وإظهار المهارة واللياقة فقط، نوع من الألعاب، هذه ألعاب القوة فقط دون الإضرار بالآخر، هذا عنف Violence، لكن عنف لعوب، هذا عنف إنساني، ينتمي إلى مجال الإنسان بلا شك وينتمي إلى الحياة ويخدم الحياة كما يقول الدارسون، وهذا كان أولاً، ثانياً لدينا العنف الارتكاسي، وهو أشيع أنماط العنف، العنف الارتكاسي جذره أين؟ يجد جذره في الخوف، باختصار حتى نبتعد عن اللغة الفنية نقول أن العنف الارتكاسي هو عنف رد العدوان، باختصار هو رد العدوان، يُسمى العنف الارتكاسي، حين يُعتدى على حياتي فرداً أو جماعة – انتبهوا – أو أمة أو شعباً وعلى حريتي وكرامتي وعلى مُمتلكاتي لابد أن أرد، هذا شيئ طبيعي، هذا إسمه الـ Survival، الإنسان يُحِب أن ينجو وينجو من معه، هذه غريزة بلا شك، وطبعاً المُعالَجة تكون عنفية، أي على مُستوى المخ الزواحفيReptilian Brain، لدينا – كما تعلمون – ثلاثة أمخاخ، بحسب الدكتور Paul A. MacLean لدينا ثلاثة أمخاخ، نظرية المخ المُثلَث أو الثالوثي Trinity brain theory، في العنف والقتال والقتل والدفاع والصراع من أجل البقاء – Struggle for Survival – نستخدم ماذا؟ ننطلق من ماذا؟ نخضع لهيمنة ماذا؟ المخ الغرزي من حيث الأصل، لكن طبعاً هناك المخ العاطفي الـ The mammalian midbrain، المخ الثديات الأوسط، هذا يتدخل وبعد ذلك يتدخل أيضاً المخ العاقل الراشد، ما يُسمى بالـ Logical and Rational Brain، أي الـ New Cortex، هذا هو الإنسان، فهو مُركَّب، لكن العنف والقتال والدم وما إلى ذلك أمور تتعلَّق المخ الغرزي، أي مخ الزواحف، الزواحف لا عاطفة لديها، التمساح يأكل أبناءه، لا يعرف ما هى العاطفة، نحن لدينا مخ الزواحف، بعض الناس يعيش مُعظَم حياته بمخ الزواحف، مخ الثديات الذي تتسم به القطط والكلاب – أكرمكم الله – والخنازير والأبقار وقرود الشِمْبانزِي Chimpanzee، المسيكن لا يعرف هذا، وهذا أمر عجيب، هذا هو المخ العاطفي – Emotional – الذي يتعلَّق بالعاطفة والبكاء والرحمة والحب والتواصل والعلاقات الاجتماعية، لا يعرفه لأنه وحش كاسر، يعيش كتمساح، ينتح من ثقافة تمساحية، ينتح من ثقافة زواحفية، عار على الإنسان أن يعيش هذا، وطبعاً يُقال لك هذه المسيرة التطورية للدماغ البشري، من عشرة ملايين سنة كان لدينا مخ الزواحف، وبعد ذلك تلاه مخ الثديات The mammalian midbrain أو الـ Emotional Brain، من نصف مليون سنة فقط تميَّزنا بالمخ الواعي والمخ الراشد في الـNew Cortex، أي فوق في القشرة، هذا نحن، هذا هو البشر، هو كائن عاقل، وهذا ما يُميِّزنا من الحيوانات، من الزواحف على وجه الخصوص ثم من الثديات، وهذا من خلال الـ New Cortex، على كل حال هذا العنف يعمل على المُستوى الغرزيمن حيث هو بلا شك لكن يُرّشِدَه المخ الحديث أو المخ العاقل أو المخ الراشد فيُحدِّد حدود العنف، العنف يقف عند حدود الدفاع، أن أدفع الأذية عن نفسي، إذا حصل هذا أكتفي، لا أنتقم، لا آكل خصمي، لا أطبخه، لا أُقطِّعه، لا أُعلِّق رأسه مثلما تُعلَّق ملابس الغسيل Wasch، لا أضعه في قدور وأتصوَّر إلى جانبه، هذا لا يُمكِن، الإنسان لا يفعل هذا، التماسيح تفعل هذا، البشر لا يفعل هذا، يرفضه على مُستوى الـ New Cortex والـ Logical brain، يرفضه كبشر، هذا غير مقبول بالمرة، كزاحف تقبله، أنت حر إذن، عش ككائن زاحف، لكن كبشر عاقل لا يُمكِن أن تقبله، لا يُمكِن هذا، وفي حق بشر عاقل مُتدين هذا يكون مُستحيلاً، المسافة فلكية لكي نقبل هذا، وطبعاً كونك ترفع شعار البشرية وشعار الدين هذا لا يعني أنك أصبحت تتحرَّك بالمخ العاقل، هذا غير صحيح فانتبه، الشعارات لا تُغني شيئاً، السلوك والفهم والتجذر الثقافي والروحي والعمق الروحي والعمق المعرفي وعمق التجربة والخبرة هى ما تُحيلك إلى بشر حقيقي وإلى إنسان كامل، يتكامل أيضاً في سبيل بشرية راشدة عاقلة مُعقلَنة مُتروحِنة ومُتصِلة بالسماء، هو هذا!
فهذا العنف الارتكاسي عنف دفاعي، لا ينتهي – كما قلنا إلى الانتقام، وذلك الآن لدينا النمط الثالث وهو العنف الانتقامي، هذا يخطو خطوة نحو الإمراضية، نحو العنف المرضي، العنف التعويضي عنف مرضي، النيكروفيليا مرض والعياذ بالله، اختلال يشرخ الشخصية تماماً بل يُذيبها ويُحلِّلها ويُدمِّرها ويُفسِدها تماماً، لماذا؟ الفرق بين العنف الدفاعي – العنف الارتكاسي – والعنف الانتقامي ما هو؟ حين أُدافِع عن نفسي أنا أدفع الأذي المُتوقَّع المُرجَّح أو الواقع، حين يندفع الأذى ينتهي كل شيئ، أعود إلى حالتي الأولى وإلى سيرتي الأولى، انتهى الأمر، لا يُوجَد مجال للعنف بعد ذلك، وطبعاً هنا أستغل هذه الفرصة لأقول مُزعِجٌ جداً ومُقلِقٌ جداً أن يغلب على خطاب بعض الناس المنطق الحربي، نحن عشنا سنوات وما زال الناس يعيشون ونسمع هذا على منابر رسول الله، أنا أُسميها منابر رسول الله، هذا منبر رسول الله، مَن الذي أعطاك هذا الحق لكي تقف على المنبر؟ رسول الله، وهو حق غير طبيعي، هذا حق غير عادي، هو استثنائي تماماً، يقف إنسان ويخطب في الناس، وأنا أقول لابد أن تتوافر فيه شروط كثيرة جداً جداً جداً لكي يُخاطِب هذا الإنسان الطبيب والمُهندِس والمُؤرِّخ والفليلسوف والعامي والسائق والعامل وكل طبقات الناس على اختلافهم خاصة مَن هم مثله أو أرقى منهم ويأخذ من وقتهم كل أسبوع عشرين دقيقة أو ساعة أو ساعة وعشرين دقيقة مثلما يفعل الفقير للأسف، لابد أن تتوافر فيه صفات كثيرة جداً وإلا ليس عنده الحق في هذا، لماذا تسرق أوقاتنا أنت؟ تخطب في ألف فتأخذ ألف ساعة ألف ساعة من حياة الأمة، ماذا تقول لهم؟ دائماً في كل خطبة وصلى الله على محمد الضحوك القتّال، هذا أمرٌ عجيب، أُناس يصدرون عن منطق حربي باستمرار كأننا في ساحة حرب، يا جماعة ساحة الحرب – كما قلنا – التي ينبعث إليها الإنسان بتأثير المخ الزواحفي حالة استثنائية، أن أعود زاحفاً من حيث الأصل طبعاً – كما قلنا زاحف لكن مُتقيد بالعقلانية بمُستويات مُختلِفة – هذه حالة استثنائية تماماً، تماماً حالة استثنائية، والقرآن يعرض لها على أنها حالة استثنائية، دعوني من الفقه الإسلامي، فقه بعض الفقهاء الذين قالوا الحرب هى الحالة الأصلية، هذا جنون وليس خطأً فقهياً، هذا جنون نفسي، كيف تكون الحرب الحالة الأصلية؟ قد تقول لي القرون الوسطى كانت كذلك، صحيح وهذا الذي يُخفِّف من دمغنا لحدة هذا الذي أسميناه الجنون وما كان ينبغي ربما أن نُسميه الجنون، لكن هذا أيضاً لا يعفيهم من المسئولية، مسئولية أنهم قصَّروا على أن يرتقوا إلى مصاف القرآن العظيم، لو أحسنوا فهم كتاب الله – تبارك وتعالى – ولم يخضعوا لضغط الظروف غير السوية وغير الطبيعية لأدوا رسالة القرآن على وجه أحسن بكثير ولما ظلموا دينهم وبالتالي أنفسهم والآخرين بشكل أو بآخر، للأسف قيل الأصل الحرب والسلام استثناء، وهذا غير صحيح، ولن نخوض هذا الموضوع، فهذا موضوع آخر، وقد تحدَّثنا فيه على كل حال قبل ذلك، الأصل هو السلام، والحرب استثناء، المفروض أن يكون هكذا، وإلا نعيش في غابة، نعود إلى غابة أحسن لنا، نترك حتى السافانا Savanna ونرجع إلى الغابات الإفريقية مع ذوات الأربع ونتسلَق الأشجاء، أفضل لنا أن نعيش هذا الوضع، لكن كبشر لابد أن نُفكِّر على مُستوى مُختلِف تماماً لنُقرِّر أن السلام هو الأصل، والحرب هو الطاريء، يوم يطرأ الطاريء سنتخذ له عدته ونتكلَّم بمنطقه في ساحته، أي في ساحة الحرب وما تستبع، لكن ليس الآن وعلى مدار الأربع والعشرين ساعة والاثني عشر شهراً وكل السنين الكلام بلغة حربية وبالمنطق حربي، كأننا نحن المُسلِمين بالذات مخلوقون وديننا مُنزَّل من السماء العلية من أجل أن نُعادي البشر وأن يُعادونا وأن نكون في حالة عداء مُستمِر بإسم نُصرة الإسلام ونُصرة الدين، ما هذا؟ نحن لا نعيش حالة حرب مُستمِرة على ديننا وعلى عقيدتنا، ما هذا؟ ماهذا المنطق؟ هذا شوَّه عقول الشباب وشوَّه نفوسهم، وجعلهم عدميين ومُحِبين للموت وللتدمير، جعلهم كارهين للحياة، وسنعود إلى هذا الموضوع بالتفصيل بعد قليل، فهذا موضوع خُطبة اليوم على كل حال.
إذن العنف الارتكاسي يختلف عن العنف الانتقامي من حيث ماذا؟ من حيث أن الأول ينقطع ويتوقَّف عند حد رد الأذية، العنف الانتقامي للأسف يخطو نحو المرض خطوة وقد تكون خطوة فسيحة وبعيدة فينتقم، لماذا؟ الأذية ارتفعت وانتهى كل شيئ، العدو انهزم وانكسر ومع ذلك ننتقم الآن، نأتي ننتقم ونُنكِّل بالأعداء ونمنعهم كل الحقوق التي للبشر، أصبحنا نحن الآن غير بشر أيضاً، لا يُمكِن لك أن تتعامل بلا إنسانية مع إنسان وتبقى إنساناً، هذا هو، لذلك أنا أقول لكم التفكير – حتى وإن كان تفكير فقهاء وأئمة كبار – الذي يُبرِّر العدوان غير إنساني، حدَّثتكم مرة عن فقهاء عبر العصور ومنهم فقهاء مُعاصِرون كبار وعلماء ومُفكِّرون لن أذكرهم مرة أخرى حتى لا أُسيء إليهم – رحمة الله على أرواحهم وغفر الله لنا ولهم جميعاً – يقولون نحن لا نعطي السلام للعالم مجاناً هدية، هذا لا يُمكِن، السلام مدفوع الثمن، السلام لابد على العالم أن يدفع ثمنه، كيف هذا؟ طبعاً هذا إن جاز في القرون الوسطى لأننا كنا الأمة الأقوى والأمة الأعنف فهو الآن لا يجوز، الآن نحن الأمة الأضعف، لا يُمكِن أن يصدر منا هذا المنطق، هذا المنطق يقتلنا، لكنه يصدر منهم ويُصِرون عليه، حالة انفصال عن الواقع، حالة مرضية جنونية، مَن أنت حتى تتحدَّث بهذه اللغة؟ أنت الأضعف يا مسكين، والله الذي لا إله إلا هو لو أن عدوك تبنى مثل هذا المنطق ما بقيت على وجه الأرض يوماً واحداً، ولك أن تتخيَّل أن أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية – مثلاً – اليوم تتبنى هذا المنطق وتُوافِق عليه الشعوب الغربية، كم تبقى الأمة الإسلامية على وجه الأرض؟ ولا يوم، لديهم القدرة أن يبيدوا كل المسلمين، بقنابل ذرية مُعدَة لن يبقى أحد، وليس بقنابل ذرية فحسب بل أقل من ذلك أيضاً ولن يبقى مسلم على وجه الأرض، هم لا يفعلون هذا، وشعوبهم أصلاً ترفض هذا، الشعوب ترفض هذا، لماذا نحن نقبله الآن وبإسم الدين ونعزوه إلى الله وإلى الرسول؟ نقول هذا ديننا، نقول للعالم لا طماعية لكم في السلام حتى تدفعوا ثمنه، كيف؟ تدفعون ثمنه خضوعاً وجزية، تخضعون لنا بعد أن تشب المعارك التي نشعلها نحن ونبتدؤها نحن عليكم، وإذا دفعتم الجزية وخضعتهم وخضدنا شوكتكم وكسرنا كبرياءكم بذلنا لكم سلاماً مهيناً، أي إنسان يقبل هذا؟ أي حضارة تقبل هذا الآن؟ أي ثقافة تقبل هذا؟ في أي عصر نعيش؟ قالوا هذه أفكار المودودي وأفكار الشهيد سيد قطب رحمة الله على الجميع، هذا دمار أو عار أيضاً، عار فكري وثقافي، ابعد عن منطق الحرب ومنطق هم أقوى ونحن أضعف ونحن أعنف ونحن أجن، ابعد عن هذا المنطق وحاول أن ترى تأُثير وردة فعل العقلاء من البشر في كل الأمم على هكذا منطق، يقولون أف لمثل هذا الفقه، لا نُريده، نحن لم نعد حتى نحترمكم، كنا لا نُحِبكم والآن نحن لا نحترمكم، لا ندري ماذا أنتم، كيف تتحدَّثون بهذه اللغة؟ أين أخلاقيتكم؟ كيف عندكم هذا المنطق؟ ويُقال هذا فقه وهذا الدين، المُشكِلة الآن في اغتصاب النص للأسف الشديد – إن جاز التعبير – والافتئات على النص، علماً بأن النصوص كثيرة فانتبهوا، ليس فقط ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية وعشرات ألوف الأحاديث، حتى الآيات هذه أكثر من هذا بكثير، النصوص كثيرة، متى تُصبِح كثيرة جداً النصوص؟ حين تُنتزَع من سياقاتها، تُصبِح كثيرة جداً جداً جداً، فقط العب هذه اللعبة الحقيرة – انتزاع النصوص من سياقاتها – وستُصبِح النصوص تقريباً لا متناهية، وستُبرِّر النصوص كل ما يُراد لها أن تُبرِّره، ما رأيك؟ لكن إذا خضعت للشرط المنهجي الميثودولوجي العلمي وسيَّقت النصوص – ما أسميه التسييق، بمعنى أن تضع كل نص في سياقه – ستُصبِح النصوص قليلة جداً جداً، أقل مما هى، ما رأيك؟ لن يُصبِح – مثلاً – عندك خمسون أو ستون آية في القتال، وإنما سيُصبِح لديك آيتان فقط، يتحصَّل لديك آيتان في القتال، وفي نهاية المطاف النتيجة التي تنتهي إليها هى لا قتال إلا أن يكون رداً لعدوان، وإذا وقع هذا القتال لا ينتهي بالانتقام، فالانتقام من حق الرب لا إله إلا هو، لا يُوجَد عندنا انتقام، وهذا أمرٌ عجيب، ولذلك قال الله حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ – أي الأسر، هم انكسروا فماذا بعد؟ هل بعد أن نأسرهم ننتقم؟ هل لدينا انتقام Revenge أو Rache ؟ قال لك لا – فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ۩، إما أن تمن عليه فتُطلِق إساره بلا شيئ أو تُفاديه فتأخذ مقابله فدية وتُطلِق أسره، ومن ثم انتهى الأمر، أين الانتقام؟ لا يُوجَد انتقام، يا سلام، إذن العنف الإسلامي عنف أخلاقي.
نحن رأينا تلك السيدة المفجوعة بابنها – لا يعنيني خلفية السيدة وخلفية ابنها، يعنيني أنه أسير وكان مدنياً وليس مُحارباً أصلاً، هذا المسكين صحفي، وبعضهم يكون إغاثي، يغيث المُسلِمين في بلاد المسلمين – التي ناشدت زعيم هذا التنظيم، ناشدته وهى تتكلَّم بلغة باكية مُحزِنة مُنكسِرة وترجوه ألا يحرمها فرحة أن ترى أحفادها من ابنها الوحيد، والله الذي لا إله إلا هو لو كان عنده ذرة لا أقول من إسلام وإنما من إنسانية للباها ولعفى عنه، الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – قتل النضر بن الحارث، مَن هو النضر؟ هو ليس مُجرَّد كافر، هو مُجرِم حرب، شيخ كبير كان دائماً يُؤلِّب على رسول الله وعلى المسلمين في السلم والحرب، مُؤلِّب من مُجرِمي الحرب، وقع في يد النبي فالنبي قتله كمُجرِم حرب يُشعِل نيران الحروب باستمرار، فبكته أخته بكاءً أليماً وقالت شعراً لكي تُخاطب رسول الله، فلما تُليَ هذا الشعر على مسامع أرحم الخلق وأعرفهم بالحق بكى، قال والله لو بلغني شعرها قبل أن أقتله ما قتلته، يا سلام يا رسول الله، هذا النضر ليس عادياً، هو ليس إغاثياً وليس صحفياً، هذا النضر بن الحارث، ومع ذلك هذه أخته وتُحِب هذا الشيئ فما ضرنا لو عفونا؟ كما قالت هى ما ضرك لو عفوت؟ قال لن يضرنا أي شيئ لو عفونا عنه، كان يُمكِن أن أعفو عنه، ماذا سيحدث؟ لن أنكسر، كان يُمكِن أن نعفو عن النضر، وبكى النبي، النبي بكى لكن هؤلاء لا يبكون ولا يرحمون دموع مَن يبكي أصلاً، لا يعرفون هذا، ما ليس عندهم هذا المنطق، عندهم منطق الانتقام ويقولون هذا الدين، لكن هذا ليس الدين، هذا العنف الانتقامي بعد العنف الارتكاسي، يبقى الشكل المرضي، المُتمحِّض للمرض النفسي وربما العقلي أيضاً، وهو العنف التعويضي، فاحذروه وحذِّروا منه وعالجوه تربوياً وبعد ذلك فكرياً وثقافياً ومعرفياً، ما هو العنف التعويضي؟ العنف التعويضي هو عنف الفشلة العجزة، شخصٌ شعر أنه قد أُخِل بتوازنه، شعر أنه كان يقدر على أن يسير عشر خطوات والآن لم يسر إلا خطوتين، ومن ثم يشعر بالألم وبالإحباط ، وطبعاً قد يكون المسؤول المُجتمَع أو السُلطة السياسية أو الظروف المحلية أو الإقليمية أو الدولية أو أي ظروف منعته، وطبعاً هذا في باطنه أيضاً الوعي بالمأساة والوعي بالألم، هو يعي هذا، يعي أن لديه القدرة أن يخطو عشر خطوات، لماذا اعتُقِلَت خطواته فلم يخط إلا خطوتين؟ علماً بأنك لا تخاف من شخص تراه أُمياً يرضى بواقعه، وبالفعل هو أُمي حتى على مُستوى الوعي، ليس عنده حتى الوعي الذاتي أو التنبه الذاتي Self-awareness، ليس عنده هذا ولا يفهم أنه كان يُمكِن أن يكون أحسن من هذا، هو راضٍ وهذا منُتهى المراد من رب العباد، هو مبسوط ويعيش على خبز وبصلة ولا تهمه الدنيا، هذا لا يُمكِن أن يكون عنيفاً تعويضياً، هذا يعيش ويموت وهو مُسالِم مُوادِع ومسكين، لكن مُمكِن شخص آخر أُمي أيضاً لم يكتب ولم يقرأ تحس أنه ينطوي على مرارة عظيمة، تعتصره مشاعر الإحباط واليأس والغضب السافر، لماذا إذن؟ وحين فعلاً تُكاشِفه ترى أنه ينطوي على إمكانات أكثر من ذاك الأول وقد يكون أكثر بكثير، كان فعلاً يُمكِن لهذا الشخص الأمي المسكين لو أُتيحت له الفرصة وتسنَّت له الظروف المناسبة وتهيَّأت أن يخرج منه شيئٌ كبير، كان يُمكِن أن يكون شيئاً كبيراً في المُجتمَع، وهذا المسكين يعي هذا، ستقول لي واحسرتاه، نحن منذورون الآن للعيش في حقبة حضارية تجعل أكثرنا عرضة لأن يكون عنيفاً تعويضياً، يبدو أنه قَدِر لنا، وهذا صحيح لكن لماذا؟ بسبب ماذا؟ بسبب التواصل الكبير، بسبب أن العالم فعلاً أصبح ليس كالقرية بل هو قرية صغيرة وصغيرة جداً، العالم أصبح حياً في مدينة صغيرة، بمعنى أن هذا الوضع رفع مُستوى التطلعات ومُستوى الطموحات ومُستوى التحديات والمُقارَنات إلى آفاق غير مسبوقة وإلى مصاف غير مسبوقة، لم يعد التحدي الآن أن أكون أفضل من جاري في قرية أجدادي طبعاً، حيث كان يتفوَّق على جدي ببضعة آلاف من الجنيهات، التحدي مع أصحاب الملايين الآن، وتراهم كل يوم، وبما أنك تراهم أنت تظن أنك تملكهم، بالأحرى يملككم سياق واحد، هو بشر وأنا بشر، وخاصة إذا كان عربي، هو عربي وأنا عربي، هو مُسلِم وأنا مُسلِم، هو مصري وأنا مصري، ما القصة؟ لماذا هو عنده ملايين وأنا ليس عندي ملايين؟ لماذا عنده فيلل وأنا ليس عندي فيلل؟ هو عنده وعنده وأنا ليس عندي أي شيئ، تغضب جداً، لماذا هذا عنده هذه الشهادات العليا وهذا العلم وهذه الشهرة العالمية وأنا ليس عندي؟ تغضب، وطبعاً المُقارَنة ليست مع جارك الأستاذ الذي يتفوَّق عليك بشهادة دبلوم أخذها في ستة أشهر، التحدي كان بسيط على مستوى دبلوم أخذها ستة اشهر لكن الآن التحدي على مستوى جائزة نوبل Nobel وأنت ما زلت لا شيئ، ما زلت تحبو، هذا يغضبك ويُحِبطك، هذا عالمنا، وهذا للذين خيَّبتهم الثورات العربية وقالوا بعد الثورات وجدنا الشباب لا يُحِبون أن يشتغلوا أو يعملوا وإنما يُريدون كل شيئ بلا عمل، أليس كذلك؟ أكثر من بلد عربي تُعاني من هذه الظاهرة، طبعاً هذا تفسيره تقريباً أو شيئ من تفسيره، على كل حال العنف التعويضي هو عنف شخص فاشل وعاجز، لماذا فاشل وعاجز؟ لأسباب كثيرة كما قلت، قد تكون هناك أسباب موضوعية حقيقية، وقد يكون جزء من الأسباب كثير أو قليل يُعزى إليه، السبب قد يكون منه، قد يكون هذا تقصير منه، فهذا إسمه العنف التعويضي، فاحذروا العاجز والفاشل، لأنه يريد أن يرد كرامته السليبة واعتباره لنفسه، يُريد أن يُعيد ويستعيد التوازن الذي شعر أنه أُخِلَ به ، كيف؟ ليس بالطريقة الصحيحة وإنما بطريقة العنف، لذا خطير جداً هذا الشخص، خطير جداً، وهنا قد تقول لي هذا هو سبب أشياء كثيرة تحدث حتى على مُستوى الأسر، إذا كان وُجِدَ فارق علمي أو ثقافي بين الزوج والزوجة ستكون الحياة بنسبة تسعين في المائة مُؤهَّلة ومُرشَّحة في النهاية أن تنتهي إلى كارثة، لماذا؟ هذا ينطبق على الزوج أو الزوجة، في مُقتبل العمر وفي بداية الحياة يحدث الآتي، فالمُستقبَل في الأمام وليس في الخلف، مُستقبَل هذا الطرف أو ذاك الطرف أمامه وليس وراءه، ومن هنا قد يُقال لا مُشكِلة، زوجتي أكثر تعلماً مني أو أرفع منزلةً واعتباراً اجتماعياً مني، فلا مُشكِلة وسألحقه فالمُستقبَل أمامي، أو يُقال زوجتي أكثر تعلماً مني أو أرفع منزلةً واعتباراً اجتماعياً مني، فلا مُشكِلة وسألحقها فالمُستقبَل أمامي، لحد الآن الأمور مُتماشية، بعد عشر سنين أو عشرين سنة دخلنا في الشيخوخة ولا مجال للتحصيل وللعلم وللشهادات وللإنجاز، تعتصره الآن وتُحطِّمه مشاعر المرارة والإحباط والغضب واليأس، ويُريد أن يُحمِّلها هى المسئولية، أي زوجته، لأن هى مُتعلِّمة وعنده شهادة وهو ليس عنده، ومن ثم تبدأ المشاكل، كان عليهما أن يفهما هذا منذ البداية وأن يحذراه وأن يعملا على ألا يصلا إلى هذه النهاية، كيف؟ بالعمل وبالإبداع وبالاجهتاد وبالتكامل، هذا هو العمل، وليس بالكسل وبالقعود وبعد ذلك نُدمَّر بمشاعر الإحباط والغضب، هذا خطأ، لكن هذا يحدث أيضاً على مُستوى الجماعات والأحزاب والطوائف والفرق، انتبهوا إلى هذا، الحل الحقيقي للعنف التعويضي ما هو؟ العمل والعمل والعمل والإبداع والخلاقية والإنتاج باستمرار، العلاقة عكسية بين العنف التعويضي وبين العمل والإبداع والإنتاج.
للأسف بدأ يُدرِكنا الوقت أعود إلى موضوعي وأُحوِصل وربما نحتاج إلى صلة لهذه الخُطبة تكون خُطبة ثانية، يا أحبتي في الله يبدو أن ثقافةً نيكروفيلية وثقافة كارهة للحياة ومُحِبة للموت شاعت بيننا في العقود الأخيرة، وهنا قد يقول لي أحدكم هذه دعوى كبيرة، هذا نوع من التطبيق والإسقاط، ومن ثم أنت تدّعي، لكن هذا غير صحيح، أنا أقول لكم غير طبيعي بالمرة أن يكثر الحديث عن الموت وعن القبر وعذاب القبر وما يتعلَّق بالقبر بشكل غير مسبوق، مرت فترة من الفترات وربما مُتواصِلة فيها خُطب باستمرار ودروس وبُكائيات وحزن ولطيمة في المساجد، ما هذا؟ ما هذه النغمة؟ شيئ مُرعِب ومُخيف والله العظيم، وضروري إذا أم أحدهم الناس أن يأتي بآيات مُعيَّنة عن الموت مثل وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ ۩، لابد من الحديث عن الموت ويبكي ويتباكى ويبكي من خلفه، كأن ديننا جاء لكي نستقيل من الحياة، واحد وهنا قد يقول لي أحدهم هذا غير صحيح، قطع الله لسانك، فهذا استعداد للموت، لكن أنا أقول لك الاستعداد لا يكون بالإعلان عنه، تخيَّل أن ضيفاً كريماً سيحل عليك في بيتك أو دارك، رجل كريم كبير سيحل عليك ضيفاً، هل يكون الاستعداد لاستقباله – الموت فعلاً ضيف سيحل علينا، خير غائب ينتظر المُؤمِن الصالح كما قال الصحابة مثل مُعاذ بن جبل رضوان الله عليهم أجمعين – بأن تجلس أنت وزوجك وأبناؤك ثم تقولون ينبغي أن نستعد لهذا الضيف، استعدوا يا إخواني، ينبغي أن نستعد، هيا نستعد، الاستعداد جميل، استعدوا للضيف الكريم، إنه قادم؟ مُستحيل، هذا كلام فارغ، ويأتي فجأة الضيف والبيت طبعاً حالته سيئة جداً، ليس هكذا يكون الاستعداد، الاستعداد يكون بكلمة وبإعلان واحد ثم يبدأ العمل، الاستعداد للموت بالعمل، قال الله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ۩، تستعد بالعمل وليس بالكلام وبالمواعظ على مدار الأربع وعشرين ساعة عن الموت والقبر والعذاب والنكير والمُنكَر، ليس بهذا الكلام أبداً، هذا خطأ، وإنما يكون بالعمل وتعليم الناس أن يُجوِّدوا العمل وأن يُحسِّنوا حياتهم ونمط حياتهم وطرق تفكيرهم وإنتاجهم وإبداعهم، هذا الاستعداد للموت، ولذلك قال الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ ۩، لابد من التقديم، أن أُقدِّم وأفعل الخير وأبذل المعروف وأجعل الحياة مكان أفضل للناس، أجعل قريتي أو مدينتي أفضل، الإنسان العظيم الكبير يُفكِّر على مُستوى الدنيا، هناك أناس خلقهم الله يُفكِّرون على مستوى الدنيا، أنا اليوم وأنا في طريقي إليكم كنت أُفكِّر- سبحان الله – في آية وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا ۩، هل تعرفون مَن حسدت بصراحة؟ باستور Pasteur، العرب يُسمونه باستير، حسدت باستور Pasteur مُؤسِّس علم الميكروبيولوجي Microbiology، والله العظيم حسدته وأُقسِم بالله على هذا، لماذا؟ كنت أُفكِّر في الآية من زاوية ثانية، هذه الآية تتناول مَن؟ وأنا أُفكِّر في فلسفة حياة وفلسفة موت وثقافة حياة وثقافة موت، القرآن يقول وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا ۩، وحتى لا أنسى أقول هؤلاء كارهو المجاز المُصابون بخلل عصبي – كما قلت لكم – يجعلهم أعجز من أن يمضوا مع الآية مجازياً رمزياً Symbolic، سيقول لك – وهذا نموذج جاهز وساذج طبعاً في التفسير – هذه الآية لا تُلزِمني، لماذا لا تُلزِمك يا شيخ الإسلام؟ هذه الآية من شرع بني اسرائيل، اقرأ الآية يا جاهل، سيقول لي اقرأ الآية يا جاهل، يا مُتحذلِق، يا مُتفلسِف، الآية تقول مِنْ أَجْل ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِي الْأَرْض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاس جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا ۩، يقول هذا مِن شرع بني اسرائيل، هذا شرع مَن قبلنا، ليس شرعاً لنا إذا عارض شرعنا في الأرجح، في شرعنا دماء الناس ليست مُتساوية، الإنسانية ليست مُتساوية، المُؤمِن ليس كالكافر ولا يُقتَل مُسلِم بكافر، لا يُقتَل مُؤمِن بكافر، وهذا رأي الجماهير خلافاً لأبي حنيفة ومَن شايعه مِن فقهاء الكوفة وغير فقهاء الكوفة، نقول له صح النوم، كل عام وأنت بخير والله، بارك الله فيك، ما شاء الله، هو لا يعلم أنه تورط الآن بدعويين بل بتقريريين خطيرين جداً، التقرير الأول أن دينه ليس هو الأعظم أخلاقيةً، قال لا تُوجَد مُشكِلة، ديني ليس أكثر أخلاقية، دين بني إسرائيل أكثر أخلاقية، لماذا؟ لأن القاعدة تقول شرع مَن قبلنا ليس شرعاً لنا، لم يتنبَّه هو ولا الفقهاء الذين وضعوا هذه القواعد في مثل هذا المورد بالذات إلى الآتي، قال الله مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ – من أجل ماذا؟ من أجل قصة قابيل وهابيل، مأساة البشرية الأولى – كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ ۩، القرآن هنا يدعوك إلى الانفتاح الأخلاقي حتى المديات الأبعد ويقول لك إذا استطعت – وقد قال لك هذا بالفعل تفصيلاً – أن تُحقِّق اكتساحاً وتفوّقاً أخلاقياً على هذه الشريعة أيضاً فافعل، أنا أُريد هذا، ولذلك دعاك القرآن إلى أن تعفو وتغفر وتصفح حتى عن مَن قتلك ولو قتلك عمداً، وقال لك هذا الذي أُحِبه، هذا يتجاوز نفس بنفس وعين بعين، أليس كذلك؟ يتجاوز، هذا الأفندي كاره المجاز والمُصاب بهذا العوق العصبي لم يفهم هذا، يقول هذا شرع لا يُلزِمني، وهو يقول بالفم الملآن والضرس القاطع ديني ليس أكثر اخلاقية، مايضيرني؟ ديني هو الحق، يقول مرة ثانية الحق يُمكِن أن يتعارض مع الأخلاقية، عقلي يقبل الحق واللاأخلاقية مُتجاوِرين بل مُتعايشين، وهذه كوارث، كوارث حقيقية، ويُعطي شيكاً على بياض للآخرين كأنه يقول لهم دينكم أكثر تقدماً مني وأكثر إنسانية، مرحباً بالجهل ومرحباً بالعار بإسم الدين وبإسم أصول الفقه، ما هذا؟ ما هذا الذي نعيشه يا أحبتي؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسلمياً كثيراً.
أما بعد، أحبتي في الله، إخواني وأخواتي:
ليس طبيعياً وليس عادياً وليس مفهوماً أن تشيع أيضاً تلك الكتب والكُتيبات والكاسيتات – Cassettes – والمُحاضَرات بالألوف بل بمئات الألوف ربما حول أشراط الساعة وقرب انتهاء العالم ودثور الدنيا، شيئ لا يكاد يُصدَّق، وأتحدى أن تدخل حتى على اليوتيوب Youtube وأن تكتب نهاية الدنيا أو نهاية العالم، وسوف تجد مئات ألوف المُتابِعين، هذه أشياء جميلة، وهنا قد يقول لي أحدكم وما المُشكِلة؟ هذا دين، وأنا أقول له هذا دين يمشي على رأسه يا حبيبي، كل شيئ دين طبعاً مثلما قلت لك، فحتى القتل والقتال دين، لكن هناك أولويات، هناك بنية، هناك تركيب مُعيَّن، أليس كذلك؟ يُوجَد تشويه هنا للدين، الشيئ الصغير تجعله عظيماً جداً، مثلما قال نيتشه Nietzsche ذات مرة تخيَّلوا رجلاً طال أنفه حتى غدا مترين – مثلاً – وقصرت ساقاه حتى غدتا عشر سنتيمترات مثلاً، كيف يكون شكل هذا المسخ؟ هذا مسخ، أنتم تتدينون بدين ممسوخ، هذا مسخ للدين، الحديث عن الساعة والقيامة فقط كالحديث عن الموت للاستعداد، أن تكون مستعداً، نعم الساعة لن تقوم ربما في حياتك لكن اعلم أنك إذا مت قامت قيامتك، إذن انتهى الأمر، أنت مت ومن ثم قامت قيامتك كما قال النبي، هو هذا، الإنسان حين يموت تقوم قيامته، فإذن القيامة قريبة، أقرب من شراك نعلك، كالموت تماماً، أي بقرب الموت، ومن ثم سوف تقوم قيامتك، إذن اعمل صالحاً، قال الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۩، هذا هو، بل أن الصادق المصدوق قال كلمة أتحدى أن تأتوا بمثلها في كل تراث البشرية – والله – من غير تبجح، ائتوا بأي كلمة عن بوذا Buddha أو عن المسيح أو عن كونفوشيوس Confucius أو عن لاو تسي Lao-tzu أو عن موسى أو عن أرسطو Aristotle أو عن أفلاطون Plato أو عن أي أحد تُريدون عنده تكون بمثل هذه الكلمة مُفعَميةً بالعمران والحياة والتمدين والإبداع والإنجاز والعطاء، قال إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة – فرخ نبات يُزرَع في الإرض – فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل، يا الله، يا رسول الله، لمَن هذه إذن؟ أنت تقول الساعة تقوم والنجوم ربما تنكدر والعالم يضطرب ويمور وفي يدي فسيلة، هل مُمكِن قبل أن ينهار كل شيئ أن أغرسها؟ قال اغرسها، إذن النبي يُريد أن تعمر الأرض أم أن تعمر النفس؟ النفس، انتبه إلى هذا، فالنبي يُريد هذه النفس أن تعمر وأن تخضر وأن تُورِق وأن تُصبِح جنائن وارفة فينانة ذات بهجة، النبي يُريد النفس، وإلا الأرض تقوم قيامتها بعد دقيقة، النبي يعرف هذا ويقول فليغرسها، أنا أقول لكم – هذا شيئ مهم وهذا تحليل في العمق الآن – ليس مُبرِّراً وليس مُسوِّغاً بأي وجه من الوجوه أن مَن أحب لنفسه الموت أن يستخف بحيوات الآخرين، بعض الناس يُحِب الموت، ونحن نحفظ من تاريخ الجهاد الإسلامي كله فلنأتيكم بقوم يحرصون على الموت حرصكم على الحياة، هذا منطق حرب، جيد أن يُقال في الحرب، لكن إياك أن تقوله في السلام، إياك أن تقوله في هذا المسجد الآن في هذه الحالة، لماذا؟ هذا حرص على الموت، أنت مُدمِّر، أنت نيكروفيلي، أنت عدمي، أنت كاره للحياة، انتبه إلى هذا، لكن الناس تفهم أن الشخص إذا عنده شجاعة وإخلاص في طلب الموت حتى بنحر نفسه وبتفجير نفسه أنه يُقدِّم مُبرِّراً للاستخفاف بحيوات الأخرين، فإذا قتل جر معه في الطريق مائة أو مائتين أو ألف أو ألفين، وقد دمَّر بلد كاملة، يُقال مُجاهِد عظيم هذا يا أخي، يكفيك يا أخي قطع الله لسانك أنه ضحى بنفسه، يا أخي قطع الله أمثالك وأمثاله، ليس قطع الله لساني وإنما قطع الله مثلك وأمثاله، لأنه عدو للحياة، هو كاره للحياة، اذهب حلِّله وادرسه نفسياً وعقلياً، ما علاقتي به؟ هذا المسكين عنده مُشكِلة، كان من المفروض أن تكون الخُطبة اليوم نوعاً من التحليل النفسي لهؤلاء وللشخصية النيكروفيلية Necrophilis personality، لكن هذا سوف يكون في الخطبة الجائية إن شاء الله، هذا من المُمكِن أن نُحلِّله ومن ثم نرى ما هى مُشكِلته وما مُشكِلة الثقافة التي يتغذى عليها، كيف نشأ في البيت وفي المدرسة وفي المسجد؟ ما الذي حدث له؟ هذه شخصية مُتداعية، ليست هذه الشخصية المُحمَّدية، ليست هذه الشخصية القرآنية، ليس هذا المُؤمِن، ليس هذا الحي المُحِب للحياة والمُحِب للعمران، قال الله أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ۩، ليس هذا ابن نص فليغرسها، قال لأنه يُحِب الموت فإن هذا يُبرِّر إماتته للآخرين وقتله للآخرين وتدميره للأخرين، لكن هذا لا يُبرِّر بأي حال من الأحوال، فافهموا هذا جيداً.
إذن شيوع ثقافة القبر والموت وما إلى ذلك غير طبيعي، شيوع ثقافة علامات الساعة وأشراط الساعة وقامت الدنيا والحديث عنها في مُجلَّدات وحلقات مُتلفَزة غير طبيعي، يا للعار، تُنتَج خمسين أو ستين حلقة عن علامات الساعة، ماذا نريد من هذا؟ أنا لا أُريد ستين حلقة عن علامات الساعة وإنما أُريد ستة آلاف حلقة عن إعادة بناء الثقافة والمعرفة وبناء الحضارة وكيف تستعيد هذه الأمة الإسلامية مكانتها بين الأمم، ولن أكون مغروراً وأقول كيف تتصدر الركب، بعيدون جداً عن أن نتصدر، لكن ينبغي أن نستعيد على الأقل مكانتنا، ينبغي أن يكون لنا مكانة، أسمع شخصاً مثل فاروق الباز – العلّامة المصري الكبير المعروف للجميع – وهو يقول يُحزِنني أن من العالم العربي كله – ثلاثمائة مليون من البشر على الأقل – لا يُوجَد تقريباً أكثر من واحد أو اثنين يُقدِّمون دكتوراة في علم الفضاء، لا يُوجَد هذا، علوم فضاء ماذا؟ هذا كلام فارغ، عندك مائة ألف شيخ فماذا تُريد أكثر من هذا؟ عندك مليون شيخ يحث على القتل والعنف والدمار ويقول اذبحوهم واكرهوهم، شيئ غير طبيعي، ويتحدَّث الواحد منهم عن الصحوة، أي صحوة؟ عن أي صحوة نتحدَّث؟هذه غفوة، غفوة الموت والعياذ بالله، ولا أحد يطلب المعرفة ولا يهتم بالمعرفة، أنا أقول لكم والله العظيم – وأنتم تعلمون هذا ربما مثلي تماماً – خُطبة مثل هذه منكورة مرفوضة في كل منابر العالم الإسلامي، هل تُوجَد خُطبة مثل هذه؟ يقولون لك هذه ليست خُطبة وإنما مُحاضَرة، أنت تتحدَّث عن فلسفة وعلم نفس وتاريخ وتستشهد بأقوال ملاحدة وكفار وما إلى ذلك، ما هذا؟ هذا ليس الدين، لكن هذا هو الدين، هذا الدين في عمقه، يُريدون قال الله وقال الرسول بالمعنى الذي يفهمونه، معنى التكاره ومعنى البغضاء ومعنى التناحر، هذا شيئ لا يُصدَق، قال فاروق الباز أما من الهند وأما من الصين فحدَّث ولا حرج، بالمئات كل سنة يأتي الهنود أيضاً والصينيون، أكثر شعب يبعث أبناءه على مُستوى الدكتوراة في علوم الفضاء الهند، وفي تلك الأيام ذكر رقماً قبل حوالي ثماني سنوات لا أتذكره، لا أدري ما هو بالضبط، تقريباً قال أربعمائة شخص في السنة، هذا شيئ لا يُصدَق، شعب فقير ومسكين – هم فقراء جداً – لكن هناك ديمقراطية حقيقية وإرداة نهوض وإرادة حياة وإرداة بناء، هناك عظمة ديمقراطية، رئيس وزراء مُسلِم، وآخر في منصب رفيع سيخي، ورئيس حكومة هندوسي، شيئ عجيب، تشكيلة من أروع ما يكون، ونحن نقول أننا أمة واحدة وننطق الشهادتين ونُؤذِّن خمس مرات في اليوم والليلة – أقسم بالله – ونتذابح دون أن نستحي، الشيعي يُؤذِّن كما يُؤذِّن السني وكما الزيدي وكما الإباضي ومع ذلك نتذابح ونتكاره والكل يُؤلِّب على الكل، تباً لنا، عار علينا وأُقسِم بالله العظيم على هذا، ويُقال هذه أمة واحدة، أين هذه الوحدة؟ أفهمني أين هذه الوحدة؟ وهذه الشعوب تتعايش فيها كل الأديان وكل الطوائف، ويتقاسمون ويتشاركون الحكم في أعلى مستوياته، هذه عظمة، عظمة نحتاج إليها، ينبغي أن نطوق إليها، ينبغي أن نُعلَّمها.
للأسف أدركنا الوقت، كما وعدتكم – إن شاء الله – هذه الخُطبة لها تتمة، لكن فكِّروا معي إلى الأسبوع المُقبِل في سمات الشخصية كارهة الحياة ومُحِبة الموت، فكِّروا فيها وادرسوها علمياً، وبعد ذلك سنُحاوِل أن نُطبِّق، هل فعلاً لدينا في العقود الأخيرة ثقافة كارهة للحياة ومُحِبة للموت وبالتالي هى ثقافة تدميرية ونحرية وانتحارية أو ليس لدينا؟ إن شاء الله لا يكون لدينا، سوف نرى.
اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً، اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، اغفر لنا لوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات ولمَن حضر برحمتك يا أرحم الراحمين، وقِنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.
ــــــــــــــــــــ
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (24/10/2014)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليقات 4

اترك رد

  • فضيلة الدكتور المحترم، أرجو من سماحتم أن تفيدونا خاصة و أن لديكم خلفية علمية و طبية في أمر ختان الذكور، حسب إطلاعي لم أجد له فائدة واحدة سوي لم يجريه من الأطباء بل له كوارث على الصحة الجسدية و النفسية وعلى العلاقة الزوجية وهو في القرآن مسمى بإسمه القبيح “تغيير خلق الله” و الفرق شاسع بين الشعر و الأظافر التي هي أنسجة في الأصل ميتة وتتجدد أما القلفة فهي عضو حي مليء بالأنسجة العصبية و الأوعية الدموية و العضلات و الأنسجة المخاطية و الغدد المفرزة.

  • جزاكم الله ألف خير. أنتم سندي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا العالم المحير للعقل. هل من الممكن إضافة قائمة بالمراجع المذكورة في كل خطبة على الحاشية؟

    شكرا

%d مدونون معجبون بهذه: