– الأستاذ المُهندِس طرفة بغجاتي: تفضَّل شيخ عدنان.

– الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم: بارك الله فيك وشكر الله لك.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ومَن والاه.

قبل أن أُكمِل رد مولانا العلّامة البوطي – حفظه الله – على ابن العربي لكي أُصادِق كلامك – يعني الأستاذ المُهندِس طرفة بغجاتي – أنا ذكرت ربما ثلاثة كُتب منحولة لكي تكون كثيرة جداً، إذن النفخ والتسوية أيضاً منحول على الإمام الغزّالي، وكذلك السر المكتوم في أسرار النجوم، وبالمُناسَبة أذكر أن الفخر الرازي أيضاً نُسِبَ إليه كتاب بهذا العنوان أيضاً وشنَّع بسببه عليه الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال، وتحسين الظنون أيضاً من الكتب المنسوبة إلى أبي حامد الغزّالي، إذن سبعة كُتب تقريباً، يقول العلّامة البوطي – حفظه الله وأمتع به – وقد ذكر الغزالي هذا الكلام، في معرض تأكيده لما هو مُقرَّر في مذهب أهل السُنة والجماعة، من أنه لا يوجد في الأشياء أو الأفعال حُسنٌ أو قبحٌ ذاتي كامنٌ في جوهره – مكتوب في جوهره والمفروض في جوهرها، هذا خطأ مطبعي -، بحيث تكون أحكام الله تعالى بشأنها تابعةً لما يقتضيه ذلك الحُسن أو القبح، بل إن الحُسن والقبح – مسألة مشهورة جداً جداً، مسألة التحسين والتقبيح، هل هما عقليان أم شرعيان؟ بمعنى أن الشيئ يكون حسناً لأن الشريعة استحسنته أو يكون حسناً لأنه حسن في ذاته واستحسنته الشريعة تبعاً لحُسنه الذاتي؟ والأخير هو مذهب المُعتزِلة، الأشاعرة قالوا لا، الحُسن والتقبيح شرعيان لا عقليان، لذلك كل ما حسَّنه الشرع هو حسنٌ وإن رأى العقل بداهة أنه قبيح، هذا مُلخَّص مذهب الأشاعرة بإزاء مذهب المُعتزِلة، والدكتور البوطي يتحدَّث عن هذا – الذي فيها ليس إلا وصفًا أضفاه الله عليها. ولسنا هنا بصدد عرض الأدلة الكثيرة على هذا الكلام.

هذه المسألة مذكورة في كتب علم الكلام بالتفصيل، مِن أكثر مَن أسهب فيها العلّامة مُصطفى صبري آخر شيوخ الدولة العلية العثمانية في كتابه العظيم الموسوعي موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المُرسَلين، وكل كتب علم الكلام تناولت هذه المسألة، الكلامية الأشعرية أو الاعتزالية أو الإمامية كلهم تحدَّثوا عن هذا الموضوع، ورأي الإمامية تبع هنا للمُعتزِلة في هذه المسألة، ورأي الماتريدية وسط، لن نُفصِّل، أبو حامد في المُستصفى أيضاً – وذكر هذا الدكتور البوطي – عرض لهذه المسألة أيضاً وأسهب فيها بعض إسهاب.

ينتج عن هذا أن الله عز وجل عندما تعلَّقت إرادته بإيجاد هذه الخليقة على الشكل الذي أوجدها عليه وعلى النظام الذي أقامها فيه فإن هذا الشكل مع نظامه هذا هو مُنتهى الحسن الذي يمكن أن تتمتع به هذه الخليقة، وذلك لدليل نقلي هو قول الله تعالى الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ۩ ولدليل عقلي يتلخَّص في أنا لو اعتقدنا أن هذه الخليقة لم تستكمل سائر صفات الحُسن على الشكل والنظام اللذين أقامهما الله عليهما ومن ثم فإن بالإمكان تجاوز ذلك إلى ما هو أحسن وأكمل لكان ذلك نتيجة اعتقاد منا بأن أفعال الله وخَلقه – انتبهوا فهذا كلام دقيق جداً من البوطي وهذا صحيح، على طريقة الأشاعرة صحيح – تابعان لمقاييس الحُسن الثابتة بحد ذاتها – لذلك نحن تبعاً لهذه المقاييس الثابتة بمحض ذاتها ولذاتها والتي يستقل العقل بإدراكها بعيداً عن ورود النص الشرعي حكمنا بأن هذه الخلقة ليست هي الأحسن وأنها ناقصة، وإلا كيف عرفنا هذا؟ فإذن هذا ينقد على الأشاعرة أصلهم في أن التحسين والتقبيح شرعيان لا عقليان، وبالمُناسَبة أبو بكر بن العربي من رموز الأشاعرة طبعاً، وبالمُناسَبة للفائدة العلمية كتابه العواصم من القواصم الناس يظنون أنه فقط في مسألة الفتن التي طرأت في عهد الصحابة، لكن الجُزء البسيط منه في آخره جاء يُحاكِم فيه وينقد فيه المواقف من الفتن التي طرأت في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، هل هذا واضح؟ أما الجُزء العظيم فهو في العقيدة، وهذا الجُزء أيها الإخوة مُناقِض لمذهب الحنابلة، وهو مُؤيِّد لمذهب الأشاعرة، لذلك هؤلاء السلفيون المُعاصِرون يطبعون منه الجُزء الأخير طبعاً، نحن نُشجِّع على طباعته كاملاً، إذا أردنا أن نطبع فليُطبَع الكتاب كاملاً، تقريباً هناك عالم واحد جزائري فاضل اسمه الدكتور طالب عمّار – ملحوظة: قال أحد الحضور عمّار الطالبي فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا، اسمه طالب عمّار وليس عمّار الطالبي، عمّار الطالبي جزائري لكن هذا طالب عمّار – هو الذي حقَّق هذا الكتاب وللأسف يُحزِنني أن التحقيق رديء، التحقيق رديء جداً جداً وهناك تطبيعات كثيرة، لكن حقَّقه وطبعه في دار لا تطبع إلا التحقيقات المُمتازة، للأسف هذا استثناء، أعني دار الغرب الإسلامي، مُجلَّد كبير العواصم من القواصم، في آخره فقط مبحث يسير عن الفتن الحادثة في عهد الصحابة، فيا حبذا أن يُطبَع الكتاب كله دفاعاً عن عقيدة الأشاعرة، عقيدة أهل السُنة والجماعة، المالكية والشافعية وحتى الحنفية في الجُملة، لكن هم يطبعون الجُزء الذي يتعلَّق بالصحابة لأنه يُناسِب المذهب الذي يتعزون بالانتساب إليه، على كل حال أبو حامد المفروض أن أبا بكر بن العربي لو فهم عقيدته كما فهمها أبو حامد أو قريباً منه لوافقه على كلمته، هذا دفاع البوطي وهو دفاع قوي جداً ومُتماسِك إذن – فقد يصل خلقه للأشياء إلى مُنتهى مقاييس الحُسن وقد لا يصل – لأن المقياس ليس شرعياً، ليس فعل الله وما إلى ذلك هو الذي يدل على الحُسن ولا شرع الله وإنما العقل يدل على ذلك، قال هذا تناقض، المُعتزِلة تُفكِّر بالطريقة هذه أما نحن لا نُفكِّر هكذا كأشاعرة يقول -، ومن ثم يصلح أن يُقال إن هذه المخلوقات بنظامها الحالي الذي شاءه الله تعالى يمكن أن ترقى إلى درجة أتم وأعلى في مراتب الكمال والحُسن.

وهذا هو التَّصور الخاطئ الذي ضلَّ فيه المُعتزِلة – مكتوب المُتعزِلة والصحيح المُعتزِلة -، وردَّ عليهم جمهور المُسلِمين، وفي مُقدِّمتهم الإمام الغزالي بالأدلة العلمية الحاسمة.

إذن فقرار الغزالي الذي عبَّر عنه بهذه الكلمة الجامعة – في الحقيقة لم يُعبِّر عنه بهذه الكلمة، هو عبَّر عنه بجُمل هم كثَّفوها – ترجمة دقيقة لما عليه أهل السُنة والجماعة. من أن صفة الحُسن والقبح في الأشياء هي الأُخرى مِن خلق الله وإيجاده.

أي شرعيان لا عقليان!

ولو لم نقل بهذا الذي قاله الغزالي لقلنا البتة بنقيضه، وهو كان من المُمكن أن تُوجَد هذه الخليقة على شكل أو نظام أحسن مما هي عليه الآن، وهذا يعني أن إرادة الله وقدرته قد تقاصر كل منهما عن بلوغ درجة الكمال في الخلق والإبداع، وهو يعني في الوقت ذاته أن مقاييس الكمال ثابتة بشكل ذاتي في هذا الكون وأن أفعال الله كانت ولا تزال لاحقةً بها سائرةً وراءها.

وهذا ما يبرأ إلى الله منه السلف الصالح وأهل السُنة والجماعة قاطبةً.

بقيَ أن أوضِّح – إذن الذي ذم به ابن العربي أبا حامد حقيقٌ أن يكون ذماً فيه هو وطعناً عليه وأن يكون محمدةً لأبي حامد تشهد بتحقيقه على الأقل المسألة على أصول الأشاعرة، هذا هو، هذا كلام علمي، ولكن للأسف حتى الإمام الذهبي طنطن بهذه الكلمة وهو ليس من علماء الكلام، هو عالم فقط في الرجال وعالم في علم الحديث، حتى في الفقه لم يكن عالماً كبيراً جداً، السُبكي هنا في ترجمته لشيخه الذهبي لكن ليس في هذا المُجلَّد وإنما في مُجلَّد آخر ذكر أنه في مسائل مُعيَّنة كان يرجع إلى أبيه دائماً، يقول له ماذا تُفتينا؟ ماذا تقول لنا؟ يتعلَّم منه الفقه وهو مَن هو، فطبعاً الإمام الذهبي ليس مُتكلِّماً لذلك طنطن بهذه الكلمة وأيَّد فيها ابن العربي وطعن على أبي حامد بها، لكن لا، ليس الطعن على أبي حامد، هذا طعن على الطاعن فيه، المسائل لابد أن تُحقَّق، يُقال أبو حامد قال ليس في الإمكان فإذن أبو حامد يُقرَّر أن قدرة الله تتقاصر على المُمكِنات وقدرة الله محدودة وكذا وكذا، أعوذ بالله يا أخي، المسألة أعمق من هذا بكثير – أن الشُبهة التي جعلت ابن العربي يُنكِر هذا الكلام ما قد تصوَّره فيه من أنه يستلزم نسبة العجز إلى الله تعالى.

غير أن بوسعك أن تعلم بأنها شُبهة وهمية داحضة إذا ما وقفت بتأمُّل – انظر إلى هذا، هذا كلام جميل من الدكتور البوطي – عند كلمة (كان) – ليس في الإمكان أبدع مما (كان) – فالغزالي يُقرِّر أن ما تعلَّقت به إرادة الله تعالى من الخلق والإبداع هو مُنتهى الحُسن والكمال، ومعنى هذا أن الله كان ولا يزال قادرًا على أن يُوجِّه إرادته ومن ثم قدرته إلى إبداع خليقة غير هذه التي تعلَّقت إرادته بخلقها ولكانت – المفروض وأن تكون، مكتوب ولكانت، هنا يُوجَد انكسار في التعبير، المفروض وأن تكون وليس ولكانت – تلك الخليقة عندئذ هي المُتصِفة بالكمال الأتم.

أي تكون أحسن من هذه، هذا مُمكِن لكن الغزّالي لم يقل هذا، قال هذه الخلقة كما هي – هكذا – هل في الإمكان أبدع منها؟ قال لا، هي الأبدع، لكن هل بوسع الله أن يُبدِع خلقة أُخرى تكون أكمل بالقياس – خلقة أُخرى – إلى هذه؟ مُمكِن، لكن انتبهوا إلى أن ليس مثل أبي حامد أن يغلط في هذه المسائل، عقله أذكى من هذا بكثير الرجل، شيئ عجيب، أنا أقول لكم – سأُعطيكم شيئاً عجيباً، أعجب من هذا، ولو وقفا عليه ابن العربي والذهبي لربما أقاما الدنيا ولم يُقعِدها، أبو حامد يقول قدرة الله لا تتعلَّق بقلب الأعيان والأجناس، أي أن الله لا يفعل هذا، بلُغة عامية – أستغفر الله العظيم – سيقول لك العامي الله لا يقدر على هذا، لكن أبو حامد لم يقل الله لا يقدر وإنما قال قدرته لا تتعلَّق بهذا، الآن لو سألك سائل عادي وقال لك هل يستطيع الله أن يقلب هذا الكوب حصاناً؟ سوف تقول له نعم، هذا غير صحيح، أبو حامد قال لك لا، لا يستطيع، لا تتعلَّق القدرة بهذا، لماذا؟ انظر إلى الذكاء، أبو حامد هذا، هذا فيلسوف ومُتكلِّم، قال لك هذا مُستحيل، هذا مُحال، وكل شيئ مُحال في ذاته لا تتعلَّق به القدرة لأن المُحال في ذاته لا معنى له، كلام مُنظَّم ونحوياً مفهوم وصرفياً لكن ليس له معنى أصلاً وهو مُتناقِض، لماذا؟ هذا الكوب الآن ما هو؟ ما هي ماهيته؟ له ماهية ثابتة الآن، أليس كذلك؟ هذا معروف، مخلوق من ذرات ومن جُزئيات ومن كهارب مُعيَّنة، معروف ما هو، الآن لو قلبه الله حصاناً حقيقياً إما – انتبه إلى هذا – أن تبقى الصورة مع المادة أو تبقى المادة دون الصورة، مُستحيل تبقى الصورة، الصورة صورة ماذا؟ كوب، إذن الصورة ستفنى، فتبقى المادة وتأخذ صورة أُخرى، قال لك الغزّالي هذا أنا أُقِر به، طبيعي أن هذه المادة تبقى المادة وتأخذ صورة أُخرى، مثل الخزّاف الذي يأتي الآن ويُعيد صهر هذه الخزفة – تصوَّر – ويُشكِّلها – مىثلاً نفترض – بشكل فرس وليس كوباً، هذا مُمكِن، المادة واحدة وتعاورتها صورتان، أولاً صورة كوب وثانياً صورة فرس، هذا تمثال Figur أو Figure، هذا مُمكِن، قال لك أبو حامد هذا عادي، لا تُوجَد أي مُشكِلة، لكن ما الثابت؟ المادة، المادة هي ذاتها، قال لك أنا أُؤمِن بتعاقب الصور على المادة، والمسؤول عنه ليس تعاقب الصور، الإنسان يفعل هذا، أليس كذلك؟ حين تُعطيه طينة يصنع لك منها كوباً، وحين تُكسِّرها يصنع لك منها شكل كتاب أو شجرة وهكذا، فكيف برب الإنسان؟ لا تُوجَد مُشكِلة قال أبو حامد، قال نحن لا نتحدَّث عن هذا، ليس هذا المفروض، المسؤول عنه قلب الجوهر وقلب المادة، قال فإذا انقلبت – ليس الصورة وإنما المادة – أنت إمام احتمالين، أبو حامد قلت لك عقله مُمنهَج ودقيق جداً جداً ومنطقي، يُفِّكر في الفلسفة حتى بالمنطق، كل شيئ مُرتَّب عنده، إما أن تبقى هذه المادة موجودة في المادة الجديدة وهذا ليس قلباً، هذا إضافة إلى شيئ، شيئ انضاف إلى شيئ، ليس هذا القلب، القلب المسؤول عنه أن تُصبِح هذه المادة مادة أُخرى، قال وإن أصبحت شيئاً آخر مُختلِفاً بالكُلية إذن هذا ليس قلباً، هذا خلق وليس قلباً، هذا إبداع، هذا شيئ ثان، شيئ رهيب، أبو حامد حين تجلس معه جيداً تعلم أن ليس مثله مَن يُطعَن فيه، اقرأ أنت مُحاضَرة العقاد عنه، العقاد رجل قرأ سبعين ألف كتاب إلى آخر حياته، شيئ رهيب الرجل هذا، كما قلت لك يقول لم يعرف لا المشرق ولا المغرب رجلاً بملكة فكرية فلسفية كأبي حامد الغزّالي، ذهن مُحترَم جداً جداً الرجل، فليس مثل ابن العربي ولا الذهبي مَن يطعن على أبي حامد لأنه قال الكلمات هذه، الرجل يفهم غور ما يقول، ورحمة الله عليه لما قال لك هذا رجل قرأ حتى بلغ أن كلامه قد تجاوز فهم أغلب أهل عصره، هو يعرف مقام نفسه، قال لك أنا عارف، وهذا سبَّب لي مشاكل قال، أعرف أن كلامي مُعظَم علماء العصر لا يقدرون على فهمه، هو لا يزال أبعد منهم، هو يعرف يا أخي، سُبحان مَن أعطى الرجل هذا الذكاء، رحمة الله عليه، فلذلك نسأل الله ألا نتكلَّف ما لا يعنينا، أنا أستغرب من جراءة العوام والطغام والفسول الأذناب على كبار الأئمة يا رجل، شيئ غير طبيعي، رجل لا يفهم شيئاً ويأتي لك لكي يطعن في الغزّالي ويُكفِّره ويتكلَّم عنه، وصنعه أبو عائشة! كُتيب مطبوع لأحد هؤلاء المُتمسلِفين في زُهاء عشرين صفحة، قال نقد أبو حامد ونقد كُتب الغزّالي وصنعه أبو عائشة، أي ألَّفه، قال صنعه، وحين تقرأ تجد كلاماً فسلاً ورديئاً جداً، على كل حال ماذا يقول البوطي رحمنا الله وإياه وأمد الله في عمره؟

لكن أما وقد تعلَّقت إرادة الله تعالى ومن ثم قدرته بإيجاد هذا الكون على هذا المنوال فإن هذا المنوال هو الشكل الأتمّ والنظام الأكمل، – أُريد أن أقول لكم شيئاً بصراحة، ابن تيمية رحمه الله له عبارة مثل عبارة أبي حامد ولعله استفاد من أبي حامد وذلك سأله ابن القيم الجوزية في طريق الهجرتين، وهذا كتاب قرأته أيضاً قبل أكثر من عشرين سنة، من ربع قرن بفضل الله، قال سألته هل يستطيع الله تبارك وتعالى أن يخلق كوناً خيراً من هذا الكون ليس فيه الأدواء والأوجاع والآلام والتباريح والشرور التي تكتنف هذا الكون وتمخره؟ قال كلاماً هذا معناه، قال له يستطيع ولكنه سيكون كوناً آخر، ليس هذا الكون، وهذا كلام صحيح، وهذا محصول كلام البوطي هنا وكلام الغزّالي، سيكون كوناً آخر، انظر إلى حكمة الله، الآن لماذا خلق الله الإنس والجن والملك والحيوان والنبات والجماد؟ لكي يُفهِمك، انظر إلى هذا، خلق جماداً ليس في حياة وليس فيه إرادة وليس فيه حركة، وبعد ذلك هناك رُتبة أعلى قليلاً اسمها النبات، فيها لون حياة ونمط حركة محلية مثل عبّاد الشمس وتستفيد من الريح وما إلى ذلك والورق ينتحي ناحية الشمس ويأخذ ما يحتاجه من أجل التمثيل سُبحان الله، ويُوجَد نوع تشبث بالحياة، ويعرف كيف يتحيَّل النبات، أنواع كثيرة، لكن بعد ذلك هناك الحيوان، الإرادة أظهر فيه، هناك إرادة، أليس كذلك؟ وهناك سعي وحركة ولون تحيل وصنف ونمط ذكاء، يُوجَد هذا، ثم أن أقصى غايات الحيوان هذه أدنى مراتب الإنسان، أذكى حيوان الشِمْبانزِي Chimpanzee مثلاً والأورانجوتان Orangutan والغوريلا Gorilla، نفترض هذا أعلى شيئ في الحيوانات، أتى بعد ذلك الإنسان، شيئ رهيب هذا، شيئ مُختلِف، هذا ليس عنده فقط ذكاء وتحيل وما إلى ذلك وإنما عنده أيضاً تعقل بالطريقة الأرسطية، يستطيع إدراك المعقولات الأولى والثانية الفلسفية والمنطقية، هذه ميزة الإنسان، وهذا معنى كلام أرسطو Aristotle الإنسان حيوان ناطق، شرحنا هذا في الفلسفة وتعرفون هذا جيداً، وبعد ذلك الله قال لك أُريد أن أخلق شيئاً أرقى من هذا، أخلق كائنات مُنزَّهة نورانية لا تعرف الشهوة، لا تعرف الضعف، لا تعرف النوم، لا تعرف التعب، لا تستحسر، أليس كذلك؟ لا تمل، لا تكل، لا تسأم، وتُسبِّح وتسجد وتحمد باستمرار، قال الله لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ۩، هذه الكائنات هي الملائكة، لا إله إلا الله، إذن قادر، فالذي خلق الملائكة كان قادراً على أن يجعل عالم البشر هذا ليس عالماً بشرياً، كان قادراً على جعله عالماً ملائكياً، بدليل أنه فعل هذا، موجود العالم الملائكي، لكن يُوجَد فرق، هذا عالم الملائكة وهذا عالم البشر، كمال البشر المفروض فيه والمُهيّأ له غير كمال الملائكة، انتبه إلى هذا، فهذه الأسئلة لا معنى لها، مثل: لماذا ربنا لم يخلقنا كالملائكة؟ هو خلق ملائكة، هل هو غير قادر؟ هو خلق الملائكة وانتهى منها، أتُريد منه أن يخلقنا كالملائكة؟ هو خلق الملائكة وانتهى منها، لا إله إلا الله، لماذا خلقنا بهذا العقل الذي أشقانا؟ ذو العقلِ يَشْقَى في النَّعيمِ بِعقلِهِ، يُقال لو خلقنا بإرادة وخلقة وتمتع بالغرائز لكان كذا وكذا، لكن هو خلق، الحيوانات موجودة، وليس عند الحيوان لا مشاكل فلسفية ولا مُنقِذ من الضلال ولا شيعي ولا سُني ولا فلسفة ولا منطق ولا أي شيئ، هذا موجود، يُقال يا ليته خلقنا حجراً، لو خلقنا حجراً لكان كذا وكذا، لكن هو خلق، موجودة الأحجار، كل شيئ موجود، انتبه إلى أن الخلقة تامة، هذا هو، وليس في الإمكان أبدع مما كان، الذي تُريد موجود، فإذن القول بهل يقدر الله على أن يخلق كذا وكذا؟ يُجاب عنه بأنه يقدر طبعاً، لكن كمال المخلوق الآخر غير كمال المخلوق الآن، هذا شيئ وهذا شيئ، هذا كلام أبي حامد في النهاية وهو كلام في مُنتهى الصوابية بفضل الله عز وجل، لماذا التشنيع؟ المُهِم ماذا يقول الشيخ البوطي؟ أوشكنا على الانتهاء إن شاء الله -، ودليل ذلك أن إرادة الله تعالى تعلقت بإيجاده على هذا المنوال. وإرادة الله تعالى لا تتعلّق بإيجاد شيء إلا ويكون وجوده – هذا الشيء – في مُنتهى الحكمة وبالغاً ذروة الكمال في وصفه الكمالي، فإذا شاء الله أن يُعدِمه وتعلَّقت إرادته التنجيزية بإيجاده على نهج آخر فإن هذا النهج الجديد هو عندئذ مُنتهى الحُسن والكمال – أُريد أن أُضيف على كلام البوطي هنا شيئاً مُهِماً جداً جداً كان لابد أن يذكره، مُنتهى الحُسن والكمال في حق هذا الخلق الجديد، انتبهوا إلى هذا، كان لابد أن يذكر هذه العبارة لكي يتم المعنى -، ذاك يتصف بمُنتهى الكمال والحسن في ميقاته – لا نقول في ميقاته وإنما بالنسبة أيضاً إلى ذاته ولشروطه، كإنسان هذا كمالي، كمالي إنسان غير كمال الملائكة، أليس كذلك؟ أنا كإنسان مخلوق بهذه الشروط فكمالي غير كمال الملائكة، أليس كذلك؟ لذلك كمالي لا يُعكِّر عليه أنني آتي أهلي، أليس كذلك؟ النبي كان يأتي أهله، ولا أنني أرقد ولا أنني آكل وأشرب ولا أنني يلذ لي الطعام والشراب، أستحليه وأقول الحمد لله، بالعكس هذا من كمالي، أليس كذلك؟ ولو أُضيف هذا للملائكة بشروطهم لعُدَّ نقصاً، أليس كذلك؟ لعُدَّ نقصاً، سوف تقول لي وهل يُمكِن بعض كمال الملائكة يُعَد نقصاً فيك؟ نعم، الملائكة لا تأتي أهلها، فإذا لم يأت الإنسان أهله عن عنُةً وعن انعدام للغريزة الجنسية عُدَّ ضعفاً فيه، هذا ليس كاملاً، لا تقل أنا لا آتي أهلي، لا يا بابا هذا نقص فيك وأنت تُعاني حتى نفسياً منه، لا تقل لي هذا كمال، أليس كذلك؟ فكمالها بشروطها غير كمالك أنت بشروطك، وهذا واضح ومفهوم بنظر فلسفي بسيط جداً – الذي وجد فيه، وهذا يتصف أيضًا بمنتهى الكمال والحسن في ميقاته الذي وجد فيه.

فأي شائبة تراها في هذا الكلام التوحيدي الدقيق الذي لم يشهد التاريخ الإسلامي دفاعًا علمياً أدق منه عن عقيدة السلف الصالح أهل السُنة والجماعة؟

هذا كلام البوطي حفظه الله وأمتع به إن شاء الله!
على كل حال أيها الإخوة موقف المغاربة عموماً من الإحياء تبدَّل على ما أشرت إليكم، هناك نقدة مثل ابن العربي، المازري، الطرطوشي، أبي عمرو بن الصلاح الشهرزوري وهو شافعي مشرقي انتقد الغزّالي في قضية المنطق، يُحِب المنطق، الشيئ الذي لا يُقال لنا عن الشهرورزي – أبي عمرو بن الصلاح – أنه ذهب يتعلَّم المنطق، أراد أن يتعلَّمه وحاول وجاهد نفسه ولم يتحصَّل له منه حاصل، وقال له أستاذه – وكان يعرفه – يا شيخ أبا عمرو أنت لم تُرزَق حظاً في هذا العلم، وإذا لم تستطع شيئاً – بمعنى الكلام – فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعه، غير مفتوح عليك في المنطق، قال يبدو أنه كذلك، لم يقدر على فهمه، وشن حملة شعواء على المنطق، ولك أن تتخيَّل هذا، هذا الموقف أنا أراه ليس تاماً من جميع جوانبه، أليس كذلك؟ مطعون فيه هذا الموقف، أنت طلبت المنطق، أليس كذلك؟ ومُستحيل أنه خُلِقَ لك عقل فقهي بعد أن عجزت عن المنطق غير العقل الذي طلبت به المنطق، نفس العقلية الفقهية، نفس المدرسة الفقهية وأنت شافعي، ما المُشكِلة؟ لم يُفتَح عليك واتركه، لكنه شنَّع عليه، وله فتوى طويلة من أسوأ الفتاوى في حق المنطق والمناطقة، وجعله كأنه أخو الزندقة، لماذا يا أخي؟ المنطق العلمي بمقاييس تعصم الفكر عند مُراعاتها من الوقوع في الزلل، لا يُوجَد شيئ آخر، عموماً نحن نُمارِس المنطق دون أن نشعر، لذلك ابن تيمية – أحد الذين جدَّدوا المنطق وأرادوا نقده في أشياء كثيرة وألَّف عدة كتب وصلنا منها اثنان – قال في النهاية هو علمٌ لا ينتفع به البليد ولا يحتاج إليه الذكي، وهي كلمة صحيحة وغير صحيحة، صحيحة إذا عنى بالذكي الرجل العبقري الفريد من نوعه، وليس كل البشر هم هؤلاء العباقرة، أناس في رُتبة كانط Kant وأرسطو Aristotle وأبي حامد الغزّالي مثلاً، لكن مُعظَم ذكاء الناس عادي، وهؤلاء لولا نزولهم واصطناعهم مقاييس المنطق لأخطأوا في أشياء كثيرة يقعون فيها، أليس كذلك؟ أشياء كثيرة ولن نأتي بأمثلة، درسنا بعض الأمثلة في دروس المنطق لهذه الأشياء، فهذا معروف، وهناك بعض المُغالَطات بسبب عدم مُراعاة قواعد المنطق!
على كل حال أنا أقول أبو عمرو بن الصلاح – خُذ هذا مني، هذا الذي وصلت إليه – درس المنطق فلم يُفتَح عليه فيه فشن الغارة الشعواء عليه، هذا يجعل موقفه مُغرِضاً مُتحيِّزاً، هذا موقف مُتحيِّز، أليس كذلك؟ للأسف جره هذا المنطق إلى الطعن على أبي حامد الغزّالي أيضاً في كتاب من أعظم وأصفى وأجل كتبه: المُستصفى في علم أصول الفقه، الغزّالي ذكر في بداية المُستصفى أن علم المنطق علمٌ لا يُستغنى عنه وأن هذا العلم مَن لم يُحكِمه ولم يحذقه لا ثقة بعلومه، لأنه لن يُفكِّر بطريقة منطقية، سوف يخلط في العلوم الأُخرى، حتى في الفقه وحتى في الأصول، فأبو عمرو بن الصلاح أخذ هذه العبارة وشنَّع بها على أبي حامد، كيف تقول هذا؟ وهذا علم دخيل وهذا أصلاً علم مُحرَّم ولا نُريده ولا نحتاجه وأغنى الله عنه، وبدأ يتكلَّم كلاماً طويلاً جداً جداً، غير صحيح، على أن أبا حامد الغزّالي في تضاعيف المُستصفى لم يكن منطقياً أرسطياً محضاً، بالعكس كان أصولياً من طراز فريد الرجل، أليس كذلك؟ وعلم الأصول هو علم تفسير النصوص الإسلامية، وتكلَّم فيه من أوله – بفضل الله – إلى آخره عنه، مَن أراد أن يدرس – مثلاً – علم المنطق من المُستصفى رجع بخُفي حُنين، لن تجد شيئاً، لكن مَن أراد أن يدرس علم الأصول على طريقة الإسلاميين والمُتكلِّمين يعود بأعظم عائدة بفضل الله عز وجل، فلماذا أنت طعنت في الكتاب وفي صاحبه وفي كذا من أجل هذه الكلمة في مُستهَل الكتاب؟ يُوجَد نوع من التحامل، التحامل يبدو أنه باعثه المرارة التي انطوى عليها ابن الصلاح نتيجة إخفاقه في درس وتحصيل علم المنطق، ولذلك قد يقول لي أحدكم يا أخي – والله – غريبة هذه الأمور، وطبعاً هي غريبة، هل تعرفون لماذا؟ أنا لا أستغربها، مَن عنده مُمارَسة للعلم وللعلماء يعلم أنهم بشر، هؤلاء مثلنا وأحياناً يعتريهم من الضعف ما لا يعتري بعضنا، أحياناً يكون بعضنا عنده نزاهة وحيادية في موقفه أكثر من عالم مشهور جداً، ما رأيكم؟ للأسف التقديس الذي تعلَّمنا لكي ننظر به إلى علمائنا كأنهم كائنات مُقدَّسة معصومة – هذا عالم مشهور، هذا نزيه في كل مواقفه وفي كل ما يكتب – كلام غير صحيح، بالمرة غير صحيح، والله لو تقرأون عن تفاصيل حياتهم تعلمون هذا، ونحن لا نُريد أن نُزهِّد في العلماء، بالعكس أنا حتى مُتهَم بأنني أُبالِغ دائماً في تقدير العلماء وما إلى ذلك، الحمد لله هذا من مزاياي، ولكنني في نفس الوقت لست أهبل ولست أحمق حتى أُعطي شيكاً على بياض يُفيد بأن هؤلاء العلماء معصومون وأنبياء، هذا غلط، غير صحيح، يُخطئون ويتجاوزون ويتحيَّزون ويكذبون ويحرقون الكتب والعلوم، سوف أُحدِّثكم عن بعض الوقائع، فضلاً عن التعصب بين المذاهب شيئ غريب وعجيب جداً جداً، تجد عالماً كبيراً – لن نذكر أسماء – يُفتي بحرق الكتاب الفلاني للمالكية، مثل كتاب الشيخ عبد الوهّاب المالكي – مثلاً – الذي في عشرين مُجلِّد، قال أحرقوه وغرِّقوه فنحن لا نُريده، لماذا يا أخي؟ هذه ثروة علمية هائلة! قال غرِّقوه، ضد مذهبنا الشافعي، غير مُمكِن يا أخي، ثروة هذه للأمة كلها، قال غرِّق! لا يُريد المالكي، هذا موجود في العلماء، ولذلك لا تتبعوا الرجال على أسمائهم كأن يُقال قال الإمام فلان، ماذا يعني هذا؟ نتبع الدليل، ننظر إلى الدليل، ننظر في كل شيئ، فهؤلاء بشر، ليسوا أنبياء، هؤلاء بشر مثلنا ضعفاء، أي أحد فيكم لو رُزِق حظاً وفرصة وتعلَّم العلم بالطريقة هذه لأصبح عالماً كبيراً وإماماً من أئمة العصر بصراحة، هذه ليست مسألة كبيرة، هناك مَن تعلَّم وأصبح فيزيائياً كبيراً وأخذ دكتوراة في الفيزياء وأخذ جوائز وعنده مُخترَعات، هذا لو تعلَّم الشريعة سوف يكون من أئمة العصر بذكائه هذا، أليس كذلك؟ لكن هو رُزِق سعادة في علم آخر، فلا ننظر إلى العلماء على أنهم ملائكة ولا على أنهم معصومون يا إخواني وأخواتي.

لم أُكمِل المغاربة على أن موقف المغاربة هذا من الإمام الغزّالي وإحيائه – بفضل الله – قد تبدَّل، فالآن لا تجد مغربياً يطعن في أبي حامد أبداً، والإحياء يُطبَع في المغرب كما يُطبَع في المشرق ويُدرَّس هناك كما يُدرَّس في المشرق، ولذلك بعد حين ليس بالطويل قال أحد علماء المغاربة أبا حامدٍ أنت المُخصَّص بالحمدِ، انظر إلى هذا، هذه مُبالَغة، هذا غلو، على كل حال له تأويل قريب بين العلماء والمُصنِّفين طبعاً، المُخصَّص على الإطلاق هو رب العالمين – اختص بالحمد – لكن بين العلماء يُوجَد تأويل، انظر إلى هذا، الآن بعد الإنكار وحرق الكُتب قال لك أنت المُخصَّص بالحمد، عالم مغربي قال أبا حامدٍ أنت المُخصَّص بالحمدِ وأنت الذي علَّمتنا سُنن الرشدِ، وضعت لنا الإحياء تُحيي نفوسنا وتُنقِذنا من ربقة المارد المُردي، أي الشيطان الرجيم، فتحوَّل موقفهم – بفضل الله تبارك وتعالى – وصاروا إلى حمد أبي حامد ومُصنَّفاته.

نأتي الآن إلى كلمة سريعة عن مواصفات أبي حامد الشخصية، طبعاً أعتقد أن كلاً منكم ومنكن يستطيع أن يُحدِّد بعض هذه المواصفات بعد أن سمع هذا القدر اليسير من ترجمة أبي حامد، أول هذه المواصفات أيها الإخوة العزيمة الماضية، الرجل له عزيمة قوية جداً جداً، طبعاً لا يُمكِن لأحد أن يُصبِح عالماً كبيراً ولا يكون ذا عزمٍ من حديد، لماذا إذن؟ لأن العلم لا يُنال براحة الأبدان، العلم ليس أن تقرأ كتاباً أو كتابين، لابد أن تقرأ الألوف – الألوف من الكتب – وأن تكون مرزوقاً بذهن منقاد وقريحة وقّادة وقوة عارضة وحُسن فهم وتأتي للأمور مع بذل ألوف الساعات في عشرات السنين وتقرأ ألوف المُصنَّفات، فهذا يحتاج إلى تعب، لا يُوجَد لعب، لا يُوجَد تضييع أوقات، لا تُوجَد بطالة، العلم لا يُجامِع البطالة، البطالة هذه للعوام، لكن أبو حامد كان مُتميِّزاً في هذا، لماذا؟ لأنه كان موسوعياً، يُمكِن للإنسان أن يُصبِح أشهر فقيهاً في عصره، مُمكِن أن يفعل هذا الإنسان، في أربعين سنة يُدرِس فقهاً ويُصبِح أشهر فقيهاً في عصره، لكن أن يُصبِح في أربعين سنة فقط – هو مات عن خمس وخمسين سنة – نظّاراً ومُجادَلاً كبيراً – جدلاً – وأصولياً وفقيهاً ومُتكلِّماً وصوفياً وفيلسوفاً ومنطيقاً وعالماً في الأخلاق والسلوك صعب، شيئ مُذهِل يا أخي، دائرة معارف الرجل هذا، إنسكلوبيديا Encyclopaedia، وكما قال ابن كثير أعرب عن ذكاء عجيب في كل ما كتب، ذكاء فائق، فهذا يعني أن الرجل أكيد أفنى نفسه، ولذلك احترق مُبكِّراً، عاش خمس وخمسين سنة ومات، احترق مُبكِّراً من كثرة ما كان يُفكِّر ويقرأ ويتعب باستمرار، فهذا واضح، إضافةً إلى المُثابرة والجد – وهذا من باب أيضاً العزيمة الماضية، نوع من الترادف أيضاً – الصدق في النية، الإنسان قد يكون عنده عزيمة لكنه غير صادق في نيته، عنده عزيمة على مُحارَبة الإسلام، عزيمة على تكفير الناس والعياذ بالله من هذا العزم، لكن هو عنده عزيمة ماضية مع صدق في نيته، خلوص في قصده، وهذا أسعد ما يُسعِد الطالب، أعني طالب الآخرة سواء كان من العلماء أو من طلاب العلم أو حتى من العامة، ما الدليل الأكبر على هذه الميزة؟ سفرته التي امتدد عشر سنين، أتُريد دليلاً أكبر من هذا الدليل؟ انخلاعه من الدنيا، رمى بها خلفه ظهرياً، ترك المال والجاه والمنصب والصيت وترك أهله وأسرته – بُنياته الثلاث – وجال وساح، حملته الأسفار إلى بلاد كثيرة في عشر سنين كاملة، أتُريد صدقاً أكثر من هذا؟ يطلب ماذا الرجل؟ لو كان طالباً للدنيا الدنيا كانت عند قدميه، أتُريد صيتاً وعلماً؟ كل هذا موجود، يطلب شيئاً وراء ذلك كله، يطلب الوصلة مع الله، صدق العلاقة مع الله، يطلب وجه الله، يُريد علاقة حقيقية مع الله عز وجل، عشر سنين! انظر إلى النية وانظر إلى القصد، انظر إلى الإخلاص الذي عند الرجل، لذلك رُزِقَ القبول أيضاً في كُتبه – الحمد لله – ولذلك تتأثَّر، حين تقرأ له تتأثَّر، لا تستطيع إلا أن تتأثَّر، جرِّبوا هذا، جرِّبوا هذا الليلة، لا تستطيعون إلا أن تتاثَّروا، سُبحان الله العظيم، إي والله، يُوجَد سر، هو هذا، هذه الصفة الثانية!

الصفة الثالثة الاعتداد بالنفس وأنا ألمعت إليها أكثر من مرة، الاعتداد بالنفس! على الأقل أبو حامد في مُقدِّمة تهافت الفلاسفة ذكر بشكل واضح أن هذا الموضوع لم يتصد له أحدٌ من قبله، وأفهمنا أن في المُعاصِرين له لا يُوجَد مَن يُحسِن التصدي له، ثم انتدب نفسه ليتصدى له، إذن هو يعرف قيمة نفسه، مُعتَد بنفسه لا عن كبر ولا عن عُجب وإنما عن تقدير لنعمة الله عليه، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – انظر – أي في شأن الدنيا – إلى مَن هو دونك ولا تنظر إلى مَن هو فوقك فإنه أجدر ألا تزدري نعمة الله عليك، إذن من الصفات الطيبة في المُؤمِن والمُؤمِنة أن يعرف نعمة الله عليه وألا يحتقرها، ليس طيباً وليس جيداً في المُؤمِن أن يحتقر نعمة الله عليه، الله أعطاني عقلاً وأنا أعرف أن هذا العقل غير طبيعي مثلاً، أعطاني حافظة من حديد، أعطاني ذهناً مُنقاداً وقّاداً مُلتمِعاً وساطعاً، لابد أن أعرف هذا، لا أُباهي ولا أزهو به ولا أتبجَّح، لكن أعرف هذا الشيئ، أبو حامد كان يعرف هذا – سُبحان الله – وصرَّح به قبل عُزلته وبعد عُزلته كما رأيتم في هذه الرسائل الفارسية، يتحدَّث عن نفسه بشكل واضح الرجل، ويتحدَّث حتى عن مقامه عند الملوك العِظام، قال كانوا يُنزِلونني منزلاً كريماً، قال كانوا يعرفون قدري، أنا أعرف قدري وهم يعرفون قدري، فعليك يا سنجر أن تعرف قدري أيضاً، هذا هو طبعاً، هذا معنى الكلام، أي أنه قال له مَن أنت؟ ملكشاه سلفك وهو أعظم منك بكثير – قال له – كان يعرف قدري، يعرف أنا مَن، وأنا أعرف قدر نفسي قال له، قال له كلامي أنا غاية العلماء أن يفهموه وأكثرهم لا يفهمه، وأنا وضعت – قال له – سبعين كتاباً، إذن فقد عاين الدنيا كما هي حالتها – قال له أنا إنسان خبير وخرّيت، أعرف الدنيا وأعرف الناس وأعرف كل شيئ، لست ولداً صغيراً أنا قال له – ونبذ – انظر إلى هذا، يعتد بزُهده وبعفته، استعفافه عن الدنيا وعن مناصبها وعن أموالها – كل ما فيها وأقام مُدةً في بيت المقدس ومكة وعاهد الله عند مقام أبي إبراهيم الخليل – صلوات الله عليه – على ألا يدخل على أي سُلطان وألا يأخذ من مال السُلطان – هل تعرفون لماذا كتب هذه الرسالة؟ السُلطان سنجر كتب له يستدعيه إلى مُعسكَره، قال له لن آتي إليك، الآن لن آتي إليك، يُوجَد عهد عند الله عز وجل، لن آتي إليك – وألا يُناظِر ويتعصَّب – ترك حتى المُناظَرة لأن فيها حظ النفس، في كتاب العلم من الإحياء يتحدَّث لك عن آفات المُناظَرة الإمام الغزّالي، قال لك ناظرني وأُناظِرك، تقريباً مُعظَمها آفات للنفس هي، حظوظ للنفس – وقد أوفى بهذا العهد – أو قصده ألا يُناظِر ويتعصَّب، فإذا ناظر لا يتعصَّب، فينزل على مُقتضى الدليل، فإن وجد خصمه مُحِقاً دان بالحق الذي أظهره الله على لسان خصمه، هذا الفهم أرجى وأدق، قال وألا يُناظِر ويتعصَّب، لم يقل وألا يُناظِر وألا يتعصَّب وإنما قال وألا يُناظِر ويتعصَّب، هذا يعني أنه يُناظِر لكن مع ترك العصبية والنزول على مُقتضى الدليل، قال هذا عهد لله عند خليل الله – اثني عشر عاماً – قال له من اثنتي عشرة سنة إلى اليوم افعل هذا – وعذره أمير المُؤمِنين – العباسي – وكافة السلاطين، انتهى الأمر، حين يستدعونه يقول لا، يُوجَد عهد بعدم الدخول عليكم، انظر إلى أي درجة بلغت عزته، رجل يستدعليه السلاطين ويقول لهم لا، لن آتي لكم، أمير المُؤمِنين قال له لن آتي لك، عهد بيني وبين الله، يعرف قيمة نفسه، هذا العالم، هذا الذي تأخذ منه الفتوى وأنت مُغمِضاً لعينينك بإذن الله، هذا لا يبيع دينه بدنيا غيره، ليس كعبيد السُلطان وأحذية السُلطان باسم العلم والمشيخة، قال والآن سمعت بأن……. إلى آخره، يتحدَّث عن أمر السُلطان، فهذا اعتداد بالنفس لكن محمود وسائغ!
أيضاً في فضائح الباطنية تحدَّث عن نفس الشيئ، أن هذا الأمر ليس له مَن يقوم به ويتصدى له إلا أنا، قال حتى بمعنى الكلام – لا أذكر العبارة – ومَن غيري يستطيع أن يقوم بهذا؟ قال، أنا قال، أنا مَن يعرف هذه الأشياء ويعلمها لأنني مُهتَم بها، أنا أعرف كل مداخلها ومخارجها، وفعلاً هو أحسن مَن رد على الباطنية، قمعهم كما يُقال في أقماع السمسم، دمَّرهم تدميراً رحمة الله عليه، فهذا من الاعتداد بالنفس، في موضع آخر يقول لسنجر هذا هذا الكلام لن تسمعه من غيري، ولك أن تتخيَّل هذا، قال له هذا الكلام لن تسمعه من غيري، شيئ غريب وعجيب، الرجل عنده فعلاً اعتداد بنفسه رحمة الله تعالى عليه رحمةً واسعةً.

سأتلو عليكم الآن بعض كلمات حُجة الإسلام الغزّالي، كلمات طيبة انتخبناها من كُتبه ومن بعض الكُتب، يقول مدار الطاعات وأعمال الجوارح كلها تصفية القلب، الطاعات لا يُراد بها أشكالها ورسومها، مطلوبة الإشكال والرسومة لأن هذه أوضاع شرعية، أليس كذلك؟ لا يستطيع أحد أن يتعبَّد الله على غير هذه الأوضاع، لكن إياك أن تقف مع الأوضاع، تعرفون الذي يقف مع الأوضاع ماذا يحدث له؟ اليوم خطر لي هذا وأنا أُصلي ويهتم بي طفلاي الصغيران محمد وإبراهيم، خطر لي هذا الشيئ العجيب، وأنا جالس إذا حككت ذقني إبراهيم يحك ذقنه، قلت هذا حال مُعظَم الخلق مِمَن أخذوا من الشريعة طقوسها ومراسيمها دون أن يفهموا جوهرها، فهذه الحكة جاءت مني عَرضاً، ليست مقصودة، أليس كذلك؟ ولا هي من أوضاع الصلاة، لكن هذا الطفل لا يستطيع أن يُميِّز، يُتابِعك في هذا العَرضي أيضاً، هناك أشياء في الشريعة جاءت على طريق العَرض وليس على طريق الجوهر فانتبهوا، الناس احتفوا بها حفاوة عظيمة وكأنها الدين، لا يتركونها، لكن ليست هذه، وتركوا ماذا؟ وتركوا الجوهر، كشيخ كبير تراه – والعياذ بالله – مُنغمِساً في غيبة الناس وخاصة إخوانه العلماء وطلّاب العلم، هذا عادي بالنسبة له، على أنه لا يُفرِّط أبداً في سُنن اللحية وفيها عشرون سُنة – مثلاً – يقول لك أو عشرون مكروهاً، لا يقع في شيئ من هذا، هل صار الدين الآن ألا تقع في واحد من عشرين مكروهاً ذكرها النووي أو غيره في اللحية ولكن الغيبة وهي من أكبر الكبائر – والعياذ بالله – تتساهل فيها؟ هذا ما فقه الدين، على كل حال في نهاية المطاف يقول أبو حامد مدار الطاعات وأعمال الجوارح كلها ما هو؟ تصفية القلب، فإذا رأيت أنك بعد الصلاة أو بعد الطاعة أو بعد الصوم أو بعد القيام أو بعد الصدقة أو بعد قراءة القرآن لم يصف قلبك إذن أنت مدخول النية – نيتك غير صحيحة – وأنت لم تُوقِع الطاعة على ما أراده الله – تبارك وتعالى – من إيقاعها فانتبه، أي أنك تُتعِب نفسك، هذا كله تعب كما يُقال في غير تحصيل!

يقول ليس الورع في الجبهة حتى تُقطَّب – بعض الناس دائماً يُقطِّبون الجبهة – ولا في الخد حتى يُصعَّر ولا في الظهر حتى ينحني ولا في الرقبة حتى تُطأطأ ولا في الذيل – ذيل الثوب – حتى يُضَم، إنما الورع في القلوب، أما مَن تلقاه ببشرٍ فيلقاك بعبوسٍ يمن عليك بعمله فلا أكثر الله في المُسلِمين من أمثاله.

دائماً يُكشِّر وما إلى ذلك لأنه أمس قام ليلاً الساعة سبعة واليوم ختم القرآن ختمة كاملة ولا يزال صائماً ولم يُفطِر، ومَن أنت؟ أتيت من المقهى وما إلى ذلك فينظر لك بحدة ويحتقرك، قال هذا لا أكثر الله في المُسلِمين من أمثاله، الورع في القلب هنا، أرأيت؟ الورع السهل والورع البارد ذكرناه أمس، وأكثر مَن يتنطَّع فيه مَن يقعون في المُوبِقات والكبائر، أرأيتم؟ لا يتورَّع عن الكبائر ويتورَّع عن الصغائر، لماذا؟ لأنه أسهل، هذا يُفعَل بسهولة، وفي نفس الوقت هو يرمي عصفورين بحجر، يُلبي هوى نفسه وشهوتها ويقع في الكبائر، والشيئ الثاني: يظهر بمظهر الصدّيق التقي الحريص جداً على دقائق الأمور، يا ما شاء الله، هذا دين الهالكين.

نكتفي في هذه الحلقة – إن شاء الله -بهذا القدر على أن نلقاكم في حلقة أُخرى، والسلام عليكم ورحمة وبركاته.

(تابعونا في الحلقة القادمة بإذن الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: