– الأستاذ المُهندِس طرفة بغجاتي: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نُتابِع معكم أيها الإخوة الأفاضل وأيتها الأخوات الفاضلات الحلقة الثامنة في سلسلة ذكريات واحتفاليات مرور تسعمائة سنة على وفاة الإمام حُجة الإسلام أبي حامد الغزالي مع شيخنا الفاضل عدنان إبراهيم، تفضَّل شيخ عدنان.

– الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

إخواني وأخواتي:

بلغنا إلى قول الإمام في تهافته: ولو كانت علومهم الإلهية مُتقَنةً البراهين نقيةً عن التخمين كعلومهم الحسابية – أي الرياضية – والمنطقية لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية، هذا الكلام انظر إليه، جُملة واحدة تقريباً أو جُملتان قصيرتنا وجيزتان ولكنهما ذواتا مضمونٍ هائل، هذا الكلام بالذات أيها الإخوة اقتبسه وتستطيعون أن تقولوا سرقه الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت René Descartes، مَن قرأ كتابه يعلم هذا، كان بودي أن أعقد مُقارَنة لكن هذا يحتاج إلى مُحاضَرة بحيالها، مُحاضَرة مُطوَّلة لأربع أو خمس ساعات: مُقارَنة بين ديكارت Descartes وأبي حامد، أين استفاد رينيه ديكارت René Descartes من أبي حامد؟ وهي مُقارَنة ليست صعبة، فقط تقرأ التهافت وتقرأ المُنقِذ من الضلال بالذات وتقرأ مقال في المنهج ترجمة عثمان أمين لرينيه ديكارت René Descartes،وسوف ترى أن الرجل تقريباً عالة – عالة تامة – على أبي حامد، وسأحكي لكم هذا، سأحكي لكم تفاصيل هذه الجُملة، لماذا كان ديكارت Descartes عالة على أبي حامد؟ أحد لصوص فكر أبي حامد دون أن يُشير إليه بكلمة، دون أن يُشير إلى عطائه بحرفٍ واحد، سرقة للأسف الشديد تامة، جريمة كاملة، هذا ذكره ديكارت Descartes أيها الإخوة – نفس الشيئ – في معرض نقده للميتافيزيقا.

من المسائل التي ماثل بل طابق فيها رينيه ديكارت René Descartes أبا حامد الغزّالي مسألة هامة، وذكرت هذا في مُحاضَراتي التعريفية بالفلسفة، رينيه ديكارت René Descartes كان يرى أن العقل له حدود ينبغي أن يقف عندها وهي الحدود التي يبدأ من لدنها الوحي، وكان يُقرِّر بشكل واضح أن حقائق الوحي حقائق وفق العقل، لا يستقل العقل بإدراكها، لا مُدخَلية فيها للعقل نفياً وإثباتاً، ممنوع أن يقول العقل أنا لا أعتقد بهذه الأشياء، هذه أشياء غير صحيحة وغير معقولة فأنا أرفضها، ديكارت Descartes قال هذا لا يجوز، علينا أن نتقبَّل حقائق الوحي على أنها حقائق غير معقولة، أي Irrational facts، أبو حامد كان أكثر دقة كما سأشرحه اليوم لدى شرحي لموقف أبي حامد بين العقل والنقل، أبو حامد كان أدق بكثير، لكنه استفاد هذا أيضاً من أبي حامد الغزّالي، متى سنعرف تفصيل هذا؟ حين نتكلَّم بعد أن ننتهي من الفلسفة عن موقف أبي حامد بين العقل والنقل، أبو حامد فرَّق بين نطاقين في هذه المسألة، على كل حال ديكارت Descartes استفاد كثيراً من أبي حامد دون أن يُشير!

هناك قصة مُهِمة جداً أن نقف عليها، في أوائل السبعينيات – ربما في سنة إحدى وسبعين – في مدينة عنابة بالجزائر التأم المُؤتمَر العاشر للفكر الإسلامي، وجمع صفوة العلماء والمُفكِّرين العرب والمُسلِمين، وكان أحد نجوم ذلكم المُؤتمَر البحّاثة الكبير التونسي الدكتور عثمان الكعّاك – رحمة الله تعالى عليه – الذي فاجأ المُؤتمِرين بحقيقة خطيرة جداً تتعلَّق بأبي حامد وتأثيره على ديكارت Descartes، ذكر البحّاثة الكعّاك – رحمة الله تعالى عليه – أن العلّامة المصري الدكتور محمد عبد الهادي أبا ريدة والذي كانت تربطه بالدكتور الكعّاك علاقة وثيقة طلب إليه أن يُعاوِنه في بحثٍ أو عملٍ بحثيٍ يتوفَّر عليه الدكتور أبو ريدة بخصوص تأثير الحُجة الغزّالي في الفكر الغربي، وبما أن الكعّاك التونسي كان يعمل أميناً للمكتبة الوطنية فإنه استطاع أن يصل إلى مكتبة رينيه ديكارت René Descartes، فوصل إليها وبدأ يُطالِع، وفُوجيء بنُسخة من المُنقِذ من الضلال مُترجَمة إلى اللاتينية في مُقتنيات ديكارت Descartes، كانت من ضمن مُقتنياته، وبخط ديكارت Descartes بالقلم الأحمر موضوع على أكثر من فقرة: يُنقَل هذا إلى منهجنا “مقال في المنهج”، يُنقَل هذا إلى منهجنا، يُنقَل هذا إلى منهجنا! شيئ غريب، سرقة واضحة أيها الإخوة وبخط ديكارت Descartes، البحّاثة الكعّاك وجد هذا، من ضمن الذين كانوا مُؤتمِرين هناك الدكتور العلّامة البوطي الذي لا يزال حياً أمتع الله به، العالم السوري الشهير قال ولا ندري ماذا حصل، في ثاني يوم – في اليوم التالي على هذه الحقيقة التي أسفرت بوجهها للمُؤتمِرين – وُجِدَ الدكتور الكعّاك ميتاً في غُرفته، فلا يُدرى أوافق المقدور أم أن الرجل دُسَّ له شيئٌ أو مات اختناقاً، لا ندري! وفي اليوم التالي حدث هذا، لو مات في نفس الليلة لقلت هذا قدر واضح، أليس كذلك؟ لكن أن يموت في يوم تالٍ يعني أن الخبر انتشر ووصل بعض الدوائر ربما فتم التخلص من الرجل، طبعاً إلى الآن أين الكتاب هذا المُترجَم؟ لا ندري، أين خط ديكارت Descartes؟ضاع كل شيئ، شيئ عجيب، هناك نطاق ثقافي يُريد أن يُفهِم نفسه والعالم أننا مُستقِلون، نبدأ من الصفر تقريباً، أو أننا امتداد لأصولنا اليونانية الرومانية، هؤلاء العرب السراسنة المُتوحِّشون لم يُقدِّموا وليس من شأنهم أن يُقدِّموا شيئاً، هذا يغيظهم، يغيظهم كثيراً أن يثبت أن كبار عباقرتهم مُجرَّد لصوص مُتلصِّصة على تراث المُسلِمين، على كل حال مقال في المنهج موجود، يستطيع – كما قلت لكم – أي واحد فيكم أن يقرأه في جلسة، المُنقِذ من الضلال حتى أقل منه بقليل، كُتيب المُنقِذ، اقرأ هذا واقرأ هذا وستعلم تماماً أن روح أبي حامد تسري في مقال في المنهج، روح أبي حامد واضحة، واضحة تماماً يا إخواني، لكن هذه كانت وثيقة، كان الدكتور الكعّاك سيُحسِن كثيراً لو أنه صوَّر على الأقل هذه الأشياء وأتاحها، للأسف الشديد هذا لم يحصل، لكن هكذا قضى الله تبارك وتعالى، وبفضل الله هذا أُذيع في مُؤتمَر حضره عشرات إن لم يكن مئات المُفكِّرين والباحثين في عنابة بالجزائر، أعتقد هذا في واحد وسبعين، المُؤتمَر العاشر للفكر الإسلامي، ومكتوب هذا في محاضر المُؤتمَر، وأورده الدكتور المصري محمود زقزوق وزير الأوقاف وأورده البوطي، كثيرون أوروده، أورده الباحث أنور الجُندي في أكثر من كتاب، حقيقة هذه صدعت رؤوس الناس وفاجئتهم، مُفاجأة سعيدة!

سوف نرى أن مالبرانش Malebranche وديفيد هيوم Hume وإلى حدٍ ما كانط Kant أيضاً استفادوا أشياء من أبي حامد الغزّالي لكنهم لم يُصرِّحوا، ديفيد هيوم David Hume عندي أنا أقطع أنه سرق هذا من أبي حامد، سوف ترون حين نتحدَّث عن السببية أنه سرق هذا بشكل واضح لأنه انتحل حتى المثال مع تغيير مُفرَدات المثال، تماماً واضح أن المُنقِذ من الضلال كان مُترجَماً، التهافت لعله أيضاً كان مُترجَماً باللاتينية، وتُخفى هذه التراجم لأنها تُشكِّل معيناً لهم يتلصَّصون من خلاله على تراثنا ومواريثنا!

على كل حال حكيت لكم في حلقات سابقة أيها الإخوة أن أبا حامد سواء في التهافت أو في المُنقِذ حتى من الضلال باختصار لم يُهاجِم الفلسفة هكذا بشكلٍ مُتعسِّف أو مُعتبِط أبداً لكن بشكل مُمنهَج، جاء ونظر بعد أن توفَّر على دراستها ثلاث سنين كوامل – سنتين للدرس وسنة للهضم والتمثل كما ذكر هذا في المُنقِذ من الضلال أيضاً – فميَّز بين العلوم والفنون التي تنضوي تحت لواء الفلسفة – الفلسفة كانت أم العلوم، فسطاط العلوم – فوجدها ستة، أي ستة أنواع من العلوم، العلوم الرياضية ويدخل فيها الحساب والهندسة والفلك، أبو حامد قال هذه براهين – هذه علوم برهانية – وتُوجِب اليقين وهذا صحيح، وهذا ما كرَّره إيمانويل كانط Immanuel Kant ومن قبله أستاذه المعنوي طبعاً ديفيد هيوم David Hume الاسكتلندي ومن بعدهما المدرسة الوضعية عموماً وخاصة الوضعية المنطقية، وإلى اليوم هذا يُشكِّل أو يُمثِّل إحدى حقائق فلسفة العلم الحديثة والمُعاصِرة، أن التحليليات يقينيات، كل العلوم التحليلية يقينية، لماذا؟ لأن التحليلي تحصيلي، والتحصيلي لا يأتي بشيئ زائد، أليس كذلك؟ فإذا قلت لك أربعة وقلت لك الأربعة تُساوي اثنين زائد اثنين هذا يقيني، هذه مسألة يقينية، لماذا؟ لأن معنى الأربعة أصلاً أنها اثنان زائد اثنين أو ثلاثة زائد واحد أو خمسة ناقص واحد وإلى آخره، هذا تحصيلي، لا يُوجَد فيه شيئ جديد، أبو حامد قال هذا، قال هذه علوم يقينية وبرهانية – برهانها قوي – لا سبيل إلى مُجاحَدتها، وقد أنحى باللائمة إمامنا وحُجتنا – رحمة الله تعالى عليه – على الصديق الجاهل، سميه في القرن المُنصرِم الشيخ محمد الغزّالي، شيخ الدُعاة في العصر الحديث رحمة الله تعالى عليه، الشيخ محمد الغزالي المصري تعرفونه، وفي الحقيقة هو سُميَ بالغزالي رغم أنه من دار السقا، العائلة هي السقا، لكن والده كان رجلاً أقرب إلى الأُمية وكان صالحاً طيباً، سُبحان الله مثل والد أبي حامد، وكان يُحِب العلماء وبالذات أبا حامد الغزّالي، كان مُغرَماً بأبي حامد وإحيائه، فعرض له مرة في المنام وقال له يا شيخ فلان امرأتك علقت منك الليلة بولد سيكون له شأن عظيم في أمة محمد سمه باسمي محمد الغزّالي، هذا معروف، هذه قصة الشيخ المُعاصِر محمد الغزالي رحمة الله تعالى عليه، وله دور – والله – وأي دور! لابد أن يُقدَّر قدر هذا الرجل ويُعرَف إسهامه في ترشيد العقل المُسلِم – والله – وفي الفهم المُتوسِّط الرائع المُهندَس، الفهم المُهندَس للدين حقيقةً، لذلك الشيخ البوطي يدعوه ماذا؟ شيخ مشائخ الدُعاة في القرن العشرين، الداعية الحقيقي هو الشيخ محمد الغزالي، هذا الداعية الحقيقي المُتكامِل في شخصيته – رحمة الله تعالى عليه – وعلومه وخطابه واتزانه ووسطيته، طيَّب الله ثراه وحشرنا معه إن شاء الله في زُمرة محمد وآل محمد، فقال له سمه محمد الغزّالي فسماه محمد الغزّالي، لكن هو من دار السقا وليس من دار الغزّالي، شيئ غريب، فسميه محمد الغزالي المُعاصِر – رحمة الله تعالى عليه – كان يقول القضية العادلة والمُحامون الفشلة، الإسلام قضية عادلة لكن للأسف الشديد تخسر هذه القضية دائماً أو على الأغلب، لماذا؟ لأن مَن يتصدى للدفاع عنها مُحامٍ فاشل، يدّعي أنه مُحامٍ وأنه يعرف كل شيئ وهو فاشل، ليس مثلك مَن يُدافِع عن الإسلام، وكان دائماً الشيخ محمد الغزالي يتمثَّل بقولة أو بمقولة العلّامة الموسوعي محمد فريد وجدي: الإسلام أجل من أن يُؤخَذ عن أفواه الحمقى والمُغفَّلين، كل أحمق ومُغفَّل يُطلِق لحية يقول لك أنا شيخ، يا أخي ما الكلام الفارغ هذا؟ ما هذا؟ الزم حدك يا رجل، كل واحد صار شيخاً ويتكلَّم باسم الله ويتكلَّم بالنيابة عن الحق فيُفسِد أكثر مما يُحسِن، فالشيخ الإمام أبو حامد الغزّالي – رحمة الله عليه – ماذا كان يقول؟ ولولا سوء نصرة الصديق الجاهل لما انتهت تلك البدعة – مع ضعفها – إلى هذه الدرجة، الشيخ الغزالي المُعاصِر أخذها من سميه القديم الحُجة، هذا تعبير أبي حامد، في كُتبه للرد على الباطنية وفي المُنقِذ من الضلال وفي التهافت يستخدم هذا المُصطلَح: الصديق الجاهل، صديق للإسلام لكنه جاهل للأسف الشديد، يأتي يُدافِع في الإسلام فيُجاحِد في اليقنيات، يقول بما أن الفلاسفة تكلَّموا في الفلك فهذا خطأ، وكذلك الحال إذا تكلَّموا في الحساب وفي الرياضيات، يا أخي هذه معلومات يقينية، هذه برهانية، ممنوع أن تُعارِضها، تأتي تُعارِضها لأن الفلاسفة جرت بها وأقلامهم أو سبقت إلى خواطر الفلاسفة فأنت تُباهِت وتُجاحِد في يقينيات فتُسيء إلى قضية الدين، يُقال هذا هو الدين، حمقى هؤلاء، هؤلاء يفشلون فإذن إسلامهم فاشل، لا يا أخي، الفاشل هو الصديق الجاهل، أبو حامد كان ذكياً – كما قلت لكم – ومنهجياً صارماً، قال في موضوع الحسابيات ليس عندنا مُشكِلة، في موضوع المنطقيات – المنطق Logic – ليس عندنا مُشكِلة، هو مجموعة أقيسة، لكي يتمكَّن بها الإنسان من التمييز بين الخطأ والصواب فقط، فالمنطق – ما شاء الله – ليس عندنا مُشكِلة معه، وأبو حامد أعلى كثيراً من شأن علم المنطق وكان مُتفنِّناً فيه وله فيه غير كتابٍ، أي أكثر من كتاب، قال ليس عندنا مُشكِلة، نأتي إلى الطبيعيات، كما قلنا دراسة عالم الطبيعة، أي الفيزياء Physics، الفيزيائيات سواء السماوات بما فيها من أجرام ونجوم وكواكب وغيرها أو الأرض بما فيها من حيوان ونبات ومعادن، هذه الطبيعيات، قال أيضاً هذه الأشياء لا علاقة لها بالدين، ومُعظَم المسائل التي تناولها الفلاسفة أصابوا فيها ولهم في بعض الطبيعيات أخطاء نُنبِّه عليها قال، أخطاء بالمنطق العلمي، اليوم سوف أُعطيكم نموذجين لأخطاء للفلاسفة في الطبيعيات، هذان النموذجان يُبرِزان ويكشفان النقاب عن جانب من عبقرية الغزّالي الابتكارية، وسوف ترون كم عقل هذا الرجل عملاق حقيقةً ونافذ وعميق، رحمة الله تعالى عليه، قال بعض المسائل الطبيعيى أخطأوا فيه فنُخطّئهم بالمنطق العقلي والعلمي، لكن عموماً الطبيعيات – قال – ليس عندنا مُشكِلة معه، إذن لا مُشكِلة المنطقيات والرياضيات والطبيعيات، قال أما السياسات – أي السياسة والإيالة، إدارة المدينة Policy – ليس عندنا مُشكِلة معها، هذه كلها مأخوذة من التجارب ومأخوذة من هدي الأنبياء أيضاً، كذلك الخُلقيات – كلامهم عن النفس وتهذيب النفس والأخلاق وما إلى ذلك – قال مأخوذة من هدي الأنبياء ومن هدي الصوفية، والصوفية – من غير اسم طبعاً، من غير أن يكونوا مُسمين بالصوفية – قال موجودون في كل الأمم، أناس مُنقطِعون إلى الله والدار الآخرة وما إلى ذلك، لهم كلام في علم التربية قال، سمهم صوفية أو سمهم ما شئت، قال هؤلاء عالة عليهم وأخذوا منهم، أيضاً لا نُعارِضهم في الجُملة وهذا جميل، هذه خمسة علوم، ماذا بقيَ؟ الإلهيات، الحكمة الأولى، Metaphysics، الفلسفة الإلهية، قال مُعظَم أغاليطهم في الفلسفة الإلهية، قال أنا كسرت هذا الكتاب – أي ألَّفته، يُقال كسر الكلام على كذا بمعنى ألَّفه واختص به كذا، فهو قال ألَّفت أو وضعت أو كسرت هذا الكتاب – فقط للرد عليهم في هذه المسائل التي غلطوا فيها، أخطأوا فيها، وهي في المجموع عشرون مسألة، لكن في الحقيقة هنا وجدناها خمساً وعشرين مسألة، قال استحقوا التبديع في سبع عشرة منها، واستحقوا التكفير في ثلاث، نُكفِّرهم في ثلاث، وأنا في الحقيقة عندي موقف من تكفيرهم حتى في هذه الثلاث المسائل، لأنها تحتمل التأويل ولو بطريقة بعيدة لكنها تحتمل، فكان أحسن – هكذا أُسلِفكم هذه المعلومة – لو أنه أمسك عن إكفارهم، لكن لعله رأى غير هذا، وبالذات أنتم سوف ترون أن أبا حامد الغزّالي مُتشدِّد جداً في التكفير، مُضيِّق جداً جداً لنطاق التكفير، أكثر مَن ضيَّق من نطاق التكفير حتى اتُهِم بالتفريط – أنه مُفرِّط – هو أبو حامد، كأن قلب هذا الإنسان ليس على الدين لأنه ضيَّق جداً من نطاق التكفير، فالتكفير من أصعب الأمور على طريقة أبي حامد لكنه على طريقة بعض من الناس في كل عصر – وفي هذا العصر بالذات – من أسهل ما يكون، أسهل شيئ أن ينطق بتكفيرك والعياذ بالله، طبعاً أبو حامد قال في أمثال هؤلاء ولا يُسارِع إلى التكفير إلا الجهلة، قاعدة – قال – عندي، لا يُسارِع إلى التكفير إلا الجهلة، لو كان يعلم ما سارع إلى التكفير، وسوف نقرأ فصلاً جيداً له أيها الإخوة في قانون التكفير – في تعريف الإيمان والكفر وفي قانون التكفير – من أجود ما يكون، علماً بأنني لم أقرأ ما هو أجود منه، واستفاد منه تلميذه أبو بكر بن العربي واستفاد منه كثيراً أبو الوليد بن رشد في المناهج وفي الفصل، أي فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، استفاد لكن بشكل ذكي، أعاد إنتاجه بطريقة ذكية، لكن روحه أيضاً وجوهره غزّالية، استفاد منه ابن رشد، لم يُسبَق إلى مثل تقعيد هذه القاعدة العجيبة جداً رحمة الله تعالى عليه، وضيَّق من نطاق التكفير إلى الحد الذي ما بعده حد حقيقةً إلا أن يكون التفريط في عصمة الدين وفي الذب عن حياضه، وسوف نقف على هذا بإذن الله تبارك وتعالى.

مَن عنده تهافت الفلاسفة بتحقيق العلّامة الأزهري الدكتور سُليمان دنيا – رحمة الله عليه رحمة واسعة وجزاه عنا وعن أبي حامد خير الجزاء – يقرأه، أحسن مَن حقَّق التهافت هو الدكتور سُليمان دنيا ودرَّسه، درَّسه سنين طويلة في الأزهر سُليمان دنيا، كما أنه حقَّق تهافت التهافت في مُجلَّدين كبيرين، كما أنه حقَّق أربعة أجزاء الإشارات والتنبيهات لابن سينا، وكان من ذكاء الأزهريين – الأزهر له فضل على الثقافة وعلى الفكر والفلسفة – ومن إنصافهم أنهم في دورة للتَلاميذ طبعاً يُدرِّسون الإشارات والتنبيهات، في المرحلة التالية يُدرِّسون تهافت الفلاسفة، هكذا في الأزهر كان، لماذا؟ حتى لا يُقال إن الأزهر يُطعِّم ويُحصِّن أبناءه وتَلاميذه ضد الفلسفة ابتداءً بتهافت الفلاسفة، قالوا لهم لا، بالعكس في الأول ندرس الفلسفة كما هي وعلى يد أستاذ من أكبر أساتيذها وهو الشيخ الرئيس ابن سينا، الإشارات والتنبيهات موسوعة في أربعة أجزاء، كانت تُدرَّس أجزاء منها للطلّاب في الأزهر، في المرحلة التي تتلوها في الأزهر كانوا يُدرِّسون تهافت الفلاسفة، إذن هم ينقدون على بيّنة وعلى علم من غير تعصب، هذا منهج! الأزهر مُؤسَّسة عظيمة حقيقةً، أعظم مُؤسَّسة إسلامية للعلم الإسلامي هي الأزهر حقيقةً، كانت وما زالت، نسأله الله أن يُحيها من جديد، أصابتها نكبات وأشياء، في الحقيقة نسأل الله أن يُنعِشها، هي لم تمت، هي حية، فنسأل الله أن يُنعِشها وأن يُنقِذها إن شاء الله، فتُصبِح مُعافاة إن شاء الله، لعل الثورة تأتي بذلك، مَن عنده هذه الطبعة للعلّامة سُليمان دنيا سوف يجد في الصحيفة السادسة والثمانين – على ما أذكر إن شاء الله – أنه وضع فهرستاً للمسائل وجعلها عشرين مسألة، لكنها في متن الكتاب – كما قلت لكم – خمسٌ وعشرون، قد أتلو عليكم شيئاً منها حتى تأخذوا فكرة، المسألة الأولى إبطال مذهبهم في أزلية العالم، أن العالم قديم أزلي، المسألة الثانية إبطال مذهبهم في أبدية العالم، أنه باقٍ لا يتفكَّك ولا يتحلَّل خاصة العالم الفوقاني، سأشرح لكم اليوم هذا، في الفلسفة الأرسطية والفلسفات الإغريقية عموماً – جالينوس Galenos وما إلى ذلك – أن عالم السماء عالم لا يفسد، لأنه ينتمي لا إلى الاستقصات الأربع وهي العناصر الأربعة: الماء والتُراب والهواء والنار، هذه عناصر عند الفلاسفة الإغريقيين، ما المُراد بعناصر؟ مُفرَدات، أي أن هذه لا تنحل إلى ما دونها، سوف يخرج لي ولد الآن في الابتدائية ويقول لي عمو الشيخ هذا كلام فارغ، غير صحيح، التُراب والماء والنار والهواء ليسوا كذلك، معروف – مثلاً – الماء يد اثنين ألف، أليس كذلك؟ والتُراب سيليكون Silicon وغير سيليكون Silicon، فهذا مُستحيل، هذه مُركَّبات، وسوف أقول له طبعاً مُركَّبات هذه، هذه ليست عناصر، اليونان اعتبروا أنها عناصر، العرب يُسمونها استقصات، العناصر مُفرَدة لا تنحل إلى ما دونها، المُركَّب ينحل إليها، أي مُركَّب لابد أن ينحل إلى واحد من أربعة من هذه العناصر الأربعة، كلام فارغ هذا الآن، هذا من خُرافات الفيزياء الإغريقية، جميل جداً، قالوا أجرام السماء ليست مُكوَّنة من هذه الأربعة أصلاً، مُكوَّنة من ماذا؟ قالوا مُكوَّنة من الأثير، مادة أثيرية بسيطة مُفرَدة، هذا يعني أنها لا تقبل أن تنحل، لا تنحل! ولذلك السماء أبدية أيضاً، هي أزلية وأبدية لا تنتهي، لا تتفكَّك، لا يحدث لها تحلل – Decay – أو تهدم، لا يحصل لها هذا، وهذا كلام فارغ طبعاً، سوف نرى موقف ابن رشد وهو موقف باطل في هذه المسألة وموقف أبي حامد المُتكلِّم، موقف علمي صميمي هنا، سوف نرى هذا، يقول إبطال مذهبهم في أبدية العالم، الثالثة بيان تلبيسهم في قولهم إن الله صانع العالم وإن العالم صُنعه، لماذا؟ قال لا، على طريقتهم يفشلون أن يُثبِتوا أن الله صنع العالم، إذا أرادوا أن يلتزموا بلوازم قولهم – سأشرح لكم هذا فيما بعد باختصار – يستحيل أن ينجحوا في إثبات أن الله صانع العالم، الله وفق قولهم لا يُمكِن أن يكون صانع العالم، لكنهم يقولون هو صانع العالم، قال هذا تناقض، هذا غلط، لا يقدرون على هذا، أنا أقول هو صانع العالم، أبو حامد يقول لك أنا أقول هو صانع العالم لكن على أُسس غير التي بنوا عليها أقواليهم الباطلة، وأنا أستطيع أن أُثبِت لكم أنه صانع العالم، هم لا يستطيعون، هكذا كان النقاش، هذا أبو حامد! الرابعة في تعجيزهم عن إثبات الصانع، الخامسة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على استحالة إلهين، السادسة في إبطال مذهبهم في نفي الصفات، السابعة عشرة في إبطال قولهم باستحالة خرق العادات، هذه الأسباب والمُسبَّبات، لن تجد مسألة هنا اسمها السببية، إذا أردت أن تعرف موقف أبي حامد في السببية – Causality أو Causalität – سوف تجده في المسألة السابعة عشرة في إبطال قولهم باستحالة خرق العادات، هو قال بخرق العادات لأنه أعاد تفسير السببية، لماذا أعاد تفسيرها؟ لأجل غرضين سأشرحهما لكم – إن شاء الله – حين نأتي إلى مسألة السببية والغزّالي، الثامنة عشرة في تعجيزهم عن إقامة البرهان العقلي على أن النفس الإنساني جوهر روحاني ثم التاسعة عشرة ثم العشرون، هذا فهرست سريع في الصحيفة السادسة والثمانين لهذه المسائل التي قال يُبدَّعون في سبع عشرة منها ويُكفَّرون في ثلاثة.

نأخذ فكرة سريعة عن موضوع كان بُودي أن أشرحه لكم بعض الشرح لكن رأيت أن هذا سيُشوِّش عليكم، وفي الحقيقة لكي نشرح شرحاً يُفهَم ويُجدي شيئاً لابد أن نُسهِب وهذا صعب، لأن هناك الكثير من الحُجج، ماذا قال الأغارقة وابن سينا والفارابي وابن رشد؟ ماذا قال أبو حامد؟ حُجة تقرع حُجة، حُجة تقرع حُجة، حُجة تقرع حُجة، مسألة طويلة بلا شك، ولا نستطيع أن نقول هناك حُجة واحدة، هذا غير صحيح، هي حُجج كثيرة، الحجم الأكبر من تهافت الفلاسفة خصَّصه أبو حامد لمسألة العالم: أزلية وأبدية العالم وصدور العالم عن الله وفناء العالم وإلى آخره، المسألة كلها على بعضها لها علاقة بقِدم العالم، أطول شيئ! وهذه المسألة هي أهم المسائل التي اشتجر فيها الخلاف بين الفلاسفة والمُتدينيين، مسألة ماذا؟ العالم، هل هو أزلي؟ هل هو أبدي؟ هل هو فائض عن الله وصادر عنه ضرورةً صدور النور عن الشمس والحرارة عن النار أم أنه مصنوع مخلوق مُبدَع لله عن اختيار وإرادة؟ هل هناك فترة زمانية سابقة على خلقه أم لا يُوجَد هناك زمن ولا بداية له؟ مسائل مُعقَّدة وطويلة، مُعقَّدة جداً، أبو حامد كمُتكلِّم يتبنى أن العالم ليس صادراً عن الله بل هو مُحدَث مخلوق لله تبارك وتعالى، طبعاً هنا يُوجَد إبداع عنده عجيب جداً جداً سبق به ألبرت أينشتاين Albert Einstein، إبداع مُذهِل، أنا مُتحيِّر، ما هذا العقل الذي عند الرجل؟ سُبحان مَن خلقه حقيقةً، أبو حامد لا يُميِّز ولا يُسوِّغ أو يُجيز التمييز بين بُعد المكان – وهو يستخدم هذه العبارة: بُعد المكان، البعُد! – وبُعد الزمان – ولك أن تتخيَّل هذا، كأنه درس النسبية، قبل كم؟ رحمة الله عليه – ويرى أنهما ماهيتان من المُتعذِّر التفكيك بينهما، وهذا صحيح، الفلاسفة فكَّكوا بينهما، تعاملوا مع الزمان على أنه شيئ بحياله ومع المكان على أنه شيئ بحياله، لذلك تناقضوا فقالوا – مثلاً – العالم من حيث الزمان – الكون من حيث الزمان، أي الكوزموس Cosmos – والوجود لا بداية له فهو أزلي ولا نهاية له فهو أبدي، جميل! لكنه من حيث الفضاء والحيز والمكان محدود وموجود هكذا دائماً بهذه الحدود ومن المُحال أن يصغر عما هو عليه أو أن يكبر ولو بذراع عما هو عليه، أبو حامد قال أنتم مُتناقِضون، هذا كلام فارغ كله، كيف استطاع أن يكتشف التناقض؟ قال لإن مقولة الزمان لا معنى لها بمعزل عن مقولة المكان، عقل جبّار الرجل حقيقةً، لا تقل أنه شيخ فقط وتذكر إحياء علوم الدين، هذا عقل جبّار، الله خلقه فيلسوفاً لكنه أذكى من هؤلاء، أذكى من أرسطو Aristotle وأفلاطون Plato وابن سينا والفارابي وابن رشد، أذكى بمراحل الرجل، آية من آيات الله, وأنا سأُوضِّح لكم هذا بطريقتي الخاصة – وهو لم يفعل هذا – بتبسيط شديد جداً جداً، طبعاً ليس لأنني عبقري أو أذكى لكن لأنني في القرن الحادي والعشرين ودرست النسبية ودرست الفيزياء على قدر تحصيلي فأعرف هذه الأشياء وأستطيع أن أُبسِّطها الآن، أصبحت سهلة، كيف أيها الإخوة؟

ما هو الزمان عند ابن سينا أيضاً وعند أرسطو Aristotle وعند الغزّالي؟ بتعبير عصري جميل جداً الزمان هو عدّاد للحركة، هل هذا واضح؟ لو اختفت الحركة بالكُلية وبالمُطلَق يختفي مفهوم الزمان، لا يُوجَد شيئ اسمه زمان، انتهى الأمر، لابد من حركة ولو حركة جُسيم دون ذري في النواة، هذه حركة! إذا وقف كل شيئ ولم يُوجَد أي ضرب من الحركة يختفي الزمان، لا يُوجَد زمان، مُستحيل، أليس كذلك؟ سوف تقول لي وماذا عن الزمان النفسي؟ هو حركة، وحركة لها أسس في حيز مكاني أيضاً، أنا الآن – مثلاً – جالس ولا أتحرَّك لكن مُخي في الداخل يشتغل، وسأعرف بعد قليل أنني قبل دقيقة – مثلاً – أو قبل شيئ قريب من الدقيقة كنت أُفكِّر في الملوخية والآن أُفكِّر في أبي حامد الغزّالي، هذا يعني وجود قبل وبعد، تُوجَد حركة، هناك حركة، هل تعرف كيف؟ وهي حركة كيمياوية وحركة كهربية وتمشي في الأعصاب يا حبيبي وفي المشابك – الذي درس الفسيولوجيا Physiology يعرف المشابك Synapses – يتم تحلَّل مواد مُعيَّنة، قديماً كانوا يقولون أستيل كولين Acetylcholine فقط لكن الآن اكتشفوا منها أكثر من سبعين مادة وهناك أُناس قالوا أكثر، هناك أُناس قالوا خمسمائة مائدة، هذه تتحلَّل في المشابك وفي الأعصاب ولك أن تتخيَّل هذا، في المشابك العصبية تتحلَّل، وطبعاً يُوجَد تحديد لسرعة تحللها وبتحللها تنتقل الأشياء التي تُعبِّر عنها لأنها أفكار وعواطف، تُوجَد حركة، يُوجَد شيئ يتحرَّك، يذهب ويأتي وما إلى ذلك، لو كل شيئ توقَّف سوف ينتهي الوعي وسوف ينتهي الزمان، سوف ينتهي كل شيئ، فأبو حامد قال ببساطة أنتم تُسلِّمون أن الزمان هو عدّاد للحركة والحركة تقتضي مُحرِّكاً وتقتضي مُتحرِّكاً، ليس لنا علاقة بالمُحرِّك الآن وإلا سوف ندخل في مقولة فلسفية، سنتحدَّث عن المُتحرِّك، المُتحرِّك يقتضي حيزاً يتحرَّك فيه، لأن أنت تتحدَّث عن جُزيء من أستيل كولين Acetylcholine، هذا يحتاج إلى مشبك يتحرَّك فيه، أنت تتحدَّث عن إلكترون Electron أو بروتون Proton أو ميزون Meson، وهؤلاء يحتاجون إلى شيئ دون ذري يتحرَّك فيه، أليس كذلك؟ ولذلك مقولة المكان مُرتبِطة بالزمان، والزمان مُرتبِط بالمكان، لو فنيَ أحدهما يفنى الآخر، فقال لهم كيف تقولون – انظر إلى العبقرية، عبقري Genius – أن الكون هذا ليس له بداية في الزمان لكن مكانياً محدود؟ هذا غلط، إذا هو غير محدود زمانياً لابد أن يكون غير محدود مكانياً، أنتم تناقضتم، قلتم لا، هو محدود مكانياً وغير محدود زمانياً، قال لهم هذا كلام فارغ، هذه ليست فلسفة، ذكي جداً الرجل، كأنه فيلسوف ومُتكلِّم وعالم فيزياء، غير معقول الرجل، غير معقول! رحمة الله تعالى عليه، سوف نعود – إن شاء الله – إلى هذه المسألة.

على كل حال هذه المسألة – مسألة قِدم العالم – لا أُريد أن أخوض فيها كما قلت لكم، طويلة جداً جداً، يُمكِن أن تقرأوها على مهل، لكن الذي ليس عنده قاعدة فلسفية أنصحه بألا يقرأها، لن يفهم شيئاً وسوف يتعقَّد وسوف يفقد الثقة في ذكاء نفسه، الدراسة لابد أن تكون دراسة أيضاً مُرتَّبة، إذا كان عندك قاعدة في الفلسفة وترقيت شيئاً فشيئاً وما إلى ذلك فهذا مُمكِن فيما بعد، إذا لم يكن عندك هذا اترك الأمر، لا تحتاج إلى هذا، نفس الشيئ أيضاً في مسألة علم الله بالجُزئيات، ابن رشد في هذه المسألة من رأيي تقريباً لطَّف الجو وأتى بشيئ ليس من الصحيح أن نرده عليه، ابن رشد التزم أن الله يعلم كل ما يحصل في الوجود، لم يقل الله يعلم الكُليات ولا يعلم الجُزئيات وإلا كان ألحد بشكل واضح، كيف يقول هذا؟ ابن رشد قاضٍ، قاضٍ كبير جداً جداً وعلّامة وفقيه وصاحب بداية المُجتهِد ونهاية المُقتصِد وصاحب كتاب في الأصول، معروف ابن رشد، وهو يتلو في كتاب ربه قوله – تبارك وتعالى – وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ۩، يتلو هذا، ويتلو وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ۩، يتلو هذا، لا يجحده ولا يُكابِر عليه ولا يُنكِره، لكن ابن رشد أعاد صياغة ما قدَّمه أرسطو Aristotle بخصوص مسألة علم الله بالخلق وبالوجود وبالكون على أساس أن الله – تبارك وتعالى – أوجد الكون ككيان واحد، وهذه فكرة جميلة، روحياً جميلة ودينياً جميلة وفيزيائياً طبيعياً جميلة حقيقةً، قال أوجد الكون ككيان واحد مُتآزِر، كما قلت بالأمس في الخُطبة مُتعالِق، أي مُتكاتِف، كل شيئ فيه مربوط وأي شيئ فيه مربوط بكل شيئ، ليس كوناً من هُتامات وشذرات مُتفرِّقة تائهة، لا ليس كذلك، وكل شيئ فيه مُتوقِّف على كل شيئ، على كل حال هذا المنظور أقرب إلى التصوف، أقرب إلى روحانية الصوفية وهم أُناس مُؤلِّهون وعارفون بالله – أتحدَّث عن العارفين منهم – وقد نطق أحدهم وهو حافظ – رحمة الله تعالى عليه – الفارسي فقال لو ذرةٌ يا صاحبي أُزيل من مكانها لاختل هذا الوجود كله،عرفان عجيب، وهذا طبعاً يُساوي قول الله – تبارك وتعالى – أو بالأحرى هو ماتحٌ من معين قوله – تبارك وتعالى – وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۩، قال الله وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩، وقال أيضاً مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ۩، فضلاً عن أنه قال إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ۩، كل شيئ بقدر، لا يُوجَد شيئ زائد ولا يُوجَد شيئ ناقص، هو هذا! ولو ذرة، قد يقول لي أحدهم هذا كلام فارغ، كيف يكون كلاماً فارغاً؟ طبعاً هو يقول هذا بعقلية عامية، ليس بعقلية فلسفية ولا عقلية طبيعية، قد يقول لي هذا كلام فارغ، هذه الورقة الآن أنا سأحركها، ذهبت الذرات والجُزئيات وانتهى كل شيئ، لم يختف الكون، لكن مَن قال له؟ طبعاً أنا لم أدرس ABC فيزياء، غير صحيح، لم تذهب ولم تأت، كل شيئ موجود، في الفيزياء هناك مباديء مشهورة جداً جداً مثل مبدأ محفوظية المادة Conservation of matter، مبدأ محفوظية الطاقة Conservation of energy، كل شيئ محفوظ، إذا أحرقتها سوف تتحوَّل من صورة إلى صورة، من شكل من أشكال الطاقة إلى شكل، أليس كذلك؟ فالفحم يتحوَّل إلى حرارة، أليس كذلك؟ طاقة حرارية تأخذها أنت، ويأخذها منك شيئ ثانٍ وهكذا، فهي موجودة، لا يضيع شيئ – قال لك – إطلاقاً، قال الله وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ۩، وقال أيضاً وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ۩ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ۩ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ۩، يا الله! ما معنى هذا؟ لا يضيع شيئ، يخرج شيئ من الأرض فيصطدم ويعود، يرجع مرة ثانية، لا ينفذ شيئ، لأن السماء سقف محفوظ، لا تتخلَّله مسام وأشياء فتخرج منه أشياء خارج بنية الكوزموس Cosmos، مُستحيل الله قال، يا الله! هل هذا قرآن؟ قرآن هذا، كتاب عجيب هذا، قال لك محفوظ، لذلك كل شيئ ضمن هذا الكون محفوظ، لا يضيع شيئ، يتحوَّل من شكل إلى شكل لكنه موجود، لكن لو أخذت أنت ذرة – الحافظ يقول ذرة واحدة – وحدفت بها خارج الكون إن كان هناك خارج سوف يختل هذا الكون كله، وهذه من المسائل التي تناقشها أبو حامد بذكاء أيضاً، هل هناك خلاء أم ملاء خارج الكون؟ شيئ عجيب، لكنه قال لو افترضنا وفرض المُحال ليس بمُحال – هذا مُحال، لكننا سنفترض لأن فرض المُحال ليس بمُحال – أنك أخذت جُزيء أو ذرة حتى وقذفتها خارج الكون سوف يختل هذا الكون كله، لأن هذه مُقدَّرة، لا يُوجَد شيئ زائد، شيئ غريب!

ابن رشد شكر الله سعيه – وهذا نقبله منه حقيقةً ونشكره له – أعاد لنا أرسطو Aristotle في نُسخة إسلامية، أنا طبعاً مُتأكِّد أنه افتأت على أرسطو Aristotle، أرسطو Aristotle لم يقل هذا، لكن هو أراد أن يُأسلِم أرسطو Aristotle طبعاً، هذا معروف، أراد أن يُعيد لنا أرسطو Aristotle في نُسخة إسلامية، وهو مُتعصِّب له، ابن رشد تقريباً لم يكد يُخالِف أرسطو Aristotle في شيئ، وهذا يُزري بابن رشد، أبو حامد أكثر استقلالية بمراحل من ابن رشد، أبو حامد خالف في الأصول وفي الفقهيات وفي علم الكلام وفي الفلسفيات وفي المنطقيات، خالف الأساتيذ والأئمة الذين سبقوه، ليس دائماً لكن في أشياء لأنه مُستقِل، عقل مُستقِل، هذا عقل عالم، لكن ابن رشد لم يكن كذلك، كان عبداً عند أرسطو Aristotle، وتحدَّث بأسلوب العبد عند سيده، قال ابن رشد – رحمة الله عليه وعفا الله عنه – سُبحان الله كلما تأمَّلت في هذا الرجل – في أرسطو Aristotle – علمت أن الله خلقه ليُثبِت به كمال النوع الإنساني، هل هو أعظم عندك من غيره؟ أعظم رجل – قال – هذا، عجيب يا ابن رشد، لماذا إلى هذه الدرجة أنت مُعجَب بأرسطو Aristotle؟ أرسطو Aristotle حقيقةً عملاق وما إلى ذلك لكن ليس إلى هذه الدرجة، إذا أردت أن تعرف ما هو الإنسان وأعظم ما يُمكِن أن يبلغه الإنسان من ذُرة انظر إلى أرسطو Aristotle قال، أرسطو Aristotle قال، هذا مُعجِزة إلهية – قال – هذا، خلق عجيب، لا يا أخي، بالعكس في أشياء مُعيَّنة أبو حامد أثبت أنه أذكى بمراحل من أرسطو Aristotle الذي تتحدَّث عنه وأذكى منك بمراحل، وسبق العلم الحديث بألف سنة على الأقل أبو حامد، شيئ غريب الرجل هذا، ألف سنة! لا يا بابا، هذا فضل الله، فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ ۩، ولا يُمكِن أن يحتاز أحد الفضل من كل جوانيه فيكون هو الأستاذ الأكبر عبر العصور، غير صحيح، ولا أعتقد أن أرسطو Aristotle كان يُحِب أن تُبنى له هذه الصورة، كمُفكِّر منهجي كبير لم يُحِب هذه الدرجة، لكن هؤلاء غير مُستقِلين، هذا ما يُعطيه التقليد والعاطفة في الأفكار والمباديء والعقائد.

على كل حال تحدَّثنا عن هذه المسألة أيها الإخوة، ابن رشد قال لا، قال الكون مُتآزِر، الكون كنفس واحدة، بنية واحدة، نظام واحد، وإلى آخره، فمن أجل هذا كون الله يعلمه علماً كُلياً هذا يقتضي أنه يعلم أيضاً كل ما يحدث هذا، لأن الكون هذا مُنظَّم مُهندَس، كون رياضي، أي على طريقة لابلاس Laplace وطريقة الظروف البدئية، فإذا عرفت البدايات تستطيع أن تعرف المُتوسِّطات والنهايات، لابلاس Laplace (بيير سيمون لابلاس Pierre-Simon de Laplace) قال له نابليون بونابرت Napoléon Bonaparte سمعت يا Monsieur Laplace أنك ألَّف كتاباً من ستة مُجلَّدات في الطبيعة والفلك، قال له صحيح، قال له وسمعت أنك لم تُتِح فيه مساحة للإله، أي أنك أنكرته، قال لست أحتاجه، أي ماذا نحتاج من هذا الإله؟ لأنه كان مُلحِداً Atheist، قال له لست أحتاجه، قال له كيف لا تحتاجه؟ الناس كلها عندها أديان وتُؤمِن بالرب وبالإله الخالق الصانع، قال لا نحتاجه، قال أعطني الآن وقل لي كل ما يتعلَّق بشروط اللحظة هذه – أعطنى معلومات تامة عنها – وسوف أستطيع أن أحدس لك أو أتنبأ بدقة تامة – دقة رياضية حسابية قال له – بمُستقبَل هذا الكون بعد ألف سنة بل بعد مليون سنة من الآن لمعرفة ما سيحدث، علماً بأن هذا الكلام إلى حدٍ ما من حيث الأصل لابد أن يكون صحيحاً، لكن جاء ودخل على الخط في السبعينيات – من أيام ثلاثة وسبعين، أي في ألف وتسعمائة وثلاث وسبعين – الـ Chaos في الفيزياء فخربط لنا القصة كلها، قبل هذا كانت هناك طريقة خطية في التفكير في كل شيئ، طريقة مُعادَلات، حين تضع شيئاً في طرف ما لابد أن يخرج من الطرف الثاني، هذا يُسمونه التفكير الخطي، أي التفكير المُعادَلاتي، حين دخلنا مع الـ Chaos اختلف الأمر، لماذا إذن رغم أن المبدأ نفسه صحيح وحين تضع شيئاً في الطرف الأيمن أن يخرج من الطرف الأيسر؟ قال لك لأنك الذي تضعه في الطرف الأيمن ليس شيئاً واحداً وإنما مليون شيئ، ومَن يعرفهم؟ قديماً كنا نقول يُوجَد شيئ أو شيئان يُمكِن وضعهما في الطرف الأيمن وسوف يخرجان من الطرف الأيسر، لكن الآن الوضع اختلف، قال لك سوف تضع مليون عامل في الطرف الأيمن، مليون عامل! كيف؟ قال لك حتى ضربة فراشة بجناحها سوف تدخل في الطرف الأيمن، ويا حبيبي كلامك هذا في المُعارَضة يدخل في الطرف اليمين هنا، والدق على المنضدة يدخل في الطرف اليمين، والسيارة التي تمشي في الشارع تدخل أيضاً، فمَن سيُدخِل كل هذه الأشياء؟ مَن سيحسب كل هذا؟ الله قال لا تتعجرفوا، قال الله لا تنتفخوا، تراجعوا قال، قال أنا الرب وليس أنتم، ليس لابلاس Laplace – ليس Monsieur Laplace – الرب، قال أنا الرب، ولذلك ابن سينا بخلاف ابن رشد أنكر معرفة الله بالجُزئيات، ابن رشد كان أذكى وأقرب إلى روح التوحيد فعلاً، روح توحيد القرآن، لكن ابن سينا لم يكن كذلك، ابن سينا أمعن في تقليد أرسطو Aristotle بشكل فج وقال الله ليس من شأنه ولا مُحتاج أصلاً ولا مُفيد أن يعرف كل هذه الجُزئيات، ماذا يحتاج منها؟ قال، مثل رجل يقع وورقة تسقط وما إلى ذلك، كيف يا ابن سينا؟ هل أنت تقرأ القرآن الكريم؟ للأسف هو كان من الباطنية، ابن سينا في الأرجح ربما من الباطنية، الله أعلم على كل حال بحقيقته، فاليوم الفيزياء طبعاً والـ Chaos بالذات أيَّدت ووقفت مع القرآن ومع علم الكلام ومع أبي حامد ومع ابن رشد، قالت نعم، إذا كان هناك رب لابد أن يكون الرب هذا عارفاً بكل شيئ، لكي يعرف الطرف الأيسر في المُعادَلة لابد أن يعرف كل عوامل الطرف الأيمن، حتى لو كح أحد أو تنفَّس أحد أو رمش أحد، كل هذا يُؤثِّر قال لك، لأن ضربة فراشة تُؤثِّر ويُمكِن أن تتسبَّب في إعصار Tornado في قارة أُخرى، ضربة فراشة بجناحيها! لكن ليست وحدها، هذه الفراشة قد تكون العامل – مثلاً – رقم خمسين بليون وتسعمائة ألف وهناك عوامل كثيرة غيره والحكاية تسير، كأن الله يقول لا، هذا الكون أنا الذي أبدعته، أنا وحدي الذي أستطيع أن أُديره، أنا وحدي الذي أستطيع أن أعرف كل ما يؤول إليه وكل حدث فيه، أنا وحدي! قال وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ۩، وهذا يُؤكِّد صحة نظرية ابن رشد في العلم الشامل هذا، الكون كنفس واحدة! الله قال مَفَاتِحُ ۩، أي مفاتيح Keys، الذي عنده هذه المفاتح يقدر على أن يعرف كل ما يترتَّب عليها، ابن رشد كان دقيقاً، كان قرآنياً في نظري، كان قرآنياً وجميل جداً طرحه، قال وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ۩، هذا ليس حدث نبي ولا حديث فيلسوف، هذا حديث رب أبدع الكون ويُدريره لا إله إلا هو، بحسب ماذا؟ لا بحسب الكلام ولا بحسب الفلسفة، بحسب الـ Chaos الآن هذا وضح، بحسب نظرية الـ Chaos! هو هذا.

نكتفي بهذا القدر على أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة، فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

– الأستاذ المُهندِس طرفة بغجاتي: جزى الله عنا شيخنا الفاضل كل خير، وإن شاء الله انتيهنا بعونه تعالى من الحلقة الثامنة في سلسلة الإمام الغزالي، ونُتابِع – إن شاء الله – في حلقةٍ قادمةٍ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(تابعونا في الحلقة القادمة بإذن الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: