على كل حال بقيَ لدينا إخواني ساعة تقريباً، والمفروض أن نتحدَّث أكثر مما تحدَّثنا لكن ذهب الوقت، وغداً بقيت عندنا فقرة تستغرق ثلاث ساعات لكي نتكلَّم عن مباحث القيم كلها: الحق والخير والجمال، فسوف يكون الحديث مضغوطاً جداً وغير مُفصَّل للأسف، فالآن أنا مُضطَر أيضاً في هذه الساعة أن أُجمِل ما بقيَ من الحديث على الأقل لكي نمر على مُعظَم النقاط، هذا باختصار تقريباً ما توصَّل إليه كانط Kant، كنت أود أن أُكمِل كيف أنقذ الرجل الرياضيات وكيف أنقذ العلوم التجريبية لكن الوقت أدركنا، علماً بأن ما ذكرته أهم شيئ أن يُدرَك في فلسفة كانط Kant، تفريقه بين هذه الأشياء كوسائل إدراك وبينها كموضوعات للإدراك، هذا مُهِم جداً وغامض، حين تقرأه وحدك تجده غامضاً في فلسفته، لكن الآن أرجو أن يكون أصبح – إن شاء الله – أكثر اتضاحاً، على كل حال في نهاية المطاف كانط Kant زعم أنه أنقذ العلم – العلم الطبيعي – وأنقذ الرياضات طبعاً وأنقذ الدين، أما علماء الدين فلم يروا ذلك، رأوا أنه ضرب الدين ضربةً قاضيةً، حتى أنهم كانوا في ألمانيا والنواحي القريبة يُطلِقون اسمه على – أكرمكم الله – كلابهم، صار رجال الدين يُسمونه كلابهم إيمانويل كانط Immanuel Kant لأنهم يكرهونه، الشاعر الألماني الكبير هاينه Heine كتب يقول المُقارَنة صعبة بين كانط Kant نحيف الجسم الضعيف والمهزول وبين روبسبير Robespierre الطاغية الذي له علاقة بالثورة الفرنسية، قال في نهاية المطاف روبسبير Robespierre قتل بضعة آلاف من الفرنسيين وملكاً واحداً، لكن كانط Kant – أستغفر الله العظيم – قتل الله، قتل العقيدة ودمَّر أكثر ما نستوثق به، فهو رأى أنه أعظم إجراماً من روبسبير Robespierre نفسه، وهذا يعني أن كانط Kant موقفه لم يُرض علماء الدين ولم يُرض رجال الدين، وفعلاً حري ألا يُرضي علماء الدين، يُرضي الفلاسفة الوجوديين، كما قلنا من أمثال كيركغور Kierkegaard وما إلى ذلك، يقولون الإيمان ليس مسألة عقلية، ويُرضي الصوفيين والحدسيين، الإيمان ليس مسألة عقلية وليس شرطاً لكي تُؤمِن بشيئ أن تفهمه، سنرجع أيضاً إلى الحس المسيحي مع سانت أوغسطين Saint Augustine وغيره، قال أنا أُؤمِن لأنني لا أفهم، هم قالوا أنت تُؤمِن بماذا؟ أنت تُؤمِن بالشيئ الذي لا يُفهَم، أنت الذي تفهمه ليس شرطاً أن تُؤمِن به، فأنت تقتنع به لأنك فهمته، لكن كلمة إيمان عندهم تكون بشيئ غير قابل للفهم فيتعاجز العقل ويتعاياه، هذا يحتاج إلى إيمان، وهذا المعنى ليس باطلاً بالمرة، أنا أرى أنه بنسبة خمسين في المائة صحيح، قال تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ۩، إذن ما معنى الإيمان بالغيب؟ التسليم، هذا هو، أنا سوف أُسلِّم بهذا الشيئ، أنت لم تره ولن تقدر على أن تستدل عليه، هذا صعب جداً، هل يُمكِن أن يستدل أحد على وجود الجنة والنار؟ مُستحيل، هل يُمكِن أن يستدل أحد على الميزان والصراط وما إلى ذلك؟ مُستحيل أن تستدل عليها، هذه مسائل غيبية محض تُؤمِن بها، لابد أن أُؤمِن بها، وإلا لو كانت هذه المسائل قابلة للاستدلال القوي والذي يجعلها في حُكم أشياء ربما قريبة من الحس سوف يُصبِح الإيمان لا معنى له.

ذات مرة طرحت نظرية لا أعرف إلى أي حد كنت مُوفِّقاً فيها، قلت لماذا في آخر الزمان الإيمان لا يغدو نافعاً وبعد ذلك لا تُقبَل التوبة؟ لأن موضوعه يختفي، الإيمان لابد أن يكون بالغيب، أي شبيئ غيبي أُسلِّم به وأقتنع به سواء عن استدلال أو عن قناعة حدسية وشعور فطري داخلي، أنا رأيت أن تقدم العلم في كل يوم – سبحان الله – وكل جيل وكل حقبة يُقرِّب لنا موضوعات الإيمان، ويجعلها أسهل فعلاً، هناك أشياء كثيرة قديماً كان بسببها الناس يُلحِدون ويكفرون والآن أصبحت أشياء عادية تماماً، ولك أن تتخيَّل لو قبل ثلاثمائة سنة قلت لأحدهم أنا سأُسافِر الآن من الكويت إلى القاهرة فأتغدى في القاهرة ثم أعود وأتناول العشاء – إن شاء الله – في الكويت، سوف يقول لك أنت مجنون ولن يُصدِّق، لكن هذا اليوم أصبح شيئاً عادياً، يتم هذا بالطائرات اليوم وأصبحت مسألة عادية، لكن قديماً لا يُمكِن لإنسان أن يُصدِّق هذا، أليس كذلك؟ واليوم أصبح شيئاً طبيعياً، لو قلت لأحدهم قديماً أنا سأُعطيك شيئاً أصغر من هذا الكتاب بعشر مرات وهو لوحة بسيطة جداً ولكن سأُودِع فيه مائتي ألف كتاب سوف يقول لك هذا مُستحيل، واليوم نحن نتعامل مع الأقراص المُدمَجة وهذا شيئ عادي، إذا قلت لأحدهم قديماً سأحمل في جيبي الصغير شيئاً صغيراً يحتوي على ثلاثمائة ألف كتاب سوف يقول لك هذا كذب، لكن هذا أصبح عادياً، فالعلم بدأ يُقرِّب هذه الأشياء لنا، أليس كذلك؟ وكذلك الحال مع مفهوم الوحي، هذا سهل جداً جداً جداً، قديماً كان يُقال كيف؟ أين جبريل؟ وأين الوحي؟ وأين كذا وكذا؟ هذا كلام فارغ، لكن أنت اليوم يرن التليفون المحمول وتتحدَّث مع أهلك في القاهرة أو في أستراليا ولا يسمع أحدٌ لكن أنت تتحدَّث والطرف الآخر يسمعك، أليس كذلك؟ إذن اتضح أن الوحي مسألة سهلة، أليس كذلك؟ يأتي ملك ويقر في أذن رسول الله ما أراد الله أن يُوحيه إليه، يُوحي ما شاء وأنت لا تسمع لكن الرسول يسمع، ما المُشكِلة؟ أليس كذلك؟ اليوم التليفون المحمول قرَّبها وأصبحت مسألة عادية جداً وسهلة وبسيطة، أشياء كثيرة أصبحت كذلك، أمس الأخت الفاضلة سألتني عن أصحاب الكهف، من ضمن العبر الغريبة والعجيبة أيضاً في هذا الموضوع إمكانية تطويل أعمار الناس، ما معنى أن بعض الناس ناموا ثلاثمائة وتسع سنوات؟ معنى هذا سوف يأتي يوم من الأيام يعيش الإنسان ثلاثمائة سنة وربما ألف سنة وهم يشتغلون على هذا، علماً بأن هذا أُنجِز نسبياً، مُتوسِّط أعمار الناس قبل مائة سنة في المملكة المُتحدة كان أقل من ستين، والآن أكثر من أربع وثمانين سنة، وبعد ذلك يتوقعون أنه سوف يُصبِح مائة ثم يتجاوز بعد ذلك مائة، في مصر عشية الثورة الفرنسية كم كان مُتوسِّط أعمار المصريين؟ كان ثلاثين سنة، المُتوسِّط – Average – كان ثلاثين سنة، عند الثلاثين يموتون، هذا هو، هكذا كان الناس يعيشون، في مصر كانت مُتوسِّط أعمار الناس قبل مائتين سنة كذلك، الآن يعيشون في مصر ستين وسبعين سنة، أليس كذلك؟ بفضل النظافة العامة – Hygiene – والغذاء الجيد وكل هذه الأشياء التي نعرفها، فإذن هذا مُمكِن، لماذا؟ لأن هناك نظرية وفي الحقيقة هي ليست لي وإنما للمُفسِّر الجليل والولي الصالح بديع الزمان النورسي في تفسيره سورة الفاتحة في إشارات الإعجاز، ماذا ذكر رحمة الله عليه؟ قال كل معاجز – أي مُعجِزات – الأنبياء لها دلالة في تطوّر الركب البشري، كيف؟ قال معاجز الأنبياء الله – عز وجل – أتاحها وأمكنها – جعلها مُمكِنة – رسالة للبشر تُربِّت على أكتافهم وتقول لهم اعملوا واجتهدوا وامضوا وسوف تُحقِّقون هذه الأشياء، وحين تتأمَّل تجد هذا صحيح وهو ما حصل، مثلاً عن سليمان قال الله وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۩، ما معنى قول الله غُدُوُّهَا شَهْرٌ ۩؟ في غدوة واحدة – نفترض ثلاث أو أربع ساعات – يقطع ما لا يُقطَع بالإبل والخيول في شهر، أليس كذلك؟ وبعد ذلك في الروحة – حين يرجع – يقطع في ثلاث أو أربع ساعات ما لا يُقطَع في شهر، يا حبيبي اليوم الكونكورد Concorde أسرع من هذا بكثير، أليس كذلك؟ اليوم الكونكورد Concorde تقطع ما لا تقطعه الإبل ربما في أربعة أشهر في ساعة، وتذهب وتروح وترجع وتأتي، شيئ عجيب، فهذا تحقَّق، بساط الريح السليماني تحقَّق للبشر بل وخرجوا حتى عن حد الأرض كلها، اليوم أتحدَّث لبعض الإخوة العلماء وقلت لهم القرآن فيه إشارة حتى لاستعمار الفضاء، بمعنى أننا سوف نستعمره ونجلس فيه، والآن يُفكِّرون كيف يخلقون جواً اصطناعياً للمريخ لكي يكون قابلاً للسُكنة، أين هذا في كتاب الله؟ في سورة العنكبوت، قال الله وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ۩، الفخر الرازي – رحمة الله عليه – الوحيد الذي تنبَّه لهذه الآية، قال هذه الآية تقول لو فُرِض أن لهم مُكنة مُعيَّنة فبها سيسكنون في السماء ومع ذلك سيظلون في قبضة الله تبارك وتعالى، هذا يعني أن استعمار السماء مُشار إليه في كتاب الله، أنتم لا تُعجِزونه لو كنتم في الأرض ولو كنتم في السماء، ولم يكونوا في السماء طبعاً، هذه إشارة واضحة، كذلك موسى – عليه السلام – حين يضرب الأرض تنبجس عيوناً، قال الله فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۩، هذا خرج منها، واليوم يحدث ما هو أغرب، آلات ضخمة تُخرِج لنا البترول وليس فقط الماء، وهذا كله بضغطة زر، تُوضَع الآلات فيخرج البترول، أصبحت أموراً سهلة، والماء طبعاً ينطبق عليه هذا، الماء يحدث معه نفس الشيئ ويخرج حين تُفجَّر الأرض، فالإنسان صنع هذا، أليس كذلك؟ عيسى يُبرئ الأكمه والأبرص، والآن انتهوا من هذا، يصنعون أعصاباً صناعية، يُولَد بعض الأطفال فعلاً كمهاً لا يرون شيئاً فيضعون العصب الصناعي للواحد منهم – طبعاً هذه لا تزال البدايات لكنها بدايات مُوفَّقة جداً جداً جداً – ويبدأ يُميِّز ويرى الأجسام ويراها تتحرَّك لكن بأشكال هندسية، وهذا غريب ويعني أنه بعد عشرين أو ثلاثين سنة سوف يرى، فسيُبرئون الأكمه والأبراص، كثير من الأمراض الجلدية قضوا عليها، فالقرآن يقول أهل الكهف ناموا ثلاثمائة وتسع سنوات وهذا يعني أنه سيأتي يوم تطول أعمار البشر ويعيشون ثلاثمائة وأربعمائة وربما ألف وألف وثلاثمائة سنة، كلها دلالات وأشياء – سبحان الله – تُشجِّع البشر على ذلك.

المُهِم حتى لا نُطيل عليكم نترك هذا ونعود الآن إلى مناهج المعرفة وأدواتها، عندنا منهج يُسمونه المنهج أو المذهب العقلي، أي Rationalism، طبعاً المذهب العقلي يُطلَق بإزاء أكثر من معنى، في الدين له معنى، في الحياة اليومية له معنى، وفي الفلسفة له معنى وهذا الذي يهمنا في نظرية المعرفة، المذهب العقلي في الدين ودراسات الدين يعني ماذا؟

ملحوظة: أرسل أحد الحضور ورقة إلى الأستاذ الدكتورعدنان إبراهيم فقال أخت لنا فاضلة أو أخ فاضل كتب لي الآن عن مسألة تقديم العقل على النقل، وهذا طبعاً لا يعني أنني أقول به، لكن على الأقل نأخذ فكرة عن ماذا فعل غيرنا وطبعاً لم يُصيبوا.

نعود مرة أُخرى إلى حديثنا، المذهب العقلي في دراسات الدين يعني أن الوحي لابد أن يخضع لمُقتضيات العقل والتفكير العقلي، فما يُقِره العقل يُسمَح به، ما لا يُقِره لا يُسمَح به، بالذات في باب الخوارق والمعاجز، يُسمى مذهب الخوارقية Supernaturalism، وهو غير مقبول، في الفلسفة العقلية وفي دراسة الدين مذهب الخوارقية غير مقبول، لأنهم قالوا هذا غير معقول، وطبعاً هذا كلام فارغ لا نقتنع به، المعاجز لها تفسير والخوارق لها تفسير، وأنا أقول لك مُعظَم الحياة أصلاً هي خوارق وليست عاديات، الشاعر الرومانسي الفرنسي شاتوبريان Chateaubriand قال عبارة مُمتازة، وشاتوبريان Chateaubriand عنده عمق فلسفي، ماذا قال شاتوبريان Chateaubriand؟ قال إن ما ليس بمُعجِز ليس أقل إعجازاً مما يُعَد مُعجِزاً، قال كل شيئ مُعجِز، هل تراه عادياً؟ قال لا يُوجَد شيئ عادي، وهذا صحيح، هذه عين إنسان مُؤمِن وعين إنسان فيلسوف، أليس كذلك؟ ليس عادياً أن تمشي على رجليك، هذا ليس عادياً بالمرة، حين تقرأ في وظائف الأعضاء كيف يُمكِن لك أن تتمكَّن في السير على رجليك سوف تجد هذا من أصعب ما يكون، شيئ إعجازي إلهي رهيب، لكن لماذا لا نراه إعجازاً؟ بسبب الألفة الغافلة، الآن لو افترضنا أننا حين نُولَد – من ساعة أن نُولَد – لم تكن هناك جاذبية في الأرض – مثلاً – أو كانت جاذبية ضعيفة جداً والناس دائماً كانت تُحلِّق في الهواء ورأينا رجلاً يجلس على الأرض سوف نُجَن من الخوف، سوف نقول هذا يجلس على الأرض، كيف هذا؟ هذه مُعجِزة، هذه خارقة، الله أكبر، أليس كذلك؟ كما لو رأينا أحدهم الآن يجلس في الهواء وما إلى ذلك، سوف نُجَن ونخاف منه ونظن أنه مسخوط ومسحور وأن جناً ما ركبه، كيف جلس في الهواء؟ علماً بأن بعض الأولياء كانوا يفعلون هذا، ابن تيمية – قدَّس الله سره – قال كرامات عبد القادر الجيلاني مُتواتِرة، والعز بن عبد السلام قال مُتواتِرة، فابن تيمية كرَّر هذا وقال مُتواتِرة، لماذا؟ لأن مجلس وعظ الجيلاني – قدَّس الله سره – كان يحضره على الأقل مائة ألف من البشر، كل يوم ثلاثاء يحضر مائة ألف، وهذا يعني أن هذه ليست أساطير، وأين كان يجلس كما ذكر الذهبي وغيره؟ في الهواء، عبد القادر كان يجلس في الهواء، لأن كيف سيراه الناس؟ فكان يصعد أمام الناس في الهواء ويظل جالساً في الهواء ويبدأ يعظ الناس، والناس تبكي وما إلى ذلك، في كل مجلس يهود ونصارى يُسلِمون وتحدث حالة صعبة، فتفضَّل هذا، ومع ذلك يُنكِرون هذه الخوارق ويقولون أنها غير موجودة لكن هذا غير صحيح، هذا الشيئ موجود ولا يُنكِره إلا جاهل أو مُباهِت كابر وهي مُتواتِرة، يجلس في الهواء – قدَّس الله سره – ويُعطي الدرس، قال الإمام الذهبي في النُبلاء من عجائب الجيلاني أن الذين يجلسون في آخر المجلس – تخيَّل مائة ألف من البشر قديماً – يسمعون صوته كالذي يجلس عنده، هذا من غير ميكروفونات Microphones، بلوغ الصوت الآفاق من كرامات الأولياء، يقول الإمام الذهبي – اقرأوا ترجمة الجيلاني في النُبلاء وستروا العجب، هذا جواب الشرط، فاقرأوا تروا – كان أحد الناس في آخر المجلس عنده سجادة وتحتها خيط، ويعقد عقدة من حين لآخر دون أن يراه أحد، حتى الذي يجلس بجانبه لا يتنبَّه له، ماذا يفعل هذا؟ بعد ذلك فهمنا القصة، يأتي يهود لكي يُسلِموا والناس تفرح بهذا وتقول الله أكبر، ويأتي نصارى أيضاً لكي يُسلِموا، رأوا كرامات هذا الرجل الصالح الغريبة، ما هذا؟ فكثير من الناس أسلموا وكانوا بالآلاف على يد الجيلاني، فهذا الرجل الذي كان في المجلس كلما أسلم يهودي – مثلاً – يعقد عُقدة، يُريد أن يعرف كم شخص أسلم، الذي يهمه هو العدد، حين يُسلِم نصراني – مثلاً – يعقد عُقدة، فالإمام الجيلاني وهو جالس في الهواء قال له أنا أحل وأنت تعقد، فالرجل قال في نفسه مُستحيل، هل يعنيني أنا؟ كيف رآني؟ لا يُمكِن لأحد أن يرى هذا، فأنا أفعله في الخفاء، سكت الرجل فقال له الجيلاني أنت أنت، يا مَن يجلس في الآخر أنت الذي تعقد الحبل وأنا أقول لك هذا، كيف طُولِع به وكيف رآه؟ شيئ غريب، لا إله إلا الله، آمن بالله، قال له أنا أحل وأنت تعقد، فالخوارق موجودة بلا شك، نحن نراها عجيبة ونقول كيف يجلس في الهواء لأننا لم نألف هذا، ألفنا أن نقعد على الأرض، أليس كذلك؟ ولو كان العكس لرأينا أنه خارق، فانظروا إلى شاتوبريان Chateaubriand، قال ليس غير المُعجِز بأقل إعجازاً من المُعجِز، كله مُعجِز، كل شيئ في الكون مُعجِز، النبي – عليه السلام – كان يعلم هذا، انظر إلى النبي، سبحان الله الفرق بين العقل المُؤمِن والعقل غير المُؤمِن أن العقل المُؤمِن يقظ وفعلاً لا تستهلكه ولا يصدأ بالإلفة، دائماً يرى الأشياء بنهم الطفل ذي النفس السئالة، فكل شيئ مُدهِش، والفلسفة هي الدهشة، فالمُؤمِن هو فيلسوف في النهاية ويرى كل شيئ غير قابل حتى للتفسير، أينشتاين Einstein عنده عبارة من أروع ما يكون، ماذا قال أينشتاين Einstein؟ قال ليس الغريب والمُدهِش في هذا العالم أننا نفهمه أو نُحاوِل أن نفهمه، لا ليس هذا، قال الغريب وغير المفهوم أنه قابل للفهم، وهذا غريب طبعاً، كونه قابلاً للفهم ليس عملية عادية، وهذا صحيح طبعاً، لعدم وجود عوامل فهذا كله بنور الله تبارك وتعالى، الرّسام الكبير بول سيزان Cézanne Paul مكث خمس سنوات يرسم لوحة غروب الشمس، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، الله يُقسِم بهذه الأشياء، قال الله قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ۩ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ۩ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ۩، وقال الله وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ۩ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ۩، فأديب مثل بول سيزان Cézanne Paul لا يرى هذا مشهداً عادياً، في خمس سنوات حاول أن يتمثَّل هذا فنياً، بعد ذلك قالوا له لقد أهلكتنا في خمس سنوات، فلنذهب بها إلى المعرض، قال حسناً، وجاء الناس والصحفيون وبعد ذلك قال اكشفوا عنها – كانوا يحملونها فقال لهم اكشفوا عنها – فكشفوا عنها، قال لا، ليس بعد، قال خمس سنوات فترة يسيرة على تصوير لحظة غروب واحدة، أرجعوها، انظروا إلى هذه النفسية، هذا الذي يستطيع أن يتأمَّل عظمة الله وجلال الله في خلقه، فهو ليس مثلنا، لا نرى ونفهم ولا نتأثَّر، كله عندنا كف عدس، لكن الناس الكبار ليسوا كذلك ويتحسَّسون هذه الأشياء، النبي – عليه السلام – كان في الذروة من هذا الشيئ، قال يوم القيامة هناك أُناس يُسحَبون على وجوههم، وفي سورة الفرقان قال الله الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ۩، فحكى النبي عن ناس يمشون على وجوههم، يحشرهم الله ويمشون على وجوههم، قالوا يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم؟ فماذا كان الجواب؟ اسمعوا الجواب الآن، جواب المُندهِش الذي لم تُزايله الدهشة، قال إن الذي أمشاهم على رجليهم قادرٌ أن يُمشيهم على وجوههم، لأن المشي على الرجلين ليس عملية سهلة، هذه عملية مُعقَّدة جداً جداً جداً، غير مفهوم أن تمشي على رجلين، لكنهم يرون أن المشي على الرجلين مسألة عادية، فللأسف هذا المذهب العقلي أو العقلاني في الدين وفي تأويل النص الديني يرفض كل الخوارق والمعاجز ويعتبرها غير معقولة، أكبر رجل أثبت ذلك أو حاول أن يُثبِته للناس هو باروخ سبينوزا Baruch Spinoza، وقد قلنا هذا اليوم، وذلك في رسالته رسالة في اللاهوت والسياسة، قال لابد أن نُؤوِّل كل النصوص الدينية والمعاجز والخوارق على أنها مجازات وقصص وحكايا وأشياء لكنها ليست حقيقية، وهذا طبعاً كلام فارغ وغير صحيح.

في الحياة العادية يقولون هذا عقلاني أو إنسان عاقل أو مُتعقِّل وما إلى ذلك، ما معنى العقلانية؟ العقلانية في الاستخدام اليومي العادي تعني أن الإنسان لا يخضع لسُلطة التقليد ولا لسُلطة القِدم ولا لسُلطة الكثرة ولا للسُلطة حتى التنفيذية، وإنما يمضي على ما يُزيِّن له عقله ويقتنع، فيُقال هذا عقلاني، هذا المعنى العام، آخر شيئ وهو ما يمهنا العقلانية في الفلسفة وخاصة في الإبستمولوجيا Epistemology، ما معنى العقلانية؟ معنى العقلانية أصالة وجدارة العقل لاستمداد المعرفة وتحصيلها بإزاء مَن يقول بأصالة التجربة والحس، أي Empiricism، لكن هناك أُناس يقولون هذا غير موجود، جون لوك John Locke قال لا يُوجَد شيئٌ في العقل لم يُوجَد من قبل في الحس وفي الخارج، لايبنتز Leibniz وافق على هذا، أنه لا يُوجَد شيئ في العقل لم يُوجَد من قبل في الحس إلا شيئ واحد وهو العقل نفسه، وهذا جواب مُمتاز، قال إلا العقل نفسه، واليوم نحن سنُثبِت هذه، سنُثبِت هذه المقولة اللايبنتزية، فعلاً إلا العقل نفسه، فهل كانط Kant يُوافِق جون لوك John Locke أو يُخالِفه في رأيكم؟ يُخالِفه، كانط Kant قال الحس والخارج يُقدِّمان لنا أشياء لولا وجود العقل عندنا لن تُساوي شيئاً ولن نفهم منها شيئاً، والعقل – كما قلنا – عنده أحكام قبلية مُسبَقة مُتعالية – Transcendental – على التجربة وأحكامها ومُدخَلاتها، لولا هذه الأفكار الفطرية المركوزة لما فهمنا شيئاً، هل هذا يعني أن كانط Kant في النهاية كان تجريبياً؟ نعم، كان تجريبياً، هل كان كذلك وحده؟ لا، هل كان عقلانياً؟ نعم، كان عقلانياً، هل كان كذلك وحده؟ لا، إذن هو عقلاني تجريبي، كان الاثنين معاً، وهذه معنى عبارته الشهيرة في نقد العقل المحض التجربة لا تُنشيء معرفة أو إدراكاً، فالمعرفة تبدأ بالتجربة لكنها لا تنشأ، أرأيتم؟ فالرجل كان دقيقاً، حاول في سمطٍ واحدٍ – كما يُقال – أن يُوحِّد بين الاتجاهين والطريقيتين، أعني التجريبية الحسية والعقلانية، هذا معنى العقلانية لدى الفلاسفة أصحاب نظرية المعرفة، أصالة العقل وجدارة العقل وأهلية ولياقة العقل على تحصيل المعرفة بغض النظر عن موضوع الحس وما إلى ذلك، وهذا لا يعني أننا نتنكر للحس والتجربة، لا نتنكر وإنما نقول الأصالة لمَن؟ مَن الأصيل كما قلنا؟ الأصالة للوجود أم للماهية؟ قلنا الوجود، فالأصيل هو العقل، الذي عليه التعويل الأكبر والاعتماد الأعظم هو العقل، حين يُلغى العقل يُلغى كل شيئ، حين يُلغى الحس تبقى ألوان من المعارف عند الإنسان، كانط Kant يقول – مثلاً – بديهيات الرياضة موجودة في الإنسان، واحد زائد واحد يُساويان اثنين، قال هذه ليس لها علاقة بالتجربة، علماً بأن هذه هي التي تُفسِّر لنا التجربة، واحد زائد واحد يُساويان اثنين يُفسِّر لك التجربة، نفترض الآن أن عندنا تجربة ليست رياضية وإنما عندنا تجربة على شخصين من الناس ونُحاوِل أن نُجري تجارب طبية على موضوع ارتفاع ضغط الدم مثلاً، هذا الموضوع ليس له علاقة بالرياضة، أليس كذلك؟ هذه التجربة لا يُمكِن أن تُعقَل لدينا إلا ببديهات رياضية أولية غير تجريبية، فإذا وجدنا النتيجة هنا – مثلاً – ضمن حدود وهناك ضمن حدود أُخرى تُعزِّزها أخذنا المُتوسِّط، لماذا أخذناه إذن؟ لأننا نُدرِك بدهياً أن واحداً زائد واحد يُعطيان تدعيماً للنتيجة،ولذلك يقول كانط Kant هذه الأشياء لا يُمكِن أن تفوتها أي تجربة، كل التجارب تخضع لبديهيات الرياضة، وهذا صحيح ومضبوط، ولذلك قال في هذا الكون وفي أي كون آخر مُفترَض هذه البديهيات صحيحة، قال وقد يأتي يومٌ تنفك المعلولات عن عللها، فالنار لا تُحرِق مثلاً، قال هذا مُمكِن فالعقل يقبل هذا طبعاً، وهذا تبرير حتى للمعاجز، أليس كذلك؟ وعلى ذكر المعاجز نعود مرة ثانية ونُذكِّر بموضوع باروخ سبينوزا Baruch Spinoza والعقلانية، ديكارت Descartes قال أنا أُؤمِن بالمعاجز، لماذا؟ رفض ديكارت Descartes أن يُخضِع النص الديني للعقل، قال أنه أخضع كل شيئ للعقل إلا النص الديني، فهو ينزل بمدد من الله وبنعمة – Grace – وبلطف ويُفهَم بمدد من الله، وقلنا أن الرجل قد يكون داهن وما إلى ذلك، فديكارت Descartes ليس عقلانياً في مسألة الدين، وهو عقلاني فيما سوى النص الديني.

طبعاً موضوع انفكاك المعلولات عن عللها حتى في الفلسفة الإسلامية والعقلية مُمكِن، لأنه ليس ضرورة القوانين الرياضية والبديهيات المنطقية، من بديهيات الرياضة – مثلاً – المُساويان لثالث مُتساويان، أليس كذلك؟ إذا كانت إكس X تُساوي ألفاً، وإبسيلون ε Epsilon تُساوي ألفاً، إذن إكس X تُساوي إبسيلوناً ε Epsilon، هذه نتيجة حتمية بنسبة مائة في المائة، لأن هذه بديهيات، يقول كانط Kant هذه قبلية غير مأخوذة من تجربة وهي تصح دائماً، أما موضوع أن النار تُحرِق ليس كذلك، فيُمكِن في مكان مُعيَّن ألا تُحرِق النار، أليس كذلك؟ هذا صحيح ومعروف، الآن الماء – مثلاً – يغلي تحت أي درجة؟ مائة، أليس كذلك؟ لو اختلف الضغط تختلف درجة الغليان وهذا أمر معروف، ولذلك القضايا التجريبية الإمبريقية قضايا مشروطة مظروفة وليست يقينية، فيَمكِن أن تنفك، وكما قلنا هو ضرب مثلاً بالشمس، قال الشمس يُمكِن ألا تُشرِق من مشرقها غداً وتخرج من المغرب، قال هذا مُمكِن وأنا أتقبَّله، لكنه لم يتقبَّل تخلف قضايا الرياضة.

على كل حال نعود الآن إلى موضوع المذهب التجريبي، نترك الآن العقلانية قليلاً ونأتي إلى المذهب التجريبي، المذهب التجريبي – كما قلنا لكم – أول مَن رفع لواءه بشكل واضح وصارخ هو جون لوك John Locke بعد ديكارت Descartes ربما بشيئ بسيط، ديكارت Descartes تُوفيَ في ألف وستمائة وخمسين، جون لوك John Locke كان حياً في تلك الأيام، في عام ألف وسبعمائة وأربعة مات الرجل، أي أن هذا الرجل كان مُعاصِراً بمعنى ما لديكارت Descartes، وجون لوك John Locke يُعتبَر أول رجل تكلَّم بشكل مُفصَّل في نظرية المعرفة، ومكث يكتب في كتابٍ له – وهو ليس كتاباً كبيراً وإنما كتاب مُتوسِّط الحجم – عشرين سنة، أرأيتم هذه الجهود؟ اليوم البشر لماذا يتحدَّثون عن جون لوك John Locke وغيره؟ هؤلاء الناس لا يعبثون، كانط Kant مكث خمس عشرة سنة من أجل كتابه، حياته كلها كانت في التفكير لكن في التأليف مكث خمس عشرة سنة لكي يُؤلِّف كتاباً من أربعمائة صفحة، جون لوك John Locke كتابه حوالي مائتين صفحة – من القطع المُتوسِّط – وظل عشرين سنة يُؤلِّف فيه، ظل عشرين سنة يُؤلِّف ويُعيد ويُناقِش الفلاسفة وما إلى ذلك، وإلى اليوم هو يُعتبَر فعلاً مُدشِّن ومُؤسِّس نظرية المعرفة في الفلسفة الحديثة، داروين Darwin أستغرق في تأليف أصل الأنواع قريب من أربعين سنة وهو يشتغل ويذهب ويأتي ويزيد ويُنقِص ولم يرغب في طباعته إلا حين وصلته رسالة من والاس Wallace – كان في جزر أندونيسيا، وأدرك أن والاس Wallace توصَّل إلى نفس النتائج، استشار هكسلي Huxley فقال له اطبع كتابك واطبع أيضاً مُلخَّصاً لكتابك ورسالة والاس Wallace لكي تكون أميناً علمياً، لكن افعل هذا سريعاً وإلا سوف يضيع عليك السبق العلمي، فهؤلاء الناس يشتغلون بتركيز، ماركس Marx قضى أكثر من ثلاث وعشرين سنة يقرأ من الساعة السابعة صباحاً إلى السابعة مساءً في المكتبة الوطنية وبعد ذلك ألَّف مُجلَّدين فقط من رأس المال وقلب الدنيا كلها رأساً على عقب Upside Down، فنحن نحتاج إلى هذا، نحتاج مُفكِّرين يشتغلون ثلاثين وأربعين سنة ثم يُقدِّمون شيئاً للبشرية لكي نُثبِت أننا على قدر هذا الإسهام العالمي.

فجون لوك John Locke إذن هو أول مَن تكلَّم بشكل مُفصَّل في نظرية المعرفة، عنده كتاب اسمه An Essay Concerning Human Understanding، أي مقالة بخصوص الفهم الإنساني، ظل عشرين سنة يُؤلِّف في هذه المقالة، ماذا قال هذا الرجل؟ قال إن الذهن الإنساني عنده أصالة، وهذا يُسميه الفاهمة البشرية، قال عنده هذا ولم يُنكِر، وهنا يلتقي جون لوك John Locke مع الفلاسفة العقليين، وهذا يعني أنه لم يعترف بأن العقل الإنساني سلبي بالكامل، مع أنه ابتدأ بالقول إن هذا العقل الإنساني Tabula rasa باللاتيني، Tabula rasa تعني لوحة بيضاء، هذا معنى Tabula rasa، قال يُولَد الإنسان وليس عنده أي شيئ، وهذا لا يعني أن كل معرفة من الخارج، قال لا، لكنه يُولَد فارغ، ما الذي يحدث؟ عن طريق وسائل الحس ترد إليه معلومات، عن طريق الحس الظاهر أولاً وبعد ذلك عندنا الحس الباطن ترد إليه معلومات، هذه المعلومات تستحيل إلى تصورات بسيطة، إذن – لكي نُركِّز – جون لوك John Locke يتحدَّث عن نوعين من التصورات: التصورات البسيطة والتصورات المُركَّبة، التصورات البسيطة تأتي عن طريق حسين: الحس الظاهر والحس الباطن، الحس الباطن هي قوى النفس الانفعالية الداخلية كمعرفة النفس بقواها وانفعالاتها كالحافظة والإدراك، قال هذه كلها أيضاً إحساسات بسيطة، لكن عن طريق الحس الباطن، الإحساسات البسيطة عن طريق الحس الظاهر – السمع والبصر واللمس والشم وإلى آخره – يُدرِك البسائط كالامتداد والحركة، وهذه يُسميها كيفيات أولية، لماذا؟ الكيفيات الأولية – لكي نُميِّز – في لغة جون لوك John Locke تقريباً لا تتوقَّف علينا، هي موجودة، فعلاً امتداد، كم يمتد هذا في الفراغ؟ هذا شيئ يخصه، وكذلك الحركة مثل حركة الهواء أو حركة حيوان أو حركة كذا وكذا، هذه كيفيات بسيطة لكن مُنبَتة عنها، هناك كيفيات ثانوية، لماذا أسماها ثانوية وهي بسيطة؟ السابقة كانت أولى أو أولية لكن هذه بسيطة ثانوية، لماذا؟ الكيفيات البسيطة الثانوية عند جون لوك John Locke تتوقَّف علينا، وقد شرحنا موضوع الضوء والصوت، قال هذه هي، فعند جون لوك John Locke إدراك اللون وإدراك الطعم وإدراك الرائحة وإدراك الملمس وإدراك كل هذه الأشياء التي تتوقَّف على تدخل الإنسان فيها قال هي بسائط لكنها كيفيات ثانوية، هل وضح لكم ما هو الفرق بينهما؟ أعتقد أنه وضح جداً، الكيفيات الأولية ليس لها علاقة بها، مثل امتداد أو حركة موجودة في الخارج نُدرِكها عن طريق الحس وهي من البسائط، ويُوجَد عندنا نوع آخر أيضاً من البسائط لكن تُسمى كيفيات ثانوية، فعلاً يُوجَد شيئ مُرتَّب، عشرون سنة من الشغل ولذا يُوجَد شيئ مُرتَّب وذكي فعلاً، قال موضوع الصوت وموضوع الطعم وموضوع الرائحة وموضوع الملمس وموضوع الوزن – هذا ثقيل أو غير ثقيل وإلى آخره – كلها كيفيات ثانوية تعتمد على المُدرِك، هل لها أصول في الخارج؟ طبعاً لها أصول كما قلنا في الواقعية النقدية، ألم نشرحها؟ هو يعترف بهذا أيضاً، وهذه بداية مُمتازة وجميلة، جاء وقال بعد ذلك يُوجَد عندنا شيئ اسمه الحقائق أو التصورات المُركَّبة، ليست البسيطة حيث يُوجَد شيئ أعلى من ذلك، مثل ماذا؟ مثل النسبية – مثلاً – أو النسبة – نسبة شيئ إلى شيئ – ومثل العلية – علة شيئ إلى شيئ – ومثل الغائية بمعنى أن الشيئ يُريد أن يذهب إلى ماذا؟ يهدف إلى ماذا؟ وهي من الغاية، وأما العلية فهي غاية من وراء، والتر ستيس Walter Stace عنده تعبير جميل، ماذا يقول؟ قال في نهاية المطاف تُوجَد علاقة بين الغائية وبين العلية، فالغائية هي علة من أمام والعلية هي علة من خلف، الذي يدعم من الخلف ماذا نُسميه؟ علة، وإذا كان يجذبك من الأمام ماذا نُسميه؟ غاية، وهذا صحيح، هذا تشبيه والتر ستيس Walter Stace، وهذا مُهِم لكي نفهم حين ندخل في أي مبحث فلسفي يتحدَّث عن العلية والتفسير العلي والتفسير الغائي، هناك تفسيرات غائية تتحدَّث عن العلة وهناك تفسيرات غائية تتحدَّث عن الأهداف Aims، هذا هو، وكله يُسمى تفسيراً غائياً لكن أحياناً يُخلِطون، على كل حال قال هذه كلها تصورات مُركَّبة، قال يُوجَد شيئ عندنا الآن لا يزال أعقد من هذا، الذهن يقوم بالمُقارَنة بين أشياء مثل المُتطايفات، الآن – مثلاً – الأبوة من غير بنوة لا تُفهَم، أليس كذلك؟ هل يُمكِن أن يكون أحدهم أباً بدون أولاد؟ مُستحيل، وهذا يعني أن الأبوة لا تُفهَم إلا بإطار البنوة، والبنوة لا تُفهَم إلا بإطار الأبوة، هذه يُسمونها المفاهيم المُتضايفة، الكبير هو كبير بإزاء ماذا؟ بإزاء ما هو أصغر، والصغير يكون صغيراً بالمُقارَنة مع ما هو أكبر، أليس كذلك؟ عندنا عبارة في المنطق الإسلامي وحتى في الفكر الإسلامي عموماً تقول الجهات إضافية، الجهات النسبية، فالآن أخي الفاضل – مثلاً – يجلس عن يميني، أليس كذلك؟ ويجلس عن يسار أخيه، فصار اليمين يساراً باعتبار، باعتباري أنا – مثلاً نفترض – عن يميني، باعتبار أخيه عن يساره، أليس كذلك؟ نحن الآن نجلس هنا فوق الناس الذين تحتنا في الطابق صفر لكننا نجلس تحت الناس الذين فوقنا في الطابق اثنين، فصرنا تحت فوق، هذه إضافة، أليس كذلك؟ هذه إضافة وهي مُهِمة حتى في العقائد، أبو حامد عنده في قواعد العقائد كلام وتبسيط جميل جداً جداً عن نسبية الجهات وهو مُمتاز من أجل موضوع التجسيم وتشبيه الله وأين الله وإلى آخر هذا الكلام، عنده كلام مُمتاز مُمتاز مُمتاز، ورحمة الله على مَن قال أبو حامد عقله أكبر من علمه، وعندنا علماء علمهم أكبر من عقلهم، يتكلَّمون في أشياء عقدية ويُخلِطون كل شيئ في الدنيا، لكن أبو حامد – سبحان الله – عنده عقل لا يكاد يقبل الأخطاء في هذه المسائل، رضوان الله عليه فهو مُفكِّر كبير حقيقةً.

إذن الجهات كلها إضافية، جون لوك John Locke قال أنا أتكلَّم عن هذه بطريق المُقارَنة كالإضافات، ماذا عن العلة والمعلول؟ مفاهيم مُتضايفة، أليس كذلك؟ لا يكون الشيئ علة إلا إذا كان له معلول ولا يكون الشيئ معلولاً إلا إذا كان لعلة، أليس كذلك؟ فهذه المفاهيم أيضاً مُتضايفة، المُهِم في جون لوك John Locke – حتى لا نُسابِق الوقت – أن الرجل قال هذه المفاهيم المُقارَنة والمُتضايفة لا يظفر بها الذهن عن طريق الحس وحده، الحس لا يستطيع، وهذا صحيح ومضبوط، لأن بصراحة الذي في الخارج هو رجل اسمه فلان ويُوجَد ولد اسمه فلان، مفهوم الأبوة والبنوة ليس في الخارج، هذا في العقل، أليس كذلك؟ هذا مفهوم في العقل، قال جون لوك John Locke كيف اكتسبه الإنسان؟ قال اكتسبه بالمُقارَنة، قارن حيثية هذا مع حيثية هذا وأخرج هذا الشيئ، هل هذا بالحس فقط؟ المُقارَنة مَن الذي قام بها؟ قال الذهن، وهنا بهذا الاعتراف تواضع جون لوك John Locke ولذلك لا يرضى عنه التجريبيون، هم يسخطون عليه، قالوا هذا غير جيد، هذا نصف فيلسوف عقلاني لا نُريده، نُريد شخصاً تجريبياً محض مثل هيوم Hume الذي جاء بعده ودمَّر الدنيا، فماذا قال؟ قال أنا أعترف أن الحس الظاهر والباطن غير كافيين لتوليد هذه المفاهيم، وإنما لابد من تدخل الفاهمة البشرية Human understanding، وأنا تُعجِبني كلمة Understand جداً، هل تعرفون لماذا؟ لأن ما معناها؟ يقف تحت، أي شيئ لكي تفهمه لابد أن تنبش خلفه، ولذا يُقال Understand، حين تقول الأمور واضحة لم تفهم شيئاً بصراحة، حين تقول الأمور بسيطة يا أخي لن تفهم شيئاً، فكلمة Understand جميلة وتعني تقف تحت لكي تفهم، قد تقول لي هل لها علاقة مُقابِل في العربية؟ طبعاً وهو اللُب، الله سمى العقل باللُب، إذا كنت تدور مع القشرة سوف تظل مع القشرة ولن تفهم شيئاً، لابد أن تنفذ إلى الداخل، لأن العقل هو الذي في الداخل، وهو اسمه اللُب، إذا نفذت في الداخل سوف تفهم أما إذا لم تنفذ لن تفهم، وهذه المسألة فيها شيئ من الصعوبة، الفاهمة البشرية تعضد عمل الحس وبتضافر القوتين يستطيع الإنسان أن ينال وأن يظفر بمثل هذه المفاهيم، وبذلكم كان جون لوك John Locke أقرب الثلاثة – وهم لوك Lock وبيركلي Berkeley وهيوم Hume – إلى الفلاسفة العقليين، وهذا سبب سخطة هؤلاء التجريبيين عليه، هل هذا واضح؟

جون لوك John Locke بهذه الطريقة رد على ديكارت Descartes، ديكارت Descartes عنده نظرية اسمها نظرية الأفكار الفطرية، ولن نقول ما هي فيُمكِن أن تقرأوا عنها فيما بعد لأن الوقت فعلاً تضيَّق علينا، هذه النظرية ترد على الأفكار الفطرية لدى رينيه ديكارت René Descartes، نأتي الآن إلى ديفيد هيوم David Hume، ديفيد هيوم David Hume صاحب An Enquiry Concerning Human Understanding، أي بحث في الفاهمة أو في الفهم الإنساني، ديفيد هيوم David Hume قال نعم الذهن يبدأ صفحة بيضاء وأنا أتقف مع جون لوك John Locke لكن لا يُوجَد شيئ اسمه العقل، قال لا يُوجَد شيئ اسمه العقل أبداً، قال إذا كنا نقبل به كمُصطلَح فهو في نهاية المطاف تعبير عن قوى الإحساس وما تُؤديه إليه، أي الحس، فهو يعتمد اعتماداً مُطلَقاً وصرفاً على الخارج فقط، لا يُوجَد ما هو أكثر من هذا، لا تقل لي هناك عقل وعنده لياقات خاصة ويُؤلِّف المفاهيم مثل مفاهيم النسبة والعلية وما إلى ذلك، قال هذا كله كلام فارغ، ماذا عن العلة والعلية؟ فسَّرهما، فهو عنده تفسير، طبعاً مَن كان أكثر اتساقاً مع منطق التجريبية والحسية؟ هل الأكثر اتساقاً مع منطق التجريبية والحسية هو جون لوك John Locke أم ديفيد هيوم David Hume؟ هيوم Hume، هيوم Hume كان أكثر صدقية وقال إذا أردنا أن نكون حسيين وأن نكون تجريبيين فالتجربة لا يُمكِن أن تُعطيك مفهوماً كُلياً عاماً – التعميم – فهذا غير موجود – لوك Locke اعترف بالتعميمات – ولا تُعطيك مفهوماً ضرورياً، وهذا مُهِم جداً فالتفتوا إليه، من الفروق الرئيسة بين الفلسفة العقلية والفلسفة التجريبية أن الفلسفة العقلية تقول الفكر الإنساني قادر على الظفر بمباديء كُلية شاملة عامة، إذا سمعتم كلمة شاملة فهي الكُلية، إذا سمعتم كلمة كُلية فهي العامة، والأسهل من الكلمتين – مثلاً – كلمة عامة، عندها تعميم، والشيئ الثاني ضرورية، ما معنى ضرورية؟ لا تتخلَّف، دائماً موجودة ودائماً تعمل، هذا اعتقاد العقليين أو العقلانيين، التجريبيون قالوا لا، هذا ليس شرطاً، كل أفكارنا لا تتسم لا بالتعميم – العموم – ولا بالضرورة، هيوم Hume قال هذا، لماذا يا هيوم Hume؟ قال لأن فعلاً التجربة والحس لا يُعطون أي شيئ يتعلَّق بالتعميم وبالضرورة.

طبعاً نحن قلنا قبل قليل أن جون لوك John Locke بالمُقارَنة قال أن الإنسان يظفر بمفهوم العلية، وشرحه قليلاً وتوسَّع، ماذا قال؟ قال الإنسان حين يرى اقتران ظاهرتين أو تتابع ظاهرتين – تحصل الظاهرة ألف وتتبعها الظاهرة باء – بالاستمرار وبالإلف ينتزع الإنسان مفهوم العلية عن طريق المُقارَنة، هيوم Hume قال هذه بداية مُوفَّقة وحقيقة، لكننا نقول له يا هيوم Hume نحن فعلاً كلما قرَّبنا النار من الورق أو القطن يُحرَق، قال هذا تتابع، هذه ظواهر مُتتابِعة، لكن هذا ليس علة لهذا ولا هذا معلول لهذا، وقد قلت لكم قبل فترة هذا مثل الأشاعرة، الأشاعرة يعتقدون بهذا، أليس كذلك؟ هو عنده نفس الشيئ، هناك مَن قالوا أنه تأثَّر بأبي حامد الغزالي وحاولوا أن ينسبوا له السرقة، على كل حال هو مُتأثِّر جون لوك John Locke، جون لوك John Locke ذكر هذا، هل أبو حامد مصدر لجون لوك John Locke؟ هذا أيضاً غير بعيد، لأن جون لوك John Locke قرأ ديكارت Descartes، وديكارت Descartes أبي حامد، لابد أن نكون واضحين، فكون الأشاعرة قد يكونون مصدراً للفكرة غير بعيد، تأثَّر بها ديكارت Descartes وجون لوك John Locke، وجون لوك John Locke أثَّر في هيوم Hume، لأن هيوم Hume عالة على جون لوك John Locke في أشياء كثيرة، والرجل يعترف بهذا ويقوله، يقول جون لوك John Locke قال كذا وكذا وأنا أُوافِقه، قال هذه الضرورة ليست ضرورة منطقية – هو لا يعترف بالمنطقية – ولا ضرورة خارجية وإنما ضرورة نفسية، هذه ضرورة نفسية، الإنسان يتوهم ذلك لأن هذا وراء هذا وهذا وراء هذا، لكي أُقرِّب لكم المسألة أُريد أن أنقده الآن وأهدم كلامه بطريقة – إن شاء الله – سوف تعجبكم، وعندي هنا أشياء خاصة، كيف؟ لكي نُقرِّب المسألة سنفترض أن شخصاً بدائياً جاء من جزيرة نائية ولم ير في حياته السيارات – Cars – التي عندنا ولو لمرة، ثم رأى باستمرار السيارات أمامه، ورأى أن الغمّاز حين يكون جهة اليمين تلف إلى اتجاه اليمين، وحين يكون جهة الشمال تلف إلى اتجاه الشمال، هذا الرجل ليس عنده فكرة عن آلية عمل السيارة وما إلى ذلك فربما يعتقد أن هذا الضوء هو الذي يُزيح السيارة إلى اليمين وذاك يُزيحها إلى اليسار، لعله يظن أن هذا هو السبب، لكن نحن نعرف أن الأمر ليس كذلك، لا تُوجَد أي علاقة علية، ولعل السائق يكون مُهِملاً ولا يُعطي غمّازة ويدخل فيتسبَّب في حادثة وتقع مشاكل، لكن هذا الرجل رأى السائق المُنضبِط فظن أن هناك علاقة علية، حدث اقتران بين الظاهرتين – الغمّاز حين يكون جهة اليمين تلف إلى اتجاه اليمين، وحين يكون جهة الشمال تلف إلى اتجاه الشمال – فظن أن هناك علاقة علية، ديفيد هيوم David Hume كل ما يحدث في الكون يحدث على هذا النحو، فقط أشياء تتبع بعضها البعض ومن ثم نحن ظننا أن هناك علية، لماذا أنكر إذن؟ سوف نقول له لماذا أنكرت؟ قال أنكرت لأنكم أنتم تقولون هذا مبدأ وضروري لكن أنا لم أر بالحس وبالتجربة أي شيئ يدل على الضرورة، الضرورة مفهوم غير موجود في الخارج، وأنا إنسان تجريبي فلا تُورِّطوني في مسائل عقلية، أنا لا أعترف بهذا، لا أعترف بالحس، إذن لا تُوجَد ضرورة وهذه مسألة نفسية، تداعي المعاني Association، فسَّر وقال المعاني تتداعى – يدعو بعضها إلى بعض ويتبع بعضها بعضاً – ضمن قوانين للتداعي، احفظوا هذه القوانين وهي ثلاثة قوانين عند ديفيد هيوم Hume، أولاً التشابه، ثانياً التجاور في الزمان أو المكان، ثالثاً العلية، وقد فسَّر العلية، بعض الناس قالوا هذا – والله – كلام جميل، وأبو حامد قال لعل الرجل عنده الحق، لماذا لا يكون الأمر كذلك؟ لكننا سننتقده وسنأتي بحُجتين قويتين إن شاء الله، الحُجة الأولى كالتالي، هل آنستم أن هناك ثمة فرقاً بين العلية كمفهوم تصوري وبينها كمفهون تصديقي؟ طبعاً، مثل سائر المفاهيم، بمعنى أن العلية كمفهوم تصوري كلكم تعرفونها، العلية أن يكون الشيئ على هيئة أو حالة بحيث يُؤثِّر في شيئٍ أو حالة أُخرى، هذه يُسمونها العلة، وهذا مبدأ العلية، كما قلنا الظاهرة والأثر، أي Cause and effect، العلية كمفهوم تصديقي ماذا عنها؟ هذا ما كفر به هيوم Hume، قال أنا لا أُؤمِن بهذا المفهوم، أن فعلاً الأشياء مخلوقة بطريقة مُعيَّنة بحيث يفعل بعضها في بعض ويتسلَّط بعضها على بعض، قال هذا الكلام غير موجود ولا أُؤمِن به ولا تُوجَد ضرورة لهذا الشيئ، نحن قد نتنزل اعتباطاً كما يُسمونه في النقاش ونقول لهيوم Hume نحن معك أيضاً ونحن كفرنا بالعلة مفهوماً تصديقياً لأننا لا نرى ضورة في الخارج ولا نقدر على قياسها ولا يُوجَد شيئ في الخارج اسمه ضرورة وإنما الذي يُوجَد مُجرَّد تعاقبات فقط، صحيح كلامك يا هيوم Hume، لكن يا هيوم Hume قل لنا بالله عليك، قل لنا بربك من أين ظفر ذهنك وأذهاننا بالعلية كمفهوم تصوري As a concept؟ هذا سؤال فلسفي خطير، هل فهمتم ما أُريد قوله؟ لأن ما في الخارج هذا الشيئ وذاك الشيئ، لكن المفهوم نفسه – مفهوم العلية كتصور – من أين أتى؟ مَن الذي ولَّده؟ والحس لا يستطيع أن يُولِّد هذا، أليس كذلك؟ الآن ليس أمام هيوم Hume إلا أن يعترف بأن في الإنسان شيئاً ما وهو العقل – هو لا يُحِب أن يتحدَّث عن العقل – أو لياقة ما أو قدرة ما قادرة على توليد مفاهيم تُسمى المفاهيم الفلسفية – معقولات ثانية فلسفية – ولا تستند في توليدها على التجربة، أليس كذلك؟ ليس أمامه إلا هذا، وإلا – إذا قال لأ – سوف نقول له إذن ما الذي أنكرته؟ أليس كذلك؟ أنت أنكرت العلية، ما الذي أنكرته؟ أنت أنكرت المفهوم التصوري، أليس كذلك؟ إذن أنت تُقِر به تصوراً، كيف ظفرت به؟ سوف يخربط، لم يُوجِّه له أحد هذا النقد في حياته، الآن سأوجِّه نقداً آخر، وهذا النقد ليس لي، النقد الذي ذكرته للفلاسفة طبعاً لكي نكون صادقين، لكن يُوجَد نقد من عندي الآن، وسآتي بمثال بسيط على هذه المسائل سوف ترونه، ما هو؟ هو يقول هذا مُجرَّد تتابع، ظاهرة تتبع ظاهرة، وهنا سأقول له هذا مُمتاز لكن أنت لم تعش في عصر الضوء والفلاشات Flashes والسينما Cinema، هذه الكاميرا Camera الآن نُريد أن نُحوِّلها إلى عارض ونُريد أن نبث منها فيلماً ثابتاً، لا نُريد أن يُخربَط هذا المسكين، وإلا سيُجَن هيوم Hume بالمُتحرِّك لأنه قديم، سوف نحضر فيلماً ثابتاً وصوراً من الكويت هنا، وانتبهوا إلى أن الصورة ثابتة تماماً ومُعتدِلة على الحائط في شكل مُستطيل، الرجل حرَّك الكاميرا Camera، هل تحرَّكت الصورة بعد الكاميرا Camera أو في نفس لحظة حركة الكاميرا Camera؟ في نفس اللحظة، أليس كذلك؟ حين حرَّكت الكاميرا Camera تحرَّكت الصورة سواء للأسفل أو للأعلى مثلاً، هل التتابع حاصل هنا؟ غير حاصل، حصل تزامن فقط، والعقل يُذعِن أن سبب حركة الصورة على الحائط واختلالها هو حركة الكاميرا Camera، أليس كذلك؟ وهذا إيمان بالعلية وبالسببية بشكل واضح وصارخ دون أن نتورَّط في شُبهة التعاقب، لا يُوجَد تعاقب هنا، تفضَّل هذا إذن، أليس كذلك؟ كيف يُجيب عن هذا؟ هذه أسهل طريقة في النقد على هيوم Hume، ولا يُوجَد جواب عنها، لأن الخطأ الذي وقع فيه أبو حامد والأشاعرة ووقع فيه هؤلاء جُزء منه هو هذا، فقط هم اشتبه عليهم موضوع التعاقب، لو أدركوا أن العلية ليست وقفاً على التعاقب بل هي أعم من ذلك بحيث تشمل وتتضمن حدوث التأثير ولو مُتزامِناً لاختلف الأمر، قال تعالى وَمَا أَمْر السَّاعَة إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَر أَوْ هُوَ أَقْرَب ۩، أنا أقول لكم علية أفعال الله – لا إله إلا هو – في الخلق وفي الكون آنية، هي آنية وسأضرب لكم مثالاً، علماً بأن العلم يُثبِت هذا، وكلما تقدَّم يُثبِته أكثر، وفي النهاية الإنسان سيُذعِن ويبخع بالكامل بأن فعلاً لا تُوجَد فاصلة زمانية بين أوامر الله الكونية وبين مُكوَناتها، لا يُوجَد فاصل زماني هنا، وهذه علية وهي علية مُقدَّسة، هذه أعظم أنواع العلية، أليس كذلك؟ هل تعرفون لماذا؟ من المُؤكَّد أنكم جميعاً سمعتم بالبروفيسور Professor المصري العلّامة أحمد زويل الذي حاز على نوبل Nobel في عام ألف وتسعمائة وتسعة وتسعين، هذا الرجل عنده نظرية الفيمتو ثانية Femtosecond، نحن نعرف النانو ثانية Nanosecond، النانو ثانية Nanosecond كم؟ عشرة أُس ناقص تسعة ثانية Second، أي جُزء من مليار جُزء من الثانية اسمه النانو ثانية Nanosecond، زويل قال لا، قال الله وَمَا أَمْر السَّاعَة إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَر ۩، مَن يقول لي لمح البصر كم من الثانية وقد ذكرت هذا اليوم؟ واحد على ستة عشر، واحد على ستة عشر من الثانية، وهنا قد يقول لي أحدكم هذا القرآن للعرب وللقدماء في القرون الوسطى لكن الآن سوف نرى ما معنى واحد على ستة عشر، وهنا سنقول له أكمل الآية يا عبد الله، قال الله أَوْ هُوَ أَقْرَب ۩، ربك قال هذا، هذا القرآن عجيب، السرعة اللمحية كانت أعلى سرعة عند البشر في تلك الأيام ولم يتخيَّلوا ما هو أعظم منها، لم يكن عندهم ما هو أسرع من لمح البصر، لكن الله قال لا، يُوجَد ما هو أسرع منها، هذه الآية مفتوحة Open، قال الله أَوْ هُوَ أَقْرَب ۩، في قوله أَوْ هُوَ أَقْرَب ۩ تدخل أي سرعة مهما تضاءلت في الزمن طبعاً وتعاظمت في السرعة، تدخل أي سرعة، فنحن عندنا النانو ثانية Nanosecond، لكن أحمد زويل قال لا، هذه سرعة سلحفائية، أي النانو ثانية Nanosecond، هذه لا شيئ، النانو ثانية Nanosecond تعني أن الشيئ يتم في جُزء من مليار جُزء من الثانية، إذا جزأنا الثانية التي تنقضي في كلمة الله وتذهب حين نلفظها – حين نقول الله تذهب الثانية، أو حين نمد الإصبع بمقدار حركتين كما تعرفون في علم التجويد، هذا مقدار ثانية في المد، الحركتان تُساويان ثانية زمانية – إلى مليار جُزء سوف يُسمى جُزءً منها بالنانو ثانية Nanosecond، لكن زويل قال هذه سلحفاة تسير ببطء ونحن لا نُريدها، سوف نشتغل على الفيمتو ثانية Femtosecond، ما هي الفيمتو ثانية Femtosecond يا زويل؟ ما هذه القصة؟ قال الفيمتو ثانية Femtosecond عشرة أس ناقص خمسة عشر، أي جُزء من ألف تريليون جُزء من الثانية أو جُزء من مليون مليار جُزء، لأن المليون ستة والمليار تسعة إذن خمسة عشر، إذا قسَّمنا الثانية مليون مليار جُزء سوف نُجَن، وهذا شيئ لا يُصدَّق يا إخواني والله العظيم، لكن هذا الرجل أخذ نوبل Nobel وقد صوَّره، فزويل علّامة كبير حقيقةً، مُخه رهيب وقد أخذ تسع وتسعين جائزة ولكم أن تتخيَّلوا هذا، وبنوبل Nobel أتمهم مائة، عنده مائة جائزة عالمية هذا الرجل، عقل كبير وهو أينشتاين Einstein العرب حقيقةً، وهو ميت بيننا ولا يعرفه أحد لأنه عربي مُسلِم، لو كان يهودياً لتحدَّثت الدنيا كلها عنده ولهتفت باسمه، فالرجل عنده عقل ضخم جداً جداً، إذن هو تحدَّث عن الفيمتو ثانية Femtosecond، لماذا يا زويل؟ ماذا سوف تعمل الفيمتو ثانية Femtosecond؟ قال سوف تعمل ثورة في كل العلوم وخاصة الحيوية، وصوَّر الرجل ما يحدث وصنع الميكرسكوب رباعي الأبعاد، وهذا شيئ عجيب، صنع الآن رباعي الأبعاد وسوف يبدأ في تسويقه، هذا الرجل يُصوِّر ما يحصل في الخلايا عندنا من تفاعلات كيمياوية تحدث على مقاس فيمتو ثانية Femtosecond، الله أكبر، فهل الله – تبارك وتعالى – يُدبِّر الخلق ويُدبِّر أجسامنا والمُتعضيات وكل هذه الأشياء في أزمان من مقاس فيمتو ثانية Femtosecond؟ هذا المُكتشَف إلى الآن فقط، وأنا مُتأكِّد – والله – من أن ستأتي أيام سيسخرون فيها من فيمتو Femto زويل وسيقولون الفيمتو Femto سُلحفاة بطيئة، هذه سرعة إملائية، ولعلهم في يوم من الأيام يقولون جُزء على جوجل بليكس Googleplex من الثانية، وحين إذن سوف نصل إلى السرعة الآنية للأمر الآني، لأن كمال الربوبية لله – تبارك وتعالى – يكون هكذا، حين يصدر أمره ويُريد له أن يكون آنية ممنوع أن تكون هناك فاصلة زمانية، في كم تُقاس الفاصلة الزمانية؟ شيئ لا يعلمه إلا الله، قد تقول لي عشرة أُس ناقص جوجل بليكس Googleplex – الله أعلم – أو جوجل بليكس Googleplex مرفوع إلى كذا وكذا، هذا هو، هذا رب العالمين لا إله إلا الله هو، لكن شيئ مُذهِل ومُحيِّر أن تسير الأشياء في خلايانا – عمليات حيوية تتوقَّف عليها – في جُزء من مليون مليار جُزء من الثانية، لا إله إلا الله، شيئ عجيب جداً جداً.

أُريد أن أقول العلية ليس شرطاً أن نُورِّط أنفسنا في شُبهة التعاقب، بعض الأشياء قد تكون مُتعاقِباً – هذا صحيح ومضبوط – لكن هناك أشياء آنية، سنُبسِّط الآن ونبتعد عن مثال كاميرا Camera وما إلى ذلك فلعل أحدكم تضايق من هذا المثال رغم أنه سهل، لكن الآن سأقول مسألة أبسط من ذلك، هل ترون هذا الخاتم الذي ألبسه؟ هذا الخاتم وأنا ألبسه موجود على الطاولة ثم أصبح في الهواء، ما سبب حركته؟ كيف انتقل هذا الخاتم إلى الهواء هنا؟ بسبب حركة يدي، بالله عليكم هل انتقلت يدي قبل الخاتم بواحد على كذا فيمتو ثانية Femtosecond أم انتقلت في نفس اللحظة بالخاتم؟ انتقلت في نفس اللحظة، إذن ما سبب انتقال الخاتم إلى الهواء؟ حركة اليد، ما الفاصلة الزمانية بين حركة اليد وحركة الخاتم؟ لا تُوجَد فاصلة في هذه الحركة النسبية، قال الله وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۩، آية واضحة في حركة الأرض، لم نر يوماً جامداً وهو يتمخطَّر، كأن يخرج من السالمية ويأتي إلى هنا ثم يرجع، لم يحدث هذا، أليس كذلك؟ الجبال في مكانها، الإمام السيوطي – رحمة الله عليه – في تاريخ الخلفاء – انظروا إلى هذه الخُرافات، هذا عقل قروسطي – قال تواتر وتحدَّث أُناس وفلان ذكر مثل ابن الأثير أن الجبال تحرَّكت في البلدة الفلانية، هذا كلام فارغ لم يحصل، نعم الجبال تتحرَّك لكن كيف؟ بالملي في السنة، نعم هي تتحرَّك لكن بالملي، الله يقول وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۩، وفعلاً ما السرعة التي هي مثل سرعة السحاب؟ سرعة الأرض حول محورها وأيضاً في مدارها حول الشمس، قال بعضهم هذا يوم القيامة، وهذا غير صحيح، كيف يُقال أن هذا يوم القيامة؟ الله يقول صُنْعَ اللَّهِ ۩، أليس كذلك؟ أي صنع يوم القيامة؟ يوم القيامة الكل سيُدمَّر، الله يتحدَّث عن آية الآن، فأُريد أن أقول هذا مثل حركة الجبل بحركة الأرض، هذه اسمها الحركة النسبية، وكذلك حركة الخاتم بحركة اليد، لا تُوجَد فاصلة زمانية، وسوف نسأل هيوم Hume وأبا حامد الغزالي ما العلة في حركة الخاتم؟ سوف يقولا حركة اليد، وهنا سوف نقول أين التعاقب؟ لا يُوجَد تعاقب، فإذن تُوجَد علية، أليس كذلك؟ تُوجَد علية.

ديفيد هيوم David Hume تحدَّث طبعاً عن الأشياء التي تدخل إلى ذهن الإنسان على ثلاث مراحل: الصور الانطباعية Impressions، وبعد ذلك المعاني أو الأفكار Ideas، وآخر شيئ النسب Relations، ثم تحدَّث عن كل واحدة منها، الانطباعات قد ختم بها، لكن اهم شيئ في العلية انتقدناه وانتهينا منه، ولابد أن يعترف أن الإنسان عنده قدرة وهي شيئ آخر غير الحس ووسائل الحس اسمها العقل أو اسمها الفاهمة البشرية، وسبحان الله هذه القدرة – مثلما عرَّفها أرسطو Aristotle وقال الإنسان حيوان مُتعقِّل – قادرة على تكوين المفاهيم والتصورات الكُلية ومنها تصور العلية، هو لا يقدر على أن ينتقد هذا أبداً ويقول هذا شيئ حسي ومن الحس، فهذا من العقل ومن العقل وحده، الصور الانطباعية ما هي؟ هي الصورة الجُزئية كأن ترى كوباً وينتهي الأمر، فيرتسم عندك الكوب، كأن تحس بحالة الخوف، هذا الحس الباطني لكن من اين استفاده؟ من جون لوك John Locke، هذا نفس الشيئ، فاعترف هيوم Hume بالحس الظاهري وبالحس الباطني، بعد ذلك عندنا المعاني أو الأفكار Ideas، ما هي؟ هي ما شرحته لكم تحت عنوان الكُليات، أي المفاهيم الكُلية وخاصة المفاهيم الماهوية بالذات، مثل مفهوم الأبوة والجبل والولد والعلم وما إلى ذلك، المفاهيم الكُلية عموماً، وكيف فسَّرها إذا كنتم تذكرون؟ قال هي مُجرَّد معانٍ شبيحية غير واضحة مُبهَمة غامضة ولإبهامها أو انبهامها تنطبق على أكثر من شيئ فقط، لكن إذا أخذت وضوحها لا تنطبق إلا على شيئ مُحدَّد، فلا يُوجَد شيئ اسمه مفاهيم كُلية، وإنما كلها مفاهيم جُزئية، وقد أنكر ونحن انتقدنا، أليس كذلك؟ ومن ضمن الأشياء قلنا كيف يُفسِّر لنا ديفيد هيوم David Hume وجود المعاني الكُلية التي لا مصداق مادياً لها، أليس كذلك؟ إذا قال هذه المعاني الشبحية هي معانٍ جُزئية تشبَّحت فجاز أن تنطبق على أكثر شيئ سوف أقول له يا سيدي هناك معانٍ كُلية أصلاً ليس لها علاقة بالحس، لأن لا مصداق حسياً لها، أليس كذلك؟ وأنتم تعرفون مثل ماذا، هناك أشياء كثيرة على هذا النحو مثل الغول والعنقاء، هذه كلها كُليات، أليس كذلك؟ وليس لها مصداق حسياً، وكذلك الحال مع المَلك والروح، أليس كذلك ؟ لا تقل لي أنا لا أُؤمِن، ونحن قلنا أننا لا نتحدَّث عن حيثية الوجود وإنما عن حيثية المفهوم، أليس كذلك؟ وهذا مفهوم كُلي الذهن ولَّده بغض النظر آمنت أم لم تُؤمِن بوجوده، هو موجود كمفهوم، مثلما تحدَّثنا عن العلية كمفهوم تصوري، لن يقدر على الجواب هنا، وبعد ذلك سوف نقول له كيف ترد على وجود مفاهيم كُلية في الذهن الإنساني تنطبق على المُجرَّد وعلى المادي مثل مفاهيم العلة والمعلوم، أي العلية Causality؟ العلية مفهوم كُلي وينطبق على الله تبارك وتعالى، الله – لا إله إلا هو – سبب كل وجود، أليس كذلك؟ هو سبب كل وجود، الملائكة – فالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ۩ – أيضاً هي علل لأشياء وهي مُجرَّدات، نحن نُؤمِن بهذا، فالعلية تنطبق على الله وعلى ملائكته وعلى الأرواح وعلى كذا وكذا، وتنطبق أيضاً على الأشياء المادية، فإذن هي ليست مفهوماً جُزئياً تشبَّح، وفي النهاية سوف نقول له كيف ترد على حُجة المفاهيم الكُلية التي تنطبق على المُتضادات كاللون؟ أليس كذلك؟ من مصاديقه الأبيض ومن مصاديقه، أليس كذلك؟ والأسود ليس لوناً تشبَّح بحيث يجوز على الأبيض وعلى الأسود في وقتٍ واحد، هذا غير صحيح، فهذه أدلة قوية جداً جداً جداً تهدم على هيوم Hume ما ذكره بفضل الله تبارك وتعالى.

أخيراً تحدَّث عن النسب Relations، ما هي النسب؟ قال هي العلاقات بين الـ Impressions وبين الـ Ideas، وتخرج منها المعانى التي هي أكثر تعقيداً، بطريق ماذا؟ قال – وقد ذكرنا لكم هذا – بطريق تداعي المعاني وفق القوانين الثلاثة، قال ومن ضمنها معنى العلية، قال هذا من النسب، وفي الحقيقة هذا ليس من النسب، هذا غير صحيح، هل تعرفون لماذا؟ لأنه لو كان من النسب يجب أن يكون مأخوذاً من الحس، ونحن أثبتنا أن مفهوم العلية كتصور لا علاقة له بالحس ولا بما يُعطيه الحس، وإنما كتصديق وهذا موضوع ثانٍ وعنده الحق في أن يكفر به، وهكذا نكون انتهينا من هيوم Hume.

للأسف بقيت فضلة بسيطة، لعلنا في سبع دقائق أو خمس دقائق ننتهي منها لكي نُنهي الحديث عن الإبستمولوجيا Epistemology، نُريد أن نرى ما هو موقف الاجتماعيين من المعرفة، باختصار باختصار علماء الاجتماع – مثل ليفي-بريل Lévy-Bruhl وإميل دوركايم Émile Durkheim – في العصر الحديث عالجوا القضايا العقلية كما عالجوا الظواهر الاجتماعية، مثل الزواج والطلاق والانتحار وما إلى ذلك بنفس الطريقة، بمعنى ماذا؟ لم يعترفوا بأن هناك مباديء ومفاهيم ومُدرَكات عقلية كُلية عامة شاملة وضرورية وأنها من فطرة العقل وأنها وأنها، قالوا هذا كله كلان فارغ، كل المباديء التي تُسمونها العقلية وتتسم بالضرورة الكُلية هي انعكاس للهيئة الاجتماعية وظروفها وشروطها، وجاء ليفي-بريل Lévy-Bruhl وتكلَّم عن موضوع العقل البدائي قبل المنطقي، ليفي-بريل Lévy-Bruhl تكلَّم عن هذا وأتى فعلاً بأشياء أنثروبولوجية، قال هناك قبائل بدائية تُؤمِن بالتناقض، هم ليسوا ضد قانون التناقض طبعاً، فهم يُؤمِنون – مثلاً – بأن الشخص حي وميت في نفس الوقت، يقولون نعم هو حي لكنه ميت أيضاً وهذا عجيب، قال يُوجَد هؤلاء ويعيشون في قبائل بدائية، فلا تنخدعوا بحكاية مباديء كذا وكذا، هذه مسائل خطيرة وشُبهات، على كل حال أسماه العقل البدائي قبل المنطقي ليفي-بريل Lévy-Bruhl وهو تلميذ إميل دوركايم Émile Durkheim، إميل دوركايم Émile Durkheim تحدَّث عن العقل الجمعي، أي عقل الجماعة، قال الإنسان يُفكِّر على نحو ما تُريد له الجماعة، قريب منهم هربرت سبنسر Herbert Spencer، وهو سابق عليهم بقليل، هو إنجليزي تطوري اجتماعي – Social Darwinism – طبعاً، هربرت سبنسر Herbert Spencer ماذا قال؟ قال في الحقيقة أنا أُسلِّم بأن هذه المباديء في حق الفرد فطرية لكن في حق النوع مُكتسَبة وهذا غريب، هذه نظرية مُلخبَطة وغير قوية، ضعيفة جداً وهشة، قال سر خضوع الفرد لهذه الأفكار وتسليمه له أنها فطرية فيه، وهذا في الفرد، أي على مُستوى الفرد، لكن في النوع الإنساني من البدايات كانت مُكتسَبة، أوائل البشر لم يكن عندهم هذه الأفكار واكتسبوها شيئاً فشيئاً وتناقلت عبر الوراثة والجينات Genes فطُبِعت في الدماغ، وأصبحت تأتي للفرد عن طريق الوراثة، يُولَد وهو عنده هذه الأمور، فهو يظن أنها فطرية وأنها تتسم بالضرورة، قال بالعكس هي في أصلها قبل مئات ألوف السنين أو الملايين كانت مُكتسَبة من البيئة الاجتماعية، فهي ليست كُلية ولا ضرورية، وطبعاً هذا الكلام كله غير علمي، وقد رأينا الفلاسفة وماذا يقولون ومن ثم يُمكِن نقد هذا الكلام، كلام علوم الاجتماع من أضعف ما يكون، أوهن من بيت العنكبوت، ليس عندنا الوقت لكي ننقده لكننا نُعطيكم فكرة عامة عنه.

نختم الآن بالموقف المادي وخاصة الماركسي من التفكير، واضح أن النظرية الماركسية مثل النظرية البراجماتية والنظرية الوسلية Instrumental – من وسيلة – فهم ينظرون إلى العقل على أنه عضو يُؤدي فوائد للحياة العملية، ليس أكثر من هذا، مثل العين ومثل الأذن وهكذا، وهو عضو تكيفي، ليس عنده مباديء أزلية وضرورية وفطرية، قال هذا كله كلام فارغ غير موجود، و عضو من الأعضاء يتكيَّف فقط لكي يُمكِن للإنسان أن يعيش في عالمه ومُحيطه، فهو عضوٌ من الأعضاء العادية، البراجماتية تقول بهذا والماركسية تقول بهذا، جون ديوي John Dewey كان يقول الإنسان لا يُفكِّر إلا عندما يُضطَر إلى التفكير، وطبعاً لابد أن يكون جون ديوي John Dewey مُتسِقاً مع نفسه – وهو براجماتي طبعاً – ومن ثم لابد أن يقول هذا، لو لم يقل هذا سوف تكون هناك مُشكِلة لديه، البراجماتية كلها سوف تنهار، قال الإنسان حين يُضطَر يُفكِّر، أمام عاديات الطبيعة أو مُتهدِّدات الوحوش والأشياء وما إلى ذلك يضطر أن يُفكِّر، والحاجة أم الاختراع ومن ثم يبدأ يُفكِّر ويخترع، لكن حين يكون آمناً وليس عنده حاجة لأن يُفكِّر يجلس ويأكل ويشرب ولا يُفكِّر، لكن هذا الكلام غير صحيح، برتراند راسل Bertrand Russell عنده كتاب في مدح الكسل، أي في امتداح الكسل، وقد رد عليه جورج برنارد شو George Bernard Shaw، المُهِم هذه كانت نظرية في تفسير الحضارة وهي جميلة وكانت أقرب إلى الحقيقة، برتراند راسل Bertrand Russell قال الحضارة بنت الكسل، الحضارة بنت الترف، لولا أن الإنسان عنده الحاجات والضرورات مُؤمَّنة وعنده فضلة وقت لما تعلَّم النحت ولا الرسم ولا المعمار الفني ولا كل هذه الأشياء، فالحضارة بنت الترف، وهذا كلام صحيح فعلاً، كلام جون ديوي John Dewey هو العكس تماماً، ديويDewey قال الإنسان يتحرَّك ويُفكِّر لكي يُؤمِّن نفسه فقط فيعيش ويأكل ويشرب ويذهب ينام، وهذا غير صحيح، الحضارة تنشأ لما الإنسان يُؤمِّن نفسه ويأكل ويشرب، وأنا أقول لكم حتى الدين ينطبق عليه هذا، اليوم كنت أتحدَّث مع علماء أفاضل سألوني عن كيفية الإسلام في النمسا، قلت لهم حقيقةً هو لافت عندنا، قالوا كيف؟ قلت هو لافت، في فيينا العاصمة يصل عدد العرب من حوالي عشرة إلى اثنتي عشرة ألفاً، طبعاً الأتراك بعشرات الألوف لكن العرب في النمسا كلها حوالي أربعة وعشرين ألفاً، في فيينا كلها من حوالي عشرة إلى اثنتي عشرة ألفاً، قلت لهم في مسجدي – مثلاً – يُصلي يوم الجمعة ألف، في مساجد أُخرى خمسمائة، وفي مساجد أُخرى ثلاثمائة، وفي مساجد أُخرى سبعمائة، حين تحصونهم يتضح أن في الحد الأدنى لا يقل عدد مَن يصلون الجمعة عن خمسة آلاف أو أربعة آلاف، لا أكاد أعرف عربياً هناك لا يُصلي، قال لي أحدهم هذا غريب، قلت لهم ما هم البقية؟ نساء وأطفال صغار، أليس كذلك؟ وهذا يعني أن تقريباً كل البالغين يُصلون، قال لي كيف؟ قلت له لأن الحاجات هناك مُؤمَّنة، سواء اشتغلت أو لم تشتغل الدولة تدفع كل شيئ، تأمينات صحية واجتماعية لك وأولادك ومساعدة للبيت والتعليم مجاني وإلى آخره، فأنا أقول لك الإنسان إذا أُومِّنَت حاجاته يفرغ للعبادة، رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ۩، إذا كنت تُريد منهم أن يعبدوك وأن يصلوا أمِّن لهم الحوائج، قال أبو حامد – رحمة الله عليه – فليت شعري متى يفرغ لعبادة الله أو يُوجِّه همة قلبه إليها مَن هو مُستغرِق ليله ونهاره في تحصيل رغيف عيشه؟ متى يعبد الله هذا؟ من الصعب جداً جداً، عقله ليس مع العبادة، فهذا ضد كلام ديويDewey، الدين والفن والعلم والاختراع متى يأتي؟ مُعظَمه يأتي في فترات الراحة، وإن كان أحياناً يأتي في وقت الحروب مثلاً، قالوا عدد كبير من الاختراعات يأتي في زمان الحروب وهذا صحيح، الحرب أيضاً أم الانقطاعات وأم الاختراعات، ليست أماً للانقطاعات فقط وإنما للاختراعات أيضاً، فهذا كلام الماديين والبراجماتيين وإلى آخره، وواضح أنه كلام غير صحيح، ماركس Marx عنده عبارتان مشهورتان جداً، عبارة تقول دأب الفلاسفة عبر العصور على أن يُفسِّروا العالم، وظيفتنا نحن أن نُغيِّره، لأن هكذا هو يرى العقل، وقد كفر بالنظرية الأرسطية التي ترى أن المعرفة تُطلَب لذاتها، قال هذا كلام غير صحيح، المعرفة لا تُطلَب لذاتها، المعرفة تُطلَب لكي نُغيِّر أنفسنا وبيئتنا، قال القط ليس عنده رغبة أن يتعرَّف على الفأر لكي يتعرَّف عليه، ماركس Marx كتب هذا في رأس المال، قال هو يُريد أن يلتهمه، والمزارع ليس عنده رغبة أن يعرف الرياح والأنواء وطبيعة الحبوب والأرض لكي يعرف، وطبعاً هذا كلام سخيف جداً لا أعرف كيف يقوله فيلسوف، لأننا سوف نقول له يا سيدي شيخك أرسطو Aristotle كان عنده رغبة أن يعرف لكي يعرف، وأضاعنا وأضاع نفسه في الماهية والوجود والميتافيزيقا وكل هذه المسائل المُعقَّدة جداً جداً جداً، فتفضَّل هذا، وسوف ناتي لك بمائة ألف فيلسوف ومُفكِّر فقط يشتغلون من أجل أن يعرفوا، أنت نفسك عندك شيئ من هذا، ليس كل ما تقرأه يا ماركس Marx من أجل التغيير، أليس كذلك؟ تقرأ أشياء كثيرة لأن هذه – سبحان الله – ضرورة بشرية وحاجة أساسية في الإنسان ومن ثم يقرأ.

على كل حال أخيراً عندنا الصوفية والعارفون والمعرفة، الصوفية كلهم تقريباً اتفقوا وأطبقوا طبقاً واحداً كما يُقال على أن الحس أدنى مراتب المعرفة، هذا كلام فارغ، المعرفة مُشوَّهة وبسيطة وما إلى ذلك، قالوا يُعطي معرفة لكنها بسيطة، وأوثق منه وأدخل في باب الاعتماد لكنها غير كافية، فتجاوزوها وقالوا بالتجربة وبالذوق وبالحدس تبيَّن لنا أن هناك إمكانية أن نرتاد آفاقاً وهي بعيدة وسحيقة وعميقة يُعتبَر ما يرتاده العقل من آفاقه شيئاً منزوراً وشيئاً محقوراً بالنسبة إلى تلكم الآفاق، قال أبو حامد الغزالي – قدَّس الله سره – بلغته هذه المعرفة تُنال بارتفاع الحجاب بين العقل وبين الغيب، إذا ارتفع هذا الحجاب – بإذن الله تعالى – يبدأ الإنسان يرى أشياء ويخوض في أشياء ويعرف أشياء، وهذا الكلام في الجُملة صحيح بلا شك، النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن حين مر ذات مرة على قبر فنفرت به دابته وكادت تُلقيه قال مَن دفنتم ها هنا؟ قالوا فلاناً وفلاناً من الأنصار، قال إنهما ليُعذَّبان، الدابة – سبحان الله – سمعت وصدق رسول الله، ولذا الدابة نفرت به، قال إنهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير إلى أن قال والذي نفسي بيده لولا تمزع قلوبكم – القلوب مُتوزِّعة ومُمتمزِّعة، فهمها ليس الله وليس الآخرة، الإنسان أصبح عنده خمسون ألف هم يتنازعه – وتزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع، هذا يعني أن العملية مُمكِن او غير مُمكِنة؟ تُوجَد قاعدة في المنطق تقول تعليق الأمر على مُمكِن يجعله في حيز الإمكان، فالنبي قال لو يجعل الإنسان همه الله – تبارك وتعالى – ويجمع – الصوفية يُسمونها الجمعية – قلبه على الآخرة وعلى الله ولا يتزيَّد في الحديث – يكون دقيقاً جداً جداً، لا يكذب ولا يُبالِغ، لا يزيد ولا ينقص – بعون الله يُكشَف عنه الحجاب ويسمع، عبد الله بن عمر في صحيح البخاري لم يسمع فقط بل رأى، أليس كذلك؟ وأنتم تعرفون الحديث، ابن عمر كان يسير ذات مرة قال فرأيت رجلاً يخرج من الأرض وهو يلتهب ناراً ورجلين – أي ورأيت رجلين – يضربانه، فقال يا عبد الله، يا عبد الله اسقني، اسقني، فقالا يا عبد الله لا تسقه، لا تسقه، فضرباه فغاب في الأرض، رأى هذا بعينيه وهذا في البخاري، فأتى الرسول وقال يا رسول الله رأيت كذا وكذا فابتسم، قال ذاك عدو الله أبو جهل وذاك عذابه إلى يوم القيامة، تفضَّل هذا، ابن عمر قال هذا، يُقال أنتم تحكون خُرافات صوفية لكن هذا في صحيح البخاري، رأى ذلك ابن عمر، وهناك أشياء أعجب من هذا حدثت للصحابة والعارفين والصالحين من التابعين وغيرهم، وهي كثيرة جداً جداً جداً، فهذا كلام أبي حامد – رحمة الله عليه – حقيقةً، وهذا يُسمى في مُصطلَح الصوفية عموماً بالحدس Intuition، أي قوة الحدس عموماً، ويقولون هذه المعرفة الحدسية تحصل للأنبياء في أكمل صوره عن طريق الوحي – الوحي يأتي وينتهي الأمر – وتحصل للأولياء عن طريق الإلهام والنفث في الروع وتحدث للعامة – لبعض مَن استقام منهم وصلح حاله ولو قليلاً – عن طريق نماذج من الرؤيا الصالحة، أليس كذلك؟ النبي قال إذا اقتربت القيامة لا تكاد رؤيا المُؤمِن تكذب، أخرجه ابن ماجه، سبحان الله الرؤيا تأتي مثل فلق الصبح كما يُقال، وهذا نوع من الوحي، أليس كذلك؟ نوع من المعرفة الغيبية.

نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

(تابعونا في الحلقات القادمة)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليقان 2

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: