الآن نأتي إلى ترتيب هذه المقاصد، لابد أن نُحاوِل ترتيبها بحسب درجها، فنبدأ بالأعم والأكثر عمومية ثم بالأقل فالأقل فالأقل، وهذا مسلك عثور بلا شك، يعني أفعل هذا أنا وتفعله أنتَ وتفعلينه أنتِ ثم بعد ذلك يُنقَّد علينا، وهذا أمر طبيعي جداً لا مُشكِلة فيه لأننا سنتكامل بعد ذلك ونُصحِّح بعضنا بعضاً.

أنا أقترح أن المقصد الشرعي – الآن انتبهوا لأننا نتحدَّث عن المقصد الشرعي – الأعم لهذه الشريعة الخاتمة السمحة هو الرحمة، وهذا أمر عجيب، فقطعاً هو ليس الغزو وقطعاً هو ليس القتال وإنما الرحمة، فالمقصد الأعم هو الرحمة، ومعنى أنه المقصد الأعم أنه الإطار المُشتمِل على والحاوي لسائر المقاصد الشرعية، وهذا خطير جداً تأويلياً الآن، لماذا هذا خطير – طبعاً خطير لا تعني Dangerous، ولكن خطير تعني شريف ومُهِم جداً كما يقول العرب، فهذا معنى الخطر عند العرب، أي الشرف والأهمية والاعتبار، ولذا هذا خطير ومُهِم ومُعتَر إلى الغاية – تأويلياً؟ لأن هذا يقتضي مُباشَرةً معياراً مُهِماً ينبغي أن يُصطنَع في كل تأويل، فمهما أولت بعد ذلك أي نص أو انحزت إلى ترجيح حُكم على حُكم – هذا إذا دخلنا في الأحكام والفقهيات – ينبغي أن تفعل هذا دائماً وفي وكدك وفي نظرك أو عينك على أن تُحقِّق ماذا؟ الانحياز إلى الرحمة، فما كان أقرب إلى الرحمة وأكثر التائماً بها وأكثر التصاقاً معها كان هو المُرجَّح أن يكون صحيحاً وأن يكون هو المُراد من هذا الحُكم وأن يكون هو الأقرب في التفسير والتأويل، فدائماً هكذا وفقاً للمنهج، لأن هذا الإطار العام للشرع كله ولكل غايات الشرع والمدلول عليه بقوله تبارك وتعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩،وهذا شيئ عجيب طبعاً، وقد يقول لي أحدكم القرآن مملوء وغاص بالآيات الدالة على أن هذا الشرع رحمة، وهذا صحيح طبعاً، وكل شرع إلهي رحمة طبعاً، تقول الآية الكريمة وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً ۩، وتُوجَد آيات كثيرة طبعاً، ونوح ماذا قال؟ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ – قال هذه الشريعة رحمة – فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ۩، وقال هود عليه السلام وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً ۩، فهو يقول رحمة منه، وطبعاً كل الشرائع رحمة، لكن ميزة هذه الشريعة هى ماذا؟ ميزة هذه الشريعة أن الرحمة هى إطارها الجامع الأوسع بحيث غدت رحمةً من جميع جهاتها وفي كل تصاريفها، في كل تصاريف هذا الشرع المُطهَّر هو شرعٌ رحموتي أو رحماني يا إخواني، تقول الآية الكريمة وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ۩، وسوف ترون بعد ذلك أن كل المقاصد التحتية – سبحان الله – هى مصاديق للرحمة، وأحياناً يدل النص الإلهي على هذا بطريق النص وبطريق العبارة وليس بطريق الإشارة، فهو يُعبِّر عن هذا بشكل واضح ويقول لك هذه رحمة، فالعدل – مثلاً – مقصد كبير جداً وهائل لأنه رحمة، فالعدل رحمة وسوف نرى ما هى الدلالة بين العدل والرحمة، فإذن الرحمة هى الإطار الأوسع لشرع الله تبارك وتعالى وهى معيار التأويل، ففي كل تأويل نرى الأقرب إلى الرحمة، ومنها تقول أم المؤمنين عائشة – رضوان الله عليها – مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، وطبعاً إن كان إثماً في عاقبته لن يكون الأيسر وإنما سيكون الأعسر وسيكون نقمة، فهو لن يكون رحمة بنسبة مائة في المائة، وهذا أمر معروف وواضح، لكن التيسير نفسه من علائم الرحمة، تقول الآية الكريمة يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ۩، وما هو المُلائم للضعف؟ الرحمة، أي رحمة الضعفاء، فالله يقول أنتم الضعاف وأنا أُريد أن أرحمكم لذلك أُريد أن أُيسِّر عليكم، قال الله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ۩ وقال أيضاً وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ ۩، لأنه رحمة ولأنه شرع رحمة.

بعد الرحمة ما هو المقصد الذي يُمكِن أن يتلو الرحمة في العمومية؟ الإحياء، تقول الآية الكريمة اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۩، فالآية تقول هكذا وتقول أن دعوة الله ودعوة الرسول يُقصَد منها الإحياء، الله أكبر، فالإحياء معنى عام كبير جداً، تقول الآية الكريمة أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۩، فهو يقول هذا الشرع شرع إحياء، إذا تلقيته بنفس رضية وقلب مُطمئن ونية خالصة وقصد طهور تحيا – بإذن الله تعالى – حياة المادة وحياة الروح والنفس، أي الحياة بالمعنى الأعم، وهذا الشرع طبعاً الأدلة على أنه شرع حياة وإحياء أكثر من أن تُذكّر أو أكثر من أن تُحصى وأشهر من أن تُذكَر، فهى كثيرةٌ جداً جداً في الكتاب والسنة، وقد يكفي أن نُنوِّه إلى أن هذا الشرع – للأسف يُؤسِفني أن أقول هذا – خلافاً لفقه الفقهاء الذين وسعوا في باب القتل حتى فتحوا للقتل عشرة وعشرين وثلاثين باباً ربما بل فتحوا أبواباً يُفتَح بها عشرات الأبواب، هو باب واحد مفتوح لكن يُفتَح عشرات الأبواب للقتل، في حين أن الشرع قال مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ ۩، فهذان بابان فقط، النفس التي أحياها الله تبارك وتعالى لا تُزهَق ولا تُبطَل حياتها إلا بواحد من سببين، إما القصاص – أي أن القاتل يُقتَل، قتل عمداً طبعاً وليس خطأً – وإما الحراب، وقد يقول لي أحدكم أن هذه الآية تقول بالفساد لكن علينا أن ننتبه إلى أمر هام، فوالله – هذا إعجاز القرآن الكريم – لو أن الله ترك هذه الآية وحدها هكذا فاذة ما شاء الله – مع ذلك هو لم يتركها وقد فعلوها – لذهب الناس طرائق قددا في تفسير المُراد بالإفساد والفساد وكل شيئ سيذكرونه على هواهم وكانوا سيقولون لك هذا فساد في الأرض، فالذي يدعو إلى هذا هو مُفسِد في الأرض فيُقتَل بنص الآية، وهذا غير معقول، وبعد ذلك الله مُباشَرةً فسر لنا الفساد وهو الحراب أو الحرابة، أي قُطّاع الطرق ومُروِعو الناس، فهؤلاء هم المُفسِدون في الأرض، قال الله إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ۩ فالله فسر لنا الفساد وقال لا قتل إلا بواحد من سببين، لكن هل الكلام في القتل أم في القتال؟ علينا أن ننتبه إلى أن الكلام في القتل وليس في القتال، لأن القتال يلزم منه أحياناً القتل، فالقتال يلزم منه القتل، لكن ما علاقة القتل المُتأتي عن قتال بهذه الأبواب التي فتحها الله تبارك وتعالى لإزهاق النفس؟ أعتقد أن العلاقة هى أن قتل من اعتدى وقتل مَن قاتلنا أو قتال مَن قاتلنا – الذي قد يتأدى في أحيان إلى قتله – هو داخل في عموم أيضاً الإفساد في الأرض، ليس أعثى فساداً من رجلٍ أو من قومٍ يصولون عليك في ديارك وأنت كاف مُسالِم ويُريدون أن ينتهكوك، فطبعاً بلا شك هؤلاء مُفسِدون في الأرض، فأنت مأمور بقتالهم وإن أدى إلى قتل بعضهم، فإذن هو نفس السبب، ومن هنا هما سببان لا ثالث لهما، لكن سيُقال لنا أين قتل شارب الخمر في الخامسة؟ أين قتل المُرتَد؟ أين قتل كذا وكذا؟ كل هذا سيأتي عنه الجواب، علماً بأنني أعتقد أن أكثر الجوابات إحكاماً هو الجواب الذي يأتي في سياق قراءة مقاصدية غائية على النحو الذي نُحاوِل، وسوف نرى ما هى العلاقة هنا، فالمُرتَد الذي لا يكون مُفسِداً بهذا المعنى القرآني للإفساد لا يُقتَل، والنبي لم يقتله أصلاً ولم يأمر بقتله، أما الذي يرتد جامعاً إلى ردته أو مُتظاهِرةً ردته بإفساد في الأرض بحيث يُحرِّض آخرين علينا أو يُدلي بأسرارنا ويكشف عوراتنا ويخون الوطن والأمة ويسعى في خلخلة وزلزلة وقلقلة الأمن الداخلي وإلى آخره فهذا مُفسِد، وهذا يُقتَل لفساده لا لمحض ردته العقدية، فالردة العقدية داخلة في حقوق الحريات الدينية، ومن ثم هذا من حقه، حقه أن يخرج من الإسلام وأن يترك الإسلام، وعلى كل حال هذا موضوع آخر لكن هذا هو القرآن.

إذن يُوجَد مقصد الإحياء ومع ذلك حتى في باب القصاص ماذا قال الله تبارك وتعالى؟ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ – هذا في مال الصلح، فالآية تتحدث عن مال الصلح، وانظروا الآن ماذا تقول الآية – ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ – وماذا؟ – وَرَحْمَةٌ ۩، فإذن عُدنا إلى الرحمة، ودائماً سنعود إلى الرحمة لأن مقصد الإحياء يُفسَّر دائماً بالرحمة، فالرحمة تقتضي الإحياء دون أي كلام طبعاً، فإذن هذا من الإحياء، علماً بأنناسوف نرى إصطلاحاً إسلامياً فريداً جداً، فيُقال لك – مثلاً – إحياء الأرض، وهذا مأخوذ من كتاب الله، حيث يُوجَد إحياء الأرض الموات أو إحياء الموات، وهذا مُصطلَح عظيم، فالأرض تستحف أن تُستحيا وأن تحيا أيضاً كما يُحييها الله بالغيث الذي هو رحمة الله، تقول الآية الكريمة بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ ۩، فالله يقول نحن أحيينا به، أي أنه يتحدَّث عن إحياء الأرض، لكن تحيا بماذا؟ تحيا بالرحمة التي هى الغيث، فالمسلمون أخذوا مُصطلَح إحياء الأرض الموات، وهذا الإحياء من مصاديق الرحمة، لذلك سمى الله الغيث نفسه رحمةً، وسمى ما يكون له من أثرٍ في الأرضِ حياةً وإحياءاً، يقول الله وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ۩، وهذا شيئ عجيب لكن هذا من الإحياء أيضاً.

إسهامات المسلمين في القرون الخوالي يوم كنا خير أمة وكنا في صدر الأمم في علم الزراعة والاستنبات وما إلى ذلك كثيرة، وهذا شيئٌ عجيب ومن ثم استفادت منها أوروبا أعظم استفادة، وهذا الموضوع كُتِبَت فيه رسائل عُليا في الغرب قبل الشرق، قال رسول الله مَا مِن مُسلم يَغرِسُ غَرْسًا أو يَزرَعُ زَرْعًا فيأكُلُ مِنه طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ، عبد الله بن عمرو بن العاص – رضيَ الله عنهما – تعرفون كم كرمة زرع؟ زرع اثنين مليون، أي مليوني كرمة، فهو يتقرب إلى الله بإحياء الأرض وبالزراعة لأن النبي علَّمه هذا، وكلكم تعلمون مُذ كنتم صغاراً وصغيرات على ما أعتقد كحالي تماماً الحديث الذي يقول إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة – فرخ نبات – فإن استطاع ألا تقوم – أي القيامة – حتى يغرسها فليغرسها، يا الله، يا رسول الله، والله العظيم من غير مُبالَغة ومن غير تمجيدية لا نعلم – والله العظيم – لأي مُفكِّر أو فيلسوف أو حتى نبي كلمة تُضارِع هذه الكلمة في الحرص على عمارة الأرض وإحيائها وفي الحرص على بناء المدنية والحضارة وفي الحرص على أن يكون مشروعنا مشروع إيجاب ومشروع إضافة لا مشروع شطب وسلب وإلغاء كحال كثير من المسلمين الآن الذين طريقتهم في الفهم والعمل هى الشطب والسلب والإلغاء ويظنون أن هذا يتقربون به إلى الله، لكن مشروعنا ينبغي أن يكون بالإيجاب، علماً بأن كل مشروع يقوم على السلب في نهاية المطاف هو مشروع يتآكل ذاتياً وهو مشروع عدمي، أما المشروع الذي يقوم على الإيجاب شأنه شأن النص الإلهي هو أيضاً موعودٌ بالتكامل المُستمِر، فيبقى يتكامل ويتنامى وما إلى ذلك، تقول الآية الكريمة مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا – هل هذا مرة في العام أو مرةً في الموسم؟ – كُلَّ حِينٍ ۩، أي تنامٍ مُستمِر، فهذا هو المسلم وهذا هو منهج المسلم وطريقة المسلم وخطة المسلم في العمل التي ليست بالسلب وإنما الإيجاب الذي يُثمِر على الدوام – بإذن الله – وفق مفهوم الإحياء والاستيحاء الذي هو من مصاديق ومُفرَدات الرحمة الإلهية، وهذا شيئٌ عجيب لكن على كل حال – كما قلت لكم – هذا الموضوع طويل جداً، وطبعاً بعض الناس قد يقول – وإن كنت سجلت مُلاحَظة بهذا الصدد – هذا لا يُلزِمنا فنحن لنا أبوابنا الكثيرة للقتل ولإهدار النفوس، فهذا شرع بني إسرائيل، وهذا أمر عجيب، شرع بني إسرائيل القساة وشرع بني إسرائيل القاسي والمعروف بقسوته يُراد أن يتجاوز لما هو أقسى منه، ومعروف أن هذا الشرع الإسرائيلي كان شرعاً قاسياً -أي فيه قسوة – فجاء عيسى – عليه السلام – لا لينقض الناموس وإنما جاء ليُعيدهم إلى جوهر الناموس وحارب – عليه السلام – تلك القسوة والجفوة والغلظة فيهم حرباً ضروساً لم تعرف الهوادة، فكيف يُقال هذا شرع بني إسرائيل؟ هذا لطيف جداً، الشرع الذي يسد للباب على القتل إلا ما كان من بابين هو شرع لطيف ومُمتاز ومُهِم، فكيف تُريد أن تتجاوزه إلى ما هو أغلظ؟ على كل حال شرع بني إسرائيل ألا يكون شرعاً لك هنا وقد نوَّه به القرآن؟ ألم تقرأ ما قبل هذه الآية؟ قبل هذه الآية قصة ماذا؟ قصة ابني آدم ونبأ الغراب – غراب البين الأسود – الذي ضرب الله به مثلاً مُعلِّماً لابن آدم الأول الخائب الفاشل القاتل، تقول الآية الكريمة فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ ۩، فالله يقول لك من غراب البين يُمكِن أن تتعلم، ألا تتعلم من شرع موسى عليه السلام؟ لكن أنا أقول لكم – سأقول لكم قناعتي – أن رسالة غراب البين وشرع موسى – مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ ۩ – هى أن علينا كمسلمين أن نتجاوز هذا الشرع في اتجاه الرحمة وليس في اتجاه القسوة، في اتجاه سطيح وسقف الرحمة الذي لا يُتناوَل لبُعده وامتداده وسحقه، فهو سحيق وبعيد جداً مهما تفعل، ولا يُقال لأي قدر من الرحمة أنه كثير بُلِغَ فيه، فلا يُوجَد غلو في الرحمة، مطلوب باستمرار الإمعان في هذا الباب بقدر ما تستطيع، وكم ذكرت الحديث الذي يقول أن رجلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَذْبَحُ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا أَوْ قَالَ إِنِّي لأَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا، فقَالَ وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ، فهو يقول له هذا جيد وحسن فلا تذبحها أنت واترك هذا الأمر لغيرك لكن لا تذبحها أنت، نمِّ هذه الرحمة في داخلك، فماذا عن ذبح البشر الآن؟ تذبح البشر وتُكبِّر وتسلخ وتحرق وتكُبِّر وأنت فرحاً بهذا وتظن أنك محمدي وأنك مصطفوي وأنك مسلم رحماني، وأنت لست كذلك أبداً، قَالَ الرسول وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ، وقال أيضاً دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ، وواضح أنها امرأة مُؤمِنة وقد تكون حتى ظاهرة الصلاح وتُقيم الصلاة والعبادة وما إلى ذلك، ودخلت امرأة بغي الجنة في كلب سقته لأنه كان يلهث من العطش، فهذا هو الإسلام وهذا شعارنا وهذا منهجنا في التربية، إذن عليك أن تتجاوز شرع بني إسرائيل، وقد فعلنا – ليس نحن مَن فعل ولكن شرعنا الذي فعل، فالله هو الذي فعل هذا – طبعاً، لكن كيف؟ الظاهر أن في شرع بني إسرائيل لا يُوجَد صلح، ففي القتل العمد لا يُوجَد أي صلح وإنما فقط يُوجَد القصاص، فالقاتل عمداً يُقتَل وليس له أي صلح، لكن جاء شرعنا بماذا؟ بالصلح، ومرة أخرى نُذكِّر فقط أن هذا من الرحمةً، قال الله ذَلِكَ – والإشارة بـ ذَلِكَ ۩ إلى الصلح والعفو عن القاتل عمداً – تَخْفِيْفٌ مِّنْ رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ ۩، يا سلام، فالقرآن قال هذا شرع الرحمة، ونحن تجاوزنا الآن بني إسرائيل لأنهم لا يعرفون إلا القصاص، لكن نحن لدينا القصاص، والقصاص عدل، ولدينا العفو، والعفو فضل، ونحن أمة الفضل – ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتيهِ مَن يَشَآءُ ۩ – طبعاً، ومرة آخرى أُريد أن أقول الآن شيئاً عجيباً خطر لي الآن فاقشعر – والله – بدني، تقول الآية الكريمة مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ – ثم ماذا قال؟ – وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ۩، الله أكبر، فالفضل داخل في الرحمة، والرحمة تعتنق بالفضل، وهذا شيئ عجيب، فإذن مرة أخرى نقول القصاص عدلٌ والعفو فضلٌ، والفضل مُعتنِقٌ بالرحمة، لأن طبعاً من الواضح أنه رحمة وذلك حين تتفضل فتعفو، تقول الآية الكريمة ذَلِكَ تَخْفِيْفٌ مِّنْ رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ ۩، فهذا التفضل هو رحمة، إذن هم لا يودون أن يُنزَّل علينا من خيرٍ من الله تبارك وتعالى، والله يقول وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ۩، مرة أخرى أيضاً، فإذن هما يعتنقان!

هذا القرآن فيه علاقة علاقة عضوية بنيوية جوهرية تتكانف فيها وتتراسل وتتناغم كل هذه المفهومات، وعلى كل الموضوع طويل، فإذن الإحياء منتوجه وأثره ومعلوله في نهاية المطاف عمارة الأرض وحفظ الهيئة الاجتماعية وحفظ البشر وحفظ حيواتهم طبعاً بدرجة أولى وحفظ أطرافهم وحفظ حقوقهم وحفظ حرياتهم وحفظ حتى كراماتهم المعنوية والأدبية، فكل هذا يدخل في الإحياء ولو بطرفٍ خفي وعلى تفاوت.

   (يُتبَع الجزء الرابع)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: