إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ:

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ۩ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ۩ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ۩ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

قد يُلحَظُ أن الأقوياء الُمتسلِّطين يأتون مآتيهم ويفعلون فعلاتهم ثم لا يرون أنفسهم مُضطَرين أو مُلزَمين بإعطاء براءة ذمة أو كشف حساب أو أي تبرير من نوع أخلاقي، يفعلونها ثم يمضون ولا يعترض طريقهم إلا الأحرار وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ۩، وفي المُقابِل لا تُخطيء العين أن تلحظ مُتواتِراً أنه حين يُؤتى فعلٌ فظيعٌ شنيعٌ مِن أحدٍ مِمَن ينتسب إلى الدين يهب الناس زرافاتاً ووحداناً يطلبون التبرير، يُطالِبون الدين ويُسائلون الدين، ما موقف الدين من هذا؟ على الدين أن يُقدِّم تبريراً، هل يقبل هذا أم يشجبه؟ هل يُبارِكه أم يلعنه؟ لذلك لا ترون العلماء والوعاظ والخطباء ومَن يهمه شأن الدين في وضعٍ يُحسَدون عليه، ترونهم تقريباً في كل مرة مدفوعين أن يُقدِّموا تبريراً إما مع وإما ضد باستمرار، حتى الذين يُؤيدون لابد أن يُبرِّروا وأن يقولوا هذا مشروع وهذا هو الدليل، أي هذه الفظاعات والبشاعات مشروعة وهذا هو الدليل، والذين يقولون منكورة ملعونة يُقدِّمون الدليل، لماذا؟ لماذا هذا الفرق الصارخ؟ طبعاً هذا لا يختص بغير المسلمين، هذا يعم الناس أجمعين فالكل يُطالب بهذا، وأول المُطالِبين المسلمون، يُطالِبون بالتبرير.

أحسب أحبتي في الله – إخواني وأخواتي – أن الفرق يتمثَّل في شيئ لا يعيه الناس جيداً، هم لا يعونه لكنهم يصدرون عنه، كامن في بواطنهم وفي وعيهم البعيد ولا أُحِب أن أقول الباطن، كامن هذا الشيئ وهو أن الدين لكي يُطلَب ويُستدعى ولكي يُبارَك وجوده ولكي يُقبَل لابد أن يفي دائماً بالشرط الأخلاقي، الديني في نظر الناس وهو نظرٌ صحيح حتى النهاية يتطابق تماماً مع الأخلاقي، كل ما خرج عن مسطرة الأخلاق لا يُمكِن أن يكون دينياً، الناس تعي هذا وعياً باطناً ووعياً غير واضح، ومن هنا يتسائلون في كل مرة ويشعرون بالخوف ليس فقط على أنفسهم ولا ذراريهم وعلى بلادهم وأوطانهم وإنما يشعرون بدرجة أولى ربما على دينهم، لماذا ينبغي أن يتطابق الديني مع الأخلاقي؟ وكأن الناس حين يتساءلون – وأعني الفريق المُنكِر الشاجب اللاعن للفظاعات والبشاعات والجرائم التي تُرتكَب باسم الدين – يقولون إن كان هذا هو الدين حقاً ولابد ولا مندوحة ولا مجال للتأول فسنقول للدين لم نعد نحتاجك، هذا الفريق على الأقل هذا موقفه، لماذا؟ كيف يتبرَّر هذا؟ بالإزاء الفريق المُبارِك المُشجِّع والمُصفِّق على العكس، لا يرى ثمة أدنى ضرورة لأن يتطابق الديني مع الأخلاقي، ويفهمون الدين ويُفسِّرونه ويُمارسونه على أنه في أحايين كثيرة في تناقض صارخ مع الأخلاقي، وهم هم مستريحون نفسياً، وهذا شيئ عجيب، لذلك هذا الدين نزعم أنه ليس دين الرحمة وليس دين السماء، هذا دين المُجرِمين، دين مُفصَّل على قد هؤلاء المجرمين، هم فصَّلوه وأبدعوا في تفصيله وأفلحوا في أن يُفصِّلوا نُسخة على قدهم وعلى قد غضبهم وعلى قد كراهياتهم وعلى قد أحقادهم وعلى قد جهلهم وعلى قد صغارهم العقلي والنفسي، ثم سموه ديناً، ولا يُصدِّقهم إلا مَن كان مُهيئاً عقلياً ونفسياً أن يسير في طريقهم، هو يُحِبهم ويُحب هذه الطريقة، يُحِب هذه الأفاعيل ويُحِب كل هذا الجنون وهذا الإجرام، ويأتي يتذرع أن هذا هو الدين، صحيح قال الله لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ۩، هذا دينكم أنتم، هذا دين المجرمين ودين المجانين ودين القتلة، ليس دين الله – كما قلنا – في الخُطبة السابقة، منطقياً – بالمنطق الدين وليس المنطق الأرسطي، منطقياً بالعقل الديني وبالعقل الشرعي – المفروض أن – وسلفت الإشارة في الخُطبة السابقة – الدين المُنتمي إلى الله والصادر عن الله – تبارك وتعالى – أن يعكس ماذا؟ أن يعكس إلهية الله وربوبية الله تبارك وتعالى، الله – تبارك وتعالى – هو الأغنى، إذن لا يُمكِن أن يُنزِّل ديناً يتغوَّل حقوق الناس وأموال الناس ويعدو على حريات الناس ويُكرِه الناس ويُغاصِبهم، لأنه – كما قلت في الخُطبة السابقة – لا يحتاج إلى أموالهم ولا إلى أصواتهم ولا إلى تصفيقاتهم ولا إلى ركوعهم وسجودهم أبداً فضلاً عن أن يحتاج إلى لحاهم أو أنقبتهم أو ملابسهم، هو لا يحتاج إلى أي أحد، إنه الغني عن العالمين – لا إله إلا هو – وهو الرحمن الرحيم وهو العليم الحكيم وهو المُبارَك لا إله إلا هو، هو الأكثر بركة، كل صيغة من صيغ الدين لا تكون بركة ليست من الدين فانتبهوا، كل صيغة حين تُستدعى وتُفعَّل على أي مُستوي – نظري أو عملي مُمارساتي – فتنتقص الناس وتجتاث وتجتاح العقل أو النعمة أو الأمن أو السلام أو الناس – تنقص ولا تزيد – ليست دينية، لأن الدين بركة، قال الله تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ۩ وقال أيضاً تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ۩، الدين بركة، الدين لا يكون نقصاً ولا يكون لعنة، لا يكون نقصاً في العقل والفهم، لا يكون نقصاً في العواطف الإنسانية الباذخة الماجدة الرائقة والعالية، عواطف الإحسان والمحبة والتعاون والتواضع، أليس كذلك؟ الدين لا يكون كبراً وغطرسةً وعنصريةً وعرقيةً ومركزيةً أبداً، لماذا؟ لأن صاحب هذا الدين – لا إله إلا هو – هو الأكثر بركة والأكثر شمولاً وعمومية في رحمته وعطائه وكرمه وجوده واستغنائه عن عباده، وهو الأكثر علماً وحكمة، فكل تصرفات تعكس فهماً يُزعَم أنه فهمٌ يُمثِّل الدين تنتهي دائماً إلى حماقات وتُثبِت أنها صرف حماقات لا يُمكِن أن تكون فهوماً دينية صحيحة يرضاها الله، لأن الدين ليس ضد العقل لأنه دين العليم الحكيم، كيف يكون دين عليم حكيم ويأتي دائماً بحماقات وبغباوات تُناقِض القوانين وسُنن الاجتماع وسُنن التاريخ وقد تناقض سُنن الكون؟

حدَّثتكم مرة عن قضية أن الله – تبارك وتعالى – خاطب أصحاب محمد وبين ظهرانيهم محمد – صلى الله على محمد وآل محمد – قائلاً الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۩، وقد تكلَّمنا غير مرة عن هذا، قال هذا المُعسكَر وهذا الجند المُصطفوي المُحمَّدي مطلوبٌ منه أن يصمد وأن يثبت لضعفيه فقط، أكثر من ضعفين لو فر هذا الجند وانخذل لا عتب عليه ولا حرج، هذه سُنن هنا، لا يعني أن محمداً بين ظهرانيكم أنكم تستطيعون أن تغزو العالم وأن تُدمِّروا العالم، لكن سمعنا في القرن العشرين الفائت وفي بداية هذه الألفية أيضاً مَن يقول العالم فسطاطان ونحن فسطاط الحق ونحن نُشعِلها حرباً مفتوحة على فسطاط الباطل كله، أي على ملايير، كم أنت؟ هل عشرة آلاف؟ هل تعد عشرين ألفاً أو ثلاثين ألفاً أو خمسين ألفاً؟ كيف تظن أنك ستعتدي على على أربعة ملايير وستنتصر؟ هذه حماقة، هذا غباء الدين براء منه، لا يُمكِن أن تقول لي كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ ۩، هذا إن حدث أولياً ينبغي أن يكون مُقيَّداً بالسُنة الإلهية، مُمكِن القليل يغلب الكثير لكن في أي حدود؟ ما مدى تواتر هذا الشيئ؟ الذي حصل مع محمد وأصحابه – كما قلنا لكم – هو أن الله جعل لهم هذا القانون، تثبت أمام ضعفين فقط، غير هذا أنت في حل من أمرك، أردت أن تأخذ بالعزيمة وتثبت وتصابر فهذا أحسن وذلك إذا قدَّرت أنك تنتصر، ربما تنتصر أو ينكسر عدوك، إذا قدَّرت غير هذا لا حرج عليك أن تنخذل بجيشك تأميناً لهم، والكلام محمد، وهذا أمرٌ عجيب، محمد الذي يتنزَّل جبريل عليه صباح مساء، نعم لأن هذه سُنن إلهية، محمد حين هاجر لم يقل أنا ختام المُرسَلين وحياتي مضمونة بلا شك وأنا الرسالة الخاتمة وأنا النبي الخاتم وأنا سأُهاجِر في وضح النهار، لم يقل هذا أبداً، هاجر في الليل وأخذ عدته ورسم خطةكما يقول العرب العامة الآن لا تخر الماء، خُطة دقيقة من كل النواحي وهى معلومة حتى هذه لأطفالنا، لماذا؟ وأنت محمد ختام الأنبياء والمُرسَلين؟ هذه هى السُنن وهذا احترام السُنن، هذا دين حكيم، هذا دين رب عليم حكيم يحترم السُنن ويحترم القوانين، هو دين متواضع ليس متبجحاً، كأن يُقال بما أنني الحق أنا سأخوضها حرباً ضد العالمين وسأنتصر، لن تنتصر وإنما ستندحر وتنكسر وتأتي بالعار والشنار على نفسك وعلى أمتك وربما على دينك وهذا ما يحصل.

إذن الديني يُطابِق الأخلاقي، ولابد أن يُطابِق الأخلاقي، لأنه دين رب العالمين لا إله إلا هو، بهذه المُطابَقة يكون الدين الضمانة الأكثر قوةً وصرامة للأخلاق، ما رأيكم؟ أنا أقول لكم بهذه المُطابَقة إذا فُهِم الدين على هذا النحو لا يُمكِن للعقل الإنساني أن يتصوَّر ضمانة أقوى من الدين للأخلاق ولثبات الأخلاق، انف الله من المشهد – أستغفر الله العظيم – واشطب على الدين ثم حاول أن تُثبِت ضمانة نهائية للأخلاق، لن تستطيع، كلها ضمانات مُزلزَلة ونسبية ومُتحرِّكة، ضمانات إلى حين، والمسألة ليست فروضاً فلسفية في الفراغ وفي الفضاء، لنأخذ المسألة من منظور أصحابها، فنأخذ المسألة من منظور المُتدين، ليس من منظور المُلحِد الذي يُناقِش قضية الدين وعلاقته بالأخلاق فهذا لا نحتاجه الآن، أنا أُريد نقاش المسألة من منظور المُؤمِن المُتدين، ما الذي يُمكِن أن يُذيب أو يُلاشي أو يُضعِف أو يُزوي خوفه من الله تبارك وتعالى؟ هذا إذا كان مُؤمِناً بالله حقاً، وطبعاً لا تُحدِّثني عن إيمان أكثر العوام، أنا الآن لي بضع سنين صرت أشك في إيمان كثير من العوام، وطبعاً لا أُكفِّر فأنا من الأعداء الاولين للتكفير، لكن أعلم أن هذا الإيمان يافطات وعناوين، لا يتترجم عملياً، ترجمات ضعيفة جداً جداً جداً، إيمان كالذي وصفه الله على حرف، هو يضع الله – تبارك وتعالى – كضمانة استثنائية، كأن يقول أفعل ما أريد وكما أشتهي وكما أهوى لكن أهم شيئ ألا يراني الناس الذين يعتقدون أنني فاضل ومستقيم، هل تعرفون لماذا؟ ليس لأنه عنده حياء، لو عنده حياء حقاً لكان الله أولى بالحياء، قال يا رسول الله فالرجل يكون وحده ، قال الله أحق أن يستحي منه، لا يُوجَد حياء لكنها شبكة الشغل والفخ، هو تدينه فخ ينصبه للناس، فيتغوَّل أموالهم ويضحك عليهمويأخذ أصواتهم وهكذا، أو على الأقل يحظى باحترامه المعنوي كأن يُقال مولانا وسيدنا والرجل الفاضل الصالح، وهو سافل مُنحط، لكن أين الله الذي تُصلي وتركع وتسجد له وتُطلِق لحيتك وتعتمر من أجله؟ هذه ضمانة على جنب، حين تشتد الامور وتدلهم الخطوب أعود إليه وأقول يا الله يا الله وأُعلِن التوبة وأبدأ في قطع العهود، أقول يا الله أعاهدك وكل هذا الكلام الفارغ، هذا إيمان العوام، قال الله وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۩، ومن هنا أنا أقول لكم ذلك الخسران العجيب البعيد الذي نعيش فيه الآن، لأننا لا أقول لكم لم نُحقِّق وإنما لم نتعلَّم كيف نُحقِّق معنى الأيمان، تعلَّمنا الإيمان كلاماً وخطباً ودروساً وأشعاراً وقصائد فقط، ليس تربية حقيقية، ما أسهل الإيمان حين يكون كلاماً، لكن تعال اختبر هذا الإيمان يا أخي بأقل اختبار، يذوب أمامك كما تذوب الشمعة مُباشرةً، أمام شيئ من المال يذوب، أمام شيئ من الإغراء الشهوي يذوب، أمام شيئ من الغضب والرغبة في الانتقام والحقد ورد الصاع صاعين يذوب، ما هذا؟ أي إيمان هذا؟ الإيمان الحق ليس كذلك بالمرة.

خبيب بن عدي تعلمون قصته يوم أُخِذ وسُجِن وحُبِسَ وقُتِل صبراً لكي يُذبَح كما تُذبَح السخلة والنعجة، والرجل أراد أن يلقى الله – تبارك وتعالى – طاهراً، فطلب من صاحبة الدار – وصاحبة الدار هى زوجة الرجل الذي احتُبِسَ خبيب عنده وسيسوقه بيده من الغد إلى التنعيم لكي يُذبَح وهذا ما حصل – قائلاً ائتيني بحديدة لكى استحد بها لألقى الله وأنا طاهر، فأتته المرأة بالحديدة، أحسنت إليه وأتته بالحديدة، وكان لها طفل صغير يحبو، تركت الباب – لم تُرتِجه – مفتوحاً، فجاء الولد الصغير يحبو حتى صار إلى حجره، أخذه الصحابي الجليل يُداعِبه، لو عقلية خبيب عقلية داعش لقال له تعال هنا يا حبيبي، لعنة الله عليك وعلى أبيك وعلى قريش ومن فيها يا كفار – وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ۩ – جميعاً، على الأقل أُراهِن عليه وأُفادي به وإلا ذبحته، سيقول لك هم يذبحوننا وهم يقتلوننا، لكنه لم يقل هذا أبداً وأخذ يُداعِب الطفل، المرأة فقدت طفلها وكاد عقلها يعزب عنها، دخلت فوجدته في حجره، أدركت أنه مذبوح، نُزِفَ دمها وامتُقِعَ لونها، فقال لها لا عليكِ يا أمة الله، أوظننتِ أنني ذابحه؟ أي هل أنا أقتله؟ هل أنا أقتل هذا الطفل البريء؟ أعلم إنني مربوطٌ عندكم، زوجك سيقودني بالسلسلة غداً إلى مذبحي وإلى مصرعي، ما كنت لأفعل وأنا صاحب رسول الله، هذه أخلاق أصحاب رسول الله، هذه أخلاق محمد وأصحاب محمد، هذا هو الإسلام، قال لها ما كنت لأفعل وأنا صاحب رسول الله، لن أُسوِّد وجه رسول الله، بالله عليكم ما الذي تعلَّمه خبيب من الإسلام؟ كم سنة وخبيب في الإسلام؟ وأنتم اليوم من وراء ألف وأربعمائة وقريب من خمسين سنة تلعبون بالإسلام وتُحرِّفون قيم الإسلام وأخلاق الإسلام ورحمة الإسلام وتأبون إلا أن تُلصِقوا هذا بالإسلام، وما هى إلا قضية حقد وثارات وغضب وجنون، ليس هكذا الأمر، ما كنت لأفعل وأنا صاحب رسول الله، يقول لها نحن دين يُشرِّف ولن أُسوِّد وجه نبيي، والله أنا أقول لكم وأحلف لقد سوَّدنا وجهه – عليه الصلاة والسلام – بأفاعيلنا، سوَّدنا وجهه وسوَّدنا صورته في العالمين، ونفرح ونُصِر أننا ننتصر له فتباً لنا، ونحن في التباب، دعوت أم لم أدع نحن في التباب، نحن في الخسار، مَن ذا يقول أننا لسنا في الخسار؟ نحن في الخسار وفي الدمار، وما سيأتينا – ونسأل الله اللطف – أفظع وألعن، علينا أن نعود حقاً إلى أمر الله، وعلينا أن نبدأ بطريقة جديدة في تعليم الدين لكي يكون تربية حقيقية، ليس خُطباً ودروساً وليس نزاعات وتنظيمات وإنما تربية حقيقية، كما كان يُربّي الربانيون ويتربّى الصالحون، والله أنا أحسد آباءنا وأجدادنا على تدينهم، وأُشهِد الله أنه أصفى وأرقى من تديننا وأمتن بمراحل، هو دين متين، فيه خشية حقيقية من الله، لذلك كنت ترى عفة حقيقية عن أموال الناس وعن أعراض الناس، اليوم أي عفة؟ يخرج لك على المنابر مشائخ بعمائم ولحى – والله – ويخوضون في أعراض بعضهم البعض، علماء يُشعِلونها فتنة بين طلابهم وبين مدارسهم وتلاميذهم، كلٌ يطعن في كل، جرِّب فقط أن تتناول أحدهم بجملة، هل يرحمك؟ هل يسكت عليك؟ انتهى كل شيئ، أين العفة؟ أين الخوف من الله تبارك وتعالى؟ أين الصفح؟ أين الإغضاء؟ أين كرامة يا سيدي؟ لن أقول أين الدين لكن أين المروءة والكرامة؟ لو تابع كل أحد كل سفيه لاستحال سفيهاً، أليس كذلك؟ أين شرف الخصومة؟ والأكثر من هذا والأهم من هذا بعد ذلك أين الحرص على سمعة الإسلام؟ أين الحرص على سمعة أهل العلم؟ احرص على نفسك وعلى الآخرين، لا تجعل العلماء ينحطوزن في نظر الناس هذا المُنحَط بأفعاعيلك وأقواليك، كُن راقياً حتى لو تكلَّموا فيك، فليتكلَّموا، حتى لو أرادوا أن يعملوا شيئاً فليعملوا، لا ننزل إلى هذا المُستوى، لا نُهاتِر لأن المهاترة لها أهلها ولهم أتباعهم، لسنا من المُهاتِرين، قال الله وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ۩، العمر أنفس من أن نُضيِّعه في رد القال والقيل، وقالوا ونقول وقالوا ونقول، لا يُوجَد هذا الكلام الفارغ، قل الحق وقل الطيب من القول وامض وأجرك على الله، قال الله لَنَا أَعْمَالُنَا ۩، الحساب ليس عند الناس وليس عند الجمهور، لكن حين يكون الحساب والمُراد من الحساب أن يكون عدد الأتباع وعدد المُصفِّقين وعدد المُشايعين والمُتحزِّبين فإن هذه مُصيبة، انتهينا إلى مصائب حقيقية والله المُستعان.

طوَّلنا في هذه المقدمة فنعود إلى آية الجزية، آية التوبة – وهذه الخُطبة كما وعدتكم ستكون صلة للخُطبة السابقة – تقول قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، للأسف الشديد هذه الآية أكثر مَن تكلَّم فيها مِن علماء المسلمين ومِن الغربيين مِن المُستشرِقين ومَن لف لفهم يرى أنها آية تُعلِن الحرب المفتوحة على أهل الكتاب بعنوانهم كتابيين، لا لأنهم اعتدوا ولا لأنهم بغوا وطغوا، فقط لأنهم كتابيون الله، ويقولون أن الله يقول هذا لأنه قال مِنَ الَّذِينَ ۩، فبيَّن الصلات الثلاث بقوله مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ۩، وهذه (مِنَ ۩) تبينية ، فانتهى الأمر إذن، إذن كل كتابي لابد أن يُقاتَل حتى يُعطي الجزية عن يد وهو صاغر، لكن من أين لنا أن الآية تقول كل كتابي؟ اسأل الآن أي شيخ عن هذا وما أكثرهم، وأقول الآن لا كثَّر الله المشائخ، يكثرون وتكثر بهم الفتن والله العظيم، قبل ثلاثين سنة مَن هم المشائخ الذين كانوا عندنا؟ ماذا كان يعرف الجمهور؟ ومَن كان يعرف الجمهور؟ كانوا يعرفون الشيخ محمد الغزالي والشيخ محمد متولي الشعراوي والشيخ الباقوري أمثال هؤلاء، كانوا قلة قليلة، لو تحدَّثنا على مُستوى مصر – مثلاً – هؤلاء كانوا يظهرون في التلفزيون، هؤلاء كانوا قلة لكن الدين كان له هية وكان جميلاً، برنامج أسبوعي أو برنامجان، والناس يترقَّبون هذا البرنامج ويستفيدون ويُحاوِلون أن يُفكروا فيما سمعوا، ولم تكن هناك أي مشاكل، هذا مستحيل، لم نكن نرى هؤلاء المشائخ يُحرِّضون الأمة بعضها على بعض والشعب بعضه على بعض وهذا على هذا وهذا على هذا ويُكفِّرون ويسبون ويلعنون ويطعنون، لا يُوجَد هذا الكلام أبداً، يُفسِّر الواحد منهم حديث رسول الله ويُفسِّر الآي الكريمات من كتاب الله ويتحدَّث في الفقه وفي الدين وفي الأخلاق وينتهي كل شيئ، الآن عشرات ألوف – في الحقيقة هم مئات ألوف – المشائخ، وكلهم علّامات طبعاً، أصبحوا يُحِبون لقب علّامة، كله أصبح علّامة، لا ندري كيف هو علّامة؟ لكن كلهم علّامات بالمجان وهم كثر، فلا كثَّر الله من أمثالهم لأنهم فتنوا الأمة ومزَّقوها ودمَّروها وضيَّعوها، ضيَّعوا أمكانية أن تلتقي هذه الأمة على قيادات راشدة وواعية، الشباب يظنون أن كل شيخ يُمكِن أن يكون قائداً ويقود المسيرة، لذلك لا تُوجَد مسيرة، لدينا ألوف المسيرات كما قلت، لا يُوجَد إسلام واحد الآن، عشرات الإسلامات وهى مُتنازِعة، إياك أن تُصدِّق غير هذا، هناك مَن يقول هذا العدنان يُهوِّل عليكم، لكن هى – والله – إسلامات مُتنازِعة، كيف لا تكون مُتنازِعة ويُكفِّر بعضها بعضاً ويستحل بعضها دماء بعض؟ اسكت يا رجل، يقولون لك هذه فهوم تنوع وليست فهوم تضاد، لكن هذا غير صحيح، هذه فهوم تضاد وتقاتل أيضاً، كونوا صادقين مع الواقع، الواقع نراه بأعيننا فكفانا كذباً، مللنا من هذا الكذب والتضليل.

للأسف الشديد – كما قلت لكم – كثيرٌ إن لم يكن في الحقيقة هم أكثر العلماء – أكثر العلماء المسلمين وغير المسلمين – يقولون هذه الآية شنتها حرباً على الجميع، لو سألتهم الآن مِن أين لكم هذا؟ يقول لك الواحد منهم أنت جاهل طبعاً، أنت لا تفهم طريقة استنباط الأحكام الشرعية، لم تدرس علم أصول الفقه، وهو علم صعب، هذه فلسفة التشريع، الله يقول قَاتِلُواْ الَّذِينَ ۩ فهل تفعهم ما معنى الَّذِينَ ۩؟ تقول له هذا إسم موصول، فيقول لك هو من ألفاظ العموم، الَّذِينَ ۩ من ألفاظ العموم، والمعنى أن محمداً – عليه السلام وصحبه – لم يُؤمَروا بقتال فقط بيزنطة، أي بيزنطة في عهد محمد على تخوم الشام مثلاً، هذا غير صحيح، لا تقل هذا المُراد بقوله الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ۩، المُراد بقوله الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ۩ كل أهل الكتاب، أي كتابي – أمس واليوم وإلى يوم الدين – تُقاتِله حتى يعطي الجزية، مِن أين لك هذا؟ يقول لك قال الله الَّذِينَ ۩، وهذا إسم موصول والأسماء الموصولة تُفيد العموم، اللهم نُشهِدك أن هذا باطل وتعسف وحيف على الحقيقة، وهكذا تفعل – كما قال ابن سينا – الفطانة البتراء بأهلها، هذا كسر العلم وكسر الفهم.

دقِّقوا معي الآن، هذا مبحث علمي فيه شيئ من التخصص لكن سأُبسِّطه بإذن الله تعالى، أنتم الآن تسمعون هذه الآية التي تقول قَاتِلُواْ الَّذِينَ كذا وكذا وكذا مِنَ الَّذِينَ ۩، وسأضرب الآن طبعاً عن كلام العلامة الإمام بن عاشور بخصوص الإدماج وأن الصلتين الأوليين يراد بهما الكفار المُشرِكون والصلة الثالثة فقط هى المختصة بأهل الكتاب، والآية مسوقة أصلاً لبيان حكم مُقاتَلة أهل الكتاب، وأما مُقاتَلة المُشرِكين الحربيين الذين بيَّنهم الله – تبارك وتعالى – ووصفهم بالصلتين الأوليين فإدماج كما قلنا وشرحنا ما هو الإدماج، بغض النظر عن هذا الرأي – لأن هذا الرأي يُزيل لنا مشكلة ذكرناها في الخُطبة السابقة – نُريد أن نسمع الآية وأن نُدقِّق، هل تحتمل صيغة الآية قَاتِلُواْ الَّذِينَ لا ولا ولا مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ۩ أن تكون أمراً بقتال طائفة مخصوصة وأناس مخصوصين؟ أنا أزعم في هذا المقام – انتبهوا فهذا مُهِم جداً في الجواب عن الشبهات حول هذه الآية – أن هذا هو المراد أصلاً، هذا التفسير الأرجح ولا أقول حتى الراجح، لن أتواضع وسأقول هذا الأرجح، هنا قد تقول لي هذا تبجح لأن من أين لك هذا وأمامك الَّذِينَ ۩؟

اسمعوا الآن وتحمَّلونا وأنتم لستم مُتخصِّصين لكن هذا كلام سهل، هو ليس رياضيات ومن ثم سيُفهَم لأنه سهل، أولاً الإسم الموصول أو إسم الموصول (الذي) وفروعه – أي التى واللذان واللتان والذين واللائي أو اللاتي – جمهور علماء أصول الفقه على أنهم ليسوا من ألفاظ العموم، ما رأيكم؟ اسمعوا هذا تماماً، كثيرٌ من الأئمة بل الجمهور – جمهور علماء أصول الفقه – على أن الموصول وفروعه ليس من ألفاظ العموم، فلا يجوز لك متى رأيت الذين أو اللاتي أو اللائي أو الذي أو التي أن تقول هذا يقتضي العموم فيعم كل كذا، هذا غير صحيح، وهنا ستقول لي هذا أمرٌ عجيب لأن هذا عكس ما نعرف، وهذا صحيح طبعاً، لأن علم أصول الفقه ما شاء الله إذا استثنينا المتخصصين الذين لا نكاد نرى لهم أثراً حقيقياً في تجديد الخطاب الفقهي الإسلامي الآن – لهم آثار لكنها ليست حقيقية تضرب في الجذور في مثل هذه المسائل الخطيرة، هذه أصبحت مسائل خطيرة لأنها بخصوص الدين وأهل الدين وبخصوص الأمة، ومع ذلك لا يتكلَّمون كأنهم لا يعلمون، لكن من المُؤكَّد أنهم يعلمون هذا الكلام – علم الأصول عند مَن يدعي الفقه هو ما درسه من كتاب زكي الدين شعبان أو محمد أبو زهرة أو وهبة الزحيلي أو عبد الوهاب خلاف أو علي حسب الله، أي مُلخَّصات تصل إلى أربعمائة صفحة وهذا لا ينفع، هذا لا يصلح بالمرة، هذا يصلح لكَ ولكِ من الناس العاديين، مَن يدرس الطب أو الرياضة أو الفلسفة يُمكِن أن يدرس كتاباً من أربعمائة صفحة، لكن هذا ليس الفقيه الحقيقي الذي يفهم الأصول، لا يدرس مذكرة حسب الله وأبو زهرة وخلاف والشيخ الشنقيطي، لا يصلح أبداً هذا، البتة لا يصلح، ليست هذه طريقة العلماء، هذه طريقة المُثقَّفين، هو مُثقَّف ويحفظ كلمات في أصول الفقه، فانبتهوا إلى هذا، ولذلك هذه الكتب طبعاً تذكر تقريباً ولا تستثني مُعظَمها أن من ألفاظ العموم ومن صيغ العموم الأسماء الموصولة ثم تمشي، وأنت تظن أنها قاعدة ربانية وأن الله أنزل بها قاعدة، أي أن الأسماء الموصولة من صيغ العموم، لكن هذا غير صحيح وإليكم التحقيق.

إذن لدينا جمهور علماء أصول الفقه منعوا عد الأسماء الموصولة من صيغ العموم، قالوا ليست من صيغ العموم، وهذا كان أولاً، ثانياً الأصوليون الذين ذهبوا إلى أن ما ومَن الموصوليتين – أي إذا وردت مَن موصولةً وإذا وردت ما موصولةً بمعنى الذي أو التي أو كذا – لا تفيد العموم، هؤلاء حتماً لازماً قالوا بأن الأسماء الموصولة لا تُفيد العموم، وهذا صحيح طبعاً، هذا فرعٌ على اعتقادهم بعدم عموم أو عمومية الأسماء الموصولة، فقالوا مَن وما إذا أفادتا الصلة لم تفدا العموم، إذن هذا واضح، وفي المُقابِل هناك قلة من العلماء – هم أقل لأن الجمهور على هذا، هذا رأي الجمهور فانتبهوا، هذا رأي الجمهور وهو مُفيد جداً في فهم الآية وفي فهم نظائر هذه الآية وهى نظائر كثيرة في كتاب الله – مثل القاضي عبد الوهاب المالكي رحمة الله تعالى عليه، هذا العلّامة الكبير من مالكية بغداد وهو إمام وبحر، قال الأسماء الموصولة تفيد العموم، كلها بالإطلاق، وإطلاقه غير صحيح قطعاً كما سيأتيكم الآن البُرهان من الكتاب واللغة، فهذا غير صحيح، ابن السمعاني – العلّامة ابن السمعاني الشافعي رحمة الله تعالى عليه – قال أيضا الأسماء المُبهَمة – ومنها طبعاً الأسماء الموصولة – كلها تُفيد العموم، وهذا إطلاق غير صحيح، ورد عليه الأشاعرة على أنه منهم، الأشاعرة قالوا الإسم المُبهَم يقع في بابه موقع الإسم المنكور، أي النكرة، كقولنا رجل فجاز أن يكون عمراً وجاز أن يكون زيداً، فلا يُسار إلى أحدهما إلا بالدليل، فكيف يُقال الأسماء المُبهَمة تُفيد العموم؟ هذا غلط يا ابن السمعاني، هذا رأي السادة الأشاعرة، هذا رأي أصوليين الأشاعرة عموماً، أي أن هذا المذهب المُتبَع لديهم، إذن ما هو التحقيق؟ انتبهوا إلى التحقيق يبدأ من البحث في اللام في الإسم الموصول، نحن نقول (الـ) وفي الحقيقة هي لام – لام التعريف – وهمزة، وهذه الهمزة هى همزة صلة طبعاً، همزة الصلة دائماً تُلازِمها، ومن ثم سوف نقول لام التعريف أو (الـ) دون أي مُشكِلة، اختلفوا هل هذه اللام أو (الـ) التي في الذين – وبعد ذلك في التي واللذان واللتان وإلى آخره – هل تفيد التعريف أم لا؟ اختلف علماء اللغة، والأرجح عند أكثرهم أنها للتعريف، بدليل – هنا دخلنا في المسألة – أن هذا الإسم الموصول (الذي وفروعه) أحياناً يأتي للجنس – لتعريف الجنس – وأحياناً يأتي للعهد، فالأرجح إذن أن تكون للتعريف، لكن ما هو الجنس؟ وما هو العهد؟ نترك الآن الإسم الموصول ونتكلَّم عن هذه اللام أو عن (الـ)، يقولون لك لام التعريف قد تكون لتعريف الجنس وقد تكون لبيان الحقيقة والماهية وقد تكون للعهد وليس للجنس، أي لتعريف العهد أو للعهد اختصاراً، ما معنى تعريف العهد؟ العهد قد يكون ذكرياً وقد يكون حضورياً وقد يكون ذهنياً علمياً، قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ – مُنكَّرة – الزُّجَاجَةُ ۩، الألف واللام في قوله الزُّجَاجَةُ ۩ هنا للعهد، لتعريف العهد، أي عهد؟ العهد بها قريب جداً، قال زُجَاجَةٍ ۩، ثم قال الزُّجَاجَةُ ۩، إذن هذه الزجاجة هى نفسها، فالألف واللام للعهد، العهد الذكري الذي ذُكِر الآن، قال الله إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ۩ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ۩، الألف واللام في قوله الرَّسُولَ ۩ ليست للجنس وليست لاستغراق الجنس ولا لاستغراق الأفراد أبداً، الله لم يُرسِل كل الأنبياء والرسل إلى فرعون، وإنما أرسل رسولاً واحداً وهو موسى عليه السلام، فإذن الألف واللام للعهد، للعهد الذكري، هذا هو العهد الذكري وهو سهل، هناك أيضاً العهد الحضوري، كما تقول وجئت اليوم تُعاتِب وتُحاسِب، إذا أردت باليوم الذي أنت فيه، أي هذا اليوم مثل يوم الجمعة السادس من مارس مثلاً، ومن ثم تقول وجئت اليوم، فهذه تكون للعهد الحضوري، نحن الآن في هذا اليوم ونعيش في هذا اليوم، أي في اليوم الحاضر، هذا إسمها العهد الحضوري، وأخيراً يُوجَد العهد العلمي أو العهد الذهني، مثلل روى فلان كذا وكذا أن النبي قال، فكلكم تعلمون من هذا النبي، ليس أشعياء وليس إرميا وليس شيتاً وليس نوحاً، هو محمد بن عبد الله، لماذا الألف واللام هنا إذن؟ ليست للجنس وليست للاستغراق، لا يُراد استغراق أفراد النبوة، ليس كل الأنبياء مَن قالوا هذا، محمد بن عبد الله ختام الأنبياء والمرسلين هو الذي قال، إذن الألف واللم في أن النبي قال و أن الرسول قال لماذا؟ للعهد – هذا مُهِم لكي نُفرِّق بهذه الأمور البسيطة – لكن أي عهد؟ العهد الذهني، وهذا معروف لأن بُمجرَّد أن تسمع تعرف مَن المقصود وأي نبي، أليس كذلك؟ نقول حضر المدير – والكلام بين أفراد شركة مُعيَّنة – ومعروف مَن هو المدير، أي مدير الشركة وهو فلان الفلاني، فهذا معروف، مثلما نقول حضر المدير فخذوا أهبتكم، هذه الألف واللام في المدير لماذا؟ للعهد، أي عهد؟ للعهد العلمي أو للعهد الذهني، هل فهمنا العهد؟ هذا جميل جداً.

نأتي الآن إلى الجنس، قالوا لام التعريف أو الألف واللام لتعريف الجنس أو لتعريف الماهية والحقيقة، كيف نعرف إذن؟ قال الله وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۩، تعريف الماهية وبيان الحقيقة له ضابط، وهى ضابطة بسيطة جداً، ضابطه أنه لا يصح ولا يسوغ أن يقع موقع هذه اللام لفظة (كل)، فهل يجوز أن تقول وجعلنا من (كل) الماء كل شيئ حي؟ هذا مستحيل طبعاً، هذا غلط لأن المقصود من جنس الماء ومن هذه الحقيقة ومن هذا الجنس الذي إسمه الماء، عندما نقول المنصب أدار الرؤوس وأفسد النفوس فإن الألف واللام في المنصب لبيان الحقيقة والماهية وليس للاستغراق، بدليل أن هناك مَن يعتلون مناصب ويصيرون رؤساء وملوكاً ووزراء ويظلون من أحسن الناس ويُصلِحون ولا يُفسِدون، إذن هذه ليست لاستغراق كل مصاديق المنصب، المقصود حقيقة المنصب، حقيقة العلو على المناصب وما إلى ذلك تُفسِد النفوس، كقولنا الدرهم والدينار أتلفا الإيمان، هذا نفس الشيئ أيضاً، الألف والدينار في الدرهم والدينار لبيان الحقيقة والماهية وليس لاستغراق الأفراد، بدليل أن مِن الدرهم والدينار ما يكون بلاغاً إلى الدار الآخرة وقربة وزلفة إلى الله، هذه الألف واللام لبيان الحقيقة والماهية، أي لتعريف الحقيقة، يُوجَد عندنا ألف ولام لتعريف الجنس، وهذه تنقسم إلى قسمين، أولاً إلى استغراق الجنس حقيقةً، وثانياً إلى استغراقه مجازاً، كيف يكون استغراق الجنس؟ أي استغراق أفراد هذا الجنس، قال الله وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ۩، هل يسوغ أو يصح أن تقول خُلِق (كل) إنسان ضعيفاً؟ نعم ولا يسوغ إلا هذا، كل إنسان ضعيف، أليس يمرض؟ أليس يحتاج إلى بيت الخلاء؟ أليس يحتاج إلى الطعام والشراب؟ أليس يموت؟ أليس يحتاج إلى عون الله؟ إذن كل إنسان ضعيف من آدم إلى آخر ابن ادم، إذن الألف واللام أو (الـ) هنا في قوله وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ۩ لماذا؟ للجنس، أي لبيان الجنس، وهى للاستغراق، تستغرق كل الأفراد، كل مَن يصح أن يُطلَق عليه إنسان هو ضعيف، هذا استغراق حقيقي، وهو يستغرق الأفراد، وعندنا استغراق مجازي لا يستغرق المصاديق أو الأفراد ولكن يستغرق الصفات، كما نقول أنت الرجل، يستحيل أن تكون اللام في الرجل لاستغراق الأفراد ومن ثم تكون أنت كل رجال الأرض، هذا مستحيل طبعاً، أنت فقط سعيد بن محمد – مثلاً وليس محمداً بن سعدان، هذا مستحيل فأنت رجل واحد، إذن ما المقصود بأنت الرجل؟ الذي اجتمعت فيه كمالات الرجال وكل صفات الرجال الحميدة المجيدة، فكأنك قلت أنت كل الرجال بمعنى الرجولة الماجدة الكاملة، هذا استغراق مجازي، وهو لا يستغرق الأفراد وإنما يستغرق الصفات، هل فهمنا؟

بعد أن قدَّمنا هذه المُقدَّمة نعود إلى الآية، إذن لدين الإسم الموصول (الذي) وفروع هذا الإسم، تكون أحياناً اللام في هذه الموصولات للعهد، الآن المسألة أصبحت سهلة جداً فإذا كانت للعهد هل يمكن أن تُفيد العموم؟ هذا مُستحيل طبعاً، مُستحيل أن تفيد العموم لأنها للعهد، تتحدَّث عن معهود كما قلنا، مثل وقال النبي، هو نبي واحد الذي قال وهو محمد، والحديث مُخرَّج في الصحاح، ليس كل أنبياء الدنيا، أليس كذلك؟ إذن عندما تكون الألف واللام للعهد هل ينفع أن نقول أنها للعموم؟ كيف هذا؟ كيف للعهد وتقول للعموم؟ هذا كلام فارغ غير موجود، ولأجل المواطن الكثيرة في كتاب الله التي ورد فيها الإسم الموصول واللام فيه للعهد منع جماهير الأصوليين من عد الأسماء الموصولة من ألفاظ أو صيغ العموم، هل فهمتم؟ وهنا قد يقول لي أحدكم مثل ماذا؟ هناك أمثلة كثيرة، قال الله قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ۩، هل الكلام عن نساء ليس لهن عد وحصى أم عن واحدة؟ عن واحدة وهى خولة التي جاءت تُجادِل النبي في زوجها أوس بن الصامت، فهى واحدة ومعروف مَن هى بالاسم وقصتها معروفة، فلا تقل لي هذا إسم موصول يعم، يعم ماذا يا رجل؟ هذه للعهد، قال الله إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ ۩، هل هذه تعم أم لا تعم؟ يستحيل أن تعم، الله يتحدَّث عن فئة وعن عصابة قليلة من الناس رمت عِرض رسول الله بالإفك والبهتان، ثم أن الله يقول إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ ۩، إذن كلمة الَّذِينَ ۩ هنا – هذا الإسم الموصول – اللام فيه تعم أو لا تعم؟ لا تعم، لماذا؟ لأنها للعهد، قال الله وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ۩، هل يعم هذا الموصول في قوله لِلَّذِي ۩؟ يستحيل، هل يعم كل الصحابة هذا؟ هذا مُقتصِر على زيد بن حارثة مولى رسول الله الذي كان مُتبناه في البداية، الله قال لِلَّذِي ۩، وهذا إسم موصول لكن اللام فيه للعهد وليس للجنس وليس للاستغراق، هذا واضح جداً، ومثل هذا كثير جداً جداً، فإذن هذا للعهد.

كل ما ورد من الأسماء الموصولة مما يختص به الله – تبارك وتعالى – هو للعهد طبعاً، ومَن المعهود رب الجلال والعقود والعهود لا إله إلا هو، أي الله، قال الله وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ ۩، قل لي يعم لكي أقول لك أنت كافر لأنك خرجت من الملة بجهلك طبعاً، قل لي يعم لكي تكفر، هو إله واحد، قال الله وَهُوَ الَّذِي ۩، والمُراد هو الله وحده، فاللام هنا للعهد، قال الله تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ۩ وقال أيضاً تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ ۩ فضلاً عن أنه قال وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ۩ وقال وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ۩ وقال أيضاً وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ۗ ۩، وكل هذا للعهد، هل فهمنا يا إخواني؟ لكن في المُقابِل لابد أن نُحقِّق القول وأن نكون مُنصِفين، هناك أسماء موصولة اللام فيها أو (الـ) فيها للجنس، قال الله في البقرة الم ۩ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۩ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ۩، قول الله الَّذِينَ ۩ هنا يعم أو لا يعم؟ يعم لأن هذه الصفات ليست للعهد، لا تتحدَّث عن الصحابة فقط أو عن الصحابة والتابعين أبداً، وإنما عن الكل، وهذا واضح حين ندخل في هذه الآية، قال الله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۩ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ۩ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ۩ اللهم اجعلنا منهم واسلك بنا طريقهم، فهذا واضح جداً، قال الله وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ ۩، هل هذه تعم أو لا تعم؟ تعم، هى في كل امرأة ناشز، لأن قال الله وَاللاَّتِي ۩، قال الله وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۩، هل تعم أو لا تعم؟ تعم، إذن واضحة وبسيطة جداً وسهلة، السؤال الآن هل الأسماء الموصولة من صيغ العموم أو ليست من صيغ العموم؟ إذا قلت لي منها فهذا غلط، وإذا قلت لي ليست منها فهذا غلط، إذن الجواب ماذا؟ تفصيل، قل لي ما كان منها للعهد ليس من صيغ العموم قولاً واحداً دون أي كلام، من الصعب أن ترد هذا، وهذا رأي الجماهير في كل الموصولة وأخطأوا أيضاً، وما كان منها للجنس – لاستغراق الجنس – فهو من ألفاظ العموم، وهذا جميل جداً، هذا أول الجواب، هذا نصف الجواب على الآية، الآن النصف الثاني تطبيقي، ذاك نظري لكن هذا تطبيقي، الله قال قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، إذن قوله الَّذِينَ ۩ هنا للعهد أم للجنس؟ أنا أقول لكم وأرجح هذا بإذن الله تعالى والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمئاب كما يقال أن الَّذِينَ ۩ هنا للعهد وليست للجنس، فلا يُقال كل كتابي وأينما كان ولو في القرن العشرين، هذا غير صحيح – إن شاء الله – بالمرة، لماذا؟ النبي نفسه قال اتركوا الحبشة ما تركوكم، والحبشة كانوا نصارى أم مجوساً؟ كانوا نصارى، هم من أهل كتاب ومن أكبر النصارى، والنبي قال اتركوهم، ما دام لم يعتدوا عليكم ليس لنا علاقة بهم ومن ثم نحن نسالمهم، لكن أين الآية التاسعة والعشرون يا رسول الله؟ أين أنت منها؟ أنت أفهم من رسول الله واًصحاب رسول الله، ومَن قال لك أن الآية تقول بالعموم؟ الإسم الموصول هنا للعهد، هذا تحقيق علمي الآن أصولي ولغوي وإليكم الأدلة أيضاً التاريخية من سيرة محمد عليه الصلاة وأفضل السلام، هذه الآية الآية نزلت بأي خصوص وبخصوص مَن؟ بخصوص الروم الذين جيَّش النبي – عليه الصلوات والتسليمات وآله – لهم جيشاً لجباً عرمرماً في العُسرة في شهر رجب من السنة التاسعة وسار به إليهم في الصيف – في القيظ الشديد والحر – لماذا؟ لأنه بلغه – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن الروم البيزنطيين – كلمة الروم معناها بيزنطة، كانت القسطنطينة العاصمة الخاصة بهم – عبأوا جيشاً عظيماً قوامه أربعون ألف جندي، وأسندوا قياده أو قيادته إلى عظيم من عظماء الروم، لغرض ماذا؟ لغرض دهم المدينة المُنوَّرة، الإمبراطورية البيزنطية عقدت العزم على استئصال شأفة الإسلام، قالوا سنبيد محمداً ودينه وأتباعه من الوجود، فلم يكن بد أن يُؤمَر رسول الله بمحاربة هؤلاء، وهذا الذي حصل وتعلمون ما كان بعد ذلك بفضل الله من وقائع، لم تقع طبعاً الحرب وانتهى كل شيئ بسلام، لكن الآية نزلت في هذا الصنف من أهل الكتاب، أي في هؤلاء بالذات، وهنا قد يقول لي أحدكم أن للأسف أخطأ بعض من كتب – وقد ذكرت هذا مرة – كتاباً في مُجلدَّين في الجهاد وأحكام الجهاد حين ذهب وزعم أن النصارى لم يتفق أن اشتبكوا مع رسول الله في حياته السعيدة إلا مرة أو مرتين، قال في تبوك لم يحصل اشتباك إذن لن نحسبها لكن في مؤته كان يُوجَد جيش زيد بن حارثة فإن استُشهِد فجعفر بن أبي طالب وقد استُشِهد فعلاً فإن استشهد وقد استُشهِد فعبد الله بن رواحة وقد استُشهِد وعاد خالد بالجيش وقد أنقذه من محرقة كاملة، قال هم الكرارون إن شاء الله، وأنتم تعرفون معركة مؤته، قال واقعة واحدة تقريباً، لكن هذا غير صحيح، تقريباً ثماني أو تسع وقائع النصارى يتحرَّشون ويتربَّصون ويعتدون على حرمة الإسلام وأهله، ما رأيكم؟ وذلك في حياة رسول الله، فروة بن عمرو الجذامي وكان عامل بيزنطة على معان – معان في الأردن الآن – وكان هذا الرجل عربياً، لكنه كان عاملاً لهم، يعمل لهم ومن ثم له الولاء السياسي لبيزنطة، ولاءه السياسي لبيزنطة، لكن أسلم هذا الرجل، شرح الله صدره للإسلام فدخل الإسلام بفضل الله عز وجل، فلما علمت به الروم غضبوا غضباً شديداً، وهو رجل من كبارهم وكبار عمالهم، أخذوه وفتنوه عن دينه فلم يُفتتَن بفضل الله تبارك وتعالى، جوَّعوه وعطَّشوه وضربوه وأهانوه وقالوا له ارجع إلى النصرانية فلم يرجع وقال أنا على دين الإٍسلام، قال أنا على الحق، فصلبوه على ماء يقال له عفراء، أي أنهم قتلوه، وأًصدر هرقل أمره بقتل كل مَن أسلم مِن أهل الشام، حرب على الإسلام، هذه حرب حقيقية، قالوا لك حرية، أين حرية الاعتقاد؟ أين حرية الضمير والدين؟ لا تُوجَد أي حرية، هذا قتل، وقال هرقل أي أحد يدخل الإسلام يُقتَل، والنبي عد هذا حرباً عليه وعلى دينة طبعاً، إذن مَن الذي بدأ؟ بيزنطة، فهذا فروة بن عمرو الجذامي، في السنة التالية النبي يبعث على ما أعتقد الحارث بن عمير الأزدي – الصحابي الجليل – بهدايا وأشياء أيضاً إلى ملك غسان، وغسان تابعة طبعاً إلى بيزنطة، هم عرب نصارى وولاؤهم الديني والسياسي لبيزنطة، فيؤخذ الصاحب الجليل ويُسخَر به وبنبيه ويُنال مِن رسول الله ثم يقتل، وهذا شيئ عجيب، هل الرسل والسفراء تُقتَل؟ هؤلاء أُناس عندها جبروت وطغيان وعنجهية وجهالة، مَن محمد هذا وما الإسلام الذي تتحدَّثون عنه؟ فذبحوا الرجل، وهذه حرب على الإسلام، قالوا – أرأيتم الجهل والعلم؟ للأسف الشديد نتكلَّم بجهل – الآية التاسعة والعشرون من سورة التوبة كذا وكذا والإسلام يشن الحرب المفتوحة على أهل الكتاب، ما علاقته بأهل الكتاب وهم مُسالِمون وهم كافون؟ هذه دموية الإسلام، هذا سيف الإسلام، وهذا كله كلام فارغ، أنت رجل جاهل لا تعرف شيئاً يا أخي، اذهب اقرأ كتاب ثلاثمائة صفحة في السيرة ثم تكلَّم يا رجل، هذا شيئ يُجنِّن يا أخي، لكن هذا الجهل مَن الذي يُؤرِّث ناره ومَن الذي يُزكِّيه؟ جهل علمائنا، قالوا لك الآية التالسعة والعشرون آية تأمر بقتال أهل الكتاب من غير قيد وشرط، أي عموم أهل الكتاب، وهذا كذب على اللغة وعلى الأصول والقرآن والسيرة، أليس كذلك؟ وأنتم رأيتم هذا وعرفتم كيف أنه كذب على الأصول بعد أن تحدَّثنا عن ألفاظ العموم وكيف أنه كذب على التاريخ وسيرة محمد، هذا كذب يا أخي وإن قالته أكبر لحية، هذا كذب ندفع ثمنه والقرآن يدفع ثمنه، لا يجوز أن يستمر هذا الكذب، لابد من تحقيق المسائل ولابد من القول بعلم وإلا فلنسكت، على كل حال قتلوا الرجل وليس هذا فحسب بل وأعلنوا الحرب على الإسلام وعبَّأوا أيضاً جيشاً أمدته الروم بمدد وانضوت إليه من قبائل العرب النصرانية غسان ولخم وعاملة وغير هؤلاء، هذا جيش كبير إذن، وأرداوا السير إلى المدينة، وفي ظل تلكم الظروف القاتلة – جيش كبير مُخيف وحرب دينية نصرانية ضد الإسلام – يأتي حديث عمر بن الخطاب المُخرَّج في الصحيح، وقد ذكرت لكم مرة أن عمر كان في أول الليل نائماً، كان رجل مُرهَقاً لأنه كان يعمل كثيراً وكان له صاحب يتناوب معه النزول على رسول الله لكي يتعلَّم، فكانت نوبة ذلك الصاحب، قال فجاءني مُبكِّراً وطرق بابي طرقاً عنيفاً، قال فذعرت وخرجت إليه قائلاً ماذا حصل؟ أقدمت غسان؟ تفضَّل هذا إذن، وهو في صحيح البخاري، ما معنى أن يقول عمر أقدمت غسان؟ الصحابة كانوا يترقَّبون وصول هذا الجيش النصراني بين الفينة والفينة، يقول عمر وكنا نُحدِّث – أي أنفسنا – أن غسان تُنعِل النعال لحرب المسلمين، لحرب الله ورسوله، وهذا في البخاري، قال بل أطول من ذلك وأعرض، طلَّق الرسول نساءه وإلى أخر الحديث الطويل في حديث التطليق، إذن هذه هى الإشارة، فهى حرب حقيقية، في السنة الثامنة الرسول يبعث وفداً من ثمانية عشر أو خمسة عشر رجلاً إلى الحدود الشرقية للأردن يُبلِّغون دين الله ويستطلعون الأوضاع، فيخرج لهم جماعة من الروم النصارى ويذبحونهم من عند آخرهم ولا ينجح باللياذ وبالفرار إلا رجل واحد فقط، يأتي ويُخبِر الرسول بما كان، أي أن هذه حرب مُستمِرة على رسول الله من النصارى، ومع ذلك لا يُقال هذا، ألم تسمعوا بغزوة ذات السلاسل؟ وهنا قد يقول لي أحدكم نعلم ذات السلاسل لكنني أقصد ذات السلاسل التي وقعت أيام الرسول، مع مَن كانت هذه؟ مع قضاعة، وقضاعة قبيلة نصرانية، قال الفيروزآبادي النصرانية في ربيعة وقضاعة ولخم وبعض طيء، لذلك عدي بن حاتم الطئ كان نصرانياً ركوسياً، قضاعة من كبار أو من كُبريات القبائل العربية وهى قبيلة نصرانية، ولاؤها الديني والسياسي لبيزنطة، قال ابن القيم في زاد الميعاد قال بن سعد رحمة الله عليه في الطبقات وبلغ الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن قضاعة جيَّشت جيشاً لغزو المدينة، فبعث النبي عمرو بن العاص على رأس ثلاثمائة رجل، فذهبوا وغزوا وغنموا بفضل الله تبارك وتعالى ونصرهم الله، هذه في ذات السلاسل، ذات السلاسل ضد قبيلة نصرانية وهى قضاعة، فلا تقل لي هناك مُواجَهة واحدة، تُوجَد مُواجَهات كثيرة، نحن نعرف دومة الجندل، هذه البلدة وهذا النطاق والنطاق المُحيط بها كان تابعاً أيضاً لبيزنطة وكانوا نصارى وملك دومة الجندل كان نصرانياً، دومة الجندل فعلت نفس الشيئ أيضاً، عبَّأت جيشاً وتريد أن تغزو المدينة، فخرج الرسول بنفسه على رأس ألف رجل لغزو دومة الجندل، إذن هذه مُواجَهة، هنا في ظل هذه الخلفية التاريخية وظل هذه المُواجَهات المُحتدِمة من الطرف النصراني على الطرف الرسالي الإسلامي ينبغي أن نفهم الآية التاسعة والعشرين من سورة التوبة خاصة الجزء الخاص بأهل الكتاب، قال الله وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، بقيت إشارة أكثر من رائعة وأنا أقول وأكثر من مُفحِمة في الآية نفسها تُؤكِّد أن هذه الحرب وأن هذا القتال الذي أُمِر به الرسول وصحبه ضد هؤلاء الكتابيين هو رد لعدوانهم وليس بدءاً لهم بالعدوان، الآية تقول هذا، لكن كيف قالته؟ وأين قالته؟ هذا ما سنسمعه – إن شاء الله – في الخُطبة الثانية.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الإخوة:

هذه الإشارة مكنوزة في قوله تبارك وتعالى من قائل حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، لماذا؟ كيف؟ النبي أُمِر بقتال المُشرِكين الحربيين، لكن طبعاً أي الفريقين أدنى إلينا وأدنى إلي النبي والرسالة: أهل الكتاب أم المُشرِكون؟ أهل الكتاب بلا شك هم أدنى إلينا بمراحل، لذلك أحل الله لنا طعامهم وأحل لنا نساءهم وأمرنا أن نُحاسِنهم، قال الله وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۩، بأن اعتدوا عليكم أو ظلموكم، إذن أمرنا الله بأن نُحاسِنهم، وسماهم أهل كتاب وهو كتاب إلهي من باب المُحاسَنة والمودة وعدم قطع الآصار والحبال، لكن مع ذلك أُمِر – عليه الصلاة وأفضل السلام – بقتال المُشرِكين الحربيين وجعل إحدى غايات القتال أن يُسلِموا، فإن أسلموا أحرزوا رقابهم وأمَّنوا حيواتهم أم لم يفعلوا؟ أحرزوا، لأننا نُعطيهم فرصة، علماً بأن هذه سماحة عظيمة، سماحة عظيمة أن تُقاتِلني عشرين سنة فإذا أمكن الله منك أعلنت الإسلام فكففت عنك، هذا شيئ عظيم جداً، آرلوند توينبي Arnold Toynbee – فيلسوف التاريخ العظيم في القرن العشرين – في كتابه دراسة التاريخ في المُجلَّد الثالث من نُسخة سمرفيلد Summerfield المُلخَّصة يقول لم يعرض الإسلام على خصومه في ميدان القتال الخيار ليكون بين الإسلام والقتل – أي إما أن تُسلِم وإما أن تُذبَح – وإنما بين الإسلام والجزية، إذا كنت تُريد أن تُسلِم أهلاً وسهلاً، إذا كنت تُريد أن تبقي على دينك وتدفع الجزية أيضاً أهلاً وسهلاً، وإلا ليس إلا السيف لأنك لا تريد لهذا ولا هذا، قال توينبي Toynbee وهى لعمري خطة رشيدة مُتسامِحة امتدحها العقلاء من الناس والآن يذمها الأغبياء من المُتكلِّمين، كمُتكلِّمي اليوتيوب YouTube والفضائيات، يُندِّد الواحد منهم بالجزية، يا أخي افهم ماذا يخرج من رأسك، كما قلت لكم أتعبنا الغباء – أُقسِم بالله – وأتعبنا عدم الإنصاف والانبعاق في الكلام بجهل، هذا أتعبنا فعلاً، توينبي Toynbee يقول خطة عظيمة مُتسامِحة امتدحها العقلاء من الناس، والآن نجد مَن يُصرِّخ ويُنتِّف في شعره في الفضائيات، وهى الخطة التي ستعمل بها اليزابيث الأولى Elizabeth I – إليصابات – بعد قرون، هى سوف تنتهى إليها ويُقال هى تنويرية عظيمة ويتم الحديث عن بريطانيا، لكن الإسلام هو الذي حط هذه الخطة قبل هذه الإليزابيث Elizabeth، هذه حرية إذن، ليس شرطاً أن تُسلِم أو تُقتَل لأن هناك أيضاً الجزية، ماذا قال الله؟ قال هؤلاء المُشرِكون الكفار إذا أسلموا كُفوا عنهم وهم إخوانكم في الدين، يا الله، أي أن المُشرِك سوف يُصبِح أخاً لي، السؤال الآن هو لماذا لم تُذكَر هذه الغاية في قتال أهل الكتاب المذكورين في الآية التاسعة والعشرين من سورة التوبة؟ولو ذهبت تسأل أي فقيه وقلت له لو قاتلت كتابيين – نصارى أو يهوداً – فتمكَّنت منهم وظفرت بهم هل يُمكِن أن أكف عنهم إذا أسلموا؟ فإنه سوف يقول لك طبعاً، أفضل شيئ أن يُسلِموا وأن نكف عنهم وأن يصيروا معنا إخوة لنا في الدين، وهنا سيُقال لك لكن هذا لم يُذكَر في الآية، لماذا لم يذكر الله هذا؟ لماذا لم يقل قاتلوا كذا وكذا حتي يُسلِموا أو يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أو يُقتَلوا – هذا هو الخيار الثالث،وهو ليس خياراً طبعاً وإنما هو اضطرار ونهاية حزينة ومأسوية – إذا أمكن الله منهم؟ لماذا قال الله فقط حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩؟ شيخ الإسلام وشيخ الأزهر في وقته العلّامة محمود شلتوت – رحمة الله عليه وطيب الله ثراه – فهم هذه الإشارة والذي قال هذه الآية انتهت إلى هذه الغاية الوحيدة، لكن طبعاً فيها قيدان هذه الآية كما قال العلّامة محمد رشيد رضا، قيدٌ لهم وقيدٌ لنا، أي لمصلحتهم ولمصلحتهم، الذي لهم في قوله عَن يَدٍ ۩، قال رشيد رضا أي عن قدرة فلا تظلموهم ولا ترهقوهم، أي يدفعوا جزية يقدرون على دفعها وأدائها من غير ظلم من غير تحيف، انظروا إلى عظمة الإسلام حتى في الحرب مع المُعتدين الواغلين، والقيد الثاني لنا في قوله وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، وما هو الصغار؟ إجراء أحكام الإسلام عليهم، خضد شوكتهم وأن تُجرى عليهم أحكام الإسلام بما فيها دفع الجزية لنا وأن يرضوا بهذا، فهذا من الصغار، ليس معناها أن نضربهم وأن نبصق عليهم وأن تكون يدهم أدنى ويدنا أعلى ويؤخذ الواحد منهم بلهزمته ويُضرَب في عنقه وما إلى ذلك، هذا كله كلام فارغ، هذا من تعسفات الفقهاء كما قال العلامة جمال الدين القاسمي، وعلى كل حال الشيخ شلتوت – رحمة الله عليه – قال في الآية ما يُومئ إلى سبق عدوانهم، أن هذا النفر من أهل الكتاب هو الذي بدأ مُعسكَر النبي ومُعسكَر الإسلام بالعدوان فأمر النبي بخضد شوكتهم وجعل الله على ذلك أمارة، كيف تخُضد شوكتهم ويفل حدهم؟ بأن يوافقوا على إعطاء الجزية عن قدرة إذا كانوا مُقتدِرين وهم صاغرون، أي أن يرضوا بهذا الحكم، إذن في هذا إيماءٌ إلى سبق العدوان منهم، ومن هنا وجه الاقتصار على هذه الغاية، على أنه يصح أيضاً الاكتفاء منهم بالإسلام لو فعلوا وهذا ما حصل تاريخياً في مرات كثيرة جداً جداً.

نكتفي بهذا القدر، ما زالت هناك مباحث كثيرة في الآية، وكان بودي أن أحدثكم عن الفرق في مسألة مُعيَّنة، لأن بعض الناس اقترح علي اقتراحاً ليس صحيحاً، فقط أنا أقول أنه ليس صحيحاً علمياً بالمرة، وربما أُفصِّله – إن شاء الله – في خطب آتية، وهو أن الذين أوتوا الكتاب غير أهل الكتاب، الذين أُوتوا الكتاب هم أناسٌ جمعهم بالنبي عهد وميثاق فنقضوه، لكن هذا غير صحيح بالمرة، الذين أُوتوا الكتاب هم من أهل الكتاب، وهم يهود ونصارى، الذين آتيناهم الكتاب يهود ونصارى، وأهل الكتاب يهود ونصارى، لكن ثمة فرق بين هذه المُصطلَحات الثلاث، هنا عظمة القرآن وهنا دقة القرآن، ما معنى الذين أُوتوا الكتاب؟ ما معنى الذين آتيناهم الكتاب؟ ما معنى أهل الكتاب؟ وتستطيع يا أخي ويا أختي أن تعرف المعنى ببساطة بالعودة إلى الموارد، اذهب إلى الموارد واقرأ وسوف تلحظ شيئاً عجيباً، ما ذكر الله (الذين آتيناهم الكتاب) إلا مدحهم، وما ذكر (الذين أُوتوا الكتاب) إلا ذمهم، وإذا ذكر (أهل الكتاب) مدحهم مرة وذمهم مرات، وهذا هو المفتاح.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، اللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير يا عليّ يا حكيم يا قدير يا رب العالمين، جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم زِدنا ولا تنقصنا، وأكرِمنا ولا تُهِنا، وأعطِنا ولا تحرمنا، وانصرنا على مَن بغى علينا بقدرتك يا عزيز يا قوي يا جبّار يا رب العالمين، اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وأقِم الصلاة.     

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (6/3/2015)

 

 

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

  • مساء تماسُك الأفكار و تراصها كالبنيان المرصوص … هذه هي القوة المقصودة في الآية الكريمة { يا يحيى خذ الكتابَ بقوة } أي خذه مؤمناً بمُنزلهِ بجميع أسمائه و صفاته لا مؤمناً و راضياً ببعضها و غير راضٍ بأخرى فالله نفسه اللطيف هو القوي و نفسه الباسط القابض و نفسه الظاهر هو ا هو لباطن و إن لم نأخذه على هذا النحو صرنا ممن يُلحِد في أسماء الله الذين أمر الله رسوله بأن يذرهم { و ذر الذين يلحدون في أسمائه } و ما معنى قول النبي صلى الله عليه و سلم [ المؤمن القوي خير و أحب إلى الله من المؤمن الضعيف ] إلا هذا أي قوي العقيدة بربه و الإيمان به سبحانه بكل أسمائه و صفاته جملةً واحدة فإن حصل هذا كان بنيان إيمانه مرصوصاً لا ينفذ إليه أي عدوان إنسي أو جني و إلا فهو بنيان مخلخل قابل للسقوط في أي وقت و إن ما يقوي هذا البنيان هو ذكر الله و لذلك فضله النبي على الجهاد في الحديث و السؤال هو لم عن الجهاد لا عن غيره من الطاعات و العبادات ؟ ذلك لأن الجهاد رمز القوة و الذكر فعلاً يعطينا قوة كبرى أكبر من أي قوة حيث به يتماسك بنياننا العقَديّ الإيماني و لعل أكثر المسلمين اليوم يؤمنون ببعض الكتاب و لا يؤمنون بآخر و يؤمنون بالله باسطاً و لا يؤمنون به قابضاً أي يعترضون عليه في حالة القبض ، يؤمنون به رافعاً و لا يؤمنون به خافضاً يؤمنون به نافعاً و لا يؤمنون به ضاراً مع أنه تعالى قال { إن يمسسك الله بضرٍ فلا كاشف له إلا هو و إن يمسسك بخيرٍ فهو على كل شيئٍ قدير } أي قدير على سلب هذا الخير منك فعليك بشكره على وجه الحقيقة لا الاغترار بهذا الخير فالاغترار ينتج عن عدم الإيمان بكل أسماء الله الحسنى و بالتالي ينتج عنه عدم التوازن في المعاملات لا مع النفس و لا مع الآخرين { نسوا الله فأنساهم أنفسهم } و عدم القدرة على استيعاب الناس و إعذارهم و ضيق الصدور و ضيق مساحة الاشتراك مع خلق الله جميعاً و بالتالي تكثر الصراعات و يُختزَل معنى الإنسانية إلى حدٍ بعيد … و إذا عرفنا موضع الخلل أين تمكنا من معالجته و جبره بإذن الله مادام فينا حكماء طيبون متواضعون لله سبحانه .. و ختاماً صلى الله على سيدنا محمد أظهر ملّتهْ و ابلجْ حجته و أضاءَ نورَهْ و أدام كرامته و أعلى على بناء البانين بناءه و أكرم مثواه لديه … و شكراً جزيلاً …

%d مدونون معجبون بهذه: