قال أحد الحضور سؤالي هو سؤال لمزيد بيان وتوضيح – إن شاء الله – لتفريقكم بين النفس والروح، حيث كنت أعتقد أنني أفهم معنى العقل قبل تفريقكم بين الروح والنفس، وحينما قلتم أن الروح خصيصة إنسانية وبها يطوق الإنسان نحو العالم الميتافيزيقي وبها أيضاً يُفكِّر نوعاً ما حسب تعبيراتكم علمت معنىً مُختلِفاً، ولذلك أتمنى لو شرحتم لنا أو بيّنتم الفرق بين العقل والروح، وشكراً.

– قالت إحداهن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، مقاصد الخالق من الخلق هى الاستخلاف والعمارة والعبادة، فهذا ما عُلِّمنا من هذه المقاصد، لكن المقصد الحقيقي الذي غُيِّبَ عنا هو الروح، لأنه بالروح الإنسان يسمو، يقول – الله عز وجل – أنه خلقنا ليُخرِجنا من الظلمات إلى النور، وذلك النور يكون بالروح، ألا ترى ذلك؟ والروح هى التي نستطيع أن نعرج بها إلى الله سبحانه وتعالى، لكن كل هذا غُيِّبَ عنا بقصد، ونحن نعرف هذا بعد القراءة في الكابالا وفي البوذية وفي علم الصوفيين، فعندما نتعمق فيهم نعلم أن الإنسان هو طاقة عظيمة فعلاً من الخالق، والله يقول في سورة لقمان أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۩، فالله سخَّر السماوات لنا، فماذا فعلنا بالسماوات؟ لم نفعل شيئاً، نحن نعيش في الأرض نأكل وننام، والله يقول وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ ۩، لكن نحن لم نستعمل السماوات، هم استعملوا السماوات لكن نحن لم نستعملها، ألا تُذكِّرنا قصة يوسف بأننا يوسف الذي رُمِى في الجُب؟ هذا هو السؤال وشكراً.

– بدأت إحدى الحاضرات حديثها بإلقاء السلام وعرَّفت بإسمها ثم تحدَّثت باللغة الفرنسية قائلة أولاً أود شكر جمعية الخيرية لهذه الدعوة، كما أرحب بحضور الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم هنا في بروكسل، لماذا؟ لأنه يُشكِّل نسمة من الهواء النقي ومُتنفساً حقيقياً لنا، وأضافت سؤالي سيكون براغماتياً بما أنني ناشطة مُلتزِمة تحاول قدر الاستطاعة خدمة القضية والرسالة الإلهية هنا في أوروبا في ظل سياق سياسي عالمي جد ثقيل ومُتحامِل على حقوق الإسلام، ثم قالت سؤالي هو أننا نتساءل الآن عن كيفية تحقيق توازن بين الالتزام والنشاط أو النضال السياسي؟ فما يمكننا أن نراه اليوم هو مٌجرَّد نضال متشدد، وهو في بعض الأحيان لا يكون لخدمة الله ولكن لخدمة الأنا، لذا أسأل عن العودة إلى المعنى الحقيقي للالتزام وكيفية الوصول الى التوازن بين النشاط النضالي السياسي وهذا البحث والسعي الروحي، خاصة عندما يأكل وينخر هذا النضال أيامنا ولا يترك لنا ولو القليل جداً من الوقت لقضاء بضع دقائق أو بضع ساعات في طاعة الله، وأضافت أن سؤالها واضح وهو عن السعي وراء الالتزام ومعنى الالتزام وعن التوازن مع الروحانية، وأوضحت أنها تعتقد أن السرطان الجمعوي الحقيقي للالتزام هنا في بروكسل هو هذا التقسيم الذي يأكلنا وهذا ما يجعلنا – وهى أولهم – نخدم الأنا الخاصة بنا دون أن نخدم القضية، ثم ختمت قائلة أن هذا ما يؤسفها طبعاً ومن هنا جئت هذا المساء للجلوس والاستماع بهدوء للأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لكي تستفاد خيراً.
– قال أحد الحضور السلام عليكم ورحمة الله، أستاذنا الفاضل أنا عندي سؤال يتعلَّق بالروح والنفس، إذا ترقى الإنسان على المُستوى الروحي والنفسي ووصل إلى درجة الإحسان وبدأت الرح تتجلى كما أسلفتم سيادتكم هل يكون ذلك له علاقة بالفتح كما أتى بالآية؟ قال الله فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۩ فهل هذا له علاقة بالعقبة؟ عندما يكون الإنسان في مسيرته الروحية والنفسية وصل إلى مُستوى الإحسان هل هناك عقبة ليقتحمها الإنسان ليصل إلى تلك الدرجة كي تتجلى الروح في حياته اليومية؟ وجزاكم الله خيراً، رد الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً بارك الله فيك.

– قال أحد الحضور السلام عليكم يا شيخ، فرد الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً وعليكم السلام، ثم استأنف كلامه قائلاً سؤالي عن ابن عربي، هل ابن عربي له فعلاً أخطاء أو شطحات؟ ثم سأل هل يُمكِن أن نقول أن ابن عربي لا يُمكِن أن نفهمه أو لا يُمكِن أن نفهم لغته دون أن نقع في مُشكِلة بصدده؟

– قال المُحاوِر طبعاً سأستغل الفرصة مرة أخرى حتى أطرح سؤالي باختصار في قضية الروح، وقال نحن نعرف طبعاً بمعزل عن النقاش الشرعي القرآني حول الروح أن هناك تحت ما يُسمى بالعلوم المعرفية وبالعلوم العصبية نقاشاً الآن حول قضية ثنائية المادة والعقل، ثم أضاف سؤالاً وهو هل حديثكم عن الروح هو بالمعنى الأفلاطوني للثنائية أم بالمعنى الأرسطي الذي يقول أن هناك وحدة؟ هل هناك جسم وروح لأن الروح هى كيان آخر مُختلِف عن طبيعة الجسم أم أن هناك يعني وحدة بينهما؟ ثم قال أنا مُتأكِد من أنك تعرف النقاش الدائر الآن في العلوم العصبية وفي العلوم المعرفية حول هذا، وهناك نظريات كثيرة لكنها كلها مُجرَّد مُحاوَلات للابتعاد عن الثنائية والقول بواحدية الطبيعة الإنسانية، فما هو مساركم الآن؟ وشكراً.
– قال الدكتور عدنان إبراهيم مُجيباً عن الأسئلة التي طُرِحَت عليه بسم الله، أبدأ بسؤال أخي الشيخ محمد – بارك الله فيه – عن النفس والروح وعلاقة الروح بالعقل، طبعاً الذي فهمته من استشكال الشيخ محمد – بارك الله فيه – هو أنه يظن أن كل ذوات النفوس المفروض أن لها عقلاً، رُتبة من رُتب الإدراك، وعلى كل حال هناك من علماء المسلمين من أثبت الإدراك على تفاوت لأنه هذا مُشكِّك وليس مُتواطئاً، مَن أثبت الإدراك لكل الموجودات بما فيها الموجودات المادية أثبت لها لون إدراك يخصها ويتناسب معها، وعلى كل حال هذه النظرية كبيرة، والآن إذا تكلمنا عن العقل فإن الأمر يتوقف على تعريفنا للعقل، وإذا أخذنا في تعريف العقل – العقل الإنساني نفسه – يضح أنه مُختلِف، لكن هل الاختلاف هو في الدرجة أم هو في النوع؟ نحن نُرجِّح أنه اختلاف في الدرجة واختلاف في النوع أيضاً، بمعنى أن العقل الإنساني يُشارِك به الإنسان العاقلات الأخرى في طبيعة معقوله وفي طبيعة إدراكه، لكن أيضاً يمتاز منها أو يتميز منها – هذا أفصح من أن نقول يمتاز عنها – بالنوع، لأنه – كما قلنا في تضاعيف أو في أثناء المُحاضَرة – مُؤهَّل أن يتعطى مع شؤون لا علاقة لهذه العاقلات الأخرى بها، مثل شؤون الغيب وشؤون الماوراء وشؤون الجمال وشؤون الوجوديات، هذا الإحساس الوجودي الأنطولوجي عند الإنسان نفسه الذي ألهم الفلاسفة الوجوديين كل هذه الفلسفات الوجودية، فهذه خصيصة إنسانية، والآن لو أراد أحد أن يقول الملائكة – مثلاً – لا تعقل فإن هذا سيكون خطأً كبيراً، فقطعاً هى تعقل وتُدرِك الأشياء وتُدرِك الأحوال والأوضاع بلا شك، لكن هل الملائكة تُبدِع؟ لا تُبدِع، هى ليست خالقة بالمعنى المجازي للخلق، وهى لا تُبدِع ولا تستطيع أن تُبدِع، ولذلك لأنها لا تُبدِع هى لا تستطيع أن تزدلف إلى الله، لذلك مقاماتها محفوظة، أي مقامات رقمية، قال الله إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ۩، فالمَلَك يبقى – المَلَك، أي مَلَك – يبقى في مقامه كما هو لأنه لا فضل له، لكن الإنسان يترَّقى ويتسفَّل، فيُمكِن أن يترَّقي ويلتحق بالمصاف الأعلى المَلَكي، ويُمكِن أن يتسفَّل ويُصبِح شيطاناً مَريداً عاتياً رجيماً والعياذ بالله، وهذه هى قضية الإيمان، وهذا – كما قلت مرة – مما أساء بعض الناس فهمه، فالإيمان الإصطلاحي – يعني أن تُؤمِن بالله وملائكته كتبه ورسله وباليوم الآخر – بنص الآيات القرآنية خصيصة إنسانية، فهى ليست منسوبة في القرآن إلا إلى الإنسان، الإنسان هو الذي يُؤمِن وهو الذي يكفر طبعاً، والملائكة تُؤمِن بالله طبعاً لأن الله غيب، هو غيب الغيوب، لكنها لا تُؤمِن الإيمان الإصطلاحي، لأن لا يُوجَد معنى للحديث عن الإيمان في حق الملائكة، فالملائكة لا تُؤمِن بنفسها لكن نحن نُؤمِن بالملائكة، الملائكة لا تُؤمِن بالرسل لأن الملائكة هى التي كانت واسطة التنبئة، مثل مَلَك الوحي جبريل، فالملائكة ترى هذا، والملائكة تنزل بالوحي مثل جبريل عليه السلام، فغير معقول أن تُكلَّف بالإيمان بالرسل لأنها تعرف هذا تماماً، وطبعاً هى كائنات روحية بلا شك،بمعنى أنها كائنات مثالية – كما يُقال – لديها القدرة على أن ترى في الإنسان جوهره وحقيقته، يعني ترى الصالح وترى الطالح، والأولياء فينا يرون البشر روحياً، فحين يراك الواحد منهم يرى فيك صلاحك أو يرى طلاحك، وعلى كل حال هذا يحدث طبعاً على تفاوت أيضاً، تقول الآية الكريمة إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ۩، وهذا معنى إن لله عباداً يعرفون الناس بالتّوسُّم، ومعنى أيضاً اتقوا فراسة المُؤمِن فإنه ينظر بنور الله، فهناك آثار كثيرة في هذا الباب، وعلى كل حال نعود مرة أخرى إلى ما كنا فيه، فالعقل الإنساني عقل مُبدِع، عقل مُترَّقٍ، عقل مُنتِج، وعقل لا ينال الحقيقة نيلاً فقط إنما يبنيها، وهذا ما انتهى إليه الآن الفلاسفة في العهود الأخيرة، وطبعاً العقل الإنساني عنده قدرة أن يبني حقائقه، وكلما بدا له ملحظ للتأمل وملحظ للتنقيد وملحظ للاستدراك تأمل ونقد واستدرك وأعاد البناء، وأحياناً يتغير النموذجParadigm – – الإدراكي كله، ليبدأ يُدرِك الحقائق ضمن أي نموذج – Paradigm – آخر مُختلِف، فهذه هى إنتاجية العقل الإنساني، وهو عقل بالنوع، عقل – كما قلت – يتعامل مع هذه الآفاق، فهذا لا يختلف فقط بالدرجة وإنما يختلف بالنوع، ونحن نزعم أن هذا العقل هو أثر هذه النفخة الإلهية – وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩ – أيضاً، فحقيق بالإنسان أن يُدرِك هذا، وطبعاً هذه المسألة يعجز نطاق التطوريين الماديين – مثل داروين Darwin نفسه – عن فهمها، لكن ألفرد راسل والاس Alfred Russel Wallace فهم هذا الشيئ، وكان بداية تحول والاس Wallace إلى الأبحاث الروحية، وكان عنده مجموعة مُجلَّدات – يُمكِن أن تتحصلوا عليها مجاناً من Archive.org – في الأبحاث الروحية، والرجل خاض تجارب شخصية، ومات وهو يخوض هذه التجارب الروحية العميقة جداً، وطبعاً خالف الإتجاه المادي التطوري بالكامل على أنه يقول بالانتخاب الطبيعي ويقول بأصل التطور، لكن يقول بالإله المُدبِّر – لا إله إلا هو – ويقول بالامتياز الإنساني، وفعلاً وصل إلى ما يُعرَف بمُفارَقة والاس Wallace للذكاء الإنساني، والإنسان بقليل جداً من هذا الذكاء الذي يتمتع به – أي بهذا العقل – يُمكِن أن يُحقِّق النجاة – Survival – وأن يعيش، ولا مُشكِلة في هذا، فلماذا كل هذا الحجم الضخم في الدماغ وبالتالي أيضاً كل هذه الآفاق العُليا للعقل؟ لأنه منذور لمُهِمة أعلى بكثير من مُهِمة أن يعيش وأن يموت وأن يعيش وأن ينجو، وهذه المُهِمة هى مُهِمة روحية، وهى أن يتعرَّف على الله وأن يقترب من الله، الجميل – وهذا طبعاً سيكون جواباً عن سؤال أحد الإخوة والأخوات – الجميل لا يفعل هذا إلا عبر عمارة الأرض وأداء وإنجاز مهام الخليفة كما قلنا ولكننا نُعيد مرة أخرى أيضاً، فأنت لا تقترب – كما قلنا في المُحاضَرة – من الله المُجرَّد – لا إله إلا هو – الذات أبداً، وإنما تقترب منه عبر تجلياته في العالم وعبر أسمائه وفعاله لا إله إلا هو، وعلى كل حال هذه المسألة أصبحت واضحة، فأنا أعتقد أن العقل الإنساني هو خصيصة للإنسان، مُسبَّبة معلولة للروح وللنفخة الروحية التي بدونها ما كان له أن يكون عاقلاً بهذا المعنى.

الأخت الفاضلة – بارك الله فيها – لها مُداخَلة جميلة جداً، وقالت أن مقاصد الخلق – كما ذكرنا عن الراغب وغيره – هى الثلاثة المعروفة، وهى تقترح أن مقصد الخلق الروح، والكلام يحتاج إلى تنقيح، وهو غير مُتناقِّض بالعكس هو كلام مُتصادِّق – إن شاء الله – ومُتآزِر، لكن لا يُمكِن أن نقول الروح بحد ذاتها هى المقصد، فالروح هى آلة وهى أهلية وهى هذه النفخة فينا، فهى ليست هى مقصداً، بالعكس الروح هى الآلة التي بها تتحقق المقاصد، وكما قلنا قُبيل قليل بغير هذه النفخة من روح الله وبغير هذا البُعد الروحي في الإنسان ما كان للإنسان أن يكون خليفة الله في الأرض وما كان له أن يعمر الأرض وما كان له أن يُحقِّق العبادة وفق الخُطة الإلهية عبر الاستخلاف والعمارة أبداً، ولكن بالروح استطاع أن يُنجِز ويستطيع أن يُنجِز هذا ولايزال بإذن الله تعالى، إذن لا يُوجَد تناقض، وعلاقة الروح بهذه المقاصد أنها اللياقة التي زُوِّد بها الإنسان، النفحة الإلهية التي تُمكِّنه من إنجاز هذه المقاصد، فلا مجال للحديث عن هذه المقاصد – مثلاً – بخصوص الدواب والأنعام أبداً، ولا مجال أيضاً للحديث عن هذه المقاصد بخصوص الملائكة، فالملائكة لا تُنجِز مُهِمة الاستخلاف ومُهِمة العمارة – لا تُنجِز هذا – وإنما تُنجِز مُهِمة العبادة ومُهِمة التقديس والتسبيح ولكن وفق خُطة مُختلِفة تماماً، لكن خُطتنا نحن في العبادة عبر هذين المسارين، إذن لا يُوجَد أي تناقض إن شاء الله تعالى.

الأخت هنا عندها تعبير جميل ما شاء الله، علماً بأنني أنا لاحظت أن الإخوة والأخوات المغاربة – سبحان الله – لديهم جمال في اللغة، فحتى علماؤهم وكُتّابهم وما إلى ذلك عندهم جمال في اللغة وقدرة على توليد الصور بشكل عجيب مُتميّز، فهم يتميزون بهذا وأزعم أنهم في هذا أحسن من المشارقة!

هنا قاطع المُحاوِر الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً أنهم سيغترون بهذا الكلام، فرد بدوره قائلاً هذه حقيقة، أنا تأتيني على التليفون Telephone وعلى بريدي رسائل من إخوة وأخوات مغاربة ودائماً في هذا الملحظ، وهذا شيئ عجيب يا أخي، فقال أحد الحضور أن هذا ينطبق حتى على التوانسة، فرد الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً نعمو لذلك أن قلت أن هذا الملحظ موجود في المغاربة عموماً، فأهل المغرب العربي عندهم – سبحان الله – هذه القدرة ولا أدري لماذا، وعلى كل حال أنا أعتقد أن أهل المغرب بصراحة لكي أكون واضحاً أمام نفسي عندهم هذا بشكل مُتميز جداً، وطبعاً أنا لاحظت من سنوات يوم تعرفت عليهم هنا في بلجيكا أن عندهم نفحات روحية عالية – سبحان الله – جداً، أهل المغرب العربي – سبحان الله – عندهم هذا البُعد الروحي بشكل جميل، وتجد هذا حتى في دعاتهم وفي علمائهم وما إلى ذلك، وتشعر بدفقات من الإخلاص غريبة يا أخي، فهذه – إن شاء الله – ليست مُجامَلة، وأسأل الله الزيادة لكم ولنا جميعاً – إن شاء الله – ولكل أمة محمد بإذن الله تعالى!

هذه الأخت تقول ألا تشعر بأننا نحن يوسف الجُب؟ نحن الذين سُجِنا في هذا الجُب ولا نستطيع أن نخرج منه، وطبعاً نحن سُجِنا للأسف الشديد لأن فكرنا عوَّقنا وطريقة تأويلنا وفهمنا وتعاطينا مع النص المفتوج ومع العالم المفتوح للأسف في عصور الانحطاطا كلها طريقة غير سليمة وغير رشيدة، فطبعاً بلا شك حدث هذا وما انفتحوا على هذا العالم، لكن – كما قلنا – الثورة الروحية هى التي ستُحرِّك العقل المُبدِع والخليفة مُبدِع، ونحن نقول أن الخليفة هو الذي يُبدِع.

بالنسبة لسؤال الأخت المُناضِلة الذي كان بالفرنسية أنا أشكر لها – بارك الله فيها – هذا السؤال والكلمات الطيبة التي صدرَّت بها السؤال، وهى كانت تسأل وتقول هل هناك ثمة إمكانية لتحقيق المُوازَنة أو التوازن بين النضال السياسي المُرهِق الثقيل – طبعاً أعتقد أن هذا تعبير مُهذَّب وذكي منها، فهى تُريد أن تقول النضال السياسي الخبيث أحياناً والمكّار والانتهازي والمصلحي والدنس أحياناً للأسف – وبين التكامل الروحي؟ فهى تتحدَّث عن أوحال السياسة وتقول هل يُمكِن أن أُمارِس السياسة أنا كسياسة وفي نفس الوقت أن أكدح إلى الله وأن أُحقِّق تكاملي الروحي؟ وهذا يُمكِن طبعاً،فإحدى رسائل المُحاضَرة اليوم أن هذا مُمكِن ولذا ينبغي أن تفعلي هذا، وفي نهاية المطاف التعريف الإسلامي التقليدي للسياسي والسياسة – وأنا أرتضيه وأسعد به – أنها خدمة العموم وخدمة الناس، فالسياسة المفروض أن تكون فناً، فهى فن خدمة الناس وخدمة الجمهور، لكن السياسة التي نتعاطى معها ونراها هى فن استغلال الجمهور والضحك على الجمهور والمُتاجَرة بأحلامه والمُتاجَرة بأوجاعهم أيضاً وحاجاتهم، من أجل ماذا؟ من أجل المجد الشخصي قبل حتى المجد الحزبي، علماً بأنني أزعم أن العالم اليوم يعيش عذابات كثيرة وقد يتعرض لحرب عالمية ثالثة أو رابعة – لأن قد يقول البعض أن الآن تُوجَد حرب ولأن الحرب الباردة أيضاً كانت حرباً على مُستوى كوني – بسبب أنانيات ليس الأحزاب فقط وإنما أنانيات الأفراد الذين يشتغلون في هذا العمل السياسي، فهم عندهم أنانية عجيبة جداً جداً جداً، وطبعاً هذه تُفقِّدهم حتى شرف الزعامة، فلا يُصلِح أحدهم أن يكون حتى زعيماً، الزعيم لا يكون زعيماً إلا إذا ذاب في أمته وفي شعبه، فالزعيم يذوب في أمته وقد يعيش ويموت وهو من أزهد الناس في مغانم الدنيا، ومن ثم يعيش فقيراً زاهداً، وقد يعيش عشرين أو ثلاثين سنة في السجن ثم يعود للنضال من أجل شعبه الذي يذوب فيه، فهذا هو الزعيم، لكن هؤلاء ليسوا زعماء، هؤلاء ساسة فعلاً، أي ساسة بالمعنى الميكافيللي العلمي حقيقةً، ولذا لن يُخلِّدهم التاريخ وربما يذكرهم باللعنات، لكن المسلم الواعي والمسلم صاحب هذا البُعد الروحي ليس كذلك، هو يُحِب أن يُمارِس السياسة كفن خدمة الناس، وهو يعلم أن السياسة بهذا المعنى ستكون طريقاً عريضة جداً وواسعة وقصيرة إلى الله تبارك وتعالى، فالإنسان مثلنا قد يخدم الناس بالفكر والعلم وهذا شئ جيد وجميل، وبعض الناس يخدم بالمال وهذا جيد أيضاً، لكن السياسي يخدم على كل الجبهات، السياسي حين ينجح هو يُوظِّف – لن أقول يُطوِّع لكن سأقول يُوظِّف – العلم والمال والفكر والروح من أجل إسعاد الآخرين ومن أجل حياة الناس أكثر طيبة وأكثر سهولة وأكثر ترفاً، وهذا شيئ عظيم!

شيخ الحرمين الإمام الجويني – رحمة الله عليه – وشيخ الغزالي في كتابه في السياسة الشرعية المشهور بالغياثي – غياث الأمم في التياث الظلم – يحكي أن إمام زمانه أراد أن يحج في وقت فيه معارك ومشاكل، فيُرسِل له رسالة ويقول له يا صاحب الأمر، يا أمير المُؤمِنين اعلم أن مُقامَك في الأمة وهى محوجة – أي محتاجة إليك – وقيامك على مرمتها وعلى منفعتها خيرٌ لك من كذا وكذا حجة، فلك أن تتخيَّل هذا، وهذا إمام عادل طبعاً، وعلى كل حال هو يُحاوِل أن يذهب وأن يدعم في إتجاه تحقيق عدالة أكثر ورفاه أكثر للناس وحُريات أكثر للناس، ويُحاوِل أن يدفع عنهم وعن بلادهم وعن حدودهم وعن حياضهم، فهذا قطعاً أفضل من مئات الحجات، وفي النهاية نحن ينبغي أن نكون خير الناس للناس – كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩ – كما قال الله، ومِن هؤلاء يُمكِن أن يكون السياسي في رأسهم وأن يكون خير هؤلاء الخيرين للناس، لأنه يخدم في العموم ويخدم على مُستوى أمة كاملة، فلك أن تتخيَّل هذا، وهذا معنى الخلق عيال الله، أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، فالسياسي المُوفَّق المُسلِم – إن شاء الله – لو فهم هذا هو سيتمسك بهذه السياسة، لكن ضمن ماذا؟ ضمن هذا الإلهام الروحي الدائم – بإذن الله – الذي يُرشِده ويجعله يتعالى على ضعفه وهشاشته كسياسي نهّاز مصلحجي يدور في مُستوى شخصه فقط، لكي يذوب في أمته – في أمته الصغيرة وفي أمته الكبيرة – بعد ذلك، فهذا مُمكِن – إن شاء الله – يا أختي، وأنا أسأل الله لكِ مزيداً من النضال المُتسلِح والمُؤزَّر – كما يُقال – بالروح بإذن الله تعالى.

(يُتبَع الجزء السابع والأخير)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: