إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:
مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ۩ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ۩ وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
التأمل في المُعطيات القرآنية ليس كما يُخيَل لبعض الناس يُمكِن أن يتأتى على مُستوىً واحد وبالتالي بمعنىً واحد، هذا غير صحيح البتة، فحقيقٌ بهذا الكلام العلوي الجليل أن يصلح دائماً وأبداً لأن يُنظَر إليه ويُتعاطى معه على مُستوياتٍ مُختلِفة، ومن ذلكم إصرار القرآن العظيم في غير ما موضعٍ على نفي سماع قبيل من الناس أو أنفار من الناس كنفيه إبصارهم، فهم يسمعون ولا يسمعون، قال الله كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ۩، وقد آيس القرآن العظيم رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – من إسماع هؤلاء واصفاً إياهم بالموتى وبالصُم على أنهم عضوياً لم يكونوا صُماً ولم يكونوا من الأموات بالمعنى المطروق للموت، كانت آذانهم تعمل ميكانيكياً وعضوياً لكن القرآن يُؤكِد أنهم لا يسمعون، وفي الحقيقة هذا ليس مجازاً وهذا يقع مع أكثر خلق الله وقوعاً حقيقياً، فتجد الواحد منهم يسمع ولا يسمع، لأنه مُتورِطٌ في وهم امتلاك الحقيقة، ولذلك مَن امتلك الحقيقة ما علاقته بالسماع؟ ما حاجته إلى السماع والاستماع؟ لماذا يستمع؟ إنه لا يُريد أن يستمع إلى جديد، لأنه لا جديد تحت الشمس، فالحقيقة في حوزته، ولا يريد أن يستمع إلى جديد في القديم، وكل من استمع إما أن يستمع إلى موضوعة جديدة وإما أن يستمع إلى جديدٍ في قديم، موضوعة قديمة لكن تُتنَاول من زاوية جديدة بأدلة جديدة ووجهات نظر جديدة، لكن الذي يمتلك الحقيقة ويحتازها لا يحتاج لا إلى هذا السماع ولا إلى هذا السماع، لا يُريد أن يستمع إلى جديد ولا إلى جديدٍ في قديم، وهذه ورطةٌ كُبرى.
يُمكِن أن تختبروا صحة هذا التقرير القرآني العظيم بالدخول مثلاً على أي مادة مسموعة أو مرئية شرط أن تكون إشكالية وتطرح موضوعاً ينشب الخلاف حوله أو الخلاف ناشب أصلاً حوله لتروا كثيراً من التعليقات وردود الأفعال – Feedback كما يُقال – التي تُؤكِد أن هؤلاء لم يسمعوا أصلاً، لأنهم يدخلون كما قلت مُتورِطين في وهم امتلاك الحقيقة، فما يُريده سيجده، هو يُريد أن يسمع كفراً وسيسمع كفراً، يُريد أن يسمع حكمةً مُستقَطرة وسيسمع حكمةً مُستقطَرة، هنا كان مُوافِقاً وهنا كان مُخالِفاً، أما المُتحدِث المسكين فله الله حيث أنه يقف أحياناً في البيداء وحده تقريباً، فمَن معه لا يرونه ينطق إلا بالحكمة ومَن ضده لا يرونه يفوه إلا بالكفر وانتهى الأمر، فلا هؤلاء سمعوا ولا هؤلاء سمعوا لكن فقط تعطل الإنسان هنا.
أعظم لياقات الإنسان الوعي، وأعظم لياقات الوعي النقد، فوعي بلا نقد لا قيمة له ولا يجد نفسه، فليس ثمة وعي هناك، وليس ثمة وعي أصلاً هناك بلا ناقدة، للأسف في الأدبيات الحكمية الإسلامية يتحدَّثون عن الحافظة وعن المُخيِلة وعن الواعية وإلى أخره لكن لا يتحدَّثون عن الناقدة وهى أهم لياقات الوعي الإنساني.

الخطير في كل الأفكار والأديان والأيدولوجيات عير التاريخ أن الذين يتورطون في وهم امتلاك الحقيقة يتألهون، فسواء أكانوا ملاحدةً أو مُؤمنين، مليين أو غير مليين فإنهم يتألهون، وواضح أن هؤلاء آلهة زائفة وآلهة كاذبة طبعاً، لكنهم يتألهون دون أن يفوهوا بهذا أو حتى إذا فاهوا به، بلغ بهم الجنون أعلى سعاره المرحلة مُتقدِمة في السعار الجنوني فيُعرِب بعضهم عن إنه إله أو حلت فيه روح إله، وكان الدجاجلة من أهل الأديان في القديم يزعمون هذا ويدّعون أن أرواح الآلهة تحل فيهم، فشكلهم بشري وجوهرهم إلهي ليستعبدوا الناس وليستعبدوا الخلق.

حين تقدم الفكر البشري وجاءت الأديان كما يُقال التوحيدية – على أنها في حقيقتها دينٌ واحد، توحيديٌ واحد لا يتعدد وإن تعددت الشرائع – ارتقى الفكر البشري وتقلص ظل هؤلاء الدجاجلة، ولكن المُمارَسات لم تتقلص فادّعوا لأنفسهم وانتحلوا ما هو من صلاحيات الرب لا إله إلا هو، أي من صلاحيات الله!
القرآن طافح وملآن بالآيات التي تُؤكِد أن الفصل بين العباد ليس في هذه النشأة، لكن الفصل في الآخرة والحكم في الآخرة، قال الله إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ۩ وقال أيضاً اللَّه يَحْكُم بَيْنكُمْ يَوْم الْقِيَامَة ۩، أي في الآخرة، فمن المُستحيل أن يكون الفصل النهائي هنا، لكن هؤلاء – وبالضرس القاطع كما يُقال – يتحدَّثون بلغة من يفصل فصلاً نهائياً يصل إلى حد فصل الأعناق، بل بالعكس أحياناً يكون فصل الأعناق في المراحل الأولى مباشرةً مُلصَق – Sticker – تكفير ثم إفتاء بالتلغيم أو بالتفجير أو بالقتل وينتهى كل شيئ، فهذا فصل نهائي لأن الحقيقة طوع بنانهم، فهم يحتازونها في جيوبهم مع الأموال طبعاً التي يتاجرون بالحقيقة من أجلها، فهم يحتازون الحقيقة في جيوبهم مع النقود التي باعوا بها الحقيقة، وهذا شيئ غريب وشيئ مُثير جداً، لكن هذا يحدث يومياً في ألف صورةٍ وصورة، ومن ثم يفصلون فصلاً نهائياً، فكيف لا يفصلون وهم يقطعون في باب الحقائق والأوهام وهم يملكون الحقيقة المُطلَقة القطعية؟
قد يقول أحد هؤلاء التائهين: أولا تُؤمِن أيها الرجل – طبعاً هو يستكثر هذه الكلمة وربما يستبدل كلمة زنديق بها – بأن هناك حقائق قطعية؟!
كلا، نُؤمِن لأن نحن من أهل الإيمان، ولكنها منزورةٌ جداً وقليلة جداً ومُحدَدة في كتاب الله، لكنهم جعلوا وقائع التاريخ وأحداث التاريخ والخلافات الطائفية والمذهبية والفلسفية والكلامية من القطعيات، وهو ما جعل هذه الأمة تنحط ولا تزال تهوي وتنحط طبعاً، فقد يُختلَف على شخص مُعين فيُجعَل هذا من قطعيات الدين ومن معاقد الولاء – والله شيئ مُضحِك فاعذروني – والبراء، فعن أي دين نتحدث؟ عن أي قطعيات وعن أي عقائد وعن أي سفه وسخافة ورقاعة نتحدث؟ هذه رقاعات بإسم الدين.
بالأمس كتبت في صفحتي في الفيس بوك Facebook أيها الإخوة “أنا أدرِك تمام الإدراك الخطر الماحق بل الراهب الراعب الذي يتهدد الأمة وقيمها ومبادئها من جراء تعريض رموزها الكبار ومبادئها العظيمة الخالدة للتشكيك والتسخيف” وطبعاً قد يقول بعض الناس – وقد قال بعض الإخوة الفضلاء – أن هذا غير صحيح، فهم لا يعنيهم الأشخاص وإنما تعنيهم المبادئ، لكن نحن لنا تعليق مُسهَب هنا لابد من الانتباه إليه، وهو أن في اليوم الذي تكفر الأمة أو تزهد في أبطالها وشهدائها وأوليائها وعظمائها اعلموا أنها قد انسلخت من إنسانيتها، فلا يُمكِن الحديث عن مبادئ وعن قيم وعن نُبل لحماً بلا عظم أو لحماً بلا هيكل، والهيكل هو البشر، فالقيم والمبادئ يُمكِن أن يُتحدَث عنها كتجريد نظري جميل، لكن لابد أن ننتيه إلى أنها تفتقد إلى قوة الإيحاء والإلهام ما لم يُترجِمها بشرٌ مثلنا من لحمٍ ودم، فحين يُترجِم هذه القيم يستطيع أن يُلهِمنا بإمكانية هذه القيمة، أي أن يُلهِمنا بإنها عالم من الإمكان فيُمكِن أن نكون – مثلاً – في مثل عدل عمر بن الخطاب، لم لا؟ عمر ليس مُعجِزة وليس خارقاً للقانون البشري، عمر بشر من البشر ولكنه ضرب أروع الأمثلة في العدالة، إذن يُمكِن أن نكون مثله إذا أردنا وجاهدنا جهاده وسعينا سعيه وصدقنا صدقه، لم لا؟ ويُمكِن أن نكون في مثل نزاهة عليّ بن أبي طالب عليه السلام، لم لا؟ عليّ ليس شيئاً خارقاً للبشرية، إنه بشر من لحمٍ ودم، فهذا مُمكِن لكن لو سعينا سعيه أيضاً وصدقنا صدقه.

هذا معنى الرموز الكبيرة في حياة الأمة، فلابد أن نستعصم برموزنا وأن نُدرِك هذا تمام الإدراك، لكن بالقدر نفسه نُدرِك تمام الإدراك أن أكثر ما يُعرِّض مبادئ الأمة ورموزها الكبار للتشكيك والتسخيف هو خلط المُقدَس بغير المُقدَس وخلط النبيل بغير النبيل وخلط الجليل بالحقير ولبس الحق بالباطل، ويُقدَم هذا كله على أنه مبادئ الأمة ورموزها الكبار، لكن يسهل على أيٍ كان حتى من ذوي النوايا الحسنة والطوايا الطيبة أن يقول هذا ليس مبدأً صالحاً، هذا مبدأ ضد العدالة، هذا شيئٌ مقبوح، ثم أن هذه الشخصية أو هذا الرمز – كمعاوية مثلاً لأكون صريحاً معكم – شخصية كريهة وشخصية مقبوحة، وأتحدى أن تنزعوا خصائص هذا الرجل وتاريخ هذا الرجل على نبي مزعوم – ادّعوا أن هناك نبياً ما وادّعوا أن أوصاف هذا النبي وخصائص هذا النبي هى هذه الخصائص – وسوف يكفر به العالمون ولن يقبله أحد، وأنا فقط لطفت العبارة فلا أحب أن أقول لو نسبنا هذا إلى النبي نفسه سوف نحمل الناس على أن يكفروا بديننا، فلم نحمل الناس على أن يكفروا بديننا من أجل غير نبي ومن أجل رجل يجب أن يخضع هو وغيره للمعيار الديني ولمعيار القيم الإسلامية؟!
قطعاً لابد أن يخضع له لأنه ليس معصوماً وليس فوق البشر وليس استثناءً، لكن أنى لنا أن نفهم هذا؟ من الصعب جداً أن نفهم هذا، وأنا قلقٌ جداً – والله العظيم – على مُستقبَل العقلية الإسلامية ويُؤسِفني جداً العقلية الإسلامية، فأنا أقرأ أشياء كثيرة وأسمع أشياء كثيرة وأُصادِف أسئلة كثيرة تُؤكِد لي تقريباً أن عدداً كبيراً – لا أقول هائلاً ساحقاً – من أبنائنا وبناتنا يفتقرون إلى الحد الادنى من الشروط المنطقية للتفكير – مُؤسِف جداً – وهم جامعيون وأكاديميون بل وبعضهم ، ومع ذلك الحد الأدنى من التفكير ممسوح عند هؤلاء، وليس الذنب ذنبهم المُباشِر إنما ذنب التنشئة والثقافة التي سُمِمنا بها والتي زورت وعينا والتي اغتالت ناقدتنا.

أنا سأقول لكم ما هو أخطر وأفظع من هذا بمراحل، وهو أن صورة الله مُشوَهة في أذهان كثير من المسلمين، وطبعاً لا أحد يتعاطى مع الله كما هو في ذاته، فلا يُمكِن لأحد أن يفعل هذا، لأن الله في ذاته – لا إله إلا هو – هو عالم من الإطلاق، هو عالم الجلال والجمال والكمال المُطلَق – لا إله إلا هو – وبالتالي لا أحد يقترب منه، لكن نحن نتعاطى مع الله تبارك وتعالى كصورة عقدية حسبما فهمناه وحسبما عُلِمنا أن هذا هو الله، لكن علينا أن ننتبه إلى أن صورة الله تم تحريفها عبر التاريخ وعقدياً ودينياً وتربوياً ووعظياً ونصوصياً،هناك نصوص تُؤلَف وتُوضَع وتُخترَع، والمُصيبة هذا يحدث لصالح مَن؟
صدقوني عبر مئات السنين وإلى اليوم هذا يحدث لصالح الحاكم الظالم فقط، ليس لصالح الجمهور، ليس لصالحي أو صالحك وإنما لصالح الطاغية الضاغط على أنفاس الناس والمُصادِر لحرياتهم، فهذا كله لصالح الطاغية!
ستقولون “هات البيان، اضرب مثالاً، هذا كلام خطير جداً جداً ومُخيف” وهذا صحيح، والأمثلة كثيرة جداً على هذا، فنحن عُلِمنا منذ نعومة الأظفار أشياء غير صحيحة، وأنا قرأت وسمعت عشرات المرات حديثاً يكاد يرسخ في ذهني يقول “إني أنا الله أرضى وإذا رضيت باركت ولا حد لبركتي – أي أُبارِك بركة عظيمة تُلحَق الأحفاد بالأجداد -، وإني أنا الله أغضب وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابعة من الولد”، ما هذا؟ أهذا الله؟ ولذلك نستمع إلى أمثال ستيفن واينبرج Steven Weinberg وهو يقول “أنا لا أؤمِن بالإله”، وهو رجل مُلحِد وحاصل على جائزة نوبل Nobel في الفيزياء، وطبعاً أنا قلت أن حكمه صحيح مائة في المائة، فالإله الذي كفر به واينبرج Weinberg ينبغي أن نكفر به نحن أيضاً، فهو قال “أنا لا أُؤمِن بهذا الإله الدموي النزق والغضوب وغير العادل والمُستعجِل والندمان دائماً، فهو يتصرف ثم يندم”، وطبعاً هذا الإله ليس إله المسلمين وليس إله القرآن، لكن علينا أن ننتبه إلى أنه قد يكون إله بعض المسلمين مثل هذا الإله الذي وصفته قبل قليل والذي قال “أغضب وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابعة من الولد”، فاللهم إني أبرأ إليك من هذا الكذب والإفك المُبين على جلال قدسك يا رب العالمين ومن هذا الإلحاد في إسمائك وصفاتك، قال الله وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ ۩.

قد يقول لي أحد هؤلاء أيضاً “يا رجل هذا الحديث أين وجدته؟ هذا حديث موضوع”، وأقول أنني أعلم أنه موضوع، وطبعاً لابد أن يكون موضوعاً، هذا طبيعي جداً، وقد يكون صحيحاً عند بعضهم وهذا الصحيح موضوع أيضاً، فهذا الحديث موضوع ومكذوب ولكنه يملأ كتب الوعظ والإرشاد للأسف، والمُغفَلون من الوعاظ يكررونه، وعلى كل حال رغم كونه موضوعاً إلا أنه يتعزز بعشرات النصوص والأدلة الأخرى الحديثية – ليست القرآنية – الصحيحة والحسنة، فما رأيكم؟ هناك أدلة كثيرة في الصحاح وفي السُنن وهى أدلة مقبولة من صحيحٍ وحسن تُؤكِد أن معنى هذا الكذب صحيح ، وفي الحقيقة لا يُمكِن أن يكون معناه صحيحاً، فمعناه باطل قولاً واحداً بلا مثوية، فلا ثانية في المجال أبداً.

عند إخواننا الشيعة – علماً بأنني ذكرت هذا من قبل لكن علينا أن ننتبه إلى أن هذا ليس فقط عند الشيعة فقط وليس عند السُنة فقط، وإنما عند الشيعة وعند السنة معاً – ترون دعاء في كتبهم يُوصى به ويُتلى في المزارات، فيُقال إنه مُهِم جداً وينبغي أن نستعصم به، فهو دعاءجميل جداً ودعاء عظيم، علماً بأن هذا الدعاء بسيط وفيه تمجيد ورثاء لأهل البيت عليهم السلام، لكن الإشكالية في أنهم يقولون “ومَن قال هذا الدعاء أتاه الله أجر سبعين ألف نبي”، أي أنك سوف تأخذ أجر سبعين ألف نبي بكلمات تقولها في نصف دقيقة، فما هذا العبط؟ كيف يُمكِن للإله أن يفعل هذا؟ هذه ليست رحمة، إنما عبط وكذب، ومع ذلك يقولون: ومَن قال هذا الدعاء أتاه الله أجر سبعين ألف نبي وسبعين ألف شهيد وسبعين الف ولي وسبعين ألف ملك وسبعين ألف …. والله نسيت هذه السبعينات وهذه الألوفات، وواضح أن الذي كذب هذا الكذب المُبين هو أحد الزنادقة – أقسم بالله – لأنه أراد أن يُدمِر ضميركم الإسلامي وحسكم الروحي بالكامل، كأنه يقول لك عليك أن تزني وأن تقتل وأن تسرق ثم اذهب واتل دعاءً مثل هذا وسوف تفوق سبعين ألف نبي، فأي دين هذا؟ وأي تربية هذه؟ هل يُمكِن أن يُستَل من هذا مناهج تربوية؟ علماً بأننا نتربى على أمثال هذه الأفكار، ولكنني سأخص موضوع الشفاعة بحلقة أو بحلقات، فموضوع الشفاعة لابد أن يُخَص بحلقات مُوسَعة مُسهَبة ومُقارَنة، لكن باختصار الله يقول وَلَا يَشْفَعُونَ – عن الملائكة – إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ۩، فحتى الملائكة يشفقون خشيةً لله تبارك وتعالى، أي يشفقون من خوفهم لله تبارك وتعالى، على أنها كائنات لا تأثم ولا تتورط في الحرام ولا في المعاصي، فهى كائنات مُنزَهة عن هذا.

قال الله وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ۩، إذن اللفظ يحتمل أن يكون معنى وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ۩ أي لمن كان مرضياً من عباده، ولكن يُمكِن أن يكون المُراد من وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ۩ أي الشفاعة فيه حتى من غير المرضيين، ونحن نُدرِك هذا، لكن أنا أسألكم الآن كمسلمين ومسلمات ومَن سيسمعني ومَن بلغ كما يٌقال: هل عن لكم حين تلوتم سورة الأنبياء وقرأتم هذه الآية أن تتساءلوا عن معنى الآية أم إنكم افترضتم افتراضاً قطعياً أن المعنى هو معنى واحد مُحدَد وهو أن المُراد من قوله وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ۩ أي الشفاعة فيه، على أن هذا الذي يُشفَع فيه قد يكون احتطب في حبل الكبائر ما الله به عليم لأن النبي صح عنه قوله شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فيسعد بهذه الشفاعة أهل الكبائر من أمة محمد، فإذا فعل الكبائر بشرط أن يكون من هذه الأمة مُوحِداً فإنه سيسعد بشفاعة محمد؟!
هذا شيئ خطير مُخيف، لكن هذا الموضوع سوف نعود إليه فيما بعد لأنه يحتاج إلى بحث على كل حال، ولن أجيب عن السؤال لكن القرآن يقول إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ۩، إذن ما حاجة المرضي إلى الشفاعة؟!
حاجته إليها في مواطن كثيرة، لو لم يكن بالمرضي الذي رضى الله عنه من حاجةٍ إلى الشفاعة إلا أن يُعجَل حسابه بدل أن ينظر خمسين ألف سنة لكانت أعظم شفاعة، فليس شرطاً أن يدخل النار بالكبائر ثم يخرج منها لكي يحتاج إلى الشفاعة.
علينا أن ننتبه إلى أن هذا الإله الذي يتصرَّف بهذه الطريقة العجيبة الغريبة والذي يُمكِن أن يكيل لك ملايين ملايين ملايين الحسنات من أجل كلمة قلتها هو نفسه الذي يُمكِن أن يقذف بك في نار جهنم من أجل كلمة بسيطة قلتها عن غير عمد أو عن غير وعي أيضاً في سخط الله وأنت لا تدري فتهوي بها في جهنم سبعين خريفاً، وهذا غير معقول، فما الذي يحدث؟!
القرآن الكريم لا يُقدِم مثل هذه النظريات أبداً، وهذه في الحقيقة ليست نظريات وإنما هُتامات وشذرات غير مُترابِطة، وأنا سأعلِجها بعد قليل بنيوياً، وعلى كل حال من غير المُمكِن أن يُقدِّم القرآن هذا، لكن القرآن يُقدِم لك نظريات مُتكامِلة على أنها نظريات إلهية طبعاً، ونحن نُسميها نظريات لكن هى تقريرات إلهية، فالقرآن واضح جداً وعادل ويُمكِن أن يُقدَم للعالمين دونما اعتراض إذا قُدِم بالشكل الصحيح، غير مشفوع بهذه البيانات المُضلِلة التي منها ما نُسِب إلى النبي ومنها ما نُسِب إلى سيدي فلان وإلى العلّامة فلان وإلى الإمام فلان وإلى المذهب الفلاني، فالقرأن كما هو الكافي المُبين، قال الله مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۩ وقال أيضاً إِنَّ هَذَا الْقُرْآن يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم ۩، والقرآن يقول لك أن المسألة تخضع للميزان، قال الله فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ۩ وقال أيضاً وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۩، فهو عادل تماماً، والله يقول أيضاً وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۩، فماذا عن قضية التضعيف إذن؟!
قُصار ما يُفهَم من قضية التضعيف لمن تأمل آيات كتاب الله – بل بأدنى تأمل يحصل هذا الفهم والإدراك – أن لكل عملٍ سواء في الخير أو الشر أجراً وجزاءً، فجزاء الخير خير وجزاء الشر شر، وهذا من باب المُشاكَلة لكن هذا الجزاء يتوقَّف على العمل وعلى طبيعته وحجمه، وهذا هو العدل الإلهي، فهذا فرقٌ واضح جداً إذن، ولذلك قال الله إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ۩، فالله سماها سيئات، وهى الصغائر التي تُكفَر بمُجرَد اجتناب الكبائر بإذن الله تعالى، فالقرآن فَرَقَ بين الكبائر والصغائر، وداخل الكبائر يُوجَد كبائر فاحشة جداً جداً، وهناك كبائر أكبر وهناك كبائر أصغر، فواضح أن تراتبية مُعينة، وهذا طبعاً من العدل.

إذن كل عمل له جزاء مُعين، والآن العمل الخيّر والعمل المبرور المُبارك له جزاء بحسبه، فمُستحيل أن يكون أجر الحاج كأجر إنسان قرأ جملتين أو سطرين – مثل هذا الدعاء الذي يقولون عنه – لوجود فرق كبير جداً، ولكن كل أجرٍ قابل للتضعيف، فأجر الحاج يُمكِن أن يُضاعِفه الله، وأجر من تلا دعوةً في عشر ثواني يُضاعَف أيضاً، لكن يُضاعَف هذا بأصله وهذا بأصله لأن هذا أصله كبير وهذا أصله، وهذا هو العدل، لكن لا تقل لي “ألعن وإذا لعنت بلغت لعنتي السابعة من الولد، فما ذنب الأول؟ما ذنب الثاني؟ ما ذنب السابع؟ حاشا لله أن يكون قال هذا، قال الله وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ ۩ وقال الله أيضاً كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩ فضلاً عن أنه قال وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ۩، فكيف نتلوا هذه الأشياء؟ هذا أمر عجيب جداً.
إذن صورة الإله تشوهت، لكن هل تعلمون لماذا؟!
لكي تُطابِق – كما قلت لكم – صورة الإله صورة الحاكم النزق الظالم الذي يُعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرماً ولكنها هانات من وساوسه.

أحد الوزراء العباسيين كان دائماً في حالة خوف دائمة كالمرأة الماخض التي تكاد تضع، فالمسكين كان خائفاً وهو وزير، فقيل له: لم أنت يا رجل في هذه الحالة من القلق والخوف والفزع؟ فقال “لأن هذا الخليفة إذا رضيَ يعطي مائة ألف في لا شيئ وإذا غضب يقتل – أي أنه يغضب في أمر تافه فيقتل، وإذا رضيَ فإنه يرضى في أمر تافه أيضاً فيعطي مائة ألف في لا شيئ – فلا أدري أي الرجلين أكون”، ولذلك هو حالة خوف شديد، فهل نحن نتعامل مع الله بهذه الطريقة؟ طبعاً للأسف، فنحن عُلِمنا أن نتعامل مع الله على أنه كذلك، فمن المُمكِن أن يغضب عليك ربنا يغضب لشيئ بسيط جداً جداً فيقول لك اذهب فقد أوجبت لك النار دون أن تدري، لكن – حاشا لله – هذا غير صحيح، هذا كذب.

المسكين محمد بن كعب القرظي لا أدري مَن ضلله أو مَن كذب عليه ليضللنا، فقد كان يبكي بُكاءً مُراً، فتقول له أمه “يا بُني ارحم نفسك وارفق نفسك، فوالله ما عرفتك – علماً بأنني أقتبست هذه المقبوسة مرة قبل سنين وأستغفر الله، وأنا قلت لكم طبعاً إن كادوا ليضلونا – صغيراً ولا كبيراً إلا رجلاً صالحاً”، أي أنك عابد وصالح وبعيد عن المآثم والمغارم، فلم تبكي هذا البكاء كله على نفسك؟ فقال “إليك عني يا أماه،إليك عني لا أدري، لعل الله – تبارك وتعالى – أن يكون اطلع عليّ مرةً وأنا على ذنب – ذنب صغير، أياً كان ما هذا الذنب لأنه ليس من أصحاب الكبائر – فقال لي يا محمد – أي محمد بن كعب القرظي – افعل ما شئت فقد أوجبت لك النار”، ثم يبكي الرجل، فإن صح عنه هذا فالسؤال هو: مَن ضلله؟ مَن سمم فكره؟
العقائد الأموية، عقائد هؤلاء الحكام الظلمة، وحاشا لله أن يكون هذا صحيحاً، ولذلك نعود إلى انتحال صلاحيات الله، فهم يقطعون ويفصلون في الدنيا قبل الآخرة، بل قد يفصلون الرؤوس عن أبدانها، فهم يستسهلون التحليل والتحريم، وخاصة التحريم لأن أسهل كلمة على أطراف ألسنة وأسلات هؤلاء هى حرام، فالكرافتة Cravatta حرام والبنطلون حرام وهذا حرام وهذه حرام وقيادة المرأة حرام والموسيقى حرام والغناء حرام وأن تلبس كذا حرام وأن تفعل كذا حرام، فكله حرام في حرام، حرموا كل شيئ لأن أسهل شيئ عليهم الحرام، على الرغم من أن كلمة الحرام كلمة مُخيفة جداً، وحكى القرآن أن الذين كانوا يستسهلون التحريم هم المُشرِكون، المُشرِكون هم الذين كانوا يستسهلون التحريم دائماً، قال تعالى وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ ۩، لكن هؤلاء أسهل شيئ عليهم الحرام، وأسهل شيئ عليهم الحكم على نوايا العباد بدون تفتيش، فيقولون بكل سهولة هذا كافر وهذا زنديق وهذا ملعون وهذا باطنه خبيث.
هم يغتصبون – ما شاء الله – صلاحيات الله، لكن هذه صلاحيات رب العالمين ولا يستطيع أحد فينا أن يقول “أنا أُنبئ عن بواطن الخلق وأعرف أن هذا خبيث وهذا طيب”، وهذا شيئ غريب، فما الذي عرَّفك يا مُتربِب، يا مُتأله، يا كذوب، يا مُزيف، الآن هم يتساهلون ويفترقون عن الله ولا يتألهون ولا يسرقون صلاحيات الله، لكن هل تعرفون أين؟
في العدل والرحمة.
الله – تبارك وتعالى – حين يُعامِل الواحد منا يعامله بكليته على أنه بشر يُخطئ ويُصيب، وعلى أن فيه خيرٌ وفيه شر وفيه نورٌ وفيه ظلام، ولا أحد يستطيع أن يُمسِك الخير والشر بيده، فلا أحد يستيطع أن يقول هذا هو الخير بعد أن ضبطته مُتلبِساً أو هذا هو الشر بعد أن ضبطته بيدي، فنحن لا نستطيع هذا ولن نستطيع، لأننا نسيجٌ من خيرٍ وشر ومن نورٍ وظلام، لكن هذه ليست دعوة للعدمية والتقيمية، لكن في النهاية سيكون الحكم على الناس بالطابع العام وبالغالب، فهذا يغلب عليه الخير فهو خيّر، وذاك يغلب عليه الشر وعنده خير لكنه شرير، وهذانفس منطق الميزان، قال الله فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ۩ وقال أيضاً وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۩، لذلك كان يكثر في كلام الصالحين “إني إذن لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة”، أي لو أنني قلت هذا أو فعلت هذا فأنا سأكون خفيف الميزان، فالمُهِم هو الميزان إذن، لكن هؤلاء لا يتعاملون بمنطق الميزان الإلهي أبداً، وإنما يتعاملون بمنطق عجيب، وهو منطق الآلهة الزائفة النزقة ومنطق الحاكم الظالم الذي يُعطي مائة ألف في لا شيئ ويقطع الرأس في لا شيئ، فعلينا أن ننتبه إلى أن هؤلاء هم الذين يسرقون صلاحيات الله بإسم الخطاب الديني وبإسم المشيخة وبإسم الدين وبإسم سُنة محمد – صلى الله على محمد – وهذا شيئ عجيب، فمحمد براء من كل هذا الخلط والخبط والإفتراء والزيف.
في القرآن الكريم مَن الذين تسلحوا بمنطق القتل والتشريد والتذبيح والرجم؟ قولوا لي بالله مَن؟
الكفار، ولذلك كان دعاة الحق وأتباع الحق تقريباً على الدوام هم الضحايا، قال الله قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ ۩، وحتى لا يحدث أي لبس لديكم لابد أن نقول يبدو أن نوحاً – عليه السلام – كان في مرحلة ربما كان مجتمعه هو كل البشرية – المُجتمع الصغير – لذلك هنا لا يليق أن يُقال من المُخرَجين، وإلا أين سوف يُخرِجونه؟ لا يُمكِن أن يكون من المُخرَجين لأن هذا هو العالم كله، فكان من الأنسب أن تقول الآية مِنْ الْمَرْجُومِينَ ۩، أي تُقتَل في مكانك.

هذه كانت فقط مُلاحَظة تفسيرية تتعلَّق بمنطق الرجم, وآزر يقول لابنه أو لابن أخيه إبراهيم على اختلاف المُفسِرين لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ۩، فالله ذكر إذن أنه قال لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ ۩، وهذا يدل على أن الرجم كان منطق الكفار، فنفس الشيئ يحدث في زمان نوح وفي زمان إبراهيم وهكذا، فكان يقع دائماً الرجم والقتل، ولذلك في غافر تقول الآية الكريمة قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ۩، أي قتل واستحياء أيضاً، بمعنى اتركوهن أحياء واقتلوا الأطفال الذكور، فهذا هو منطق القتل مرة أُخرى، وتقول آية كريمة أُخرى لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ۩، أي أنه يستنكر فكرة العودة إلى الملة مع الإكراه، فكيف نعود في ملتكم على أننا كارهون؟ نحن نكره هذا!

الآن يقولون لي يجب أن تُحب مثلاً معاوية، لكن أنا لا أحبه، هذه قضية عجيبة، فالإيمان بالله وبالرسول وبالقرآن قضية اختيارية لأن الله قال فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ ، فإذا قال أحدهم أنا اقتنعت بدين محمد سوف نقول له تفضل يا أخانا، أنت أخٌ لنا – إن شاء الله – وبالتالي لك ما لنا وعليك ما علينا، لكن إذا قال أحدهم أنني غير مُقتنِع بدين محمد لأنه لم يدخل في رأسي فإننا سوف نقول له أنت حر، فلا تُروَع ولا تُفزَّع وإنما سوف نتركك وما أنت.

أما هؤلاء فيقولون “لك لا يا حبيبي، موضوع معاوية مُختلِف، ورغماً عنك وعن عقلك وعن دراستك وعن فهمك وعن قدرتك وعن حججك سوف تضرب له تعظيم سلام”، فأي منطق هذا؟ نُريد أن نفهم المسألة في حقيقتها، أي منطق يتسلح به هؤلاء؟ هذا شيئ غريب وغير مفهوم لأنه لا منطق أصلاً لديهم في القضية كلها، فقط يُوجَد الإقصاء والكره وخطاب أعداء الحق وأعداء الدين، فالآن صار هذا الخطاب يُقال بإسم الدين بعد أن تلبس بلبوس الدين، فأصبحنا نرجم ونقتل ونمنع دخول البلاد بإسم الدين.

إذن منطق هؤلاء هو نفس منطق أعداء الحق، فلا يُمكِن أن يتسلَّح أصحاب الحق بهذا المنطق، حاشا لله أن يحدث هذا، قال الله لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ۩ وقال أيضاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ ۩ وقال أيضاً وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ۩ فضلاً عن أنه قال لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩ وقال أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ۩ وقال أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ۩، فهذا هو منطق دعاة الحق ومنطق أصحاب اليقين، لكن منطق “نخرجنك ونرجمنك ونقتل ونذبح ونفعل” فهو منطق أعداء الحق، ولذلك تقول الآية الكريمة قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ۩ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا ۩، وظل هذا المنطق باستمرار يتكرر إلى أيام رسول الله وإلى يوم الناس هذا تقريباً، فهذا هو منطق أعداء الحق وأعداء الحقيقة وأعداء الإيمان، لكن القرآن الكريم وهو كتابٌ رباني كامل تام مُتكامِل شامل لم تفته الإشارة إلى أن من رجال الدين الزائفين المُزيَفين من تسلَّحوا بنفس هذا المنطق الخائب الخاسر، فجعلهم الله تبارك وتعالى من الذين يصدون عن سبيله ويقطعون الطريق على عباد الله، قال الله إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ ۩، إن من المشايخ اليوم – ولن أقول إن كثيراً من المشائخ اليوم بل سأقول إن من المشايخ حتى لا يُقال هل عندك دراسة أو إحصائية؟ لأنني أحب أن أكون علمياً – مَن يأكل أموال الناس بالباطل ويصد عن سبيل الله، فلينتظر عذابه إن لم يتب توبةً نصوحة.

فكثير منهم يفعلون هذا تماماً، والنبي طبعاً للأسف الشديد أخبرنا أننا سنسلك سنن الأمم التي كانت قبلنا من اليهودي والنصارى وسنفعل مثل ما فعلوا، وها نحن نفعل ونُصدِق كلامه، فنأكل الأموال بالباطل ونصد عن سبيل الله ونقف ضد مصالح الجماهير وضد مصالح الشعوب من أجل حاكم طاغية، ولم لا يفعلون وطغاة الحكم وطغاة الفكر بنية واحدة وعقلية واحدة ومزاج واحد ومنطق واحد إما الوسائل فمُختلِفة؟ لكن كيف هذا؟

طاغوت الحكم أو الحاكم الطاغية يقول لك إن لم تتطايق معي تماماً قطعت رأسك، وطاغوت الفكر يقول لك إن لم تتطابق معي تماماً كفرتك وقطعت رأسك لكن بفارق يسير، وهو أن طاغوت الحكم لديه الإمكانية أن يُنفِذ تهديده فيقطع الرأس فعلاً ويودعك في السجن لمدة تصل إلى عشرين وثلاثين سنة بهذه التهمة وهى أنك تختلف معه وتنتقده وتمس جنابه الإلهي والعياذ بالله – وهذا شيئ مُخيف – لكن طاغوت الفكر ويا لأسفه الشديد المسكين ليس دائماً عنده إمكانية أن يُنفِذ تهديده، وبالتالي يتحسر على هذا ويقول “لو كان الأمر لي لطهرت البلاد منهم”، لكن يا للخسارة، فالأمر ليس بيد، ليس عنده جيش وشرطة ومُخابرات لكي يذبح كل المُخالِفين.

إذن هؤلاء طواغيت أيضاً، فهذا طاغوت الحكم وهذا طاغوت الفكر، وهما لا يتقابلان أبداً بل يتآزران ويمشيان سوياً في نفس الخط ، فهما ليسا طرفين مُتقابِلين بل هما طرفٌ واحد، فما الذي يُقابِلهم إذن؟!
البشر الأحرار، فالناس الأحرار يُقابِلون هؤلاء وهؤلاء معاً، علماً بأنه لا يُمكِن التخلص من طواغيت الحكم إلا بعد أن نتخلص من طواغيت الفكر والأفكار، وهذا الأمر يجب أن ننتبه إليه طبعاً، لأن بعض الناس لا يعي هذا ويقول يا أخي لماذا تنبش التاريخ؟ وكأنه غير منبوش ورائحته فائحة، ولذلك مما يغيظ – هذا يغيظني بشكل شخصي – ويُحنِق أنهم يُمجِدون التاريخ تمجيداً غريباً، على الرغم من أن مُعظم دروسهم الهزلية والمشرحيات الفضائية هى قصص وحكايات مثل ألف ليلة وليلة، لكن ألف ليلة وليلة في طراز إسلامي، فهم يحكون قصصاً ويقولون أنهم جاءوا وذهبوا وقطعوا رؤوساً وفعلوا وإلى آخره، ونحن لسنا ضد القصص ولا مُشكِلة لدينا في هذا، لكن هم يُمجِدون التاريخ من الجانب الإيجابي كما يرونه أما الجانب السلبي فيقولون اسكت قطع الله لسانك، إذن المُصيبة الآن ليست فقط في أن الصحابة يُعتبَرون معصومين لديهم لأن الأمة كلها على ما يبدو أصبحت معصومة وكذلك التاريخ الإسلامي أيضاً أصبح معصوماً، فتاريخ بني أمية وتاريخ العباسيين وتاريخ المماليك وتاريخ الأتراك يُعتبَر معصوماً كله، فممنوع أن تتحدث عن أي شيئ يشين هذا التاريخ، ثم يقولون أنهم يُزهِّدون في درس التاريخ وهذا غير صحيح، فهم يحبون التاريخ، ولكن تاريخ المُخدرات والماريجوانا والأفيون، أما تاريخ النقد والوعي والدرس والتحليل وإعادة الفهم مُحرَم علينا ومُحرَم على الأمة.

لكن فات القطار، فالآن الفرصة فقط للأذكياء، صدِّقوني الحقيقة لا تجد نفسها دائماً في أحضان الأذكياء الأيقاظ، وتذوب وتضيع وتضل بين الأغبياء البُلداء الذين يتمعيشون بتعزيز مزاج البلادة وأجواء الجهل والامتثالية.

هنا يُوجَد سؤال يطرح نفسه وقد ثار في ذهني الآن، لكن قبل أن أذكره أود أن أقول أن من الواضح جداً نظرياً وعملياً أن هذا النمط من البشر أبعد – لا أقول من أبعد وإنما أبعد – خلق الله من إرادة السعادة والخير والنجاة لعباد الله، فلا يُمكِن أن يُريد السعادة والنجاة لعباد الله مَن يفرح فرحاً مجنوناً بتكفير الناس، فيُكفِّر هذا ويُزندِق هذا ويقول على هذا مُشرِك وعلى هذا مُبتدِع.
فهؤلاء يفرحون بالتكفير بشكل غير طبيعي حتى لم يكد ينج منهم أحد، فالشيخ القرضاوي كفروه والشيخ الشعراوي كفروه والشيخ الألباني قالوا عليه – كما قلنا – مُرجئ، وسلمان العودة حكوا فيه ما شاء الله كلاماً لا يُحكى، وكذلك الحال مع عائض القرني ومع غيره، فلم ينج منهم أحد حتى ولو كان من أبنائهم، فهذا كافر وهذا زنديق وهذا إبليس وهذا ملعون وهذا عميل وهذا مدفوع وهكذا، وهذا شيئ غريب جداً جداً، لكنهم يفرحون فرحاً مجنوناً بتكفير الناس، وطبعاً هم لا يعيشون بغير تكفير وبغير كفار وبغير كفر، هم يعيشون بهذا أصلاً، ثم يفترون الكذب على عباد الله البرءاء ويُؤلِفون من عندهم تأليفاً ويقتطعون الكلام، علماً بأن كلام الله يُمكِن أن يٌقتطَع، وسيخدم أهداف نقيضة لأهداف كلام الله وبسهولة، كما قال أبو نواس الحسن بن هانئ:
ما قال ربك ويلٌ للذين سَكروا ولكن قال ويلٌ للمصلينا
والله قال فعلاً فَوَيلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۩، لكن أنت اقتطعت الكلام، وهكذا سوف تأتي من القرآن بمُقتطَعات كثيرة تخدم أهداف ضد القرآن الكريم، فلا أحد ينجو من هذا، وهذه عملية سهلة جداً وسخيفة ورقيعة ويُحسِنها كل أحد، فهم يفعلون هذا ويكذبون ويعلمون أنهم يكذبون ويعلمون أن الناس يعلمون أنهم يكذبون ولكنهم رغم ذلك يكذبون، لكن هل تعرفون لماذا؟!
لأن الانهيار ليس في العقل والمنطق فقط بل في القيم أيضاً والسلوكيات، فلا حياء لديهم، هم لا يخجلون ويكذبون على الجماهير ويُقسِمون الأقسام المُغلَظة ثم يظهر كذبهم بالألوان وبالصوت والصورة، ثم يزعقون في نفس اليوم بإسم الدين، فأين الحياء؟ أين الخجل؟ لو كان عند هؤلاء ذرة حياء لدفنوا أنفسهم بالحياة كما يُقال، لدفنوا أنفسهم في بيوتهم ولكن “إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت”، فالانهيار إذن على كلا مُستويي العقل والمنطق والقيم والسلوك أيضاً.

طبعاً هناك قصص وأشياء تصلنا من أشخاص ثقات لا أستطيع على منبر رسول الله أن أذكرها أصلاً لأن – والله العظيم – تقشعر لها الأبدان، فهناك انحرافات مسلكية خطيرة بل من أخطر ما يكون، وهى بنسب مدروسة، فتوجد انحرافات بنسبة ستين في المائة أو سبعين في المائة في دولهم وهكذا، وهذا شيئ مُخيف جداً جداً جداً، لأن هؤلاء – كما قلت – يكذبون حتى على أنفسهم، ليس على الناس فقط بل يكذبون على أنفسهم ويُصدِقون أنفسهم بكذبهم والعياذ بالله.

السؤال الآن: إذا كان هؤلاء بهذه المثابة أو منهم من هو بهذه المثابة فلم يحرصون الحرص الشديد المسعور على دعوة الناس وتحشيد الناس؟!
علماً بأن هذه ليست دعوة وإنما هى تحشيد وتعبئة، فهى أشبه بتعبئة الجيش، فهم يجعلون الناس حشداً Crowd، فلماذا يفعلون هذا إذن؟!
هم يفعلون هذا لا رغبةً في خير الناس أبداً، لأنهم – والله – ما رغبوا خير الناس ولا يرغبونه إلا من رحم الله منهم، ولكنهم يفعلون هذا رغبة في خلق هيراركية – Hierarchy – وتراتبية يتسنمون هم فيها ذُرا الحكم والتوجيه، ليكونوا هم الشيوخ وهم العلماء وهم القادة والمُوجِهين، ولذلك علينا أن ننتبه إلى أن هذا يستحيل أن يتم لهم بغير التحشيد، والتحشيد لا يتم بغير الامتثالية والعبودية، والامثثالية تكمن في أن نقول لهم سمعنا وأطعنا، فإذا قالوا هذا كفر وهذا إيمان فإننا نقول سمعنا وأطعنا، وإذا قالوا افعلوا هذا ولا تفعلوا ذلك فإنا نقول سمعنا وأطعنا، فهذا مُمتاز جداً جداً جداً لأننا سنكون كالقطيع!
فأنت الآن أمام قطيع، وهذا القطيع يُمكِن حشده في ساعات أو في أيام بأكاذيب باهتة صفراء لا طعم لها ولا لون، وبعد ذلك تستطيع أن تعتلي ذروة التوجيه على أنك شيخ المشايخ وعالم العلماء، وهذه كارثة حقيقية من الكوارث ولكنها تحصل.
قبل أكثر من نصف قرن – لعلي ذكرت هذا مرة – قال المُفكِر الألماني الكبير ألبرت شفايتزر Albert Schweitzer “المُستقبَل سيكون للأديان الأخلاقية”، وهذه عبارة ذكية جداً جداً جداً وأنا أحدس بصوابها، وقبل ألبرت شفايتزر Albert Schweitzer كان يُوجَد ألبرت أينشتاين Albert Einstein – صاحب النسبيتين – الذي كتب يقول “أنا أُرشِح الديانة البوذية لتكون ديانة المُستقبَل الكونية”، وهذا شيئ عجيب، فلماذا يقول أن الديانة البوذية هى ديانه المُستقبَل رغم أنها ليست ديانته لأن ديانته اليهودية فضلاً عن أنه لم يستثن أي ديانة أخرى طبعاً؟!
قال “أنا يُرشِّح الديانة البوذية لتكون هى ديانة المُستقبَل الكونية لأسباب، أولاً لأنها تتجنب الإله الشخصي – وهذا الكلام يحتاج إلى نقاش طويل- وثانياً لأنها تتجنب الخلافات اللاهوتية – هناك خمسون ألف فرقة وخمسون ألف نقاش في الديانات الأُخرى، البروتستانت Protestant ألف فرقة في أمريكا الآن، فضلاص عن نقاشات الكاثوليك Catholic وغير هذا من الأشياء عجيبة، وفي الإسلام طبعاً يُوجَد مُعتزِلة وخوارج وغير ذلك – وثالثاً لأن يجتمع فيها ويتضافر فيها الروحي مع الطبيعي”، علماً بأن هذه المُلاحَظات قابلة للنقاش!
لكن قد يقول لي أحدكم: وماذا عن الإسلام؟
أنا أقول لكم باختصار كما أُلاحِظ على الأقل – قد تكون هذه مُلاحَظة انطباعية – أن أكثر أُناس يُفلِحون الآن في نشر الإسلام هم جماعة الدعوة والتبليغ، فهذه جماعة تضم عدد من المسلمين الغلابة الطيبين، وهؤلاء على باب الله كما نقول، ولديهم علم قليل ودعاوى يسيرة جداً لأنهم أُناس بُسطاء جداً جداً جداً، ولكن الإسلام انتشر كثيراً بسببهم لأنهم يفعلون هذا على أسس أخلاقية، فالغربي يرى التواضع والربانية وخدمة الناس والابتسامة الدائمة على الوجوه، ومن ثم يقول لك ببساطة أن هذا دين عظيم جداً وبالتالي سوف يدخل هذا الدين ويتوكل على الله، فجماعة الدعوة والتبليغ الآن لهم أكبر الفضل في نشر الإسلام وليس أقطاب السُنة أو أقطاب الشيعة من الذين يُفتي بعضهم بكفر بعض وذبح بعض، فهؤلاء غلابة ويعملون ببساطة من غير عجيج ومن غير طحن كبير وجعجعة.
نعود الآن إلى المسألة، نحن تحدثنا عن ديانات شرق أقصوية وذكرنا البوذية، لكن لماذا لا تنتشر الهندوسية؟ أين الهندوسية إذن؟
الهندوسية من أكثر أديان العالم تسامحاً، والهندوسية تقبل الجميع وترى كل الأديان والملل والأفكار كطريق إلى الله، فهى ديانة مُتسامِحة تماماً، ومع ذلك لا يُمكِن أن يكون المُستقبَل لها إذا كان الكلام عن الديانات الأخلاقية وفقاً لتعبير شفايتزر Schweitzer، وذلك لأن الهندوسية تسامحها لا إنساني، فهو تسامح لا أخلاقي – علماً بأن هذا تحليلي الشخصي – لأنه مُوسَس على اللأخلاقي وعلى اللإنساني، فالمُؤسِس شنكرا Shankara في الهندوسية وافق أن يستعبد البشر بعضهم بعضا وأن يتملك البشر بعضهم بعضا وقال “هذا أمرٌ عادي، هذا أمرٌ أخلاقي”، وهذا غير صحيح، فهذا لا أخلاقي وهذا لا إنساني، لكن كان هناك نظام الطبقات المُخمَسة الصارم جداً جداً الذي يمنع أن يتحرك أو يتزحزح أي أحد من طبقة إلى طبقة أعلى ومع ذلك قال شنكرا Shankara “هذا شيئ طبيعي ومُمتاز”، مثله مثل أرسطو Aristotle وأفلاطون Plato وهذا لا ينبغي أن يحدث.
لكن البوذية على العكس تماماً، فهى تخففت من هذا ولذلك جاءت كنُسخة مُنقَحة بعد أن تخففت، والآن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا عن الإسلام؟!

الإسلام عنده عطاء أكثر من كل هذا الكلام – ليس لأنني مسلم ولكن هذه هى الحقيقة – والله العظيم، لكن المُشكِل ليس في الإسلام كما هو، المُشكِلة في الإسلام كما يُنتَج في خطاب المسلمين اليوم أو في خطاب الإسلاميين وفي خطاب هؤلاء النفر من الناس بالذات، فلا يُمكِن أن يكون هذا الإسلام صالحاً للتعميم والكوننة والعولمة، لا يُمكِن أن يكون كذلك، فهذا الإسلام الذي يُسيء إلى أمك وأختك ستقشعر منه أبدان العالمين.

اتصل بي أحد هؤلاء المساكين وهو شاب مُتعلِم وأمه ناشطة قائلاً “أقسم بالله أمي فاضلة ولا تقطع فرضاً، وهى التي علمتني الدين وحببتني في الدين، ولكنها قالت سأقود السيارة بنفسي، فقيادتي لسيارتي أشرف لي من أن يقودها فلبيني أو هندي ليس من محارمي فيخلو بي، لكن خرج الشيخ فلان الفلاني – نعرفه وأنا لا أذكر أي أسماء والحمد لله – يقول عنها الفاسقة”، وأنا سمعته وهو يقول أقل ما أقول في هذه المرأة إنها فاسقة، فهل هكذا تُتنهَك أعراض المسلمات المصونات يا رجل، يا شيخ ، يا صاحب الفتاوى؟!
هذا الرجل له ألوف الفتاوى في موقعه على الإنترنت Internet ومع ذلك يقول “أقل ما نقول فيها إنها فاسقة”.

أنا وهذا الرجل الذي يجلس أمامي الآن “أبو محمد” كنا في حجة مرة معاً، وتركنا صحن الكعب المُشرَف بعد صلاة الفجر ساخطين غاضبين، هل تعرفون لماذا؟!
جلس أحد هؤلاء المشايخ – لا أقول أحد هؤلاء العلماء – لكي يُدرِّس عن النقاب – هذه وجهة نظر يا سيدي، كُن مع النقاب لكن نحن مع الحجاب أو مع الجلباب بلا نقاب، ولا مُشكِلة في هذا لأن العلماء في هذه الأمة اختلفوا ولا يزالون في هذه المسألة – وقال “وكل من لا يُنقِب زوجته ولا يُلزِمها بالنقاب ديوث”، فقلت له “اخرج يا فوزي، نحن ديوثين، ما عُدت أجلس في هذا المكان، سأهرب من هذا المكان، لقد سُبِبنا”، فأي منطق هذا يا أخي؟ هل ستُصدِّر الدين بهذه العقلية وبهذا الانغلاق وبهذا التعصب وبهذه القطعية؟ لقد سببتمونا وسببتم أعراضنا وسببتم شرفنا، فماذا بقيَ للناس؟
ليفيناس Levinas كتب مرةً يقول “الإنسان ما يُفرِق بينه وبين غير الإنسان أن الأول هو مَن يكترث بالأخرين”، فكل من عنده اكتراث بالأخرين – اكتراث بمشاعرهم وبأحاسيسهم وبأوضاعهم وبظروفهم وبشروطهم – هو إنسان لأنه يستطيع أن يتفهَّم هذا، فأي خطاب غير إنساني يُنتِجه ويمضغه هؤلاء البشر وهؤلاء الأنفار من الناس؟!
نسأل الله لنا ولهم وللمسلمين والمسلمات أجمعين الهداية والتسديد والتوفيق وأن يجعلنا الله مِمَن يسمع ويُبصِر ومِمَن يفقه ويعقل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

وعدتكم إخواني وأخواتي في الخطبة الأولى أن أحلِل هذه الأشياء التي لا أُسميها نظريات وإنما أفكار وهُتامات – هكذا وصفتها – وشذرات تحليلاً علمياً قوياً، وهو ما سأختم به إن شاء الله خطبة اليوم.

المُفكِر الحق والناقد الحق لا يُسِف مثل بعض الناس في الجزئي والعابر والمُبتذَل، فهو دائماً يسمو إلى النمط وليس فقط إلى الفكرة سواء كانت مُبتذَلة أو غير مُبتذَلة، فهو يعلو على هذا كله لأنه يريد أن يعرف النمط Pattern، فهذا هو المُفكِر المُفكِّر أذن، لكن هذا الكلام غير واضح ومن ثم سوف نوضحه بالمثال.
نأخذ اللغة الآن – أي لغة وليس فقط اللغة العربية، ولكن اللغة بما هى – كمثال، فاللغة فيها الوحدات الصُغرى أو الصُغراوية، أي الـ Phonemes، وفيها المجاميع أو المجموعات، أي الكلمات، وفيها النمط وهو الذي يتعاطى معه النحو Grammatik.
الكلمة أو المجموع يتكون من جزئين فأكثر، فهذا اسمه مجموع، لكن الكلمة بحد ذاتها ليس لها أهمية نهائية، ولكن لها أهمية محدودة ووسلية، أي وسيلة لشيئ هو الذي يتعاطى معه علم النحو وهو الأنماط، فالأنماط هى التي تسمح ببناء جُمل مفهومة خبرية وإنشائية من هذه المجاميع.
طبعاً الفاعل قد يكون زيداً وقد يكون عمراً وقد يكون جون John وقد يكون سلوى وقد يكون سوزي لكن النمط دائماً يُفهِمنا أن هذا هو الفاعل الذي يُسنَد إليه الفعل، فتختلف المضمونات دائماً لكن يبقى النمط حاضراً دائماً.
فهذا هو النمط إذن، والحديث عن المجموعات بغير حديث عن نمط لا قيمة لها، فشأنه بالضبط شأن الحديث عن الطوب اللبن – أي حجارة البناء – مع الإمساك أو مع عدم الحديث عن بناء مسجد – مثلاً – أو مدرسة أو مشفى أو روضة وإلى أخره، فأنت تتحدث عن طوب – عن ألف طوبة أو عن عشرة آلاف طوبة أو عن مائة ألف طوبة مثلاً – بدون قيمة، فماذا نفعل بها بدون بناء؟ ما الفائدة إذن؟ فأهم شيئ هو البناء.

هذا كان على مُستوى اللغة، سوف نأخذ الآن مُستوى الفكر، سواء كان الفكر ديني وغير ديني، فقد يكون هناك فكرة مُعينة مثلاً، وهذه الفكرة يُعبِّر عنها نص يُنسَب إلى النبي أو إلى الولي أو إلى الإمام الفلاني أو العلاني، لكن علينا أن ننتبه إلى أن هذه فكرة وليست نمطاً، هذه تُعتبَر مجموعة مُعينة فقط، لكن متى يبدأ النمط؟!
إذا أمكن حشد مجموعة من الأفكار قد تنتمي إلى قطاعات مُتقارِبة أو مُختلِفة نسبياً بحيث يُمكِن استخلاص في النهاية ما يُشبِه نظرية، فالآن يُمكِن أن أتحدَّث هنا عن النمط، لكن النظرية لا تكون بناءً من مجموعات أعتباطياً أبداً، وإنما تكون بناءً محكوماً بمنطق، هذا المنطق هو نفسه النمط.

أعتقد أنني الآن أصبحت واضحاً أكثر من ذي قبل، لذلك – كما فعلت في الخطبة الأولى – لو تأملتم في مجموعة أفكار مثلاً عن الحاكم الطاغية في تاريخ المسلمين أو الطاغية بشكل عام – مثل مَن هو الطاغية والموقف منه ومن طغيانه الذي يتخذ شكل فتوى أو شكل سلوك مُعين في التقرب منه أو الدفاع عنه وإلى آخره – سوف تجدون – في نظري – أن المواقف من هذا الطاغية تحكي نمطاً مُعيناً، فبعض الناس ينطلقون من نمط أن الحاكم – أستغفر الله العظيم – هو صورة من الله مثلاً، لكن علينا أن ننتبه الآن لكي نسأل أنفسنا هذا السؤال: ما هو الترتيب في ذهن مَن يقولون أن الحاكم هو صورة من الله؟ هل الله في ذهن هؤلاء على صورة الحاكم الظالم أم أن الحاكم الظالم على صورة الله في ذهنهم؟
هذا سؤال حرج ويحتاج إلى تدقيق، وعلى كل حال أنا أعتقد كما قلت في الخطبة الأولى أن الله – والعياذ بالله – مُسِخَت صورته – أي تصوره والاعتقاد فيه – حتى أصبح مُتطابِقاً مع الحاكم الظالم، لأن الحاكم الظالم من الصعب جداً أن يُرفَع إلى مُستوى إله عادل – هذه عملية مُستحيلة – ولكن يُمكِن تقزيم ومسخ تصور وعقيدة الله – تبارك وتعالى – كما ضربنا ببعض الأمثلة بحيث يصبح هذا الإله الظالم النزق الغضوب الذي يفعل أشياء لا يُمكِن التنبؤ بها لأنها غير منطقية وغير عادلة ومن ثم يرفضها ضمير الإنسان لأنه مخلوق لله، قال الله وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، كما قال كانط Kant “الله خلق لنا محكمة للأفكار والقيم في نفوسنا”، فهذا ليس على ألسنة المشايخ والقسس والرهبان والأحبار وإنما في نفوسنا، ومن ثم يستطيع الإنسان أن يعرف أن هذا الأمر يُعتبَر مقبولاً أو غير مقبول خاصة في الأشياء الأصلية الأساسية كالتي تتعلَّق بالعدل والظلم.

إذن هذا هو النمط الحاكم في تفكير هؤلاء، ومن هنا – وأختم بهذه الجُملة – تقديسهم وولاؤهم المُطلَق للحاكم أياً كان هذا الحاكم، سواء كان ظالماً أو عادلاً أو مسلماً أو حتى كافراً وهذه هى المُصيبة الأعظم، فهم قالوا “وإن كفر فالمفروض لا نثور عليه ولا نخرج عليه ولا نُحدِث فتنة وشغب، ولكن ننصح له ونُنكِر عليه بالتي هى أحسن دون أن نخرج عليه”، ونحن نسأل مَن يقول هذا كيف لا تخرج عليه؟ ألا تخرج على كافر؟ كيف يُمكِن لكافر أن يحكم في مسلمين؟

هذا النمط مع أنماط أخرى هو الذي يُفسِر لنا لُغزاً مُحيراً ويكشف لنا لماذا يُجَن جنونهم من أجل رجل يلبس كرافتة Cravatta ويخطب على منبر رسول الله، ولكن هم في مُنتهى السعادة والتوافق والانسجام مع حاكم – لن أصفه فأنتم تعلمون ماذا يفعل هو وعائلته وحاشيته وأعوانه وأخدانه، فهم يقومون بأشياء فظيعة ومُخيفة في الداخل وفي الخارج – ظالم، فكل هذا يُسكَت عنه ويطوون عنه كشحاً وكأنها صغيرة من الصغائر، ورحمة الله على العلّامة المصري الكبير الشيخ محمد الغزالي يوم كان في الجزائر وقال “هؤلاء أُناس عجيبون، فهم يُوصِلون مسألة الحجاب والنقاب إلى مجلس الأمن، لكن مسألة اختلاس أموال الأمة والذهاب بها إلى جيب حاكم ظالم رقيع يعتبرونها صغيرة من الصغائر”، فالشيخ الغزالي لاحظ هذا وعبَّر عنه بهذه الطريقة، فمسألة الحجاب يرون أنها كبيرة من الكبائر التي ينبغي أن تصل إلى مجلس الأمن لكن سرقة أموال الأمة التي تُساوي في نهاية المطاف مزيداً من الجهل ومزيداً من الأُمية ومزيداً من حالات الزنا ومن زنا المحارم ومن السرقة – لعدم وجود أموال واقتصاد في حين أن المُجتمَع يُريد أن يعيش ومن ثم يُجَن لعدم وجود توافر حد الكفاية – يرون أنها صغيرة من الصغائر!

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 20/01/2012

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

  • السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
    شاهدت مقطع فيديو على الفيس بوك لممثلة الرئيس الامريكي ترامب مما اشعرني بذيق في النفس وارتفاع الضغط ولعله ذلك حال كل مسلم شاهد هذا المقطع.
    اتمنى على شيخنا العزيز على قلوبنا ان يرد على هذا الهراء عن الاسلام في هذا الفيديو
    https://www.facebook.com/abozaidhamdan/videos/1156892694424038/
    وادامكم ذخرا للاسلام والمسلمين

%d مدونون معجبون بهذه: