إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وعظيمنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سبحانه ومخالفة أمره، لقوله جل من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.

ثم أما بعد/

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/

يقول الله جل وعز في كتابه الحكيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ *

صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.

إخوتي وأخواتي/

قبل أن أُدلف إلى موضوع اليوم، أود فقط أن أغتنم هذه الفُرصة؛ لأُشير إلى آية نوّهت بمقام رسول الله – صلوات الله ربي وتسليماته عليه وآله – على نحو عزّ وندر مثله في كتاب الله بطوله! أعني قوله تبارك وتعالى وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ *. هذه الآية فيها تنويه بمقام السيد الأجل والنبي الأعظم والحبيب الأفخم – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله إلى أبد الآبدين – على نحو عزيز جدا! 

وهو أن الله تبارك وتعالى لم يقل أغناهم الله من فضله ورسوله، وإنما قال أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ *، بالإفراد! ولم يقل من فضلهما، فجعل الفضل واحدا، وعزاه إلى الله والرسول! هذا شيء عجيب! لا أستطيع أن أُعبر بعبارة أكثر من ذلك في فك هذه الإشارة الإلهية المُزلزلة العجيبة، مُزلزلة في إعجابها، في إدهاشها! فصلوات ربي وتسليماته عليه. 

نحن، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ *، نحن أيضا، الذين آمنا به، والحمد لله والمنّة لله، آمنا به، إلا أننا أيضا، لم نعرفه على النحو الذي ينبغي له – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وكفى بهذه الآية دلالة على عدم معرفتنا، على عدم نفاذنا في معرفته – عليه الصلاة وأفضل السلام -! إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ *، بالإفراد! شيء عجيب!

أما موضوع اليوم أحبتي، فهو موضوع لائق برمضان خصوصا، وبغير رمضان عموما، بل بالعمر كله؛ لأن المؤمنين يُوفقهم الله ويُسعدهم في رمضان إلى الإتيان بأعمال صالحة بكيفية وعلى نحو لا يتيسر في غير رمضان، من صنوف الصلوات والتطوعات والصدقات والزكوات والصوم نفسه وتلاوة القرآن والأذكار والاستغفار والتوبة من الذنوب – إن شاء الله كلها، بإذن الله تبارك وتعالى -. فحقيق بالمؤمن، حقيق بالعامل في هذا الشهر، وبالعامل في كل وقت وفي كل حين، أن يسأل نفسه؛ ما هو أعظم ما ينبغي أن أجعله وكدي، وأن أجعل عنايتي به، حين أعمل؟ 

لماذا؟ لأن الأعمال يا أحبتي الصالحة، وإن تكاثرث، وإن تعاظمت، وإن جزلت، تُرد كلها، أو بعضها، شيء منها! إن لم تستوف بعض الشرائط. هناك شرائط مشروطة في الأعمال الصالحة كلها، لا يُمكن أن يُقبل عمل، إلا بها! هذا ما يتعلق بموضوع الإخلاص، بموضوع تحقيق النية، بموضوع الصدق. ولا يخفاكم أن الموضوعات الثلاثة مُترابطة مُتعالقة مُتواشجة جدا! ولذلك إمامنا حُجة الإسلام أبو حامد الغزّالي – رضي الله تعالى عنه وأرضاه – قال الآتي، ولن أكون في هذا المقام تقريبا بطوله إلا مُتطفلا على مائدته، فجزاه الله عني وعن أمة الإسلام خير ما جزى عالما عملا صادقا مُخلصا صادعا بالحق الذي يرضاه الله، اللهم آمين. فرضي الله عنه وأرضاه، وأعلى الله في الجنة وفي دار التهاني مقاماته، وجدد على روحه رحماته. 

الإمام الغزّالي حين وضع كتابه الفذ، الذي لم يُنسج على منواله؛ إحياء علوم الدين، جعله أربعة أقسام رئيسة، سماها أرباعا: رُبع العبادات، ورُبع العادات، ورُبع المُهلكات، ورُبع المُنجيات. ثم كسر وفصّل تحت كل رُبع عشرة كُتب! فجاء الكتاب الواحد؛ إحياء علوم الدين، مُشتملا مُنطويا على أربعين كتابا! فهو أربعون كتابا في كتاب!

الرُبع الرابع والأخير، وهو من أهم الأرباع؛ رُبع المُنجيات، كيف ننجو؟ كيف نتخلص؟ كيف نفوز ونظفر؟ جعل الكتاب السابع فيه، من العشرة الكُتب التي يحتويها، كتاب النية والإخلاص والصدق. هذا عنوانه! جمع بين الثلاثة؛ لأنها مُتواشجة جدا، ويعسر على مُعظم المسلمين، بل ربما عسر على علماء مُحققين، أن يُميّز بين الإخلاص والصدق. ما هو الفارق الذي يُمكن أن نُميّز به والمعيار الذي نُعيّر به حقيقة الصدق وحقيقة الإخلاص؟ ما الفرق بين الصدق والإخلاص؟ موضوع مُشتبه جدا. ولذلك حشر الإمام الغزّالي هاته الموضوعات الثلاثة في موضع واحد، في كتاب النية والإخلاص والصدق.

لماذا؟ كما قلت لكم لأنه من أعظم الخسار أن يُوافي العبد يوم القيامة بأعمال كالجبال صالحة بيضاء طيبة، إلا أنه لا يُقبل منها بعد ذلك إلا أقلها! خسار عظيم! لماذا؟ لأن النية لم تتحقق فيها، لأن شرط الإخلاص غائب، لأن الصدق لم يتوفر فيها. وربما هلك صاحبها، وهذا أعظم الخسران – والعياذ بالله تبارك وتعالى -! يُوشك أن ينطبق على صاحبه قوله تبارك وتعالى عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ *. لماذا؟ لأن العمل ليس على الشرط.

ولا شك أحبتي؛ إخوتي وأخواتي، أن الواحد منا إذا أراد أن يتقدم بعمل من أعمال الدنيا، شأن من شؤون الدنيا، سواء أكان علميا أم عمليا، رسالة مُعينة مثلا، دبلوم إلى دكتوراة، إلى ما فوق ذلك ودون ذلك، أو ربما يتقدم بسيرة حياة إلى شركة مُعينة؛ لكي يُوظف فيها، بلا شك أن هذا الشخص يستفرغ وسعه أن يستكمل الشرائط المطلوبة وأن يحرص على توفيرها، حتى يُقبل! ربما يكون عملك العلمي مُمتازا، ولكن تنقصك بعض الشرائط الأكاديمية، وقد تكون شكلية. وأنا هنا لا أتحدث عن موضوع شكلي، بل هو موضوع جوهري وروحي! النية والإخلاص والصدق جوهر العمل، وروح العمل! على حد ما قال سيدنا ابن عطاء الله السكندري – قدس الله سره – الأعمال أشباح – أي ميتة -، وإنما روحها – أي حياتها – وجود وتوفر سر الإخلاص فيها. إذا وجد الإخلاص، صار العمل حيا نابضا مقبولا مُباركا مُتباركا عند الله تبارك وتعالى. لم يُوجد الإخلاص، العمل غير مقبول في الجُملة، العمل غير مقبول في الجُملة.

هنا حقيق بنا وجدير بنا – أيها الإخوة – أن نُصبح فقهاء في هذه المسألة. أي ينبغي على كل مسلم ومسلمة، في رمضان وغير رمضان، أن يجتهد أن يتفقه في هذا الموضوع! فقه النية، دقائق علوم النية، دقائق علوم وأسرار الإخلاص والصدق. وهنا لو بدأ بالإمام الغزالي، فهي بداية يُوشك أن تكون قريبة من النهاية، ما شاء الله! فالرجل أوفى على الغاية؛ لأنه كان عالما عاملا، ليس مُجرد عالم يُحقق الرسوم والنصوص والتفريعات والتشعيبات للأقوال أبدا، أبدا – رضوان الله عليه -! كان عاملا بعلمه، بل علمه الدقيق ربما يكون رشح ورعه الصادق. 

كما قال أحد الصالحين، وهو بشر بن الحارث الحافي، الذي حدثتكم عنه قريبا جدا، في خُطبة سابقة، قال بشر – سيد المسلمين، رضوان الله عليه – الجوع يورث العلم الدقيق. ونحن في شهر الجوع، نحن في شهر الصوم. وعكسه الشبع! البطنة تأفن الفطنة. كان يقول الحكماء الذي يمتلئ دائما، وهو دائما شبع – والعياذ بالله -، يكون أقرب إلى البلادة، لا يكون لديه هذا العلم النافذ المُستبصر الدقيق، يفهم الدقائق.

فأهل الله هم أكثر مَن يفهم دقائق هذه العلوم الروحية الإلهية! لماذا؟ لأنهم أهل مُجاهدة، أهل رياضة، أهل صوم وصلاة وقيام وذكر وزهادة وانكفاف تام عن المعاصي وعما يُسخط الرب الجليل، لا إله إلا هو! عندهم انكفاف تام، بشكل مُذهل! فلا جرم أن أورثهم الله هذا العلم الدقيق النافذ المُستبصر. نفعنا الله بعلومهم، وأعاد علينا من بركاتهم. فالإمام الغزّالي رجل تجربة، ليس رجل قلم وأوراق – رحمة الله تعالى عليه -.

فإذن احرصوا على أن تعودوا إلى هذه الموسوعة العظيمة، وأن تتفقهوا على الأقل الآن مبدئيا في هذا الكتاب؛ الكتاب السابع من رُبع المُنجيات، في باب النية والإخلاص والصدق. لن أُحدثكم بما تعرفون، لن نأتى بالنصوص المُباركة من كتاب الله وسُنة رسوله، في فضائل النية وتحقيقها والإخلاص والصدق مما هو معلوم، مما هو معلوم وطرق أسماعكم عشرات، إن لم يكن مئات، المرات! لن نفعل هذا. نُريد أن نأتي بشيء جديد؛ لكي نبني عليه العمل، لا لكي نتفلسف فيه ولا لكي نُشبع ربما حاجة في نفوسنا إلى هذا الفضول العلمي في دقائق العلم، لا! إنما لكي نبني عليه العمل؛ لأن العمل بلا علم، لا يكون! والعلم بلا عمل، جنون! وهذه من كلمات الإمام الغزّالي، ومنسوبة إلى سُفيان الثوري أيضا. ولذلك لا بُد أن نعلم؛ لكي نعمل. 

خطر لي وأنا في طريقي إلى هذا المسجد – أسأل الله أن يُباركه ومَن حل فيه والمسلمين أجمعين والمسلمات – سؤال؛ لو كان للعبد بهذا الخصوص مسألة لله تبارك وتعالى يرجو إجابتها، فما كان عساه سائلا؟ هل يسأل ربه التحكم في النية؟ هكذا تساءلت في نفسي؛ هل أسأل ربي تبارك وتعالى أن يُعطيني القدرة واللياقة على التحكم في نيتي، بحيث أوجهها كيف أشاء، أن تكون خالصة لله، مُجردة لله؟ ربما يُسارع بعضكم، ويقول نعم، هذا أهم سؤال. لا! لا للأسف. الجواب الذي لاح لي مُباشرة؛ ليس هذا ما ينبغي أن يحرص المسلم والمسلمة على أن يجعله سؤال ربه المُجاب. إنما ما هو؟ العلم النافذ، قبل تحقيق النية والتمكن من النية.

وإلا يا أحبتي هل من شك في أن مُعظم المسلمين مؤمنون إيمانا حقيقيا بالجنة والنار؟ لا، هم كذلك. المؤمن عنده إيمان يقيني بوجود الله، بالجنة، بالنار، بالحساب، بالجزاء، قطعا! لكن مُعظم المسلمين والمؤمنين على الإطلاق يأتون المعاصي، وكأن النار غير موجودة، وكأن الله لا يغضب، وكأن القيامة لن تأتي، وكأنه لن يكون هناك موازين ولن يكون هناك حساب! إذن ما الذي حدث؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا توجهت إراداتهم وقصودهم ونياتهم إلى المعاصي، بدل الطاعات، وأقبلوا عليها مُستهترين بها، مُستخفين بها؟ باستخفاف!

من المسلمين مَن يأتي الكبائر باستخفاف، أي وكأنه يأتي أبسط الصغائر، ولا يلوي على شيء. فإن سألته، مؤمن، مسلم هو! إذن هو لم يتحقق بأشياء مُعينة. الله تبارك وتعالى أعلم أنه لم يتوفر على العلم الكافي، يسمع هو بهذه الأشياء، ويؤمن بها، في حدود ما سمع، في حدود ما فهم. لكي أُقرب هذا المعنى، سأستعير مثالا ضربه الإمام الغزّالي في آخر موضوع الصدق، من هذا الكتاب الذي نوّهت به غير مرة اليوم.

ضرب مثلا – رضوان الله تعالى عليه – بحال المسلمين مع الخوف من الله تبارك وتعالى، خشية الله! مع خشية الله تبارك وتعالى. الكل يقول لك طبعا الله أعظم ما أخشاه، وأعظم مَن أخشاه، لا إله إلا هو! بلا شك. جميل! لكن أعماله لا تُعرب عن هذا. هو يخشى من رجل المباحث، يخشى من السُلطان الظالم، يخشى من جهات مُعينة مُتنفذة، ربما ألوف المرات، أكثر مما يخشى الله! بدليل أن هذا الظالم، الذي عُرف عنه العسف والبطش والغشم والظلم، لو طلبه ليبطش به، سترتعد أوصاله وفرائصه، وسيلوذ بالفرار في أقرب وقت مُمكن، أليس كذلك؟ سيترك أهله وماله وولده، ويستبدل الوحش بالأنس، ويستبدل التعب بالراحة، أليس كذلك؟ من أجل ماذا؟ من أجل درك النجاة، أن يُدرك النجاة! ألا يقع في يد هذا الظالم، الذي سمع عن صنوف تعذيبه في السجون ما تقشعر منه أبدان الأحياء!

هذا خوفه من عبد ضعيف مثله، هو مثله! وربما لن يُسلط عليه، ربما إلى أن يُسلط عليه، يهلك هذا العبد الظالم، يهلك هذا الملك أو السُلطان أو الرئيس أو أيا كان! فهل يخاف الله على نحو قريب من هذا؟ أبدا، أبدا! يأتي المعاصي التي أوعد الله عليها بالخلود في جهنم، مثل قتل النفس المعصومة.

نحن في زمن القتل، نحن في زمن الهرج، المُنبأ به في الحديث الصحيح؛ ويكثر الهرج. قالوا ما الهرج يا رسول الله؟ قال القتل! القتل! حتى لا يدري القاتل فيم قتل، ولا المقتول فيم قُتل. حتى القاتل هذا، وإن ترسم برسوم أهل الدين والمُتعبدين والمُناضلين عن شرع الله تبارك وتعالى ودينه، لو سألته لِمَ قتلت؟ لِمَ قتلت هذا المسلم؟ لِمَ قتلت الرُكع السُجد في بيت من بيوت الله؟ يقول لك عندي فتوى، أمروني بذلك. الله أكبر! هل ستلقى الله بعندي فتوى، وأمروني بذلك، يا مسكين؟ أنت مسكين، لا عُذر لك عند الله تبارك وتعالى.

هذا أوتيَ من جهله، هذا جاهل بالعلم، جاهل بكل شيء! جاهل بأن من مبادئ الإسلام أنه وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ  *. وبما أن الله تبارك وتعالى جعل لك فؤادا وعقلا وقلبا ولُبا ودماغا، فأنت مُكلف مُباشرة، ولا يُمكن أن يسقط عنك التكليف بأن غيرك أفتاك! أفتاك في عظيمة، في داهية من الدواهي! مسألة سفك الدم! وأنت تعلم أنه لا يحل سفك الدم، إلا بعد استيفاء إجراءات مُعقدة جدا جدا جدا، ليست فتوائية، لا! الفتوى أسهل الأمور، والناس لا تُقتل بالفتوى على فكرة، لا يحق لأحد، ولا يحل لأحد، ولا يجوز في دين الله أن يُقتل أحد بفتوى، هذا كلام فارغ! وهذا الفارغ هو الذي تعيشه الأمة اليوم! الناس تُقتل بالفتاوى، الدول تُهدّم بالفتاوى، جرائم رهيبة، لا! النفس الواحدة، ليس الجماعات من الناس والقبيل من الناس، النفس الواحدة! لا يُمكن أن تُقتل إلا بُحكم قضائي، يقضي قاض شرعي، يعرف حُكم الله تبارك وتعالى، ويستوفي البيّنات والشهادة أو الإقرار وكل شيء على وجهه، حتى إذا غلب على ظنه غلبة قريبة من اليقين القاطع، قريب من مئة في المئة!

ولذلك في السجون، حتى في سجون العرب اليوم الظالمة، في سجون دول ظالمة، يبقى المحكوم عليه بالإعدام خمس وعشر وخمس عشرة سنة قبل أن يُعدم، يخافون! هؤلاء الذين نُسميهم طواغيت وظلمة وكفرة وكذا، يخافون من المُسارعة إلى قتل أعدائهم وقتل المُعارضين في أول يوم وثاني يوم. خمس عشرة سنة وجدوا، في سجون مُبارك – رحمة الله عليه -، لم يُقتلوا. يُوجد نوع حتى من الورع! فما بال مَن يترسمون برسوم أهل الدين وأهل الشرع وأهل النضال عن شريعة الله، يُسارعون إلى القتل بمُجرد أمر؛ اقتل، فيقتل، فجر هذا المسجد بمَن فيه، يُفجر؟ ما هذا؟ 

أنا أقول لكم المسألة تبدأ من جذر بعيد؛ الجهل، الجهل الرهيب، على جميع المُستويات، خاصة بشرع الله تبارك وتعالى، وأهم شيء؛ الجهل بمقام الله، لا إله إلا هو! الجهل بعظمة الله، الجهل بجلال الله تبارك وتعالى. ربما أكثرت من أن أُمثّل بالقول؛ لو قيل لإنسان اجتهد في مسألة، أو خُذ باجتهاد مُجتهد في مسألة، على أنه إذا تفيل هذا الاجتهاد – أي ظهر ضعفه وبُطلانه -، إذا تفيل وبطل هذا الاجتهاد، سيُقطع أُصبعك، أو ستُقطع – لأنها مؤنثة – أُصبعك! هو سيطلب مُهلة، ربما تمتد إلى سنين؛ لكي يُعيد ترتيب أموره وقراءة كل ما يتعلق بالمسألة المطلوب الاجتهاد فيها. لماذا؟ لأن المُخاطرة بأُصبع. كيف إذا كانت المُخاطرة بمُستقبلك الأبدي؟ وعُذرك مرفوع عند الله، مقطوع! لأن الله سيقول لك أنا أخبرتك في كتابي بهذا! مَن أوثق لديك؛ أنا، أم هذا الذي أفتاك؟ أنا أخبرتك، قلت لك وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا *. 

هل ستقول لربك يا رب ولكنه كافر؟ يقول لك ما شاء الله! وهل كنت من علماء العقيدة الكبار؟ هل كنت في علم الإمام الغزّالي، والفخر الرازي، والإمام الجويني – الذي قلت لكم في الخُطبة السابقة إنه لم يشأ أن يكتب فصلا واحدا في التكفير؛ تكفير الناس -؟ أبو المعالي الجويني، أستاذ الدنيا، من أذكياء البشر، قال هذا الموضوع مزلة أقدام، هذا الموضوع زلق مُخيف مُرعب! أن أكتب في المُكفرات؛ متى يكفر المسلم؟ لا أُريد أن أكتب فيه. درّس العقيدة، وألف فيها كتبا عظيمة موسوعية، لم يؤلف مثلها، الإمام الجويني! قال أما التكفير، فلا أدخل هذا الملحج، هذا الطريق اللحج الضيق.

وأنت أيها الجهول المجهال الجهل، الذي لا تستطيع أن تُعرب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ *! لو طُلب منك أن تُعرب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ *، لن تستطيع. طبعا في الرحمن مثلا ستة إعرابات، فيها ستة وجوه من الإعراب! لا تعرف شيئا أنت أصلا، لا تعرف شيئا عن كيف تقرأ كتاب الله! أنت أفتيت نفسك، أو سمحت لنفسك بأن تُفتي، بأنه كافر، وأعطاك شيخك هذا. 

دخلنا في موضوع آخر، على كل حال إذن القضية قضية ماذا؟ المعرفة بالله. إذا حضرت المعرفة بالله – أيها الإخوة -، فنعم، الآن يُمكن، يُمكن تدبير النيات والقصود. بالله ركزوا قليلا معي؛ لأن الموضوع خطير وحسُاس، كلنا مُحتاجون إليه، أنا أحوجكم والله إليه. والله أنا أتيت هنا وأنا أستغفر الله، أنني أتكلم في هذا الموضوع؛ لأنني لا أعلم نفسي لا من المُخلصين ولا من الصادقين، وإني لأسأل الله أن يرزقني وإياكم شيئا من الإخلاص وشيئا من الصدق. وكان الصالحون عبر الأزمان – أصلحنا الله بما أصلح به عباده الصالحين -، كانوا يتمنون على الله تبارك وتعالى، يضرعون إليه، أن يُصح لهم لحظة واحدة في إخلاص. لا أقول لكم ركعة، كانوا يقولون لحظة! وكانوا يقطعون بأن المؤمن لو صحت له لحظة واحدة مع الله، على شرط الإخلاص، نجا يوم القيامة. الله يقبلها منك، الله أكبر!

أي أنتم لا تُزكون أنفسكم، ولا تشهدون لأنفسكم، يا ساداتنا، يا سادات المسلمين، سادات الزهاد والعباد والقراء والأولياء، بأن لكم لحظة من الصدق والإخلاص؟ قالوا لا، لا نشهد، هذا موضوع عزيز وخطير جدا جدا، والله المُستعان. لا إله إلا الله! لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين، يا إخواني.

لذلك الموضوع لا يبدأ بالنية وتحقيق النية. كم من الناس يُمكن أن يُحضر نية، ويتحكم فيها! لكن يُحضرها في ماذا؟ في الفسق، في الفجور، في العصيان، في الجراءة على حُرمات الله وانتهاك حدود الله، لا إله إلا هو! إذن ينقصه ماذا؟ ينقصه العلم، العلم الحقيقي، الذي يورث الخوف، يورث الخشية.

قال أحد العلماء مرة، قال لو صدق خوفنا من الله، لما كان في أضعف الإيمان، أقل من خوف معز، شاة، أمام سُبع، أمام ذئب. انظر إلى المعز – أي الماعز -، إذا رأت الذئب! ترتعد كلها! هذا خوف حقيقي. هل لديك مثل هذا الخوف المُزلزل من الله؟ اللهم لا، غير موجود، هذا الخوف الحقيقي غير موجود. نسمع عن الصالحين، كيف كان يُغمى عليهم ويُغشى عليهم، حين يأتون الصلاة وكذا، نسمع! لكن نحن ما شاهدنا ولا شهدنا هذا من أنفسنا، ليس عندنا مثل هذا الخوف. إذن ينقصنا العلم، لا علم لنا بالله، لا معرفة حقيقية لنا بالله. لدينا ماذا؟ معرفة أسماء يا إخواني؛ الله، الرحمن، الرحيم، العظيم، الجبار، الذي يُخشى ويُخاف ويُحب و…كلام، كلام، كلام! عند التحقيق لا مُحصل، وهذه داهية ما لها من واهية! نسأل الله أن يُرقع هذه الثقوب وهذه الرتوق في نفوسنا، في روحانيتنا، في علمنا، في فهمنا.

ولذلك البداية تكون قبل النية، أن يرزقنا الله ماذا؟ العلم. ولذلك قال فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ *. إذن فَاعْلَمْ *، البداية! وقد بوّب الإمام البخاري، ويا له من فقيه! البخاري ليس مُجرد مُحدث وإمام جليل -رضوان الله عليه -، كان فقيها حتى في تسمية الأبواب، في تبويب أبوابه، في تراجم أبوابه. ولذلك اشتُهر؛ فقه البخاري في تراجم أبوابه. هكذا قالوا! فقه البخاري في تراجم أبوابه. مُسلم لم يُترجم، ترجم له العلماء، كالنووي وغيره، في المنهاج. البخاري ترجم، قال لك باب العلم قبل العمل. ثم قال فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ *. العلم قبل العمل! قبل أن تعمل، لا بُد أن تُحقق العلم. ومن هنا أهمية ومثابة واعتبار العلم الشرعي في دين الله تبارك وتعالى، العلم الرباني، العلم الإلهي.

سقراط Socrates حين كان يُعادل بين المعرفة والفضيلة – كان يقول الذي عنده معرفة، هو إنسان فاضل -، الناس ظنوا أنه ليس عميقا، هو أعمق منهم جميعا! هو لم يتحدث عن كسر معرفة، عن شبه معرفة، عن شبح معرفة. تحدث عن ماذا؟ عن معرفة تامة. الذي يكون له، وفق هذا الفيلسوف الكبير، معرفة تامة بأي أمر، حتما يصدر عن ماذا؟ عن مُقتضى هذه المعرفة. وهذا صحيح! ففعلا المعرفة في نهاية المطاف، تُساوي ماذا؟ الفضيلة.

ولذلك المعرفة الحقة بالله، تُساوي في نهاية المطاف ماذا؟ خشية الله، إجلال الله، توقير الله، محبة الله، مُراقبة الله، مُراعاة الله، الإخلاص لله في كل تحريكة وتسكينة، الصدق مع الله في كل كلمة، في كل عهد. أليس كذلك؟ المعرفة إذا كانت تامة! أما إذا لم تكن تامة، فسيُنتقص من كل ما ذكرت، ومما لم أذكر، مما هو منه بسبيل، قليل أو كثير، بحسب ماذا؟ ما نقص من المعرفة، بحسب ما نقص من المعرفة! هذه هي المسألة.

ولذلك ألظوا، ولنُلظ جميعا في هذه الأوقات المُرتجاة، في هذه الأيام والليالي المُباركة المرجوة، بأن يرزقنا الله العلم النافع، بأن يرزقنا الله معرفته، لا إله إلا هو! العلم الحق به. لو رزقنا هذا، هان علينا أمر النية وأمر الإخلاص وأمر الصدق. أما ما لم نُرزق، فالأمر صعب جدا ومُستصعب. ولذلك يقول الإمام سُفيان الثوري – رضي الله تعالى عنه وأرضاه – ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي! لأنها تتقلب. على أنه كان أستاذا من الأساتيذ في فقه النية. لما مات حماد بن أبي سُليمان – رضوان الله عليه، أستاذ الإمام أبي حنيفة، الإمام العظيم! وعلى اسمه سمى ابنه حمادا، أبو حنيفة! الإمام الأعظم! -، قيل لسُفيان قد مات حماد. قال نعم، أعلم، سمعت. ألا تُشيع جنازته؟ قال لم تحضرني نية. لا إله إلا الله! كيف؟ هذا كما قال شيخنا وسيدنا أبو حامد الغزّالي، هذا بالضبط ما لا يفقهه الجهلة. الجهلة يظنون أن أمر النية سهلا، واستدعاء النية مُجرد أمر استدعائي! قال هؤلاء جهلة، لا يعرفون ماذا يتكلمون. وفعلا كلامه صحيح! أبو حامد الغزّالي! لماذا؟ قال هل يُمكن أن تقول نويت أن أشتهي الطعام وأنت شبع؟ مُستحيل. هذا مُجرد قول باللسان، لكنك عند التحقيق لم تنوه. أنت تقول نويت، نويت أن أشتهي الطعام! لكنك شبع مُتخم، مُستحيل! لا يُمكن.

ثم ضرب مثالا آخر؛ مَن غلبت عليه شهوة الوقاع، يُريد أهله، يُريد زوجته، يُريد أن يقضي وطره بالحلال، غلبت عليه الشهوة؛ لأنه كان غائبا عنها – نفترض – أسبوعين أو ثلاثة أو أكثر أو أقل! هل يُمكنه ببساطة أن يقول نويت الولد الصالح لوجه الله؟ ليس بمُجرد أن تقول! لماذا؟ في الحقيقة أنت في الأخير لست ناويا إلا ماذا؟ الوقاع. من أجل ماذا؟ قضاء الوطر، قضاء الشهوة. تقول لي الولد، ما الولد! كلام، وهذا الذي نحن واقعون فيه، هذه مُصيبتنا، كلام! نحكي كلاما! لم نُحقق الأمور! 

لماذا؟ هذا يستدعي منا فهم حقيقة النية. فما هي النية إذن؟ النية المُعبر عنها بالقصد، المُعبر عنها بالإرادة، وأشياء مثل هذه! النية يا إخواني هي استجابة النفس للباعث على الفعل، المُنهض إلى الفعل. ما هو هذا الباعث؟ الباعث هنا الجوع. كان جائعا جدا، أراد أن يُصيب من الطعام، أليس كذلك؟ ليس أكثر من هذا. الباعث هنا كان ماذا؟ أن يقضي شهوته، وقد حُرم منها ثلاثة أسابيع، أو شهر رمضان مثلا! نفترض أن أحدهم منع نفسه، مع أن هذا ليس مشروعا، لكن هكذا نوع من التبتل الوقتي الظرفي، منع نفسه شهر رمضان. بعد شهر رمضان، تقريبا يترجح لا تكون إلا نية ماذا؟ قضاء ماذا؟ الوطر، قضاء الشهوة. هو هذا! فتلبية هذا الباعث – أيها الإخوة – عرفناها، وهذه البواعث في علم النفس تُسمى ماذا؟ الغرائز. وهناك الدوافع – أيها الإخوة -! هذه البواعث والدوافع كثيرة جدا، مُعظمها جبلي طبعي، في طبيعة الإنسان! وأحيانا تحثها وتحفزها عوامل خارجية. ولا يكون للإنسان ابتداء معها، إلا رد فعل الاستجابة. يستجيب لها، تفرض نفسها عليه! واضح؟

ولذلك موضوع استدعاء النية بقرار، من الجهل. لا تُستدعى بقرار! ستقول لي هذه ورطة حقيقية الآن. شيخنا أبو حامد هذا فيلسوف كبير معناها في فقه النية. إذن ما الحل يا أبا حامد؟ قال لك الحل يبدأ قبل ذلك، الحل يبدأ قبل ذلك بمُعالجة البواعث وأسباب الأمور. تبدأ أنت ** * تُربي وتُدير البواعث، تُدير الأسباب الأولى. وهذا يحتاج إلى ماذا مرة أُخرى؟ إلى علم، وإلى علم دقيق نافذ مُستبصر، ومُحاسبة دقيقة للمعلومات والمُدركات التي تحصلت عليها إلى الآن، سواء سمعتها من فلان أو علان أو قرأتها بنفسك أو تأدت إليك بنوع من الإلهام أو الفهم أو التحقيق أو التدقيق! كل هذا لا بُد من تفتيشه، بجهة دقيقة جدا. لماذا؟ حتى يتهيأ سبيل ماذا؟ سبيل التحكم في النية، أو بالأحرى – وأنت لا تتحكم فيها – سبيل أن تتحصل النية الطيبة، في الوقت المطلوب. ليس كل واحد هكذا! واضح يا إخواني؟ هو هذا. 

تماما مثل ماذا؟ مثل اثنين، يُتلى عليهما كلام الله تبارك وتعالى، أحدهما يستشعر الخشوع، تُلبيه عينه، يبكي! وأنا أتحدث عن رجل مُنفرد، يسمع آيات مُعينة. والآخر يضيق صدره! كتب لي أحد أحبابي، يقول لي يا فلان، لا أدري ما الذي دهاني! في الفترة الأخيرة، صرت أنفر من ذكر الله تبارك وتعالى. والله هزتني الرسالة، لغاية أنني لم أستطع إكمالها، والآن ذكرتها وأنا على المنبر، ولم أُجبه، وأستغفر الله، وإن شاء الله أُجيبه بعد أن أعود اليوم، الآن تذكرت هذا! لم أستطع والله، وأنا في يوم جُمعة صائم، لم أستطع إكمالها، هزتني! أن يقول مسلم أنا صرت إلى حالة، بحيث أنفر من ذكر الله، من القرآن! شيء مُخيف يا إخواني. وطبعا الجواب مبدئيا؛ ليس هذا إلا بسبب توالي المعاصي، ليس هذا إلا بسبب توالي الغفلات. 

مَن يقول لي إنه لم يمر بهذه الحالة؛ أنه حين واتر العمل الصالح، وحين والى القربات والمبرات والأشياء الطيبة، صار إلى حالة لا يأنس معها وفيها إلا بذكر الله، وينفر أشد النفور من الغناء والموسيقى والمُسلسلات وكلام الناس وكلام أهل الدنيا البطالين الفسقة الفجرة، الذين لا يُذكرونك إلا بما فيه معصية – والعياذ بالله -، صار ينفر نفورا شديدا، حتى وإن كانوا من أقرب المُقربين إليه؟ سوف تقولون كلنا مررنا بهذه الحالة – بحمد الله -، لكن لم تدم. وهذه الحسرة! لم تدم لنا. إذن مَن منا لم يمر بحالة مُشابهة لأخي السائل – أسأل الله أن يُنعشه بالحق وإياي وإياكم وإياكن والمسلمين والمسلمات جميعا وجمعاوات، بفضله ومنه، في هذا الوقت الكريم -، الحالة الثانية؛ أنه توالت عليه الغفلة، قصر، مد لنفسه في حبل الاسترسال مع المعاصي، وإن كانت صغيرة، مُدة! حتى صار يتحرج صدره من سماع القرآن، أو من سماع ذكر الله، أو من سماع دروس العلم الشرعي؟ ستقولون كلنا مررنا بهذه الحالة. صحيح، هذا صحيح. 

ولذلك هذه محنة الإنسان! نحن كائنات برزخية، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *، تعيش على الحافة، على البرزخ، بين الفجور والتقوى، بين النور والظلام، بين الحق والباطل، بين الرحمن والشيطان، بين السماء والأرض. ولذلك لا بُد أن نعمل على أنفسنا طويلا وبجد وإخلاص وصدق يا إخواني. إن عملنا – بإذن الله تبارك وتعالى -، وعلم الله الصدق من نوايانا، قوّانا على أنفسنا، وفتح أعين بصائرنا – من البداية -، وبصّرنا بما كنا عنه عُميا، فاختططنا خُطة جديدة، وانتهينا إلى نتائج حميدة وسعيدة – بإذن الله تبارك وتعالى -، وعشنا لذة الإيمان.

على فكرة الإيمان لا يُمكن أن توالي عليه، ما لم تلتذ به! ذاق طعم الإيمان، مَن…انظر! لا بُد أن يكون له لذة، العبادة! لا يُمكن! نحن نسمع مُجرد سمع عن الذين يقضون بضع ساعات في سجدة واحدة، شيء لا يكاد يُصدق! وعلى المستوى الفسيولوجي لا يكاد يُصدق أيضا، ضغط الدم يا أخي، ينفجر دماغه! ولا ينفجر ولا شيء. وهم من أذكى الناس، ومن أطول الناس أعمارا، ومن أبهى الناس وجوها وآلقهم وأضوأهم – بإذن الله تبارك وتعالى -. يا أخي أُناس خلوا بربهم، كما قيل رجال خلوا بربهم، فكساهم من نوره. معقول أن الإنسان يخر ساجدا لخمس ساعات؟ وهذه تواترت عن غير واحد، بعضهم من المُعاصرين – رحمة الله عليه -، وكان مُفسرا لكتاب الله، وعلى فكرة وليس من أهل السُنة.

على فكرة، أُحب أن أقول هذا، ضميري يقول لي قل هذا؛ يُعجبني جدا – بفضل الله تبارك وتعالى – أن أقرأ أحوال الصالحين من أمة محمد، من الفرق كلها! وقد علم الله أني أُصدقها، كما أُصدق كرامات وأحوال العارفين والصادقين من أهل فرقتي؛ من أهل السُنة. لسنا وحدنا المسلمين، ولذلك هذه الكرامات والمواجيد والأحوال والأذواق العالية والصدق في التبتل والعبادة موجودة يا إخواني عند أهل السُنة بفرقهم جميعا، لا تقل لي وهابية وأشعرية وماتريدية، عند الجميع – بفضل الله تبارك وتعالى -، وموجودة عند الإخوة الشيعة الإمامية، والإخوة الشيعة الزيدية، وموجودة عند الإخوة الإباضية في عُمان. موجودة عند كل فرق المسلمين، وكثيرة قصص كل فرقة عن أوليائهم وصالحيهم، أحياء وأمواتا؛ لأن بعضهم أحياء، لا زالوا يعيشون، والناس جربوهم عبر عشرات السنين! الاستقامة الصارمة على دين الله تبارك وتعالى، والصدق مع الله، الصدق العجيب المُدهش يا إخواني! موجود – بفضل الله -.

ولذلك هذا أورثني إدراكا وعلما، أسأل الله أن يكون حقا وأن ينفعني الله وإياكم به، أن في نهاية المطاف التعويل عند الله على التحقق، وليس على الشعارات. وهذا من شعاراتي، أنا دائما هنا أرفع شعارا؛ أننا لن نأتي الله يوم القيامة، بماذا؟ بالشعارات! أنني أنا يا ربي من أهل السُنة والجماعة! لن ينفعك، والله لن ينفعك، والله لن ينفعك. والله لن ينفعك إلا أن تكون مسلما صالحا، سواء أكنت من أهل السُنة والجماعة، من الزيدية، من الإباضية، من الشيعة، من…من…أن تكون صالحا؛ لأن الله أرادك صالحا. 

هل يُغنيك أن تكون من أهل السُنة وأنت إنسان طالح؟ مسكين أنت! يا فاطمة بنت محمد اعملي لنفسك، لا أُغني عنك من الله شيئا. هل نُريد أكثر من هذا؟ لكن نقول ولا نفهم، نقول ولا نفقه أبدا! الله لا يؤتى بالشعارات، لا يؤتى بالعناوين. الله يؤتى بماذا؟ بالحقائق. والحقائق ليس ما كتب الملكان، ما رأيكم؟ وهذه مُصيبة أُخرى! الحقائق يوم القيامة ليس ما كتب الملكان، لا ملك اليمين ولا ملك الشمال. يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ *، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ *. الله قال الحساب يتم على مراحل، أول شيء؛ لا بُد أن يؤتى بالكُتب، اقْرَأْ كِتَابَكَ *، وهذا غير كاف! ثم بعد ذلك، لا بُد أن يُخرج ما في قعر النفوس والصدور! النوايا الحقيقية، القصود الحقيقية، التي غابت عن الملك. الملك كتب العمل الصالح، وكتب الحجة، وكتب العُمرة، وكتب ختم كتاب الله، وكتب الصدقات، ولكنه لم يكتب النية؛ لأنه لا يطلع عليها. يطلع عليها رب العزة، لا إله إلا هو! يوم القيامة يُدخلها في الحساب، فإما فُزت، وإما خبت – نعوذ بالله من حال الخائبين، ونسأل الله أن نلتحق بالفائزين الظافرين -. وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ *، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ *.

ولذلك ورد في الخبر أن الملائكة ترفع إلى الله صُحف الأعمال، فيها أعمال طيبة بيضاء مُباركة، فيقول الله ألقوا هذه، ألقوا هذه، ألقوا هذه. ضعوها، ضعوها، ضعوها. لماذا يا رب؟ هذه أعمال طيبة! فيقول عز وجل لم يُرد بها وجهي. ستقول لي مُصيبة يا أخي هذه! فما الحل؟ ما الحل؟ الآن انظروا إلى تحقيق إمامنا الغزّالي. حتى الآن نحن في مُقدمات، لم ندخل في التحقيقات الغزّالية الوافية العجيبة!

من أعظم تحقيقاته أنه حين تكلم – رضوان الله عليه – عن النية، التي هي استجابة للباعث – استجابة وإجابة للباعث! هذه حقيقة النية! استجابة للباعث -، تكلم – رحمة الله عليه -، وقال هذه البواعث مُختلفة. كيف؟ صنفها في أربعة صنوف أو أقسام، قسَمها أو قسّمها أربعة أقسام. قال العمل قد ينفرد به باعث واحد، يستقل بإنهاض  صاحبه إليه. فهذا يُسمى ماذا؟ العمل المُخلَص. والعمل نفسه يُسمى ماذا؟ إخلاصا. هذا عمل مُخلَص، وهذا إخلاص! ولكن الإخلاص بحسب ما يُضاف إليه. يقول أبو حامد بعد ذلك – رحمة الله تعالى عليه – فمَن تصدق بصدقة من أجل أن يراه الناس – أي ليس فيها لله واحد في المئة. هي هذه معمولة من أجل الناس فقط. لو لم يكن ثمة أُناس، لما تصدق بالصدقة -، فهذا مُخلِص! لماذا؟ لريائه، مُخلِص لنفسه، مُخلِص لإله هواه – والعياذ بالله -. هذا إخلاص سجيني، يُمكن أن أُسميه إخلاص سجيني، يقود إلى النار. هذه صدقة، أليس كذلك؟ عند الناس صدقة، عند الله رياء – والعياذ بالله -، تستوجب المقت والغضب والعقاب، الله يمقت مَن يفعل هذا؛ لأن الله أغنى الأغنياء عن الشرك، ولا يُوجد واحد يُمكن أن يُوضع في مساق واحد مع رب العزة، لا إله إلا هو! هذا الجنون الذي نتصرف وفقه نحن للأسف، البشر!

قال مُطرف بن عبد الله بن الشخير ما من عبد من الناس، إلا وهو في مُعاملة الله أحمق. أنا أقول دائما بلُغتي نحن في حالة هَبل، ونحن هُبل. وفعلا، هذه قالها الرجل الصالح هذا، قال كلهم هبلان، حُمق! قال كلنا حمقى. إذن مَن الحكيم؟ الذي عرف الله حق معرفته، ثم صدر عن مُقتضى هذه المعرفة. وأين هذا؟ هذا قليل جدا. فهو يقول كل الناس في مُعاملة الله حمقى. ثم قال مُطرف – رحمة الله تعالى عليه – إلا أن الحُمق يتفاوت، حُمق دون حُمق! أحمق العباد في باب العمل الصالح، مَن هو؟ العبد الذي يبني عمله – والعياذ بالله – على ماذا؟ على هذا الباعث الخسيس الشركي! أن يُلبي ماذا؟ شهوة النفس، في محمدة الناس، في أن يرتفع عند الناس، أن يقبله الناس، أن يذكروه بالخير. مُشرك! هذا شرك ماذا؟ شرك العمل، شرك رياء – والعياذ بالله -. وهذا يُوجد كما قلت مرة أُخرى مقت الله وغضبه وعقابه على العمل. عند الناس صدقة، وربما عند الملك صدقة، وعند الله عقاب، عليها عقاب هذه. هذا صحيح، مفهوم! 

ثانيا؛ وأحيانا – أيها الإخوة – يجتمع باعثان على العمل، باعثان اثنان وليس باعثا واحدا، يجتمع باعثان اثنان! لو استقل كل منهما، لم يُنهض إلى العمل. لا يكفي! لكن لا بُد ماذا؟ أن يتعاونا. مثل ماذا؟ مثل إنسان – أيها الإخوة – يتصدق بصدقة، يُريد بها وجه الله، وفي الوقت نفسه يُريد محمدة الناس. كالصحابي الذي قال للنبي يا رسول الله إني أُحب الجهاد في سبيل الله، أُحب القتال في سبيل الله، وأُحب أن يُرى مكاني، فما لي عند الله؟ فسكت النبي عنه – ذكرت لكم هذا غير مرة -، حتى نزل قول الله تبارك وتعالى في آخر سورة الكهف فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *. الله سماه ماذا؟ شركا. أنت تُريد أن تُجاهد في سبيل الله، والناس تقول ما شاء الله، فارس، مغوار، قوي، مقدام؟ لا، هذا شرك، لا ينفع. هذا شرك، الله سماه شركا. فأبو حامد الغزالي قال ولنُسمه الإشراك. قال هذا إشراك، إشراك في البواعث. متى يكون الإشراك في البواعث؟ أن يبرز باعثان، لا يستقل أحدهما بإنهاض صاحب العمل على العمل، لا يقدر، إلا بهذين. يُريد هذا مع هذا. هذا إشراك!

الحالة الثالثة؛ حالة مُوافقة. ما هي؟ مُوافقة في البواعث، باعث وافق باعثا! كرجل – يقول كرجل – أمره طبيبه بالحمية، قال له عليك أن تصوم. لنفترض أنه أمره بالصيام غدا. فاتفق أن كان هذا الغد، ماذا؟ يوم عرفة. فالآن هو لديه باعثان؛ باعث أن يصوم حمية، نزولا على أمر الطبيب وعملا بوصفته، وباعث أن يصوم يوم عرفة، الذي ورد في فضله ما هو معروف للعامة والخاصة، جميل! هذا اسمه ماذا؟ مُوافقة. لكن الباعث الأصلي ماذا كان لديه هو؟ الحمية، الباعث الأصلي الحمية. ووافقه موضوع ماذا؟ موضوع أنه عرفة، صوم يوم عرفة. سوف نرى ما حُكم هذا، بعد ذلك الحكم ما هو؟ هذا هو!

الحالة الرابعة والأخيرة؛ المُعاونة. سماها ماذا؟ المُعاونة. إذن لدينا أربع حالات؛ الإخلاص، التشريك أو الشرك، والمُوافقة، ثم المُعاونة! أن يستقل أحد الباعثين بالإنهاض للعمل، لكن يأتي باعث آخر يُسعده ويسنده ويُهيء له الأمر، بحيث أنه لو لم يتوفر الباعث الثاني، كفى الأول في إنهاض صاحبه. مثل ماذا يا إمامنا – رحمة الله عليه -؟ على فكرة، هذه طريقة الغزّالي، طريقة عبقرية، في كل شيء! هذا الرجل قلمه لا يمس شيئا، إلا يخرج لنا بنتائج عبقرية! إنسان نسيج وحده – رحمة الله عليه رحمة واسعة -، عقل عجيب! فمثل ماذا؟ قال مثل رجل له عادة في الصدقات، يتصدق في أيام مُعينة، في أوقات مُحددة، نفترض مثلا كل جُمعة، بعد صلاة الجُمعة، يتصدق الرجل، نفترض! فوافق في ذلك اليوم حضور أُناس، ربما مِمَن لهم اعتبار زائد، أي علماء دين، دُعاة كبار، حفاظ لكتاب الله، الأمير مثلا، مسؤولون في البلد، نفترض! هذه من عندي، أي زيادات! اتفق حضور هؤلاء. هو الآن سيتصدق سيتصدق، لو لم يحضروا، سيتصدق؛ لأنها عادة له، لأنها عادة له وهو يفعلها لوجه الله، لكن حضور هؤلاء أسعده ونعشه، أي انبسط هو بالعامية، انبسط! فرح بهذا، أي أن هذا شيء جميل، وانظروا أيضا. فهنا حصل ماذا؟ نوع مُعاونة. ليس تشريكا، التشريك رأينا أنه مُختلف.

فالآن ما الحُكم؟ قال الإمام – رحمة الله تعالى عليه – أولا، الحالة الأولى؛ ما تخلص لله، فهو لله. وهذا أصل الدين، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ *. أي عمل يكون فقط لوجه الله، هذا العمل المطلوب. لكن هنا – انتبهوا – الإمام له تحقيق عجيب! إذن ما تخلص لله عندك يا إمامنا، ما هو بالضبط؟ فأنا أعمل مثلا من أجل الجنة، ومن أجل الحور العين! هناك ناس تقتل حالها وتُفجر حالها، من أجل الحور العين! قفوا على كلام إمامنا في هذا الموضع، كلام نفيس، نحتاجه اليوم، نحن المسلمون، الذين غلبت علينا البلادة والمادية والحس المادي حتى! أبو حامد إنسان روحاني رباني إلهي.

يُقال، يُقال إن أحمد بن خضرويه – قدس الله سره، وحدثتكم عنه قبل أسبوعين، الولي الصالح، الذي عُمّر قريبا من مئة، ابن خضرويه – رأى في المنام وسمع قائلا يقول كلهم يطلبون مني، وأبو اليزيد يطلبني. وأبو اليزيد كان شيخ أحمد بن خضرويه. هذا هو الفرق! ولذلك ذكرت لكم غير مرة يا أحبتي؛ إخوتي وأخواتي، أن الله تبارك وتعالى لما امتن على بني إسرائيل، قال اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ *، دائما؛ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ *، نِعْمَتِيَ *، نِعْمَتِيَ *! وحين امتن على هذه الأمة، ماذا قال؟ فَاذْكُرُونِي *. لا إله إلا الله، الله أكبر! ما أشرف هذه الأمة، لو علمت! اللهم اجعلنا منها، اللهم اجعلنا من حقيقة أن نكون من هذه الأمة. قال فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ *. لم يُذكّرنا لا بالمن ولا بالسلوى، ذكّرنا به، لا إله إلا هو! 

فشيخنا أبو حامد يقول مُعظم العاملين، ونواياهم صحيحة، وقصودهم صحيحة وسليمة – قال – ومُعتبرة شرعا، لكن – قال – هم طلّاب ماذا؟ طلّاب بطونهم وفروجهم. يُريد الجنة؛ ليأكل ويشرب وينام وينكح الحور العين. قال أما أعز شيء على الإطلاق – أعز شيء على الإطلاق -، هو أن تطلب الله لله، لا إله إلا هو! وأن تعبده توقيرا له وحُبا له وخشية وتعظيما لاستحقاقه ذلك. تُوجد جنة، أو لا تُوجد جنة، تُوجد نار، أو لا تُوجد، هو يستحق ذلك، لا إله إلا هو! أي لو لم يكن هناك جنة، لما استحق؟ يستحق العبادة، لا إله إلا هو! لو لم تُوجد نار، لما استحق الخشية؟

الملائكة تعصي الله يا إخواني؟ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ *، لكن ماذا؟ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *. يخافون الله؛ لأنه الله. أي لا يُوجد ملك سيدخل النار، أليس كذلك؟ الآن السؤال؛ إذن لماذا هذه الخشية أيتها الملائكة؟ لأن الله حقيق أن يُخشى، لا إله إلا هو! صاحب المقام الأجل الأعز الأعظم الأكبر الأفخم، لا إله إلا هو! فأبو حامد قال لك ماذا؟ إذا أردت أخلص النيات، وأرفع النيات، وأعز النيات، فاحرص أن تكون نيتك ماذا؟ عبادة الله لأجل الله، لا إله إلا هو! لا طلبا لدنيا، ولا طلبا لجنة، ولا خوفا من نار، على أننا نطلب الجنة، ونخاف النار، طبعا! الأنبياء طلبوا الجنة، وخافوا النار، ولكن النية قبل ذلك وبعد ذلك؛ لأنه يستحق، لا إله إلا هو!

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.

 

الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.

قبل أن أمضي، أحبتي؛ إخوتي وأخواتي، لا بُد أن أُتحفكم بأشياء يسيرة سريعة:

مَن عرف الله على هذا النحو، مَن جعل وكده أن يُحصّل مثل هذه النية العزيزة الغريبة النادرة في معرفة الله والبخوع والخشوع له وأداء بعض ما يستحقه، لا إله إلا هو! على جهة الإخلاص والتجرد المحض التام، صدرت منه شبه المعاجز والعجائب! 

أنا أعتبر أن الإمام أبا يوسف كان آية. وأبو يوسف – رحمة الله تعالى عليه -، صاحب أبي حنيفة، لم يكن مشهورا بالزهد مثلا، بالعكس! كان هو قاضي القُضاة، وكان يعمل قاضيا عند هارون الرشيد، ملك الدنيا! خليفة العباسيين! على أنه كان تلميذ أبي حنيفة. وأبو حنيفة ولي! الناس إذا ذُكر أبو حنيفة – قدس الله سره الكريم -، فقط الذي يتبادر إليهم أنه كان العالم واسع الحيلة في تشقيق الآراء ووجوه القياس والاستحسان برد القياس الظاهر لمعنى أغمض منه وأعوص، هذا أبو حنيفة! لا، أبو حنيفة قبل ذلك وأهم من ذلك كان العابد الصالح والولي الواصل – رضوان الله عليه -. تحكي كُتب التراجم الحنفية عن أبي حنيفة، أنه كان إذا ذهب يتوضأ في الميضأة، يرى ذنوب الناس مع الماء! هذا ذنب واحد اغتاب، وهذا ذنب واحد نظر إلى ما حرم الله، هذا ذنب واحد كذب، هذا ذنب واحد حلف كذبا! يرى الذنوب في الماء، مكشوف عنه – رضوان الله عليه -. 

بلغ من صدق – تركنا أبا يوسف، وسنرجع له – أبي حنيفة أن والي الكوفة – الوالي، ليس الخليفة حتى، الوالي – منعه ذات مرة من الفُتيا! قال له يا أبا حنيفة لا تُفت الناس. أنا الوالي، ولي عليك حق الطاعة – طبعا! صاحب الأمر -، فلا تُفت الناس. فقعد في البيت، لم يعد يُفتي. جاءته ذات يوم ابنته – رضوان الله عليهما وعلى آل أبي حنيفة جميعا -، وقالت له يا أبت، أنا أصبحت اليوم صائمة – نويت صيام التطوع -، ثم إني نسيت، فخللت أسناني – بخشبة صغيرة خللت أسناني -، فنزل بعض الدم، أذهب صومي؟ قال يا بُنية، سلي أخاك حمادا، فإن الوالي منعني من الفُتيا. الله يا أبا حنيفة! ما هذا؟ 

واليوم يُوجد عندك إسلام وعمل إسلامي يقوم كله على الدغل، وعلى الكذب، وعلى الاستغلال، وعلى الازدواجية، والباطن شيء والظاهر شيء! ليس هذا الإسلام، الإسلام دين مُختلف على فكرة. أنا أقول لكم والله يا إخواني أكثر ما يحزنني وأكثر ما يؤسيني – وإن شاء الله سأتكلم في هذا الموضوع باستفاضة – أنني أشعر شعورا عميقا جدا جدا، وعندي شواهد على هذا كثيرة، وكلكم تعيشونها! أن الإسلام فعلا كالمُختطف. لم نعد نستطيع أن نتعرف الإسلام الحق، وحين نُريد، حين نذهب نُريد، أن نتعرف عليه، لا نظفر بالإسلام الحق، نظفر بإسلام آخر، هو الذي اشتُغل عليه على مدى مئة سنة! وعلى فكرة، وكان من خلفه الاستعمار، كان من خلفه الاستعمار! صنع لنا نُسخة جديدة، ليس فيها صفاء الإسلام، جوهرية الإسلام، روحانية الإسلام، ضياء وألق ونورانية هذا الدين. اللهم نوّرنا بهذا الدين مرة أُخرى يا ربي، وارحمنا بهذا التنوير. 

مَن يشهد؟ هو في بيته! وابنته تسأله! رجل صادق، هذا هو الصدق، استواء العلانية والسر، الظاهر والباطن. إذن مع مَن يصدق هو؟ مع الوالي؟ لو صدق مع الوالي، لأفتى ابنته. يصدق مع مَن؟ مع الرب الجليل، لا إله إلا هو! الذي قال له ماذا؟ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ *. وانتهى! وبما أنني أنا أعربت للوالي أنني مُلتزم بأمرك؛ تطبيقا للآية، فلا بُد أن ألتزم حقا؛ لأن الصدق مع الله، المُعاملة كما تقول العامة، مع مَن؟ المُعاملة مع مَن؟ مع الله، ليس مع الوالي، ليس مع الناس. هذا أبو حنيفة! فطبعا لا جرم أن يكون تلميذه أبو يوسف هو الذي أتى هذه العظيمة من العظائم! عظيمة في الخير والإعجاب! ما هي؟

يأتيه مرة الفضل بن الربيع – تعرفونه، وزير الرشيد، الوزير الأول عند الرشيد! بمثابة اليوم رئيس الوزراء. والرشيد كان يُحبه ويُدنيه جدا ويثق به -، يشهد في قضية، قضية! خصومة بين الناس، فيرد الإمام أبو يوسف شهادته أمام الناس. يقول له لا، لا شهادة لك، أنت مُجرّح. ماذا؟ قال له لا شهادة لك، هيا اذهب. فذهب طبعا، لم يقدر على أن يُناقش. فلما سمع الرشيد بهذا، تغيظ للغاية وغضب جدا، واستدعى أبا يوسف، قاضي القُضاة! وقال له يا شيخ، ما الذي فعلته؟ قال له هو عندي غير عدل. قال له لماذا؟ أما تعلم منزلته مني؟ قال له بلى، أنا أعلم، كيف؟ الناس كلها تعلم مَن هو الفضل! أعلم! ولكنه عندي غير عدل. قال لِمَ يا أبا يوسف؟ قال لأني سمعته يقول في مجلسك أنا عبدك. الله! الله! لو رأى اليوم مَن يقولون للحكام والسلاطين ليس عبدك…لا! أستغفر الله، شيء لا يُقال. قال له مرة هكذا؛ تزلفا، يتزلف للرشيد، قال له أنا عبدك. فالرشيد قال له وهو مُحنق مغيظ وما في ذلك؟ وما يعني هذا؟ قالها كلمة! أنا أمير المؤمنين! أنا ملك الدنيا! 

كان يملك تقريبا أكثر من نصف الدنيا، أكثر من نصف الدنيا! اليوم لا يُوجد حاكم مسلم على وجه الأرض يملك نصف الدنيا، كان يملك نصف الدنيا! هارون الرشيد، أي مسألة كبيرة مُخيفة مُرعبة! ولا طبعا أمريكا هذه تملك نصف الدنيا، هذا هارون الرشيد – رحمة الله عليه، وغفر الله له -. قال له وماذا في ذلك؟ قال له فيه يا أمير المؤمنين أنه إن كان صادقا، وهو عبد لك، فالعبد لا تُقبل شهادته على الأحرار، وإن كان كاذبا، فمَن يجترئ أن يكذب في مجلسك، يجترئ أن يكذب في مجلس القضاء. كذّاب، لا أقبل شهادته. فأرم، سكت، ولم يحر جوابا. لم يتكلم الرشيد! 

ما هذه الحالة العجيبة؟ كيف يُمكن لعالم أن يفعل هذا؟ كيف يُمكن أن تُعرّض نفسك لغضب مثل هذا الملك العظيم، الذي سطا بخمسمائة من البرامكة في ليلة واحدة، وهم الذين ربّوه ونشّأوه وكبّروه، قتلهم مرة واحدة؟ كيف تُعرّض نفسك لهذا الغضب؟ يُمكن في لحظة واحدة، أن تذهب، ليس إلى السجن، إلى المشنقة! عادي، هو يعمله لماذا؟ لأنه صادق مع الله، لا بُد أن يُقيم أمر الله تبارك وتعالى. أمر الله قبل أمر الرشيد، رضا الله…يا أخي هذا كلام، أنا أقوله وأنا خجلان من نفسي، كلام نقوله وقصص ومواعظ، ما حظنا نحن منه؟ عظّم الله حظي وحظوظكم من مثل هذه الخشية الحقيقية، من مثل هذه المعرفة الحقيقية.

حتى، أيها الإخوة، لا نُطيل أكثر من هذا؛ إذن الحالة الأولى واضحة، مَن أخلص لله، عمله مقبول، مَن أخلص لنفسه تماما، هذا المُشرك، هذا ممقوت – والعياذ بالله -، مسخوط عليه، وعمله مردود، ومُعاقب عليه. ثانيا؛ إذا تساوى الباعثان كما قلنا لكم، إذا تساوى الباعثان، تقاوما، فتساقطا، فهو نَصف، لا له ولا عليه، إذا تساوا! ثم إذا لم يتساوا، كالحالة الثالثة أو الرابعة مثلا، نُظر في الأغلب، فإن غلب حظ الله تبارك وتعالى؛ الباعث الرباني في العمل، على الباعث غير الإلهي، كان له من الأجر بمثل ما غلب. عجيب! أي هذا تدقيق عجيب! وبُشرى لنا! أليس كذلك؟ بُشرى لنا! لماذا؟ لأن ظواهر الأحاديث النبوية الشريفة أن مَن عمل عملا أشرك فيه مع الله غيره، فهو رد، فهو وشركه، الله لا يقبله. أبو حامد يعلم هذه الأحاديث كلها، قال هذه الأحاديث كثيرة ومُتعارضة، لكن هذه خُلاصة التحقيق في المسألة! يبقى لك أجر – إن شاء الله -، بقدر ماذا؟ بقدر ما فضل – لا بُد أن يكون فاضلا، لا بُد أن يكون راجحا – إرادتك وجه الله. بمقدار ما فضلت – بإذن الله -، يكون لك من الأجر.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا فقها وعلما ورشدا، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم ربنا يا ربنا آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير مَن زكاها، أنت وليها ومولاها. نعوذ بالله من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن علم لا ينفع، ومن دعوة لا تُسمع، ومن عمل لا يُرفع، ومن الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة. 

اللهم أغننا بالافتقار إليك، ولا تُفقرنا بالاستغناء عنك، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغارا، اجزهم بالحسنات إحسانا وبالسيئات مغفرة ورضوانا، واغفر اللهم للمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميع قريب مُجيب الدعوات.

اللهم ربنا يا ربنا يا ربنا تقبل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا وتلاوتنا، واختم بالسعادة آجالنا، وبالباقيات الصالحات أعمالنا، إلهنا ومولانا رب العالمين. حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، و: لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ. 

عباد الله/ 

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، وأقم الصلاة.

(8/4/2022)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: