أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المُرسَلين سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمين وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً.
أما بعد، إخواني الأحباب، أخواتي الفاضلات:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أود في البداية أن أُعرِب عن بالغ فرحي ونشوتي وتشرفي أيضاً بحضور شيخنا المُجاهِد الفاضل/ الشيخ عبد الفتّاح مورو حفظه الله وأعزه، هذه هي المرة الثانية التي يتواضع مشكوراً ويُلبّي فيها دعوتنا ويزورنا في بلدنا الثاني النمسا، فشكر الله له وشكر سعيه، وأسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُقِر عينه وأعين الدُعاة المُخلِصين الصادقين برؤية ما ختم به داعياً مولاه – تبارك وتعالى – وهو عز هذه الأمة وتمكينها، ومن بعد أشكر لجميع الإخوة الحاضرين مع حفظ الأسماء والألقاب والرُتب.
إخواني وأخواتي:
في سبيل نُخبة إسلامية، أولاً ما هي النُخبة؟ تُعرَّف النُخبة في العادة بأولئك الذين يتمتَّعون بالنفوذ أو بالنفاذ إلى مواقع السُلطة والثروة والمعرفة، ولذلك في الحقيقة لا تُوجَد نُخبة واحدة وإنما نُخب، هناك نُخبة سياسة، نُخبة عسكرية، نُخبة اقتصادية، نُخبة إدارية، وهناك نُخبة ثقافية أو فكرية.
طبعاً واضح – أيها الإخوة والأخوات – أن مقصودنا بالحديث في هذه الجلسة التي أرجو ألا تطول كثيراً وألا تكون مُمِلة النُخبة الثقافية، النُخبة الفكرية، أي الــ Intelligentsia كما هي معروفة في السياق الغربي كمُصطلَح على الأقل، وسأبدأ من حديث أوحى إلىّ الشيخ الفاضل – حفظه الله – حين أرسل بعض النُكات اللطيفة والخفيفة التي تدور حول اختزال الدين بشكل كاريكاتوري، كما يبعث على السخرية يبعث على الرثاء، لكن السؤال الذي يثور في هذا السياق ومن فوره هو ذنب مَن؟مَن المسؤول وما المسؤول عن هذه الوضعية وهذه الحالة الزرية التي انتهت إليها العامة في الدول العربية والإسلامية؟ واضح أن هذه العامة يأخذ الاستقطاب والحدية والتبسيطية والابتسارية بخناقها، هذه العامة لا تتوفَّر على وعي مُركَّب حقيقي، لا تتوفَّر على رؤية استبصارية يُمكِن أن تُلامِس بها واقعها فضلاً عن أن تُشارِف بها المُستقبَل، واضح أن لا، هذا غير موجود بأي شكل للأسف من الأشكال، فمَن المسؤول؟
أستطيع أن أُغامِر – إخواني وأخواتي – بالقول المسؤول بدرجة أولى – وطبعاً كما نُكرِّر دائماً نحن لا نُؤمِن بنظرية السبب الواحد، لكن الحديث عن المسؤول بدرجة أولى – النُخبة، العلماء، الدُعاة، والمُفكِّرون الذين يُنتِجون الإنتاج الرمزي كما يُقال، الثقافة والفكر، النُخبة! وواضح في هذه الحالة أننا نُريد بالنُخبة النُخبة الإسلامية، وكما يحلو لبعضهم الإسلاموية، لكن لا، نحن نتكلَّم عن نُخبة إسلامية.
وإذا صح ما يُقال – وهذا تعميم غير دقيق – أن مُشكِلة النُخبة في العادة في نُخبويتها فمُشكِلة ما يُمكِن أن تُدعى بالنخبة الإسلامية ليس في نُخبويتها، إنما في شعبويتها، في عومنتها كما أدعوه، أي هذا المُصطلَح، في عومنتها، في تناغمها واندماجها وتماهيها مع العامة، مع العوام، النُخبة التي تمثل مُشكِلتها في نُخبويتها هي النُخب غير الإسلامية تقريباً، والحديث فقط بصدد الثقافي والفكري، وهذا واضح ولا يحتاج إلى تدليل وبرهنة، لأن مِن هؤلاء مَن يتحدَّث أيضاً بإنتشاء واضح – إخواني وأخواتي – عن أفكار ما بعد حداثية، لكن في سياق أمة لم تدخل حتى مرحلة التنوير كما يزعم هؤلاء، وهذا صحيح إلى حد بعيد، فعلاً نحن لم ندخل مرحلة التنوير إن جاز التعبير، فلماذا تُحدِّثوننا بمُصطلَحات وترسانة معرفية تنتمي إلى ما بعد الحداثة؟ هذا اغتراب كامل، هذا اغتراب ونوع من العبث الفكري، فهذه النُخبة فعلاً مُشكِلتها في نُخبويتها، لأنها تقريباً لا تكاد تُلامِس الواقع، لا علاقة لها بالواقع، أما النُخبة الإسلامية فتختلف، وطبعاً الاستثناءات ورادة وباستمرار، هناك استثناءات في النُخب غير الإسلامية وفي النُخب الإسلامية وفي ما بين ذلك، لأن التصنيف الاستقطابي أيضاً نحن نعتبره خطأ إن لم يكن خطيئة معرفية، نحن نُؤمِن بمنطق التطيف كما أدعوه، التطيف! ليس هناك هذه الحالة الاستقطابية الحادة تماماً كما يتوهَّم بعضهم، فهذه مُشكِلة الإسلامية مع وجود وحفظ الاستثناءات بشكل مُستمِر لكن يبدو أنها استثناءات لم ترق إلى درجة تُبشِّر بالقاعدية، أنها ستُصبِح قاعدة، اليوم أو غداً أو بعد غد، لا! فهي بعيدة، بعيدة من أن تُصبِح قاعدة.
هذا أولاً بصدد التعريف، ثانياً نظرة وظفية، النُخبة لا يُمكِن أن تُعَد نُخبةً ولا يصح ولا يسوغ أن تُعَد نُخبةً ما لم تلتزم بالصالح العام، معروف! لأنها إذا التزمت بغير الصالح العام مُباشَرةً تتورَّط في أن تنخرط لتُصبِح طرفاً من الأطراف، طرفاً من أطراف الصراع في المُجتمَع وفي الدولة، مُباشَرةً! ولذلك النُخبة كما تُعرَّف حقيقةً في الكُتب والدراسات والأبحاث المُختَصة شرطها الأول الالتزام بالصالح العام، فإذا تحدَّثنا عن نُخبة ثقافية أو نُخبة فكرية في بلد ما فهذه النُخبة أولويتها المُطلَقة – إخواني وأخواتي – الصالح العام، الأمة، الشعب، والوطن، ليس الطائفة، ليس المذهب، ليس الحزب، ليس التشكيل، وليس الفئة! وأكثر ما تحذر أن تقع فيه هذه النُخبة بهذا الشرط وبهذا التعريف هي أن تُساهِم في الانشقاقات الرأسية في المُجتمَع.
الآن عالمنا العربي يرزح تحت انشقاقات عمودية أو رأسية مُخيفة، تُنذِر – إخواني وأخواتي – ربما بالإتيان على ما تبقى من وحدته الموهومة، في مجال أو مُستوى الدولة الواحدة، لا أتحدَّث الآن بحس قومي، ولن أضرب الأمثلة لأنها قد تجرح البعض، لكنها موجودة، حتى أُبسِّط لغير المُختَصين أقول ما هي الانشقاقات الأُفقية وما هي الانشقاقات الرأسية في المُجتمَع؟ وجُزء من هذه المُصطلَحات ينتمي إلى التحليل الماركسي.
على كل حال نحن هنا في المسجد مثلاً، لنفترض في هذه المُؤسَّسة الدينية – المسجد – لدينا لجان، لجنة – مثلاً – علمية، لجنة رياضية، لجنة مالية، وإلى آخره! هذه اللجان تُشكِّل ماذا؟ تُشكِّل تصنيفات أُفقية، لجنة مالية، لجنة علمية، ولجنة رياضية، هذه كلها تصنيفات أُفقية، لا بأس! هذه علامة صحة وطبيعية تماماً لتقسيم العمل Division of labour، مطلوبة لتقسيم العمل، وفيها نوع من التمايز، لكنها لا تقتضي التمييز بذاتها، لأنها مُتمايزة، التمايز شيئ والتمييز شيئ آخر، فإن رأينا – مثلاً – في اللجنة العلمية أو في اللجنة الرياضية انشقاقاً على أُسس لا تخدم عمل هذه اللجنة والإطار العام الذي يُحيط بهذه اللجنة ويُؤطِّرها ولكن على أُسس أُخرى أيديولوجية – هذا من حزب التحرير، هذا من جماعة الإخوان، هذا صوفي، وهذا سلفي، هذه انشقاقات رأسية – المفروض أن اللجنة تحتفظ – إخواني وأخواتي – بوحدتها وبإطارها الذي يخدم وظائفها ومصالحها، حين تنشق على أسس عقدية، أيديولوجية، عشائرية، قبلية، فئوية، مذهبية، وحزبية، هذه انشقاقا رأسية.
وفق التحليل الماركسي المعروف والمطروق كثيراً جرى تقسيم المُجتمَعات طبعاً (الرأسمالية) إلى ثلاث طبقات: الطبقة البرجوازية، أصحاب الرساميل كما يُقال، جمع رأس مال، ثم الطبقة الوسطى، أصحاب المهن، ثم أخيراً طبقة العمال، البروليتاريا، هذا تقسيم أُفقي، أي هذا التقسيم الطبقي أُفقي، فرأينا – وهذا ما يحدث الآن في بعض الدول مثلاً – هذا العامل المسحوق المُضطهَد – مثلاً – من النظام يُدافِع عن مُضطهِديه، يُدافِع عن جلّاديه لاعتبارات طائفية، أنا سُني وهم سُنيون، أنا من الطائفة الفلانية – لا أُريد أن أذكر أحداً – مثلاً، أنا شجاع جداً في نقد نفسي كسُني لكن لا أُحِب أن أؤذي الآخرين، ودائماً أكل إليهم مُهِمة إصلاح أنفسهم وتفكيرهم وخطابهم، أفعل هذا بوعي، حتى لا نُتهَم أيضاً بالطائفية، وأقول دائماً أنا كسُني أُحاوِل أن أُنجِز شيئاً من إصلاح ذاتي، عليك كشيعي وغير شيعي أن تُنجِز ما يختص بك، لكن أن تفرح بخطابي وتنتشي به لكي تُسدِّد إلىّ مزيداً من النقد وتبقى أنت على علاتك وعلى تناقضاتك فهذا نوع من الانتحار المعرفي، نوع من الانتحار! ضد التغيير، فعجيب أن هذا العامل الفقير المطحون المُضطهَد المُذَل المُهان يقف مع جلّاديه! لماذا؟ لماذا لا تقف مع طبقتك على الأقل ضد الذين يُغرِّبونكم عن أنفسكم وعن نواتج عملكم بلُغة ماركس Marx مثلاً؟ هو لا يفعل هذا! يُؤيِّد جلّاده ويُؤيِّد ذبّاحه فقط للاعتبار الطائفي، هذا انشقاق رأسي، هل هذا واضح؟
الآن النُخب – إخواني وأخواتي – حين تختار – مثلاً – موقفاً مبدئياً لنفسها أنها بإزاء العوام – نحن الخاصة وأنتم العامة – يكون هذا التميز وهذا التصنيف رأسي أو أُفقي؟ هذا يُمكِن مُباشَرةً أن يكون تصنيفاً رأسياً، وبالمُناسَبة كقاعدة كل انشقاق، كل تصدع رأسي يُمكِن مُباشَرةً اعتماده واستثماره واستخدامه من قِبل السُلطة أو السُلطات الحاكمة المُهيمنة المُستبِدة لضرب المُجتمَع بعضه ببعض، وهذا يحدث، وطبعاً حتى هذا حدث في تاريخنا، هذا حدث في تاريخنا حين شاءت النُخبة أو بعض طبعاً مَن يُمثِّل هذه النُخبة الثقافية أو المعرفية أو الفكرية أن تضع نفسها بإزاء العامة مُباشَرةً استولى عليها السُلطان والخطاب السُلطاني، وطوَّع بهم العامة وأذلهم وكممهم وصادر حرياتهم، هذا يحدث وحدث، ولذلك شرط النُخبوي وشرط النُخبة أن يلتزم دائماً بالعام، لذلك هذا الهم هو الذي أثار لدى سؤالاً حفزني على هذه المُحاضَرة، هل تُوجَد نُخبة إسلامية؟ لماذا إسلامية؟ قد يقول لي أحدهم هذه نرجسية الإسلاميين، لكن هذه ليست نرجسية أبداً، وإنما طبعاً أولاً لأننا إسلاميون، نحن مُسلِمون وإسلاميون، لدينا قناعة بالمشروع الإسلامي كحل لبعض المُشكِلات، عموماً سيتكشَّف الآن في حكومات ما بعد الثورة أن الذي ينقص الإسلامي لكي يُقدِّم حلولاً هو بالضبط ما ينقص كل غير الإسلامي، هذا لم نكن على وعي تام به، كان يُظَن أن الخيمياء – أنا أُسميها الخيمياء، أي الــ Alchemy، ليس الكيمياء وإنما الخيمياء – الإسلامية تُقدِّم الحل النهائي، تحت ماذا؟ ليست تحت تفاصيل حل، وإنما تحت شعار حل: الإسلام هو الحل، هذه خيمياء، هذه حتى ليست كيمياء، هذه خيمياء، الإسلام هو الحل! وهذا يعني مُباشَرةً ضعونا في السُلطة وسوف ترون، سوف تُحَل كل المشاكل، قد وضعناكم ولم يُحَل شيئ، زاد بعض الأمر تعقيداً.
إذن الذي ينقص الإسلامي لكي يُساهِم في إدارة أي شأن تماماً هو ما ينقص غير الإسلامي، وهنا قد يقول لي أحدكم إذن ما الفارق؟ الفارق في بعض النقاط الرئيسة رؤيوياً وبرامجياً، أيضاً في المرجعيات، لكن هذا شيئ بسيط جداً، إدارة الشأن – مثلاً – الاقتصادي، وحتى السياسي، وحتى العسكري، أمر تقريباً غير مُتفاوِت كثيراً، وأنا طرحت سؤالاً على المنبر قبل أشهر وربما قبل سنة ونصف، ما الذي يُمكِن أن يعود به مُثقَّف أو مُفكِّر أو مُختَص – إخصائي – إسلامي كبير من دراسة السياسية الإسلامية – هذا إذا وُجِد علم اسمه السياسة الإسلامية، ليست السياسة الشرعية وإنما السياسة الإسلامية! وحتى الكتابات المكتوبة في هذا العلم، كُتب الأحكام السُلطانية على اختلافها – إذن؟ تقريباً لا شيئ، ومثَّلت بإحدى أحسن الدراسات المُعاصِرة لرجل نحترمه ونُجِله، مُفكِّر إسلامي كبير ومُحترَم، مُختَص الرجل في هذا الجانب بحُكم تخصصه الأولي، هذا الرجل تقريباً سلخ من كتاب لم يبلغ أربعمائة صفحة زُهاء ستين أو سبعين صفحة لكي يُجيب عن سؤال، هذا السؤال غير مشروط في واقعه اليوم، هذا السؤال غير ذي موضوع، هل يلزم أن تكون هناك دولة أو لا يلزم؟ هذا كلام فارغ! هل يلزم أن يكون هناك نظام حُكم أو يُترَك الناس – أي النزعة الأناركية أو ما يُعرَف بالفوضوية – هكذا؟ هذا كلام غير ذي موضوع! فمَن يقرأ هذا الكتاب ومَن يتخصَّص هذا التخصص بعد ذلك يأتي لكي يُدير الشأن العام، ماذا يُمكِن أن يُقدِّم بهذه العقلية؟ مُستحيل! نحتاج أن نُلامِس الواقع فعلاً بعقلية صارمة وجدية مناهجية، ليس عبر الشعار أو عبر هذه الخيمياء، هذه الخيمياء لا تُفيدنا، تماماً كما لم تُفِد الذين أذهبوا مُهجهم ونفائس أوقاتهم – وبعضهم قضى في السجن – تحت أمل أو بتأميل أن يُحوِّلوا التراب والحديد والنحاس والمعادن الخسيسة – كما يُقال – إلى المعدن النفيس الذهب، لا يُمكِن! لا تُوجَد صيغة كيميائية، ليس كذلك!
فإذن الهم الذي أثار هذا السؤال وبعث على هذه المُحاضَرة وألهم بها هو هل تُوجَد نُخبة إسلامية؟ لماذا إسلامية بالذات؟ البعض يقول لأن الإسلامي بالذات مُرشَّح ليكون ضميره أكثر صحواً، نفسه أكثر نزاهةً، حسه ومِزاجه وروحيته أميل إلى طلب العدالة، هذا صحيح من حيث المبدأ، لكن – أنا أقول لكم – اليوم في عالم يسير باستمرار نحو الشفافية يختلف الوضع إذا تعلَّق الأمر بالسُلطة، ليس مُجرَّد أنه يسير، السُلطة الآن مُشرَّطة أو مشروطة بالشفافية، أكبر قدر مُمكِن من الشفافية يعني سُلطة صالحة أو أقرب إلى الصلاح، أي أن الرهان لم يعد – إخواني وأخواتي – على الضمير الفردي، أنا لا يعنيني ضميرك، كم أنت نزيه؟ كم أنت عادل؟ وكم عندك نية حسنة؟
أنا استمعت إلى سياسي كبير أنتم تعرفونه اليوم، يقول للناس اطمئنوا لن تُظلَموا، هذا لا يُساوي لدي شيئاً، أنا لا أُريد ضمانات شخصية، نحن الآن نعيش في القرن الحادي والعشرين، لُغة سيدنا عمر وأبي بكر – رضوان الله عليهما – المقبولة والمُمتازة في عصرهما اليوم تُعتبَر لُغة غير مقبولة، هذا أقل شيئ، لا نُريد أن نصفها بما هو أكثر من هذا، غير مقبولة! اليوم الوعي السياسي لدى الناس مُباشَرةً يُراهِن على تحويل الوعود إلى برامج والبرامج إلى أشكال مُؤسَّستية.
حدَّثتكم مرة عن سائق – أي قائد عربة – لرئيس المحكمة العُليا في الولايات المُتحِدة الأمريكية، هذه القصة تُعجِبني كثيراً، تلذني، وتشوقني! حين بلَّغه إلى محل عمله قال له مُمازِحاً مُتظرِّفاً يا سيدي كالعادة أنا أوصيك، قال بماذا؟ قال احكم بالعدل، فغضب! قال لا تقل لي هذا، لا تقل لي احكم بالعدل، أنت تُراهِن ضميري وعلى نزاهتي الشخصية، قال ماذا أقول إذن؟ قال احكم بالقانون، نُريد قانوناً، نُريد مواداً مُقنَّنةً، لماذا تُراهِن على ضميري؟
الآن – إخواني وأخواتي – نحن مللنا وسئمنا وتعبنا في العالم العربي بالذات من هذه الفوضى في التقلب الموقعي والموقفي في المواقع والمواقف! اليوم مُثقَّف سُلطة وغداً يتحوَّل إلى مُثقَّف أمة تحولاً دراماتيكياً، في أربع وعشرين ساعة انقلب بقدرة قادر مع الثورات من مُثقَّف سُلطة – هذا اسمه الموقع Location – إلى مُثقَّف أمة، ومُثقَّف الأمة وفق قانون العرض والطلب، الذي يدفع أكثر يسمع النغمة التي يُحِب، قانون الزمار! Who Paid the Piper? مَن الذي دفع للزمار؟ ينقلب مُفكِّر الأمة أو مُثقَّف الأمة في لحظة حالكة السواد وكئيبة جداً إلى الثُمالة إلى مُثقَّف سُلطة، لماذا اللعب؟ لماذا؟ لأنهم مُنذ البداية لا يُشكِّلون ولم يُشكِّلوا نُخبة حقيقية، ليست هذه النُخبة، النُخبة تلتزم بالعام، النُخبة تتخذ لا أقول موقعاً – هو شيئ أكبر من موقع – وإنما ما بعد الموقع، هذا ما البعد الموقع هو ما وراء التقسيمات الأُفقية والرأسية، من الصعب أن تُقسِّم أو تُصنِّف هذا المُثقَّف، لأنه ما بعد هؤلاء تماماً، ما بعد Behind!
هذا الذي يُشكِّل – إخواني وأخواتي – في اللحظات الحرجة وحتى في لحظات العمل – في لحظات الاشتغال العادية – صمام أمان وعطاء وإنجاز للأمة، فالسؤال إذن عن المُثقَّف في هذا السياق وبهذا المعنى، لكن – إخواني وأخواتي – هل التزام المُثقَّف المُسلِم والمُثقَّف من حيث أتى بعامة بالعام – بالصالح العام – يعني التماهي مع العوام؟ لأن هذا الصالح في النهاية أكثر مَن يستفيد منه – هذا المفروض طبعاً معيارياً، ليس وصفياً وإنما هو معياري – الجمهور، جمهور الناس! مُعظَم الناس على الإطلاق هم جماهير، ليسوا صفوة، ليسوا نُخباً إدارية أو اقتصادية وما إلى ذلك أبداً، فهل معنى أن يكون المُثقَّف أو تكون النُخبة مُلتزِمة بالعام أن تتماهى وتندمج كُلياً أو كُليةً مع العوام؟ بالعكس! هذا الاندماج وهذا التماهي يُفقِدها – كما قلنا بالإشارة البعيدة – نُخبويتها، تُصبِح شعبوية، ومعنى ذلك أنه يُفقِدها من باب أولى كل إمكانية لأداء شيئ من وظيفتها، والسؤال ما هي وظيفة المُثقَّف؟ ما هي وظيفة العالم المُفكِّر الرؤيوي؟
وظيفته – إخواني وأخواتي – أن يُرقي وعي الناس، أن يُحسِّس الناس بالتناقضات التي يعيشونها، وكما يُقال دائماً ليست التناقضات هي التي تبعث على التغيير وتُلهِم بالثورة، والحديث أيضاً ما زال عن ربيع العرب، ربيع الثورات العربية، ليست التناقضات! التناقضات موجودة، وأحياناً كانت في بعض الحقب أشد احتلاكاً وأشد ضغطاً وخنقاً، لكنها لم تُلهِم بثورة، لم تبعث على انتفاضة، لماذا؟ لأن الذي يبعث هو الإحساس بالتناقض وليس وجود التناقض، الوظيفة الأولية الرئيسة الأولى للمُثقَّف وللنُخبوي هو أن يُحسِّس الناس بهذا، بمعنى أن يُكسِبهم وأن يُلهِمهم وعياً حقيقياً لا وعياً زائفاً، فما هو الوعي أصلاً؟ ثم ما هو الوعي الحقيقي؟ ومن ثم ما هو الوعي الزائف؟ حتى نتساءل هل لدينا وعي حقيقي بالأمور أم أن وعينا زائف مُزيَّف ومُستنزَف أيضاً؟
الوعي – إخواني وأخواتي – ببساطة – حتى في الدراسات العصبية في علم المُخ وفي الدراسات السيكولوجية والتربوية – هو أن تكون في حالة أو في موقف، تتبنى رأياً، تتبنى فكرةً، تتبنى موقفاً – طبعاً كل موقف وكل رأي هو مُشرَّط ومُنسَّب، لا يُوجَد مُطلَق، لا نتعامل مع المُطلَق، لسنا آلهة – مع إدراكك لهذا التشريط وهذا التقييد مع إدراكك لموقفك، أنت تُدرِك أنك تتلبس بهذا الموقف، أنك تتبنى هذا الرأس المُشرَّط بكذا وكذا، هذا وعي! لذلك يُقابَل عموماً الوعي بماذا؟ بحالة الغيبوبة، هذا غائب عن الوعي يُقال، غائب عن الوعي! وهو لا يدري أنه غائب عن الوعي، أليس كذلك؟ الغائب عن الوعي لا يدري في هذه اللحظة أنها غائب عن الوعي، لكن الذي يكون في حالة وعي يختلف أمره، نحن الآن – مثلاً – واعون أننا نجلس، نتكلَّم، نستمع، يُحدِّق بعضنا في بعض، نُفكِّر، وفي داخل حرم مسجد، نسأل الله أن يُبارِك هذه الجلسة، هذه حالة وعي Awareness، حالة وعي! هل هذا جميل؟
الوعي الحقيقي والوعي الزائف الآن، الوعي الحقيقي أن تُدرِك الموقف بشروطه وفي سياقاته، أي مُلامَسة الواقع الحقيقي، الآن – مثلاً – هل هناك مُشكِلة؟ هناك مُشكِلة، ما هي المُشكِلة؟ كلما قاربت المُشكِلة الحقيقية المُؤثِّرة التي تُنتِج بعض التمظهرات كلما تمتعت بوعي حقيقي.
في طريقي إليكم حدَّثت إخواني معي في العربة – في السيّارة – وقلت لهم قبل ثلاث سنوات تقريباً خطبت على المنبر خُطبتين عن مُشكِلة النقاب في فرنسا، رسالة الخُطبتين بكلمة واحدة هي أنني قلت لإخواني في فرنسا انتبهوا هذه ليست معركتكم، هذه المعركة إن كسبتموها فقد خسرتم، أين خسرتم؟ طبعاً فقد خسرتم! لماذا؟ لأنها ليست معركتكم، ليست معركة المُسلِم في أوروبا أن يُنقِّب زوجته وابنته يا إخواني، هذه معركة مفروضة عليكم وبدهاء شديد جداً وذكاء من الآخرين، اذهب وانتصر فيها بعد خمس سنوات أو عشر سنوات، وأسل فيها أنهاراً من الأحبار السوداء والزرقاء والمُلوَّنة، وربما حتى تزهق فيها بعض النفوس، وتضيع فيها ملايين تُضَخ، واجعل الأزهر يقف معك والمملكة وإلى آخره، أنت تخسر، حين تربح تخسر!
معركتك الحقيقية – التحدي الحقيقي – هي أن تصل إلى البرلمان، أن تكون إعلامياً ناجحاً، أن تكون كاتب مقالة ناجحاً، أن تكون قانونياً مُبرِّزاً، أن تكون جرّاحاً على مُستوى فرنسا، أن يُحتاج إليك، أن تُشكِّل كُتلة انتخابية حقيقية تُؤثِّر في نصر هذا وفي هزيمة هذا، هذه معركتك! بعد ذلك أنت حين تصل إلى هذه المواقع وبالذات تصل إلى البرلمان – الهيئة التشريعية – ستُصبِح الأمور سلسة وسهلة جداً جداً، الطريق لاحبة وواضحة أمامك! لكن أن تخوض وتُضيِّع عمر جيل وأجيال في معركة حجاب ونقاب هذا وعي زائف، ليست هذه مُشكِلة المُسلِمين في فرنسا ولا في الغرب الأوروبي، انتبه من الوعي الزائف، أي أن تظن مُشكِلةً ما ليس بمُشكِلة، وأن تظن حلاً ما ليس بحل، هذا وعي زائف، يُقابِله الوعي الحقيقي، الوعي الحقيقي القادر على مُلامِسة الواقع ومن ثم إعطاء واجتراح حلول حقيقية تُساهِم في تغيير هذا الواقع.
إذن النُخبوي الإسلامي وغير الإسلامي إذا شاء وأراد أن يندمج مع العامة ويتماهى معها – إخواني – فقد شرط الوعي، إنتاج الوعي، فضلاً عن توصيل الوعي، توعية الآخرين، ترقية وشحذ وعيهم، فقد هذا تماماً! لماذا؟ لأن من شروط الوعي – إخواني – أن يصطنع آلية الاقتراب والابتعاد، لابد أن يصطنع مرة آلية الاقتراب، لابد أن أقترب من الجمهور، لابد أن أحس بنبض الشارع كما يُقال، نبض الجماهير! لابد أن أكون كأنني منهم، وفي الحقيقة عموماً نحن منهم، لابد أن نكون منهم ونُحِس بنبضهم، لكن علينا في لحظة كمُفكِّرين وكنُخبة وكرؤيويين أن نبتعد، نترك مسافة – Abstand بالألمانية أو Distance بالإنجليزية – لكي يُمكِننا إلقاء نظرة، قرأت لبعض المُثقَّفين يقول نظرة تلسكوبية، لا! لا نُريد التلسكوبية، تُضيِّع كل شيئ، قال نظرة تلسكوبية، لكننا لا نُريدها، لا نُريد أن نظرة الدودة ولا نظرة التلسكوب Telescope، نُريد نظرة طائر يطير على مقربة، لكي يُعطينا مشهداً أو رؤية بانورامية لكل الحاصل، وكما قال نيتشه Nietzsche مرة أنت لا تستطيع أن ترى المدينة إلا إذا خرجت منها، حين تقف على جبل مُشرِف على المدينة تستطيع أن ترى المدينة، لكن وأنت داخل المدينة مُستحيل أن تراها، هايدجر Heidegger يقول لا يُمكِن لمَن يجلس في غُرفة يُطِل من نافذة أن يكون هو الجالس الذي يُطِل وأن يكون هو المطلول عليه في الشارع، أي حين يمشي في الشارع، مُستحيل! إذن لابد من إحداث هذه المسافة.
لذلك المُثقَّف والنُخبوي والمُفكِّر عموماً – إخواني وأخواتي – لابد في جُزء من عمله وهو يُنجِزه ويشتغل عليه وبه أن يبتعد، أن يبتعد عن موقف العامة، عن مشاعر العامة، يصطنع هذا، يتلبَّس بهذا السيناريو، هذا لزوم الشغل، لزوم الشغل كمُفكِّر! تتبعد لكي يُمكِن أن تُلقي نظرة، وحينئذ سيتبيَّن له أن هناك إصابات وأخطاء في موقفه هو أيضاً الذي هو أيضاً موقف الناس وفي مشاعره التي هي مشاعر الناس، يجترح الآن تصورات جديدة ورؤى جديدة يعود بها إلى هؤلاء.
طبعاً هذا يفتح علينا أيضاً سؤالاً، هل هذه فعلاً وظيفة المُثقَّف؟ مَن الذي قال هذا؟ هل هذه فلسفة أو نظرية؟ هل ضروري أن يُؤدي المُثقَّف هذه الوظيفة؟ لماذا لا يشتغل – كما قلنا – بترف، أي أن يُحيط بآخر صرعات الفكر العالمي ويجمعها ويكتب ويُترجِم فهذا مُثقَّف أيضاً؟ لا، هناك في العموم ثلاثة اتجاهات في تحديد دور المُثقَّف: الاتجاه الحداثي، الاتجاه الماركسي، والاتجاه ما بعد الحداثي.
باختصار – حتى لا نُشكِل عليكم – الاتجاه الحداثي ينظر إلى المُثقَّف على أنه ناقد اجتماعي، وهذا طبعاً يُلائمنا الآن كعرب وكمُسلِمين في مرحلتنا هذه، لذلك حتى مشاهير مُفكِّري العرب مثل المرحوم الراحل محمد عابد الجابري – رحمة الله عليه -وكثيرين سواه تبنوا هذا، وهذا يبدأ مع ديكارت Descartes، هذه اللحظة تبدأ مع ديكارت Descartes، أي هذه اللحظة المنظورية! فالمُثقَّف الآن ناقد اجتماعي يُفكِّك ثم يُعيد بتكوين الرؤية التركيب من جديد، لكن التركيب يختلف عن التركيب المُعطى الناجز، هذا هو المُثقَّف، هذا هو المُفكِّر، الــ Intellectual كما يُسمونه، أي المُثقَّف أو المُفكِّر لدينا، لا بأس.
الماركسي – المنظور الماركسي – ينظر إلى المُثقَّف على أنه معني بتفكيك الصراع الطبقي في المُجتمَع، كل شيئ عندهم له علاقة بالصراع الطبقي، لا يتنبَّهون كثيراً إلى التناقضات الذاتية في داخل كل طبقة ومُمثِّلي كل طبقة، ومن هنا خطأ هذا التفسير في مراحل مُتقدِّمة من الاختبار والتعيير، على كل حال هو مُلتزِم – المُثقَّف الماركسي مُلتزِم – أصالةً وبداءةً بمصلحة الطبقة المنخورة، البروليتاريا، أي الطبقة العاملة، هكذا يرون!
أما المنظور ما بعد الحداثي فهو منظور لا ينفعنا ولا يصلح لنا بالمرة، هذا مهجوسٌ بالهواجس السُلطوية للمُثقَّف، لماذا؟ لأنه ينظر إلى المعرفة على أنها سُلطة، ضرب من ضروب السُلطة، سُلطة المعرفة! تبنى هذا المنظور – وفي الحقيقة أبدع في نطاق كثيرة مُضيئة – الراحل إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، لماذا؟ تبنى منظور فوكو Foucault وعموماً ما بعد الحداثييين، ونظر إلى المعرفة على أنها سُلطة، وسُلطة من نوع خاص! قوية وشديدة المضاء، قوية النفوذ والتأثير، لكن هذا لا يصلح لنا لاعتبارات كثيرة.
إذن نحن نتبنى المنظور الأول وشيئاً أيضاً من المنظور الثاني في وظيفة المُثقَّف، نُؤمِن بهذا ونحتاجه في هذه اللحظة من حياتنا!
الآن المُشكِلة – إخواني وأخواتي – للأسف – كما قلت لكم – أن مُعظَم النُخبة الإسلامية التي تتوجَّه إلى العامة وإلى الجمهور تتماهى مع العامة والجمهور – وذكرت هذا في مُحاضَرتي مع البروفيسور Professor المرزوقي وأسميت هذا عومنة الخطاب، لكن طبعاً إشارة سريعة، لم يكن هذا لُب المُحاضَرة – وهذا أنتج – إخواني وأخواتي – عواقب شديدة الوخامة، أول شيئ وأكبر نتيجة وقيمة أنه عوَّق التغيير وأجهض الإصلاح، لا يُوجَد تغيير ولا يُوجَد إصلاح، بالعكس! أنا أقول لكم بالنظر إلى مسائل كثيرة واعتبارات مُتعدِّدة نحن أنجزنا تخلفاً في مواقفنا الفكرية من مسائل كثيرة، مُقارَنة الخطاب الصحووي إن جاز التعبير – إسلام الصحوة اليوم – إزاء مسائل كثيرة – ليست مُعيَّنة فقط وإنما كثيرة – يُرينا أن هذا الخطاب تراجع عن الخطاب الإصلاحي قبل مائة سنة ومائة وعشرين سنة، كنا نجد جراءةً وشجاعةً واستبصاراً معرفياً ورؤيوياً عند أمثال الأفغاني، محمد عبده، خيري الدين باشا التونسي، محمد الطاهر بن عاشور، جمال الدين القاسمي، محمد رشيد رضا، وشكيب أرسلان، فضلاً عن آخرين، أكثر مما نجده عند كثيرين من الذين يقودون الشعوب اليوم.
طبعاً هنا يُوجَد سؤال ثار في ذهني الآن، لماذا فاز الصحوويون أو الإسلام الصحووي بالجماهير؟ لماذا اغتنمها؟ تقريباً هذه الجماهير يُحرِّكها هذا الإسلام الصحووي على اختلاف طبعاً تشكيلاته ولافتاته، لكنه إسلام عصر الصحوة، لماذا تراجع الإسلام الإصلاحي؟ تراجع الإسلام الإصلاحي! الإسلام الإصلاحي حتى في وقته لم يُفلِح أن يُصبِح جماهيرياً، أي مشروع جماهير، ظل مشروع نُخب، معروف! ظل مشروع نُخب لأسباب كثيرة، لكن من بينها:
أولاً نكسة السبع وستين، هذه عليها تقريباً شبه إجماع، هذه النكسة أفهمت الناس أن المشروع القومي الوحدوي أو التوحيدي تقريباً فشل في الاختبار، معروف ما معنى نكسة السبع وستين، ومعروف على كل حال تأثيره وجرحه للذات العربية وثقة الإنسان العربي بنفسه وبقدرته وإمكاناته، جرحه في الصميم!
ثانياً تسلط وهيمنة واستبداد الدولة القومية القُطرية، طبعاً انمسخت من قومية إلى قُطرية وهي علمانية، هي علمانية! لم تكن إسلامية، لم تكن دينية، لكن هذه العلمانية تورَّطت في أن تكون نقيضها تماماً، أن تكون أصولية، أصولية علمانية استبدادية طُغيانية تسلطية! فالناس أيضاً كفروا بهذا الاتجاه.
ثالثاً – وهذا السبب ربما يكون هو الأهم، تلك أسباب موضوعية عليها اتفاق بين مُعظَم الدارسين، هذا السبب نحن نُريد أن نُسلِّط عليه الضوء أكثر، أن نجعله في دائرة المُفكَّر فيه، في دائرة المرأي والمُتعاطى معه – شعبوية خطاب الإسلام الصحووي، وكما نقول دائماً هو خطاب منابر، خطاب مساجد، ومجلات وأشرطة وكاسيتات Cassettes، هو هذا! ليس خطاباً نُخبوياً، ليس خطاباً رؤيوياً، ليس متيناً لجهة مناهجية أو لجهة معرفية، حتى انظروا إلى الكُتب، كُتب ثقافة هذه، هذه ليست مُتخصِّصة، حتى نجوم الصحوة لا يُمكِن أن يُقاس مُعظَمهم بأمثال العلّامة الشيخ طاهر بن عاشور، شكيب أرسلان، جمال الدين القاسمي، ومحمد عبده، لا يُمكِن! لا يُوجَد وجه للمُقايسة أصلاً، لا يُوجَد وجه للمُقايسة للأسف الشديد، شعبوية الخطاب!
طبعاً هذا أقصر طريق لكسب الناس، لكنه أقصر طريق أيضاً إلى الفشل والخيبة، وأنا أقول لكم لأننا كمُثقَّفين نتعاطى مع الشأن الفكري كما نقول والإنتاج الرمزي ملزوزون مُضطَّرون ومدعوون إلى أن نستشرف المُستقبَل بتثوير الأسئلة، لابد أن نُثير أسئلة، انتبهوا! لا نكون معنيين فقط بإعطاء أجوبة، نُثير أسئلة! الآن أنا أقول لكم نكسة – وهي نكبة في الحقيقة – السبع وستين جرحت نرجسيتنا القومية أو شعورنا القومي وجعلتنا نتراجع عن تأييدنا الجماهيري الكاسح من المُحيط إلى الخليج للمشروع القومي، واضح! وهنا ضرب الإسلام الصحوي ضربته وبدأت تعلو أسهمه باطراد، وخاصة بعد مُنتصَف السبعينيات، جميل!
الآن الإسلاميون في السُلطة، ومدعوون إلى التغيير وإلى الإصلاح وإلى الإنجاز، لكن ضمن سقف التنمية أو التحديث التام والكامل الذي يتمثَّل في تنمية وفي دمقرطة، نُريد تنمية حقيقية ونُريد دمقرطة، هذا تحديث تام على الأقل الآن، ماذا لو فشلوا؟ سؤال يطرح نفسه، لابد أن نتعاطى معه بكل وجل، لأنه فعلاً مُخيف ومُفزِع، ماذا – لا قدَّر الله ولا سمح، لكن هذا مُحتمَل جداً – لو فشلنا؟ هل سيعني هذا خيبةً للشباب والشواب المُسلِمين والمُسلِمات ومن ثم تراجع التأييد للمشروع الإسلامي برمته؟ هذا مُحتمَل، أنا أقول لكم بكل صراحة – حتى لا أكذب على نفسي – مُحتمَل ومُحتمَل جداً، طبعاً البديل مُخيف، البديل مُزلزِل ومُخيف يا إخواني، إذا حدث هذا أين ستتوجَّه هذه الجماهير؟ أين سيتوجَّه الشباب والشابات؟ إلى بديل آخر، وأنتم تعرفونه طبعاً، هناك تُطرَح بدائل كثيرة، ستوجَّهون إلى بديل آخر ليأخذ حظه في التجربة، لذلك أكبر خطأ ربما تورَّطنا فيه أننا استعجلنا، استعجلنا اغتنام السُلطة! ما كان ينبغي أن نُهرَع إليها يا إخواني، على كل حال هذا ما حصل، ونسأل الله أن يلطف كما يُقال فيما قدَّر، لا إله إلا هو! نسأل الله أن يلطف فيما قدَّر.
إذن يا إخواني الخطاب الإسلامي اليوم في مُجمَله – كما نقول الاستثناءات محفوظة وموجودة – هو خطاب قرَّر أن يتماهى مع الجماهيري، مع الشعبوي! رآه أقصر طريق لكسب العامة ولتصفيق العامة، أقصر طريق إلى قلوب العامة، فرأينا هذه العامة – كما أشرت قُبيل قليل – تفكيرها تفكير حدي واستقطابي، اختزالي تبسيطي، قومي وإسلامي، يساري وإسلامي، علماني وإسلامي! حتى هذه الأزواج من المفاهيم – الأزواج مفاهيمية – تُؤكِّد أن هذه الزوجية باطلة، لا يُوجَد إسلامي وعلماني، يُوجَد إسلامي ويُوجَد علماني ويُوجَد اشتراكي يساري ويُوجَد قومي ويُوجَد وطني ويُوجَ كذا وكذا، إلى آخره! لكن في نفس الوقت – كما قال شيخنا – كلنا مُسلِمون، هو يساري مُسلِم، وهو وطني مُسلِم، وهو قومي مُسلِم، إذن هذه الاستقطابية، هذه الحدية، هذه الأزواج المفاهيمية خاطئة ومُضلِّلة، لكنها أخذت بخناق الخطاب الشعبوي، الرؤية الشعبية الجماهيرية، ينطلقون هكذا! نحن نشأنا في جو إسلامي مُلتزِم منُذ نعومة الأظفار، ما كان يُسأل هل هذا إسلامي أو غير إسلامي؟ لا! هل هذا أخ أو غير أخ؟ أي هل هو في التنظيم أو في غير التنظيم؟ طبعاً لكي يُعترَف بك أخاً لابد أن تكون داخل التنظيم أيضاً، لا يكفي أن تنتمي إلى المشروع الإسلامي فقط، نحن كلنا إسلاميون! لكن هذا لا يكفي، ما معنى أنك إسلامي؟ لابد أن تكون إسلامياً على طريقتي وضمن دوائري الحزبية والتنظيمية، كارثة هذه يا أخي! أن يُقال هذا في المساجد وأن يُصنَّف الناس على هذا الأساس في المساجد في الصف الواحد – أنا أقول لكم – هذا ما جرينا عليه، من زُهاء أربعين سنة نعيش هذا المنطق وهذه الروحية وهذه المزاجية، عقل ونقل يقولون، العقل والنقل! أصعب شيئ أن تُحدِّد متى يبدأ العقل ومتى يتوقَّف العقل حين يتعاطى مع النقل، ما معنى نقل وعقل؟ هل الأمر بهذه البساطة؟ يقولون عقل ونقل! وأصبحت العقلانية طبعاً وتدعيم العقل واستثمار العقل تُهمة، يُقال هذا يستخدم عقلي، يُقال هذا عقلاني، تُهمة!
قلت مرة مُتظرِّفاً هذا يعني ضرورة أن أكون جهلانياً، حين أكون جهلانياً ربما تكون هذه براءة من التُهمة، غريب! يقولون عقل ونقل، ويقولون العقل والقلب، كأن الإنسان يعيش بعقل مُجرَّد أو بقلب مُمحَّض، لا! غير صحيح، عقل وقلب! كل شيئ عقلي لابد أن يكون فيه أثر من العاطفة والشعور والقلب، والقلب أيضاً لا يكون قلباً بلا عقل وبلا ضوابط، لكن هذه مسائل فلسفية لا نُريد أن نخوض فيها، يقولون عقل وقلب، وبعد ذلك يقولون التراث والمُعاصَرة أو التراث والعصر، كأن التراث نص، هو نص لكنه هامشي شارح، النص الذي يتسم بالثبات لكي يُقابَل بالعصر ويقبع هناك في كهف الزمان هو النص المُؤسِّس، الذي لا ننتظر مزيد تنزيل منه ولا نُسخة مُنقَّحة، أعني كتاب الله وصحيح سُنة رسول الله، أي صحيح حديث رسول الله، هذا نص مُؤسِّس فعلاً، لكن بعد ذلك كل ما أُنجِز على هامش هذين النصين المُؤسِّسين من النصوص هي نصوص شارحة، نصوص مُؤوِّلة، هذه تتحرَّك في الزمان باستمرار، وإلى اليوم نُنتِجها ونُنجِزها، ومطلوب منا كمُسلِمين مُعاصِرين نعيش في القرن الخامس عشر الهجري والحادي والعشرين الميلادي أن نُنتِج نصنا، لا نكتفي باستهلاك نص الطبري والطبراني وابن تيمية وابن القيم والماوردي وأبي يعلى ومحمد عبده حتى وفلان وعلان، لا! هم أنتجوا نصهم ونحن مدعوون أن نُنتِج نصنا أيضاً الذي سيُصبِح عما قليل تراثاً، سيُصبِح تراثاً أو أحد مُكوِّنات التراث، هذا مُتحرِّك ونسبي باستمرار، لِمَ يُعطى نوعاً من القداسة المُوهِمة والقداسة الضمنية المشمولة حين يُقابَل بالعصر المُتحرِّك؟ وطبعاً هذا العصر الذي أفهمنا أيضاً خطاب إسلامي أنه بكلمة واحدة يُمكِن أن يُوصَف بالجاهلية، عصر جاهلية! كيف هو عصر جاهلية؟ أفكاره جاهلية، فلسفاته جاهلية، ثقافاته جاهلية، نُظمه جاهلية، وأنساقه جاهلية، ما هذا؟ أهذه جاهلية محضة هكذا؟ غير صحيح! هذا العصر فيه أيضاً أنوار وفيه ضروب من التقدم والإنجاز لم تعرفها الأمة الإسلامية في عصورها الزاهرة – أنا أقول لكم هذا – أبداً.
الآن هناك الديمقراطية – مثلاً – والدولة الحديثة، قد يقول لي أحدكم الآن ماذا عن الدولة الحديثة أو الدولة الحديثة برمتها؟ هنا نحن في النمسا مثلاً، هل دولة عمر بن الخطاب – رضوان الله عليه – تتفوَّق عليها من كل جهة ومن كل اعتبار؟ هذا كلام باطل تماماً، هذه الدولة أيضاً تتفوَّق على خلافة عمر في جهات كثيرة – ليست قليلة – تفوقاً صارخاً، لذلك أحياناً أشعر بالتعب وبالإرهاق – ضميري يُرهَق ويتعب – حين أقرأ لمُفكِّرين إسلاميين وهم أعلام كبار، للأسف يُزيَّف وعينا حين يختار ألا يقول الحقيقة كاملةً، حتى ليس نصفها، يقول ثلاثة أرباعها أو تسعة أعشارها، إذا ارتئيت أن تُخفي عُشر الحقيقة فأنت تُزيِّف، لذلك في المحاكم دُرِج على أن يُقال في القسم: أُقسِم أن أقول الحقيقة كل الحقيقة ولا شيئ غير الحقيقة، كل الحقيقة! لأن بعض الحقيقة قد يُساوي الباطل، فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ۩، هذا هو! هذا بعض الحقيقة، باطل! هذا باطل، هكذا هذا الاجتزاء وهذا الاكتفاء، فمثلاً – الأمثلة كثيرة – يقول لك هذا المُفكِّر أو العالم – مثلاً نفترض – غير المُسلِمين عاشوا أسعد فترات حياتهم في ظل الحُكم الإسلامي، ولم تُنقَص حقوقهم ولا حرياتهم، هذا باطل! باطل تماماً، يا أخي بقراءة بسيطة وسريعة في أي كتاب في التاريخ سوف ترى عشرات المرات تعرَّضوا فيها لمشاكل وأحياناً لمذابح قُتِل فيها الألوف وذُبِحَت فيها معابدهم بالألوف، دُمِّرت كنائس في مصر وما إلى ذلك بالألوف، ليس بالمئات – أنا أعرف ما أقول – وإنما بالألوف، واقرأوا المقريزي – مثلاً – في المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار أو في كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، تراعوا! سوف تراعون، ما هذا؟ إلى هذه الدرجة كانت جماهيرنا الدهماء وحتى الحُكام أحياناً والسلاطين كانوا أصحاب أهواء وأصحاب ظلم وأصحاب عُنجهية وأصحاب استبداد، إلى هذه الدرجة؟ موجود هذا، لكن في النهاية في الجردة الأخيرة – أنا أقول لكم الحقيقة لا تُخجِل ولا تُخيف – وفي الحسبة النهائية تاريخنا مُشرِّف إذا قيس بغيره، كتاريخ وليس كواقع! بمعنى ماذا؟ في الإطار العام – في العموم وفي الإجمال – نحن كنا مُنصِفين إلى حد نُحسَد عليه إزاء غير المُسلِمين، لكن – انتبهوا – هذا مع الاستثناءات التي ذكرنها وهي كثيرة بالمُناسَبة، ليست قليلة وإنما كثيرة ومُرهِقة، مُرهِقة لغير المُسلِمين لأنهم عانوا منها عبر مئات السنين، لكن السؤال هل بلغنا في تعاطينا مع هذا الملف للدول الإسلامية الزاهرة وغير الزاهرة – المُنحَطة المُتخلِّفة – أحسن ما يُمكِن؟ هل ظفرنا بأعز ما يُطلَب بلُغة المهدي ابن تومرت؟ لا، لم يحدث هذا أبداً!
اليوم في التجربة الغربية الواقعية أشياء تجاوزوا بها ما قدَّمه المُسلِم في تجربته، أحسنوا بكثير، تجاوزونا وأحسنوا ما شاءوا، فلنتعلَّم منهم، لا تُوجَد مُشكِلة! أنا كمُسلِم مدعو إلى إعادة قراءة نصي المُؤسِّس – كتابي وسُنة نبيي – بما يجعلني دائماً أُحقِّق شرط التفوق الأخلاقي، أن أُثبِت أنني قادر، بالعكس! أنا قادر على أن أُؤوِّل النص هذا، وبالمُناسَبة أنا أقول لكم شيئاً عن هذا النص لاحظه ابن القيم، لكن لاحظ أيضاً ضمن خلفيته المعرفية وضمن ترسنته المناهجية رحمة الله عليه، هذا النص يا إخواني – أنا أقول لكم – دائماً ينجح في هذا التحدي، إذا أردت أن تُثبِت أن هذا النص أكثر تعاطفاً مع الحريات تستطيع وبسهولة، بسهولة! الصعب العكس، أن تقول لا، هو ليس مُتعاطِفاً تماماً مع الحريات، هذا الصعب! فتُضطَر إلى ادّعاء أنه نسخ بعضه البعض فتقول هذا منسوخ وهذا متروك العمل به، ومائتا آية لا يُعمَل بها، هذا كلام فارغ! أنت تنقض النص الآن وتهدم بنيانه باسم أنك تُؤوِّله، أنت لا تُؤوِّله، أنت تهدمه! تقول لي مائتا آية منسوخة، بماذا؟ بآية واحدة لا يُدرى ما هي وأين هي، ستة أقوال فيها، ستة أقوال! هذا غير صحيح، العكس صحيح، سوف تُساعِدك وتُسعِدك وتنصرك وتتجارى إليك مئات الآيات لتقول لك أنا مع العدل، أنا مع الحرية، أنا مع كرامة الإنسان.
بكلمة واحدة – إخواني وأخواتي – يُمكِن أن نُعيد قراءة نصنا وأن نفهم هذا النص بما يجعله ينحاز إلى الإنسان، الانحياز المُطلَق للقرآن للإنسان، بعد ذلك أنا سأكون حراً، سأكون حراً في القول كل ما يُشكِّل انحيازاً إلى الإنسان هو إسلامي، هذا ديني! كيف تقول هذا؟ أقول هذا وأنا مُطمئن، وأقدر أن أُبرهِن هذا، وأُحقِّق شرط التفوق الأخلاقي، هناك مُفكِّر فرنسي حي ألَّف كتاباً قبل بضع سنين – ربما ثلاث أو أربع سنوات – قال فيه إن الإسلام في القرن الحادي والعشرين إما أن يكون ديناً روحانياً أو سينقرض، كأنه يستلهم ألبرت شفايتزر Albert Schweitzer الذي ذكَّرته بمقولته أكثر من مرة، كان يقول في العصر المُقبِل البقاء للأديان الأخلاقية، ليس لأديان التشريع، ليس لأديان التابوات Taboos والحلال والحرام وافعل ولا تفعل، لا ليس هذا! وإنما للأديان الأخلاقية، عليك دائماً أن تُبرهِن أنك تنجح في امتحان التفوق الأخلاقي، بمعنى ماذا يا إخواني؟
اليوم شيخنا الفاضل – حفظه الله – يقول – أنتم تضحكون لكن هذه كلمات مُوحية – قلت له يا ولدي أين الدولة الإسلامية لكي أذهب وأعيش فيها؟ النمسا كافرة، إذا هذه دول حرب وكفر فاخرج منها، اقض حاجتك واخرج! قال له أين الدولة الإسلامية؟ هذه النُكتة ليست نُكتة أبداً يا إخواني، هذه حقيقة واقعية ملموسة وجاثمة أمامنا، لن أضرب أمثلة أيضاً حتى لا نجرح بعض الناس، بعض هؤلاء الشباب المُسلِم أيَّد ضربات تفجيرية وانتحارية وإرهابية بلا شك باسم الإسلام في الغرب هنا الذي احتضنهم وأعطاهم حق الإقامة والتجنس وحق العيش الكريم، ورحمة الله على شيخنا محمد الغزّالي، كان يقول المُسلِم في أوروبا ينام ملء جفنيه وهو هنا لا يأمن على نفسه ولا أهله أن يُختطَف في كل لحظة من نهار أو من ليل، أي في دول العروبة والإسلام، أليس كذلك؟
حين نقول هذا ونُصارِح أنفسنا نرى أن هؤلاء الذين يُؤيِّدون الإرهاب والاستئصال والقتل والذبح والتفكير ودار حرب ودار كذا لا يودون بالمرة أن يعيشوا في ظل أي دولة إسلامية اليوم، حتى في تلك التي تُطبِّق الشريعة! يقول الواحد منهم لا، أنا أعيش في النمسا، أعيش في بريطانيا، أرجوكم! أحدهم في لبنان يبكي – يبكي أمام سفارة بريطانيا – قائلاً أعدوني إلى بريطانيا، عشرون سنة وأنت تأكل من مُساعَدات الإنجليز، ثم تُؤيِّد ذبحهم في الـ Underground والــ Subway، غير معقول يا أخي! أي أخلاق هنا؟ والآن تبكي وتقول أُريد أن أعيش في كنفهم، هذا يعني أنك تعترف بما يجب أن يُعترَف به، أنهم مُتفوِّقون أخلاقياً، يُعطونك حريات حقيقية.
بالأمس قلت لإخواني الذين زاروني من بلجيكا في المكتب آية لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩ أروني أين هي مُطبَّقة في العالم العربي؟ مُطبَّقة في أوروبا، أنا أرى التطبيق الحقيقي لآية لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩ في أوروبا، هنا لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، حقيقةً لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩! الشيخ – بارك الله فيه – يقول لم يسألني شرطي وأنا أتدحدح، نحن هنا نتدحدح ونترحرح ونتبحبح من رُبع قرن، ولا مرة – أنا شخصياً وأنا إمام منبر أتكلَّم في الناس في العموم – أرسلوا إلىّ إلا مرة واحدة بدسيسة من بعض الناس الموتورين، الله أعلم بهم! وبرأوني بفضل الله تبارك وتعالى، تحقيق مع النائب العام فيه إنصاف وفيه احترام وفيه رقي شديد جداً، وخرجت براءة بفضل الله، فيما عدا ذلك – حتى أكون صادقاً – ولا مرة أُرسِل إلىّ أن تعال، ما الذي تقوله؟ وكم مرة انتقدت الغرب! مئات المرات، مئات المرات انتقد الغرب، وأقول إمبريالية الغرب، استعمارية الغرب، تحيز الغرب، وما إلى ذلك! رأيك هذا وأنت حر، كل إنسان له رأيه، هناك في الغرب مَن ينتقد الغرب، نحن تعلَّمنا نقد الغرب الحقيقي منهم، هم الذين ينتقدون أنفسهم، هنا نحن نرى الترجمة الواقعية لآية لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، أنا لا أرى لها ترجمة في العالم العربي، هناك إلى اليوم يُسلَّطون عليك سيف الردة، يُمكِن أن تُقتَل بتأويل أنك مُرتَد، قال كذا وكذا وهذا يعني أنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، هو لا يعني هذا! لكنه يعني عندهم، تُستتاب وإلا قُتِلت.
الدكتور حسن الترابي قديماً أيام النُميري ساهم في مسألة إعدام محمود محمد طه رحمة الله عليه وغفر الله للجميع، وبعد ذلك الشيخ الترابي – حفظه الله – تعرَّضأيضاً لتُهمة الردة، قيل ارتد! أفتى بكذا وكذا فإذن هو مُرتَد، يُستتاب وإلا قُتِل، نفس الشيئ، من نفس الكأس، غريب!
التفوق الأخلاقي مُهِم، شرط التفوق الأخلاقي، هذا مُمكِن وليس مُستحيلاً، هناك نُقطة أيضاً حتى لا أتيه عنها ولا أضل عنها: النُخبة الإسلامية، المُفكِّر المُسلِم، المُثقَّف المُسلِم إذا اختار أن يكون شعبوياً وأن يتماهى مع الشعب ومع الجمهور ومع العامة فهذا يعني وجود مُشكِلة، تعرفون ما هي المُشكِلة؟ سيعجز أن يُنتِج خطاباً، لا يُوجَد خطاب Discourse، لا يُوجَد خطاب، يُوجَد وعظ، يُوجَد كلام مُهمَل مُلقى مُرسَل مُطلَق، لكن لا يُوجَد خطاب، مثلاًؤكلمة خطاب، الخطاب شيئ ضروري في تنمية وعي الناس وشحذ وعي الجماهير، هذا الخطاب غير النص، قد يقول لي أحدكم لماذا؟ هل الخطاب هو النص؟ لا، هل الخطاب هو النص المقول المُشافه به أو المكتوب؟ لا، لا ليس هذا، يُوجَد نص ويُوجَد خطاب، النص شيئ والخطاب شيئ ثانٍ، في العلوم المُختَصة الخطاب شيئ آخر، ما هو الخطاب؟ ما الفرق بين النص وبين الخطاب؟ النص ذو طابع سكوني استاتيكي، النص فيه جمود، النص أُنجِز وانتهى الأمر، يُحنَّط في مكانه، هذا النص! لكن النص يُمكِن أن يستحيل خطاباً، كل نص مُرشَّح أن يصير خطاباً Discourse، متى؟ إذا بدأ يعمل في اتجاهين، فيذهب ويجيء، هذا خطاب! بهذه العقلية الشعبوية الجماهيرية لا نُنتِج خطاباً، أنا مرة قلت على المنبر وأنا مُستاء من نفسي إنني خطيب من أكثر من رُبع قرن، وأنا مللت والله العظيم، مللت وزهقت! لذلك الآن أنا فعلاً بدأت أعكف على التأليف، وإن شاء الله الآن أكاد أفرغ من كتاب كبير يُعالِج قضايا مُهِمة في الفكر الإسلامي، أسأل الله أن أكون أصبت فيه على الأقل في بعض ما تعاطيت معه، مللت من قضية أن أصعد المنبر وأن أُعطي في اتجاه واحد واذهب إلى بيتي، يُوجَد نوع من العقم هنا، يُوجَد شيئ غير عادي، لابد من وجود تعاطٍ، كما قلنا يذهب ويجيء، ويجيء ويذهب، باستمرار باستمرار! هذا اسمه خطاب، إذن خطاب ذو طابع تفاعلي Interactive!
تفشل إذا لم تعمل على ترقية وعي الجماهير أن تُحوِّل نصك المُشافه به أو حتى المكتوب إلى خطاب، سيبقى نصاً! لكن إذا عملت على ترقية وعيهم فالأمر سيختلف، أبو حنيفة مثلاً – أنا أقول لكم ربما بالذات أبو حنيفة رحمة الله عليه – كان لا يُنتِج نصاً فقهياً اجتهادياً، وإنما كان يُنتِج خطاباً فقهياً، معروفة طريقة أبي حنيفة! ألف من تَلاميذه، ومُحاوَرة! الألف يتحاورون مع شيخهم وفيما بين بعضهم البعض، بعد ذلك يُختزَل الألف في مائة أقوى وأصلب وأمتن علمياً، والمائة في عشرة، والعشرة في اثنين، مثل محمد بن الحسن الشيباني صاحب كُتب ظاهر الرواية وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الكُليني رحمة الله عليهما، هكذا! هذا خطاب، هذا ليس فقهاً نصوصياً، هذا فقه خطابي، هذا خطاب فقهي! ولذلك بالمُناسَبة فقهه اليوم أكثر فقه مُرشَّح أن يعيش أيضاً، فقه قوي وخدم إمبراطوريات كالإمبراطورية العثمانية ووفى بحاجتها، وفى بحاجات هذه الإمبراطورية!
إذن لكي نُنتِج خطاباً كنُخبة إسلامية علينا ألا نتماهى مع الجماهير، قد يقول لي أحدكم هذا يعني علينا أن ننفصل عن الجماهير، وقعنا في مطب آخر، إذا انفصلت عن المجاهير وابتخستهم ونظرت إليهم على أنك الخاص المُتميِّز المُفارِق المُتعالي وعلى أنهم القاعدة الهابطة الواطئة والذين يأكلون فتات ما تجود به قرائحنا الرؤيوية الاستبصارية فقد وقعت في محظور عظيم جداً جداً، وتفشل أيضاً كمُثقَّف وكنُخبة، تفشل تماماً! كيف؟ نحن الآن أمام شبه مُعضِلة، إذا تماهينا لا يصلح، إذا تعالينا لا يصلح! ماذا نفعل؟ نحن قلنا آلية الاقتراب والابتعاد، إنتاج كل وعي بآلية الاقتراب والابتعاد، نقترب ونندمج ثم نبتعد.
أرنولد توينبي Arnold Toynbee مُؤرِّخ الحضارة العظيم وصاحب دراسة التاريخ ماذا قال؟ تحدَّث عن كل المُصلِحين والتنويريين العظام عبر التاريخ، مثل موسى، عيسى، بوذا Buddha، المسيح، ومحمد، ذكر هؤلاء بالذات، وبالمُناسَبة قال هؤلاء هم الأعظم تأثيراً في تاريخ البشرية، وكونفوشيوس Confucius إلى حدٍ ما، قال هؤلاء كلهم مارسوا هذه الآلية بما أسماه توينبي Toynbee الانسحاب والعودة، لكن نحن نُضيف على توينبي Toynbee انسحاب وعودة ليس لمرة واحدة كما فعل بوذا Buddha مثلاً، لا! وإنما لمرات مُستمِرة، هنا قد يقول لي أحدكم الرسول فعلها مرة واحدة، لا! هذه مرة مُؤسِّسة للتلقي، أي تلقي الخطاب، وهو خطاب السماء! همزة الوصل، وبعد أن اتصلت ظل النبي يُمارِس هذا مع الجمهور باستمرار، قال فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ۩ وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب ۩، اقتراب وابتعاد واقتراب وابتعاد مُستمِران، اقتراب وابتعاد مُستمِران – إخواني وأخواتي – حتى يُمكِن أن نُنتِج وعياً وأن نُحسِّس الناس بهذا الوعي، نُنتِج خطاباً كما قلنا لكم، لكن للأسف نختم الآن في عشر دقائق.
القرآن الكريم – إخواني وأخواتي – لدينا، ونحن سوف نرى الخطاب الإسلامي – خطاب الفقهاء والأدباء والشعراء والعلماء والمُنظِّرين – وسوف نرى الكلام الرباني، النص الرباني والنص النبوي!
في كتاب الله – تبارك وتعالى – لا يُوجَد هذا التقسيم – عامة وخاصة – وإنما يُوجَد خطاب واحد، عجيب! الأصل في علم أصول الفقه أن كل ما تُؤمَر به الأمة يُؤمَر به النبي وكل ما يُؤمَر به النبي – خطاب وجاه أو مُواجَهة كما يُسميه بعضهم – تُؤمَر به الأمة إلا أن تقوم القرينة على أنه من خصوصياته، كما قال نَافِلَةً لَّكَ ۩، هذه لك، أي خاصة بك، انتهينا! خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۩، خاصة! هذه خصوصيات النبي، والخصوصية لا تثبت إلا بالدليل، لابد من دليل، ليس بالقياس وما إلى ذلك وإنما بالدليل، فيما عدا ذلك الخطاب واحد، عجيب! حتى بين رسول الله وبيننا واحد، خطاب الذكور باتفاق العلماء الأصوليين تدخل فيه الإناث، إلا ما قامت القرينة على استثنائه وإخراجه، نفس الشيئ! خطاب واحد، لا يُوجَد خطاب للعامة وخطاب للخاصة أبداً أبداً، هذا أولاً.
ثانياً – انتبهوا – الأصل في المسألة مفهوم أصولي مشهور جداً وهو مُعتاد ومطروق: التكليف، أي مفهوم التكليف، ما مفهوم التكليف؟ كما محمد – عليه السلام – مُكلَّف أنت يا مَن يُقال إنك عامي ومسكين وأُمي ومُزارِع وما إلى ذلك مُكلَّف، عجيب! هل أنا لست عبداً مأموراً؟ ما معنى أن تكون عبداً مأموراً؟ أنت مُكلَّف، مُكلَّف أن تفهم، مُكلَّف أن تعمل، مُكلَّف أن تستفتي قلبك، مُكلَّف أن يصحو ضميرك، مُكلَّف أن تحمل عبئك وحدك، هنا قد تقول لي لا، هناك أُناس تُضلَّل، هناك الوعي الزائف، يتم تزييف الوعي، يُزيَّف وعينا ويُضلَّل وعينا! الله قال لا تُوجَد مُشكِلة، المُضلَّل والمُضلِّل كلاهما في النار، ما هذا؟ الآن قد يُقال هذه ناحية ليس فيها إنسانية، بالعكس! هذه الإنسانية الحقة، لكي يُعطيك كيانتك واستقلاليتك، أنت إنسان مُكرَّم، أنت بحد ذاتك عالم، أنت كون! كل واحد فينا عالم، كون كامل! لا يُوجَد قطيع، لا يُوجَد راعٍ واحد عند عقل وقطيع بلا عقل، ألوف من القُطعان! في الخطاب الإسلامي بعد ذلك حدث العكس تماماً، طبعاً الأدبيات كثيرة جداً، لكن أجتزئ بواحدة أو ثنتين.
في الأخبار المُوفقيات للزُبير بن بكّار – رحمه الله – يتحدَّث الزُبير بن بكّار عن مجلس ضم الخليفة المأمون – المأمون عبد الله بن هارون الرشيد – ويحيى بن أكثم – وزيره السُني الأول، قال له يا يحيى قد عزمت وخار الله لي على لعن مُعاوية، قال له أنا عندي مشروع لكي نلعن مُعاوية ونأمر بلعنه على المنابر، قال له يا أمير المُؤمِنين أنصحك ألا تفعل، قال له لماذا؟ قال له العامة لا تحتمل – وخاصة أهل خراسان – وربما تأدى بهم هذا إلى نُفرة فيكون ما لا تُحمَد عُقباه، وبدأ يُبرِّر! فاختار المأمون رأيه ونزل عليه، قال له هذا نعم الرأي، دعنا من هذا، قال له أحسن في تدبير المُلك ألا تفعل، لماذا؟ لماذا تُؤلِّب عليك الناس؟ فسكت! فدخل ثُمامة – ثُمامة بن الأشرس، العقلية الكبيرة والمُعتزِلي – فقال له يا ثُمامة قد اتفق لي مع يحيى كذا وكذا، قال يا أمير المُؤمِنين وهل تبلغ العامة ما وضعها فيه يحيى؟ إن الله – تبارك وتعالى – لم يرض أن مثَّلهم بالبهائم، سوَّاهم بالبهائم حتى جعلهم أضل سبيلاً، فقال إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ۩، قال له ما العامة هذه؟ والله يا أمير المُؤمِنين – انظروا إلى هذا، هذا خطاب ارتكاسي، هذا خطاب نكسة، تراجع هذا، ضد الروح القرآنية والنبوية – لو أرسلت إليهم عبداً على عاتقه سواد بعصا لساق إليك منهم عشرة آلاف، هؤلاء أغبياء، عامة! هؤلاء قُطعان، بأي شيئ يتحرَّكون، ينعقون مع كل ناعق، يميلون مع كل مائل! يا أمير المُؤمِنين لقد مررت بدرب الخُلد قبل أيام – طريق في بغداد – فرأيت رجلاً قد بسط رداءً له ووضع عليه أدويةً وهو يُنادي بين الناس وقد أحدق به الناس، يُنادي هذا الدواء نافع ناجع لضعف البصر والعمش وظلام العين، قال يا أمير المُؤمِنين – والله – إن إحدى عينيه لمطموسة والأُخرى مُوشِكة، أي سوف تُطمَس! قال فوقفت هكذا وقلت له يا عبد الله ما رأيت أعجب من أمرك! قال وما ذاك؟ قلت له تُنادي وتقول كذا كذا وعيناك كلتاهما أحوج إلى هذا الدواء من عيون هؤلاء، أنا أرى أنهم جيدون جميعاً، قال والله لي في هذا المكان أزيد من عشرين سنة ما مر بي أجهل منك! قال له وكيف ذلك؟ قال ثُمامة كيف ذلك؟ أجهل مني! فقال له نعم، قال له يا رجل هذه العين طُمِسَت بمصر، وهذه تضررت بالشام، تُريد من دواء رُكِّب في بغداد أن يشفيهما؟ قال فثار بي العامة إنك لجاهل، والله إنك لجاهل! قال فما تخلَّصت منهم يا أمير المُؤمِنين إلا بمُوافَقتهم، قلت والله ما دريت أن هذه طُمِسَت بمصر وأن الأُخرى تضررت بالشام، صحيح! أنا جاهل، فالمأمون ضحك! ضحك حتى استلقى وقال ماذا لقيت منك العامة يا ثُمامة؟ قال دون ما لقيَت من رب العزة جل ثناؤه من قبيح الذكر وسوء الأُحدوثة، إذ قال فيهم وقال.
هذا التفكير ابتخاسي امتهاني، طبعاً أنا أقول لكم هذه واقعة، العامة اليوم هم أسوأ حالاً من عامة ثُمامة بن الأشرس، أنا أقول لكم حقيقةً أنها أسوأ، هذا موجود! لكن هناك السؤال الذي ابتدأت به هذه المُحاضَرة السريعة، مَن المُذنِب؟ مَن الذي يتحمَّل التبعة؟ مَن هو السبب؟ نحن الذين ندّعي العلم والوعظ والإرشاد والتفكير والنُخبة، نحن! نحن لم نُرق وعي هؤلاء.
شيخنا الفاضل ذكَّرنا بربعي بن عامر، هذا كان صحابياً بدوياً، وليس يُعرَف بكثير شيئ بين الصحابة، في ديوان الصحابة غير معروف، لا نعرف عنه إلا الرواية هذه، لكن رأيتم من ربعي بن عامر هذا الذي دخل على رُستم بدابته ومعه الرُمح كيف خاطب رُستم ابن الدولة الساسانية والقائد العظيم، بخطاب بلُغة الفكر هو خطاب ينم عن درجة من الوعي عالية جداً، تجعل أمثال رُستم جهلة ممحوقين من ناحية الوعي، هذه ليست معرفةً وليس علماً.
رحمة الله على عليّ شريعتي المُفكِّر الإيراني العظيم الشهيد، عليّ شريعتي كان يقول هناك فرق بين العلم والمعرفة والوعي، قلنا لكم الوعي دائماً مُشرَّط مُسيَّق من السياق أو مُسوَّق من ساق يسوق، على كل حال كان يقول عليّ شريعتي أبو ذر الغفاري لا يُقاس بابن سينا من ناحية – أي لجهة – العلم والمعرفة، أين هذا يا بابا؟ ابن سينا عنده منطق وفلسفة وطب وأساطير، وماذا تُريد؟ هذا ابن سينا! موسوعة مُتحرِّكة، إنسيكلوبيديا Encyclopædia، من ناحية المعرفة أبو ذر لا شيئ، ومن ناحية الوعي ابن سينا صفر، أبو ذر مائة مائة، لماذا؟ أبو ذر تشرَّب روح الإسلام وفهم جوهر الإسلام في أربع ليال في مكة فقط! وذهب إلى غفار ولم يأت إلى المدينة إلا بعد الأحزاب، تخيَّلوا! أي بعد الخندق، أبو ذر خليلي، حدَّثني خليلي! شيئ غريب هذا الرجل الذي ناهض الظُلم والعبثية واستفحال الطبقية في المُجتمَع، درجة عالية جداً من الوعي! ابن سينا كان يعمل حين تقتضي كل الظروف خادماً أميناً ذليلاً لأجل سُلطان يُعطي الثمن، لا يُوجَد وعي، وعي ماذا؟ عندك ثقافة ومعرفة أنت، خزينة كُتب فقط، لكن لا الأفغاني وبعد ذلك عبده، عبده – رحمة اللهيُوجَد وعي، الوعي الذي أنطق محمد عبده رائد الإصلاح الكبير أو ثاني رائدي الإصلاح، الأول تعالى عليه – كان يقول المُسلِم شعاره أنا عبدٌ لله وحده، سيدٌ لكل شيئٍ بعده، هكذا الدين علَّمني، هذا وعي عجيب، هذا وعي وليس معرفة، حالة من حالات الوعي، لكن – كما قلت لكم – ثقافة ابتخاس العامة أدبياتها كثيرة جداً في تراثنا للأسف الشديد، نحن المسؤولون!
يُحدِّثنا ابن شاكر الكتبي – رحمة الله عليه – في الوفي بالوفيات عن كلثوم بن عمرو العتّابي الذي حدَّثتكم عنه في خُطبة المُناظَرات المسيحية الإسلامية، كلثوم بن عمرو العتّابي يقول عمرو الورّاق رأيته بباب الشام يأكل خبزاً أمام الناس، وهذا كان عيباً عن العرب، أن تأكل في الشارع هكذا عيب وأنت أديب ومُصنِّف وشاعر كبير، وهو كان يرتاد ديوان الملوك، أي الخليفة! فقال له أما تستحي؟ قال له مِمَن؟ قال من العامة، الناس يرونك وأنت تأكل، قال يا رجل بالله عليك لو كنت تجلس في خان كل ما فيه بقر – أعزكم الله وأعزكن كلهم بقر – أكنت تستحي أن تأكل من البقر؟ قال لا، قال الآن أنظرني، اصبر حتى أُريك أنهم بقر، ما هم إلا بقر، هؤلاء مجموعة بقر، كلهم بقر هؤلاء! بلحية ومن غير لحية وبحجاب ومن غير حجاب لكن كلهم بقر، تخيَّلوا! قال كيف؟ حتى إذا أكمل لُقمته قام فوعظ وذكَّر ووعظ وأمر ونهى ودعا وأكثر، فأرسلوا دموعهم وهزوا رؤوسهم وما إلى ذلك، ثم قال لهم حُدِّثنا من غير وجهٍ – قال ما شاء الله حديث يستند هذا من أكثر من طريق – أنه – صلى الله عليه وآله – قال مَن بلغ بلسانه أرنبة أنفه لم تمسه النار، فأخرجوا جميعاً ألسنتهم كلٌ يجتهد أن يبلغ بطرف لسانه أرنبة أنفه، قال ما قلت لك أنهم بقر؟ ما هم إلا بقر، قال فحجني، أفحمني! بقر هؤلاء، أي أحد يضحك عليهم.
قد تقول لي هل هذا يحصل اليوم؟ يحصل ما هو أسوأ من هذا مليون مرة، يا ليت نحن فقط نبلغه، فالأمر لا يقتصر على هذا! يقتل بعضنا بعضاً، يُقال اذهب وفجِّر نفسك فيهم، في مسجد! في مسجد فجِّر، كُفار هؤلاء وزنادقة وأعداء للإسلام، تسمع تفجيرات في العراق وفي باكستان وفي كذا وكذا، شيعي في سُني وسُني في شيعي، غير معقول، قتل! اقتل، فجِّر، واذبح، غير معقول، شيئ مُخيف جداً، شيئ مُخيف ومُحزِن جداً.
إذن نعود إلى النصوص كما قلت، وقد تجاوزت قليلاً إخواني وأخواتي، فلعلي أختم الآن، النصوص! إذن هانك مفهم التكليف، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۩، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا – هم العبيد المأمورون – كَانُوا خَاطِئِينَ ۩، قال لك عبد مأمور، ما معنى عبد مأمور؟ إلى جهنم، إلى جهنم مع سيدك، لا يُوجَد عبد مأمور، أنت إنسان مُكلَّف وعندك دماغ، أنت مُكلَّف! هل تعرف ما معنى أنك مُكلَّف؟ أنت استويت بهذا الاعتبار ومن هذه الحيثية مع محمد صلى الله عليه وسلم، محمد كُلِّف! يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ۩، أليس كذلك؟ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۩، والله قال لك أنت أيضاً اتق الله واستقم، أليس كذلك؟ هذا يعني إذن لماذا أعرت عقلك أو استعرت عقلك غيرك والعقول لا تُعار؟ لماذا؟ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ۩، هكذا يجب أن نُخاطِب العامة بالمُناسَبة، أنا دائماً أعتب على نفسي وخاصة في مراحلي السابقة، أنا ثقيل على العامة، ثقيل! وعفواً كلمة عامة حتى هذه ما عُدت أستسيغها للأسف الشديد، وأنا فكَّكت هذا المُصطلَح، ثقيل على الناس، على إخواني، على الجمهور! لكن دائماً أراني ملزوزاً أن أبقى على هذه الطريقة، لا أُحِب أن أُجامِل الناس على حساب الحقائق وأقول لهم ما شاء الله وجوهكم مُنوَّرة، والله إني لأرى هذا، أنا لا أرى هذا الشيئ، ما هذا الكذب؟ ولا أراه في نفسي، هناك مَن يقول وجوهكم مُنوَّرة، أرى فيها نور الإيمان والإحسان، أنتم كذا وكذا، لا أُحِب هذا الأسلوب من صغري! والله لا أُحِب هذا الأسلوب يا إخواني، وشعرت أنه آذانا آذانا آذانا، آذى الخواص وآذى الجماهير يا إخواني، ساهم في تخلفنا! لابد أن نُعوِّد أنفسنا أن نقول الحقيقة وأن نحتمل سماعها يا إخواني، لا خير فيكم إن لم – هكذا يجب أن نُخاطِب خُطباءنا وعلماءنا – تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها، يجب أن نتعوَّد أن نسمع الحقيقة، وليس فقط كما كان يقول الراحل إدوارد سعيد المُفكِّر والمُثقَّف وظيفته أن يقذف بالحقيقة في وجه السُلطة، أنا أقول لكم من أعظم السُلطة اليوم الآخذة برقاب النُخبة الإسلامية العامة، سُلطة العامة! كثير ما يحدث أن الإنسان يُحِب أن يقول شيئاً لكن تمنعه وهيبته العوام، انتبهوا! النبي ماذا قال؟ قال لا يحقرن أحدكم نفسه، يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال يرى أمراً لله فيه مقالٌ فتمنعه خشية الناس أن يقول، يخاف من أن يُبهدلوه أو يُزندِقوه أو يُكفِّروه أو يسبوه وما إلى ذلك، فيسأله الله يوم القيامة فيقول منعتني خشية الناس، فيقول الله – تبارك وتعالى – فإياي كنت أحق أن تخشى، يذهب الناس إلى حيث شاءوا يا أخي، هم شاءوا أن يكونوا مطموسي البصر، لا يُحِبون أن يسمعوا الحقيقة، هم أحرار! أنا مُكلَّف أن أقول الحقيقة، وإذا اختاروا ألا أقولها سأجلس في بيتي، لا تُوجَد مُشكِلة! إذا قالوا لا تخطب فينا بعد اليوم لن أخطب، لكن سأقول الحقيقة، أنا مُلتزِم بالحقيقة، يجب أن أقولها! وطبعاً من حق الناس ومن واجبي أيضاً أن يُناقِشوني، لابد من النقاش! لكن ليس من حقهم ولا يسوغ في جحقي أن أُدغدِغ عواطفهم وأن أُسمِعهم ما يشتهون، ما يطلبه المٌستمِعون! لا يُوجَد في الحقائق وفي بناء الأمم والنهضات والتنمية ما يطلبه المُستمِعون، يُوجَد ما تقتضيه الظروف والحقيقة والالتزام بالحقيقة يا إخواني.
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۩، ماذا قال الله إذن؟ هو استخفهم وهم مساكين، صاروا خفافاً، قال إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ۩، هو أصلاً ما فلح أن يستخفهم إلا لأنهم فسقوا عن أمرنا، لو لم يفسقوا لما استطاع أن يستخفهم، لم يكن عندهم صرامة أخلاقية، لذلك استخفهم! فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۩.
إخواني وأخواتي:
آيات سبأ من أعجب الآيات، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ۩، أنتم السبب! نحن كفرنا بسببكم، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ۩، وأين الملحظ في الآيتين؟ أن الله – تبارك وتعالى – حكم على كلا الفريقين بأنهم من نُزلاء فندق جهنم والعياذ بالله، من نُزلاء جهنم! وليس هذا فحسب، وبداءةً من أول الآية عنون الفريقين بعنوان الظلم، قال وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ ۩، فهمنا أن المُستكبِر في الأرض – هذ ا الطاغوت الفرعوني المُتألِّه – ظالم، فماذا عن المُستخَف به والمُستضعَف المُستكرَه؟ لماذا هو ظالم؟ الله قال ظالم، ظلم نفسه! ظلم النفس بالمُناسَبة اصطلاح قرآني عجيب، ولعله من مُختَصات كتاب الله، ظلم النفس وليس ظلم الغير، أي تظلم نفسك، وهذا أقبح الظلم، أن تظلم نفسك في مُطالَعة وجه الحقيقة وأن تدّعي استعارة عقول غيرك وأمزجة غيرك ومصالح غيرك، أن تلتزم بمصلحة الغير وتُضيِّع الحقيقة من أمام البصيرة، لا يجوز!
هذا هو الخطاب، رسول الله إذن يا إخواني لم يلتزم فقط بالصالح العام، لم يلتزم بهم الناس فقط أبداً، بل عمل أيضاً على ترقية وعي الناس، حسَّسهم أنهم يستطيعون، هل نستطيع؟ نستطيع! نستطيع أن نعي، نستطيع أن نفهم، واليوم أيضاً قلت لإخواني ونحن في طريقنا إليكم أنا لو أن الخطاب الإسلامي – خطاب المنابر حتى، خطاب المساجد، خطاب التلفزيون Television والفضاء الإعلامي هذا، إلى آخره – عوَّد الناس أن يتجرأوا كما قال كانط Kant على النقد وأن يستخدموا عقولهم، قال لي كيف؟ قلت له هذا – مثلاً – في كل شيئ، وتجده حتى إذا رأيت فيلماً مثلاً، قلت له أنا قبل يومين رأيت فيلماً لمحمد هنيدي، هذا مُمثِّل مصري لطيف، المُهِم في أول الفيلم -وأنا أنتهز هذه الفُرصة دائماً لكي أُعلِّم مَن حولي إذا كانوا في موضع التعليم كأولادي مثلاً – الرجل فك الخطوبة ورفض أن يتزوَّج بفتاة لأنها تسمع الموسيقى والغناء، مُتزمِّت! قال لا، وانتهى به الحال أن تزوَّج مُغنية ومُستورَدة، كانت لبنانية! فقلت السيناريست أو كاتب السيناريو – هؤلاء الناس عندهم ذكاء وإبداع، هذا الإبداع الفني فعلاً – أراد أن يُوصِل رسالة، رسالة ذات مغزى! ما هي؟ أن كل المواقف الحدية تجعل الإنسان عُرضةً للانتقال الدراماتيكي إلى النقيض، من النقيض إلى النقيض! الآن هو لن يتزوَّج لأن الفتاة فقط تسمع الغناء، غداً هو سيتزوَّج مُغنية، لكن لو من البداية توسَّط ووقف موقفاً مرناً لأمكن أن يحتفظ به حتى النهاية، لأنه وسط!
كانت هي الوسط المحمي فاكتفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفاً.
لماذا أتطرَّف؟ هذه رسالة، قالوا عجيب! كيف قرأته من هذه الزاوية؟ قلت هذا طبيعي، أفعل هذا بتلقائية كالنفس.
قبل أشهر رأيت لقطة في مُسلسَل سوري اجتماعي رائع جداً وهو مُسلسَل الأميمي، رجل يُحدِّث أحد الزُعران – كما يُقال باللُغة الشامية – عن زوجته التي طلَّقها لأن لها ماضياً سيئاً، أخطأت المسكينة مرة في حياتها، باعت الهوى من أجل ابنها اليتيمة، هي أرملة! فعلت هذا مرة واحدة وتابت إلى الله توبة نصوحة، لكن طلَّقها زوجها، لم يحتمل هذا لما عرف، فهذا الأزعر للأسف الشبيح مُباشَرةً ذهب يتلصص عليها في الليل، هناك لقطة أثارتني جداً، في أول مرة يتلصص عليها من حيث لا تراه – هو يراها وهي لا تراه – رأى أنها تستدعي ابنها الصغير – ابن تقريباً تسع سنوات – ليصب عليها ماء الوضوء، أي وضوءاً، فأنا قلت جميل، هذه فاتحة مُمتازة، الآن هو سوف يرى أنها امرأة شريفة وامرأة مُحترَمة مُتعفِّفة وينصرف، لكن هذا لم يحدث أبداً، جلس وبدأ يتأمل في يديها، قلت لزوجتي أرأيتِ؟ هذا السيناريست أيضاً ذكي جداً، أراد أن يُوصِل رسالة وقد وصلتني الآن، الآن وصلتني مُتأخِّرة في ثوانٍ! قالت ما هي الرسالة؟ قلت يقول لنا تديننا المغشوش – بلُغة الشيخ الغزّالي رحمة الله عليه – المعلول الشكلاني الطقوسي الخالي من الروح والهدفية والغرضية يُجامَع تماماً – أي هذا التدين – الخطيئة، يُجامِع السقوط، يُجامِع اللاأخلاقية، عادي! لماذا؟ لأن هذا لما رآها تُريد أن تُصلي قال فلتُصلي! ما المُشكِلة؟ تُصلي وتبيع الهوى، وهذا موجود في المُجتمَع، يُصلي ويؤم في المسجد أو يُأم وربما يُصلي خمس صلوات ويسرق، يتغوَّل أموال الناس! يُصلي ويغتاب إخوانه في المسجد، يبدأ يغتابك ويغتابني في المسجد بعد الصلاة وبعد صلاة الجُمعة، طبيعي! لا تُوجَد مُشكِلة، كبائر – من أبشع الكبائر – تتجامع مع خمس صلوات في المسجد، يُصلي ويُعطي فتاوى بتكفير المُسلِمين واستباحة دمائهم ويُعلِّم – ليس يُصلي فقط بل ويُعلِّم أيضاً – الدين!
إذن كل هذه الفواحش وكل هذه المظاهر من السقوط والإجرام والانحراف تُجامِع التدين الشكلاني، تُجامِعه! كاتب الرواية أو السيناريو يعلم هذه الحقيقة، أراد أن ينخز – بلُغة سقراط Socrates – ضمائرنا، سقراط Socrates كان يقول أنا مثل الذباب، وظيفتي الوخز، لكي تتحرَّك دائماً الخيل، أنا – قال – مثل الذباب، فهو أراد أن يخز ضمائرنا، أن يخز وعينا المُستنزَف والمُزيَّف، يقول انتبهوا، تدينكم هذا الشكلاني لا تفرحوا به كثيراً، إنه تدين لا مردود إيجابياً له، بالعكس! تدين – كما قلت مرة ولعلي أختم بهذا فقد تجاوزت للأسف – يُبرِّر الجريمة، قلت مرة بجرأتي ربما المعهودة واغتفروها لي وليغتفرها المُستمِعون شيئاً مثَّل جواباً عن سؤال أثاره أحد الإخوة في وجهي، قال لي عجيب يا أخي، كيف بعض الناس يُصلون ومُلتزِمون دينياً ويفعلون كذا وكذا؟ غير معقول! فقلت له بالعكس، هم يفعلون كذا وكذا لأنهم يُصلون، قال لي ما فهمت والله، قلت له أنا أُفهِمك، قلت له لعله لو كان لا يُصلي من أصله لم يجرؤ – لم يمتلك الجسارة والجراءة – على أن يحتقب هذه الآثام العظيمة، لماذا؟ ليس عنده رصيد يُخدِّر به ضميره كأن يقول أنا حججت واعتمرت وتصدَّقت وصليت، فكيف أذهب أيضاً وأفعل كذا وكذا، لن أفعل هذا حتى لا يسخطني الله، لكن لما صلى وهو يتعاطى مع الصلاة على أنها – والعياذ بالله، اللهم نعوذ بك من زلات اللسان وزلقات الجنان – شيئ أشبه بالرشوة لرب العالمين، أنت تُحِب أن نُصلي لك وكذا وكذا؟ صلينا لك، كما قال شيخنا – بارك الله فيه – أمس صل الفرض وانقب الأرض، طبعاً أنا ظني أن هذا المثل التونسي في الأصل موضوع لمعنى صحيح أو على معنى صحيح، باللُغة الفصيحة موضوع على معنى صحيح! فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ۩، أي المقصود صل، وإذا صليت فاذهب إلى الحقل، لكن الآن في الاستعمال التونسي المُعاصِر المقصود افعل الكبائر، احتقب الآثام بعد أن تُصلي، اختلف معناه تماماً هذا المثل التونسي، وكم له من أمثال! أنا مُعجَب بالأمثال التونسية – جميلة جداً وفصيحة وقصيرة، بليغة الأمثال التونسية – واشتريت كتاباً كبيراً في الأمثال التونسية على كل حال، قد يقول لي أحدكم ماذا عن الأمثال المصرية؟ عندي ستة مُجلَّدات في الأمثال المصرية، لا علينا من هذا، على كل حال إخواني قلت له هو يفعل هذا ويتجاسر عليه لأنه يُصلي، لأنه قدَّم هذه الرشوة، هذا هو التدين المعلول!
يا إخواني العامة تحتاج إلى خطاب آخر كما قلت لكم، خطاب توعوي! ما معنى توعوي؟ يرون به أنفسهم تماماً، يرون أنفسهم عُراة هكذا، أمام الحقيقة المُرة نحن هكذا، ليبدأ مشوار التوبة الحقيقية ومشوار التقويم ومشوار التغيير ومشوار إنتاج الخطاب.
ما زلنا على الأعتاب، لكن أكتفي بهذا القول، وشكر الله لكم على حُسن استماعكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
_____________________________________
أضف تعليق