إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين الميامين وعَلَى أتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول المولى الجليل – سُبحانه وتعالى – في مُحكَم التنزيل بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ۩ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ۩ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۩ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ۩ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

لم يبق بيننا وبين رمضان إلا أيام معدودات وليال منزورات، فنسأل الله بقدرته وبالغ حكمته – سُبحانه وتعالى – أن يُبلِّغناه وأن يُوفِّر حظنا فيه من كل خير يُنزِله أو بر ينشره أو عمل صالح يُيسِّره، إنه ولي ذلك – سُبحانه – والقادر عليه، لأن بلوغ رمضان – أيها الإخوة والأخوات – منقبة عظيمة وكرامة جليلة وفضل من الله واسع وجزيل، يُحمَد عليه ويُشكَر – سُبحانه وتعالى – إلى انقطاع النفس.

روى الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – في مُسنَده عن أبي هريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال جاء رجلان من قضاعة – أي من قبيلة قضاعة – إلى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فأسلما وجاهدا معه، نُوديا إلى الجهاد أو دُعيا إلى الجهاد فجاهدا معه، ثم إن أحدهما قد توفاه الله – سُبحانه وتعالى -.

يقول طلحة بن عُبيد الله – أحد العشرة، الشهيد الحي، رضيَ الله عنه وأرضاه – فأُريت – أي في المنام – الجنة، وأُريت الرجل الذي تأخَّر – أي الذي مات مُتأخِّراً، أحدهما تُوفي أولاً، ثم أدركه الآخر، فهو أُريَ هذا الآخر الذي مات مُتأخِّراً، أي بأخرة – أُدخِل الجنة قبل صاحبه، هناك إشارة واضحة إلى أن مقامه أعلى، ودرجته أشرف عند الله – سُبحانه وتعالى -، قال فعجبت لذلك.

قال فذكرت ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، أو ذُكِر – الراوي يقول أو ذُكِر – ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، فقال وما عجبت من ذلك؟ وما هو مبعث العجب؟ أليس قد صام رمضان بعده؟ هذا مُد في عمره، أكرمه الله بأن أدرك رمضان آخر، فصامه، الذي مات أو استُشهِد أولاً لم يصم هذا الرمضان، إذن فاق عليه بالعمل، أليس قد صام رمضان بعده وصلى ستة آلاف صلاة، أو قال كذا وكذا – الراوي يشك – صلاة صلاة السنة؟ السنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً، وفي كل يوم خمسة فروض، لو حسبنا كم عدد الفروض وركعات الفروض مع السُنن التي ستأتي! طبعاً بالآلاف، قال صلاة السنة، فهذا هو الذي رفعه.

ولذلك نحمد الله – سُبحانه وتعالى -، هو أهل الحمد والثناء والمجد، على أن بلَّغنا ما صُمنا وما يُسِّر إلينا من الرمضانات السابقة، ونسأله أن يُبلِّغنا هذا القادم – إن شاء الله تعالى -، كرامة عظيمة – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

شهر رمضان والصيام في رمضان ماذا نقول فيه؟ هل نأتي بجديد؟ شهر أُنزِل فيه القرآن، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ۩، من رمضان، كما هو المشهور عند الكافة، عند العامة والخاصة، ولذلك من فضل الله – سُبحانه وتعالى – على هذه الأمة أن اختص هذا الشهر الجزيل العظيم بهذه العبادة الفذة المُتفرِّدة، فهي العبادة الوحيدة من بين العبادات التي نسبها المولى – سُبحانه وتعالى – إلى ذاته العلية، كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي، وفي حديث آخر في الصحيح كل عمل ابن آدم يُضاعَف، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم، قال الله – تعالى – إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، ما معنى هذا الاستثناء: إلا الصوم؟ أي هو مُستثنى من التضعيف، سائر العبادات وسائر المبرات والخيرات – أيها الإخوة والأخوات – تخضع لمعيار التضعيف، إلا الصوم، قال العلّامة أبو العباس أحمد القرطبي – ليس المُفسِّر، وإنما شارح مُسلِم في المُفهِم، هما قرطبيان مشهوران، أبو عبد الله المُفسِّر، وأبو العباس أحمد بن عمر رحمة الله عليه شارح مُسلِم، قال القرطبي الآتي، ودائماً كلما قرأتم قال القرطبي شرحاً على حديث في مُسلِم اعلموا أن ليس هو المُفسِّر، هو أبو العباس رحمة الله عليه، المُهِم قال أبو العباس القرطبي الآتي في مُفهِمه رحمة الله تعالى عليه في شرح هذه العبارة من كلام سيد الخلق، صلى الله تعالى عليه وآله وأصحابه وسلم – فإن الله – سُبحانه وتعالى – يجزي على الصوم بغير تقدير، لا تُوجَد حدود مُعيَّنة، لا تُوجَد حدود! مهما كانت هذه الحدود بعيدة، لا تُوجَد حدود في الجزاء على الصوم، شيئ عجيب جداً.

ولذلك يقول – تعالى – إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩، لا يُوجَد تضعيف، وقد فُسِّر الصَّابِرُونَ ۩ في هذه الآية، فسَّرها أكثر من مُفسِّر من مشاهير المُفسِّرين بأنهم الصائمون، قالوا إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ ۩ الصائمون، يُريد الصائمين، والصائمون هم أيضاً السائحون، السائحون المذكورون في سورة التوبة، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ۩، قالوا السَّائِحُونَ ۩ هم الصوّام، هم الصائمون، هكذا فسَّرها ابن عباس وأبو هُريرة ومُجاهِد وسعيد بن جُبير والضحّاك والإمام الحسن البِصري وعائشة الصدّيقة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – وغير واحد، قالوا السَّائِحُونَ ۩ هم الصائمون، وكذا فسَّروا قوله – تبارك وتعالى – عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ۩، سَائِحَاتٍ ۩ – قالوا – صائمات، صائمات! قالت عائشة – أم المُؤمِنين، رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – سياحة هذه الأمة الصيام، لماذا؟ لماذا سمى الله – سُبحانه وتعالى – الصيام بهذا الاسم؟ وهذه التسمية ليست لُغوية، العرب لا يعرفون الصيام على أنه سياحة، ولم يُسموا الصائم سائحاً، لكن هذا ابتداع قرآني، الله سماه هكذا، لماذا؟ الله أعلم أنها إشارة، إشارة إلى أن هذا الصائم مُعَد ومُؤهَّل وحقيق – إن صام كما ينبغي، إن تحقَّق بالصيام على وجهه المرضي لله سُبحانه وتعالى – بمُنادَمة الملأ الأعلى والسياحة في ملكوت الله – سُبحانه وتعالى -، هو حقيق وجدير وقمين بمُنادَمة الملأ الأعلى والسياحة في ملكوت الله – سُبحانه وتعالى -، ليست السياحة في الأرض وغراسها وثمارها وأنهارها وأشجارها، وإنما السياحة في الملكوت.

وقد يُستأنس في هذا المعنى بما قص الله علينا – سُبحانه وتعالى – من نبأ كليمه موسى – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، لأن الله – عز وجل – أمره أن يصوم، وصام الثلاثين ثم أتبعها لمُخالَفة يسيرة بالعشر، وهكذا تم ميقات الله – سُبحانه وتعالى – أربعين ليلة، وبعدها جاء إلى موعده مع ذي العزة والجلال للمُنادَمة والتكليم، بعد الصيام! فالصيام هو الذي يُؤهِّل صاحبه للسياحة في الملكوت، لكن ليس الصيام كما يتعاناه ويتكابده أكثر الخلق مِمَن لا يتحقَّقون ولا يتجوهرون بسره وجوهره وحقيقته.

يصومون عن ملذات الطعام والشراب والمناكح، لكنهم لا يصومون عن الغيبة، عن الكذب، عن النميمة، عن فُحش القول، وعن الإيقاع بين الناس، لا تصوم أعينهم عما حرَّم الله، لا تصوم آذانهم عما حظر الله، ولا تصوم قلوبهم عما أبغض الله، وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۩، عن الحقد والغش والحسد واللؤم وأمثال هذه المُهلِكات الباطنية، لا يصومون! فبماذا رجعوا من صيامهم؟ بماذا انتفعوا؟ بالتعب، لقد آدوا أنفسهم وأتعبوها، هكذا! والحديث مشهور، مَن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه.

هذه هي مُشكِلة المُتعبِّدين، ليس في هذا الدين الحنيف فقط، بل في كل الأديان، الدين حين يتحوَّل – وخاصة العبادات – إلى طقوس تأتي الكارثة، وما معنى الطقوس؟ أشكال ورسوم من غير جوهر، هذه هي الطقوس، يُقال لك هذا يعبد طقوسياً، نعم يُصلي، يركع، يدور بالكعبة، يطوف، ويصوم، لكن لا يعرف هو الجوهر، لم يتحقَّق بجوهر العبادة، ما معنى أن تُصلي؟ ما معنى أن تصوم؟ لا يعرف هو، هو يظن أنه عليه أن يأتي بهذه الحركات فقط، ويقول هذا يُرضي الله، لكن هذا وحده لا يُرضي الله أبداً، إذا لم تُثمِر هذه العبادات أثمارها المرجوة للمُشرِّع – سُبحانه وتعالى – فهي مُجرَّد تعب، وعلى الإنسان أن يرقب نفسه، إذا كان يتقدَّم مع كل صلاة فإذن هو يُصلي، إذا يرى نفسه مع كل صلاة أفضل من قبل فإذن هو يُصلي، والعكس إذا رأى نفسه يُراوِح في مكانه، أحيانا بعض الناس يتأخَّر، يقول لك بالعكس، أنا حين التحقت بالمسجد أو بدأت أُصلي كنت أحسن، أنا الآن أسوأ، أسوأ في كل مسالكي، وهذا يعني أنك لا تُصلي، ماذا استفدت من الصلاة؟

بعض الناس يتخذ حتى صلاته وعبادته شبكة للضحك على الناس، حتى تجوز حيله وأفانين كذبه وخداعه على الناس، باسم أنه شيخ أو مُتديِّن أو من أهل المساجد، كارثة والله، كارثة! وكان يُمكِن أن تكون هذه العبادة طريقاً قاصدةً ومُمهَّدةً إلى رضوان الرب الجليل، لا إله إلا هو – وإلى جنات النعيم، لماذا؟ فنسأل الله أن يهدي قلوبنا وأن يُرشِد نفوسنا وعقولنا وأن يعصمنا من شرها.

إذن هكذا، الصيام يُؤهِّل صاحبه لمُنادَمة الملأ الأعلى، وبهذا المعنى – والله تبارك وتعالى أعلم، وعنده العلم والحكم كله – سُميَ الصائم سائحاً، من السياحة في الملكوت، وليست السياحة في آفاق الأرض وفجاجها ودروبها، الصوم جُنة وحصن حصين من النار كما في أحاديث كثيرة جداً، النبي هكذا دعاه ونعته، بأنه جُنة، ترس يحفظ الإنسان، وحصن حصين – في رواية للتذكير -، حصن حصين من النار، أي من نار جهنم، نعم! لأنه من أجل العبادات، كما قلنا نسبه الله إلى ذاته العلية، لكن لماذا نسبه بالذات؟ لماذا الصوم؟ لماذا لم ينسب الصلاة أو الحج أو الزكاة أو أي عبادة أُخرى؟

قال الإمام أحمد – رضوان الله تعالى عليه – الصوم لا رياء فيه، الله ما الذي يُريده منا؟  أيُريد الطقوس؟ أيُريد المناظر والرسوم؟ هذه الله لا يُريدها، الله يُريد الحقائق، أين تكمن الحقائق؟ في الإخلاص وفي الصدق، إذا أردت أن تُعيِّر الناس بمعيار رباني لا يُخطئ فلن تستطيع أن تُعيِّرهم بظواهرهم على الإطلاق ولن تُفلِح، هذا لحيته أطول، هذا جلبابه على السُنة، وهذا عمامته أضخم، مُستحيل! كلام فارغ هذا، لن ينفع، أو هذا في وجهه علامة الصلاة، بعض الناس يتعمَّل أن يخلقها في وجهه، يعلب بها جبينه – والعياذ بالله -، نعم! معروف هذا، بعض الناس – أقول بعض الناس، لا كثَّر الله من هؤلاء الجهلة المُرائين – يعلب جبينه، والنبي نهى عن ان يُعلَب الجبين، لماذا تُشوِّه خلقتك؟ النبي نهى عن ذلك، سيمة المُصلي ليست في هذا العلب، إنما في نور إلهي يُدرِكه أهل التحسس للأنوار الإلهية، سواء كان في وجه زنجي أو أشقر أو أصفر أو أحمر، يُدرَك هذا النور – بإذن الله -، لأنه نور إلهي، ليس من نور هذه الدنيا، هذه سيمة المُصلين.

إذن لا تستطيع هذا، لماذا؟ لأن هذا المعيار هو أمر يختص بالباطن، بالقلب! كما قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما بسر وقر في قلبه، شيئ في الداخل، الله يعلمه، نحن لا نعلمه، أحياناً تظهر آثاره بلا شك أو بالأحرى بعض آثاره – عفواً – بلا شك، نرى في الإنسان الذي أمامنا طيبة عجيبة جداً جداً، سلامة صدر غريبة جداً جداً، تحسساً – أي نرى تحسساً – لهموم الأمة ولأحوال المُسلِمين، يفرح لفرحهم، يُصاب بمُصابهم، يحزن لحُزنهم، عنده رحمة غامرة! رحمة غامرة بمَن حوله وعلى مَن حوله، فنُدرِك شأنه، مُستحيل أن هذه الصفات تتوفَّر في إنسان ويكون من حزب الشيطان، قطعاً هذا من أهل الله – تبارك وتعالى – ومن رجال الله، لكن في نهاية المطاف هو أمر إلهي.

الصوم لا رياء فيه، إذن هو يعمل على تحقيق الإنسان بماذا؟ بالإخلاص، قال أحمد الصوم لا رياء فيه، ومن هنا نسبه الله إلى نفسه – سُبحانه وتعالى -، لأن هذا هو بالضبط ما يُريده الله منا، أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۩، قال فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ۩ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۩، الله هذا الذي يُريده منا، مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ۩، مَن الذي سيأخذه الله؟ مَن الذي سيقبله الله؟ الذي شيئ لله عنده، ما هو هذا الشيئ لله؟ أهو وعاء من ذهب؟ هل الله يُريد ذهبنا؟ هل الله يُريد مناظرنا؟ هل الله يُريد نقودنا؟ هل الله يُريد ألقابنا؟ هل الله يُريد مناصبنا؟ هل الله يُريد علمنا؟ وهل الله يُريد كلامنا؟ كلا، يُريد هذا الإخلاص، إذا هذا الشيئ أو هذا المتاع عندك فإن الله سيقبلك، أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ۩، ستُقبَل – إن شاء الله تعالى -، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ۩.

شرعت دودة القز يوماً في النسج – تنسج شبكتها -، فجعلت العنكبوت تتشبَّه، وتقول مُدِلةً لكِ نسج ولي نسج، حتى أنا نسّاجة ولي شبكة، فما ميزتكِ عني؟ فقالت لها دودة القز هذا نسج وهذا نسج، نسجي رداء بنات الملوك، ونسجك شباك للذُباب – يقولون ذُباب وذِبّان -، وبالمس يتبيَّن نسج من نسج.

إذا اشتبكت دموع في خدود                            تبيَّن مَن بكى مِمَن تباكى.

هذا هو! هذا يصوم وهذا يصوم، وهذا يُصلي وهذا يُصلي، ولكن أين المُخلِصون؟ ربي أعلم بالمُخلِصين، بالصالحين من عباده، لا إله إلا هو! هذا عمل القلب، فاجعلوا وكدكم من صيامكم تنمية وتثمير واستثمار هذه المعاني يا إخواني وأخواتي، لنتعلَّم من مدرسة الصيام الإخلاص والصدق، كيف نزيد رصيدنا من الإخلاص؟ كيف نزيد رصيدنا من الصدق مع الله – تبارك وتعالى -؟ اللهم اجعلنا من الصادقين، وأعِذنا من شر نفوسنا، فإنها خليقة بكل ذنب، إي والله، نعم! 

الصيام إذن هو شهر الصبر، وشهر الإخلاص، وشهر الصدق، وشهر العتق من النيران كما تعلمون، وهو شهر القرآن، وهو شهر الوصول، مَن أراد أن يصل فليصل في هذا الشهر، مَن أراد أن يشهد مِن المحجوبين فليشهد في هذا الشهر، الله أقرب ما يكون من عباده في هذا الشهر، ولذلك قلنا الله – تبارك وتعالى – اختص هذا الزمان وهذا الشهر الكريم بهذه العبادة الفذة المُتميِّزة، لماذا؟ لأنه شهر أُنزِل فيه كلامه، كلام الرب أُنزِل في هذا الوقت، فاختصه بعبادة – كما قلنا – لها مقام عالٍ جداً، وهذا معنى العيد، لذلك نحن بعد أن نقضي هذه العبادة بتوفيق الله نُعلِن عن ابتهاجنا وحبورنا وفرحتنا في عيد يُسمى الفطر، عيد الفطر مُؤسَّس على معنى ديني، مُؤسَّس على معنى مِلي، مُؤسَّس على معنى رباني، هذه هي أمة التوحيد – بحمد الله تبارك وتعالى -.

هذه أمة التوحيد التي يأبى الشانئون مِمَن يغرقون في عصبياتهم وفي أحقادهم إلا أن يشنأوا نبيها ويشنأوا قرآنها، ويتساءلون بماذا جاء محمد؟ عجيب جداً! محمد جاء بأمة عظيمة، محمد جاء بكتاب، أحيا به أمة، أوجد به أمة، أمة عظيمة – بحمد الله -، كانت وما زالت – وإن كانت أقل بكثير – وستبقى – بإذن الله تعالى – أمة عظيمة ومُتفرِّدة، هي الأمة التي تعرف كيف تعبد الله وحده، لا تعبد لا حجراً ولا بشراً ولا أهواء ومطامع، إنما تعبد الله، والله أراد منها وأراد لها ذلك، حتى أعيادها مُؤسَّسة على هذه المعاني.

وأما عيد الأضحى – العيد الكبير – فهو يأتي بعقب ماذا؟ بعقب عبادة أُمية، على مُستوى الأمة! عبادة عظيمة جداً، تُشارِك فيها الأنواع والأجناس والألوان واللهجات واللُغة المُختلِفة، عبادة الحج، التي نزل فيها على عهده الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۩، فحقيق أن يكون هذا عيداً آخر لنا، إنه العيد الكبير، عيد الأضحى مُؤسَّس أيضاً على هذا المعنى، مُؤسَّس على هذا المعنى! لكن أيهما شُرِع أولاً؟ عيد الفطر، لأن الصيام بالإجماع شُرِع في السنة الثانية، أما الحج فاختُلِف فيه، قيل في الخامسة، قيل في السادسة، قيل في السابعة، قيل في الثامنة، وقيل في التاسعة، أما الصيام فهو في السنة الثانية قولاً واحداً من غير خلاف، هذا العيد أو هذه العبادة شُرِعت أولاً.

هذه العبادة فيها معنى فردي فضلاً عن المعنى الجماعي الذي لا تُخطئه العين ولا يغفل عن مُلاحَظته الرقيب، فيها معنى جماعي واضح، أي عبادة الصوم، نُمسِك عن الطعام في ساعة بعينها، ونُفطِر في ساعة بذاتها، ونتشارك أيضاً، نتشارك نحن الأغنياء مع الفقراء، يتشارك الواجد مع المُعدَم، فيها معنى جماعي بلا شك، ولذلك يتحسَّس المُسلِمون جداً من خرق حُرمة هذه العبادة ما لا يتحسَّسون من خرق حُرمة عبادة أُخرى، الصوم! لأن روح الجماعة ظاهرة فيه، لكن روح الجماعة في عبادة الحج أظهر بكثير، إذا اضطررنا أن نُصنِّف أي هاتين العبادتين فردية وأيتهما جماعية فبلا شك الصوم فردية – أي عبادة فردية -، أما الحج فجماعية، معنى الجماعة ظاهر، فكأن الله يُريد أن يقول لنا عند بناء أمة ولدى إنشاء أمة لابد أن يُبدأ البداءة الصحيحة بالفرد، إذا بُني الفرد بشكل سليم كانت الأمة صحيحة بعد ذلك، أما إذا ضيَّعنا الفرد فلا، لن تكون أمة صحيحة، ولن تكون أمة قوية، ولن تكون أمة صادقة ومُخلِصة، وهذه الأمة المرحومة في هذه الأوقات الحرجة القاتمة أحوج ما تكون إلى البررة من أبنائها، بل إلى أن يبر أبناؤها جميعاً إن كان في الإمكان، تحتاج إلى البررة من أبنائها، الصادقين، أصحاب الإخلاص، لماذا؟ حاجتها تماماً إلى النصر، تحتاج إلى النصر والتمكين، لا نصر ولا تمكين إلا بالصدق والإخلاص، لا يُمكِن! هذا أمر لا يُمكِن أن يفيده لا فيلسوف تاريخ ولا مُؤرِّخ عسكري ولا عقلية سياسية، ولن يفهموه أصلاً، هذا لا يُفهَم عندهم، أما نحن فهذا من بدهياتنا التي نُرسِلها إرسال المُسلَّمات، لا نصر ولا عز ولا تمكين بدون ما ذكرنا، وطبعاً ليس هذا السبب الوحيد، لكنه سبب رئيس.

روى النسائي وغيره إنما تُنصَر هذه الأمة بضعفائها، بصلاتهم واستغفارهم وإخلاصهم، وفي رواية بصلاتهم ودعائهم وإخلاصهم، النبي يُقرِّر هذا، لسنا نحن، هو يُقرِّر، هكذا يأتي النصر، فحقاً كما قال أحد الصالحين إن تأخَّر النصر عن هذه الأمة فلأن شرط الإخلاص لم يتحقَّق إذن، لا يُوجَد إخلاص، يُوجَد أُناس عندهم قدرة على الجهاد وعندهم قدرة على الاستشهاد، لكن أين الإخلاص إذن؟ أين الإخلاص الحقيقي لله؟ ليس لعصبيات، ليس لأجندات مُعيَّنة، وليس لأهداف مُعيَّنة، لله! أن يكون لله ولهذا الدين العظيم، وهكذا! قبل أن يُبضَّع وقبل أن يُشرَّح وقبل أن يُقسَّم، لأن الله لا يقبل أن نعود إليه بدين ليس هو الدين الذي أنزله مُوحِّداً، هذا الدين دين مُوحِّد، يُوحِّد ولا يُفرِّق، فإن جعلناه يُفرِّق إلى درجة التكفير والقتل وسفك الدماء فإن الله لن يرتضيه منا، لن يعترف به، وإن ظننا أننا نصل به إلى رضوان الله، لن يعترف به، يُريد دينه ليس تفاريق وأوزاعاً ومِزقاً، يُريد مُوحَّداً كاملاً ومُوحِّداً كما أنزله، إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ۩، وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ۩، طبعاً! عبادة الرب حقاً تُوحِّد العابدين، لأن الحق يُوحِّد أهله، ما الذي يُفرِّق بين الناس؟ الباطل، الباطل هو الذي يُفرِّق، أما الحق فهو يُوحِّد دائماً – بحمد الله تبارك وتعالى -، وأيضاً هذا من دروس الصيام، الصوم الحقيقي هو إعداد – إن شاء الله – لجيل النصر والتمكين إذا تعلَّمنا كيف نصوم وإذا ربينا أولادنا – أبناءنا وبناتنا – على الصيام الحقيقي، هذا إعداد، وهو مطلوب.

ولذلك كان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، ورضوان الله عليهم أجمعين – يعشقون الصوم، لن نُطيل في تفصيل هذه النُبذة، لأن الحديث سيطول حقاً، كانوا يعشقون ويُبالِغون، ما مات الفاروق عمر حتى سرد الصوم، كان يصوم كل يوم، ما مات حتى سرد الصوم، وأما عثمان بن عفان فقضى حياته صائماً، إلا الأيام المكروه والمُحرَّم صومها، كل يوم صائم، وهو من أصحاب الملايين، ويقرأ القرآن كله، يختمه في ركعة، كل ليلة! هذا عثمان – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.

وأما عائشة فكانت صوّامة الدهر كله، أم المُؤمِنين، الصدّيقة بنت الصدّيق – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، صوّامة! وقد أورثت هذه الروح تَلاميذها، الذين تخرَّجوا بها وعلى يديها، مسروق – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – كان تَلميذاً باراً، وقد تبنته عائشة، كأنه ابن لها روحي، فسمى ابنته عائشة، سماها عائشة أيضاً، باسم أم المُؤمِنين، نزلت إليه يوماً، وهو يوم شديد الحر، يكاد ينسلخ فيه الإنسان لشدة الحر، وقالت له يا أبتِ أفطر واشرب، كان صائماً، لماذا؟ لأنه يروي ويسمع حديث المُصطفى، الذي يرويه أبو موسى – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، مَن عطَّش نفسه لله في يوم شديد الحر كان حقاً على الله أن يرويه يوم القيامة، فكانوا يُعطِّشون أنفسهم في الأيام الطويلة الحارة، ويبكون عليها عند الموت، وعلى فقدها، يبكون على يوم طويل كانوا يصومونه لوجه الله – تبارك وتعالى -.

فقالت له أفطر واشرب، فقال ماذا تُريدين بذلك يا بُنية؟ قالت الرفق، الرفق بك، أُريد أن أرفق بك، قال فإني ما أُريد لنفسي إلا الرفق – أي بهذه العبادة – فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ۩، يقول لها أنا أصوم حتى أُروى، لكن في يوم ليس كهذا اليوم، عشر أو عشرون أو ثلاثون سنة ليس كثيراً، لا يُوجَد يوم يمتد ثلاثين ساعة، وإنما مقداره خمسون ألف سنة، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ۩ – رضيَ الله عنه وأرضاه -، وأبى أن يُفطِر، مع أنه كان لا يرد لابنته هذه طلباً، كرامةً لأستاذته وشيخته أم المُؤمِنين الصدّيقة – رضوان الله تعالى عليها -، لكنه رد هذه المرة الطلب، قال لا، الرفق أُريد بنفسي، أنا إنما أُريد الرفق.

سأُتعِب نفسي كي أصادف راحةً                       فإن هوان النفس أكرم للنفس.

وأزهد في الدنيا فإن مقيمها                         كظا عنها ما أشبه اليوم بالأمس.

هذا هو، هذا منطق العابد، هذا منطق العارف بالله حقاً!

روى علماؤنا الأفاضل عن أحد الصالحين مِمَن كانوا يُجهِدون أنفسهم بالصيام والقيام، صام يوماً في هاجرة الشديدة بطوله، ثم أفطر، ثم صلى، ثم صلى العشاء، وصلى ما تيسَّر، ودعا بدعوات، فغلبته عيناه، وهو على نية أن يصوم التالي، قال – هو يُحدِّث – فرأيت رجالاً، عرفت أنهم ليسوا من بني آدم، وجوه حسان جميلة مُنوَّرة مُتلألئة، بأيديهم أطباق عليها أرغفة أبيض من بياض الثلج، وعلى هذه الأرغفة شيئ كالدُر كبير، مثل حب الرُمان، دُر! فقدَّموه إلىّ وقالوا كُل، قلت إني أُريد الصوم، قالوا صاحب الدار يأمرك أن تأكل، وهو لم يسألهم مَن صاحب الدار، لا إله إلا هو! صاحب الدار يأمرك أن تأكل، قال فأكلت، ولما أردت أن أحتمل من هذا الدُر الذي كالرُمان قالوا خير لك أن تتركه عندنا، أن تستودعناه، استودعنا هذا الدُر، نغرسه لك، فيُثمِر لك خيراً بكثير منه، قلت وأين؟ أين يُغرَس؟ فقالوا في دار لا تخرب، ونعيم لا ينقطع، وثمار لا تجف، وثياب لا تبلى، فيها رُضوة وعين وقُرة أعين، أزواج مرضيات راضيات رضيات، لا يَغرن ولا يُغِرن، فقلت فهلموا إذن، ثم استيقظ بعد أن قالوا له يا عبد الله انكمش فيما أنت فيه، ابق هكذا في صيام وصلاة وقرآن وقيام، اترك الناس، انكمش فيما أنت فيه، فإنما هي غفوة، حتى تصير إلينا.

الدنيا كلها ساعات يا إخواني، كلها ساعات! ومن عجب – من عجب فعلاً – أننا كل يوم نُعزي أنفسنا في صديق أو في حبيب أو في معرفة، كل يوم! لكن لا يتوهَّم أحد ولا يُخطِر باله أنه أيضاً مُلاقٍ هذا المصير وسيُعزى فيه قريباً، سُبحان الله يا إخواني، شيئ عجيب، شيئ عجيب وغريب.

الناس يتحاسدون على الدنيا وليس على الدين، وحقيق بهم إذا أرادوا أن يتغايروا وأن يتسابقوا وأن يتحاسدوا أن يتحاسدوا على الدين، لا على الدنيا، فإن الدنيا أيام معدودات وساعات مُتصرِّمات وعرض تافه مهما كان عظيماً، الملوك يموتون، هل دنيانا دنيا ملوك؟ والملوك يموتون، يتركون الدنيا بما فيها، وعليهم حسابها وعذابها، لماذا؟ لكن لا، ينظر إليك أحدهم فيجدك أفضل منه في الدين، في العبادة، في التُقى، وفي الاستقامة، ولا ينفسك على ذلك، يقول نعم، هذا مُمتاز، كُن أحسن مني، فإن فقته في دنيا حقيرة يسيرة امتلأ غيظاً وحسداً، عجيب جداً يا أخي، ومن هنا هذه الدنيا لا تستأهل حتى التنافس، صدِّقوني! هل تعرفون لماذا؟ لأنها لا تقوى عليه، الدنيا لا تقوى على التنافس، صراط الله – سُبحانه وتعالى – لو تسابق فيه البشر أجمعون بل لو تسابق فيه ليس ستة وإنما ستون ملياراً هل يسعهم أو لا يسعهم؟ يسعهم، والله يُحِب هذا منهم، الجنة تتسع لهم أو لا تتسع لهم؟ تتسع لهم وزيادة – بإذن الله -، ولمَن اتقى جنتان أيضاً، تتسع! لكنهم لا يتنافسون، يا أخي تنافس فيما لا يُضايق عليك فيه أحد، هل يستطيع أحد أن يحول بينك وبين ذكر الله صباح مساء؟ أبداً، هل يستطيع أحد أن يحول بينك وبين أن تصوم كلما شئت؟ هل يستطيع أحد أن يحول بينك وبين أن تنشر المُصحَف وتقرأ حتى تعيا؟ هل يستطيع أحد أن يحول بينك وبين أن تقوم الليل؟ هل يستطيع أحد أن يحول بينك وبين أن تتخلَّق بأخلاق الصادقين بل العارفين؟ لا يستطيع أحد أبداً، مبذول للجميع هذا – بحمد الله تبارك وتعالى -، لكننا لا نتنافس في هذا الطريق، هذا لا يعنينا، لأننا طلّاب دنيا، لسنا طلّاب آخرة، لو كنا طلّاب آخرة لما فعلنا هذا، هنا ينبغي أن يكون التنافس والاغتباط، لا أقول الحسد وإنما الاغتباط، الحسد الخيّر والغبطة هنا، في هذه الأشياء، لكن – سُبحان الله – من جهل الناس وتصاغر الهمم ودناءتها يحسدون على دنيا حقيرة، ولا يحسدون على جنة عرضها السماوات والأرض، ويراك الواحد منهم سائراً في هذا الطريق، ولا يحسدك عليه، خُذ الجنة واترك لنا شبراً من الدنيا، شيئ عجيب جداً، نسأل الله أن يُكمِّل عقولنا، لأن هذا الدين عقل، مَن كمل عقله عرف منجاته.

المُهِم قالوا إنما هي غفوة، حتى تصير إلينا، فاستفاق الرجل، يقول أحد إخوانه من الصالحين فوالله ما مكث بعدها إلا جُمعتين – أسبوعين – وتُوفيَ إلى رحمة الله، فعرض لأخيه الصالح في المنام ليلة دُفِن، في نفس الليلة! سلَّم عليه، وقال له ألا تعجب مِن غراس غُرِسن لي قبل أسبوعين حتى حملت؟ أصبحت حاملة، انتهى! وسينزل هذا الثمر، قال فقلت له بماذا حملت؟ قال لا، لا، هيهات! لا يستطيع أحد وصفه، لا يُوصَف، ولا يُقال، الشيئ هذا الذي أثمر لي لا يُقال، ثم قال – قدَّس الله سره – ما رُؤيَ مثل الكريم إذا حل به مُطيع، لا إله إلا الله! ما رُؤيَ مثل الكريم – سُبحانه وتعالى – إذا حل به مُطيع.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا وكلماتك التامة يا رب العالمين، يا خالق الناس أجمعين، نسألك ألا تقبضنا إلا وأنت راضٍ عنا، على طاعة تُرضيك فلا تسخط، اللهم آمين.

هكذا يا إخواني إذن، وهذا الشهر وهذه العبادة العظيمة فضلاً عما ذُكِر هي عبادة تشفع لصاحبها يوم القيامة كما صح عن المُصطفى – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، الصيام والقرآن يشفعان في العبد يوم القيامة، الصيام يقول يا رب منعته طعامه وشرابه بالنهار، فشفِّعني فيه، القرآن يقول منعته من النوم بالليل، فشفِّعني فيه، قال – عليه السلام – فيُشفِّعان، ويل لمَن خصماؤه شفعاؤه، الشاعر يقول ويل لمَن خصماؤه، مَن هم؟ شفعاؤه، مَن ينبغي أن يكون شفيعاً لك صار خصيماً، لماذا؟ لأنك ضيَّعته، لم تقرأ القرآن كما يجب، ولم تصم كما يجب، فأصبح خصماً لك، اللهم أعِذنا من ذلك، واجعلهما شفيعين لنا يا رب العالمين.

هذا شهر الذكر، شهر الذكر المُتواصِل، أمرنا النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن نستكثر فيه من الاستغفار – نستغفر كثيراً في هذا الشهر – ومن لا إله إلا الله، ونُكمِل قائلين محمد رسول الله، نستكثر كثيراً من الاستغفار ومن التهليل في هذا الشهر، هذا الشهر شهر المبرات، شهر الصدقات، شهر الأيدي الباسطات، النفوس الكريمات السخيات، لماذا؟ الصدقة فيه تُضاعَف أضعافاً كثيرة، الصدقة فيه كالفريضة في غيره، وتُضاعَف إلى سبعين ضعفاً، فأكثر طبعاً، فينبغي أن نكون باسطي الأيدي بالعطايا في هذا الشهر، أن نقول ها هنا وها هنا.

بعض الناس دائماً يحسب، صدِّقوني! إذا كانت تنفع الموعظة فنرجو لهذه الموعظة أن تنفع، صدِّقوني المنع والحساب واستخدام الحاسب، هذا كله لا يُفيد، بالعكس! هذا يمنع، هذا ينزع البركة من مالكم، أنا أقول لكم لو سألني أحد أين طريق الغنى؟ وأين طريق البسط الربانية؟ سأقول له في العطاء، أعط ولا تتأخَّر، أعط وأنت مُحتاج، أعط وأنت في أضيق الأوقات، أعط! وسيُخلِف الله عليك أضعافاً مُضعَّفة مما أعطيت – بإذن الله تعالى -، أعط خاصة في هذا الشهر، النبي كان جواداً كريماً، وهو أجود خلق الله، النبي هو أجود خلق الله كما قال عن نفسه، بعد رب العالمين طبعاً، خالق الخلق! أما في الخلق فهو أجود خلق الله، لكنه كان في رمضان إذا لقيه جبريل يُدارِسه القرآن أجود بالخير من الريح المُرسَلة، أجود بالخير من الريح المُرسَلة! فينبغي أن نجود، لا نكز ولا نقبض الأيادي – كما قلت – حاسبين أبداً.

للأسف هذه الدنيا لا تضيق إلا على هؤلاء الكزازين الحاسبين، ولا تتسع – بإذن الله وحوله – إلا على المُعطين، كما أُسر حين أسمع بأشخاص بل أعرف وأرى بعضهم – والله والله والله – يتسبَّبون ويُحاوِلون أن يفتحوا كل الأبواب حتى تتيسَّر لهم العطايا! هذا الشيئ عجيب، فبعض الناس طبعاً لكي يُعطي عطية لابد أن تُقدِّم له تقريراً، أي تقرير حالة كما يُقال، ماذا؟ ولماذا؟ وكم؟ ومن أين؟ وكيف؟ شيئ عجيب جداً يا أخي، أأنت تُعطي؟ أنت تُعطي لله، والصدقة تقع بيد الله قبل أن تقع في يد الفقير.

كان السلف الصالحون يقولون إذا لم يكن المُعطي يرى نفسه أحوج إلى أن يُعطي – إلى العطاء – من الفقير من أن يأخذ فليس مُعطياً، أنت المُحتاج يا مسكين، هذا يحتاج إلى وسخ الدنيا، أنت تحتاج إلى رضوان الله، إلى تكفير السيئات، إلى رفعة الدرجات، احرص من غير أن تتردَّد ومن غير أن تطلب تقارير يا أخي، هناك مَن يطلب تقرير حالة منك، أي يُعطيك بعض ماله، ويسلبك أشرف ما لديك بعد الإيمان، أعني ماء الوجه والكرامة، ما هذا؟ يسلبك ماء وجهك، لكي يُعطيك دُريهمات حقيرات مُتسِخات، كلا! بالعكس، عليك أن تحفظ كرامة هذا، فالحمد لله هذه الأمة بخير، هذه أمة مُبارَكة، أمة عظيمة، وهذا الدين لا يصلح إلا بأمثال هؤلاء، قال – عليه السلام – إن هذا الدين دين ارتضاه الله لنفسه، ولا يُصلِحه – أو قال لن يصلح له – إلا السخاء وكرامة النفس، بالسخاء والجود والكرم الدين هذا يصلح، بالبخل لا يصلح، بالكزازة وبالحساب لا يصلح، وبعض الناس هنا يتأثَّر بالأخلاق الغربية وبالأخلاق المادية، بل بعضهم أكرم منا للأسف، أي بعض هؤلاء الغربيين أكرم حتى من المُسلِمين.

قبل أيام قرأت عن أحد أصحاب المليارات ما أخجلني، هذا يجعل المُسلِم خجلاً حتى من نفسه ومن أمته – من أغنياء أمته أعني طبعاً، ليس من فقرائها -، عنده عشرات المليارات، ماذا فعل؟ بنى مُؤسَّستين كُبريين، تُقدِّمان خدمات للناس هكذا لوجه الله، وأحب الناس أن يعرفوا مَن الذي بنى هاتين المُؤسَّستين، ولم يعرفوا، حتى بعد ذلك اضطر أن يبيع مُؤسَّسة ثالثة لكي يُمسِك هاتين المُؤسَّستين على أقدامهما، فعرف الناس، وقبل أن يموت تبرَّع بكل ملياراته، باستثناء خمسة ملايين دولارات فقط لأسرته، قال تكفيهم خمسة ملايين، ماذا يُريدون؟ خمسة ملايين تكفي، أما آلاف المليارات للأمة، هذه – قال – لأمتي ولشعبي، هذا يقولون لك إنه كافر، هذا غربي كافر، إذن اعملوا مثل هذا الكافر، ماذا يفعل أغنياء المُسلِمين؟ ماذا يفعل أغنياء المُسلِمين؟

للأسف أحببت أن أذكر شيئاً في الخُطبة السابقة، ولكن غفلت عنه، الولايات المُتحِدة لم تعرف نظام الوقف قبل سنة ألف وتسعمائة واثنتين، عندهم نظام الوقف الآن، لكن لم تعرفه قبل سنة ألف وتسعمائة واثنتين، وتطور هذا بعد ذلك في ست وثلاثين، أتى كارنيجي Carnegie وروكفلر Rockefeller وفورد Ford، تطوَّر هذا في الست وثلاثين، لكنها لم تعرف هذا النظام قبل ألف وتسعمائة واثنتين، لماذا؟ لأن الذين نقلوا هذا النظام كانا غنيين، جاءا سائحين إلى القاهرة وإسطنبول، ورأيا في القاهرة وإسطنبول نظام الوقف الخيري هذا للناس، فأُعجِبا جداً، شاقتهما هذه الفكرة، وراقت لهما، فكرة عظيمة جداً جداً، فنقلاها إلى الولايات المُتحِدة، ولأول مرة عرفت هذه الدولة والأمة الكبرة نظام الوقف تأثراً بالمُسلِمين، كان لديهم من أصحاب الأوقاف عشرات الآلاف من الأثرياء، وذكرنا طرفاً صغيراً من أخبارهم، هذا هو، فماذا يفعل أغنياؤنا للأسف؟ ماذا يفعل؟

تسمع حتى هنا في فيينا عن أغنياء عندهم مئات الملايين، لم نحس ولم نشم شيئاً من خيرهم، نحن لا نُريد شيئاً لنا، نُريد شيئاً للأمة، للجالية، للمُسلِمين، لماذا لا نسمع عن واحد من هؤلاء الذين عندهم عشرات بل مئات الملايين اليوروات أنه قام – مثلاً – وافتتح مركزاً إسلامياً كبيراً لوجه الله – ليس للاستثمار وإنما لوجه الله -؟ لماذا لم تفعل هذا؟ ماذا تنتظر؟ لم نسمع عن إنسان آخر فتح جمنازيوم Gymnasium للمُسلِمين – مثلاً -، جمنازيوم Gymnasium – مثلاً – أو حتى مشفى أو أي شيئ باسم المُسلِمين، يُرغِم الآخرين على أن يحترمونا، يقولون لك فعلاً هذه أمة مُحترَمة، عندهم روح أمة، عندهم روح تضامن، وعندهم كذا وكذا، لكن هذا غير موجود، هم حتى يحتقرون هذا الشيئ في أنفسهم، ماذا يفعل هؤلاء؟ ماذا يفعل أغنياؤهم؟ أنا أقول لكم ماذا يفعلون، يُراكِمون الأموال فقط، حتى يموتون، وسيموتون وهم يُراكِمونها، ولن يشبعوا، لن تُملأ أجوافهم إلا بالتراب، فنسأل الله لهم الهداية، نسأل الله أن يفتح عيون بصائرهم حتى يُدرِكوا، حتى يُدرِكوا سبيل نجاتهم وخيرهم الأبدي، لن ينفع الكلام هذا.

هناك مَن قال لك لك إنه يُريد أن يُؤمِّن مُستقبَل عياله، بكم؟ أبعشرة مليارات دولار تُريد أن تُؤمِّن مُستقبَل عيالك؟ عشرة مليارات تُؤمِّن شعوباً كاملةً، مثل شعب الأردن وفلسطين ولبنان مُجتمِعين، تُؤمِّنهم مليارات هذا الغني، لكن هو لا يرى أنها تُؤمِّن حتى ولدين عنده، ذكراً وأنثى، لا تُؤمِّن! هذا لعب الشيطان بالعقول وبالقلوب، نسأل الله أن يهدينا.

هكذا إذن هذا شهر العطاء، شهر السخاء، شهر الجود، شهر أن يتدرَّب الإنسان على أن يفتح يديه، على أن يبسط يديه، لعلها تُصبِح له عادة – إن شاء الله تعالى -.

أيها الإخوة:

كل الأعمال الصالحة لها أبواب يوم القيامة، ليس باباً واحداً، الصلاة لها أبواب في الجنة، ليس باباً واحداً، أي المُصلي يستطيع أن يدخل من أكثر من باب، وكذلك المُجاهِد، المُتصدِّق، إلا الصوم، له باب واحد مُفرَد، أبى الله إلا أن يجعل هذه العبادة مُفرَدة، شيئ غريب العبادة هذه، عبادة مُفرَدة ومُتميِّزة تماماً من كل جهاتها، بكل معنى مُتفرِّدة، قال أبو حاتم بن حبان – رحمة الله تعالى عليه – في صحيحه الأنواع والتقاسيم، قال لكل الطاعات أبواب ثم ساق بإسناده حديث أبي هُريرة، والحديث مُخرَّج في الصحيحين وعند أحمد، لكن هذا تخريجه بإسناد حسن، في صحيح ابن حبان قال قال – صلى الله عليه وسلم – مَن تصدَّق بزوجين خُيِّر أن يدخل من أي أبواب الجنة شاء، ومَن صلى خُيِّر أن يدخل من أي أبواب الصلاة، لها أبواب، أي الصلاة، ومَن جاهد خُيِّر أن يدخل من أبواب الجهاد، ومَن تصدَّق خُيِّر أن يدخل من أبواب الصدقة، ومَن صام أُدخِل من باب الريّان، باب واحد، لا يدخل منه إلا الصائمون، اسمه الريّان، ما معنى الريّان؟ أي المُرتوي تماماً، صيغة فعلان، تدل على الامتلاء، صيغة فعلان في العربية كغضبان وريّان وجوعان ووسنان، إلى آخره! تدل على الامتلاء، المُمتلئ رياً.

لذلك ورد فيه عند الترمذي ومَن شرب منه لم يظمأ أبداً، تدخل من هذا الباب وتشرب، هناك شراب، تشرب فلا تظمأ بعدها أبداً – إن شاء الله تعالى -، أُدخِل من باب الريّان، باب مُفرَد للصوّام، لا يدخله إلا الصائمون – بإذن الله تبارك وتعالى -، اللهم اجعلنا منهم.

أبو بكر الصدّيق – الهمة العلية الآن، الهمة التي تشرئب إلى المعالي، هذه هي الهمة – لما سمع بهذا الحديث قال يا رسول الله ما من ضرورة على مَن دُعيَ مِن أيها، أي مِن أي هذه الأبواب، فهل مَن يُدعى – أي هل هناك مَن يُدعى – مِن كلها؟ أي هل هناك إمكانية أن يدخل الرجل من كل هذه الأبواب؟ سُبحان الله، توسع! هذا توسع، سلوا أصحاب العلم – مثلاً – أو الذين يُحِبون العلم عن هذا، وإن شاء الله نسأل الله أن نكون منهم، شيئ عجيب، عشق عجيب للكُتب والمعلومات وصنوف الفنون، لا يُمكِن أن يشبع طالب العلم من أي فن أو علم، لا يُمكِن! عشقه، همه، سحره، ولذته في العلم والكُتب، كتاب جديد، طبعة جديدة، مُؤلَّف جديد، ودراسة جديدة، شيئ عجيب! سلوا أصحاب الأموال هل يشبعون؟ مُستحيل، عند الواحد منهم مائة مليار، لو هناك صفقة فيها عشرة آلاف يورو لا يُوفِّرها، عشرة آلاف يورو عند مَن عنده عشرة مليارات أو حتى مليار – أي ألف مليون – مثل أقل من سنت عند واحد منا، أقل بكثير، لكنه يقول لا، هذه عشرة آلاف يورو، ائتني بها، وهو يُبخِل بها أيضاً، لا يُعطي العشرة الآلاف هذه ويبخل.

حدَّثني أحدهم عن أحد الأغنياء، من أصحاب الملايين، لن أُغامِر وأقول المليارات، لكن أعرف أنه من أصحاب مئات الملايين، قال لي هناك شيئ عجيب يا أخي، إذا طرق بابه الفقير أذله، قال وهو يُعطي حقيقةً، لكن بالعامية بعد أن يُمرمط الإنسان، قال ومبالغ بسيطة، أي أربعمائة يورو أو خمسمائة يورو، بعد أن يُمرمطك يُعطيك خمسمائة، ما الكلام هذا؟ وعندك ملايين يا أخي، ما الفتنة هذه؟ مفتون ومُبتلى هذا، مُبتلى بماله، نسأل الله المُعافاة، كما قلنا يُعطي المال ويسلب الكرامة.

المُهِم أن أبا بكر الصدّيق لم يكن كذلك، همه ليس في الأموال والصفقات، همه في الصالحات، راقه هذا الشيئ، حرَّك همته وشوقه وذائقيته الإيمانية وروحانيته، هناك أبواب كثيرة، فهل من المُمكِن أن أدخل من كل هذه الأبواب؟ يُريد هذا! الكسيحون المُقعَدون من أمثالنا على العكس من هذا، يقول لك الواحد منهم أدخل حتى من أي ثقب، أدخل وينتهي الأمر، هل همي أن أدخل من كل الأبواب؟ من أي ثقب في الجنة، من أي جُحر في باب أدخل وينتهي الأمر، وأنا مُتأكِّد أكثر الناس من أمثالنا مسألة أن يكون راقياً في الجنة لا تهمه، هل تعرفون لماذا؟ لا يعمل الآن لكي يكون راقياً، حياته ونمط سلوكه ليس لكي يكون راقياً في الجنة، لا! أي هو مُسلِم مُوحِّد ويقول لك إن شاء الله نموت على الخير وندخل الجنة، ليس عنده همية عالية، لكن أن يكون راقياً في الدنيا فهذا الذي يذبحه، هذا الذي يقتله، يعمل ليل نهار لكي يرتقي درجة فقط في سلم وظيفي، من أستاذ مُساعِد إلى أستاذ أو من كذا إلى كذا، لكي يرتفع مُرتَّبه ثلاثمائة يورو، يهلك الدنيا، ألا تُوجَد همة أن تكون راقياً في الجنة هناك؟ هذا أفضل شيئ، هذه ليست الدنيا، الدنيا تذهب في ساعة، شباب يموتون كل يوم يا إخواني، شباب! لا تقل لي أنا شاب، كل يوم يموت شباب.

لنا أخ فاضل نُحزِنكم بذكر وفاته – رحمة الله عليه رحمة واسعة -، أُحِب أن نذكره في الخُطبة حتى ندعو له وتُؤمِّنوا، وهو أخونا سامي عتيق، أخو الأخ أسامة، تُوفيَ إلى رحمة الله، شاب في مثل سننا، كان قوياً أيّداً، تُوفيَ إلى رحمة الله – رحمة الله عليه – قبل يومين، فنسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يُحِله جنان النعيم، مع عباده النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، كان أخاً نشهد أنه طيب، والله حسيبه، كان مُساعِداً، كان طيباً، كان طيب القلب، صافي السريرة لإخوانه – رحمة الله عليه رحمة واسعة -، الشباب يموتون، الكل يموت، لا تنتظر أن تعيش ثلاثين أو أربعين سنة أُخرى، حتى لو عشتها فإنها يسيرة.

فقال – صلى الله عليه وسلم – نعم، النبي قال نعم، هناك طبقة من الناس تدخل من كل الأبواب – بإذن الله تعالى -، من أبواب الصدقة، من أبواب الصلاة، من أبواب الجهاد، ومن باب الريّان أيضاً، كيف؟ بقدرة الله هذا طبعاً، دخلنا في شيئ أشبه بميكانيكا الكم، من أكثر من مكان في نفس الوقت، بقدرة الله، عالم آخر، النشأة الآخرة هذه، قال وإني لأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر، طبعاً في صحيح مُسلِم النبي كان يسأل هل أصبح أحد منكم وقد تصدَّق؟ فيقول أبو بكر أنا يا رسول الله، فيقول هل أصبح أحد منكم صائماً؟ فيقول أبو بكر أنا يا رسول الله، فيقول فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ فيقول أبو بكر أنا يا رسول الله، ما هذا؟ أبو بكر الصدّيق، هذا عند صلاة الفجر، كل هذا كان جاهزاً، كل يوم! لا يُصلي إلا وقد فعل كل الأشياء هذه، شيئ غريب جداً، والنبي بشَّره بأن هذه الأشياء إذا اجتمعت في مُؤمِن في يوم دخل الجنة، قال وإني لأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر – رضوان الله تعالى عليه -.

قال أبو حاتم – أي ابن حبان، رحمة الله عليه – عسى من الله واجب، إذا الله قال عسى فهذا سيحدث سيحدث، وأرجو من النبي حق، إذا النبي قال وإني لأرجو فهذا يعني أن هذا حق – بإذن الله تعالى -، الله أكرم من أن يرد رجاءه، حبيبه هذا، صفيه، خليله، ونجيبه، النبي يقول وإني لأرجو، انتهى الأمر، سيُعطى – إن شاء الله -، عسى من الله واجب، وأرجو من النبي حق، وإنا لنسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُجيب نبينا وحبيبنا رجاءه وأمله فينا، وأن يُدخِلنا جميعاً الجنة بغير حساب، طائعين راضين مرضيين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                   (الخُطبة الثانية)

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وعظيمنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، أيها الإخوة:

اليوم معنا السياسي اللامع النمساوي وهو عضو في البرلمان الأوروبي وقد شرَّفنا بزيارته مرتين في هذا المسجد المُبارَك، السيد سوبودا Swoboda، تعرفونه واستمعتم إليه، أعتقد مرتين في هذا المكان الطيب، والرجل ليس مُجرَّد عضو في البرلمان الأوروبي عن بلده، بل هو نائب رئيس الكتلة الاشتراكية في هذا البرلمان، فهو شخصية لها ثقلها بلا شك، ولها وزنها، الأروع والأفضل من ذلك أنه مُتعاطِف تقريباً مع كل قضايا المُسلِمين، له مواقفه العملية، وليست فقط الأدبية، وإنما العملية، مثل البوسنة، قضية الشيشان، الحرب على العراق، أما طبعاً الحلبة التي يُجلي فيها وهو مُجلٍ فيها بلا شك فهي حلبة القضية الفلسطينية، هو فارس من فرسانها، من أروع المُدافِعين عن القضية الفلسطينية في كل مراحلها وعن حقوق الشعب الفلسطيني، الرجل مقالاته ودراساته لا تكاد تُعَد كما أُخبِرنا في هذا الصدد، وهو رئيس لجنة العلاقات بين الأوروبيين والفلسطينيين، هو رئيس هذه اللجنة.

السيد سوبودا Swoboda – كما قلنا – شرَّفنا مرتين، واليوم أبى إلا أن يأتي للمرة الثالثة أيضاً، يُسعِدنا ويُشرِّفنا، يود أن يلتقيكم وأن يُلقي بين أيديكم كلمة، فنحن نتأمَّل ونرجوكم أن تُحسِنوا الاستماع إليه، والإصغاء إليه، لماذا؟ ليس للاعتبارات الجيدة السابقة المذكورة، وإنما لأن الرجل تُشَن عليه وبشكل مُتواصِل هجومات شرسة من الجهات التي تعرفونها، والتي تدمغ كل مَن لا يتعاطف معهم وكل مَن لا يُنافِقهم بأنه مُعادٍ للسامية، الرجل موصوم دائماً بأنه مُعادٍ للسامية، ويتألَّبون عليه باستمرار، فنحن كمُسلِمين يُدافِع عن قضايانا من حقه ومن واجبنا – من حقه علينا ومن واجبنا إزاءه – أن نُفهِمه أن هناك مَن يتضامن معك أيضاً ومَن يُسانِدك ومَن يحترم ويُقدِّر ويُثمِّن مواقفك، فنرجو بعد الصلاة إذا لم نكن مُضطَرين اضطرراً حقيقياً أن نبقى في أماكننا وأن نستمع إليه وأن نُحييه تحية تُشعِره بالتساند والتضامن وتقدير المواقف.

اللهم إنا نسألك أن تُلهِمنا الصواب، اللهم ألهِمنا رُشدنا وأعِذنا من شر نفوسنا، اللهم اهدِنا واهدِ بنا، اللهم أرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

اللهم إنا نسألك في هذا المقام الكريم في هذه الساعة المُبارَكة من هذا اليوم الكريم ألا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه وأذهبت غمه وحُزنه يا رب العالمين.

اللهم ارض عنا وأرضنا، وزِدنا ولا تنقصنا، وأكرِمنا ولا تُهِنا، وأعطِنا ولا تحرمنا، وانصرنا ولا تنصر علينا، اللهم انصر على مَن بغى علينا، اللهم إنا ندرأ بك في نحور أعدائنا، اللهم فاكفنا شرورهم، كيف شئت، بما شئت، يا رب العالمين.

اللهم لا تجعل للكافرين على هذه الأمة المرحومة سبيلاً، برحمتك وقوتك وعزتك، يا عزيز، يا جبّار، يا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

____________

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 (15/9/2006)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: