طليعة التبيان (طليعة مُفصَّل البيان في حال ابن أبي سُفيان)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ومَن والاه.

يختم هذه الفقرة الإمام المودودي بقوله وقد كانت – التغير في طريقة عيش الخُلفاء – بداية هذا التغير في عهد مُعاوية ثم ازدادت من بعده أضعافاً مُضعَّفة.
ثلاثة: التغير في وضع بيت المال، وبدأ يتحدَّث عن هذا، قال كيف كان التصرف في أموال المُسلِمين وإلى آخره.

أربعة: زوال حرية الرأي، ويتحدَّث كيف كانت مصونة أيام الرسول والراشدين وكيف بدأت بعد ذلك الأمور تختلف مع مُعاوية، ماذا يقول؟ يقول في صفحة مائة وخمس ولقد بدأت هذه السياسة الجديدة في عصر مُعاوية بقتله سيدنا حُجر بن عدي عام واحد وأربعين هجرية وكان صحابياً جليلاً زاهداً عابداً من أكابر صلحاء الأمة، فلما بدأ في عصر مُعاوية لعنُ سيدنا عليّ فوق المنابر وسبه وشتمه جهاراً نهاراً تألَّم المُسلِمون لذلك في كل بُقعة، غير أن الناس سكتوا – الخوف – عن ذلك على ممض، إلا سيدنا حُجراً لم يستطع على ذلك صبراً فراح في الكوفة يمدح عليّاً ويذم مُعاوية، وكان المُغيرة – المُغيرة بن شُعبة – وقتها لا يزال والياً على الكوفة فتغاضى عنه – قالوا له كيف تتغاضى؟ هذا كذا وكذا ومُعاوية سيعتب عليك، قال لهم المُغيرة أنا قتلته، كيف؟ قال لهم أنا الآن عفوت عنه، يأتيه بعدي أمير لا يسكت عنه، يقتله شر قتلة، عرف المُغيرة وقال هكذا سيقتل نفسه هذا المسكين في حُب عليّ، هنيئاً له، أحسن قتلة والله لأنها في حُب آل البيت، يُحِب عليّاً عليه السلام الذي حُبه إيمان وبُغضه نفاق، وليس سبه ولعنه على المنابر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالمُغيرة تغاضى عن ذلك -، فلما انضمت الكوفة بعده إلى البَصرة في ولاية زياد – زياد ابن مَن؟ ابن سُمية، ابن عُبيد – تنازعا واختلفا، فكان زياد يسب عليّاً في الخُطبة فيقف حُجر ويرد عليه، وحدث ذات مرة في تلك الأثناء أن اعترض حُجر عليه لتأخيره خُطبة الجُمعة – هذه صلاة الجُمعة وليس الخُطبة، المفروض أنها صلاة الجُمعة، لأنه أطال في الخُطبة جداً جداً جداً وكان يسب عليّاً، فحشيَ أن يدخل وقت العصر – فقبض عليه آخر الأمر وعلى اثني عشر من رفاقه وجمع شهادات من خلق كثيرين – وباء بإثمهم للأسف أبو بُردة بن أبي موسى الأشعري، للأسف شهد عليه، أن حُجراً كفر كفرةً صلعاء شنعاء، وأتى بخمسين آخرين شهدوا بنفس الشهادات الظالمة والعياذ بالله، شهدوا على حُجر ناسك أصحاب محمد – على عريضة اتهام تقول أنه جمع إليه الجموع وأظهر شتم الخليفة ودعا إلى حرب أمير المُؤمِنين وزعم أن هذا الأمر – أي الخلافة – لا يصلح إلا في آل أبي طالب ووثب بالمصر وأخرج عامل أمير المؤمنين وأظهر عذر أبي تراب – سيدنا عليّ، أرأيت؟ ممنوع أن تُدافِع عن أبي تراب، ممنوع أن تُظهِر عذره – والترحم عليه والبراءة من عدوه وأهل حربه، وكتبوا بين هذه الشهادات شهادة القاضي شُريح لكنه بعث إلى مُعاوية كتاباً مُنفصِلاً قال له فيه بلغني أن زياداً كتب شهادتي وإن شهادتي على حُجر أنه مِمَن يُقيم الصلاة – كذبوا على شُريح، كذبوا على القاضي – ويُؤتي الزكاة ويُديم الحج والعُمرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المُنكَر، حرام الدم والمال، فإن شئت فاقتله وإن شئت فدعه – قال له هذه ستكون مُشكِلتك، لكن هذه هي شهادتي، كذبوا على القاضي، دسوا شهادة وكذبوا على القاضي، مُجرِمون قتلة وطُغاة -، هكذا جيء بهذا المُتهَم إلى مُعاوية فأمر بقتله – وقال له مُعاوية لا أقيلك ولا أستقيلك – وقال الجلّادون له قبل قتله أُمِرنا أن نعرض عليكم البراءة من عليّ واللعن له، فإن فعلتم تركناكم – هكذا طلب مُعاوية، انظر إلى الحقد، قالوا لم يأمر بسبه، يا جماعة هذا رجل حقود جداً على الإمام عليّ، اعلن البراءة منه والعنه نعف عنك وإلا تُقتَل – وإن أبيتم تركناكم، قال حُجر وأصحابه لسنا فاعلي ذلك – أي أنهم قالوا لا، يا سلام، انظر إلى الإيمان، واليوم لم يقدروا على قول كلمة حق في عليّ وفي مُعاوية، لم يقدروا ما شاء الله عليهم -، ورد مُعاوية أحدهم وهو عبد الرحمن بن حسان إلى زياد وكتب له اقتله شر قتلة – هل تعرفون كيف قتله؟ دفنه حياً -، ولقد هزت هذه الواقعة قلوب صُلحاء الأمة هزاً عنيفاً فتألَّم لها عبد الله بن عمر والسيدة عائشة، وكانت السيدة عائشة قد كتبت إلى مُعاوية تمنعه من الإقدام على هذا الفعل فلما جاء للقائها ذات مرة بعد ذلك قالت له يا مُعاوية أما خشيت الله في قتل حُجرٍ وأصحابه؟ ولما سمع بهذا الربيع بن زياد الحارثي والي مُعاوية على خراسان دعا الله – بكى طبعاً – فقال اللهم إن كان للربيع خير فاقبضه إليك وعجِّل – أهكذا قُتِل حُجر؟ -، يقول الحسن البِصري أربع خصال كن في مُعاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت مُوبِقة – تُدخِله جهنم -، انتزاؤه – من النزوان، أي القفز – على هذه الأمة بالسيف – قفز أو وثب كما قال رشيد رضا، وهذه الأولى – حتى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه – الثانية – بعده ابنه سكّيراً خمّيراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادّعاؤه – الثالثة – زياداً – استلحاق زياد ابن سُمية – وقد قال صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر – أول قضية غُيِّرَت في الإسلام -، وقتله – الرابعة والأخيرة – حُجراً وأصحاب حُجرٍ، فيا ويلاً له من حُجرٍ ويا ويلاً له من حُجرٍ وأصحاب حُجرٍ – هذا الحسن البِصري، وهذا ذكره أبو جعفر بن جرير ونقله ابن الجوزي في المُنتظَم وغيرهما -، ومن بعد ذلك ازداد تكميم أفواه الناس قهراً وجبراً وظُلماً، فقد رفس مروان بن الحكم أيام كان والياً على المدينة سيدنا المسور بن مخرمة لأنه ارتكب جريمة كُبرى بقوله له بئس ما قلت – رفسه أمام الناس، وهو صحابي -، وقد خطب الحجّاج يوماً وأخَّر الصلاة – لكن الحجّاج لم يرفس فقط، هل تعرفون ماذا فعل الحجّاج؟ كان يضع أساور في أيدي وفي أعناق بعض الصحابة كأنس بن مالك، أي أحد يُخالِفه يضع له سواراً كالبعير وما إلى ذلك ليُشير إلى أنه مغضوب عليه، سياسة حقيرة جداً، استغلال لكبار الصحابة، وهذا ثابت على الحجّاج – فاعترض على ذلك عبد الله بن عمر وقال له إن الشمس لا تنتظرك – هذا ابن عمر، ولك أن تتخيَّل هذا، ابن عمر “فاروق الإسلام”، هل تعرف ماذا قال له؟ – فقال له الحجّاج لقد هممت أن أضرب الذي فيه عيناك – أي أقطع رأسك، أرأيت؟ مُجرِم ليس عنده احترام، لا تقل لي ابن عمر ولا عمر حتى نفسه، فهو لم يُحترَم، مُعاوية لم يحترم عمر نفسه، قال له منك ومن أبيك -، ولما ذهب عبد الملك بن مروان إلى المدينة عام خمسة وسبعين وارتقى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن إني لن أُداوي أمراض هذه الأمة بغير السيف، والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه – وقد فعلها مرة -، وذات مرة أطال الوليد بن عبد الملك خُطبة الجُمعة حتى اصفرت الشمس فقام إليه رجل فقال إن الوقت لا ينتظرك وإن الرب لا يعذرك، فأجابه الوليد صدقت ومَن قال مثل مقالتك فلا ينبغي له أن يقوم من مقامك، فقتله الحرس – قتلوه في المسجد، (ملحوظة) نظر الأستاذ الدكتور عدنان إبراهين إلى أحد الحضور قائلاً وتسألني يا محمد لماذا كان العلماء ساكتين؟ بسبب الرعب، رعب يا جماعة، وفي المسجد أيضاً قُطِعَت أيدي أربعين وقيل ثمانين من الأمّارين بالمعروف والنهّائين عن المُنكَر، زياد قطَّع أيديهم ومُعاوية قال لا تُوجَد مُشكِلة، وسوف ترون قطع الأيدي هذا الآن -، هذه السياسة نزعت من المُسلِمين شجاعتهم – أرأيتم؟ بداية نكبتنا كما قلت لكم، هذه كارثة أخصتنا، خصي Castration – رويداً رويداً وجعلتهم خدّام المنفعة وعبّاد المصلحة – رضوان الله على المودودي، والله لقد نطق بالحق الرجل، فعلاً هذا ما حدث في الأمة لمَن أحبوا أن يفهموا فقط – فنقصت فيهم أعداد مَن لا يخافون – يعني أن الشجعان نقصوا – في الحق لومة لائم، وارتفع في المُجتمَع سعر المُداهَنة والمُصانَعة والنفاق وبيع الضمير وفساد الذمة …. وإلى آخره.
خمسة: زوال حرية القضاء.
ستة: انتهاء حكومة الشورى، وهذه كلها أشياء معروفة لكم.
سبعة: ظهور العصبيات القومية، خاصة بنو أُمية بالذات عندهم عصبية ليست للعرب بل لقبائل على قبائل، القيسية والمضرية والعدنانية والقحطانية، وعبّاس العقاد فنَّد في هذا تفنيداً جميلاً جداً جداً، علماً بأن مُعاوية لم يحشر ولم يدق إسفيناً بين العرب والعجم مما ترتب عليه بعد ذلك ظهور الحركات الشعوبية وإنما بين العرب وأنفسهم، مزَّق العرب أنفسهم مُعاوية، اقرأ للعقّاد واقرأ التاريخ، اقرأ الطبري تر ماذا فعل مُعاوية بالعرب أنفسهم، شيئ رهيب، ويقولون حاكم عظيم وما إلى ذلك!
ثمانية: زوال سيادة القانون، ما هي سيادة القانون؟ الشريعة على الجميع، أليس كذلك؟ والذي نفس محمد بيده لو أن فلانة سرقت لقطعت يدها، وذكر السيدة الشريفة عليها السلام، سيدة نساء العالمين، أليس كذلك؟ هذه سيادة القانون، قالوا ليست على الكل، ليست علينا، يقول المودودي – رحمة الله عليه – والمُصيبة الكُبرى التي حلت بالمُسلِمين في زمن المُلك كانت انتهاك سيادة القانون مع أنها كانت من أهم المباديء الأساسية في الدولة الإسلامية …. قدَّم مُقدّمات ثم بدأ يقول لك كيف صارت في مراحل، 1- في عهد مُعاوية، هذه أول بداية، قال بدأت هذه السياسة مع بداية عهد مُعاوية، ويرى الإمام الزُهري – محمد بن مسلم بن شهاب – أنه في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين الأربعة كانت السُنة ألا يرث الكافر مُسلِماً ولا يرث المُسلِم كافراً فشرع مُعاوية أثناء حكومته يُورِّث المُسلِم كافراً ولا يُورِّث الكافر مُسلِماً، فأبطل سيدنا عمر بن عبد العزيز هذه البدعة فيما بعد، غير أن هشام بن عبد الملك أعادها سيرتها الأولى – هذا كان أولاً -، ويقول ابن كثير إن مُعاوية قد بدَّل سُنة الرسول والخُلفاء الراشدين في الدية، وكانت دية المُعاهَد – أو المُعاهِد، يصح اسم فاعل ويصح اسم مفعول – مُساويةً لدية المُسلِم فخفَضها – أو فخفَّضها – مُعاوية إلى النصف وكان يأخذ النصف الآخر لنفسه – تفضَّل، هذه المُصيبة، الأمر لا يتعلَّق بأنه خفَّضها إلى النصف فقط على اعتبار أن الإسلام أشرف، فهي كانت دية كاملة وكان يُعطي أهل الذمة النصف ويأخذ النصف الآخر في جيبه لنفسه، هذا ابن كثير ذكره في البداية والنهاية لكي تعرف مَن بدَّل سُنة الرسول -، وثمة بدعة كريهة أُخرى ظهرت في عهد مُعاوية، وهي أن مُعاوية نفسه وسائر ولاته بأمره كانوا يكيلون السب والشتم لسيدنا عليّ في خُطبهم على المنابر لدرجة أن كانوا يلعنونه وهو أحب أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قلبه الشريف من فوق منبر المسجد النبوي – من فوق منبر ابن عمه وأخيه الذي أصهر إليه عليه السلام – نفسه وأمام الروضة النبوية – لا يستحي من محمد عليه السلام، لعنة الله على الظالمين، يسبونه أمام رسول الله، الرسول يسمع – ذاتها. وكان أولاد سيدنا علي وأقرب أقربائه يسمعون هذا اللعن بآذانهم.

ولذلك الإمام الحسن كان لا يذهب إلى الجُمعة، يذهب فقط لكي يركع معهم الركعتين ولا يسمع الخُطب، وليس هذا فحسب، لم يقتصر الأمر على أبي محمد الحسن فمُعظَم الناس توقَّفوا عن الذهاب إلى الصلاة لأنهم كانوا يكرهون هذا، ماذا فعل بنو أمية؟ عكسوا الأمر، صاروا يُقدِّمون الخُطبة على الصلاة في العيدين، والمفروض أن العيد عكس الجُمعة طبعاً، قالوا لا، في الأول سنخطب، لكي تظل جالساً رُغماً عنك، لو صلينا في البداية كالرسول لذهبت الناس دون أن تسمع، مروان فعل هذا، أبو سعيد الخُدري قال له ما هذا؟ لقد غيَّرت، الأمر لم يكن هكذا، قال له مروان الخبيث يا أبا سعيد لقد ذهب ما هنالك، أي أن سُنة نبيك انتهت، يا ربي! هذا حديث صحيح سوف نأتي لكم به، قال له لقد ذهب ما هنالك، مُعاوية في الحج – كان يحج في الناس – صلى في منى على السُنة المحمَّدية وأصاب، هل صلى بالإتمام أم بالقصر؟ بالقصر، النبي كان يقصر في منى، فقام له مروان بن الحكم الخبيث المُخبَّث وقال له بئس ما قابلت به ابن عمك، يقصد عثمان، قال له أنت أسأت إلى عثمان، قال له لماذا؟ وهل هناك غير ما صنعت؟ بمعنى أنه قال من أيام الرسول مروراً بأيام أبي بكر وعمر كانت الصلاة على هذا النحو، قال له ابن عمك عثمان – هذه من المسائل التي أُخِذَت عليه – كان يُتِم – رضوان الله تعالى عليه – الصلاة في منى، والناس أنكروا على عثمان، هذه مسألة من خمس عشرة مسألة اشتُهِر الإنكار على عثمان فيها، لماذا يُتِم الصلاة في منى؟ النبي كان يقصر، فقال له عثمان كان يُتِم وأنت الآن قصرت ومن ثم أسأت إليه، سكت مُعاوية، حين قام يُصلي العصر أتم عيني عينك، فلتذهب سُنة محمد إلى الجحيم، ماذا نفعل بأفعال محمد وأبي بكر وعمر؟ فلنفعل مثل عثمان، نحن أُميون وهذا الدين لنا والمُلك مُلكنا ونلعب به كما نُريد، شيئ مُخيف، وهذا أخرجه أحمد، وسوف نذكر طبعاً كل شيئ وبالأسانيد في وقته إن شاء الله لكي تعرفوا الحقيقة!
ماذا يقول الإمام المودودي؟ إن سب أي شخص بعد وفاة أمرٌ مُجافٍ للأخلاق الإنسانية فضلاً عن مُجافاته للشريعة، كما أن خلط خُطبة الجُمعة على وجه الخصوص بمثل تلك البذاءات كان من وجهة نظر الدين والأخلاق عملاً فظاً شديد القبح، فلما تولى سيدنا عمر بن عبد العزيز بدَّل هذه السُنة كما بدَّل غيرها من السُنن القبيحة التي كانت سنتها عائلته – بنو أُمية – فمنع لعن سيدنا عليّ وأحل محله الآية الكريمة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩ من سورة النحل – من آخر النحل طبعاً -، كذلك خالف مُعاوية كتاب الله وسُنة الرسول خلافاً ظاهراً في تقسيم مال الغنائم، فكتاب الله وسُنة الرسول ينصان على ضرورة ذهاب خمس مال الغنيمة إلى بيت المال وتقسيم الأربعة أخماس – المفروض الأربعة الأخماس، هو كتب الأربعة أخماس وهذا خطأ – الباقية بين الجُند الذين اشتركوا في الحرب والقتال، أما مُعاوية – انظر ماذا فعل مُعاوية – فقد أمر باستخراج الذهب – أي بالاستصفاء – والفضة من مال الغنائم واختص بها نفسه ثم قسَّم باقي المال حسب القاعدة الشرعية – قال الذهب والفضة لي، ولذلك بنى القصور وعمل أشياء عجيبة ما شاء الله، من أين له هذا؟ هل مُرتَّب عمر كان هكذا؟ هل مُرتَّب أبي بكر كان هكذا؟ مات أبو بكر وكُفِّن في ثوبه -، كذلك ارتكب مُعاوية من أجل أغراضه السياسية ما يُخالِف إحدى مُسلَّمات الشريعة الغراء حين ألحق زياد ابن سُمية بنسبه، فلقد كان زياد ابن جارية من الطائف اسمها سُمية ويقول الناس إن أبا سُفيان والد مُعاوية كان زنى بها في الجاهلية فحملت منه وأشار أبو سُفيان نفسه ذات مرة إلى أن زياداً جاء من نُطفته تلك فلما شب الفتى زياد ثبت أنه صاحب ملكات وكفاءات غير عادية وأنه حكيم مُخطِّط وقائد حربي من أعلى طراز، وكان من أحمى حُماة سيدنا عليّ في خلافته – كان والياً لعليّ – وأدى له خدمات جليلة عُظمى ولكي يُخضِعه مُعاوية ويجعل منه حامياً له ومُعيناً جاء بشهود شهدوا أن والده أبا سُفيان قد زنى بسُمية وأن زياداً ابن غير شرعي لأبيه وعلى هذا أقره أخاً له وواحداً من أهل بيته، وإن كان هذا الفعل مكروهاً من الناحية الأخلاقية بالطبع فإنه من الناحية القانونية – أي الشرعية – عمل غير مشروع البتة، إذ الشريعة لا تُثبِت نسباً من الزنا، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا واضح وصريح، الولد للفراش وللعاهر الحجر – ليس له ولد يُنسَب إليه وإنما له حجر فيُرجَم، هذا هو العاهر، ليس له ولد، أتُطالِب بولد يا بعيد؟ لك الحجر، أنت تُقتَل -، ولهذا كانت أم المُؤمِنين السيدة أم حبيبة – أخت مُعاوية – رضيَ الله عنها ترفض الاعتراف بزياد أخ لها وتحتجب منه – وكان أبو بكرة أخا زياد من أمه، وهو نُفيع بن الحارث الثقفي، هذا الصحابي الجليل المشهور كان يقول هذه مُصيبة، قال ماذا يفعل مع أم حبيبة زوج النبي؟ فإن هي انكشفت أمامه فيا لها مُصيبة، هذه مُصيبة لأنه ليس أخاها، هذا ابن زنا، وإن هي ردته فيا لها فضيحة، قال ما الذي يفعله أخي المجنون زياد؟ ما الذي يفعله مُعاوية وهو أمير المُؤمِنين؟ هذا لعب بالدين، لعب بالأحكام يا جماعة -، كذلك رفع مُعاوية ولاته فوق القانون ورفض رفضاً قاطعاً مُحاسَبتهم حسب أحكام الشريعة على ظلمهم وتعديهم، فذات مرة كان واليه على البصرة وهو عبد الله بن عمرو بن غيلان يخطب في المسجد فرماه شخص بحجر – ولم يكن حجراً في الحقيقة وإنما حصباء، حصوة صغيرة بسبب أيضاً موضوع السب وعليّ وما إلى ذلك – فأمر أعوانه فأمسكوا به وقطعوا يده مع أن الشريعة لا ترى ذلك جُرماً تُقطَع فيه يد فاعله فاستغاث الرجل بمُعاوية – في الحقيقة هو لم يستغث وإنما قومه هم الذين استغاثوا لكي يُقتاد، قومه وقبيلته استغاثوا بمُعاوية – فقال لا سبيل إلى القود من نوابي ولكن الدية – لا يُوجَد قصاص، قال أنا لا أقص من ولاتي، أيضاً غيَّر الدين، هذا نفس الشيئ، النبي قص من نفسه لكن هو لا يقص من ولاته، يُعطي فقط مالاً – وأعطاه الدية من بيت المال، وحين عيَّن مُعاوية زياداً والياً على الكوفة إلى جانب البصرة – جمع له الاثنتين – وارتقى منبر المسجد – زياد – الجامع في الكوفة ليخطب خُطبته الأولى رماه بعض الناس بالحجارة فأمر أتباعه فأغلقوا أبواب المسجد وقبضوا عليهم جميعاً واختلفت الأخبار في عددهم بين ثلاثين إلى ثمانين رجلاً وقطعوا أيديهم – أيدي ثمانين رجلاً – فلم تُرفَع عليهم دعوى ولم يُقدَّموا إلى محكمة – أي الجُناة – ولم تثبت عليهم شهادات صحيحة قانونية، إنما كل ما حدث هو أن الوالي قطع أيدي كل أولئك – عن المجني عليهم – بأمر إداري منه وهو ما لا يجوز في الشرع قط ولم يحفل بذلك البلاط أبداً – انظروا إلى أنه يُسميه البلاط، أي البلاط الملوكي، بلاط مُعاوية – ولم يُعِره أدنى التفات أو اهتمام – لكي تعرفوا الطُغيان الذي عاش المُسلِمون في ظله، طُغيان يا جماعة، طُغيان حقيقي وإجرام -، وأكثر من هذا ظلماً ما ارتكبه بُسر بن أبي أرطأة – هذا صحابي وهو الذي يقول فيه الدارقطني له صُحبة وليس له استقامة، مُنحرِف مُجرِم – الذي كان مُعاوية أرسله من قبله ليستخلص الحجاز واليمن من يد سيدنا عليّ ثم بعثه بعد ذلك ليستولي على همدان، فماذا فعل؟ قبض على طفلين صغيرين – هذا في اليمن طبعاً وليس في همدان – من أبناء عُبيد الله بن عباس – هذا والي عليّ على اليمن وقد هرب طبعاً، سمع أن هذا أتى فهرب – والي اليمن من قبل سيدنا عليّ وقتلهما فذهب عقل أمهما من جراء صدمتها، فلما رأت إحدى نساء بني كنانة هذا الظُلم صاحت – اسمعوا هذه الكلمة، هذه امرأة حكيمة، أحكم من هؤلاء المشائخ المساكين – قالت يا هذا – لبُسر – قتلت الرجال فعلام تقتل هذين؟ والله ما كانوا يُقتَلون في الجاهلية والإسلام، والله يا ابن أبي أرطأة إن سُلطاناً لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسُلطان سوء – ويقولون لك مُلك من أحسن من المُلك، مُلك مُعاوية رضيَ الله عنه كله عدل ورحمة، هذه المرأة قالت لا، قالت له والله هذا سُلطان سوء، ماذا تفعلون في الناس؟ ما هذا؟ -، بعد كل هذا بعث مُعاوية هذا الشخص نفسه – وهو بُسر الصحابي – على رأس حملة إلى همدان وكانت في يد سيدنا عليّ آنذاك فارتكب إلى جانب مظالمه الأُخرى ظلماً آخر عظيماً إذ سبى النساء المُسلِمات اللاتي أُخِذن في تلك الحرب مع أن الشريعة لا تُبيح هذا أبداً – وكما قلت في الخُطبة أمس وبعن في السوق على عظم سوقهن، يُكشَف عن ساق الحُرة، يُفعَل هذا مع المرأة الحُرة التي لها أب وزوج وابن، هؤلاء النساء كُن نساء حرائر ولسنا إماء، فكلما كان عظم ساقها عظيماً بيعت بثمن أنفس، هذه مُصيبة، أول نساء سُبين في الإسلام هؤلاء، كن أول نساء -، كل ذلك كأنه كان إعلاناً وتصريحاً للولاة والقادة بالحُرية المُطلَقة – يقول المودودي هذا، مُعاوية أعطاهم الحُرية المُطلَقة، كأن هذا مرسوم – في ظلم الناس وعدم اتباع أي حد من حدود الشريعة في الأمور السياسية، كذلك بدأت تنشر في ذلك العصر – يا له من عصر – حكاية قطع الرؤوس وإرسالها من مكان إلى آخر – هذا شيئ لعين، أبو بكر الصديق لما حُمِلَت إليه رأس بعض المُرتَدين غضب جداً وقال ألا لا يُحمَلن إليّ رأسٌ بعد اليوم، قال لهم هل أنتم همج؟ هل أنتم برابرة؟ حتى لو هم كفار اقتل وادفن، النبي دفن قتلى الكفار في قليب بدر، أليس كذلك؟ دفنهم، دفن الشهداء المُسلِمين ثم دفن الكفار يا جماعة، فأبو بكر رفض، لكن أيام مُعاوية بدأت سياسة بعث الرؤوس، وبعد ذلك وضع الرؤوس على أبواب المساجد أو أبواب الأسواق، وبعد ذلك صلب الناس، ويبقون ثلاث سنوات مصلوبين حتى يُصبِحوا عظاماً، مثل الإمام زيد وغيره، لمُدة ثلاث سنوات، وعبد الله بن الزُبير لأيام وأسابيع، شيئ عجيب – كما شاعت بين المُسلِمين أبشع أساليب هتك حُرمات الجُثث والتمثيل بها وهو ما كان ذائعاً في الجاهلية وحرَّمه الإسلام تحريماً شديداً وقضى عليه قضاءً مُبرَماً، وأول رأس قُطِعَ في الإسلام – هل تعرفون رأس مَن؟ عمّار بن ياسر – كان رأس سيدنا عمّار بن ياسر، ولقد نقل الإمام أحمد بن حنبل في مُسنَده بسند صحيح كما نقل ابن سعد في الطبقات رواية تقول إن رأس سيدنا عمّار قُطِعَ في حرب صفين وأُحضِرَ إلى مُعاوية وتنازع عليه رجلان كلاهما يزعم أنه هو الذي قتل عمّاراً – وبشَّرهم عبد الله بن عمرو بأن الرسول قال قاتل عمّار وسالبه في النار، قال لهم تفضَّلوا واهنأوا، قال له ألا تكف عنا مجنونك هذا؟ مُعاوية قال أنه يتحدَّث بهذه الأحاديث وسيتسبب في تثوير الناس علينا، لكن النبي هو الذي قال هذا – وكان الثاني بعد ذلك رأس عمرو بن الحمق – هذا صحابي – كان بين صحابة رسول الله – هذا كان من الذين اشتركوا في التأليب على عثمان في الفتنة – ولكنه اشترك في قتل سيدنا عثمان، وحاولت الحكومة أثناء ولاية زياد على العراق أن تُمسِك به ففر وأختبأ في غار فعضته فيه حية فمات فلما وصل إليه مَن كانوا يتعقَّبونه قطعوا رأس جُثته وأخذوه إلى زياد فأرسله – رأس هذا الصحابي – إلى مُعاوية في دمشق فطُوِّفَ به في المدينة ثم أُلقيَ في حجر زوجته – شيئ رهيب، ثم بدأوا يزدادون – وكذلك سلكوا نفس هذا السلوك الوحشي الفظيع مع محمد بن أبي بكر – الرجل الصالح، ابن أبي بكر الصديق وربيب الإمام عليّ عليه السلام، تلميذه وربيبه الذي تربى في حجره، لأنه تزوَّج أمه أسماء بنت عُميس – في مصر وكان والياً عليها من قبل سيدنا عليّ فلما استولى عليها مُعاوية قتله ثم وضع جُثته في جلد حمار ميت وأحرقها…. لم يفعل هذا بيده طبعاً وإنما فعله ولاته ورجاله لكن هذا كله بأمر واحد، ومن بعد ذلك أصبح هذا أسلوباً شائعاً وقد رأيتم رأس الحُسين ورأس أصحابه وإلى آخره.

نكتفي من المودودي بهذه الكلمات، إن شاء الله بقيَ الآن لدينا ربما ربع ساعة أو ثُلث ساعة نقرأ صحائف يسيرة من كل أحد، الإمام محمد أبو زهرة – الإمام المُجاهِد العلم الفقيه الأصولي وأستاذ الأساتيذ رحمة الله تعالى عليه – في كتابه الإمام زيد، طبعة دار الفكر العربي في مصر دائماً طبعاً، في الصفحة السادسة والتسعين يقول وجدت الدولة الأُموية بعد النزاع الذي قام حول الخلافة بين الإمام عليّ كرَّم الله وجهه – جد الإمام زيد طبعاً – ومُعاوية بن أبي سُفيان الذي ابتدأ من جانب مُعاوية بالمُطالَبة بدم عثمان رضيَ الله عنه باعتباره من أولياء دمه واتهامه عليّاً بأنه مالأ على قتله – أرأيت؟ – وأن قتلته في جيشه ولم يقتص منهم، وتحوَّل النزاع من حال إلى حال إذ أنه بعد تحكيم الحكمين عندما عضت الحرب مُعاوية وجيشه وعلموا علم اليقين أن جيشهم وهو جيش البُغاة مقضي عليه لا محالة فدعوا إلى التحكيم وقبله عليّ على كرهٍ منه وانتهى الأمر فيه إلى تحقيق الخُدعة وعندئذ نادى مُعاوية بنفسه خليفة، ولقد انتهى الخلاف بين عليّ – المُهِم بدأ يحكي الرجل ما حدث وسنُكمِل – كرَّم الله وجهه ومُعاوية بن أبي سُفيان بقتل أحد الخوارج عليّاً رضيَ الله عنه ومُصالَحة الحسن بن عليّ رضيَ الله عنهما لمُعاوية، وإذا كانت السوف قد غُمِدَت أمداً فلتظهر أحد وأشد من بعد ذلك إذ أن مُعاوية عهد لابنه يزيد، وما كان يزيد مِمَن يُرضى عنه في خُلق أو دين أو على الأقل لم يُشتهَر عنه ذلك، وقد اعتُبِرَ هذا أمراً غريباً على حُكم الإسلام، ولذلك عده الصالحون من المُؤمِنين مما ابتدعه مُعاوية في الدين، وإذا كان قد ادّعى أنه يُقلِّد – يقول عن مُعاوية – أبا بكر في عهد لعمر بن الخطاب فإن وجه القياس غير صحيح، فإن أبا بكر ما عهد إلى ابنه عبد الرحمن أو غيره بل عهد إلى رجل كان وزيراً من وزراء النبي صلى الله عليه وسلم ولا تربطه به قرابة قريبة أو بعيدة وهو الفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إنه العبقري الذي لم يفر أحدٌ في الإسلام فريه، وقال عليه السلام إن الله كذا وكذا…. ولقد قال الحسن البِصري في هذا المقام وغيره بالنسبة لما ابتدعه مُعاوية بن أبي سُفيان أربع خصال في مُعاوية لو لم تكن فيه…. سمعتموهن قبل قليل، أتى بهن الإمام أبو زهرة ثم قال بعد ذلك لم يرتض الناس تلك البدعة التي ابتدعها مُعاوية وحوَّل بها الحكم الإسلامي من خلافة نبوية قوامها الشورى إلى مُلكٍ عضوض يُعَض عليه بالنواجذ ووقع ما تنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال الخلافةُ بعدي ثلاثون ثم تصير مُلكاً عضوضاً، وإذا كان مُعاوية بدهائه وتمكن سُلطانه لم يجعل أحداً يُعلِن التململ والانتقاد فإن ذلك الانتقاد قد ظهر بمُجرَّد موته…. وبدأ يحكي كيف انبثق في الإسلام البثق الكبير وإلى آخره، وتكلَّم بعد ذلك عن قتل عُبيد الله بن زياد ابن سُمية الحسين وقال الحسن البِصري واحسرتاه! ماذا لقيت هذه الأُمة؟ قتلت ابن دعيها ابن نبيها، الله على الكلمة، قال ما هذه الأُمة؟ ما هذا القدر؟ ما هذا المصير؟ قال واحسرتاه! ماذا لقيت هذه الأُمة؟ قتلت ابن دعيها ابن نبيها، عُبيد الله بن زياد الدعي الذي هو ابن سُمية وابن أبي سُفيان من الزنا يقتل الحُسين ابن فاطمة وابن عليّ، الله أكبر يا أخي، الله أكبر، قال اللهم كن له بالمرصاد، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون، هذا الحسن البِصري، وبدأ يتكلَّم أبو زهرة ثم قال في النهاية – لكي نختم – فقد سن مُعاوية سُنة سيئة في الإسلام – أبو زهرة يقول هذا – وهي لعن إمام الهُدى على بن أبي طالب كرَّم الله وجهه على المنابر بعد خُطبة الجُمعة – هو يقول بعد لكن في الحقيقة هذا كان في الخُطبة، هذا تجاوز لأن الحقيقة أنه كان في الخُطبة – وقد تضافرت على ذلك أخبار المُؤرِّخين، فذكره ابن جرير في تاريخه وابن الأثير وغيرهما، ولقد نهاه عن تلك السية بل عن تلك الجريمة الكُبرى – يقول الجريمة الكُبرى – الأتقياء من بقية الصحابة رضيَ الله عنهم ومن هؤلاء السيدة أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم المُؤمِنين، فقد أرسلت إليه كتاباً هذا نصه: “إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم – أستغفر الله – وذلك أنكم تلعنون عليّ بن أبي طالب ومَن أحبه، وأشهد أن الله أحبه ورسوله” – تلعنون مَن أحبه! قالت أنا أشهد أن الله أحبه ورسوله، كيف تفعل هذا الآن؟ هذا لا يعنيهم ولا يهمهم -، ولكن مُعاوية لم يلتفت إلى إلى كلامها واستمر فيه غيه – هذا أبو زهرة فانتبهوا، قال لم يلتفت واستمر في غيه -، وقد استمر ذلك طول حكم الأمويين ولم يلغ إلا فترة حكم الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز رضيَ الله عنه…. لم يُلغِه إلا عمر بن عبد العزيز إلى آخر الكلام المعروف، يقول وكان هذا بلا شك مُثيراً لأحقاد المُؤمِنين ولم يرضه أحد من المُسلِمين مُعلِناً رضاء إلا أولئك الذين وضعوا قلوبهم تحت سُلطان الحكّام – يعني المُنافِقين – وتحت سُلطان أهل الدنيا لا يبغون عنهم حولا ولا يتجهون إلى الله أبداً.

ثم يحكي حتى يقول كان الحكم الأُموي مع ما أجرى الله على أيدي قوّاده من فتوح إسلامية – أقول قوّاده الذين قُتِلوا بسيوف سلاطين بني أُمية، فهؤلاء قُتِلوا وهذا الدرس يجب أن نتعلَّمه – يتسم بالقسوة السياسية، ويمنع الناس من أن يبدوا آراءهم في الحكّام إلا ما يُوافِق هواهم – هوى الحكّام -، وكان يتجه إلى تقديس كل ما يفعله الولاة والحكّام، حتى كانوا يُعبِّرون عن أنفسهم بأنهم خُلفاء الله، وحتى إنه ليتطاول أمثال الحجّاج بن يوسف الثقفي فيسأل أيهما خير خليفة الله أم رسوله؟ فلعنه الله إن كان قد ذلك وإن تلك الكلمة التي صاح بها عبد الملك بن مروان في البيت الحرام وجموع الحجيج حاشدة: “مَن قال لي اتق الله قطعت عنقه” كانت شعار الملوك من بني أُمية وولاتهم، اللهم إلا تلك الفترة التي كانت كومضة البرق في ذلك الظلام الدامس وهي عصر الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز… سنتان ونصف تقريباً، أرأيت؟ وفي النهاية يقول تعليقات فنكتفي بهذا.
نأتي الآن إلى شهيد الإسلام سيد قطب رحمة الله تعالى عليه، له كلام أيضاً غير طويل، يقول فلما جاء الأُمويون وصارت الخلافة الإسلامية مُلكاً عضوضاً في بني أُمية لم يكن ذلك من وحي الإسلام إنما كان من وحي الجاهلية الذي أطفأ إشراقه الروح الإسلامي، ويكفي أن نُثبِت هنا بعض الروايات عن المُلابَسات التي صاحبت البيعة ليزيد بن مُعاوية: كان مُعاوية بعد أخذ البيعة ليزيد في الشام قد كلَّف سعيد بن العاص – وقلنا أن سعيد بن العاص يكون والياً على المدينة في مرة ثم يكون مروان بن الحكم الوالي في المرة الأُخرى، أي أنهما يتعاقبان – أن يحتال لإقناع أهل الحجاز فعجز, فسار مُعاوية إلى مكة ومعه الجند والمال ودعا وجهاء المسلمين فقال لهم…. سيأتي بكلام نحن سنُتابِعه – إن شاء الله – في حلقات جائية عن استخلاف مُعاوية ليزيد لأن الوقت أدركنا الآن للأسف الشديد، وبعد ذلك يذكر كيف تمت البيعة ليزيد التي لم تكن عن رضا من الناس أبداً، يقول فبايع الناس.
يقول على هذا الأساس الذي لا يعترف به الإسلام البتة قام مُلك يزيد. فمَن هو يزيد؟ هو الذي يقول فيه عبد الله بن حنظلة – والده غسيل الملائكة – “والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمي بالحجارة من السماء. إن رجلاً ينكح الأمهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة والله لو لم يكن معي أحدٌ من الناس لأبليت الله فيه بلاء حسناً”. فإذا كانت هذه مقالة خصم ليزيد فإن تصرفات يزيد العملية الواقعية فيما بعد من قتل للحُسين ـ رضي الله عنه ـ على ذلك النحو الشنيع – انظر إلى ذكاء، أعني ذكاء سيد قطب، يأتي واحد من هؤلاء المساكين الدارويش ويقول لم يصح هذا، سنده كذا وكذا، لكن سيد قطب الآن ليس رجلاً مُحدِّثاً ولا يتكلَّم بالأسانيد، قال سنفترض أن هذه الرواية فيها مُبالَغة ولم تصح، لكن لو صحت سوف تقولون هذا خصم له، يا سيدي دعنا تنزلاً من هذه الرواية، انظر في مجاريات يزيد العملية، ماذا جرى على الإسلام منه؟ ماذا فعل يزيد؟ قاتل أهل البيت ودمَّر الحرمين، أليس كذلك؟ إذن هو شرٌ مما قاله عبد الله بن حنظلة، يجب أن نقرأ التاريخ بعقل لا أن نستهبل على الناس، يُقال لم يثبت ولم يصح وقال فيه فلان، لكن ماذا عن تصرفاته المُتواتِرة؟ ماذا عن تاريخه؟ هل تُنكِر تاريخه كله؟ إلى حصار البيت ورميه… إلخ – فضلاً عن ما حدث في المدينة، استباحة المدينة في وقعة الحرة – تشهد بأن خصوم يزيد لم يبالغوا كثيراً فيما قالوه. وأياً ما كان الأمر – اسمع التعبير القُطبي – فإن أحداً لا يجرؤ على الزعم بأن يزيد كان أصلح المسلمين للخلافة وفيهم الصحابة والتابعون، إنما كانت مسألة وراثة المُلك في البيت الأموي – التي سنها مُعاوية -، وكان هذا الاتجاه طعنة نافذة في قلب الإسلام ونظام الإسلام واتجاه الإسلام.
ذُبِحَ الإسلام، يقول مُعاوية ذبح الإسلام، طعن الإسلام في قلبه، اسمع التعبير القُطبي، يقول وكان هذا الاتجاه طعنة نافذةً – أي قاتلة – في قلب الإسلام ونظام الإسلام واتجاه الإسلام، فرضيَ الله عن سيد قطب ورحمة الله تعالى عليه.

(ملحوظة) سأل أحد الحضور عن رقم الصفحة التي يقتبس منها الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم فقال صفحة مائة وخمس وخمسين، ثم سأله عن اسم الكتاب فقال كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام، طبعاً دار الشروق، كل طبعات القُطبيين في دار الشروق.

هنا كلام عن عدل عليّ ويُقارِن وما إلى ذلك، في النهاية ماذا يقول؟ يقول ولقد كان من الطبيعي ألا يرضى المُستنفِعون عن عليّ – المُستنفِعون يوافقهم ويُلائمهم مُعاوية، أهل الحق يُلائمهم عليّ، إذا كنت تُريد الحق والدين اذهب إلى عليّ، أما إذا كنت تُريد الدنيا لا تذهب إلى عليّ، اذهب إلى مُعاوية، عليّ ليس عنده دنيا، عنده دين وعنده آخرة – رضي الله عنه وألا يقنع بشرعة المُساواة مَن اعتادوا التفضيل ومَن مردوا على الاستئثار، فانحاز هؤلاء في النهاية إلى المُعسكَر الآخر “مُعسكَر أمية” حيث يجدون فيه تحقيقاً لأطماعهم على حساب العدل والحق اللذين يصر عليهما عليّ رضي الله عنه هذا الإصرار، والذين يرون في مُعاوية دهاء وبراعة لا يرونهما في عليّ ويعزون إليهما غلبة مُعاوية في النهاية إنما يُخطئون تقدير الظروف كما يُخطئون فهم عليّ وواجبه. لقد كان واجب عليّ الأول والأخير أن يرد للتقاليد الإسلامية قوتها وأن يرد إلى الدين روحه وأن يجلو الغاشية التي غشت هذا الروح على أيدي بني أُمية في كبرة عثمان – أي في علو سنه وآخر أيامه -. ولو جارى وسائل بني أُمية في المعركة لبطلت مُهِمته الحقيقية – أي ترجمة مباديء الإسلام، سوف يُصبِح مثلهم – ولما كان لظفره بالخلافة خالصة من قيمة في حياة هذا الدين – حتى لو أخذ الحياة كلها بهذه المباديء ماذا سوف نستفيد منه؟ كلام فارغ، سوف يكون مثل مُعاوية -. إن عليّاً إما أن يكون عليّاً أو فلتذهب الخلافة عنه – كان يقول والله ما مُعاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ولا أغدر، هو غدّار لكنني لست غدّاراً، وكان يقول والله إني لأعلم ما يُصلِحكم ولكن لا أُصلِحكم بفساد آخرتي أو قال بفساد ديني، مُعاوية يبيع دينه وليس عنده أي مُشكِلة، لكن أنا لست كذلك، لا أُريد هذا، ولذلك في النهاية قال لأهل العراق لقد مللتكم ومللتموني، اللهم أبدلهم شراً مني وأبدلهم خيراً مني، فاستُشهِد من صبيحتها، لقد مل من الناس، الناس لا تُريد الحق -، بل فلتذهب حياته معها. وهذا هو الفهم الصحيح الذي لم يغب عنه كرَّم الله وجهه وهو يقول فيما روُيَ عنه إن صحت الرواية “والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر. ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس” – والله هذه يقولها كل ذكي، هذه الكلمة أُقسِم بالله يفهمها ويقولها كل ذكي، لكن كيف؟ الذكي هو الذي يمهد لنفسه في الآخرة وليس الذي يبيع آخرته بدنياه، تذهب الدنيا إلى الجحيم – ومضى عليّ إلى رحمة ربه وجاء بنو أمية.

انظر ماذا يقول عن مُعاوية الآن، يقول فلإن كان إيمان عثمان وورعه ورقته كانت تقف حاجزاً أمام بني أُمية لقد انهار هذا الحاجز وانفتح الطريق للانحراف – مع مَن؟ مع مُعاوية -. لقد اتسعت رُقعة الإسلام فيما بعد، ولكن…. وبدأ يتكلَّم هنا عن بني أُمية وماذا فعلوا، يُمكِن أن تعودوا إلى هذه الصفحات، من صفحة مائة وأربع وستين إلى مائة وسبع وستين.
في النهاية – آخر شيئ نقتبسه – يقول الشهيد – رحمة الله عليه – وإذ كنا لا نؤرخ هنا للدولة الإسلامية ولكن للروح الإسلامي في الحكم فإننا نكتفي في إبراز مظاهر التحول والانحسار في هذا الروح بإثبات ثلاث خطب من عهد الملوك وبمُوازَنتها بالخُطب الثلاث التي سبقت في عهد الخُلفاء يتبيَّن الفارق العميق.

خطب مُعاوية في أهل الكوفة بعد الصلح فقال: “يا أهل الكوفة! أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون؟ ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم؛ وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول, وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين”.

(ملحوظة) سأل أحد الحضور عن المُراد بقوله مطلول؟ فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم مطلول من طل، بمعنى أنه مهدور ولا يُطالَب به، لا تُوجَد دية ولا يُوجَد قصاص، ذهب هدراً.

يقول وخطب كذلك في أهل المدينة فقال: “أما بعد, فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي. ولكني جالدتكم – وفي رواية خالستكم – بسيفي مُجالَدةً. ولقد رضت لكم نفسي – حاولت واجتهدت – على عمل ابن أبي قُحافة – قل أبي بكر، قل الصدّيق! هكذا قال ابن أبي قُحافة – وأردتها على عمل عمر فنفرت من ذلك نفاراً شديداً – طبعاً هذه ليست طبيعته، طبيعته ليست صدّيقية ولا عُمرية، طبيعته سُفيانية -، وأردتها على سنيات عثمان – عثمان رقيق ويُعطي ويتألَّف، كان طيباً – فأبت علىّ – إذن ماذا تُريد؟ قال أنا نمط مُختلِف عن كل هؤلاء -، فسلكت بها طريقاً لي ولكم فيه منفعة ومؤاكلة حسنة ومُشارَبة جميلة, فإن لم تجدوني خيركم , فإني خير لكم ولاية …”
وخطب المنصور – أبو جعفر الدوانيقي طبعاً، أبو الدوانيق – العباسي – لا علاقة لنا بالمنصور الآن، لكن سنرى ماذا قال المنصور لكي نعرف كيف تحوَّلت الأمور بالكامل – وقد فعلت الموجة الأُموية فعلها في تصور الحكم – التصور نفسه تسمَّم، الفقه السياسي تسمَّم عند المُسلِمين – حتى انتهت به أيام العباسيي إلى نظرية الحق الإلهي المُقدَّس – الحاكم ظل الله في الأرض – التي لا يعرفها الإسلام فقال – أبو جعفر – “أيها الناس: إنما أنا سُلطان الله في أرضه, أسوسكم بتوفيقه وتأييده؛ وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته – علماً بأن مُعاوية مثله في هذا، أليس كذلك؟ لقد قلنا هذا في خُطبة قبل أسابيع – وإرادته, وأعطيه بإذنه, فقد جعلني الله عليه قفلاً، إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم، وإن شاء أن يقفلني عليه أقفلني”!
وبذلك – يقول سيد قطب – خرجت سياسة الحكم نهائياً من دائرة الإسلام وتعاليم الإسلام.

أتُريد الإسلام؟ ذهب الإسلام، هل تعرف ما الذي بقيَ من الإسلام؟ سأقول لك لكن هؤلاء الجماعة لا يحفلون ولا يهتمون، بقيَ أن تُطيل اللحية وتلبس غُطرة وتلبس دشداشة وتتسبَّب في معركة من أجل كيفية وضع اليد في الصلاة ومن أجل نهي الصُحبة عن النزول بالركبة ولبس الكرافتة، هذا الذي بقيَ من الإسلام، هذا إسلامهم، أما الحكم وحياة الناس ودماء الناس وأعراض الناس ومصلحة الدعوة والإسلام والدين لا يعنيهم.

هنا لدينا المُفكِّر الجزائري الكبير مالك بن نبي – رحمة الله تعالى عليه – في كتابه شروط النهضة، طبعاً طبعة دار الفكر الدمشقية فهي التي تطبع كُتبه، في الصفحة الثانية والخمسين يقول ولا شك أن المرحلة الأولى – هو يُحقِّب، يقوم بعمل تحقيباً للحضارة الإسلامية، مرحلة الروح ومرحلة العقل وبعد ذلك مرحلة الغريزة، ومعروفة نظريته رحمة الله تعالى عليه – من مراحل الحضارة الإسلامية التي ابتدأت من غار حراء إلى صفين – انتبه إلى هذا، عنده المرحلة الأولى وهي الأعظم والأطهر والأقدس من لحظة الوحي إلى صفين، أي إلى معركة صفين – وهي المرحلة الرئيسية التي تركبت فيها عناصرها الجوهرية إنما كانت دينية بحتة تسودها الروح – أي الروح الدينية -. ففي هذه الحقبة ظلت روح المُؤمِن هي العامل النفسي الرئيسي، من ليلة حراء إلى أن وصلت إلى القمة الروحية للحضارة الإسلامية، وهو ما يوافق واقعة صفين عام ثمانية وثلاثين هجرية. ولست أدري لماذا لم يتنبَّه المُؤرِّخون إلى هذه الواقعة التي حولت هجرى التاريخ الاسلامي – مالك بن نبي يرى أنه بعد معركة صفين للأسف انتهت حقبة الروح، كأن خط الإمام عليّ تراجع للأسق الشديد تحت وطأة الأحداث البائسة التي حصلت وبدأ الخط الأُموي يتقدَّم – إذ أُخرِجت الحضارة الإسلامية إلى طور القيصرية – قال من الخلافة إلى المُلك، قال لماذا لم يتنبَّهوا له؟ هذا ملك بن نبي، أرأيت؟ فيلسوف الإسلام في عصره – الذي يسوده عامل العقل – العقل والحسابات، العقل الميكافيلي، علماً بأن أول الميكافيليين هو مُعاوية بن أبي سُفيان قبل ميكافيلي Machiavelli، الفيلسوف الكبير والمُفكِّر المغربي اليساري عبد الله العُروي سبحان الله عنده دراسة عن الميكافيلية ويذكر فيها هذا المعنى -، وتُزيِّنه الأُبهة والعظمة، في الوقت الذي بدأت تظهر فيه بوادر الفتور الدالة على أفول الروح. فإن مُؤرِّخينا لم يروا في تلك الكارثة إلا ظاهرة ثانوية – كما قال المودودي رأوها فتنة، واتضح أنها ليست فتنة، اتضح أنها انعطافة كاملة في مسار تاريخ أُمة محمد، مالك بن نبي لم يرو في تلك الكارثة إلا ظاهرة ثانوية، فهو قال كارثة إذن -، وهي نشوء التشيع في العالم الإسلامي، مع تداولهم لحديث ألمح فيه الرسول إلى تلك الكارثة، وقد ورد فيه ما معناه: أن الخلافة تكون بعده أربعين عاماً – في الحقيقة ليست أربعين وإنما ثلاثين – ثم تكون مُلكاً عضوضاً. ولا شأن لنا هنا بتحقيق مدى صحته من جهة السند أو الرواية. الأمر الذي يهمنا هو أنه مما لا شك فيه أن الحضارة الإسلامية قد خرجت من عمق النفوس، كقوة دافعة، إلى سطح الأرض تنتشر أفقيا من شاطىء الأطلنطي إلى حدود الصين. وهكذا وجدنا الحضارة الإسلامية تتوسَّع وتنشر فوق الأرض، تتغلَّب أولا على جاذبيتها بما تبقى لديها من مخزون روحي – أي بالقصور الذاتي الخاص بها -، حتى إذا ما وهنت فيها قوى الروح، وجدناها تخلد إلى الأرض شيئاً فشيئاً. وقد بدأ العلم…. هذا عصر العقل، العقل والحسابات والمصالح والمنفعة والمادة لكن خبت الروح للأسف الشديد، يقول هذا حصل في صفين.

الشيخ الداعية – شيخ الدُعاة في العصر الحديث كما يُلقِّبه مولانا الشيخ البوطي – محمد الغزالي – رحمة الله تعالى عليه – يتحدَّث هل تُورَّث الزعامة؟ في الحقيقة في شأن مُعاوية لم تُورَث وإنما وُرِّثَت، لأنها لو كانت تُورَث لكانت حقاً طبيعياً له، لكنها وُرِّثَت كحق مُغتصَب، فيتحدَّث هنا ويقول خشية أبى بكر لها ما يُبرِّرها، وقد وُليَ مُعاوية الشام فرسم سياسةً – انظر إلى الغزالي الذي كان يفهم هذا – بعيدة المدى لجعلها قاعدة ملك وطيد – هل تعرفون مَن فصَّل في هذه العبارة تماماً في هذا المعنى؟ عباس العقاد، عباس العقاد أثبت في كتابه عن مُعاوية أن مُعاوية من أيام ولايته في الشام كان يُخطِّط ليُصبِح خليفة، حتى موقفه في فتنة عثمان يدخل ضمن ذلك، فصَّل في هذا العقاد وأتى بأشياء فاقرأوا كتابه، يقول الشيخ الغزالي نفس الشيئ ونفس المعنى -٬ فلما حانت الفرصة وثب الداهية – هكذا يُعبِّر عنه، أرأيت؟ يقول فلما حانت الفرصة وثب الداهية، طبعاً هذا أي كتاب؟ كتاب الشيخ محمد الغزالي بعنوان الإسلام والاستبداد السياسي، صفحة مائة وسبع وسبعين، طبعة نهضة مصر – على الأمة فى محنتها ونصَّب نفسه ملكاً عليها. مرت سنين – المفروض سنون لكن مكتوب سنين وهذا تطبيع، هذا ليس خطأ الغزالي، المفروض سنون – عجاف – انظر إلى هذا، يرى أن خلافة مُعاوية سنون عجاف، لم تكن مُلكاً من أحسن المُلك – ثم أعلن مُعاوية أن يزيد ولى عهده على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك عادت الأيام سيرتها الأولى – ما أحلى الغزالي إذا كتب يا أخي! ما هذا الأديب يا أخي؟ ما هذا؟ مُلهَم يا أخي، ما هذه الكتابة؟ رحمة الله عليه – ورجع مُلك عبد شمس إليهم – هذه القصة كلها، يُلخِّصها الشيخ محمد الغزالي -! وكما تحوَّلت الثورة فى فرنسا بعد إعلان حقوق الإنسان إلى “إمبراطورية نابليونية” تحولت أمة الإسلام، دين الأزل والأبد٬ أمة القرآن، ختام وحى الله لهداية عباد الله تحوَّلت إلى مُلك لأسرة كان لها فى الجاهلية شآن – أي في مُحارَبة الإسلام، صارت لهم -، إن هذا المُلك الذى جنح إليه مُعاوية فسَّر أعماله السابقة تفسيراً سيئاً – يعني تصرّفه كملك وتوريثه ابنه جعلنا نفهم لماذا حارب عليّاً وتعلّل بقميص عثمان ولم يُبايع وشق الأمة، الآن نحن فهمناك يا مُعاوية، أرأيت؟ ذكي، مثلما قال المودودي -٬ وكان يُمكِن تشبيه خلافه مع عليّ بخلاف طلحة والزُبير وغيرهما مع عليّ٬ بيد أن الدلالة الصارخة لتمليك يزيد تجعل البون شاسعاً بين معاوية والصحابة الأجلاء – الذين يسألون عن الفرق بين خلاف طلحة والزُبير وبين هذا الخلاف الآن يُجيبهم الشيخ الغزالي وهناك المزيد -. إن الخلفاء السابقين عدا عثمان رضيَ الله عنه كان لهم بنون٬ فأما أبو بكر فلم يخطر بباله أن يُرشِّح ابنه لخلافة – ونقول لإخواننا الشيعة لماذا نُحِب أبا بكر وعمر ونُحسِن الظن بهما، والله العظيم لم يتغوّلا أموال الأمة ولم يُترفا ولم يعهدا إلى أولادهما، كان عندهما حرص على مصلحة الأمة وصدق وحُب، ولذلك رحمة الله على عليّ شريعتي الذي أعرب عن إعجابه بعمر وعدل عمر في أكثر من موضع في كتبه، فعتب عليه الشيعة، كيف تقول هذا في عمر؟ هذا طاغية وكذا، يا أخي عمر يأسرك، إذا أردت أن تكون موضوعياً يأسرك بعدله الرجل، وكذلك الصدّيق – وأما عمر فقد نص على حرمان ابنه – لم يقتصر الأمر على عدم تولية ابنه بل نص على حرمانه، قال لهم إلا هذا، نعم للستة لكن لا لابن عمر، لا يُمكِن أن يكون خليفة -، وأما عليّ فقد طلب الناس إليه أن يستخلف الحسن فأبى٬ وقال: لا آمركم ولا أنهاكم.. أنتم أعلم. تلك هى سُنة الخُلفاء الراشدين المهديين التى أمر النبى أن نعض عليها بالنواجذ، وحذَّرنا مما عداها قائلاً: “إياكم ومُحدَثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة”. ذلك مع أن يزيد شاب لا يقرن فى قياس أبداً مع واحد من أبناء الخُلفاء السابقين.

في فقرة سابقة هنا قال يزيد هذا لا يُؤتمَن على إدارة مدرسة ابتدائية وليس على خُلافة أُمة محمد وفيها الحُسين وكبار الصحابة!
أبو الحسن الندوي الحسني الشريف والعلّامة الكبير في أول كتبه ماذا خسر العالم بانحطاط المُسلِمين؟ – ألَّفه وهو في الثلاثين من عمره، كتاب عجيب، وهو الذي نشر له صيتاً في العالم العربي والإسلامي – لا يتكلَّم عن مُعاوية بالاسم لكن يقصده تماماً، منعه مُراعاة الجو والتقاليد طبعاً، لكن هذا واضح تماماً، يتحدَّث أيضاً عن الانحطاط في الأُمة الإسلامية ويُسميه الانحطاط في الحياة الإسلامية، كيف بدأ الانحطاط؟ وما هي عوامله؟ في صفحة مائة واثنين وثلاثين يقول من الأسباب انتقال الإمامة من الأكفاء إلى غير الأكفاء – والسؤال مَن الذي نقلها؟ مَن المسؤول؟ مُعاوية -: ولكن من الأسف ومن سوء حظ العالم البشري – انظر إلى هذا الكلام الجميل، ليس من سوء حظ الأُمة الإسلامية بل من سوء حظ العالم، ونحن رأينا المُستشرِق الألماني أبو برلين الذي قال لولا مُعاوية لكنا اليوم أمماً عربية مُسلِمة، للأسف هذا إدراك المسألة في عمقها الحقيقي يا جماعة، فهو يقول من سوء حظ العالم البشري لأن الكتاب اسمه ماذا خسر العالم بانحطاط المُسلِمين؟ لو لم ينحط لسعد العالم كله، لكن للأسف حتى العالم حُرِم، ونحن أول المحرومين – أن تولى هذا المنصب الخطير رجال لم يكونوا له أكفاء، ولم يعدوا له عُدة ولم يأخذوا له أُهبة – علماً بأنه هندي وهذا تعبيره بالعربية، انظر إلى هذا، ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ ۩، هذا تعبير الندوي، العربية تعلَّمها تعلَّماً، لكن انظر إلى اللغة العربية التي عنده، شيئ عجيب -، ولم يتلقوا تربية دينية وخُلقية كما تلقى الأولون، وكثيرون في عصرهم وجيلهم، ولم يُسيغوا تعاليم الإسلام إساغةً – انظر إلى هذا – تليق بقيادة الأمة الإسلامية – انظر إلى هذا الفهم، لكي تكون قائداً يا أخي في أمة فيها الصحابة يجب أن تكون مُتضطلِعاً من زمزم الشريعة، يجب أن تكون الشريعة صيتت بلحمك ودمك، تكون من السابقين الأولين وليس من الذين أسلموا في الساعة الرابعة والعشرين، في آخر ساعة أسلموا، في آخر ساعة في يوم الإسلام وتحت السيف – والاضطلاع بزعامتها، ولم تنق رؤوسهم – أرأيت؟ يقول لم تنق، رؤوسهم لا تزال وسخة، فيها جاهليات – ولا نفوسهم من بقايا التربية القديمة – أي الجاهلية الأولى -، ولم يكن عندهم من روح الجهاد في سبيل الإسلام ومن قوة الاجتهاد في المسائل الدينية والدنيوية ما يجعلهم يضطلعون بأعباء الخلافة الإسلامية…. اسمعوا الآن واكتبوا هذا، قولوا قال الندوي، ماذا يقول؟ يقول وهذا الحكم عامٌ يشمل خلفاء بني أمية وبني العباس، حاشا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز – تفضَّلوا هذا، يقول لكم لا أستثني لا مُعاوية ولا غيره، لكن لن أنطق باسمه، تمنعني حسابات كثيرة، تفضَّلوا هذا، لكن رضيَ الله عنه قالها، أرأيت؟ قال لم تنق رؤوسهم ولا نفوسهم ولم يُسيغوا ولم ولم ولم، وأنا مُتأكِّد من أنه يقصد قصداً أولياً مُعاوية، لأنه أول مَن سن هذه السُنة الخبيثة في جعلها استبدادية، أليس كذلك؟ ولذلك ضميره لم يسمح له أن يسكت بالكامل، فماذا قال؟ قال وهذا الحكم عامٌ يشمل خلفاء بني أمية وبني العباس، حاشا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، ولنعم ما قال، هذا واضح جداً، أوضح من الوضوح، أرأيت؟
بعد ذلك يقول تحريفات الحياة الإسلامية وفصل الدين عن السياسة – علمنة الحياة الإسلامية، مَن أول مَن بدأها؟ مُعاوية، هذه الجُزئية مُهِمة لكي تفهموا، وسيقولها الندوي لكن جمجمةً، لكنها واضحة تماماً، فهي واضحة إن شاء الله -: وقع فصلٌ بين الدين والسياسة عملياً – ليس نظرياً وأيديولوجياً وإنما عملياً، مُعاوية كان يقول لن نحول بين الناس وبين ما يُريدون ما لم يحولوا بيننا وبين أمرنا هذا، أذكرني هذا بقول تيتو Tito وقول لينين Lenin اتركوا لنا السياسة ولكم الخمر والنساء، افعلوا ما تُريدون لكن السياسة لنا، مُعاوية قال لهم هذا، السياسة لنا، علماً بأن محمد عمارة كتب هذا، كتب مُعاوية كان من الذين سنوا العلمانية في الحياة الإسلامية، قال لن نحول بين الناس وفي رواية بين ألسنتهم بمعنى أن يتكلَّموا ما لم يحولوا بيننا وبين أمرنا هذا -، فإن هؤلاء لم يكونوا من العلم والدين بمكان يستغنون به عن غيرهم من العلماء وأهل الدين فاستبدوا بالحكم والسياسة، واستعانوا إذا أرادوا واقتضت المصالح بالفقهاء ورجال الدين كمُشيرين مُتخصِّصين، واستخدموهم في مصالحهم واستغنوا عنهم إذا شاؤوا، وعصروهم متى شاءوا، فتحرَّرت السياسة من رقابة الدين، وأصبحت قيصرية أو كسروية مُستبِدة، وملكاً عضوضاً – يُشير إلى ماذا؟ حديث رسول الله: الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون مُلكاً عضوضاً، يُشير إلى مَن؟ إلى مُعاوية، هذا واضح لكنه لا يقدر على التصريح للأسف -، وأصبحت السياسة كجمل هائج حبله على غاربه، وأصبح رجال الدين والعلم بين مُعارِض للخلافة وخارج عليها، وحائد مُنعزِل اشتغل بخاصة نفسه وأغمض العين عما يقع ويجري حوله، يائساً من الإصلاح، ومُنتقِدٍ يتلهف ويتنفس الصعداء مما يرى ولا يملك من الأمر شيئاً، ومُتعاوِن مع الحكومة لمصلحة دينية أو شخصية، ولكلٍّ ما نوى، وحينئذ انفصل الدين والسياسة، وعادا كما كانا قبل عهد الخلافة الراشدة، أصبح الدين مقصوص الجناح مكتوف الأيدي، وأصبحت السياسة مُطلَقة اليد حرة التصرف نافذة الكلمة صاحبة الأمر والنهي، ومن ثمَّ أصبح رجال العلم والدين طبقةً – Class أو Schicht – مُتميِّزة، ورجال الدنيا طبقة مُتميِّزة، والشقة بينهما شاسعة، وفي بعض الأحيان بينهما عداء وتنافس.

نكتفي بهذا القدر، إن شاء الله بهذا النقل عن الإمام أبي الحسن الندوي – روَّح الله روحه وطيَّب ذكره وبلَّل ثراه بشآبيب الرحمة – نختم هذه الطليعة كما أسميناها، هذه طليعة مُفصَّل البيان في حال ابن أبي سُفيان إن شاء الله، نبدأ في الجد في الحلقة المُقبِلة، نُحاكِم بل نحتكم في شأن مُعاوية إلى سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والصحابة والتابعين، إلى الأخبار والآثار بالأسانيد والنقول إن شاء الله تبارك وتعالى، ثم نُتابِع الحلقات بإذن الله تبارك وتعالى، بعد ذلك امرؤٌ حجيج نفسه، بعد أن تسمع وبعد أن تُدرِك وبعد أن ترى ماذا قال العلماء والأئمة الكبار والناس الموثوقون أنت بصيرٌ بأمرك وحجيج نفسك، إياك إياك أن يُخرِجك العناد أو الكياد عن اتباع مهيع الحق الواسع، إياك إياك.
أسأل الله لي ولكم كل خير وأن يُنوِّر أفئدتنا وأن يُقدِّس ضمائرنا وأن يُلهِمنا رشدنا وأن يُعيذنا من شر نفوسنا، والحمد لله وحده والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، والحمد لله رب العالمين.

(تابعونا في الحلقات القادمة)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: