إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وعَظيمنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، أرسله الله – سبحانه وتعالى – بالهُدى ودين الحق على فترةٍ من الرسل وطموسٍ من السُبل وحُلكةً من الأيام والليال ففتح به قلوباً غُلفاً وأعيناً عُمياً وآذاناً صُماً، وهدى به من الضلالة وكفى به من العيلة وأرشد به من العماية وأوضح به ناهجات السُبل، ثم مضى – صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومَن والاه بإحسان – وقد بدَّل الدُنيا وغيَّر العالم ووضعنا على صراطِ المحبة وسبيلِ السلام ودربِ الهداية وتركنا على محجةٍ ليلها كنهارها لا يزيغُ عنها إلا هالك. صلوات ربي وتسليماته عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

عباد الله:

أُوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي مِن عُصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جلَّ من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

 يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ۩ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ۩ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ۩ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الإخوات الفاضلات:

نستروحُ في هذه الأيام والليالي الطيبات المُبارَكات النيّرات الزاهرات العبقات العطرات ذكرى سيد الأنام، ذكرى أفضل خلائق الله أجمعين، ذكرى الرؤوف الرحيم، ذكرى مَن أرسله الله – تبارك وتعالى – رحمةً للعالمين، ولا جرم فهو الرحمة المُهداة والنعمة المُسداة والسراج المُنير، البشير النذير والسراجُ المُنير جاء ليُبشِّر العالم لا بالدم ولا بالسيف ولا بالحروب ولا بالإرهاب ولا بالقتل ولا بالعدوان ولا بالعصبيات والانحصاريات والامتيازات الكاذبة المُدعاة إنما جاء البشيرُ النذير ليُبشِّر العالمين برحمةِ الرحمن الرحيم، قال الله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩، فمن أجل هذا أرسله الله تبارك وتعالى، أما أولئكم الذين كان لابد ولا محيص من نذارتهم فإنما جاء ليُنذِر قَوْمًا لُّدًّا ۩، الذين كفروا بعدما استبان لهم السبيل ولزمتهم الحُجة ووضح لهم البُرهان والدليل إلا أنهم ركبوا رؤوسهم وصاولوا الحق وأهله وعاندوه وتنكَّبوا سبيله البيّنة الظاهرة اللاحبة، فمثل هؤلاء لا جرم أن يكونوا مُنذَرين، وإذ جاء وقتهم وميعادهم فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ ۩، هؤلاء الذين جاء محمدٌ – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – ليُنذِرهم ولا علينا منهم، فلا نُريد أن نخوض في شأنهم في هذا المقام الكريم، إنما نخوض في شأننا وفي شأن أمته وفي شأن أحبابه الذين لبَّوا دعوته ونهجوا نهجه واتبعوا سبيله، نسأل الله أن نكون منهم وأن نُوافيه على حوضه غير مُفرِّطين ولا مُبدِّلين ولا مُغيِّرين ولا مُفتاتين.

لفتني بين كنت أتلو هذه الآيات الكريمات من سورة الجُمعة سر هذا الترتيب المُعجِب، بعد أن امتن الله – سبحانه وتعالى – على هذا النبي الكريم وعلى هذه الأمة المرحومة بالفضلِ العظيم والنعمة السابغة وما خصَّهم به مما ذكره في الآي الكريمات قال مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ۩، فما علاقة هؤلاء الذين حُمِّلوا التوراة بهذه المنّة وبهؤلاء المُمتَن عليهم نبياً وأمته؟!

العلاقة واضحة، كأن الله – تبارك وتعالى في عليائه – يقول لهذه الأمة صادعاً بحقيقة ما ينبغي أن يُغفَل عنها أنه لا يصحُ ولا يسوغُ لمَن أراد لنفسه النجاة وأراد لنفسه الرُشدَ أن يتعزّى بالانتساب كأن يقول أنا مسلمٌ أو أنا مُحمدي، ولا يجوز أن يتعزّى بمثل هذه الأحفال الكريمة، كذكرى ميلاده الميمون وذكرى هجرته وذكرى الإسراء والمعراج وذكرى الإسلام، فالإسلام لا ينبغي أن يكون ذكرى، والحق ما ينبغي أن يكون أحفالاً ومُناسَباتٍ نأتي نتواصى ونتواعظ ثم نأكل الحلوى ونتبادل القُبل والتهاني ونمضي وكأن الأمر لا يعنينا، فنُصلي عليه ونُخالِف هديه، نُصلي عليه ونتنكَّر لما أمر ولما أوصى من وصاياه الحانية البالغة ، فقال الله سبحانه وتعالى وقد عزَّ من قائل “لا تكونوا أمثال أولئكم الذين شبَّهتم بالحمير” أعزكم الله، فما ينبغي لمُؤمِن محمدي أن يكون حِماراً، قال الله مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ ۩، وهكذا سنجد حميراً – وهذه الكلمة عظيمة جداً ولكن الحق أعظم والقرآن أولى – في مَن تزيَ بزي العلماء أو ادّعى أنه من طائفة العلماء، لأن الله في هذه الآية لم يُؤشِّر ولم يُشِر إلى عوام بني إسرائيل إنما تكلَّم صراحة عن علمائهم الذين حُمِّلوا التوراة، وكل مَن سلك منا سبيل العلم وطلبه وتحمله وأداءه فينبغي أن يكون مُتحرِّزاً جداً أن ينضوي تحت لواءِ مثلِ هذه الآية المُدمدِمة المُهجِّنة على علماء السوء، فالمسألة ليست بالعنوانات ولا بالتعزي ولا بالأسامي ولا بالمظاهر ولا بالانتماءات، إنها بالصدق الصادق مع الله ثم مع رسوله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الذي وقف في آخرِ – كانت أول وآخر حجة له – حجة له وهى حجة الوداع يستشهدهم ويستبلغهم قائلاً “اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد”، فشهدوا جميعاً له، لقد أدّى الأمانة وأبرأ ذمته وأفرغها إزاءنا ونحونا، فالباقي علينا وخاصة على العلماء وأهل الذكر وأولي الألباب منا!

هذا هو ما خطر لي وأنا أتلو هذه الآيات الزاكيات، فعلى كل مسلم ألا يكتفي فقط بأن يحتفل وأن يُظهِر سروره والكون كله مسرور بذكرى ميلاده صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، وكيف لا يُسَرُّ وقد جاء – عليه الصلاة وأفضل السلام – والعالم آسيان والعالم شقيان – إن جاز التعبير – والعالم تعبان، مغمومٌ يأكل بعضه بعضاً حيث شريعة الغاب هى الحاكمة عليه والمُستبِدة به وبأهله؟ ولم يلبث إلا يسيراً جداً من السنين – ثلاثاً وعشرين سنة ليس غير – ثم مضى وقد ترك العالم شيئاً مُختلِفاً بالمُطلَق، ترك عالماً يستقبل نهاراً موصول الشروق بالله – سبحانه وتعالى – بعد أن أتى على عالم أبغضه الله تبارك وتعالى، وإن الله – سبحانه وتعالى – كما في حديث مسلم – حديث عياض بن حمار المجاشعي – قد نظر إلى الناس كلهم، أي إلى الدُنيا ومَن فيها فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب لا يزالون مُستمسِكين بعروة الدين الوثقى وبحبله المتين، أخلصوا دينهم لله وصدعوا بأمره، فهؤلاء مُستثنَون، استثناهم الله – تبارك وتعالى – من بُغضته وميّزهم من أهل مقتته، لكنه مقت العرب والعجم، فلما جاء محمد أخرج بمحمدٍ – صلوات ربي وتسليماته وتشريفاته وتكريماته على محمد وآل محمد وأصحاب محمد وأتباع محمد إلى يوم الدين بل إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين – خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، فهى أعظم أمة وأكرم أمة، علماً بأنني لا أتحدَّث عنا نحن، وإنما أتحدَّث عن تلكم الأمة، قال عمر بن الخطاب “مَن سرَّه أن يكون منها فليؤد شرط الله فيها”، فالمسألة ليست عنوانات لئلا نضحك على أنفسنا ولئلا نكذب على أنفسنا، قال الشاعر:

فكم يُعزى إلى الإسلام ذنبٌ                        وكل الذنب ذنب المسلمين

فنستذكر محمداً – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وصحبه وأتباعه – ونُقلِّب صحائف سيرته العطرة الماجدة الآسرة الألق والتنوار ثم نُسقِط ذواتنا على محمد ونُسقِط أنفسنا على محمد، مَن شاء أن يكون إرهابياً أو سمّوه حتى إن شئتم حربجياً قال: النبي كان هكذا، فلا أرى فيه إلا هذا الرجل، وهو رجل السيف والحرب، كيف لا وهو القائل “بُعِثتُ بالسيف” وفي رواية “بين يدي الساعة”؟ فالله ما أرسله إلا بالسيف، أرسله بالحرب والذبح ولذلك هو يقول لهم “أتيتكم بالذبح”، فهم الآن يقولون هذا وهذا شيئ عجيب، ويستنكرون بَادِئ الرأي موقفي هذا ويقولون لي: ما الذي تُنكِر من هذا الحديث الصحيح الذي صحَّحه العلَّامة شاكر والشيخ الألباني وغيرهم وأخرجه أحمد في مُسنَده؟!

لا شأن لي بهذ الحديث وأمثاله، لا شأن لنا مع أمثال هذه الأحاديث التي نجزم نحن جزماً أنها كذبٌ على الرحمة المُهداة والنعمة المُسداة، كذبٌ إذ هى تُضادُ كتاب الله على طول الخط، كذبٌ إذ هى تُناقِض الكلم المعصوم المحفوظ الذي بحمد الله لم نُستحفَظه وإلا لكنا ضيّعناه كما كذبنا على نبينا. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.
الله يقول وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩، والرسول يقول إنما أنا رحمةٌ مُهداة، ونحن نقول أرسله الله بالسيف وجاء للعالمين بالذبح وبالحروب، فهل هذا هو مقصد الدين؟ نعم الحديث أخرجه أحمد وهذا لا يعنينا، لا يعنينا حتى أن ننظر في إسناده وما قيل في عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وأن مَن جرَحه أكثر مِن مَن عدَّله، لا يعنينا هذا الآن ولن يعنينا، لكن يعنينا أنه يتضاد مع كتاب الله على طول الخط تماماً، ومن هنا نجزم بأنه كذبٌ على أرحم عباد الله وعلى أرحم خلق الله، والله – تبارك وتعالى – ما أذِن له ولصحبه بأن يرفعوا السيوف وأن يُقاتِلوا إلا دفاعاً عن أنفسهم وإلا استرداداً لبعض حقهم السليب وإلا لإقامة عمود الدين، قال الله وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ۩، قال عبد الله بن عمر والحديث في البخاري “قاتلنا حتى لم تكن فتنة فلا قتال”.

في أي سقعٍ من أسقاع العالم، في أي بسيط من هذا المعمور أمِنَ المسلم والمسلمة على دينه واستظهر به من غير تخوّف ولا تعتعة ولا استضعاف ولا امتهان ليس له أبداً حُجة أن يحمل السيف على عباد الله وأن يعزو ذلك إلى الرحمة المُهداة، هذا كذب على رسول الله، وطبعاً هكذا يُهضَم الدين وكأن المعركة صارت كيف ننتصر لأنفسنا من أهوائنا ومن أوهامنا ومن هواجسنا، وكيف نُقيم العالم على أهوائنا نحن وعلى ما نُريد!

وهذا العالم يتمتّع ببعض الحُريات وببعض الأفكار، وهذا من حقهم ولذلك هم ينقدون أنبياءهم ويتكلَّمون في كتبهم المُقدَّسة من مئات السنين ونحن نُعوِّل على هذا، فإن تكلَّموا في نبينا وتكلَّموا في كتابنا نرفض، لكن هذا من حقهم، وهم يفعلون هذا فنسأل الله لهم الهداية، فيجب ألا نُقابِل هذا لا بسيف ولا بقنابل ولا بتفجير ولا بكلام فارغ، وإلا سننتصر لأنفسنا كذوات – كمحمد وحسين وسعد وسعيد وهكذا – وسيخسر الإسلام وتخسر رسالته!
اليوم مَن كان يفهم هذا الدين عليه أن يُراهِن إذا أراد أن يُراهِن على الشوق المشبوب والحماسة العارمة والعشق البالغ في قلوب الناس، العشق الذي تنطوي عليه أضلاعهم، لكن لماذا؟!

ماذا يتعشَّق الناس في هذا العصر وفي كل عصر؟!

يتعشَّقون الرحمة والعدالة والتعاطف والإنصاف، وهذا هو الإسلام، فإذا عرفناه هكذا لاشك سيدخل الناس في دين الله أفواجاً كما دخلوا من قبل، وذلك إذا عرضناه هكذا وإذا رآوه هكذا، أما إذا رآوه قتلاً وتقتيلاً وذبحاً وتفجيراً في المسلمين قبل أن يكون في غير المسلمين فهيهات هيهات، وحُقَّ لهم أن يبغضوا هذا الدين إذن، حُقَّ لهم أن يبغضوا ديناً كهذا لا يُبشِّر إلا بالذبح في أهله قبل أن يذبح أعداءه أو الذين لا يعرفونه حتى، فهذا شيئ مُخيف ومحمدٌ بريءٌ من هذا والقرآن بريءٌ من هذا، محمد رحمة العالمين!
لست أفهم وعجبي ليس ينقضي من رجلٍ كان فوق الخلق أجمعين – هو فوق جبريل وميكال، ليس فوق أبي بكر وعمر وأبي جهل وأبي لهب فحسب، بل فوق العالمين، قال الله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩، يُرحَم به العالمون فكيف لا يكون فوقهم؟ هو فوق العالمين – كيف عاش بينهم واحداً منهم ومُتواضِعاً وقريباً وهيّناً ليّناً يسيراً مُوطَّأ الأكناف، فهكذا عاش بينهم، عاش مع فقيرهم ومع غنيهم، مع سيدهم ومع عُبدانهم، مع رجالهم ومع نسائهم، مع كبيرهم ومع صغيرهم، مع عالمهم ومع جاهلهم، وأفاض ونضح – ولا أقول رشح بل نضح – من رحمته الواسعة التي تسع العالمين – صلى الله عليه وسلم – ولذلك خصَّه الله بإسمين من أسماء المولى الجليل فقال بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ۩.

محمدٌ – صلوات ربي وتسليماته عليه – كان لا يُقايض بسويعةٍ بل بدقيقة ينصبُ فيها قدميه الشريفتين في محرابِ العبادة مُستقبِلاً وجه ربه وناعماً بلذة المُناجاة وسمو التلاوة وسحر المُصافاة، فلا يستبدل بهذا الدنيا كلها عروشاً وتيجاناً وذهباً ولؤلؤاً وفضة، ولكن محمداً هذا بهذا النعتِ كان يعجل في صلاته ويُوجِزها إذا سمع بكاء صغير رحمةً بهذا الصغير ورحمةً بالقلبِ الكبير “قلب الأم”، قال النبي في رواية له “إِنِّي لأَقُومُ إِلَى الصَّلاةِ، وَأُرِيدُ أَنْ أُطَوِّل فِيها – أي أُطيل فيها – فَأَسْمعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجوَّزَ فِي صلاتِي”، أي أنه يعجل في صلاته، فما هذا القلب العجيب؟!

هذا قلبٌ عجيب، لكن لست أفهم في الحقيقة – ومَن كان يفهم فليُفهِّمني – إلى اليوم ولا أرى هذا في قيادات المسلمين إلا مَن رحم الله مِمَن لم نره، فنحن لا نستطيع أن نكون هكذا لكن ينبغي أن نُحاوِل الكون هكذا وذلك إذا أردنا أن ننجح وإذا قلنا أنه قدوتنا وأنه أسوتنا، فهو أسوتنا في هذه المعاني أيضاً وليس في إقامة دولة إسلامية وليس في تسيير الجيوش فقط، فعلينا أن ننتبه إلى هذا إذن،وهذا الذي لست أفهمه لا أظن أن من اليسير على أمثالنا من الصغار، صغار القلوب وصغار العقول أن نستوعبه، فنحن صغار، قلوبنا صغيرة وعقولنا صغيرة ومنادح أنظارنا ضيقة، أي منادح النظر لدينا ضيقة جداً، ولست أظن أننا مُهيّأون لنفهم كيف كان يُمكِن له – صلى الله عليه وسلم – أن يُزاوِج بكل يسر وبكل سلاسة وسهولة بين الأهداف الكبار والغايات العظام وحياطة عقيدة بعد ترسيخها وإخراج أمة من الظلمات إلى النور وبناء دولة ومُكامَعة قوى عُظمى في الشر والخير والوثنية وبين هذا الاتساع والرحمة، فمع كل ذلكم كان يتسع قلبه لهؤلاء الصغار  ويلتفت إليهم ويُشرِّع لهم  ويتحدَّث عنهم ويُوصي بهم، وكم وكم وكم تحدَّث وأوصى وشرَّع لهم وفي حقهم، فكيف اتسع لهذا؟

واليوم تجد الرجل زعيماً لحزبٍ سياسي ليس عنده حتى وقت لأولاده ويقول ليذهبوا إلى الجحيم لأن الأمة أولى، وفي الحقيقة ليست الأمة هى الأولى وإنما هو أولى، وعلينا أن ننتبه إلى هذا، فهؤلاء يُغالِطون أنفسهم، ونقول لمَن هو مثلهم “إذا ضيَّعت أولادك فأنت لسواهم أضيع”، فهو ليس عنده وقت لأولاده ولا لزوجه ثم تنشأ المشاكل بعد حين، لأن الهدف كبير ويستحق التضحية، فهذا حزب وعنده برنامج، وبرنامجه قد يفوز ونعتلي سُدة الحكم ونُصبِح خلفاء مسلمين في دُويلة أو دولة صغيرة نحكم بشريعة الله، لكن أين الرحمة بإخوانك وبأصدقائك وبأعدائك وبأبناء المسلمين؟!
لا يُمكِن أن يُقارَن محمد  – صلى الله عليه وسلم – بأولئكم الذين كانوا وما زالوا على استعداد أن يشهدوا ذوبان وفناء المُهج، فآلاف المُهج تذهب سُدى في سبيل خدمة أهداف قد تكون صغيرة وقد تكون كبيرة نوعاً ما، ولكنهم لا يُبالون لسقوط الضحية وهذا ثمنٌ مفروض، وهذا منطق مادي، هذا منطق الشموليين، وهذا المنطق أفهمه حين يستعلن به أمثال موسوليني Mussolini وهتلر Hitler وفرانكو Franco وستالين Stalin وكاليجولا Caligula ونيرون Nero وأمثال هؤلاء ولكن لا أفهمه ولا أستطيع ولا أُريد أن أفهمه ولا أُحِب لمسلم أن يفهمه حين يستعلن به مسلم يحمل برنامجاً للأمة، فعن أي برنامج تتحدَّث أنت يا أخي؟ت حدَّث بمنطقٍ آخر، فمحمد كان رحمة العالمين وكان يتسع لكل هؤلاء، لكن لا أدري دائماً – وهذا يُؤرِّقني – لماذا نُخفِق ونفشل في ترجمة هذه الرحمة، فديننا هو دين الرحمة، لكن لماذا نُخفِق؟ يبدو لأننا لم نستشعر هذه الرحمة ولم نجدها لأننا لم نبحث عنها، أما هو فكان على الضدِ منا تماماً.

أبو ذر يقول “سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يا رسول الله دُلّني على ما يُنجيني من عذاب النار”، أي ما الذي يُنجي العبد من عذاب النار؟ علماً بأن الحديث في البيهقي في شُعب الإيمان، قال “فقال لي – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -الإيمان إيمانٌ بالله”، فالقضية هى الإيمان، فعليك أن تُخلِص التوحيد لله – تبارك وتعالى – ربوبيةً وإلهيةً، فعلينا أن ننتبه إلى أن المقصود ليس الإيمان تقليداً ومُحاكاةً وتردداً لما نسمع أو لما نقرأ فنقول أن الإيمان كذا وكذا وكذا ويتفرَّع منه كذا كذا كذا ورأي الأشاعرة والماتريدية وابن تيمية كذا، هو ليس هكذا أبداً، ولذلك قلت لإخواني قُبيل أيام أنني أرى كثيراً من الناس – اللهم لا جعلكم الله منهم ولا أنا – لا يُؤمِنون بالله في الحقيقة، فإذا أردت أن تُشرِّح حقيقتهم العقدية ستجد أنهم لا يُؤمِنون بالله، ولكن هم يُؤمِنون بالإيمان بالله، فما معنى أنهم يُؤمِنون بالإيمان بالله؟!

الناس يُؤمِنون بالله، فأهل حي الواحد منهم وبلدته مسلمون ويُؤمِنون بالله، لذلك هو يُريد أن يكون واحداً منهم طبعاً، ولا يُريد أن يُخالِف الجمهور فهو يُؤمِن بما يُؤمِنون به، وكل واحد منهم إلا مَن رحم الله من عالمٍ مُحقِّق وولي نحرير مُدقِّق أراد أن يُبرّهِن إيمانه وأن يُحقِّقه، فليست الأمور بالدعاوى كما قال الرسول لحارثة: انظر يا حارثة فإن لكل قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ لأن لا يُمكِن أن تدّعي الإيمان بالكلام وأن تقول أنا أُؤمِن بالله واُحِب الله واُعظِّم الله والله في قلبي أعظم من كل شيئ، فالنبي كان سيُطالِبك حين تقول هذا أو بعضه مُباشَرةً قائلاً “هات الحقيقة، أعطنى البُرهان، ما حقيقة هذه الدعوى؟”، أما نحن فنُطيل حبل الدعاوى وهذا كلام فارغ، ولذلك نحن لا نُؤمِن بالله حقيقةً ولكن قطعاً نُؤمِن بالإيمان بالله، لكن مَن يُؤمِن بالله حقيقةً؟ نسأل الله أن يُكثِّرهم وأن يُبصِّرهم وأن يُبصِّر بهم.

ونعود إلى حديث أبي ذر لنُكمِله، حيث قال النبي له “الإيمان إيمانٌ بالله”، فقال أبو ذر “ومع الإيمان عمل؟”، قال “تُنفِق مما رزقك الله”، قال “فإن كان فقيراً لا يجدُ ما يُنفِق؟”، قال “يصنع للأخرق”، والأخرق ليس هو الأحمق أو الأهبل، ولكن من المُمكِن أن يكون الأخرق إنساناً ذكياً جداً جداً جداً ومن المُمكِن أن يكون حاصلاً على دكتوراة في الطب لكنه أخرق، فهو أخرق – مثلاً – في بناء البيت أو في استنباط الماء من الأرض، فالأخرق هو الذي لا صنعةً له، فالذي لا يحُسِن صنعة أو صنعة ما  بيُسمّى بالأخرق بخصوص هذه الصنعة، لذلك عليك أن تُساعِده، فإذا كان لا يستطيع أن يلف شيئاً – مثلاً – لفه له، كأن لا يستطيع أن يلف هدية، لفها له بشكل جميل وغلِّفها له لأنه أخرق في لف الهدايا مثلاً، فهذا هو الدين الذي كله رحمة وعمل، فهو ليس مُجرَّد كلام ونظريات وفلسفات، وإنما هو عمل بين العباد وسلوكات، وهذا معنى أن النبي قال له تصنع للأخرق، فقال أبو ذر “فإن كان لا يُحسِن يصنع؟”، أي أنه هو أيضاً أخرق، قال “يأمر بالمعروف وينهى عن المُنكَر”، فقال “إن كان لا يستطيع؟” كأن يكون جباناً ويخاف من الأمر بالمعروف أو أنه يرى نفسه أقل من أن يأمر وينهى لأنه ربما جاهل بالقواعد والتعقيدات التي يسمعها مثل أنه لا يجوز إنكار المُنكَر إلا أن يكون وقع عليه الاتفاق وهكذا قال العلماء، لكن هو لا يعرف أين اتفقوا وأين افترقوا، فحُقَّ له أن يخاف،  ورحم الله امرئٍ عرف قدر نفسه، لذلك قال أبو ذر بالتفصيل “فإن كان لا يستطيع أن يأمر بمعروف ولا يستطيع أن ينهى عن المُنكَر؟”، فقال “يا أبا ذر أما تُريد أن تترك لصاحبك من خير؟”، بمعنى كيف أن كل هذه الأشياء لن تصلح؟!
وانظر الآن إلى التعليم، فالنبي لم يقل له يا أبا ذر أنت مُجادِل أو جادلتني فأكثرت جدالي، فما الذي تبغي؟ لم يقل له هذا أبداً وإنما لاطفه وقال له “يا أبا ذر أما تُريد أن تترك لصاحبك من خير؟”، واليوم في علم النفس السلوكي من أحسن أساليب التحبّب والمُلاينة إلى الناس – مثل الملاينة إلى زوجك وإلى أولادك وإلى تلاميذك – أن تأتي بما لا يُتوقَّع، كأن تأتي بشيئ أشبه بنُكتة مثلاً، فهذا شيئ جميل جداً، والنبي كان يُحسِن هذا تماماً ولذلك قال له “يا أبا ذر أما تُريد أن تترك لصاحبك من خير؟”، ثم قال “يا أبا ذر فليكف أذاه عن الناس”، أي إذا لم يكن لديه القدرة أن يكون إيجابياً وليس عنده أي شيئ إيجابي ليفعله فلا يفعل الشر إذن، وليكف شره عن الناس وأذاه عن الناس كما نقول، وهذا معنى “يا أبا ذر فليكف أذاه عن الناس”، فقال: يا رسول الله وهذا يكفيه؟ أو إن فعل يدخل الجنة؟

واسمعوا الآن الختام الذي يُتوَّج به الحديث الآن، فتُصبِح الخاتمة هى المُقدَّمة وهى العنوان وهى الرأس، قال صلوات ربي وتسليماته عليه “يا أبا ذر ما مِن  مُؤمِن يُصيب خصلةً من هذه الخصال إلا أدخلته الجنة”، انظر مدى عظم هذه الرحمة، فلم يقل له عليك أن تحوط الدين كله وعليك أن تأخذ بالدين عزائماً ورُخصاً كله وإلا فأنت من الهالكين، ولكن حين يتحدَّث بعض علمائنا الأفاضل حقيقةً مثل العلّامة القرضاوي – حفظه الله – عن الحد الأدنى ومفهوم الحد الأدنى من الإسلام ويقول “اقبلوا من الناس الحد الأدنى” يغضب غاضبون آخرون وترم أنفوهم ويقولون أن الحد الأدنى ابتداعٌ في الدين والدعوى، فمن أين أتيتم بهذا؟

نحن أتينا به من محمد – صلى الله عليه وسلم – من خلال عشرات النصوص التي يُعلِّمنا فيها ألا نحمل الناس على ما يستطيعه ذوو العزمات والهمم الكبار منا، فالناس ليسوا سواءً، لذلك يُعلِّمنا ويهدينا أن نقبل منهم ما يستطيعون، فبما أنهم مُؤمِنون مُوحِّدون اقبلوا منهم الخير الذي يُسِّرَ لهم ويُسِّروا له، وكلٌ مُيسَّرٌ لما خُلِق له، وهكذا!
عن كُريب الضبي فيما أخرج ابن خزيمة وأخرجه أيضاً البيهقي في الشُعب قال: جاء أعرابيٌ إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال “يا رسول الله دلّني على ما يُقرِّبني من الجنة ويُباعِدني من النار”، وانظروا إلى الجواب، فهذا الرجل – صلى الله عليه وسلم – كان رجلاً عجيباً وليس رجلاً عادياً، ومع ذلك يقولون هو مُجرَّد  بشر، نعم هو بشر ولكن ليس مثلنا لأنه يُوحى إليه، وبعبارة “يُوحى إليه” لم يعد مثلنا حقيقةً، فكيف يكون مثلنا؟ فأعظم ولي  – كثَّر الله أولياءنا وصالحينا وعارفينا –  في هذه الأمة – والله العظيم – يتمنى لحظة يلوح له فيها نورٌ هكذا من عالم الغيب، كأن يسمع صوت ملك أو يرى وجه الحبيب المُصطفى في المنام، أما الحبيب المُصطفى نفسه فكان نديمه جبريل، فيأتيه جبريل صباح مساء ويراه عياناً، وبعض أصحابه وأزواجه رأين جبريل ولكن لا في شكله الحقيقي وإنما في شكل بشر، ولكن رآوه أيضاً لعظم مقاماتهم، أما النبي فكان جبريل نديمه، وكان يغدو ويروح عليه، فمحمد كان شيئاً فوق الخيال وفوق ما نتصوَّر، ولذلك تعساً وتباً لكل أولئكم الذين أرادوا أن يرفعوا الصُلحاء والأئمة والعلماء إلى قريب من مقام محمد، مَن هم يا أخي؟ أين هم وأين محمد؟ هذا شيئٌ مُختلِف، وما هداهم الله إلا بمحمد، وما كانوا إلا بمحمد، ولولا محمد ما كانوا شيئاً، لا ذهبوا ولا جاءوا كما يُقال، أي لا راحوا ولا جاءوا، فهذا هو محمد إذن، هو رجل يُنادِم الملأ الأعلى صباح مساء، كأن عنده خط ساخن مع الصفيح الأعلى مُستمِر، هو خلقٌ عجيب – صلوات ربي وتسليماته عليه –  ولكن هذا الخلق العجيب لم يُعنِتنا، فهل تُريدون أن تروا العنت؟ تُصيبونه في المُلتزِمين، فكلما رأيت الشيخ أكثر إلتزاماً وأكثر حيازةً وأخذاً وحياطة للسُنن والمحاب والأشياء الطيبة يكون أكثر تعنتاً، وهذا من حُسن نيته المسكين ولكن من ضيق أفقه ومن قلة رحمته أيضاً، فعلينا أن ننتبه إلى أنه لو كان رحيماً ما فعل هذا، واقرأوا موارد الرحمة في كتاب الله لتعلموا هذا، ولكن نعود حتى لا  نُضيِّع حديث الضبي، انظروا الى جواب النبي –  صلى الله عليه وسلم – قُبال السؤال الذي طرحه هذا الأعرابي السائل، فالسؤال كان عن عمل يُقرِّب من الجنة ويُباعِد من النار، وهذا سؤال كبير جداً وهائل، لكن لم يقل النبي بصيغة المُتبجِح أستطيع أن اُجيبك بما يملأ عشر مُجلَّدات، لأن الأعرابي لا يُريد هذا، وإنما يُريد جواباً يستعصم به، فقد كثرت عليه شُعب الدين كما في حديث إعرابي آخر، فقال صلى الله عليه وسلم “تقول العدل وتُعطي الفضل”، وانتهى كل شيئ، صلوا عليه إذن، علماً بأن هذا الشيئ ليس سهلاً، لكن يجب أن تعدل وأن تقول العدل، اعدل ولو على نفسك ولو على أبيك وأمك، قال الله وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا  ۩، اعدل ولو على أبيك أو أمك، قل العدل وقل الحق ولو على نفسك، قل “نعم  أنا مُخطيء، أنا البادئ والبادئ أظلم، اللهم فاشهد هو بريءٌ وأنا ظالم”، فهكذا تدخل الجنة وتتباعد وتتجافى – بإذن الله – من نار جهنم، ولكن مَن يفعل هذا؟ ولذا كان الأعرابي أصدق منا، فقال “لا أستطيع”، وهذا الأمر يجب أن ننتبه إليه، فالنبي قال له “تقول العدل وتُعطي الفضل”، ولكن ما هو الفضل؟ قال الله وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ ۩، أي ما فضل عن حاجاتك، فأنت أكلت وشربت ونعمت ودفعت، إذن أعط الزائد لكي تدخل به الجنة، فلا تُراكِم كل هاته الأشياء ثم تموت غداً وإلا سوف تندم، والله العظيم لتندمن، أعط وتصدَّق وارضخ وتحرَّر من ذاتك، كُن أكبر من ذاتك ومن أوهامك ومن مخاوفك ومن مخاوف المُستقبَل ومخاوف العيلة ومخاوف الفقر وكل هذا الكلام الفارغ، كُن مُؤمِناً صادقاً مع الله، أرِه الصدق من نفسك بالعمل لا بالقول لا بالدعاوى، إذن قال النبي “تقول العدل وتُعطي الفضل”، فقال “يا رسول الله لا أستطيع أن أقول العدل في كل ساعة ولا أستطيع أن أُعطي فضل مالي”، أي أن هذا صعب علىّ لأنني رجل بخيل، فلا أستطيع – والله – أن أقدر على إعطاء الفضل، وهذا يدل على أنه كان رجلاً صادقاً، رضيَ الله عن هذا الأعرابي، ونحن نحتاج إلى أمثال هؤلاء الصادقين، فهو صادق ولا يُريد أن يتحمَّل ثم يُصبِح حِماراً – أكرمكم الله – كما قال الله حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ ۩، لذلك قال أنه لا يستطيع أن يتحمَّل هذا، وهذا يدل على صدق تلاميذ محمد، قال الله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ ۩ـ حيث وضعها الله في عرب كانوا ذوي صدق ونخوة وقوة شخصية، فلا يُوجَد كذب أو  تملّق أو ازدلاف أو ضعف شخصية أو وعود كاذبة، لذلك قال الأعرابي “لا أستطيع يا رسول الله أن أقول العدل في كل ساعة ولا أستطيع أن أُعطي فضل مالي”، ولم يقل في كل ساعة لأنه يعرف نفسه، فقال صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم “فتُطعِم الطعام وتُفشي السلام”، أي كُن مُسالِماً وسالم كل الناس، وتُفشي السلام لا تعني أن تقول السلام عليكم ثم تُعطيه على وجهه، ولا تعني أن تقول ثم تُسيء وتقول وإذا قال لي واحد أقول له عشرة، فأنت  تكذب على نفسك إذن، فعليك أن تُفشي السلام بأن تكون رجلاً مُسالِماً، كُن رجل السلم، وهذا هو فضلك، ليدخل الجنة أصحاب الفضل فيُهرَعون إليها فتسألهم الملائكة ما كان فضلكم؟ فيقولون “كُنا إذا جُهِل علينا حلمنا، وإذا أوذينا صبرنا، وإذا قدرنا عفونا”، فيُقال “ادخلوها طبتم خالدين”، فهذا هو السلام إذن، وليس السلام أن تقول السلام عليكم ولا ينجو أحد من لسانك أو من يدك أو من كذبك أو من خداعك أو من ختلك عن نفسه وعن عِرضه وعن ماله، فما هذا؟!

وأول ما جاء النبي إلى المدينة وهُرِعَ الناس إليه قال الحبر اليهودي عبد الله بن سلّام  – رضيَ الله عنه وأرضاه – وكان لا يزال يهودياً “كنتُ مع مَن هُرِع، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذّاب”.

لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيّنَةٌ                          لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ 

فوجهه ليس كالقمر بل هو أجمل، لأن فيه نور إلهي، فهذا هو النور المحمدي يا أخي، فهو رآه على القصواء، وقد اكتفى بثلاث كلمات قصارعظيمات مُبارَكات فقال “أيها الناس أفشوا السلام – فهذا دين السلام ودين الرحمة كما قلنا، فلا مجال للقتال أو الاقتتال أو الذبح، وإنما سيعم السلام، فلم يقل فقط كلمة السلام وإنما قال أفشوا السلام – وأطعموا الطعام – لأن هناك من الناس مَن لا يجدون ما يأكلون، فهم فقراء لا بيوت لهم ولا أكل ولا ما إلى هنالك، لذا ادفعوا لهم واكفلوا أنفسكم، ارحموا بعضكم بعضاً، فهذا هو معنى أطعموا الطعام، وليس المقصود هو العقيقة أو إفطار صائم فحسب، لأن هذه خصلة تمتد في أنحاء المُجتمَع وتضاعيفه، فيُرمِّم المُجتمَع بعضه بعضاً ويُرمِّم أنحاءه بها، فلا يجب أن يكون هناك مَن يشحذ أو مَن هو عارياً أو مَن ليس له بيت، فهذا هو المُجتمَع المسلم، وهذه هى رسالة النبي، هذا هوالمانيفستو Manifesto المحمدي، فالمانيفستو Manifesto تمثَّل في أنه أول ما جاء إلى المدينة قال ثلاث كلمات فقط – وصلوا بالليل – آخر شيئ العبادة، فالنبي جعلها ورتَّبها في النهاية، فهذه هى صلاة الإخلاص للمُخلِصين – والناس نيام ، تدخلوا جنة ربكم بسلام”، فعلم عبد الله أنه نبي وأسلم، وهو أعظم علماء اليهود في المدينة لذلك أسلم لتوه، فثلاث جُمل كافيات مع هذا الوجه المُنير لكي يُسلِم، فهذا هو البُرهان، هذا هو البشير وهذا هو النذير، صلى الله عليه وسلم.

إذن النبي قال للأعرابي “تُفشي السلام وتُطعِم الطعام”، فقال “هذا والله شديدٌ يا رسول الله”، أو قال “أشدُ من الأول”، أي أنه لا يقدر على هذا لأنه أعرابي، وسمعنا مولانا الشيخ العلّامة الكُبيسي عندما قال “أنا لم أكظم غيظي في حياتي مرة”، فلابد أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه، وهذا الأعرابي كان صادقاً فقال له أنه لا يستطيع أن يُفشي السلام، فإذا ضايقه أحدهم سوف ينتقم لنفسه لذا لن أُعطيك وعداً بأنني سوف أُفشي السلام لأنني لا أقدر على هذا، وهذا معنى أنه قال “هذا والله شديد”، أو قال “أشدُ من الأول”، فقال النبي “يا أعرابي هل لك من إبل؟”، فقال “نعم”، قال “فخُذ بعيراً من إبلك وسقاءً واغد على قوم ليس لهم سقاء، لا يشربون إلا غِبة”، لكن ما معنى هذا الكلام؟!

النبي قال له “خُذ بعيراً من إبلك، واحلب كل يوم في السقاء – أي في القربة أو الإيوان أو إناء – واغد على أُناس لا يشربون إلا غِبة، فهم فقراء يوم ولا يجدون ما يشربونه يومياً”، فهذا هو معنى الغِب.

غِبْ و زُرْ غبًّا تزِدْ حبّـــــــا فَمَنْ                   أَكثرَ التَرْدادَ أضْناهُ المللْ

واسمعوا إلى هذا الكلام العظيم، فوالله لا يقول هذا إلا نبي، قال له “واغد على قومٍ لا يشربون إلا غِبة – أي اسقهم كل يوم-  فلعلك يا أعرابيُ ألا يهلك بعيرك وينخرق سقاؤك  – أي بعد سنتين أو ثلاث سنوات أو أربع سنوات أو خمس سنوات أو تسع سنوات – إلا وقد وجبت لك الجنة”، الله أكبر، ولذلك كبَّر الأعرابي كما كبَّرنا، قال الرواي الضبي “فولى الأعرابيُ يُكبِّر”، أي يقول “الله أكبر، الله أكبر”، فهذا شيئ عظيم، لأن من السهل أن أُسقي أسرة كل يوم وبالتالي تجب لي الجنة.

 لكن لا يجب أن يفعل هذا مرة، وإنما يفعل هذا حتى يهلك البعير أو قبل ذلك أو ينخرق السقاء، والسقاء لا ينخرق في سنة أو في سنتين ولكن ربما في عشر سنين أو في خمس عشرة سنة، فيظل يفعل هذا يومياً لله عز وجل، وهذه مُجاهَدة طبعاً، وهذا الجهاد في الله حق الجهاد.

قال الراوي “فولى الأعرابي يُكبِّر – يقول الله أكبر، الله أكبر – ثم استُشهِد”، إذن وجبت له الجنة لأن يبدو أنه فعل هذا، فالأعرابي كان صادقاً ولذلك كبَّر هنا لأنه يستطيع أن يفعل هذا، ولذلك على الواحد منا والواحدة أن يسأل وتسأل نفسها ما الذي أستطيعه؟ ماذا أستطيع أن أعمل للإسلام ولأمة الإسلام ولإخواني ولأمتي؟ ويجب أن يكون هذا على مُستوى هموم الأمة وأحزان الأمة وآلام وقروح الأمة، فعظمة محمد تمثل في أنه حتماً كان أكبر من ذاته، لكن نحن – وأنا أولكم – أصغر من ذواتنا، فذواتنا تحكمنا هى وأهدافنا ومُخطَّطاتنا وآمالنا وأطماعنا الحقيرة التي تموت معنا ويأكلها الدود كما يأكلنا والله العظيم، أما الرسول فحتماً كان أكبر من ذاته بكثير، وكان أكبر من أسرته، وكان أكبرمن بني هاشم أجمعين، فكان أكبر منهم ومن عشيرته ومن قبيلته قريش بل وأكبر من جزيرته وأمته العربية المسلمة، فهو رجل العالمين –  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩ – وهو يُشرِّع ويُفكِّر على مُستوى العالمين ويتكلَّم على مُستوى العالمين، والله معه دلائل وواضحات وخُطط وبيّنات تكفي العالمين في هذا الزمان وفي كل حين!

ولعلكم تذكرون مُحاوَرة العلّامة البليغ والكاتب الهندي الشهير صدّيقي  – رحمة الله عليه – مع الفيلسوف الإيرلندي المسرحي العالمي جورج برناردشو George Bernard Shaw، وأنا قرأت هذه المُحاوَرة كاملةً وهى مُحاوَرة لطيفة، فهى ليست كذباً أو مُجرَّد كلمات تُقال في الإنترنت Internet، علماً بأن برناردشو  Bernard Shaw  كان إنساناً مُثقَّفاً وعُمِّرَ طويلاً، فعاش فوق التسعين سنة، وبالتالي هو خبر الحياة وحلبها أشطرها حلوها ومُرها، وحين قرأ ما يتعلَّق برسول الله وتعرَّف قليلاً على جانب يسير من هذه العظمة التي لا يُحيط بها مُحيط ولا تُحَد بحد قال “ما أحوج البشرية في هذا القرن العشرين المُتصِّرم  إلى رجلٍ كالنبي العربي محمد بن عبد الله يحل لها مشاكلها كلها من عند آخرها وهو يحسو فنجاناً من القهوة”، يُريد أن يقول أنه في ثلاث ثوانٍ أو في دقيقة واحدة يستطيع أن يُعطيك الحل لأي شيئ تُريده، ولكن هذا إذا فهمت محمداً وليس إذا أسقطت نفسك على محمد فيُصبِح محمد هو أبو العبد أو أبو سعيد أو أبو سلوى ويُصبِح هذا هو الرسول وهذا هو الإسلام، هذا غير صحيح، فعلينا أن نبحث في محمد عن ذواتنا الضائعة، فنحن ضائعون!

ابحث عن ذاتك الضائعة الحقيقية الإلهية الكونية في محمد، ولن تجدها دُفعة لأنك لن تُحيط به دُفعة، وإنما ستجدها بالتفاريق شيئاً فشيئاً، فتُحاوِل أن تُقارِب هذه الشخصية العظيمة وهذا الشخص الذي أعطى ولم يأخذ يوماً، فالرسول لم يأخذ أي شيئ، هو – والله – عاش ومضى دون أن يأخذ منا شيئاً، بل أنه وقف يوماً إلى جانب بعير من بعير الغنائم والسبي وأخذ وبرة من جانبه وقال “هذا المال مالكم وأنتم أحقُ به، وليس لي فيه إلا مثل هذه الوبرة، وهذه مردودة عليكم”، أي أن حتى هذه الوبرة لا يُريدها وسوف يُعطينا إياها أيضاً، فهكذا أفهمنا أنه جاء ليُعطي لا ليأخذ، فلم يأخذ شيئاً أبداً، وقدر الله أنه لم يُعطه الكثير مما يُعطي الناس، فأعطاه أولاداً – أبناء وبناتٍ – ثم استلبه إياهم إلا فاطمة وأدركته بعد ستة أشهر بسرعة، وهو كان يعلم هذا، وهذا أعظم ما يُصاب به الإنسان في حياته، وهو أن يُصاب في ولده، فنسأل الله أن يحفظ أولادكم وأهليكم ويحفظنا أجمعين، لكن القدر فعل هذا لأن الله يُريد أن يُوفِّر حظه في الآخرة، لا يُريد أن يجعل له حظاً في الدُنيا، وأنا أرى أن أهل بيته – عليهم السلام – من ورائه – والله العظيم – فُعِلَ بهم ويُفعَل بهم إلى اليوم تماماً ما يتوفَّر به حظهم – إن شاء الله – يوم القيامة، حيث حماهم الله عن أشياء كثيرة، لذلك ابن عمر – رضوان الله عنهما – وقف مع سيدنا الإمام الحسين – عليه السلام – وقال له “يا أبا عبد الله أنت غادٍ إلى هذه البلدة – أي الكوفة –  وأنا أقول لك – أنا ناصح أمين – أنتم أهل بيتٍ حامكم الله من هذه الدُنيا” أي أنه لن يتحصَّل على الحكم، والله لا يُريد هذا لكم، لا يُريد لكم لُعاعات ووساخة الدُنيا، فأنتم أُناس مُطهَّرون من طبق مُختلِف تماماً، ولذلك اتركوا الحُكم والسياسة والقرف لبني أُمية ولأمثالهم لأن هذا ليس لكم، وفعلاً – سُبحان الله – لم يكن لهم، فأمثال مُعاوية بن أبي سُفيان الذي أسلم في آخر ساعة أصبح هو كل شيئ، أما أهل بيت رسول الله فكانوا يُذبَحون ويموتون بالسُم وبالذبح. 

فهكذا هو رسول الله الذي أعطى ولم يأخذ، وهؤلاء هم أهل بيته الذين يُضطهَدون إلى اليوم، وآخرهم حبيب قلبي العلّامة المُفكِّر المُثقَّف المصري العظيم مُصطفى محمود، الذي يسحرني – والله العظيم – بلهجته الصادقة وصوته الرخيم الحنون، وهو لا يتكلَّم الفُصحى دائماً لأنه لا يُريدها، هو يتكلَّم مُعظم كلامه مشوب بالعامية لأنه لا يُحسِن الفصحى حقيقةً نحواً وصرفاً، ولا يُحسِن حتى تلاوة الآيات كما هى، وأنا أعرف هذا لأنه يغلط كثيراً جداً على التلفزيون Television ولكنه كان مُثقَّفاً كبيراً جداً جداً دونه كثيرُ بل أكثر مُثقَّفي العرب والله العظيم، فعلينا أن ننتبه إلى هذا لأن بعض الناس يحقره ويقول لك أنه لا يعرف التلاوة وأنه يُخطيء في آيات من جزء عم، وهذا صحيح، فنعم هو يُخطيء ولا يعرف التلاوة وقد ينصب ويرفع في غير محل النصب والرفع فيقرأ بطريقة غالطة ولكنه كان مُثقَّفاً رهيباً، وكان رجلاً له فكر عميق جداً جداً جداً، فهو شيئ غير عادي – رحمة الله عليه  – ولكنه لم يفرغ لهذه الأشياء، ولو أراد أن يفرغ لها لتعلَّمها في سنة أو سنتين ولحفظ القرآن والكتب الستة وحفظ النحو والصرف ولبدأ يتشدَّق كبعض المُتشدِّقين دون فكر أو عمق أو أي شيئ، فجيب أن ننتبه إلى هذا جيداً حتى نفهم لأنني أُحِب أن أضع الأشياء في مواضعها!

هذا الرجل اكتشف في آخر حياته – طيَّب الله ثراه وروَّح الله روحه ورحمة الله عليه في العالمين أي والله وفي الصديقين إن شاء الله – بالنسب المُتصِل أنه من سُلالة رسول الله، فهو رجل شريف، ثم رشَّحته نقابة الأشراف في مصر كالرجل رقم واحد من الأشراف الأكثر تأثيراً في العالم كله في سنة ثلاث وتسعين وألف وتسعمائة تقريباً، وهذا الرجل مات ولم يُخلِّف لأولاده شيئاً، لديه ولدان فقط – ابن وبنت – قالا له: يا أبتي ماذا تركت لنا؟ قال “تركت لكم الله ورسوله”، وكان عنده ملايين ولكنه بنى مُستشفيات ومساجد ومصحات وأشياء كثيرة جداً للمسلمين بها، وعاش ومات في شُقة صغيرة مساحتها  تصل إلى ثمانين متر مُربَّع فقط في حين أنه كان يستطيع أن يمتلك مئات الفلل بملايينه، واشترى تلسكوباً Telescope فضائياً – تلسكوب Telescope فلكي – لكي يرقب به عظمة الله في السماء وما حوت، لكن حتى الجمعية التي يُقال أنها مُختَصة بتخريج تراثه استولت على التلسكوب Telescope ولم تشأ أن تجعله في تركته ليتقاسمها ابنه وبنته وقالوا “هذه لنا وللجمعية”، فقال أولاده “إنا لله، الله المُستعان”، فبكيت وقلت “سبحان الله، هذا من أواخر أهل البيت، فيُظلَم حتى في ماله الرجل، وهذ شيئ غريب”، فما هذه الأمة يا أخي؟ يا أخي ارعوه على الأقل في ابنه وابنته أمل المُحجَّبة الطيبة، لكن هذا هو حال أهل بيت رسول الله، فهم مساكين يُعطون – والله العظيم – ولا يأخذون لأن فيهم حظٌ كبير من محمد – صلى الله على محمد وآل محمد -، فاللهم اجعلهم شفعاء لنا يوم القيامة. 

محمد إذن جاء بشيراً لكي يُبشِّر بالرحمةِ والنورِ والخيرِ والحبورِ والسرورِ، فبشَّرنا بأن مَن في قلبه مثقال حبة – مثقال ذرة – من إيمان سيخرج من النار ويدخل الجنة إن شاء الله تعالى لأننا أمة التوحيد أنتم، وبشَّرنا أيضاً حين حكى لنا قصة الرجل الذي قتل مائة نفس – تعرفون هذه القصة في الصحيحين – ثم كتب الله له المغفرة لما علم منه صدق المتاب، حيث تاب الرجل توبة حقيقية، وهو جاهل وقاتل ومُجرِم لكنه تقطَّع حسرات على نفسه وتاب الله عليه ففازت به ملائكة الرحمة، ومحمد حكى هذه القصة العجيبة في الصحيحين لكي يُبشِّرنا، ومحمد هو الذي أخبرنا أن الله – عزَّ وجلَّ – يبسط بالليل ليتوب مُسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل وذلك إلى أن تطلع الشمس من مغربها،ومحمد هو الذي حكى لنا عن رب العزة – علماً بأن الحديث من أفراد مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة – أنه عزَّ وجلَّ يقول “أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي عبدي ما شاء”،  فاللهم إنا نُشهِدك في هذا اليوم المُبارَك أنا نظن بك كل خير وأنك تُحِبنا وتُولينا وتُعطينا وترحمنا وسترحمنا غداً إن شاء الله تعالى،والله هذا ظني في الله إن شاء الله في نفسي وفيكم، فنسأل الله أن يُدخِلنا الجنة بغير حساب، وهذا ظننا به لأنه هو الرحمن الرحيم، فوالله العظيم جبال بل ملء الأرض من الآثام والخطايا برحمة الله ومع رحمة الله من المُمكِن أن يصير بدداً ويئيض هباءً منثوراً وندخل في رحمة الله بذرة، والنبي – صلى الله عليه وسلم – هو الذي قال “والذي نفسي بيده لن يُدخِل أحدكم الجنةَ عمله”، ولا أنت يا رسول الله؟قال :ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه”، فسوف ندخل كلنا الجنة – إن شاء الله – برحمة الله دون أن نُعوِّل على أعمالنا أو على شطارتنا أو على دعاوانا وأكاذيبنا، وإنما نُعوِّل على استشعارنا لرحمة الله – تبارك وتعالى – فقط، ولذا قال الله “فليظن بي عبدي ما شاء”، وقال أيضاً “وأنا معه إذا ذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ  ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم، وإن تقرَّب مني شبراً تقرَّبت منه ذراعاً، وإن تقرَّب مني ذراعاً تقرَّبت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة”، فهذا هو كلام محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي جاء رحمةً وتحبيباً لله إلى عباده، فارحموا الخاطئين وارحموا الجاهلين وارحموا الناكبين ولا تُعيِّروهم ولا تشمتوا بهم ولا تدلوا على عوراتهم ولا تُقنِّطوهم من رحمة الله فتكونوا – والعياذ بالله – أنتم القانطين منها.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يشملنا جميعاً وأهلينا وذرارينا إلى يوم القيامة برحمته الواسعة التي وسعت كل شيئ.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد أيها الإخوة والأخوات:

عنَّ سؤالٌ يقول: لم لم يكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو مجمع العظمات ومُلتقى البطولات والتميّزات – مثلاً – طبيباً مُتفوِقاً أو مُهنّدِساً بارعاً أو مُديراً لعمل من الأعمال؟!

كان سياسياً مُحنّكاً وقائداً عسكرياً مُظفَّراً يجري النصر في ركابه – صلى الله عليه وسلم – وكان نبياً رسولاً وكان إلى ذلكم أباً حنوناً رؤوفاً رحيماً وزوجاً وفياً باراً وكان أخاً وصديقاً وخليلاً – صلى الله عليه وسلم – ولكنه لم يكن طبيباً أو مُهنّدِساً أو حتى فيلسوفاً، فلم إذن؟!
هل تعرفون لماذا؟!

لأن الرسول ليس من هذا المقاس، فالطبيب يعمل بالمُفرَّق والمُهنّدِس يعمل بالمُفرَّق، وحتى أكثر المُفكِّرين يعملون على المُفرَّق، فيدرس أحدهم مذهباً مُعيَّناً يدرس نظرية مُعيَّنة في الإبستمولوجي Epistemology، أي أنه حيثية واحدة لأنه يعمل بالمُفرَّق، وهذا لا يعني كل الناس وإنما يعني بعض الناس المُتخصِّصين، فأنا الآن صحيح مُعافى – ونسأل الله أن يُديم الصحة والعافية على الجميع – ولذلك لا يعنيني الطبيب ولا أُريد أن أذهب إلى الطبيب، فلا يعنيني هذا ولا تعنيني شهاداته وعلمه وتبريزه لأنني لا أحتاجه، وكذلك عندي بيت أسكنه فلا أحتاج إلى مُهنّدِس ولا يعنيني تبريزه حتى ولو كان حسن فتحي، ولكن يعنيني دائماً نظام الحكم الذي يُهيّمن علىّ، هل هو ديمقراطي أو ديكتاتوري أو إجرامي أو إسلامي أو كفراني أو وثني، فأنا أُريد أن أعرف قصته، ومن هنا كان الرسول سياسياً لأنه كان يعمل بالجُملة، فكان سياسياً ناجحاً ، فإذا عمل فعمله وخيره كان يعم الجميع ضربة واحدة ودُفعة واحدة، ولذلك علينا أن ننتبه إلى أن الله اختار له هذا، فهو كان قائداً عسكرياً مُظفَّراً ميمون النقيب، فمعركة واحدة قد تُقرِّر مصير الأمة، وقد تُقرِّر تبقى أو لا تبقى وتعزّ أو تذلّ كما يحدث الآن مع العرب والمسلمين، لذلك كان النبي قائداً عسكرياً، أما أنه نبي ورسول فهذا واضح جداً، والعجيب والعظيم أن محمداً – وأختم بهذا – قبل النبوة كان إنساناً عظيماً، كان عظيماً بكل معنى وعلى كل لسان لأنه الصادق الأمين، فكان عظيماً مُتميّزاً بارزاً مُتفوِّقاً خِلقةً وخُلقاً في حلمه وعلمه وصبره وحكمته ورزانته ورصانته وجمال تأتيه للأمور وإلى آخره، أي أنه كان عظيماً في كل شيئ، فانظروا – بالله عليكم  -ما الذي خرج حين انضاف وانضم محمد النبي والرسول إلى محمد الإنسان ومحمد العظيم؟ ما الذي أتى منه؟ أتى منه رجلُ العالمين كل العالمين، رجل الدُنا كل الدُنا في كل زمانٍ وحين.

فهذا هو محمد الذي جئنا اليوم لنحتفل بذكراه ولنستروح نسيمه وعبيره، صلوات ربي وتسليماته عليه ورضيَ الله عن حسَّان – حسَّان محمد – بن ثابت الذي قال:

وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني                    وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ

 خلقتَ مبرءاً منْ كلّ عيبٍ                        كأنكَ قدْ خلقتَ كما تشاءُ

وسقى الله قبر شوقي بشآبيب الرحمة حين قال في القصيدة المشهورة:

يا مَن له الأخلاق ما تهوى العُلا                     منها وما يتعشَّق الكُبراءُ

زانتك في الخُلق العظيم شمائلٌ                      يُغرى بهن ويُولَعُ الكرماءُ

فَإِذا سَخَوتَ بَلَغتَ بِالجودِ المَدى                      وَفَعَلتَ ما لا تَفعَلُ الأَنواءُ

وَإِذا أَخَذتَ العَهدَ أَو أَعطَيتَهُ                           فَجَميعُ عَهدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفاءُ

وَإِذا عَفَوتَ فَقادِرًا وَمُقَدَّرًا                            لا يَستَهينُ بِعَفوِكَ الجُهَلاءُ 

وَإِذا رَحِمتَ فَأَنتَ أُمٌّ أَو أَبٌ                        هَذانِ في الدُنيا هُما الرُحَماءُ

وهنا أبدع شوقي وبلغ الذروة حقيقةً حين قال:

وَإِذا رَحِمتَ فَأَنتَ أُمٌّ أَو أَبٌ                        هَذانِ في الدُنيا هُما الرُحَماءُ

 لقد قَّف شعر بدني، وفي الحقيقة هو – والله – أعظم من الأم وأعظم من الأب، فالنبي كان يُوجِز صلاته – كما قال – ويعجل بها رحمةً بقلب الأم، أما الأم فجاءت برضيعها وهى في صلاتها ولا تقطعها لأجله، فالنبي أرحم منها برضيعها، ولذا شوقي قصَّرحتى في المعنى، فالنبي فوق كل الوصف، فهو فوق وصف الواصفين لأن اللغة لا يُمكِن أن تُطال وصفه، كما قال الشاعر:

ألا أن ثوباً خيط من نسجِ تسعة               وعشرين حرفاً من معاليه قاصرُ

اللغة لا تستطيع بتسعة وعشرين حرف أن تُوفّي محمدً – صلى الله عليه وسلم – حقه.

يا مَن لَهُ عِزُّ الشَفاعَةِ وَحدَهُ                          وَهوَ المُنَزَّهُ ما لَهُ شُفَعاءُ 

اللهم شفِّعه فينا، اللهم أحينا على سُنته وأمتنا على ملته واحشرنا يوم القيامة في زُمرته وتحت لوائه، اللهم أوردنا حوضه واسقنا بيده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبداً برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا من خير خلفه من الذين تابعوه على أمره ودينه وهديه ولم يتنكَّبوا صراطه وسبيله، اللهم اجعله يلقانا يوم القيامة وهو راضٍ عنا ومُبتسِماً في وجوهنا ومُبشِّراً لنا بجناتٍ ونعيم وروحٍ وريحان ونعيم مُقيم عند مليك مُقتدِر.اللهم آمين.

اللهم اغفر لنا وللمسلمين والمسلمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، وتابع بيننا وبينهم بالخيرات، اللهم مَن أراد الإسلام وأمة الإسلام بخيرٍ فأرد له الخير ومكِّن له وأظفره وأكرمه وأعِز جنابه، ومَن به وبهم شراً فخُذه أخذ عزيزٍ مُقتدِر.

اللهم مَن ائتمر بنا ليحربنا أو يكرثنا أو يُدمِّرنا فدمِّره قبل أن يشرع فيما ائتمر  وفيما مكر، اللهم اجعل تدبيرهم تدميرهم وأدِر عليهم دائرة السوء فإنهم لا يُعجِزونك يا رب العالمين. 

اللهم إنا مغلوبون، اللهم إنا مظلومون فانتصر لنا يا رب العالمين.

عباد الله:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(26/2/2010)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: