إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ۩ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ ۩ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ۩ فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۩ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ۩ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۩ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ۩ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين. وتوفنا مُسلِمين وألحقنا بالصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين.

إخواني وأخواتي:

استمعنا إلى المشهد الأخير من قصة بالغة التأثير وبالغة الدلالة، ريّانة، ملآى بالعظات والمعاني والعبر. إنها قصة الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم – عليهم الصلوات والتسليمات أجمعين -.

وهذا الختام الجميل الباذخ المُطمئن المُريح جاء ختاماً لبدايةٍ تفصلها عنه فيما يُقال أربعون سنة، أربعون سنة بين قص يوسف الغُلام الصغير على أبيه المُبتلى بفقده يعقوب بن إسحاق – عليهم الصلوات والتسليمات أجمعين – رؤياه، حين رأى فيما يرى النائم كيف تسجد له كواكب، أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۩، أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر أيضاً، كانا من بين جُملة الساجدين.

وقد فهم الشيخ النبي المُحدَّث المُكلَّم يعقوب معنى الرؤيا من فوره، فأوصى ابنه بكتمها، لئلا يتطرَّق الحسد والغيرة غير المحمودة لدى إخوانه أو بعضهم، لئلا تتطرَّق بهم وينجر عنها أمر لا تُحمَد عُقباه، وهذا ما سبق به القلم، وكان. أربعون سنة تفصل بين الأمرين، شيئ عجيب!

سورة يوسف عُقدتها الكُبرى هذه الرؤيا، ولها أيضاً عُقدة أُخرى أساسية فيها، قصة في قصة! وهي رؤيا الملك، وفي ظاهر الأمر لم يكن من المُسلِمين، خلافاً لبعض المُفسِّرين، لم يكن مُوحِّداً، بل كان مُشرِكاً في أمة مُشرِكة، هكذا تدل مُحاوَرة يوسف – عليه الصلاة وأفضل السلام – لصاحبيه في السجن، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ ۩، كانوا يعبدون أرباباً مُتشيعة ومُتفرِّقة على كل حال.

إخواني وأخواتي:

الرؤيا الصادقة، الرؤيا الصالحة فيما ثبت عن النبي المهدي المعصوم – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – جُزء من النبوة، بل ثبت في الصحاح وفي بعض السُنن جُزء من ستة وأربعين جُزءاً من النبوة. وإذا كان مدار النبوة اتصالٌ بالغيب – في الحقيقة غيبٌ يتصل بالشهادة، عالم ما وراء الحس وعالم ما وراء الشهادة يتصل بعالم الحس والشهادة، فهذا مدار النبوة -، فكذلكم الرؤيا الصالحة، لها حظ وقسمة من هذا المعنى، الغيب حين يتصل بالشهادة، عن طريق هذه البوّابة، بوّابة الرؤى الصادقة.

لسنا نتحدَّث ابتداءً عن الرؤيا التي لها مهاد وأساس نفساني، والنبي نفسه أشار إلى هذا القسم من أقسام الرؤى، وقال حديث نفس. حديث نفس! هذه التي اختص بالكلام فيها كثيراً على مُستوى عالمي النمساوي سيجموند فرويد Sigmund Freud، ولا كلام لنا في هذا، نحن نتحدَّث عن الرؤى التي تفشل كل النماذج المادية فشلاً ذريعاً مُطبِقاً كُلياً في التعاطي معها وفي تفسيرها، ولذا تروغ منها، يروغون! قد تقع على كتاب من خمسمائة صفحة، يتحدَّث عن الرؤى وأقسامها والأحلام وتفسيراتها والنظريات المُختلِفة في تأويلها وتفسيرها، إلا أنه حين يأتي إلى الرؤى الاستباقية أو ما يُعرَف بالرؤى التنبؤية – أي الــ Prophetic dreams -، يتحدَّث عنها في صفحتين أو في ثلاث صفحات، ثم يمضي. مع أنها هي الأهم والأخطر على الإطلاق، لأن هذا النوع من الرؤى (الرؤى التنبؤية، الرؤى الاستباقية) تتجاوز وتمخر عُباب المكان والزمان، كل حواجز المكان لا تعنيها، تتجاوزها! وكل حواجز الزمان تتجاوزها، إلى سنة، إلى عشرين سنة، إلى ثلاثين سنة، إلى مئات السنين. شيئ غريب! كيف هذا؟

بحسب النموذج المادي هذا غير مقبول، غير مقبول! ولذا تتورَّط النماذج ولا تزال على الدوام، فحذاري إخواني، حذاري إخواني، تتورَّط هذه النماذج المادية على الدوام في اصطناع استراتيجيات تغاضٍ، استراتيجيات هروب، استراتيجيات إعراض، استراتيجيات استخفاف، استراتيجيات لا مُبالاة، تشكيك. لا، هذا ليس ثابتاً، هذا غير مُحقَّق. يا سيدي لا نُريد أن يثبت باستراتيجياتكم، نحن جرَّبنا هذا، أنت مُتأكِّد من هذا، ولا يخلو واحد منا من رؤى صادقة هتكت حجاب الزمان ولا يزال وربما بعد مرور عشر أو عشرين أو ثلاثين سنة عليها يتعجَّب منها، كيف اتفق لي هذا؟ كيف رأيت هذا الشيئ بتفاصيله أحياناً قبل أن يقع بخمس سنين أو بعشر سنين أو بعشرين سنة؟

بعض الناس يقول لم يتفق لي. أقول له فتح الله عليك، قد يتفق لك، لكن سل أمك، سل أباك، جدك، جدتك، خالك، خالتك، عمك، مَن تثق به. مُعظَم الناس مروا بهذه التجارب، مُسلِمين كانوا وغير مُسلِمين، صالحين كانوا وغير صالحين. لماذا؟ لأن هذه الخاصية من خواص الروح، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩، بحسب القرآن العظيم وبحسب الأديان أو الشرائع التوحيدية السماوية الثلاثة الإنسان فيه مُكوّن غيبي، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩، شيئ يتصل عبره به الغيب، وهو أيضاً يتطلَّع ويتشوَّف ويتلصص على الغيب، عبر هذا الشيئ، أحياناً في مناماته وأحياناً في يقظته، هناك أهل الكشف والفتوح والاستشفاف والاستبصار، وكل هذه الظواهر التي ملأت كُتب التصوف والعرفان وكُتب الباراسيكولوجي Parapsychology في الغرب هنا، الذي أصبح على الرُغم منهم علماً، علماً! ويصطنع الأدوات والمناهج والضوابط العلمية الصارمة، ووثَّق وأثبت حقانية وواقعية هذه الظواهر، على الرُغم من عناد النماذج المادية الإلحادية طبعاً، لأن النموذج كله سيُصبِح عُرضةً للتساؤل.

النموذج المادي يا إخواني بطبيعته أضيق بكثير من حقيقة الإنسان المُتسِعة المُركَّبة، النموذج المادي يتعاطى وبنجاح بعيد جداً جداً مع الجُزء المادي فينا، ولا تُوجَد أي مُشكِلة، ولكن مُشكِلة هذا النموذج أن ثمة جُزءاً آخر روحياً غيبياً، وراء شهودي! موجود فينا، ويُمارِس فعاليته ونشاطه في اليقظة وفي المنام، على الأقل بحسب باحثين كبيرين، واحد إيطالي وآخر فرنسي، عُنيا كثيراً بموضوع الاستشفاف والتنبؤيات والاستباقيات، وجدا – هذه نتيجة دراسة الرجلين، وهما دراستان مُنفصلتان تماماً، لكن علميتان وجادتان، من شخصيتين كبيرتين في المجال العلمي – أن نصف الحوادث التنبؤية الاستباقية الاستشفافية تقع في المنام، والنصف الآخر يقع في اليقظة، النصف الآخر يقع في اليقظة! شيئ غريب.

طبعاً لا تخلو قرية، لا يخلو نجع، لا تخلو مَدينة أو مُدينة أو حي من أحياء المُسلِمين من أمثال هؤلاء الشفّافين، أحياناً يُسمونهم الدراويش، المجاذيب، أهل الله – عز وجل -، الصوفية، (الغلابة)، أصحاب الكرامات. موجودون في كل مكان، للأسف عيب المُسلِمين أنهم لم يُولوا هذه الظواهر، وهي ظواهر بلا شك لافتة جداً، مُثيرة، تبعث على الاستغراب والتعجب إلى الغاية، لم يُولوها أهمية بحيث يدرسونها بالطريقة العلمية أو يُوثِّقونها أيضاً بطريقة علمية. ميزة الغربيين أن منهم مَن يضطلع بمثل هذه المهام، مع أنه ليس بين يديه إلا حوادث تُعتبَر منزورة ومحدودة، إذا ما قيست بالحوادث التي تجع بها ديار المُسلِمين. يبدو أن للدين هنا أثراً، يبدو أن للدين وتوحيد الله – تبارك وتعالى – واتباع النبي الخاتم المعصوم أثراً في المسألة بلا شك، تُقرِّب الإنسان من الصفائية أكثر، من الطهارة أكثر. يكفي توحيد الله – تبارك وتعالى -، هذا مفتاح الغيب، وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۩، وأنت مُوحِّد، تقول لا إله إلا الله. وهذا يُقصِّر الطريق جداً.

ولذلك هذه الأحداث وهذه الوقائع لدينا لا تُحصى، بالملايين، بالملايين! لو أراد أحدهم أن يذهب يُوثِّقها، فإنه سيقضي عُمره، ولن يُوثِّق إلا عُشر بُعيشيرها، أو عُشر عُشر عُشيرها، لأنها كثيرة جداً.

تعرفون المرحوم أنيس منصور، وهو لم يكن رجل دين ولا روحانياً ولا لاهوتياً، كان وجودياً، أي أقرب إلى الإلحاد، لكنه في فترة من حياته – في مُنتصَف عُمره – استيقظ إلى هذه التجارب التي تعج بها بلاد مصر، قرى وأنجاع مصر، كثيرة جداً جداً، فعُني بها جداً، وجعل يتقصاها ويتسمّع من هنا ويُوثِّق، وألَّف أكثر من كتاب، وسجَّل هذه المُلاحَظة، مُلاحَظة الحسرة، مُلاحَظة التحسر والتأسف على أن المُسلِمين لم يتعاطوا مع هذه الظواهر بطريقة علمية، يا أخي كان يجب أن يُوثِّقوها على الأقل، لماذا تضيع هذه الكنوز؟ كنوز كثيرة جداً جداً.

الآن حين أقص عليكم حكاية، مُباشَرةً ستنقدح في ذهنكم فكرة، وسيقول أحدكم نعم، هذه اتفقت لجدتي، مثل هذه بالضبط، أنا عشت هذا. وهذا سيقول هذا اتفق لعمي، نعرف هذا تماماً وهو مُتواتِر في العائلة. وهذا سيقول اتفق لي واتفق لأبي مثل هذا. نعرف هذا، نعرف هذا وهذا موجود، وطبعاً هذا كله – بفضل الله تبارك وتعالى – من باب قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۩.

المرحوم الدكتور مُصطفى محمود – رضوان الله على روحه الطاهرة، هذا العارف بالله، وهذا العالم والمُثقَّف الجليل الصافي الطاهر، صاحب السكينة والطمأنينة – يقول عن نفسه بكل براءة وصدقية معهودة فيه – رضوان الله عليه، يا ليت كل المُثقَّفين مثل مُصطفى محمود في براءتهم وطهارتهم وتعمقهم أيضاً! – الآتي:

يقول أنا قبل ثلاثين سنة – طبعاً من تسجيل الحلقة، هذا هو طبعاً – لم أكن معنياً بالمسألة الدينية، كان كل تفكيري علمياً، وكل اهتماماتي علمية. لا أهتم بالنواحي الدينية، لا تعنيني! قال وأنا كنت مُتعوِّداً أن أنام مُبكِّراً بعد العشاء هكذا، وأستيقظ مُبكِّراً. قال تقريباً عند مُنتصف الليل يرن الهاتف (هاتف المنزل). قال استيقظت وأخذت السمّاعة، صديقي العزيز والناقد الكبير جلال العشري – رحمة الله عليه، الذي قضى شاباً في عقده الرابع، رحمة الله عليه، ناقد كبير ومُترجِم وفيلسوف وكتاب، أي لو عاش، لكان رجلاً واعداً، رحمه الله وأحسن إليه -. قال فأدرك أنني كنت نائماً، فتأسف – أي اعتذر -، فقلت له انتهى الأمر، أنت جعلتني أفيق من نومي، فتكلَّم، فقال لا، لا. وأغلق (السكة) – باللُغة المصرية -. قال وعُدت مُباشَرةً إلى نومي، فلما استغرقت في نومي رأيت جلال العشري مع زميله في صباح الخير – مجلة صباح الخير – شوقي عبد الحكيم، يمشيان في شارع سُليمان باشا، ويتكلَّمان بالعربية وبالإنجليزية في قضايا نقدية وفكرية – وهو يعرفها، أي مُصطفى محمود، واستمع إليها في المنام -.

قال فلما استيقظت، كان أول شيئ قمت به، هو أنني (رفعت السمّاعة) على جلال العشري. وقلت يا جلال صباح الخير، كيف حالك؟ أنت أمس ليلاً حين اتصلت بي كنت في شارع سُليمان باشا؟ قال له صح. قال له مع شوقي عبد الحكيم؟ قال له صح. اندهش طبعاً! ما هذا؟ قال له وتكلَّمتما في كيت وكيت وكيت من الموضوعات. فذُهِل الرجل، وعقدت الدهشة لسانه، أي جلال لم يتكلَّم، ما هذا؟ ما هذا؟ ما هذا التجسس الروحي؟ كيف عرفت؟

ثم استتلى، يا مُصطفى كيف؟ كيف عرفت؟ مُصطفى محمود الآن قبل أن يقف على ردة العشري، كان يعلم أن من المُحتمل أن يكون مُخطئا، فالموضوع ربما يكون صحيحاً وربما يكون أضغاث أحلام، ولما وجد أن الموضوع برُمته صحيحاً تماماً – وجده صحيحاً تماماً – ذُهل، يقول أنا الذي ذُهلت، ووقعت السماعة من يدي.

من تلك اللحظة حصلت انعطافة في حياة المرحوم المُثقَّف الكريم الدكتور مُصطفى محمود، قال لا، لا، كفى. كفى عبثاً – هذا معناها – يا مُصطفى، كفى تجاهلاً، كفى إعراضاً. وعنده العلم والفكر والفلسفة والدين خُرافات وما إلى ذلك، لا! هذا يعني أن الموضوع جد، وواضح أن الإنسان يُوجَد فيه مُكوّن عجيب جداً وغريب، وهو غير مادي. وهو فسَّر هذا، قال ما معنى هذا؟ معناه ببساطة وباللُغة المادية أنني رأيت بغير عينين، أنا كنت نائماً وفي بيتي، وأين أنا؟ وأين هم؟ وأنني سمعت بغير أُذنين، الأُذنان لم أسمع بهما، في حالة النوم. إذن ما أو مَن الذي رأى؟ ومَن الذي سمع؟ وكيف تسنى له أن يخترق حجاب المكان والزمان؟ كيف؟ ما الذي حصل؟

هذا مُصطفى محمود، وهذا سبب انعطافة انتهت به إلى أن يكون مُفكِّراً إسلامياً كبيراً، وهو قال هم يقولون لي أنت الآن أصبحت مُتدينا، كلامك كله دين في دين. فهو طبعاً يُطوِّع العلم والفكر والفلسفة والأدب والمسرحية والقصص، كله للدين، لأن هذه الحقيقة الخالدة، الحقيقة الأعظم، لا ينبغي أن نُضيِّعها، المسألة لا تحتمل اللعب، لا تحتمل اللعب!

إخواني وأخواتي:

لابد أن نمضي، والخُطبة ستكون مُسلية وطيبة، مجموعة حواديت وقصص إسلامية وغربية، لأن بعض الناس عنده عُقدة الإفرنجي برنجي بحسب قولة الشاميين. يقول لك لا تقل لي مُصطفى محمود وعمر بن الخطاب والتنوخي ورسول الله، فهذا لا يهمنا. لكن قل له جون John وويلسون Wilson وبيلسون Bilson. نعم، يحتمل، للأسف عُقد، عُقد! انظر إلى الآتي، ولذلك أنا أقول لك المعرفة مسئولية، المعرفة مسئولية، ولا أعني معرفة الكُتب ومثل هذه المعرفة التي تسمعها على المنابر أو في التلفزيون Television وما إلى ذلك أبداً، حتى المعرفة التي تنتهي أو تتناهى إلى علمك عن طريق أحداث اتفقت لجدتك، لخالتك، لعمتك، لأبيك، لأمك، لجارك، لمَن تعرف وتثق بهم، مسئولية، وأنت مسؤول عنها أمام الله. خاصة أن لديك – ما شاء الله – القدرة النُقدية، وأنا أُخاطِب هنا – بين قوسين – (أصدقاءنا وإخواننا الملاحدة والمُشكِّكين والمُرتابين)، أُخاطِبهم بالذات، أكثر طبعاً مما أُخاطِب المُؤمِنين، فالقضية عندهم مفروغة – بفضل الله تبارك وتعالى -، وكثيرٌ منهم يعيش هذه الحالات، يعيشها وفي نعيم منها أصلاً، هو في نعيم منها!

بعض الناس لا يكاد يستخير الله إلا أراه الله خيرته، بعض الناس يعيش بإلهام من رؤاه الصادقة، ودائماً أو في عشرات المرات يتبرهن له أنها أثبتت له كيف أنقذته من مطب ومُشكِلة كبيرة، لولاها (لولا الرؤيا) لاختلف الأمر، كيف أكسبته صفقته، كيف… وكيف… عشرات المرات! وليس العكس هو الصحيح، الحمد لله، فالرؤيا فعلاً الصادقة الصالحة جُزء من النبوة، جُزء من ستة وأربعين جُزءاً من النبوة إخواني وأخواتي.

المسألة لها تأصيل بسيط جداً جداً، نقوله بجُملة ونمضي. الملاحدة الماديون لهم نماذجهم المادية وخاصة النماذج الفيزيائية أو المذهب فيزيائية، الــ Physicalism، أي المذهب الفيزيائي، وطبعاً هو مذهب من مذاهب الطبيعانية أو الطبيعية، أي الــ Naturalism، الشيئ نفسه! هذا المذهب يرى أن كل ما في العالم وكل ما في الوجود ومن ضمن مُضمنات الوجود الكائنات البشرية الآدمية، يُمكِن اختزال كل ما يتفق لها، كل نشاطاتها، وكل فعاليتها الروحية، العقلية، الذهنية، المادية، الحيوية، الــ… والـ… إلى آخره! إلى ماذا؟ إلى مبادئ وقوانين فيزيائية، Reductionism، مذهب الاختزالية، مذهب التخفيضية، وأنا يُمكِن أن أُسميه حتى مذهب المسخية. يمسخ الظاهرة المُعقَّدة بكل تركيبها، بكل ثراها، وبكل خصبها وغناها، إلى ماذا؟ إلى مُجرَّد مُعطيات مادية بسيطة وواحدية، طاقة ومادة! بقوانين الطاقة والمادة، هل هذا واضح؟ هذا مُنخل، هذا قفص، هذا صندوق. وواضح أن هذا المُنخل، أن هذا القفص، أن هذا الصندوق، سيعجز عن احتواء ظواهر كثيرة، الإنسان حين يمر بها أو يستوثق منها وتتوثق لديه، يُوقِن أنها الأهم في حياته، لماذا؟ لأنها في حال صدقها سيترتب عليها توالٍ عظيمة الخطر والأهمية، تتعلَّق بمُستقبَله الأُخروي.

معناها إن صح هذا، فلِمَ لا يصح أن هناك إلهاً خَلَقَ فَسَوَّى ۩… و: قَدَّرَ ۩… وأن هناك غيباً يتواصل معنا، وهذا الغيب لا يخضع لقوانين الفيزياء ولا لقوانين المادة، ومن ثم قد يكون الأنبياء صادقين، ومن ثم هناك جنة وهناك نار وهناك أبد؟ أوه! مسألة كبيرة وخطيرة، ولا تحتمل اللعب والاستخفاف، لا تحتمل اللعب والاستخفاف!

سيضح لكم شيئ مثل الذي وضح في خُطبة الموتى يتكلَّمون، وهو الشيئ نفسه على فكرة، والمبدأ الذي نُفسِّر بها حالات الموتى يتكلَّمون هو الذي تُفسَّر به وقائع الاستشفاف في المنام وفي اليقظة، في المنام وفي اليقظة! وكما قلت هي بالملايين. ليس بالألوف، وإنما بالملايين. وأنا أعي تماماً ماذا أقول، بالملايين!

هنا في مسجدنا مَن حدَّثنا عن والدته، في يوم وفاتها أو مرض وفاتها، كيف أنها مُباشَرةً استأذنت بإخراج فلانة، لأنها ليست طاهرة، كيف تعرف أنها ليست طاهرة؟ كيف؟

الإمام السخاوي – رحمة الله عليه، المُقرئ الكبير الضرير، وقدَّس الله سره – معروف، مَن يعلم علم القراءات، يعلم مكانة الإمام السخاوي – رحمة الله عليه – في القراءات، وكان من الصالحين، وكان دقيقاً جداً في مواعيده وبرنامجه الإقرائي، كالساعة! مضبوط كالساعة، كان مُدهِشاً لنواحي كثيرة، وكان من أهل الله الصالحين – اللهم اجعلنا من أوليائك الصالحين، وأصلِحنا بما أصلحت به عبادك الصالحين -، هذا الرجل على أنه ضرير، كان هو الذي يضبط مواقيت الصلوات في الليل والنهار، وهو لا يرى لا شمساً ولا قمراً، إذا دخل الوقت بالضبط، يقول للمُؤذِّن قم فأذّن. رجل مُكاشَف، يعيش في أنوار إلهية، وهو رجل قرآن، فأكثر من مرة يختبر مُؤقت المسجد، ويجده دقيقاً جداً، دقيقاً جداً!

يُروى عنه أن أحد تَلاميذه جاء – جاء طبعاً مع جُملة التَلاميذ بعد صلاة الصُبح – لكي يقرأ عليه، فهو شيخه، أول تَلميذ! قال يا شيخي أقرأ؟ قال يقرأ الذي خلفك. فاستحيا التَلميذ وانصرف مُباشَرةً، التَلميذ اعترف بعد ذلك بأنه كان جُنباً. أدرك الإمام السخاوي أن هذا جُنب، لا تقرأ، أتقرأ في كتاب الله والقرآن علىّ وأنت جُنب؟ قال يقرأ الذي خلفك. كيف عرف؟ عرف! شفّافية عجيبة، وأنا أعرف شخصياً أُناساً عندهم هذه الشفّافية، ما رأيكم؟ شيئ غريب. أنا أعرف شخصياً رجلاً من غير مُبالَغة هو أصدق مَن رأيت في حياتي، ورأيت من عجائبه الكثير، ولكن على فكرة لن أُصدِّعكم ولن أتورط بحديثكم عن تجارب أنا أُوثِّقها شخصياً، لئلا أفتح باباً للقيل والقال، وطبعاً لن أُحدِّثكم عن تجاربي الشخصية، وكلٌ منكم له تجارب شخصية، لن نفعل هذا أبداً، نحن فقط سنجتلب ونستسلف وقائع وقصص أُخرى من أحياء وأموات من الغرب والشرق. هذا الرجل إذا قُدِّم له طعام، يعرف أن التي صنعته حائض أو نُفساء. ما رأيكم؟ مثلما يُحكى عن سُلطان العلماء العز بن عبد السلام، كان عنده هذه الشفّافية، شيئ غريب، هذه شفّافية في حالة اليقظة، شفّافية عجيبة، ما الذي يحصل؟ على كل حال ويُوجَد هذا في المنامات، هذا يُوجَد في المنامات، جميل!

إذن النموذج المادي سيعجز عن تفسير هاته المسائل، اختراق حجاب المكان والزمان! وخاصة حجاب الزمان، لأن النموذج المادي مُؤسَّس على بضعة مبادئ منطقية عقلانية – أي Rational، هذا أكيد -، في رأس هذه المبادئ مبدأ السببية، أي The Principle of Causality، مبدأ السببية! مبدأ السببية يجعل مُحالاً أن يتقدَّم المعلول على علته، لابد أن تأتي العلة في الأول ثم يأتي المعلوم، أي قبل أن يتزوَّج الشاب فيكم، يكون من المُستحيل أن نتحدَّث عن أبنائه، أبناء ماذا؟ أولاده، أولاد ماذا؟ هو غير مُتزوَّج، لابد أن يتزوَّج أولاً، وأن تحمل زوجته منه، وأن يُولَد له، وبعد أن يُولَد له يُمكِن أن نتحدَّث عمَن وُلِد. لا! في حالات الاستشفاف يُحدِّثك عن أبنائك قبل أن يأتوا بعشرين سنة، ويذكر لك أشياء مُفصَّلة، فأين هذا؟ وكيف هذا هنا؟ انتُهك مبدأ السببية كما نفهمه، وأين هذا؟ تُحدِّثني عن المعلولات وعن النتائج قبل أسبابها؟ ما الذي يحصل هنا؟ هنا الأمر مختلف، المادة لا تُفسِّر هذا، الفيزياء لا تُفسِّر هذا، المُلحِدون يعجزون أمام هذا، ولذلك لا يبقى بين أيديهم إلا ماذا؟ إلا أَعْرَضُوا ۩، الإعراض! وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ۩، سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۩، ولماذا إذن؟ ولماذا هذا الإعراض؟

بعض الناس على فكرة يُعرِض بالمُطلَق، وبعض الناس يُعرِض عن آيات دون آيات، فبعض الناس عنده قابلية، يقول لك نعم هناك إله، أكيد هناك إله خلق وصمم وصنع، ولكن هو غير معني بنا. بمعنى أنه لم يُرسل رُسلاً ولم يُنبئ أنبياء، وبالتالي لا بعث ولا نشور ولا حساب ولا جزاء ولا موازين ولا جنة ولا نار. هل تعرفون لماذا؟ هذا واضح جداً جداً، نوع من الاستكبار، أن أكون أنا الذكي الفيلسوف العبقري (الشاطر)، الذي يُحِب أن يعيش حياته بالطول وبالعرض، ويفعل ما يحلو له. يستكبر جداً أن يُقال له هناك سُلطة أعلى منك، واعية بك، رقيبة عليك، تأمرك أن تفعل وألا تفعل، وستصير إليها وترجع إليها، وتُوقَف بين يديها وتُحاسَب على ما كل فعلت، فتُجزى بالخير خيراً وبالشر شراً.

ولذلك قال – تبارك وتعالى – وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ۩، بالله؟ لم يقل هذا. لم يقل قلوب الذي لا يُؤمِنون بالله. شيئ عجيب! انظر إلى القرآن الكريم، انظر! كل كلامي هذا لخَّصه القرآن بكلمة واحدة، اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ۩، القضية قضية الآخرة، يقول لك ليس عندي مُشكِلة مع رب ومع إله موجود، ليس عندي مُشكِلة، عندي مُشكِلة أن تقول لي هناك آخرة، أعود إليه ويسألني عن النقير والقطمير والكبير والصغير والقديم والحديث، لا أُريد هذا. نعم! هذه مُشكِلتك.

ولذلك واصل في التعامي المقصود، واصل في التجاهل، واصل في الاستخفاف، في التشكيك غير المُبرَّر، في الإعراض ولي العُنق. واصل! نتمنى لك كل خير صديقنا المُلحِد، كل خير – والله -، ونرجو أن الله يدفع عنك كل ضير، لكن الكرة في ملعبك، إياك أن تُغامِر بمصيرك الأبدي، المسألة جد وليست لعباً، المسألة جد وليست لعباً يا إخواني.

على كل حال إذن هذه النماذج المادية الضيقة – الأقفاص والصناديق الضيقة – ستعجز حتماً أن تستوعب كل هذا، ولذلك بمنطقها مُباشَرةً تطرده كله وتستبعده – أي كل ما تستوعبه – وتعتبر أنه غير موجود! ولكن هو موجود، تماماً مثل عالم Taxonomist، أي هذا كان عالماً تصنيفياً، يُصنِّف الحيوانات والنباتات، أحد التصنيفيين، ويُوجَد عنده الكبرياء العلمية هذه، وذات مرة كان تقريباً في القارة القُطبية، استفاق وإذا بأحد مُساعِديه يقول له بروفيسور Professor، بروفيسور Professor، انظر إلى هذه السمكة. سمكة عجيبة، لا يعرفون عنها أي شيئ، نظر هكذا وعرف أنها لا تدخل في أي Class تصنيفي، أي في أي فئة تصنيفية. فقال غير موجودة. قال له هذه غير موجودة. ورجع إلى نومه، يا أخي ها هي نقول لك! قال لك غير موجودة. بما أنها هذه ستهز نظامي التصنيفي، فأنا لا أُريدها، وهي غير موجودة. انظروا إلى أي درجة بلغ الكبرياء، وهذه وقائع علمية، هذه ليس لها علاقة باللاهوت. وبعض الناس لا يتخيَّل هذا، يظن أن العالم هذا مُتألِّه، العالم هذا – ما شاء الله – عنده نزاهة إلهية، ويخضع للحق. لا، لا، لا! أبداً، أبداً! هناك تعصبات وجمود على النماذج، لأنه طيلة حياته يشتغل على نموذج، تأتي أنت بوقائع في نظره معدودة ومحدودة وقد تقبل ولا تقبل – هكذا يُحِب أن يُصوِّرها – وتهز له النموذج؟ تهز سعي حياته؟ فيستكبر – والعياذ بالله -.

ولذلك جوهر الكُفر دائماً الاستكبار، أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ۩، جوهر الكُفر نوع من الاستكبار، ولذلك جوهر الإيمان الحقيقي تواضع حقيقي، تواضع جوهراني، هكذا عند المُؤمِن، فإن رأيت مُؤمِناً فيه أي نوع من الاستكبار، فاعلم أن إيمانه مدغول، لا! ليس عنده الإيمان الحقيقي هذا، الإيمان الحقيقي يجعل الإنسان مُتواضِعاً لكل شيئ، ويعترف بكل حقيقة، حتى لو كلَّفته الكثير. نسأل الله أن يُتمم علينا إيماننا، وأن يُكمِّل لنا إحساننا، وأن يُعمِّقنا فيه.

أفلاطون Plato من قديم ضرب لنا مثال العُميان مع الفيل، عُميان سُمِح لهم أن يُدخَلوا على فيل. عُميان! فأحدهم اتفق أن أخذ بنابه العاج، قال مثل الرُمح، الفيل كائن مثل الرُمح تماماً. وهذا صحيح، هو وصف شيئاً مثل الرُمح، أما الذي أخذ ب (زلومته) بحسب قولة المصريين – أي بالخرطوم -، فقال هو مثل أفعى كبيرة هكذا، أفعى كبيرة، تتلوى ببطء. قال هذا! الفيل كالأفعى. قال، وهذا صحيح جُزئياً، الذي اتفق أن أخذ بذيله، قال بل هو مثل حبل، غير مُحسَن. أي لم يُحسَن فتله. قال حبل. الذي أخذ برجله، قال أسطواني، جسم أُسطواني هو – قال – وثخين.

جُزئياً كلهم صح، وكلهم صادق جُزئياً! وأين تبدأ المُشكِلة؟ أين ينبثق الخطأ والغلط؟ إن أصر كل منهم على أن منظوره الجُزئي – الذي ربما هو غير دارٍ بأنه جُزئي – هو كُلي، وأن هذه الحقيقة التامة للفيل. خطأ! وقعنا في خطأ كبير.

لذلك النماذج المادية كلها صحيحة، ضمن ماذا؟ ما هُيئت وما كانت لتفسيره. المادي يُفسِّر المادي، إن ثبت أن في الكون – وبين قوسين أقول (هذا ما يهمنا) أو إن ثبت أن لدى الإنسان جُزءاً غير مادي، فسيكون من الواضح هنا أننا لن نحتاج ولن نُسائل ولن نستشير النماذج المادية. بالعكس! سنُرانا ملزوزين مُضطَرين للبحث عن نموذج وراء مادي، وراء حسي، وراء شهودي، ليُفسِّر لنا ماذا؟ ما وراء المادي فينا. والحمد لله هناك الدين، الأنبياء، الرُسل، والوحي الإلهي، الحمد لله هذا موجود، كله موجود! ولكن هذا الكبرياء، وهذا الروغان، وهذا الهروب، هو المُشكِلة. هل هذا واضح يا إخواني؟

ولذلك – أي هذا ببساطة – إن ثبت وجود الروح على أنها لطيفة إلهية من عالم الغيوب (غيب الغيوب)، فأنا أقول لكم بمُجرَّد ثبوتها – وكيف ستثبت؟ بفاعلياتها، بآثارها، بنشاطاتها -، سيثبت أن العالم خلافاً لما يدّعي الملاحدة والماديون الفيزيائيون ليس مُغلَقاً سببياً. وهذا ما وضَّحناه في الجواب عن سؤال الإسراء والمعراج وإمكانيته العقلية والعلمية. هل هذا واضح؟

العالم لن يعود مُغلِقاً سببياً، كل الماديين يُصِرون على أن العالم مُغلَق سببياً، ما معنى كونه مُغلَقاً سببياً؟ كل ما يقع في العالم يُمكِن تفسيره بأسباب مادية. هذا معنى أن العالم مُغلَق سببياً، ونحن نقول لا، نقول كل عالم مفتوح سببياً. لماذا؟ لأن هناك مُكوّناً غير مادي. اثبت لي! سأُثبِت لك هذا وببساطة، والحمد لله لا نحتاج – كما قلنا – لا إلى علم ولا إلى فلسفة، هذا يحدث معنا جميعاً، وكل يوم، ومع جداتنا وآبائنا وأمهاتنا، باستمرار! ولكن هم يتغاضون، يُحِبون أن يقولوا لك لا، فرويد Freud فسَّرها. فسَّر ماذا؟ فرويد Freud فسَّر بطريقة التحليل النفسي فقط الأحلام النفسانية، لم يُفسِّر أي أحلام تنبؤية بطريقة صادقة، بطريقة حقيقية. وحتى تفسيره لحلم يُوسف – أنا أقول لكم – يُعرِب عن عبقرية كبيرة، وأنا قرأت كتابه قبل ثلاثين سنة، يُعرِب عن عبقرية فرويد Freud الكبيرة، قال لك نعم، هناك اللاشعور. مثل صديقه الذي طبعاً تجاوزه وأمخر في النظريات الروحية، ولكن على حذر شديد جداً، أعني كارل جوستاف يونج Carl Gustav Jung السويسري.

في البداية كلا الرجلين قالا لك هناك اللاشعور. وخاصة طبعاً وفق يونج Jung، اللاشعور الجمعي، اللاشعور الأُممي الثقافي يُفسِّر لك أشياء لا تخطر على بالك. فرويد Freud التقط هذه الفكرة، قال لك هو ماذا؟ يُوسف مَن هو في الأخير؟ ابن. هو جاء غُلاماً صغيراً، رُبي عند عزيز مصر، ومصر هذه بلدة أو قُطر له مُناخ مُعيَّن، له أحوال مُناخية مُحدَّدة، تنتابه دورات مُناخية، دورات زراعية. تفسير في مُنتهى الذكاء، أعجبني، جميل، جميل وقد يُفسِّر. ولكن نحن لدينا ألوف الحالات، التي تتجاوز هذا تماماً، وسيعجز عن تفسيرها.

كما قلت لكم – مثلاً – الحديث عن ولد لم يُولَد وعن شؤونه أو عن بعض شؤونه بدقة. هنا انتهى، هنا فرويد Freud يقول لك I’m Sorry، لا أستطيع، أنا هنا عاجز، أرفع الراية البيضاء. وسترفعها حتماً، لأن المسألة – كما قلت لكم – تعدت المادة وقوانين المادة إخواني وأخواتي، شيئ غريب، شيئ غريب حقاً!

نبدأ ببعض المأثورات من تراثنا الإسلامي بصراحة، ثم بعد ذلك نختم ببعض الوقائع في تراث الغربيين، وهي كثيرة جداً، والكُتب عندهم بالآلاف أيضاً، ولكن تُعَد قليلة جداً، بالقياس إلى ما لدينا – بفضل الله تبارك وتعالى -.

في أيام أبي بكر الصدّيق – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – وقع الآتي، وعطاء هو الذي روى هذه الواقعة الصحيحة، قال أتيت المدينة وأنا أسمع بهذه الواقعة، حين أتيت إلى ابنة ثابت بن قيس – صحابي رسول الله، صاحب رسول الله، صلى الله عليه وآله، ثابت بن قيس بن شمّاس، الذي نزل فيه قوله تبارك وتعالى أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ۩ في الحُجرات، الصحابي الجليل، نعم -. قال فما سمعت حكايتها إلا من ابنته. من فيها لأُذني. قالت له باختصار هذه الحكاية حكاية أبي. والكل يتحدَّث عنها، حكاية غريبة! قالت له حكاية أبي – رضيَ الله عنه وأرضاه – كالآتي، أن أبا بكر الصدّيق دعا إلى قتال بني حنيفة. وهم قوم مُسيلمة الكذّاب – قبَّح الله وقبَّح ذكره -، الذي يُوجَد الآن مَن يُدافِع عنه ويطعن في محمد، ونحن نسأل الله أن يُثبِّت علينا ليس فقط عقولنا وإيماننا، والعدل والإنصاف والأخلاقية، ألا نُسف ونستفل حتى أخلاقياً، شيئ غريب على كل حال، وكأن مُسيلمة عمل شيئاً للبشرية، ولكن محمد لم يعمل شيئاً وهو الذي قدَّم كل ما قدَّم، ويعترف بهذا الفطاحلة هنا من المُؤرِّخين، ولكن هؤلاء لا يعترفون بشيئ، وهم من أبنائنا، شيئ غريب، المُهِم أنها قالت الآتي، قالت خرج أبي مع مَن خرج، وكانت الدبرة – أي الهزيمة – على المُسلِمين أكثر من مرة. ثلاث مرات هُزِموا أمام جيوش مُسيلمة! فغضب أبي وسالم مولى أبي حُذيفة، فاحتفرا حُفرة لهما، نزلا فيها وقال ما هكذا كنا نُقاتِل مع رسول الله. لابد من الثبات يا إخواني – قالوا -، إما النصر وإما الشهادة. قالت فقاتل – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – حتى استُشهِد، ثم إنه سنح في المنام لأحد المُجاهِدين، وقال له يا فلان إني لما قُتلت في سبيل الله جاء فلان الفلاني – سماه باسمه، أحد المُقاتِلين، مُسلِم صحابي ربما أو تابعي، الله أعلم، لم يُسم طبعاً في الروايات مَن هو، من أجل الستر، هذا من باب الستر – وأخذ درعي – وهي ثمينة، درع مسرودة بشكل جيد، مسرودة بشكل مُتقَن، إذن قال وأخذ درعي -، أخذها وخيمته في آخر المكان الفلاني – في آخر المُعسكَر -، وعندها فرس يستن في طِوله – الطِول هو ماذا؟ الحبل الذي يُربَط للفرس فيتحرَّك فيه، اسمه الطِول، وعندها، أي عند الخيمة، فرس يستن، أي يذهب ويجيء ولكنه مربوط، في طِوله -، وقد كفأ عليها بُرمة – مثل قدر هكذا كبيرة وضعها على ماذا؟ على الدرع. أي هو خبأها له، لكي يبيعها فيما بعد ويستفيد منها، للأسف غلول، هذا الغلول، وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۩، للأسف هناك نفوس ضعيفة دائماً -، وفوق البُرمة وضع درعاً، فائت خالد بن الوليد، أخبره بهذا، ومُره أن يأخذ درعي، ثم يُعطيها لخليفة المُسلِمين، لأبي بكر الصدّيق – رضيَ الله عنه وأرضاه -، ويقول له يا خليفة رسول الله إن عندي من المال كذا وكذا. هذه تركتي أنا، أي ثابت بن قيس، والنبي قال له بل تعيش سعيداً وتموت شهيداً، قال له هذا، وتدخل الجنة يا ثابت، هذا كان رجلاً صوته جهيراً، أي صوته عالٍ، بطبيعته هكذا، رجل قوي! فلما نزل قول الله – تبارك وتعالى – أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ۩ لم يعد يأتي مجلس الرسول، فسأل عنه، قالوا هو في بيته. فأرسل في أثره، فجاء الرجل وقد نحل وذبل وضعف، أي في حالة صعبة، فسأله ما هذا يا ثابت؟ فقال له يا رسول الله هلكت، أنا أرفع صوتي في حضرتك، والله أنزل أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ۩، قال له لا، أنت لم تفعل هذا مُتعمِّداً يا ثابت، قال له لم تفعل هذا. ولن تموت كافراً ولن يحبط عملك، بل تعيش سعيداً – إن شاء الله، قال له هذا – وتموت شهيداً. انظر إلى هذا، ها هي الشفّافية والنبوءة، قال وتدخل الجنة – إن شاء الله تعالى -. أعطاه هذا، أعطاه وسام الشهادة وهو حي، وفعلاً مات شهيداً، أحسن شهادة، يوم اليمامة.

قال فتأتي خليفة رسول الله، وتقول له إن لي من المال كذا وكذا، وعلىّ من الدين كذا وكذا، وهذه درعي، بعها وسدد بها ديني، وفلان وفلان من عبيدي عُتقاء لوجه الله تعالى، وإياك أن تقول حُلم، فتُضيعه. في الرؤيا قال له هذا، قال له انتبه وإياك أن تقول هذا حلم وأنا حلمت حلماً، هذا ليس حلماً، روحي جاءتك. الأرواح تلتقي، طبعاً! هذه هي، بعض الناس يقول لك كيف هذا؟ فهذه روح الميت! ومَن قال لك إن النائم ليس ميتاً، ومن هنا يأتي الاستشفاف، كيف تغرف من الغيب وأنت نائم؟ وأنت ترى أشياء قبل وقوعها بسنوات، كيف؟

حين تنام الروح تُزايل بدنها نوع مُزايلة، تُفارِقه نوع مُفارَقة، ويبقى اتصال أيضاً بينها وبين البدن، لو فارقته بالكامل يحصل الموت. هذا هو! لذلك النوم موت جُزئي، والموت نوم كُلي. قال – عز من قائل – اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ۩، يتوفاها، يأخذها كاملةً، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۩، يتوفاها أيضاً، لكن هذه ليست توفية تامة، نوع توفية، نوع توفية! وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۩، يا الله! ما هذا؟قال لك هذا كلام محمد. هذا كلام محمد؟ هذا؟ اليوم أكبر عقل في القرن الحادي والعشرين مُضطَر أن يتعلَّم هذا العلم الإلهي، الله يتحدَّث بلُغة عجيبة جداً كاشفة عن طبيعة ماذا؟ طبيعة الموت والنوم، والعلاقة بينهما.

فهذه هي، هذه روح طالعة، وهذه روح طالعة بالكامل، يلتقيان، يتخابران، يتبادلان المعلومات، كيت وكيت وكيت وكيت وكيت، ومائة في المائة، هذه الطريقة، غيب هذا، ليس مادة، ليس فيزياء، إطلاقاً! وإياك أن تقول حُلم، فتُضيِّعه. وكذلك كان، سيدنا خالد – انظر إلى الصحابي المغوار – مُباشَرةً لم يُكذِّب خبراً كما نقول بالعامية، ذهب ووجد أنها موجودة تماماً كما قيل له، خيمة وبُرمة وفوق البُرمة درع وهناك الفرس، مائة في المائة! مشهد تلفزيوني، لا إله إلا الله، هنا لا يُوجَد لا شعور وما إلى ذلك، لا يُوجَد مثل هذا الكلام، أخذها وأعطاها لأبي بكر. يقول عطاء فلا نعلم أحداً أُنفذت وصيته بعد موته إلا وصية ثابت بن قيس بن شمّاس. وما هذا؟ وصية واحد وصى بعد أن مات وطُبقت، لأنها حق، كلها حق!

وكلكم إخواني وأخواتي – فتح الله علينا جميعاً وعليكم – تعلمون قصة سيدنا عمر بن الخطاب، ذات مرة كان نائماً هكذا، فاستفاق كالمذعور، يقول ابن سعد في الطبقات ليت شعري – يقول ليت شعري -، مَن هذا الذي من ولدي بوجهه شج يملأ الأرض عدلاً – أو يملأ الأرض قسطاً وعدلاً -؟ يقول عبد الله بن عمر – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – فكنا نترقَّب، ورأينا بلال – ابن لعبد الله – بن عبد الله بن عمر في وجهه شامة، فقلنا لعله هو – لعله يكون هذا من ولد عمر الذي يملأ الأرض عدلاً – ويعمل بمثل هذا العمل.-، فلم يكن هو، حتى جاء عمر بن عبد العزيز. عمر! واسمه عمر، اسمه كاسمه، يملأ العدل قسطاً وعدلاً وبوجهه شج.

وهو غُلام دخل الإسطبل، ضربته الفرس، شجت وجهه! أبوه كان من الصالحين، أي عبد العزيز بن مروان، كان من الصالحين – رضوان الله عليه -، رجل صالح، من صُلحاء بني أُمية، على قلة الصُلحاء فيهم، لكن هذا هو، أبوه كان من صالحيهم حقيقةً، وهو – ما شاء الله – أصلحهم بلا شك، رضوان الله عليهما وأرضاهما.

قال له يا بُني – خطر له هذا هكذا، وهو رجل أيضاً مُكاشَف – إن كنت أنت الأشج – أي المذكور وكذا وكذا -، إنك لأسعد الناس. إن شاء الله، وكان هو، كان هو! اسمه عمر ومن نسل عمر، لأن عمر زوَّج ابنه عاصم، أليس كذلك؟ زوَّجه من بنت بائعة اللبن، وتعرفون القصة، أرأيتم؟ فقط! لم يقل عمر بن الخطاب، صاحب رسول الله، الفاروق، فاروق الإسلام، وخليفة المُسلِمين، سُلطان الدنيا. انظر إلى التواضع، كان يعس، فإذا بامرأة وابنتها في البيت يتقاولان، قالت الأم لابنتها امذقي اللبن. فقالت لها لا، نهى عنه عمر، كيف نمذق اللبن – أي نضع الماء على اللبن – ثم نبيعه ونغش؟ قالت لها عمر لا يرانا. قالت لها هذا! قالت فإن كان عمر لا يرانا – أي البنت -، فرب عمر يرانا. قال له يا أسلم علّم هذا البنت. وذهب وخطب البنت، انظر إلى سيدنا عمر، يا الله! ما هذا الإنسان العظيم؟ قال له هذه تصلح لأن تكون زوجة لأبني عاصم. وخلَّفت بنتاً اسمها أم عاصم، هذه أم عمر بن عبد العزيز، زوجة مَن؟ عبد العزيز بن مروان. وجاء هذا الرجل الصالح. رؤيا اخترقت حجاب الزمن، شيئ غريب!

القاضي التنوخي له وقائع في كتابه العظيم وهو في مُجلَّدات، عجب! هناك وقائع يرويها القاضي بالأسانيد، أي بأسانيده، وكثير منها وقعت في حياته وكان شاهداً على بعضها. يروي رواية من أغرب ما يكون عن رجل ورث تركة كبيرة من أبيه في بغداد، ثم ضيَّعها ودمَّرها أتلفها بإسرافه، بسرفه! حتى صار لا يجد ما يقوت نفسه ولا أمه إلا من غزل يدها، تغزل المسكينة ويبيع بدُريهمات يسيرة ويأكلان.

قال حتى بِعنا الأبواب. أي أبواب المنزل، أبواب المنزل! حتى مذكور في الرواية والسقف. يبدو أن السقوف كانت تُوضَع من أشياء مُعيَّنة، باعوها وصاروا (على الحديدة). قال حتى فكَّرت في أن أُنهي حياتي. أي أن ينتحر، ذل! وفي يوم من الأيام سنح لي في المنام مَن يقول لي انزل إلى مصر، فإن رزقك بها. وتعرف أن الغريق يتعلَّق بقشة، قال لك والله هذا مُمكِن، أي أن يكون رزقي بمصر. فالمُهِم لم يُكذِّب خبراً، ونزل إلى مصر المسكين، وهو غريب، بغدادي! زيه يختلف، ووضعه يختلف. قال سُدت في وجهي أبواب الطلب. ولا يُوجَد أي مكان يُمكِن أن أشتغل فيه، ولا يُوجَد لا رزق ولا عمل، ولا أي شيئ! قال وذات ليلة وقد برَّح بي الجوع – أضر بي الجوع – فكَّرت أن أستجدي – أي أن أشحذ -، وتمنعني عزة نفسي. وهذا المسكين جائع، قال أشحذ؟ لا، أشحذ أو لا أشحذ؟

قال وبين أنا أمشي في الليل بعد العشاء إذ أخذني الطائف – أي الشُرطي هذا الذي يعس، كانوا يُسمونه الطائف -، قال له تعال. غريب – قال له – أنت؟ قال له نعم، غريب. ماذا تُريد هنا؟ قال له لا أُريد شيئاً أبداً، أنا إنسان ضعيف وكذا. قال لا. فكذَّبني – قال – وبطحني وضربني مقارع. اقرع، اقرع، ضربه! فقال له انتهى، سأصدقك، سأصدقك. قال فخلى عني، قلت له والله يا أخي قصتي كذا كذا كذا. قال له ماذا؟ ما رأيت أحمق منك. أنت شخص أهبل – قال له – بخمس نجوم، ما رأيت أحمق منك! يا أحمق – قال له – أنا لي سنوات أرى في المنام – الرؤيا تتكرَّر، وكأنها شريط سينمائي – مَن يقول لي ائت بغداد، محلة كذا، شارع كذا. قال فذكر محلتي وشارعي، وأنا مُمسِك. الدار الفلانية التي فيها السدرة الفلانية. قال ذكر داري. اقطعها، أثر الأرض تحتها، فإن فيها كنزاً، خُذه فهو لك. طبعاً اعتقلت الدهشة لسانه! قال وأطلقني.

قال مُباشَرةً بت في المسجد إلى الفجر. ومن الفجر عاد إلى بغداد، قطعت السدرة، أثرت الأرض، وإذا فيها قمقم كبير، مليء ذهباً. ما القصة هذه؟ هذه قصة بالإسناد، هذه ليست أساطير، قصة حقيقية، شيئ عجيب! ويحصل أعجب منها على فكرة، يحصل وحصل – والله -، هناك قصص – والله – ما يمنعني منها إلا خوف التكذيب، لأن هناك أُناساً يترصدون، ويُريدون أن يُكذِّبوا فقط، وهذه فتنة للناس، وهي حقيقية مليون في المائة، والله الذي لا إله إلا هو وأنا على منبر رسول الله لهي أعجب من هذه القصة بمرات، ولكن حُرِمتم منها، لن أحكيها، لأن هناك أُناساً قطّاع طريق، قطّاع طريق! يترصَّدون كل شيئ، وللأسف ليسوا من الملاحدة، من المُسلِمين ومن المُوحِّدين، وفي الأخير المآل هو تشكيك الناس حتى في دينهم، و: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩، هدانا الله وإياهم وإياكم وإياكن جميعاً وجمعاوات إلى ما يُحِبه ويرضاه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونُثني عليم الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع مَن يفجرك. اللهم إياك نعبد، ولك نُصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد. نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفّار مُلحق.

صل وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا وقُرة عيوننا النبي العربي الأُمي الهاشمي الخاتم، وعلى آله الطيبين، إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين. اللهم صل عليه في الأولين، وصل عليه في الآخرين، وصل عليه في الملأ الأعلى أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

واهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. اللهم أعطنا حتى تُرضينا، لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلِح لنا شأننا كله، ولا تكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك.

أجِب دعوتنا، وتقبَّل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبِّت حُجتنا، وأظهِر بُرهاننا، وأحسِن خاتمتنا، ويمّن كتابنا، ويسّر حسابنا، وبيّض نواصينا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اهدِنا فيمَن هديت، اللهم: لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ۩، حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

 

(تكملة للخُطبة)

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين.

لعلكم إخواني وأخواتي تذكرون القصة التي حكيتها لكم مرة، وذكرها شرّاح الجامع الصغير، أي المُناوي والعزيزي وغيرهما، وقد وقعت هذه القصة في زمن سُلطان العلماء وشيخ الإسلام العز بن عبد السلام – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.

والقصة باختصار، لأنني حكيتها أكثر من مرةً، أن رجلاً رأى النبي – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – في المنام، والرجل كان فقيراً مُقِلاً، قال له الرسول يا فلان ائت المكان الفلاني، الشجرة الفلانية – أو الكذائية -، انبش تحتها، ستجد كنزاً دفيناً، خُذه، فهو لك، ولا تُخرِج زكاته. النبي قال له هذا، وطبعاً ثابت في الصحاح مَن رآني في المنام، فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتكونني. فإن الشيطان لا يتزايا بي. فإن الشيطان لا يتمثَّل بي. ألفاظ كلها بمعنى واحد، حقاً! النبي قال حقاً. أي رؤيا حق، حقاً! وكل مَن رأى النبي يعلم أن رؤيا النبي حق، وخاصة إذا كان فيها مُبشّرات مُعيَّنة، أو النبي – مثلاً – تلا عليه وشُفيَ من مرضه في ساعته. قصص كثيرة جداً في الشفاء – قديمة وحديثة – بلمسة رسول الله، كثيرة جداً – بفضل الله عز وجل -، وهذه قصة عجيبة.

استفاق الرجل، ذهب إلى الشجرة، نبش وحفر تحتها، وفعلاً وجد ماذا؟ هذا الكنز. أخذه ولكن ضميره لم يطمئن، أي قال أنا الله – عز وجل – موَّلني هذا المال كله، وأنعم علىّ بهذه النعمة الجزيلة، ولا أُخرِج الزكاة؟ مع أن النبي قال له لا تُخرِج الزكاة. ورع – عنده نور من الورع – وشكور لنعمة الله.

فذهب يستفتي العلماء، فقالوا له لا، لا تُخرِج زكاته، الذي أخبرك بهذا الشيئ وهو مُغيَّب عنك وعن غيب – لا يعلمه إلا الله – هو الذي أخبرك ألا تُخرِج زكاته، فمَن صدق في الأولى، فليُصدَّق في الثانية. الرجل استراح، العلماء أفتوا بهذا، والكلام وجيه، كلامهم كلام وجيه!

ذاع الخبر، ذاع الخبر في دمشق، حتى وصل إلى مسامع سُلطان العلماء العز بن عبد السلام، ويا له من فقيه! إمام، إمام كبير هذا، ليس عالماً عادياً، إمام كبير مُتفنِّن، الله فتح عليه. قال لا، أخطأوا الفتوى. خطّأهم! لماذا يا شيخنا؟ قال هذه الرؤيا للمعصوم – عليه الصلاة وأفضل السلام – في المنام بمثابة ماذا؟ أي في أقصى تقدير لها ستكون ماذا؟ أقصى تقدير؟ بمثابة اجتماع حقيقي برسول الله. لنفترض أن هذا الرجل فعلاً سمع هذا من رسول الله بأُذنيه. قالوا نعم. قال هذا خبر واحد، هذا خبر واحد! سنعد هذا الرجل صحابياً، والصحابي يروي حديثاً عن رسول الله، لم يروه أحد غيره. أليس كذلك؟ معناها ماذا؟ هذا حديث آحاد.

هذا الآحادي عارضته أخبار مشهورة، رواها أكثر من صحابي وفي اليقظة، تقول في الركاز الخُمس، وهذا ركاز، هذا ركاز! فأُعجِبوا جداً، أي من هذه الفطانة ومن هذه اللوذعية الفقهية، وقالوا نعم، كلامك هو الصحيح، وكلامنا غالط. وأخرج الرجل خُمس الكنز. نعم!

هناك صحافي مصري مشهور، وهو كاتب اسمه سعيد إسماعيل، يذكر في أحد كُتبه عن زميل له – صحافي آخر أيضاً – أنه قال له يا سعيد أنا حصل معي شيئ عجيب. ما هو؟ قال له رؤيا تُراوضني في منامي ثلاث سنوات مُتوالية. كل فترة وفترة تأتيني، مكرورة، كما هي! تُذهِلني، تُفزِعني، أستفيق وأنا مُتعرِّق لكي أتنفس الصُعداء، باستفاقتي منها. قال له ماذا ترى؟ قال أرى كأنني في صحراء (صحراء مُدوية)، وأنا أسير في هذه الصحراء ينتهي بي خطوي ونُقلي إلى مكان مهجور، إلى مكان مهجور! لا يسكنه أحدٌ، ومُتداعٍ، فأدخل… وبدأ يصف لسعيد إسماعيل بدقة ما الذي رآه.

قال هناك ممرات صغيرة مُغلَقة، تُنفِّد بعد ذلك إلى غُرف، أحياناً سقوفها غير موجودة، الحوائط نفسها مُتداعية، بعضها موجود وبعضها غير موجود، ثم نفَّدت بعد ذلك إلى غُرف أُخرى أصغر، مُغلَقة تماماً وفي سقوفها كُوة – أي نافذة – إلى السماء، يدخل منها الضياء والهواء. قال له ونفس الرؤيا تتكرَّر. قال له وتُزعِجني. قال له نعم. قال له حتى كان بعد ثلاث سنوات ولأول مرة يُقدَّر لي أن أزور الجزائر الشقيقة – حفظ الله كل بلادنا العربية والمُسلِمة، وبارك أهلها وساكنيها -. قال له نعم. قال له لأول مرة مع مجموعة صحافية أذهب إلى هناك لنُغطي مُؤتمراً سياسياً، غطينا المُؤتمَر وبعد ثلاثة أيام الحكومة أخذت هذه المجموعة من الصحافيين الأجانب – مصريين وغير مصريين – في جولة سياحية في الأمكان الأثرية حول الجزائر العاصمة، حول العاصمة! أربعين كيلومترا فقط.

قال كنا في باص Bus – أي أوتوبيس – مُكيَّف، ولما نزلنا منه – قال العجيب هنا – وجدت المكان الذي كنت أراه، بالضبط هو هذا المكان، هذه الصحراء وهذه الواجهة. هُرِع، ترك الدليل، وهم يزعقون عليه، ترك كل هذا، لأنه يعرف هذا المكان تماماً، ودخل يمشي كما كان يمشي في النوم، يعرف كل هذا المكان، زاره في المنام من ثلاث سنوات، وهذه أول مرة يزور فيها الجزائر، أول مرة في حياته!

قال وكان أكبر همي أن أنتهي إلى الغُرف الصغيرة التي فيها الكوة – أي النافذة -. هل موجودة؟ وهل موجودة هذه الكوة؟ قال والله كما هي، تماماً! نفس الكوة ومفتوحة. ما هذا؟ قالوا هذا سجن مهجور، سجن كان للمُجرِمين وللمساجين، وهُجِر. قال بعد ذلك لمك تعد هذه الرؤيا تسنح لي في المنام. انتهت! ما هذا؟ عمل الروح، تستبق الأحداث، تمخر في الزمان، تمخر في الزمان! نعم.

سأُحدِّثكم بقصة مُؤثِّرة جداً، ذكرتها مرة واحدة على المنبر، وهذه القصة أعرفها مُباشَرةً، أي مِمَن وقعت له، هو حدَّث بها أمي، وأمي حدَّثتني بها، واليوم اقتصصتها إياها مرة أُخرى، حتى أتأكَّد من تفاصيلها. مع أنني حدَّثتكم بها على المنبر قبل ربما أكثر من بضع عشرة سنة، مُؤثِّرة جداً! وقعت لدينا هذه، أي في بلادنا هناك، ولن نذكر أسماء حتى نستر، لأن طبعاً الستر واجب على الناس، لكن هذا حدث في بلادنا، حولنا!

تزوَّجت امرأة من رجل فاضل طيب، يكف شره عن الناس، في نفسه، يعمل مُوظَّفاً في مُؤسَّسة مُعيَّنة، إنسان طيب ومُثقَّف، كان مُثقَّفاً! سُبحان الله، زوجة أخيها – أي زوجة أخي العروس – يبدو أنها تغار منها، مُعقَّدة، امرأة فاجرة مُجرِمة، في صباحية العُرس تأتي لأخيها – أي لأخي العروس -، وتقول له أختك ليست عذراء. ماذا؟ قالت له ليست عذراء، فضيحة! جلبت لكم العار.

هذا الشقي من غير أن يستفصل ومن غير أن يسأل مُباشَرةً يذهب يأخذ أخته معه إلى البيت ويذبحها، سلفتها – سلفتها هي مَن؟ زوجة أخي زوجها – تُقسِم بالله أن المرأة كانت عذراء، وأنهم رأوا آثار العُذرية بشكل واضح، أي الدماء. تبكي وتقول ذبحوها وهتكوا عرضها – أي هذه المسكينة المصونة -، وتُقسِم بالله أنها عذراء وأن الدماء كانت كثيرة أيضاً.

ما الذي حصل؟ في غضون شهر واحد حصل الآتي، هذا في غضون شهر واحد! ومَن التي حدَّثت أمي؟ التي حدَّثت أمي – كما قلت لكم – سلفتها، هي التي حدَّثت أمي، قالت لها يا أم فلان في غضون شهر حصل هذا. أتت في المنام – أي الشهيدة المسكينة المغدورة، رؤيت في المنام – وبيدها مقشة من سعف النخيل. يُسمونه عندنا الجنو، أي القنو، نقولها وهي كلمة قرآنية، أي قِنْوَانٌ ۩، قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ ۩، أتت في المنام وبيدها قنو، أي مقشة، تكنس بها بيت أخيها. هذا أخوها الذي قتلها وزوجته، وعنده أولاد (مجموعة أولاد). تكنس، تكنس، تكنس، تكنس… كنست كل شيئ، شيئ مُؤثِّر جداً، أُقسِم بالله!

في أقل من شهرين مات أخوها، ماتت زوجته، ومات كل أولادهما. هذا عندنا في مُعسكرنا، أي هم جيراننا، وهذا كله من أهل القصة. آمنت بأنه لا إله إلا الله، آمنت بأن هناك رباً موجود، وأن هناك عدلاً، وأن هناك ميزاناً، وأن هناك قسطاساً، وفي بعض المرات يُعجَّل في الدنيا.

أي أنتم انتهكتم عِرضها، قذفتموها ظُلماً، وقتلتموها يا أشقياء! الله عاقب الأسرة هذه عن آخرها، لم يبق أحد، شيئ مُحزِن ومُبكٍ، مُبكٍ! تخيَّل أنك تمر بالدار التي كان فيها ربما سبعة أنفار أو ثمانية أنفار بعد شهرين، وليس في الدار من ديّار، أين ذهبوا؟ ماتوا، أخذهم الموتان، والموتان هو الموت الكثير السريع، هذا يموت وهذا يموت وهذا يموت… يُسمونه الموتان، أخذهم الموتان بهذا الظُلم. والرؤيا جاءت مُنذِرة، ستُكنسون، ما هذا؟ رؤيا عجيبة، اجعل أكبر مادي يُفسِّر لي هذا، اجعله يقول لي عذاب الضمير قتلهم. يا ما شاء الله! عذاب الضمير قتل أخاها، عذاب الضمير قتل مَن؟ المُجرِمة زوجة أخيها. وماذا عن الأطفال؟ لا يُمكِن هذا، كنس كامل، شيئ مُؤثِّر!

ولذلك يا إخواني حذاري، حذاري من ظُلم الناس، حذاري من الكلام في الناس، وليس حتى في الأعراض فقط. إياك أن تتكلَّم في أي بشر بما يسوءه وبما يشينه، كف لسانك عن الناس، وليس الناس الذين تعرفهم فقط، الكل! كل الناس، ما علاقتك بهم؟ ما علاقتك؟ مأخوذ عليك في لسانك، تهلك وتدخل جهنم بسبب اللسان؟ إياك!

ووالله ووالله لن تستفيد من صلاتك، من قرآنك، من صومك، من عبادتك، ومن ذكرك بالله، ما دام قلبك مُلطَّخاً ولسانك مُرسَلاً، والله لن تستفيد، بمعنى لن تشعر بلذة العبادة، بلذة الذكر، بالكشف، وبالعطاء. لا! لن يحصل لك، ما رأيك؟ ولو عبدت مائة سنة، ولكن طهِّر نفسك من كل الذنوب ظاهراً وباطناً، واعبد على هذا الأساس، ثم انظر كيف سيكون الوضع، ستختلف كل أحوالك – بإذن الله تعالى -، وستبدأ ترى الدين، وستقول هذا هو الدين الذي لم أكن أعيشه، هذا هو الدين. وستقول جزى الله مَن صدنا عنه ولم يُعلِّمنا هذا الدين بهذه الطريقة، جزى الله مَن سهَّل لنا الكلام في الناس وهتك أعراض الناس والنيل من الناس والحقد على الناس وسب الناس وشتم الناس وإيذاء الناس. باسم ماذا قال؟ الدفاع عن الإسلام، والدفاع عن قضايا الإسلام. كله كذب، وكلها أحقاد ونفوس مريضة، نسأل الله أن يُطهِّرنا، هذا هو.

تذكر قصة – لنا أذكرها، موجودة وبعض الناس تكلَّم في إسنادها – أدرك المُحمَّدين، وبالذات رأسهم محمد بن جرير الطبري، قصة محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن خُزيمة، ومحمد بن أسلم الطوسي – بحمد الله ذكرتهم -. اذهب وابحث عنها في النت Net، أدرك المُحمَّدين. قد يقول لك أحدهم نعم، تكلَّم بعضهم في إسنادها. يا سيدي اتفق مثلها بل أمثالها لمُعاصِرين أحياء وأموات في هذا العصر الحديث، من ضمنها قصة يحكيها إمام المسجد الأموي، الرجل الصالح – أحسبه كذلك، والله حسيبه – البكّاء الذي يُذكِّرك بالله، الشيخ فوّاز النمر، والله! ولحن صوته – سُبحان الله – فيه خشوع وفيه صدق، الشيخ فوّاز النمر – حفظه الله تعالى – قالها، والشيخ لا يزال حياً – ما شاء الله – ويُدرِّس في الأموي، من أروع الناس، صوت طيب، وبكّاء، بكّاء، لا يكاد يذكر الله أو رسوله أو الدار الآخرة، إلا ويظل يبكي، يبكي ويبكي. شيئ عجيب هذا الرجل، لطيف وصادق وجميل، وهو عالم، من أهل العلم حقيقةً.

هذه القصة أعتقد أنه يحكيها كذلك، أي أنا لم أتحقق منها في هذه الأيام، لكن سمعتها منه طبعاً، وهي في اليوتيوب YouTube، يحكيها عن أمين فتوى بيروت، كان عالماً صالحاً ومُقِلاً زاهداً، يعيش في بيت بالأُجرة، وفي يوم من الأيام يأتي صاحب البيت ويقول له اخرج من البيت، أنا أُريده وأحتاجه. قال له حاضر، ولكن أمهلني شهراً. قال له أمهلتك. وليس عنده شيئ هذا المسكين، ليس عنده طبعاً نقود لكي يشتري بها بيتاً. انس! والآن حتى يُسعِده الله أن يكتري بيتاً آخر، ستكون هذه أيضاً مسألة صعبة.

قبل أن ينتهي الشهر بيوم واحد – بقيَ يوم واحد فقط – طُرِق عليه البيت، السلام عليكم ورحمة الله، أنت الشيخ فلان الفلاني؟ قال نعم، أنا يا أخي، مَن أنت؟ قال له أنا فلان الفلاني. رجل تاجر غني من بغداد، يا الله! وإذا يسَّر الله أُناساً لسعيد، فهم السُعداء كما قال البُصيري. يا الله! أي هذا ليس من بيروت، ليس من الشام، وليس من مكان قريب، من بغداد، لأن هذه أقدار، وهذه أرزاق. الله يُكرِم العباد بعضهم ببعض، ويرزق بعضهم من بعض، ويُعلي مقام بعضهم ببعض. أرزاق! ويا (نيالك) يا فاعل الخير – أي هنيئاً لك -، أليس كذلك؟ وأنت سعيد، إذا الله جعل سعادة السعداء على يديك وكرامة السعداء على يديك، لأنهم سعداء، هم رجال الله، وهذا كان رجلاً صالحاً، أي أمين الفتوى.

فقال له أنا فلان الفلاني يا أخي، وأُريد ان أشتري لك بيتاً. ماذا؟ ليس أن يُعطيه فلوسا وكذا! أشتري لك بيتاً. بيت كامل، بيت! وليس بيتاً صغيراً، بيتاً وسيعاً. يقول الشيخ فوّاز بيت وسيعاً، ما شاء الله! يتسع لعائلة كبيرة. قال له اذهب إلى بيروت وسأذهب معك، اختر أي بيت تُريده، أوسع بيت وأجمل بيت أنا سأدفع الثمن حقه وهو لك. يا أخي لماذا – قال له -؟ وكذا! قال له ليس بيدي. فما قصتك؟ قال له رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – أتاني في المنام، يا فلان – قال لي – اذهب إلى بيروت، وأدرِك عبد الله، الرجل الصالح فلان الفلاني، قصته كيت كيت كيت، اشتر له بيتاً. قال له حاضر، على عيني يا رسول الله، على عيني يا رسول الله.

وجاء وفعل له هذا، ما رأيكم؟ قصة حديثة تماماً، ولعل أصحابها لا يزالون في قيد الحياة – إن شاء الله تعالى -، باركهم الله جميعاً. وهناك قصص أعجب من هذا بكثير – كما قلت لكم -، ولكن خوف الإنكار وخوف التشغيب يمنعنا، أعجب بكثير، بكثير!

ولذلك أنت لا تقف حتى مع القصص والحواديت، فقط اتق الله في نفسك، وأحسِن فيما بينك وبين الله، لتر العجائب. أنت ستصير عجيبة، ولا تتحدَّث، إلا إذا أُذِن لك ومع أُناس تُحِبهم، أي من أهل ودك، لأن كل ذي نعمة محسود. ما رأيكم؟ والله العظيم! بعض الناس يحسدك حتى على نعمة الإيمان، أي أنت ترى ونحن لا نرى؟ حين تقول له رأيت الرسول، يقول لك هل أنت مُتأكِّد أنك رأيته؟ أي هل هو هو؟ أنت؟ أي كأنه يقول لك أنت رأيته؟ أي مثلك؟ والعياذ بالله، والعياذ بالله! بدل أن يبكي على نفسه ويقول ويلٌ لي، تُف علىّ – أي هذا البعيد -، لم أره أنا، أكيد أنا (مخربط)، أكيد أنا خربت علاقتي مع الله. لا! أنت رأيته؟ مُتأكِّد؟ أي هل هو هو؟ ولحيته كانت كذا وكذا؟ سُبحان الله، نفوس عجيبة، أبعدهم الله عنا.

كان أحد الصالحين، وكان لطيفاً وكان من أولياء الله، إذا اجتهد في أن يدعو لك، يقول لا سلَّط الله عليك حماراً. لأن هناك أُناساً أشباه البهائم، يظن الواحد منهم أنه فاهم كثيراً، وهو شبه بهيمة، لا إيمان، لا ذكاء، لا نفس حتى صافية، فاقد لكل شيئ! هؤلاء صعب التعامل معهم، إذا الله ابتلاك بهم، فسيكون هذا صعبا جدا.

ونعود الآن إلى بعض الوقائع من تراث الغربيين، من أجل مَن؟ الذين عندهم عُقدة الغربيين. كل هذا لا يهم الواحد منهم، لا! الرسول وفلان والشيخ ومَن هذا وكذا وكذا، وحين تقول له قال الغربيون، يقول لك نعم، مضبوط، هذا يعني أن الحكاية صحيحة. للأسف، للأسف!

تعرفون الشاعر الإيطالي الكبير دانتي أليغييري Dante Alighieri، صاحب ماذا؟ الكوميديا الإلهية، أي الــ Divine Comedy هذه، الكوميديا الإلهية! لما تُوفيَ دانتي أليغييري Dante Alighieri فوجئ أهله طبعاً وأصدقاؤه وأتباعه بنقصان جُزء الفردوس، وقد صار عنده شبه مدرسية روحية وأسرارية أصلاً، أي هذا حتى الآن وله أتباعه وكذا، قصة كبيرة! ليس أنه مُجرَّد شاعر وعمل أشياء، وعنده الثُلاثية هذه الخاصة به: المطهر، والجحيم، والــ Paradise أو الجنة. ففؤجئوا أن الجُزء الثالث وهو الجنة أو الفردوس ناقص آخره، القصائد ناقصة، ثلاث عشرة قصيدة مبتورة، فظنوا أن الموت أعجله عن ماذا؟ عن إتمامها. قالوا يُمكِن أن يكون قد مات ولم يُكمِلها، ولكن لا، قد يكون هذا حصل.

المُهِم أنهم أرادوا من ابنيه – أرادوا هذا من ابنيه، عنده واحد اسمه جاكوبو Jacopo، والثاني اسمه بيترو Pietro – إتمام هذا، يا جاكوبو Jacopo ويا بيترو Pietro أنتما أولاد الشاعر، وأنتما عندكم أيضاً ماذا؟ صنعة الشعر. أكمِلا! ولكن كيف هذا؟ جاكوبو Jacopo وبيترو Pietro دون أبيهما بمراحل، وهو كان شاعراً لوذعياً، أي دانتي Dante، وهذه طبعاً كلها قصائد شعرية، كلها قصائد شعرية هذه، ليست نثرية، وهي التي ترجمها المرحوم حسن عُثمان – رحمه الله -، أحسن ترجمة عربية للمصري حسن عُثمان، أي الكوميديا الإلهية بأجزائها الثلاثة.

فالمُهِم لم يتم الأمر، لماذا إذن؟ لأن جاكوبو Jacopo هذا أتاه أبوه في المنام، أتاه مَن؟ أبوه دانتي Dante في المنام. ولم يُكذِّب خبراً، عند الفجر – الدنيا لا تزال فجراً – يلبس (أواعيه) – أي ملابسه – في البرد، ويذهب إلى مَن؟ يذهب إلى صديق قديم لأبيه، اسمه بيير جاردينو Pier Giardino، بيير جاردينو Pier Giardino، هكذا اسمه جاردينو Giardino، أي يُمكِن أن يكون هذا من الجاردينا Gardena، الليبيون يُسمونها حتى بالإيطالي الجاردينا Gardena، بيير جاردينو Pier Giardino صديق قديم لأبيه، طرق عليه الباب في الفجر، خرج هذا وقد استيقظ، ما الأمر؟ قال له، قال له خير، خير. وهذا كان مُعتنياً أيضاً بالأمر. اسمح لي – قال له – أن أدخل. لبس لباسه هذا – لأنه كان يرتدي لباس النوم – وقال له أين ستدخل؟ قال له الغُرفة الفلانية. دخل الغُرفة الفلانية، وقال له هذه السجادة بالضبط. رآها في المنام! دانتي Dante جاءه في المنام وأخبره! أخذ يد ابنه جاكوبو Jacopo وذهب إلى دار صديقه القديم، وأراه مكان القصائد، أي أنه كتبها، شيئ غريب، ولا يعلم بها أحد.

قال له ارفع. رفع ووجد الكوة، قال له هذه الكوة بالضبط، هذه رأيتها في المنام. كوة! وجد عند الكوة لفائف أضرت بها الرطوبة، أصلحوها، وإذا بها القصائد الثلاث عشرة الناقصة، وأُكمِلت الــ Paradiso بالرؤيا. مَن التي أتت هذه؟ الروح العارفة، وكيف أرشدت؟ لا تقل لي غير هذا، لا يُمكِن، هنا لا مكان للمادة، تنتهي كل قوانين المادة، هنا يُوجَد شيئ أو عُنصر غيبي، عنده نوع إحاطة بأحداث – كما قلنا -، لا تتأثَّر لا بالزمان ولا بالمكان.

تعرفون مارك توين Mark Twain، الروائي والقصّاص الأمريكي صاحب الدم الخفيف، وللأسف كان مُلحِداً، للأسف! أي أستغرب، اسمه مارك توين Mark Twain، وطبعاً هذا اسمه الاستعاري، استعار هذا الاسم، اسمه الحقيقي سام كليمنس Sam Clemens، سام كليمنس Sam Clemens!

سام كليمنس Sam Clemens هذا – الذي سيصير مارك توين Mark Twain طبعاً، الأديب العالمي، فخر! تفتخر به أمريكا – كان عمره ثلاث وعشرين سنة، فقط ثلاث وعشرين سنة! ويشتغل مُتدرِّباً على باخرة، اسمها بنسلفانيا Pennsylvania، باخرة اسمها بنسلفانيا Pennsylvania، وأخوه هنري Henry يشتغل معه على الباخرة ذاتها.

ذات ليلة وهو نائم رأى كأن تابوتاً حديدياً مُلقىً على كُرسيين، مُلقىً على كُرسيين! جميل، وفوق التابوت باقة أزهار بيضاء، وفي وسطها – أي في الوسط – واحدة حمراء. قال لك رؤيا، أضغاث أحلام! فزع قليلاً لأن هناك تابوتاً وما إلى ذلك، ولكن ما الذي يحصل؟

بعد أيام من هذه الرؤيا يختلف سام كليمنس Sam Clemens – وهو مارك توين Mark Twain – مع ربان السفينة – الربان هو الرئيس، أي الشيف Chief الكبير -، يختلف معه، فيطرده من السفينة، السفينة هذه أو الباخرة بنسلفانيا Pennsylvania، ويذهب إلى لاسي Lacey، سفينة أُخرى اسمها لاسي Lacey، ويبقى أخوه هنري Henry على ماذا؟ على بنسلفانيا Pennsylvani.

تنطلق في رحلتها، وقبل أن تصل إلى محطتها الأخيرة ممفيس Memphis – مدينة ممفيس Memphis، مُسماة على مدينة في مصر – تنفجر، دُمِّرت بالكامل والضحايا مائة وخمسون، الضحايا مائة وخمسون! سمع سام كليمنس Sam Clemens – أي مارك توين Mark Twain، وهو مَن يحكيها، أي القصة هذه، هنا لا تقل لي لا الشيوخ ولا غيرهم. هذا رجل أديب، ومُلحِد أيضاً، قال لك هذا الذي صار معي وأنا شاب، إذن فكِّر في دلالة ما صار معك يا أخي؟ اذهب إلى آخر الشوط، حاول أن تفهم ما الذي صار معك أنت، ما هذا؟ وما دلالته؟ -، فذهب إلى المشفى، فوجد أخاه هنري Henry فاقداً للوعي، لم يمت، ولكنه مُصاب بحروق شديدة، مع ستة آخرين في نفس الغُرفة، مُستشفى مُتواضِع بسيط وليس فيه كل التجهيزات.

ستة أيام تقريباً لم يذق غمضاً، يُحِب أخاه، هو قريب منه في السن ويُحِبه جداً، لم يكد ينام، كان يقعد ليل نهار عند أخيه، وأخوه في الغيبوبة، وفي اليوم السادس مات، أي أخوه، فلما مات، انتهى الأمر، يئس! واليأس إحدى الراحتين كما يُقال. غرق في نوم طويل – يُمكِن أن يكون نام ساعة أو ساعتين – وعميق، مسكين! لم ينم ستة أيام، ثم استفاق، ذهب ليرى جُثة أخيه، وليجهزها بعد ذلك، فيأخذها وينقلها وكذا.

قال لما دخلت إلى الغُرفة فوجئت، التابوت الحديدي الذي رأيته في المنام قبل أيام، مُلقى على كُرسيين. قال نفس التفاصيل التي رأيتها في المنام، نظرت وإذا بأخي هنري Henry في التابوت، فجلست. هناك تفصيل واحد ناقص، قال لم تمر دقائق إلا وتفتح الباب امرأة عجوز، بيدها باقة زهور، تضعها فوق التابوت، نظرت، فإذا بالزهور بيضاء، وفي الوسط واحدة حمراء. اكتمل آخر تفصيل! وهو مَن حكى القصة هذه بنفسه، كيف؟ مَن الذي رأى؟ وكيف رأى قبل أيام من موت أخيه؟ ما القصة هنا؟ قال لك مادة والسببية والنتيجة و… هذا غير موجود هنا، ها هو رأى النتيجة قبل ماذا؟ وقوع السبب. أليس كذلك؟ رأى النتائج قبل وقوع السبب!

والنبي ليلة المعراج أُدخِل أو رأى أهل الجنة، أليس كذلك؟ ورأى أهل النار. ويُقال لك كيف؟ هذا هو، ها هو يحصل، في الدنيا يحصل هذا، أليس كذلك؟ في الدنيا يحصل هذا ومع كفّار وملاحدة، مع كفّار وملاحدة!

هناك قضية أُخرى، من المُؤكد أنكم تعرفون الفيلسوف البراجماتي – وهو تقريباً المُؤسِّس الحقيقي للفلسفة البراجماتية – ويليام جيمس William James، ويليام جيمس William James أحد مُؤسِّسي علم النفس التجريبي، عنده كتاب ضخم في علم النفس، وهو أحد الأعمدة المُؤسِّسين لعلم النفس التجريبي الحديث، ويليام جيمس William James الأمريكي معروف، معروف جداً! وعنده كتاب مُهِم، ولكن طبعاً نماذجه مادية في مُعظَمها، اسمه ألوان من الخبرة الدينية، وهذا استفدت منه كثيراً، كتاب بالإنجليزية مُهِم، ولم يُترجَم للأسف. المُهِم أن ويليام جيمس William James هو مَن تابع بنفسه هذه القضية، وأخذ إفادات وتقارير من كل أبطالها، وعلَّق عليها في الأخير بتعليق نُشِر في المجلات الأمريكية الشهيرة، لأنه ويليام جيمس William James، أكبر فيلسوف في أمريكا، وعالم كبير في علم النفس، مُؤسِّس!

ما القضية؟ القضية أن في أواخر شهر أكتوبر من عام ألف وثمانمائة وثمانية وتسعين خرجت سيدة من بيتها واختفت، وذلك في مدينة صغيرة هناك في أمريكا، اختفت لمُدة يوم ثم يومين ثم ثلاثة أيام، أُطِلق طبعاً جرس البحث عنها، بدأت الفرق المُتخصِّصة في البجث، والفلّاحون أيضاً كانوا يبحثون. ابحث، ابحث هنا وهنا وهنا وهنا، وكانت هناك بُحيرة، وكانت هناك شاهدة وحيدة، قالت كأنني رأيت فتاة ومعها واحد، فمن المُمكِن أن تكون هي ومن المُمكِن ألا تكون هي. ذهبوا إلى البُحيرة، وأتوا بغواص ماهر، غاص في البحيرة هنا وهنا وهنا، ولم يجد أي أثر.

هناك سيدة تعيش على مبعدة ستة كيلومترات تقريبا من المكان الذي سيُعثَر فيه على الجثة، اسمها السيدة تيتوس، هكذا ذكرها ويليام جيمس William James، قال السيدة تيتوس. كانت نائمة هكذا على كرسي هزاز، زوجها أيقظها، قالت له سامحك الله، غفر الله لك، لماذا أيقظتني؟ قال لها ما الأمر؟ يُمكِن أن نقعد ونشرب وكذا عند الظهر. قالت له لو تركتني لأخبرتك أين الجُثة، كنت بصدد أنا أعرف. هي تعرف من نفسها أن عندها الشفّافية هذه، وأنها حين تنام ترى هذه الأشياء، قال لها توكلي.

في الليل سمعها تتكلَّم، وهي تتكلَّم وهي نائمة، تُعطي إرشادات، تقول لا ليس هنا، في اليمين، في الشمال، في كذا، وفي كذا. ولما قامت قال لها يا فلانة أنتِ في الليل قلت كذا؟ قالت له نعم والله، هذا صحيح، ذكَّرتني. قال لها وقلتِ كذا؟ قالت له صحيح. في الليلة الثانية نفس الشيئ تكرَّر، وكذلك في الليلة الثالثة. بعد ذلك لم تُكذِّب خبراً، قالت لا، انتهى. فذهبوا إلى الرجل الذي يتولى النفقة – وهو كان رجلاً تاجراً – في البحث عن السيدة هذه، فقالت له هذا ما حصل. قال على بركة الله، نأتي بالغواص.

أتوا بفرقة كذا وأتوا بالغواص هذا، قالت له أنا بحسب ما رأيت في المنام هي في البُحيرة الفلانية. وهذه تبعد عن بيتها مسافة ستة كيلومترات، الغواص غضب، قال لها أنا كنت هنا. قالت له لا، أنت كنت هنا وهنا – وكل هذا رأيته في المنام -، لم تكن هناك، هي هناك، ابحث عنها، وستجد جُثمانها، وستجد أول ما تجد طاقيتها الحمراء وزوج حذائيها. ماذا؟ ما هذا؟ مجنونة هذه، ذهب وغاص، أوه! بعد قليل صوت الجماهير كان يعلو، القبعة الحمراء رمى بها، وبفردتي الحذاء كذلك، شيئ لا يُصدَّق، كما قالت بالضبط! ثم عاد على بُعد ثمانية عشر قدماً – أي حوالي ستة أمتار – في العُمق، ثم استخرجوا الجُثة.

ويليام جيمس William James طبعاً شك، لأن هذه العجوز قد تكون مُتورِّطة في أي شيئ، تحقيقات واستخبارات وشرطة ومن جميع الجهات، أبداً ليس لها علاقة. قال لك نحن بعد كل التحقيقات وأخذ الإفادات الشُرطية والتحقيقية والنفسية أبداً ليس لدينا – قال هذا – إمكانية لتفسير قدرة هذه المرأة العجوز التي تبعد ستة كيلومترات عن مكان الجُثة على أن ترى ما رأت، يبدو أن كل ما في الأمر أنها تتمتع بقدرة خارقة للطبيعة. أي Supernatural power، قدرة خارقة للطبيعة، أي قدرة غير مادية، تخرق قوانين المادة، عالمك مفتوح سببياً، هذا معناها! أليس كذلك؟ هم لا يُحِبون ان يُواجِهوا النتائج. لا تقل لي قدرة خارقة للطبيعة. مُشتبِهة الكلمة هذه، ما معناها إذن؟ أن عالمنا مفتوح سببياً، أي هناك مجال لكي يتدخَّل فيه ماذا؟ الغيب. أليس كذلك؟ وهذا معناه أن هناك مجالاً للمُعجِزات، للكرامات، لخوارق العادات، لنشاطات الروح. انس غير هذا، ولكن هم لا يُحِبون هذه اللُغة بالمرة، العلماء الماديون والملّاحدة يُجننهم أن تقول لهم هناك خوارق ومُعجِزات وكرامات. هل سترجعنا إلى الأنبياء – سيقول لك أحدهم – والدين وما إلى ذلك؟ لا نُريد هذا. لا يُريدون! ما هذا؟ (على خاطرك) هذا – أي هل هذا مُتوقف على مزاجك -؟

إذا هناك دين فيه عيوب بسبب أهله. أي بعض المُتدينين معيبون، نصّابون، ودجّالون حتى هم شهوانيون، ومُجرِمون، موجودون! هؤلاء قطعاً موجودون في اليهود وفي النصارى وفي المُسلِمين، فهذا لا يعني أن الدين غلط، والحكيم – أي إنسان حكيم – لا يُلقي الرضيع مع ماذا؟ مع ثياب غسيله. كما يقول المثل الفرنسي، أنت الآن حين يتوسَّخ ابنك الصغير ويُوسِّخ نفسه من الأعلى إلى الأسفل – هو صغير، عمره شهران -، هل ترميه؟ هل ترمي أنت الصغير مع وساخته؟ لا، ترمي الوساخة، وتأتي بالصغير وتُنظِّفه، أليس كذلك؟ وأنا أفعل ذلك حين أحد أن هناك أُناسا وسَّخوا الدين، وطبعاً هم من أهل الدين، وكل دين فيه أُناس وسَّخوا الدين الخاص بهم، كما يحصل الآن مع الإسلام، الإسلام الآن في اللحظة هذه أكثر مَن يُوسِّخه بصراحة المُسلِمون أنفسهم، هل أرمي الدين كله وأكفر به؟ حاشا لله، بالعكس!

أفعل هذا بالعقل النقدي، الذي أُنكِر به وأشجب به أفعال هؤلاء، العقل نفسه هذا سأستخدمه لكي أُقدِّر ماذا؟ حقائق الدين الجوهرية والصحيحة والطيبة والكريمة، ولا أحرم نفسي منها ولا أحرم العالم منها، وإلا سأكون أنا إنساناً أحمق ومُجرِماً، أليس كذلك؟ يا أخي العلم نفسه – هذا العلم نفسه – عنده الجانب المُضيء، والجانب ماذا؟ المُعتِم جداً جداً جداً جداً جداً. فمَن ينسى هيروشيما وناجازاكي؟ مَن ينسى الحروب نفسها والأسلحة التي صنعها العلم ودمَّر بها البشرية ودمَّر الناس وقتل مئات الملايين المساكين بغير ذنب؟ وهذه حروب شاملة على فكرة، الحروب الشاملة الحقيقية عادت للبشرية في القرن العشرين، مُدن كاملة تُباد وتُحطَّم وتُدمَّر، مدنيون! لماذا يا أخي؟ حرب شاملة، كما حصل في ألمانيا، وخاصة دريسدن Dresden في الحرب العالمية الثانية، إجرام هذا، العلم! قال لك العلم، والصواريخ، والذري، وكذا. العلم! وبعد ذلك هناك اليوجينيكس Eugenics والتعقيم الإجباري، وهذا لم يحصل فقط في ألمانيا النازية الهتلرية، هذا حصل في أمريكا أيضاً، وفي دول شمال أوروبية مُحترَمة، لو فتحت هذا الملف – إن شاء الله في مرة نأتي ونتحدَّث عنه في مُحاضَرة – ستشعر بالخزي، خزي! وهذه حصل في أمريكا بالذات أيضاً، فانتبه، فأكثر مَن تورَّط في تعقيم الناس إجبارياً وإنهاء نسلهم وإنهاء حياتهم الإخصابية الأمريكان والنازيون، ويدّعون أنها جريمة النازي فقط، النازي عمل هذا، وأنتم أيضاً عملتم هذا، وبالنفس القدر للأسف الشديد، وبنفس الوساخة. علم! والذين كانوا وراء هذا علماء، وعلماء كبار، علماء كبار ثقات للأسف الشديد، هل نكفر بالعلم، ونقول العلم خزي، العلم كذا؟ لا، أبداً، أبداً! نُميِّز، أليس كذلك؟

وهكذا العاقل الحكيم المُنصِف طالب نور الحقائق، يُميِّز بين الخاثر والزباد، بين الصحيح والفاسد، بين الدُر والبعر. أليس كذلك؟ لو كان عندك دُرة واحدة بين مجموعة بعر، هل ترميها؟ مُستحيل، تقعد وتُنظِّفها وكذا، لأنك تُريد دُرة واحدة، وترمي ماذا؟ مائة بعرة. أليس كذلك؟ والدين على العكس من هذا، الدين يُمكِن أن تجد عنده مائة درة، وتجد بجوارهم ماذا؟ عشر بعرات. بصراحة! ومُعظَم الدين – ما شاء الله – طيب، بصراحة! مُعظَم الدين هكذا، وهذا ليس الدين في ذاته، وإنما الدين كما يُعرَض، أي كما يُعرِضه الفقهاء وكذا، مُعظَمه طيب بصراحة، وأقله غير طيب، فهذا نُعمِل فيه العقل النقدي – إن شاء الله تعالى -.

فالقصص أيضاً كبيرة جداً في هذا الباب، أبراهام لينكولن Abraham Lincoln رأى نفسه وهو يُقتَل، وقُتِل بنفس الطريقة، وهذا كثير، كثير عندهم، والكُتب مليئة بصراحة، وهناك أُناس اهتموا بهذا الجانب وألَّفوا فيه عدة كُتب، مثل المُثقَّف الأمريكي الكبير الموسوعي كولن ويلسون Colin Wilson، كولن ويلسون Colin Wilson عنده أكثر من كتاب في هذا، عنده موسوعة الخوارق أو القوى الخارقة، عنده كتاب الحاسة السادسة، عنده كتاب رائع اسمه The Occult، أي العرافة. شيئ عجيب، عجيب! كتاب مُدهِش، وهذا كان جُزءاً من مُتعة حياتي لما قرأته، وهذا كان قبل حوالي ربُع قرن، جميل جداً عرضه وتحليله وتوثيقة لأشياء كثيرة، رهيب! كتاب كبير، اسمه العرافة The Occult، من أعجب ما يكون، والرجل باحث كبير، وهو إنجليزي، فيُمكِن أن تعودوا وتتقصوا في هذه الأشياء وتتوسعوا وتروا فيها ما قلناه – إن شاء الله تعالى -.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 19/4/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: