– الأستاذ المُهندِس طرفة بغجاتي: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نُتابِع معكم أيها الإخوة في الحلقة الثالثة بذكرى إحياء وفاة العالم العلّامة حُجة الإسلام أبي حامد الغزالي في هذه الأمسية في مسجد الشورى في مدينتكم فيينا، وقد كان لشيخنا الفاضل وخاصةً في الحلقة الثانية رحلةً سريعةً مع سيرة أبي حامد الغزالي وحياته مع عائلته بين أخيه وأبيه وكلمته الشهيرة بعد دخوله العلم أننا طلبنا العلم لغير الله فأبى العلم إلا أن يكون لله تعالى، كان صاحب حكمةٍ من الصغر وصاحب فطرةٍ سليمةٍ وحافظاً للعلوم، لازم الإمام الجويني عندما كان في شبابه ودرس عليه وكان مُتزوِّجاً وعنده ثلاثة بُنيات، وبعد تعرفه وبعد أن سمع به نظام المُلك في سنة أربعمائة وخمس وثمانين وكان نظام المُلك كما هو معروف يُجمِّع العلماء في نيسابور وفي بغداد وكان للإمام الغزالي حظٌ في ذلك ولبث هناك في نيسابور أربع سنوات وكان معروفاً وقتها بحُب الدين وشدة الشراسة وكان له مواكب حافلة عندما كان يمشي وكان صاحب لباس جميل وأنيق وغالي الأثمان، وبعدها وبعد أربع سنوات في نيسابور كان هناك تحول جذري في حياته ذكر لنا الشيخ لقطةً جميلةً ومُؤثِّرةً مع أخيه تعودوا إليها – إن شاء الله – في الحلقة الثانية الماضية، وبعدها دخل بمسيرة انقطاعه عن الدنيا لحوالي عشر سنوات ذكر فيها الشيخ بعض الأمور المُؤثِّرة التي يُنصَح بسمعها، وأنا سيكون عندي – إن شاء الله – اقتراح لإخواني في إدارة هذا المسجد وربما ننجح – إن شاء الله تعالى – أن تكون هذه المُحاضَرة مكتوبةً مُفرَّغة وأن تُنتَج بشكل كُتيبٍ يُضاف عليها مُحاضَرات الأسبوع القادم – إن شاء الله – ليكون بهذه المئوية أيضاً ذكرى كتابية إن شاء الله، ونُتابِع الحياة العلمية للإمام الغزالي مع شيخنا الفاضل عدنان إبراهيم، تفضَّل شيخ عدنان.

– الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم: بارك الله فيك وشكر الله سعيك.

بسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومَن والاه.

إذن هكذا قضى إمامنا رحمة الله تعالى عليه – الشطر الأخير من حياته بين درس وتدريس وبين عبادة وتأله وذكر وتسبيح حتى أذِنَ الله – تبارك وتعالى – له بأن يلتحق بالرفيق الأعلى، يقول الإمام أبو الفرج بن الجوزي في كتابه الثبات عند الممات حكى أخو حُجة الإسلام أحمد أبو الفتوح عن أخيه فقال لما أصبح أبو حامد في صباح يوم الاثنين وهو يوم وفاته – رحمة الله تعالى عليه – صلى الصبح ثم دعا بالكفن، قال إليّ بكفني، صلى الصبح وهو في مكانه، قال فأتيت به فأخذه وقبَّله ووضعه على عينيه، ثم وضعه على نفسه ومد رجليه وقال مرحباً بالدخول على الملك، هكذا كانت نهايته، قال مرحباً بالدخول على الملك، قال وأسلم النفس، هكذا مات قدَّس الله سره، فيا لها من ميتة كريمة شريفة وادعة مُبشِّرة راضية مرضية إن شاء الله تعالى!

وفيما يُحكى أن بعض تَلاميذه جاء عنده وقال قبل وفاته بيسير يا شيخي أوصني، فآخر ما ألقى إلي تَلاميذه من الكلام هذه الوصاة، قال عليك بالإخلاص، عليك بالإخلاص، عليك بالإخلاص، وظل يُردِّدها، حياة هذا الرجل هي حياة الإخلاص، ولذلك ليس بعيداً ما شهد به القطب المُرسي قدَّس الله سره – له بالصدّيقية العُظمى، فدُفِنَ في مقبرة الطابران في ظهر بلده طوس، وله إلى اليوم بها مشهدٌ يُزار، نسأل الله أن يُيسر لنا زيارته، نحن في طوق شديد أن نزور مشهد هذا الإمام العظيم، إي والله، دُفِنَ في مقبرة الطابران وبها قبره وهو يُزار رضوان الله تعالى عليه.

الإمام تاج الدين السُبكي في كتابه الطبقات ذكر طرفاً من بعض كرامات أبي حامد الغزّالي رضوان الله تعالى عليه، فذكر عن فخر الإسلام الإمام الكبير أبي بكر الشاشي قال وكان في زماننا شخص يكره الغزالي يذمه ويستعيبه في الديار المصرية فرأى النبي – مَن الذي رأى النبي؟ هذا الشخص، هذا الشخص الذي يذم ويستعيب ويتنقَّص أبا حامد،رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم – في المنام وأبا بكر وعمر رضيَ الله عنهما بجانبه والغزالي جالسٌ بين يديه – بين يدي رسول الله – وهو يقول يا رسول الله هذا يتكلَّم في، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال هاتوا السياط وأمر به فضُرِبَ لأجل الغزالي وقام هذا الرجل من النوم وأثر السياط على ظهره ولم يزل وكان يبكي ويحكيه للناس.

وهذه القصة يحكيها مَن؟ فخر الإسلام أبو بكر الشاشي من كبار علماء الشافعية!

الشاشي يقول أيضاً وحكى لي بعض الفقهاء أهل الخير بالديار المصرية أن شخصاً تكلَّم في الغزالي في درس الشافعي وسبه فحمل هذا الحاكي من ذلك هماً مُفرِطاً – الذي سمع مسبة الغزّالي وسيحكي القصة للإمام الشاشي اهتم كثيراً لهذه الوقعة الأليمة – وبات تلك الليلة فرأى الغزالي في النوم فذكر له ما وجد من ذلك فقال لا تحمل هما غداً يموت – الغزّالي بشَّره بأن هذا الرجل الشقي الخائب غداً يموت -، فلما أصبح توجَّه – أي الحاكي الذي اهتم لأجل إمامنا – إلى درس الشافعي فوجد ذلك الفقيه قد حضر طيباً في عافية ثم خرج من الدرس فلم يصل إلى بيته إلا وقد وقع من على الدابة ودخل بيته في حال التلف وتُوفيَ آخر ذلك النهار.

قال غداً يموت فمات فعلاً في ذلك النهار!

ثم يذكر الإمام السُبكي أنه مما يُعَد من جُملة كرامات الإمام الغزّالي – قدَّس الله سره وأعلى مقامه في دار التهاني – أن عليّ بن يوسف بن تاشفين لم يزل أمره في نكس وارتداد حتى نزعه الله من مُلكه بشؤم تحريق كُتب الغزّالي، طبعاً يوسف بن تاشفين كان سُلطان المغرب وهو إمام عظيم جداً، معروف ومشهور جداً، ربما أنا أسقطت أن أذكر لكم أن أبا حامد يُذكَر في سيرته وتراجمه أنه قصد إلى بلاد السُلطان يوسف بن تاشفين ليلتحق به ويغزو معه الكفّار وأعداء الملة، فبلغه في الطريق وفاة ابن تاشفين فعاد، إذن أراد حتى أن يُمارِس الجهاد عملياً أبو حامد الغزالي، فهذا يُذكَر في مناقبه رحمة الله تعالى عليه رحمةً واسعة، ابنه عليّ – مع أن ابنه يُذكَر أيضاً بنوع من الصلاح – الذي أعرفه عنه من بعض التواريخ أنه لم يكن في صح أبيه البتة، وهو الذي أساء أيضاً إلى أبي بكر الطرطوشي في قصة ربما حكيتها قبل سنوات طويلة على المنبر، المُهِم قصة فيها كرامة عجيبة لأبي بكر الطرطوشي المالكي، هذا عليّ بن يوسف بن تاشفين أوغر الفقهاء صدره على أبي حامد وأن أبا حامد كُتبه فيها زندقة وفيها مروق من الدين وفيها انحلال لعُقدة الشريعة وإلى آخره فأمر بتحريقها، وفعلاً يقول الإمام السُبكي بعد أن وقع تحريق كُتب الغزّالي بالمغرب العربي لم يزل أمر عليّ بن يوسف بن تاشفين في نكس وارتداد حتى نزعه الله من مُلكه بشؤم هذه الفعلة السيئة والعياذ بالله تبارك وتعالى.

وأحكي لكم قصة حكيتها أيضاً غير مرة لكن فَذَكِّرْ ۩، هذه القصة تتعلَّق بالإمام الشهيد حسن البنا رحمة الله تعالى عليه، قصة عجيبة جداً، ذكرها الأستاذ محمود عبد الحليم، عندنا شيخ الأزهر عبد الحليم محمود وعندنا رجل أرَّخ لجماعة الإخوان المُسلِمين في كتاب كبير من أجزاء اسمه محمود عبد الحليم عن تاريخ الدعوة، ذكر هذه القصة، وأعتقد كان شاهد عيان، أحد تَلامذة الإمام الشهيد حسن البنا رحمة الله تعالى عليه – وكان من أهل الخير، كان شاباً من أهل الخير، وسُبحان الله انقطع عن مجلس الشيخ البنا فترة فسأل عنه الإمام، فقالوا للأسف حاله ليست مما يسر لا العدو ولا الصديق، لماذا؟ قالوا تنصَّر، ماذا؟ تنصَّر، صار نصرانياً، كفر بعد إيمان والعياذ بالله، من أجل ماذا؟ وكيف؟ قالوا للأسف الشديد فُتِنَ بفتاة صبوحة جميلة وهي نصرانية تعمل في مُستوصَف – مشفى صغير – وأحب أن يتزوَّجها فقالت له لا، أنت على غير ديني، قال حلال، قالت لا، في ديني غير حلال إلا أن تتنصَّر، فلم تزل به حتى تنصَّر، ولم تتزوَّجه قالت حتى تُثبِت لي أنك على النصرانية الحق وأنك فعلت هذا بصدق، فصار يعمل خادماً في الكنيسة، فبات ذات ليلة فسنح له الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – في المنام، قال رأيت الرسول في المنام مُغضَباً، شديد الحنق والغضب، وعن يمينه رجل عرفت أنه موسى عليه السلام، وعن يساره آخر عرفت أنه عيسى عليه السلام، فدعا النبي بي مُتغيِّظاً مُحنَقاً فأتيت وأنا في شدة الخوف والخجل، فنظر إلى موسى وقال يا أخي يا موسى يُرضيك ما فعل هذا الشاب من أمتي؟ قال ما فعل يا أخي محمد؟ هذه قصة يحكيها الشيخ البنا، قصة حقيقية وانبنى عليها عمل مُبارَك كبير يتعلَّق بالغزّالي، قال ترك ديني إلى دين أخي عيسى، قال لا يُرضيني، لا يُرضيني، ثم التفت إلى عيسى وقال يا أخي يا عيسى هل يُرضيك ما فعل هذا الشاب من أمتى؟ سمع عيسى وقال لا يا محمد، لا يُرضيني يا أخي يا محمد، لا يُرضيني، فالشاب هذا صار يرتعد ويبكي، يقول يا رسول الله العون، المدد يا رسول الله، ماذا أفعل؟ هكذا أنا شقيت، قال له قد فعلنا، وأشار بيده الشريفة وقال انظر تلك الجنة، قال فنظرت فمُثِّلَت لي الجنة، قال في أعلى فراديسها ارق واصعد تجد الإمام حُجة الإسلام الغزّالي – أي والله -، اذهب إليه وادرس على يديه الإحياء يهدك الله، قال فرقيت فإذا أنا فعلاً بحُجة الإسلام جالس في هيبته وجماله وكماله ومعه الإحياء، فدفعه إليّ ففتحه وصرت أقرأ ويشرح لي، قال قمت من النوم وأنا أبكي شوقاً إلى رسول الله وفرحاً بما رأيت، وليس أحب إلى قلبي من الإسلام ونبيه، وليس أبغض إلى قلبي من النصرانية، طبعاً أما عيسى فهو من أحب الأنبياء إلى قلبنا، لكن هذا الدين المُحرَّف نحن لا نُؤمِن به، دين التثليث والعبادة للبشر، على كل حال سمع الشيخ البنا بهذه القصة طبعاً، عاد الشاب طبعاً وحكى لهم هذه القصة فسُرَّ بها الإمام الشهيد سروراً عظيماً رضوان الله تعالى عليه، وقرَّر الشيخ البنا أن يطبع الإحياء بثمن زهيد جداً وأن يُشيعه بين المُسلِمين، هذا يعني وجود إشارة نبوية هنا، هذا كتاب غير عادي، هذا كتاب يهدي به الله مَن أراد فعلاً أن يحيا – بإذن الله – على الهُدى، وأنشأ مطبعة خاصة – الشيخ البنا رحمة الله عليه – تطبع الإحياء بثمن زهيد ويُوزِّعه بين الناس.

من عجيب ما اتفق للعبد الضعيف – أتحدَّث عن نفسي – مع الإمام الغزّالي – رضوان الله عليه – قبل أكثر من عشرين سنة في يوغوسلافيا السابقة كان لي مجلس مع إخواني وأحبابي، كل ليلة أُحدِّثهم عن إمام من أئمة وأعلام الإسلام، كل ليلة عن إمام، فجاءت النوبة على أبي حامد الغزّالي فحدَّثتهم عنه حديثاً ربما في ساعتين أو ثلاث ساعات، وسُبحان الله كان من ضمن ما ذكرت كلمة لأبي بكر بن العربي، كما قلنا القاضي، تَلميذ الإمام الغزّالي، أنه قال شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة ثم أراد أن يتقيأهم فلم يستطع، هذه كلمة من باب الطعن في الغزّالي، فيها نوع من الطعن، أي أنه تأثَّر بهم على عكس ما ذكر التاج السُبكي، قال ناضل وصاول ثم عاد ولم يُدنِّس حد نصاله بشيئ من دمهم، بالعكس! أبو بكر العربي قال لا، هو بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فلم يستطع، لم يقدر، وذكر أيضاً ضعفه في علم الحديث وهذه حقيقة، أبو حامد لا نقول لا مهارة له وإنما لاشتغال له بعلم الحديث أصلاً، ولم يكن يعرف صحيحه من ضعيفه من موضوعه، ولذلك كثر في الأحياء الأحاديث التي لا أصل لها،الإمام السُبكي وهو أحسن مَن دافع عنه ودفع – كما قلت لكم – في مائة صحيفة هنا جمع كل الأحاديث وهو مُحدِّث كبير – تاج الدين السُبكي مُحدِّث كبير جداً وحافظ – التي وجدها في الإحياء ولا سند لها أصلاً، فإذا بها ثلاثة وأربعون وتسعمائة حديث، كثيرة جداً، فالإحياء فيه كم هائل من الأحاديث المكذوبة والموضوعة والتي لا أصل لها، لكن سنُجيب أيضاً عن هذا الاعتراض أو عن هذا الإيراد، على كل حال قال ابن العربي كان شيخنا أبو حامد يقول بضاعتي في الحديث مُزجاة، بضاعة ليست مُستجادة، بضاعة فيها الغث والثمين كما يُقال، ذكرت هاتين الجُملتين بنية – سُبحان الله – أنني أذكر كل ما قيل حتى نعرف مواقف العلماء، وكان هذا خطأً مني، لماذا؟ لأنني أُخاطِب طلّاباً صغاراً في السن، أنا كنت في نحو العشرين وما إلى ذلك، أُخاطِب طلّاباً صغاراً في السن، وليسوا طلّاباً للعلم بشكل رسمي أصلاً، ومعروف أن أخطاء العظماء عزاء للتافهين، الإنسان التافه والبسيط يفرح إذا تناهى إلى علمه خطأ عن عالم كبير وعن إمام جليل، لا أقول إن إخواني هؤلاء كانوا تافهين لكنهم عوام، والعوام كما تعرفون فيهم نوع عمى، فما كان ينبغي أن أذكر هذا لهؤلاء، واتفق لي شيئٌ عجيبٌ جداً، ذهبت إلى النوم بعد ذلك، على ما لا أقول أتوهَّم وإنما على ما اتفق لي تماماً ليلة بطولة سُلِّطَ علىّ خلقٌ لا أدري هل هو ملك؟ هل هو روح صالحة؟ لا أدري! لم أره لكن يقف عندي أو بإزائي أو خلفي، لم أره ويُلقِّنني هاته الجُمل: أبو حامد الغزّالي حُجة الله، فأقول أبو حامد الغزّالي حُجة الله، يقول أبو حامد الغزّالي حُجة الله في الأرض، أقول له حُجة الله في الأرض، يقول أبو حامد الغزّالي حُجة الله بين الناس، أقول له حُجة الله بين الناس، الله ليلة بطولها يا إخواني، ليلها بطولها، لم استفق من نومتي هذه إلا بعد أن جاءني أخ مصري كان يسكن معي وهو – إن شاء الله – أحسبه من الصالحين، ولعله الآن – إن شاء الله – حي يُرزَق، اسمه الشيخ أبو الحسن، رجل طيب صالح، إن شاء الله أحسبه من أولياء الله الصالحين، رجل عجيب، عجيب في صلاحه وعبادته وبكائه ونزاهته وعفته – شيئ غريب – والتزامه برسوم وحدود الشريعة، أي والله، كنت أُحِبه جداً وما زلت في الله وأدعو له بكل خير، فجاء يُوقِظني لصلاة الفجر وهو من أهل قيام الليل، لا يترك ليلة دون أن يقومها ويبكي، أستيقظ عليه، ولا يُحِب أن يعرف هذا أحد كان، فأيقظني، فحين أيقظني أنا استيقظت وإذا بالصوت لا يزال وأسمعه يقول لي حُجة – بصوت مُنخفِض – والله العظيم – وأنا أقول له حُجة بصوت مُنخفِض أيضاً حتى لا يسمع زميلي في السكن، وأنا أُجيب هذا الصوت لكي يهدأ عني، لكي يتركني أقول له حُجة، يقول لي بصوت مُنخفِض حُجة الله بين الناس، فأقول له حُجة الله بين الناس، ما هذا؟ ما الذي يحصل هذا؟ ذهبت وأنا كالمذهول، كالغائب عن نفسي، قلت لماذا؟ أنا أُحِب هذا الرجل حُباً غير عادي، تقريباً من الصعب أنني أحببت عالماً كما أحببت أبا حامد، من صغري أبو حامد أُحِبه حُباً غير عادي، فعلاً عنده علاقة روحية به، أنا ما أسأت إليه، ثم تذكَّرت فقلت نعم، لعل هذا بشؤم تينك الكلمتين اللتين أثرتهما عن ابن العربي المالكي، لعل هؤلاء – إخواني وأحبابي – فهموا منهما شيئاً لا يليق بجناب الإمام الغزّالي، طبعاً لعدم أو لضيق حوصلة الواحد منهم، الحوصلة العلمية صغيرة، بسطاء هؤلاء، طلّاب صغار هؤلاء يدرسون الطب، ما الذي يُعرِّفهم بالعلوم هذه؟ فربما يسوء ظنهم في الإمام الغزّالي، فما كان ينبغي أن أشين ترجمة هذا الإمام بذكر هاته المقالات، لذلك هنا الإمام السُبكي عتب على شيخه الإمام الذهبي، الذهبي كان شيخ السُبكي، عتب عليه أنه أورد الممادح وقرمطها بعبارة هكذا مُتعجرِفة ثم بعد ذلك أطال النفس في مذام الغزّالي وماذا قال فيه فلان وماذا قال المازري وماذا قال الطرطوشي وماذا قال عبد الغافر وماذا قال كذا، الإمام السُبكي عتب على الشيخ الذهبي أنه فعل هذا، لا ينبغي، وقد سمعنا قبل أيام كلمة صعبة جداً، حاشا لله، لا تنطبق على الذهبي، لكن صعبة جداً، لا يجوز لأحد أيها الإخوة أن يتوسَّل المدح لكي يأتي من تحته بذم، هذا الشيئ غير جائز، لكن الإمام الذهبي ليس هذا قصده إن شاء الله، لكن نتعلَّم نحن من هذه الأشياء بإذن الله تبارك وتعالى، فكانت هذه عجيبة من العجائب، إن شاء الله أنقذني الله بها من الإساءة إلى الإمام الجليل.

ذكر أيضاً الإمام السُبكي وأُريد أن أختصر من كرامات أبي حامد رؤيا رآها زين القرّاء – من أكبر علماء القراءة في عصره – عامر الساوي رحمة الله تعالى عليه، هذا إمام من أئمة القرّاء الكبار رأى هذه الرؤيا بمكة شرَّفها الله وزادها مهابة وبراً، قال شعرت أنني لا أستطيع أن أتمالك نفسي، تعبت تعباً شديداً فقلت أستلقي على جنبي الأيمن بحذاء الكعبة لكي أستريح، قال فكأن عيناي غلبتاني فصرت بين النائم واليقظان، ربما كان نائماً، قال فرأيت الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – في حلقة عظيمة ومهيبة، حلقة مهيبة! قال يتقدَّم رجل وبيده كتاب فسألت مَن هذا؟ قالوا أبو حنيفة، وجعل يتلو على رسول الله شيئاً من كتابه، فبش النبي له في وجهه وأجازه ثم سمح له بالانصراف، ودخل الآخر فقالوا هذا فلان، هذا مالك، هذا الشافعي، يقول الإمام الساوي – زين القرّاء رحمة الله تعالى عليه – وأنا واقف هكذا وبيدي كتاب فجاء دوري وما ظننت أنهم يُقدِّمونني، علماء كبار هؤلاء، قال فقُدِّمت ودخلت، قال ماذا معك؟ قلت يا رسول الله معي كتاب قواعد العقائد، قال لك أو لمَن؟ قلت للإمام الغزّالي، لأبي حامد الغزّالي قواعد العقائد، وأنا أنصح بقراءة هذا الكُتيب الصغير على أنه عظيم الفائدة، في المُجلَّد الأول من إحياء علوم الدين يا إخواني كتاب عجيب، أتُريد أن تعرف العقيدة التنزيهية البعيدة عن لوثات التشبيه والتجسيم والتعطيل؟ اقرأ قواعد الغزّالي، أي قواعد العقائد، سوف ترى ذكاء هذا الرجل، شيئ عجيب، قال فسمح لي – أذن لي – رسول الله أن أقرأ، قال فقرأت وتلوت وتلوت وتلوت إلى أن أتيت إلى قول الإمام الغزّالي – رحمة الله تعالى عليه – في كتابه: وأنه تعالى بعث النبي الأُمي القرشي محمداً صلى الله عليه وسلم برسالته إلى كافة العرب والعجم والجن والإنس، قال فلما بلغت إلى هذا رأيت البشاشة والبشر في وجهه صلى الله عليه وآله وسلم، إذ انتهيت إلى نعته وصفته فالتفت إليّ وقال أين الغزّالي؟ النبي قال هذا، هذا ليس كتابك وإنما كتاب الغزّالي، فأين الغزّالي صاحب هذا الكتاب؟ فإذا الغزّالي كأنه واقف على الحلقة بين يديه فقال ها أنا ذا يا رسول الله، وتقدَّم وسلَّم على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرد عليه الجواب وناوله يديه العزيزة والغزّالي يُقبِّل يده ويضع خديه عليها تبركاً به وبيده العزيزة المُبارَكة ثم قعد، قال فما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكثر استبشاراً بقراءة أحد مثلما كان بقرائتي عليه قواعد العقائد لأبي حامد الغزّالي – ولا كتب الأئمة الكبار مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي – ثم انتبهت من النوم وعلى عيني أثر الدمع مما رأيت من تلك الأحوال والمُشاهَدات والكرامات، فإنها كانت نعمة جسيمة من الله تعالى سيما في آخر الزمان مع كثرة الأهواء. اللهم أعطنا مما أعطيت عبادك الصالحين وأصلحنا لك بما أصلحتهم لك به يا رب العالمين، فهذه كرامة أيضاً وأي كرامة لإمامنا أبي حامد رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.

هناك أيضاً كرامة للإمام أبي حامد ذكرها أيضاً الإمام السُبكي في هذا الكتاب وهي بخصوص الإمام المالكي – أحد فقهاء المالكية – أبي الحسن بن حِرزهم أو حِرازهم، ذكرها في صحيفة مائتين وثماني وخمسين، يقول وهو الشيخ أبو الحسن بن حِرزهم بكسر الحاء وسكون الراء وبعدها زاي وربما قيل ابن حِرازهم، لما وقف على الإحياء – ابن حِرازهم هذا أو حِرزهم – تأمَّل فيه ثم قال هذا بدعة مخالفة للسُنة – من المعروف في حقبة مُعيَّنة كان لأهل المغرب موقفٌ جد سيئ من إحياء علوم الدين، وكما رأيتم ماذا فعل عليّ بن يوسف بن تاشفين من أمره بإحراق نُسخ الإحياء، وهذا الشيخ – أبو الحسن – للأسف سيتقلَّد هذه العظيمة ويُفتي أيضاً ويُحرِّض على حرق الإحياء لما فيه من بدع، موقف المازري سيئ من الإحياء، موقف الطرطوشي سيئ – وكان شيخاً مُطاعاً في بلاد المغرب فأمر بإحضار كل ما فيها من نُسخ الإحياء وطلب من السُلطان – هذه مُشكِلة العلماء ومُشكِلة حتى أهل الفكر، دائماً يتقوون بالسُلطة لفرض الآراء، وهذا شيئ سيئ جداً جداً، لا يجوز، من أكبر اللطخات في تاريخنا من عهد مُعاوية تدخل السياسة في العلم والفتوى والحديث، لا يجوز، ينبغي أن يكون للعلماء حرية مُطلَقة بعيداً عن سُلطة الساسة، لكن هذا لم يحصل وإلى اليوم، إلى اليوم هذا غير حاصل للأسف الشديد، هذا من أسوأ ما مُنينا به – أن يُلزِم الناس بذلك فكتب إلى النواحي وشدَّد في ذلك وتوعَّد مَن أخفى شيئاً منه – أي من الإحياء – فأحضر الناس ما عندهم واجتمع الفقهاء ونظروا فيه ثم أجمعوا على إحراقه يوم الجمعة وكان ذلك يوم الخميس، فلما كان ليلة الجمعة رأى أبو الحسن المذكور في المنام كأنه دخل من باب الجامع الذي عادته أن يدخل منه فرأى في ركن المسجد نوراً وإذا بالنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وأبي بكر وعمر رضيَ الله عنهما جلوس والإمام أبو حامد الغزالي قائم وبيده الإحياء فقال يا رسول الله هذا خصمي – أبو الحسن هذا خصمي أنا – ثم جثا على ركبتيه وزحف عليهما إلى أن وصل إلى النبي – مَن هذا؟ أبو حامد الغزّالي، فعل هذا تواضعاً وإجلالاً لرسول الله، يزحف زحفاً إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم – فناوله كتاب الإحياء وقال يا رسول الله انظر فيه فإن كان بدعة مخالفاً لسُنتك كما زعم تُبت إلى الله تعالى وإن كان شيئاً تستحسنه حصل لي من بركتك فأنصفني من خصمي، فنظر فيه رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم، أي في الإحياء – ورقة ورقة إلى آخره ثم قال والله إن هذا شيء حسن – انظر إلى هذا، مثل ما أوصى به تلميذ الشيخ البنا في القرن العشرين، شيئ لله، هذا مكتوب لله -، ثم ناوله أبا بكر – أنا قلت لكم مرة في الخُطبة حين تشعرون بقسوة في قلوبكم اقرأوا شيئاً لأبي حامد، شيئ غريب يا أخي، والله طبٌ مُجرَّب، شيئ غريب لا يكاد يُصدَّق، هو هكذا، هذه الروح، كما قلت كلام مُسربَل بالإخلاص من معين التقوى – فنظر فيه كذلك ثم قال نعم والذي بعثك بالحق يا رسول الله إنه لحسن، ثم ناوله عمر فنظر فيه كذلك ثم قال كما قال أبو بكر، فأمر النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بتجريد أبي الحسن – ابن حِرزم هذا – من ثيابه وضربه حد المُفترى – أي ضُرَب أربعين جلدة -، فجُرِّد وضُرِب ثم شفع فيه أبو بكر بعد خمسة أسواط، وقال يا رسول الله إنما فعل هذا اجتهاد في سُنتك وتعظيماً فعفا عنه أبو حامد عند ذلك، فلما استيقظ – أبو الحسن – من منامه وأصبح أعلم أصحابه بما جرى – هذا ليلة الجمعة، هو الذي ذهب إليهم، ذهب وقال لهم لا تحرقوا الإحياء، وقد أجمعوا أكواماً من الإحياء لحرقها، لكن هو الذي قال لهم لا، هذه قصة لها أصل وهي مروية بالإسناد عن القطب أبي الحسن الشاذلي، مروية بالإسناد، إسناد أئمة وصُلحاء كبار – ومكث قريباً من الشهر مُتألِّماً من الضرب، ثم سكن عنه الألم ومكث إلى أن مات وأثر السياط على ظهره، وصار ينظر كتاب الإحياء ويُعظِّمه ويُبجِّله أصلاً أصلاً، وهذا حكاية صحيحية حكاها لنا جماعة من ثقات مشيختنا عن الشيخ العارف ولي الله ياقوت الشاذلي عن شيخه السيد الكبير ولي الله تعالى أبي العباس المُرسي – انظر إلى هذا، عن أقطاب الله – عن شيخه الشيخ الكبير ولي الله أبي الحسن الشاذلي رحمهم الله تعالى أجمعين. فأي سندٍ هذا؟! وأي كرامةٍ هذه؟!

أبو حامد أيها الإخوة لم يتعاط الشعر، كان يتحفَّظ جيده ورائقه، ولكنه لم يتعاطه كثيراً وله بعض شعر يُروى، أنا اجتزأت ببيتين من لطيف شعره، وهذا يمس القضية التي كان مُهتَماً بها، قضية الإصلاح العلمي وصلاح العلماء في أنفسهم:

يا معشر القرّاء يا مِلح البلد                       مَن يُصلِح المِلح إذا المِلح فسد؟

هو يقول هذا في إحيائه!

فمن شعره يقول:

فُقَهاؤنُا كذُبالة النِّبراسِ                               هی فی الحَریق وضَوؤها للنّاسِ.

يقول:

فُقَهاؤنُا كذُبالة النِّبراسِ                                 هی فی الـحَریق ـ تشتعل وتذوب ـ وضَوؤها للنّاسِ.

خُبرٌ – نحن ذكرنا الخَبر والخُبر، أي المخبر – دَمیمٌ تحتَ رائقِ مَنظَرٍ       كالفضةٍ البيضاء فوق نُحاسِ.
يذم علماء عصره، أبو حامد كان ممروراً من علماء عصره، وكما قلت لكم أعلن يأسه منهم أكثر من مرة، وكأنه كان يرى نفسه وحيداً مُفرَداً في طريق الحق للأسف، لم ير حتى مَن يُعينه على ذلك، الدنيا أكلتهم، الدنيا أكلت العلماء للأسف، فنسأل الله أن يُصلِحنا وأن يُصلِح أمتنا. اللهم آمين.

ربما نتكلَّم الآن بكلمة سريعة عن مُصنَّفات الإمام أبي حامد الغزّالي، كما قلت لكم مُصنَّفاته غطت علوماً وتخصصاتٍ وفنوناً عديدة، من أشهر مُؤلَّفاته في الفقه الكتب الأربعة كما قلنا، الوجيز والوسيط والبسيط والخُلاصة، على أن نتنبَّه إلى أن معنى كلمة البسيط في اللُغة وفي استعمال العلماء في العصور الوسيط تعني المُسهَب المُوسَّع المُوعِب، عكس ما نقول اليوم، اليوم يُقال أُريد كلاماً بسيطاً، أتُريد كلاماً بسيطاً؟ سوف يكون هذا في ساعتين أو في ثلاث أو في أربع، هذا الكلام البسيط، قل أُريد كلاماً وجيزاً، لكن بسيط من البسط، قال الله وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ ۩، هذا هو طبعاً، ابسط لنا هذه الجُملة، حين نُعطيك المعنى في جُملة وتقول ابسط لنا نبدأ الشرح، هذا هو البسيط، عكس اليوم الاستعمال العامي، إذن الوجيز والوسيط – المُتوسِّط في الفقه، هذا كتاب الوسيط – والبسيط والخُلاصة، أحسن الله خلاصه، في الأصول له – كما قلنا – المنخول من تعليقات الأصول، سرَّني جداً أنني قرأت لأول مرة في حياتي أنه دُسَّ عليه في كتابه المنخول من تعليقات الأصول كلمات رديئة في حق إمام جليل يبرأ إلى الله منها، لأن هذه الرسائل الفارسية – وجزى الله إخوتنا وأساتيذنا في مصر – لأول مرة تُترجَم في المشروع القومي للترجمة والنشر بفضل الله، هذه رسائل أبي حامد الفارسية، موجودة بالفارسية لأنه كتبها بالفارسية طبعاً، وكيمياء السعادة بالفارسية كتبه، أبو حامد طبعاً كان يُتقِن اللُغتين يا إخواني: كان يُتقِن لُغته الأم وهي الفارسية وله بها عدد من المُصنَّفات، أي عدد من المُصنَّفات، وأتقن العربية، وذكر عبد الغافر الفارسي – كما قلنا عصريه وصاحبه – أنه أُخِذَ عليه في تأليفاته وفي كلامه جُملة أخطاء نحوية فاعتذر أنه لم يتفرَّغ لهذا العلم، قال لهم أنا لست نحوياً، وليس النحو من علومه أصلاً، ولكن – سُبحان الله – على هذا الضعف اليسير من جهة النحو إلا أنه في البيان والتعبير والرائقية والديباجة لا يُشَق له غُبار، ما الفائدة أن تعرف النحو تماماً والصرف معرفة سيبويه ونفطويه وأن تعرف البلاغة معرفة القزويني ومعرفة عبد القاهر ثم إذا كتبت وأنشأت كلامك في طبقة وسطى أو في طبقة دُنيا؟ أبو حامد في طبقة عُليا ولا أعلى، كما قلت لكم مِن أحسن مَن مسك القلم وحبَّر أبو حامد، شيئ غريب، طريقته وترتيبه ومنهجيته شيئ غير مسبوق وربما غير ملحوق، رحمة الله تعالى عليه، على كل حال كان يكتب باللسانين، يتحدَّث باللسانين ويكتب باللسانين، هذه الرسائل كتبها أصلاً بالفارسية، بعضها لطلّاب علم، بعضها لمُستفتين، بعضها لسلاطين مثل سنجر وبعضها لوزراء، وكان يُكثِر مُكاتَبة الوزراء والتشديد عليهم ويُكثِر أمرهم ونهيهم والإنكار عليهم – رحمة الله تعالى عليه – قياماً بالواجب، فذكر أبو حامد نفسه في إحدى رسائله الفارسية أنه دُسَّ عليه في كتابه المنخول من تعليقات الأصول كلمات رديئة في حق إمام جليل يبرأ إلى الله منها، لا كتبها ولا له حظ فيها، فأنا فرحت جداً بهذا، لماذا؟ أنا قرأت الأصول في شبابي الباكر، أيضاً قبل زُهاء من عشرين سنة، حوالي خمس وعشرين سنة، وحين قرأت المنخول ساءني أيضاً أنه تناول أبا حنيفة بلسان ذرب سليط، وخرج أبو حنيفة من تحت يد الغزّالي كأنه إمام أرعن وفقهه أهوج ومُتناقِض وعجيب، وحدَّثت ربما إخواني وأحبابي بهذه المسألة قبل سنوات طويلة، ذكر كيف الرجل يتوضأ بنبيذ ويلبس جلداً لكذا غير مدبوغ ويُصلي وينصرف من الصلاة بضرات ويقول هذه صلاة صحيحة، قال هذا مذهب أبي حنيفة وهذا دينه، قال هل هذه الصلاة بعث الله بها النبيين والمُرسَلين؟ هذا إزراء شديد جداً على أبي حنيفة، فأفرحني جداً – بفضل الله – أنني قرأت لأول مرة هذا، ولم أر مَن نبَّه إلى هذا لأن هذا الكتاب غير مطبوع، فهذا طبيعي، العلماء لهم عذر، لأول مرة يُطبَع وقرأت فيه هذا لأول مرة ولعلي أكون أول مَن نبَّه إلى أن أبا حامد يعترف هنا مُستاءً من أن أصحاب الأهواء هؤلاء – والعياذ بالله – والمُفرِّقين لجماعات المُؤمِنين دسوا على لسانه في منخوله ما يقدح في الإمام الجليل أبي حنيفة وهو يبرأ إلى الله من ذلك، فهذا شيئ طيب، الحمد لله، وهذا قدر وهذا وعي وسلامة قصد الإمام الغزّالي، هذا هو إن شاء الله، على كل حال له في الأصول أيها الإخوة كما قلنا المنخول من تعليقات الأصول في مجالس أستاذه أبي المعالي الجويني رضيَ الله تعالى عنهما، له المُستصفى، كما قلنا هذا أجود كُتبه الأصولية وأحسنها ترتيباً وترصيفاً وتصنيفاً وقريب وسهل، جميل وعميق جداً هذا الكتاب على الإطلاق، وله أيضاً شفاء الغليل، في نظري كان الأفضل أن يُسميه شفاء العليل، الشفاء من العلة، أليس كذلك؟ والنقع من الغُلة، لكن هكذا سماه وهكذا وصل إلينا، اسمه شفاء الغليل، فهذا مُمكِن لكن المُحقِّقين هكذا حقَّقوه أيضاً، شفاء الغليل في مسائل ماذا؟ هذا كتاب عجب، هذا الكتاب فقط يتحدَّث عن مسالك التعليل ولكم أن تتخيَّلوا هذا، هذا مبحث ليس يسيراً طبعاً، مبحث هائل وضخم وقوي، لكن من مباحث القياس الذي هو من أدلة الأصوليين، من أدلة استنباط الأحكام، يتكلَّم فقط عن مسالك التعليل، الشبه والمخيل والتعليل، كتاب في زُهاء أربعمائة صفحة عجب من العجب، عجب! تُدرِك بُعد غور هذا الإمام في أصول الفقه، أصولي من طبقة فريدة رحمة الله تعالى عليه، هذه كُتبه الأصولية!

له طبعاً في التصوف إحياء علوم الدين وله الرسالة الولدية: أيها الولد المُحِب، رسالة بسيطة لطيفة جداً جداً، له بداية الهداية، وغير هذه الكُتب كثير في التصوف، رحمة الله تعالى عليه، كُتبه عموماً أيها الإخوة عد منها التاج السُبكي في هذا الكتاب أكثر من خمسين كتاباً، أي أكثر من خمسين عنواناً، وأما العلّامة الزبيدي الذي شرح الإحياء بكتابه إتحاف السادة المُتقين شرح إحياء علوم الدين فعدَّد منها أكثر من سبعين كتاباً، ثم زعم بعض المُترجِمين أن له أكثر من مائتين وأربعين كتاباً وأعتقد أن منهم الزركلي على ما أذكر، لم أُراجِع هذا حقيقةً هذه الأيام، قرأته قبل سنوات، لعل الزركلي زعم أن له أكثر من مائتين وأربعين كتاباً، وهذه مُبالَغة ومُستبعَدة، على طريقة القدماء كانوا يُبالِغون، وهذا الزركلي طبعاً قرأ لبعضهم، لماذا؟ لأنني وجدت أيضاً في الرسائل الفارسية في رسالة أبي حامد إلى السُلطان سنجر سُلطان خُراسان – وهي رسالة في آخر حياة الغزّالي، في آخر سنتين من حياته – أنه ذكر أن له – عن نفسه – زُهاء سبعين كتاباً، إذن هذا هو الدقيق، وهذا الذي انتهى إليه علم المُرتضى الزبيدي شارح الإحياء، فلو ثبت عنده وهو شارح الإحياء أن لأبي حامد أكثر من سبعين كتاباً لذكر، قال هنا أبو حامد – هذا كما قلت لكم قبل وفاته بسنتين – واعلم – يقول للسُلطان سنجر السلجوقي وهو سُلطان خُراسان – أن هذا الداعية – عن نفسه – قد تجاوز الثالثة والخمسين – هو مات عن خمس وخمسين، إذن هذا قبل وفاته بأقل من سنتين – من عمره وغاص أربعين سنة منها في بحر العلوم الدينية حتى بلغ أن كلامه قد تجاوز فهم أغلب أهل عصره.

قال مُعظَم أهل عصري من العلماء لا يستطيعون أن يفهموا كلامي أصلاً، كلامي طبقة مُتفرِّدة، هذا لا يُقال من الكبر ولا من العُجب، هذا من الاعتداد الشرعي فانتبه، أن تعرف قدرك وقدر ما أعطاك الله لا علاقة له بالكبر، انتبه إلى هذا، وإلا مَن الذي يتكلَّم؟ أبو حامد وقبل وفاته بأقل من سنتين، أبو حامد صاحب الرحلة في البحث عن الله عشر سنين، ليس إنساناً أرعن وخفيفاً، لا يُقال يفتخر بنفسه، كل شيئ يُوضَع في موضعه، وطبعاً هذا يكون ردة فعل على إنكار علماء عصره ورميه بالجهل وبالبدعة وبالمُخالَفة وبالزندقة، والنية هنا ماذا عنها؟ لماذا يقول هذا؟ المظنون – إن شاء الله – بل المقطوع به – بإذن الله تعالى – أن نيته تحسين ظنون طالبي الهداية حتى لا يتعكَّر عليهم الطلب، كأنه يقول لهم أنا مثلي لا تظنوا بي السوء، أنا خير بكثير مما يظن هؤلاء سيئو الظنون والبواطن، أنا رجل أعمل لله وأنا رجل مُتميِّز، يقول هذا، سُبحان الله اتفق مثل هذا لسميه في عصرنا هذا الشيخ محمد الغزالي رحمة الله تعالى عليه، الشيخ محمد أكثر من مرة تحت فعلاً مرارة الإنكار والجحد والاتهام وسرقة مُؤلَّفاته وسرقة مقالاته ذكر مثل هذا، قال وأنا رجل – بفضل الله تبارك وتعالى عليه – أُوتيت قلماً ولساناً استخدمتهما في الدفاع عن الدين والذب والمُحاماة عن شؤونه وقضاياه ليس لهما نظير، قال كلاماً هذا معناه، الشيخ الغزالي قال هذا، قال أنا لا أعرف ليس لي نظير في هذا العصر، وفعلاً مَن مثل الشيخ محمد الغزالي في هذا العصر يتكلَّم بلسانه ويكتب بقلمه؟ لكن يأتيك الجهلة الفراخ الأذناب ويقولون ماذا؟ هذا كاتب إنشاء، هذا لا يعرف الشريعة، هذه بلية العلماء بالجُهلاء، وفعلاً هذا من غلبة الشقاء على أمثال السُفهاء، وكما سمعتم اليوم لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل، مِن أين للجاهل أن يعرف مقام العالم؟ كيف؟ لا يستطيع، هل تعرفون الجاهل ماذا يرى من العالم؟ مداسه وحذاءه، فيحكم عليه حكمه بحسب الحذاء، لأنه قزم يقف عند الحذاء، أنت تُريد رجلاً يُسامي أو يُساوي أو يُقارِب العالم على الأقل في قامته الباذخة حتى يعرف أن ينظر ويُبصِر الحقيقة.

يقول وقضى عشرين – الغزّالي يقول عن نفسه – من عمره في أيام حُكم السُلطان الشهيد – ملكشاه – ولقيَ منه في أصفهان وبغداد كثيراً من الإقبال وتردد رسولاً مراراً بينه وبين أمير المُؤمِنين في مهام جسام، ووضع في علوم الدين نحو سبعين كتاباً.

هذا واضح، انتهى الأمر، الغزّالي ليس له مائتان وأربعون كتاباً، هذه مُبالَغات، لكن له نحو سبعين كتاباً وهو ما انتهى إليه إحصاء العلّامة مُرتضى الزبيدي في إتحاف السادة المُتقين، واضح إن شاء الله!

فهذه مُؤلَّفات الغزّالي، نأتي الآن إلى المنطق، له محك النظر وله معيار العلم، كلاهما في المنطق، كتابان قويان ومُحرَّران، في الفلسفة له الكتابان المشهوران جداً: مقاصد الفلاسفة وتهافت الفلاسفة، بجُملة حتى لا أنسى أشهر وأمثل وأخطر كتب الإمام الغزّالي ثلاثة: إحياء علوم الدين، المُنقِذ من الضلال والمُوصِل إلى ذي العزة والجلال – هذا اسمه الكامل، هذه رسالته وكما قلنا ترجمته الفكرية الذاتية – وأخيراً تهافت الفلاسفة، ثلاثة كُتب هي أهم كُتب الغزّالي على الإطلاق، هي التي أورثته هذه السُمعة وهذا الصيت وهذا المقام في العالم وليس فقط عند المُسلِمين، المُنقِذ من الضلال والتهافت وبعد ذلك إحياء علوم الدين الجامعة، هذه جامعة مُتحرِّكة، جامعة وليست كتاباً عادياً، وهو أربعون كتاباً في كتاب كما سأُفصِّل لكم بُعيد قليل – إن شاء الله – إذا جاءت النوبة إلى الحديث عن الإحياء.

قصة مقاصد الفلاسفة باختصار – وسنعود إليه ربما – كالتالي، أبو حامد يُحدِّثنا عن نفسه أنه اشتغل بالفلسفة، لأن الفلسفة كانت ذر قرنها قبل أكثر من قرن في العالم الإسلامي وأصبحت أداة تشغيب على عقائد المُسلِمين وعلى مباديء الدين، وانحرف بها للأسف جُملةٌ من خلق الله وساءت ظنونهم في الشرع والمُشرِّع، فأبو حامد رأى أن هذه بلية لابد لها من طب، يقول عن نفسه – وأيضاً هذا من اعتداده بنفسه الجائز السائغ – بمعنى الكلام ولم أجد مَن يتصدى لهذا المُهِم غيره، لا يُوجَد مَن عنده مثل قدراتي وعنده عقلية كالتي عندي وعنده البيان، لا يُوجَد، فانتدب نفسه – هكذا مُحاماةً عن الدين والمِلة – لدرس الفلسفة أولاً، وصدح في المُنقِذ من الضلال قائلاً أيقنت أنه لا يستطيع أن يتصدى لعلم إلا مَن بلغ أبعد مدى ما يُبلغه أهل هذا العلم ذاته، انتبه إلى هذا، لا تستطيع أنت أن تُناقِش الفلاسفة حتى تكون كأحسن فيلسوف واحد منهم، يُشهَد لك بهذا وبعد ذلك تبدأ تتصدى للفلسفة، لكن يأتينا اليوم – مثلاً نفترض – رجل لا يعرف حتى معنى كلمة فلسفة ثم يقول الفلسفة كفر، الفلسفة إلحاد، لا ننصح بها، اتركوا هذا، كفر ماذا؟ إذا ناقشناك هل تعرف أن تُناقِش الفلسفة؟ لا يعرف شيئاً، يعرف أنه كفر، مَن تمنطق فقد تزندق، المنطق زندقة، هل تعرف المنطق أنت؟ هل تعرف شيئاً من قضايا المنطق حتى؟ لا يعرف شيئاً ويحكم على أنه زندقة، هذا من التهور والعجرفة والتشبع بما لم يُعط، وقد ثبت عن رسول الله المُتشبِّع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور، لا تتشبع بما لم تُعط.

اِذَاْ لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئَنْ فَدَعْهُ                             وَجَاْوِزْهُ اِلَىْ مَاْ تَسْتَطِيْعُ.

إذا أنت لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعه، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، أبو حامد قال لابد لكي أنقد الفلسفة وأنقضها – ليس نقداً فقط بل ونقضاً أيضاً، يُريد أن يهدم بُنيانها – أن أدرسها حتى أصير فيها كواحد من أحسن مُحترِفيها، قال فانتهزت الفرص – فرص الفراغ من الأشغال، الرجل كان مُدرِّساً رحمة الله تعالى عليه، وهذا متى؟ انتبهوا فهذا قبل أن يذهب في سياحته، هذا بعد الثلاثين بقليل ولكم أن تتخيَّلوا هذا، بدأ دراسة الفلسفة أبو حامد الغزّالي وانتهى منها تقريباً في أربعمائة وثماني وثمانين، في تسع وثمانين بدأ يُفكِّر كيف يرد عليها، فلعله وضع تهافت الفلاسفة في رحلته، لكن في ثماني وثمانين كان انتهى من دراسة الفلاسفة، فهو بدأ فيها في ست وثمانين، تحديداً في آخر ست وثمانين، ومرت سنة سبع وثمانين وسنة ثماني وثمانين، أي سنتين، زُهاء سنتين – التي أفرغ فيها من أشغالي، أشغال طبعاً الدرس والتدريس والعلم والتعليم والتأليف، كان يُؤلِّف الرجل، عجيب! يُدرِّس ويُؤلِّف، وعنده بعض النُهز، فكان يفترصها وينتهزها ويقرأ في الفلسفة على غير شيخٍ، وهذا الذكاء الخطير، كيف تقرأ وحدك؟ يقرأ وحده، عنده القدرة على فهم الفلسفة وهي من أصعب ما يكون، تفهم الفقه والله معقول، تفهم الأصول والله معقول، تفهم الحديث مُمكِن جداً جداً جداً، الحديث لا يحتاج إلى ذكاء بالمُناسَبة، فهم الحديث دراية ورواية لا يحتاج إلى ذكاء، يحتاج إلى طول درس فقط وتحفظ والإتيان بكذا وكذا، فهذا لا يحتاج إلى ذكاء أبداً، لكن الفلسفة شيئ صعب جداً جداً وهذا معروف، ألبرت أينشتاين Albert Einstein نفسه حين طاقت نفسه في البداية قبل أن يتخصَّص في الفيزياء إلى أن يدرس الفلسفة قال وجدتها أصعب مما يُمكِن، ألبرت أينشتاين Albert Einstein قال لا أقدر عليها، هذا مُستحيل، وهذا على أساتيذه في الجامعة لكنه قال لن ينفع، فقال قلت أدرس الاقتصاد، قال وجدته أتفه مما يُمكِن، ليس هذا العلم الذي أطمح إليه، فتخصصت في شيئ وسط وهو الفيزياء، انظروا إلى هذا، هذا أينشتاين Einstein، انظروا إلى التواضع، لأن فعلاً عقل أينشتاين Einstein ليس كعقل كانط Kant ولا عقل الغزّالي، هؤلاء أذكى بكثير، أذكى بمراحل، الفيلسوف خلقٌ وحده، فأبو حامد فرغ كما يعترف بنفسه من دراسة الفلسفة في سنتين، أعطى نفسه فرصةً بعد ذلك سنة كاملة ليهضم ما قرأ وما تعلَّم، وبدأ يُفكِّر ويُراجِع وبدأ يُحاوِر نفسه، فهو فيلسوف وضد فيلسوف سنة كاملة، وبعد ذلك مُستعيناً بالله شرع في كتابة كتابه الذي قضى كرا دي فو Carra de Vaux – البارون كرا دي فو Baron Carra de Vaux الفرنسي – في كتابه الغزّالي Gazali بأنه يُمثِّل ذروة الجدال الإسكولائي، قال هذا الكتاب يُمثِّل ذروة الجدال الإسكولائي، أي المدرسي Scholastic، طبعاً نحن لم يكن عندنا هذه المدرسية، هذه في العصور الوسطى المسيحية، يُسمونها الفلسفة المدرسية، وهي مُبتناة أصلاً على الفلسفة المشائية الإسلامية، ابن رشد بالذات، ما هي؟ هي الدفاع عن الدين المسيحي وإعادة إنتاج اللاهوت المسيحي لكن على أُسس عقلية فلسفية، فهذه يُسمونها الفلسفة المدرسية، أي Scholasticism، فكرا دي فو Carra de Vaux – البارون كرا دي فو Baron Carra de Vaux – يقول كتاب تهافت الفلاسفة لأبي حامد الغزّالي يُمثِّل ذورة الجدال الإسكولائي الإسلامي على الإطلاق، ولا يتسنى – قال – لا للفرابي ولا لابن سينا وضع مثله، كرا دي فو Carra de Vaux يقول هذا، كتاب غير طبيعي، مع اعترافنا أن من مُحاجاته ما هو فعلاً برهاني ومنها ما هو جدلي، لابد أن نكون مُنصِفين فانتبهوا، ليس كل ما أورده الغزّالي برهانياً، منه ما هو جدلي لا يرتقي إلى البرهان لكن لابد منه، وهذا يفي على الأقل ربما بمقصوده الذي بعثه أن يعمد إلى وضع هذا الكتاب، مقصوده المُحاماة عن عقائد المِلة وتحصين العوام وحتى طلّاب العلم وحتى طلّاب ربما الحكمة من لوثات الفلسفة وتشغيباتها وتشبيهاتها، لكن سنعود نحن – إن شاء الله – لهذا الموضوع حين نتحدَّث عن أبي حامد الفيلسوف إن شاء الله، ونكتفي في هذه الحلقة بهذا القدر على أن نلقاكم في حلقة أُخرى، السلام عليكم ورحمة الله.

– الأستاذ المُهندِس طرفة بغجاتي: جزاك الله عنا خيراً شيخ عدنان، انتهينا من الحلقة الثالثة – إن شاء الله – في سلسلة الإمام الغزالي إن شاء الله.

(تابعونا في الحلقة القادمة بإذن الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: