إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ۩ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ۩ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

لكل أمةٍ من الأمم أساطيرها التي تعيش عليها وتستمر بها، أساطير تُنعِش الوعي والحس القومي وتُؤكِّد الدورة الرسالية لهذه الأمة والمكانة المُتفوِّقة على الأقل من منظور الأمة ذاتها والشعب بعينه، وكلمة أسطورة في السياق الفكري المُعاصِر لا تُعادِل الخرافة وإن تداخلت معها في بعض المناحي والجوانب، فكلمة أسطورة لا تعني حدثاً أو شخصيةً وهمية خيالية مُختلَقة خرافية، كلا وعلى كل حال هذه اصطلاحات، فلا يسوغ أن تعودوا إلى المعجم العربي – مثلاً – لتقولوا لي الأسطورة معناها كذا كذا، فنحن نتحدث عن الأسطورة كترجمة لكلمة Legend، كما يُقال لك فلان هذا أسطورة، فالملك آرثر King Arthur  – مثلاً – أسطورة Legend في السياق البريطاني وفي التاريخ الإنجليزي، وكذلك الحال مع روبن هود  Robin Hood وعنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي وعمر بن الخطاب والإمام عليّ وهكذا، فهؤلاء أساطير، لكن ما معنى أساطير؟ ليس معنى ذلك أنهم شخصيات مُختلَقة أو خيالية، كلا فالأسطورة – Legend  – تختلف عن الخرافة  Mythe أوDer Mythos، فالخُرافة – Mythe – هى حكاية لا أصل لها، فهى من مُخترَقات ومُختلَقات الخيال ولا مكان لها مُحدَّداً وبالتالي الخرافة ليست إقليمية، ولا زمان لها مُعيَّناً لأن الخرافة تدور وتحدث وتجري في لا زمن، ولا دور أخلاقياً وقيمياً لها، فالخرافة حكاية أقرب إلى الـ Fabulous، أما الأسطورة فبالعكس، هى تتعلق دائماً وتدور على حدث أو شخصية تاريخية وُجِدَت حقيقةً في التاريخ، وبعد ذلك قام الخيال الإنساني والخيال القومي وخيال الشعب – Volk – كما يُقال بنسج طبقات من الحكايا ومن التمجيدات ومن الاحتفاليات ومن الأسطوريات، فقام الخيال بأسطرة هذه الشخصية التاريخية ولكنها موجودة، فعمر بن الخطاب أسطورة بالنسبة للمسلمين السُنة، وعليّ بن أبي طالب للسُنة والشيعة أسطورة، وهذا لا يعني أنه أكذوبة أو أزعومة، فهذه شخصية تاريخية ولكنها Legend، لكن ما معنى Legend؟ أسطورة هى الترجمة المُناسِبة لهذه الكلمة كما نتعاطى معها في هذا العصر، فهى في مكان مُحدَّد ولذا الأسطورة إقليمية وهى في زمان مُعيَّن، فروبن هود  Robin Hood  – مثلاً – شخصية تاريخية هنا في التاريخ الغربي وفي الفكر والأدبيات الغربي، فهى تلعب في أواخر القرن الثاني عشر وذلك أيام الملك ريتشارد الأول  Richard I  لكنها أسطورة Legend، وهذا لا يعني أنها أزعومة، لأن لها مكان ولها زمان ولها سياق وهى شخصية تاريخية، وتُستخدَم الأسطورة في تعزيز قيم قومية ومعانٍ أخلاقية، فهذا دور الأسطورة، فإذا وضح هذا فليس من السليم وليس من المعقول وليس من المقبول أن تسعى أمة في تحطيم أساطيرها، فالأمم لا تفعل هذا، وخاصة في زمن تكون الأمة فيه تتراجع وتضعف وتزوي، في زمن تحترب فيه الأمة للأسف الشديد وتحتاج إلى ما يُوحِّدها وإلى ما يُعيد إليها ثقتها بنفسها وبرصيدها وبرسالتها، لكن أن تسعى الأمة في تحطيم أساطيرها بحجة العلمية ، الدرس العلمي والدرس النقدي والذي لا يكون علمياً ولا نقدياً وإنما يبغي ويتقصَّد فقط أن يُحطِّم أسطورةً ما –  يُريد أن يُحطِّمها  فقط – فهذا لا يُوصَف في أحسن الفروض إلا بالسذاجة الفكرية، فمَن يفعل هذا دون أن يدري حقيقة ما يأتيه فهو ساذج فكرياً وفي أسوأها بسوء النية والإغراض، فيُوصَف في أسوأ الفروض بسوء النية والإغراض، فهناك غرضٌ ما فلنبحث عنه، لماذا إذن؟ ما الهدف؟ مَن المُستفيد من تحطيم أساطير الأمة؟

كان تيودور هرتزل  Theodor Herzl  مُؤسِّس الصهيونية ومن بعده ديفيد بن غوريون David Ben-Gurion وموشيه ديان Moshe Dayan وجولدا مائير Golda Meir يُكثِرون من التعويل واقتباس الأساطير الدينية اليهودية، وكم ذا لليهود من أساطير، فلدي كتاب في خمس مُجلَّدات عن الأساطير اليهودية، وهى في الجُملة من جنس الأساطير التي تحدَّث عنها روجيه جارودي Roger Garaudy، أي الأساطير المُؤسِّسة لإسرائيل، فالأساطير هى التي أسست للدولة ونعشت وأنعشت وبعثت وعياً قومياً، فالأمم كلها تعيش على الأساطير، فالهنادكة تعيش على الأساطير والفرس عندهم أساطيرهم والأتراك عندهم أساطيرهم، والرومان عندهم أساطيرهم، والألمان عندهم أساطيرهم، والولايات المُتحدة الأمريكية والعالم الحديث والدولة الحديثة في العالم الجديد لديها أساطيرها،وبالأساطير قامت هذه الدولة في العالم الجديد، وهى مُستمَدة من العهد القديم وإلى حدٍ ما من العهد الجديد، ولكن أكثرها من العهد القديم، وهى قريبة جداً من أساطير الصهيونية، ولذلك انتعشت الصهيونية المسيحية في العالم الجديد وفي الغرب الأمريكي بهذه الأساطير، والعجيب أن أربعة مَن ذكرت من الصهاينة – من المُؤسِّس هرتزل Herzl وانتهاءاً بجولدا مائير Golda Meir – كانوا ملاحدة – Atheists  – لا يُؤمِنون لا بإله ولا يُعوِّلون على كتاب مُقدَّس ولا نبوات ولا يُصدِّقون بأسطورة موسى – هكذا يُسمونها أسطورة ولكن بمعنى الخرافة – ولا بعيسى، فهؤلاء كانوا ملاحدة ومسلكهم لا يُمكِن ان يصفه مُفكِّرٌ جاد رصين بأنه مسلك نهَّاز أو غوغائي أو غير علمي أو مسلك تدجيلي – هؤلاء يُدجِّلون بالدين – بل بالعكس إنه مسلك علمي مسؤول، فنعم لا نُؤمِن بالأديان ولا نُؤمِن بالتورارة ولا بموسى ولا بغيره ولكننا نعرف أهمية الأساطير، وهذا لسان حال مَن الأربعة الذين ذكرت – هرتزل Herzl  وبن غوريون Ben-Gurion  وديان Dayan وجولدا مائير Golda Meir – وغيرهم مثل حاييم وايزمان Haim Weizmann حتى في كتابه التجربة والخطأ، فكل هؤلاء الصهاينة الكبار يعرفون هذا لأنهم عقلاء وأذكياء، فيعرفون كيف تشتغل الأمور ويعرفون كيف يُديرون الواقع ويُحرِّكون الجماهير ويُلهِمونها، ومن ثم أنشأوا دولة من لا شيئ على حساب شعب مظلوم ومهضوم اعتبروا أنه غير موجود، فقالوا أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وهذه أكبر أكذوبة وأزعومة في التاريخ المُعاصِر على الإطلاق، فهذه أكذوبة وقاح، لكن على كل حال هؤلاء الملاحدة يقتبسون الأساطير والكتاب المُقدَّس صباحاً ومساءً و لا يكلون، فلماذا؟ لأنهم أذكياء ويعرفون كيف تُلهَم الجماهير وكيف نشتغل وكيف يُمكِن أن نُنشيء أمة من لا شيئ، وما شاء الله في الجانب الإسلامي يُوجَد أذكياء وعلماء ومرجعيات  شطَّار وحذَّاق في تحطيم أساطير الأمة، فنحن إذا أردنا – سُنةً كنا أو شيعة – أن نُحطِّم أسطورة بالخطأ تمت أسطرتها نفعل هذا، وهذا يحدث هذا في كل الأمم، ومثل هذه الأساطير في رأيي ومن رأيي أنها تبعث وتعمل على إماتة الأمة وتجميد حراكها وشل قواها وقُدرها، فهذه موجودة ولكنها قليلة في الأمم، لأن الأمم لديها حس – حس الأمة وحس الشعب – فلا يُمكِن أن تعمل هذا إلا قليلاً في ظروف تحتاج إلى تفكيك.
أنا مع تحطيم أسطورة تمت أسطرتها بالخطأ، تمت أسطرة شخصية في الحقيقة حين نتلو سجل هذه الشخصية من أوله إلى آخره تقريباً لا نجد إلا الانتهازية والتدجيل والذكاء الشرير في سبيل الوصول إلى المناصب والمغانم على حساب القيم والأمة والشعب، فنعم لابد من تحطيم هذه الأسطورة الخطأ، هذه أسطورة غلط، لكن مَن المُستفيد؟ وما هى الفائدة من وراء مُحاوَلات تحطيم أسطورة كأسطورة عمر بن الخطاب؟ ولنقلها واضحةً عمر بن الخطاب أسطورة Legend، فهو أسطورة في العالمين وليس فقط للمسلمين السُنة وإنما في العالم كله، وعلينا أن نُعيد وأن نقرأ ما كتب الأجانب شرقاً وغرباً عن عمر بن الخطاب، فكبار العقول الغربية وقفت تستلهم هذه الشخصية ووقفت بإجلال وبإشفاق بين يديه – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – سواء اختلفت أم اتفقت، فعلى الأقل في المنظور التاريخي العام المُجرَّد عمر كان إمبراطوراً – هكذا يسمونه – عظيماً جداً، لأنه ساس دولة مُترامية الأطراف حول العالم، ويوم قلت على الذين يتنطعون ويتكلفون ما لا يُحسِنون مِمَن لا يُحسِنون شيئاً أن يسألوا أنفسهم في ماذا أفلحوا اعترض بعضهم وقال كيف هذا؟ لأن للأسف ليس لدينا حتى عقلية تفهم ما يُقال، فكلامي كان واضحاً ولا يزال واضحاً تماماً، أنت تنتقد طبيباً، فما هو المعيار إذن؟ المعيار هو التفوق الطبي، وكذلك أنت حين تنتقد خليفةً فإن المعيار هو التفوق السياسي والعسكري والإداري، ولذلك أنا قلت  بشكل واضح افعلها أنت، فأنا لا أتكلم عن عيونك ولا عن جمالك ولا عن أصلك ولا عن حسبك ولا عن تفوقك في الطب والهندسة وإنما أتحدث عن ما انتقدت عمر بصدده، فأنت لم يُعجِبك عمر خليفةً وحاكماً ونسبته إلى الظلم وإلى الحيف وإلى وإلى وإلى مما لا يشهد به شاهد إلا الكذب والتخرص والتظني والاختلاق، وهذا غير صحيح وسوف ترون.

يُسعِدني ويُعجِبني أن هذه الخُطبة – وقد وعدتكم بها قبل ربما شهرين وقلت سأتكلم عن عمر وسأفتح ملف عصبية عمر، وهكذا سيكون عنوان هذه الخُطبة عصبية عمر لأنها عن النزعة العصبية الطائفية الأقوامية عند عمر بن الخطاب – الذي حثني على الاستعجال بها والتعجيل بها هو أحد إخواني الشيعة الذي قال لي بالله عليك أنجز لنا خُطبة عمر كما وعدتنا بها، فهذا يُؤكِّد أن الناس إذا أنِسوا الاستماع المُحاوِل للحقائق سيكون هذا أمراً جيداً، ونحن نُحاوِل أن نستمع للحقائق وقد نُصيب وقد نُخطيء فنحن مُجتهِدون، مُجرِّد مُجتهِدين في كل شيئ وبالتالي نُحاوِل أن نُقارِب الحقيقة، ونسأل الله أن يُوفِّقنا، ولن يُوفِّقنا إلا على قدر صفاء نوايانا وخلو نفوسنا من الأهواء والأغراض، فشعارنا – وهذا ما أُحاوِل دائماً أن أصدر عنه – أن نقول لمَن أحسن أحسنت ولو كان عدواً، وكما قلت لكم مرة أن الهدف الذي يُسدِّده لاعبٌ مُحترِفٌ جيد سأُصفِّق له، والخيبة التي يأتينا بها رجل من فريقي لن أُصفِّق له، ولذلك أنا أعجب جداً أننا نُصفِّق للخيبات، فلماذا نفعل هذا؟ لأن الخائبين من فريقنا، لكنني لن أفعل هذا على الأقل احتراماً لعقلي، لأنني لا أُحِب الخيبة، ونحن لا نُحِب الفشل ولا نُحِب العجز ولذلك سنُصفِّق لمَن جوَّد وإن كان عدواً وإن كان خصماً، ولن نشجِّع ولن نُثني ولن نُطلي ولن نحتفل بالخائبين الفاشلين، فهكذا ينبغي أن يكون شعار الإنسان وبالذات المُسلِم، لأن الإسلام كما أفهمه على الأقل في أصله وفي حقيقته وفي جوهره وفي روحه ولبه دون قشوره الزائفة التي زيَّفناه بها وحمَّلناها عليه وطمسنا روحه وشعاعه وألقه هو أخلاق، فهو دينٌ أخلاقي ودين قيم، فماذا يُجديك؟ تالله لن يُجديك لا أقول وإن كنت من شيعة أهل البيت – وأنا أُخاطِب الشيعة – أو إن كنت من مُحبي عمر أو إن كنت من السُنة بل حتى وإن كنت عمري النسبي، وينميك نسباً إلى عمر، والله لن يُجديك شيئاً هذا وإن كنت من أهل بيت محمد وأنت سيدٌ شريف من أهل بيت النبوة، والله لن يُجديك لا هنا ولا هنا يا أخي الشيعي ويا أخي السني إن لم تلتزم الصدق والحق وتكون نزيهاً وتتعبد الله، فلا ينبغي أن تتعبد الطائفة ولا المرجعيات ولا المشايخ ولا أي شيئ بل يجب أن تتعبد الله تبارك وتعالى.

أُخِذ علىّ من طرف بعض إخواني السُنة المُتعصِبين ومن الجاهلين الذين لا يعرفون شيئاً طبعاً – لو كانوا يعرفون ما قالوا هذا الكلام – أنني أُثني على عليّ شريعتي، وهم لا يعرفون مَن هو المرحوم وشهيد الفكر وشهيد الرسالة والفكر الإسلامي عليّ شريعتي، فهم يفهمون من النبرة أنه شيعي لأن إسمه عليّ شريعتي ولأنه من إيران، فالمُفكِّر والمُؤرِّخ وعالم الاجتماع الكبير والثائر الشهيد عليّ شريعتي واضح من إسمه  “شريعتي” أنه إيراني، فإذن هو شيعي في أغلب الظن وبالتالي كيف لعدنان إبراهيم أن يُثني عليه؟ لكن أنا أُثني عليه لأنني تعلَّمت منه الكثير، فمن أروع مَن تقرأ له على الإطلاق في حياتك هو الشهيد الشاب – تُوفيَ وهو لم يُكمِل تقريباً الخامسة والأربعين – عليّ شريعتي. روَّح الله روحه وأعلى الله درجاته في عليين.

عليّ شريعتي نعم شيعي الأصل  وهو شيعي المذهب لأنه عاش ومات شيعياً ولكنه كان يبحث عن الحقيقة وكان مُنصِفاً وكان همه لا السُنة ولا الشيعة وإنما  همه الإسلام، فهو يُريد الإسلام  ولذلك درس الشيعة بمنظارٍ نقدي صارم وفرَّق بين التشيع العلوي والتشيع الصفوي، أي تشيع الصفويين وتشيع باقر المجلسي صاحب بحار الأنوار، الكتاب الذي لم يخل من البذاءات في طوله وعرضه، ففيه بذاءات من أقبح البذاءات في حق الإنسانية وفي حق الحقائق وطبعاً في حق عمر من أبذأ ما يُمكِن، فلا يُمكِن أن أسوق بعض ما ساقه هذا الرجل في حق سيدنا عمر – رضوان الله تعالى عليه – من البذاءات والسفالات والحقارات، يُقطَع لساني ولا أقول هذا، فهل هذا هو الدين؟ هل هذه هى المرجعية؟ هل هذه هى الإمامة في الدين؟

عليّ شريعتي كان مُختلِفاً – رحمة الله عليه – طبعاً، وهذا الذي جعله أو بعض ما جعله يبوء بلعنات الشيعة في إيران وغير إيران، فهو شخصية مسخوطة وملعونة وغير مرضي عنها، لماذا؟ لأنه كتب يحتفي ويحتفل بعمر بن الخطاب، فالرجل صُعِق أمام هذا الأنموذج العالي الذي من النادر أن يتكرر  من نماذج العدل والنزاهة والزهادة في الدنيا فضلاً عن العبقرية في الإدارة والسياسة طبعاً، فسواء تختلف أو تتفق هو رغماً عنك كان ذلك، ولذا هو أدار دولة عظيمة، لكن ماذا تُدير أنت يا أخي بالله؟  فعلينا بشيئ من التواضع وبشيئ من الواقعية، لكن هل لنا وهل لدينا نظير لعليّ شريعتي الآن؟ هل تعرفون ما معنى أن يقوم مُفكِّر وابن عالم شيعي – أبوه رحمة الله عليه كان من علماء الشيعة المشهود لهم – في وسط وبيئة شيعية محض ويُثني على عمر بن الخطاب؟ ربما الذي لا يُعنى بهذه المسائل لا يفهم ماذا أقول، فقد يقول لي كيف؟

الشيعة المُتعصِّبون يسمون الإسلام السُني كله بالفرقة العمرية، فهم يُبغِضوننا – أقصد مَن يُبغِضنا منهم لأنني أتحدث عن المُتعصِبين وليس عن عموم الشيعة – نحن، وللأسف للمُتعصِبين أصوات تعلو وتخبو كما في مُتعصبي السُنة أصوات تعلو وتخبو، ومن ثم نحن ضد التعصب وضد المُؤمَرات على الأمة وضد المعارك الجانبية الكاذبة وترك المعارك والتناقضات الأساسية الحقيقية، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فهذا منهجنا وهذه طريقتنا، ولذا هذه الخُطبة تقع في هذا الاتجاه، فهذه الخُطبة لمَن الصدق النية أو على الأقل لمَن صدق النية في البحث عن الحقيقة، لا مَن صدَّق الافتراءات لأنها فقط في خصمه متجرَّد من كل مزايا وشرائط البحث العلمي فقط لأن الموضوع خصمه، فإذن لا علمية ولا نقدية وبالتالي نقبل أي شيئ ونأتفِك أي شيئ ونتختلق أي شيئ ونقول هذا عمر، فيُخرِج لك ويُنتِج لك الواحد منهم عمر جديداً لم يعرفه التاريخ ولم تعرفه الأمة ولم يعرفه أعداؤها حتى، ولو عرفه أعداؤها هكذا لما كانوا إلى اليوم موجودين، لاستأصل شأفتهم كما فعل من قبله الإسكندر ومن بعده جنكيز خان، لكن عمر لا يفعل هذا، وهذا جزاء عمر العادل، رضوان الله على عمر وعلى كل العادلين.

أقول لكم أن معنى أن يكون شيعي في وسط شيعي ويُثني على عمر تماماً كأن يقوم سُني في وسط سُني ويُثني على أبي لؤلؤة المجوسي، فهل تتصورون هذا؟ ولذا أنا أقول لكم أنه تقريباً سيُقتَل، ففي الوسط السُني سوف يقتلونه ويرجمونه بالحجارة، ويقولون له كيف تُثني على فيروز أبي لؤلؤة قاتل عمر؟ فسوف يُجَن جنون الناس، لكن شريعتي فعل هذا وأثنى على عمر بين الشيعة وفي بلاد الشيعة، وطبع كلامه  في مطابع الشيعة، فطبعاً أُلقى عليه الحرمان – كالحرمان المسيحي – وقيل له أنت لست شيعياً بل لست مسلماً من أصله، فبعضهم أخرجه من التشيع وبعضهم نسبه إلى الماركسية والإلحاد وكفَّروه.

هذا هو عليّ شريعتي – رحمة الله عليه وكثَّر الله في الأمة من أمثاله – شهيد النظام الشاهنشاهي اللعين الغابر، حيث قتلوه اغتيالاً في لندن – رحمة الله تعالى عليه – لأنهم لم يُطيقوا احتمال صوته، فهذا هو المُفكِّر الكبير وهذا هو العبقري الذي لا نكاد نجد له نظيراً اليوم.

ونعود لنتساءل لماذا هذه الخُطبة؟ ما هى الخلفية؟ الخلفية أن هناك عالماً شيعياً يُدعى السيد مُرتضى الشيرازي قال كلاماً غير صحيح في هذا الصدد، لكن لماذا أذكر إسمه و ليس من طريقتي أن أذكر أسماء؟  لأنه رفع التحدي وهو الذي طلب إلينا ذلك، وهذا مُسجَّل في مقطع يوتيوب YouTube  شاهده عشرات إن لم يكن مئات ألوف البشر، فالرجل يقول بكل وضوح أنا أدعو الإخوة من السُنة أن يُجيبوا عن هذه الإشكالات، فنحن نُثبِت لكم أن عمر كان عنصرياً طائفياً، فعمر رجل عروبي ويُقدِّس العروبة ولا علاقة له بقيم الإسلام – هكذا أنا أُترجِّم كلام الشيرازي، فهو لم يقل هذا ولكن هذه ترجمتي أنا لكلام الشيرازي – وهو مُتعصِّب حتى النخاع ضد الأجناس كلها عدا الجنس العربي مسلمين كانوا أم غير مسلمين، فالإسلام لا يهمه، وبالتالي ليس المُهِم أن تكون مسلماً ولكن المُهِم أن تكون عربياً، وقم بعد ذلك بما شئت.

هكذا أراد أن يُفهِمنا، ولأبدأ لأن الوقت دائماً يضيق للأسف الشديد، أولاً حين استمعت إلى هذه الشُبهات أو الإيرادات على شخصية الفاروق  – رضوان الله تعالى عليه – قلت – لا أدري لأن هذا مقطع وقد يكون مُقتطَّعاً من سياقه – هذا الكلام في الحقيقة ليس للسيد مُرتضى الشيرازي، ولكن هذا الكلام للسيد جعفر مُرتضى العاملي من كتابه سلمان الفارسي نصاً وفصاً وإحالاتٍ، لأنه يُحيل على مروج الذهب وعلى نفس الرحمن وعلى كتاب كذا وكذا، وهذه كلها نفس إحالات السيد جعفر مُرتضى العاملي في كتابه سلمان الفارسي، فمَن أحب أن يقرأ الكلام مُوثَّقاً بإحالاته فليعد إلى كتاب سلمان الفارسي للسيد جعفر مُرتضى العاملي، فإذن ليس للسيد مُرتضى الشيرازي فيه إلا النقل، هوفقط ينقل الكلام كأنه كان يقرأه، فهو في الحقيقة كان يقرأه قراءةً، لكن ماذا أورد على عمر؟ مصائب طبعاً، فلو صحت سوفت تكون بمثابة مصائب ومن ثم تنهدم هذه الأسطورة، فتتلاشى وتذوب أسطورة عمر ويبرز لنا من وراء عمر العادل المُنصِف صاحب القصاص المُستقيم رجل جبار فرعوني مأفون بعصبية عروبية ضيقة وبالتالي لا يستأهل شيئاً من التكريم، ولكن ثَبِّتِ العَرْشَ ثُمَّ انْقُشْ، ومن هنا أُخاطِب السيد مُرتضى الشيرازي وأقول له قبل أن تتحدانا وتقول على الإخوة السُنة أن يُجيبوا عن هذه الإشكالات لابد أن تكون واثقاُ أنها إشكالات حقاً، فلابد أن تعود إلى أسانيدك ولابد أن تعود إلى المُستنَدات والمُتكَآت، فإن كانت محض تخرصات وتظنيات وأكاذيب ومُختلَقا لن نُكلِف أنفسنا أن نُدافِع في قُبال وهم ولن نعتذر عن أكاذيب ولن نعتذر عن أوهام، فللأسف سوف يبين لكم الآن وبالدليل أنها أوهام وأكاذيب ما أنزل الله بها من سُلطان، وأن سيرة الفاروق – رضوان الله عليه – بطولها وعرضها تدفع بألف دليل وترمينا في وجوهنا بألف دليل على نقيض هذه الأزعومات والأفائك، وطبعاً الفصل الذي عقده السيد جعفر مُرتضى العاملي كان بإسم سياسة عمر العنصرية، فهكذا قال لك أن عمر كان عنصرياً، فأنتم تُطبِّلون وتُزمِّرون لشخصية عنصرية، وهذا شيئ عجيب، فكيف يكون شخصية عنصرية؟ لكن أول شيئ قاله لك هو أنه ورد عن عمر – وأتى بالإحالات – أنه كان يمنع أي عجمياً من دخول المدينة المُنوَّرة، فكان ممنوعاً على أي عجمي – كل الأعاجم – أن يدخل المدينة المُنوَّرة، وفسَّر السيد مُرتضى الشيرازي ذلك قائلاً أن العجم هم غير العرب، فهم من كذا أو كذا أو كذا ومن كل الأجناس بغض النظر مسلمين كانوا أم غير مسلمين، فقط يُمنَع دخول الواحد منهم لكونه عجمياً، لكن هل هذا الكلام صحيح؟ علماً بأن لذلك السبب كان دائماً مُرتضى الشيرازي وجعفر مُرتضى العاملي يذكران العجم والموالي والموالي والعجم، لكن ما معنى الموالي؟ الموالي هم الذين كانوا عبيداً ثم أُعتِقوا من طرف أسيادهم فصاروا موالي لهم، وهذا إسمه ولاء الموالاة، قال الله وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ۚ ۩، وعلى كل حال هما قالا العجم والموالي والموالي والعجم، فهل هذا الكلام صحيح؟ وهل عمر فعل هذا؟ سوف نرى.

أولاً كيف يكون صحيحاً وعمر نفسه كان له مولى عجمي رومي إسمه وسق؟ فعمر كان له مولى عجمي إسمه وسق وبعضهم يغلط ويقول أسبق، لكن الصحيح كما أورده أبو عبيد القاسم بن سلاّم – رحمة الله تعالى عليه – في كتاب الأموال له أن إسمه وسق، وأبو عبيد تُوفيَ في مائتين وأربع وعشرين هجرياً على ما أذكر، فهذا الإمام مُتقدِّم جداً، وهو قبل حتى البخاري ومسلم وكان مُعاصِراً لأحمد، وعلى كل حال أبو عبيد القاسم بن سلاّم في كتابه الأموال أورد عن وسق، فوسق كان يروي هذا وهو غلام رومي، لكن هل كان مسلماً؟ لم يكن مسلماً ولكنه كان غلاماً لعمر وكان يُوجَد في المدينة، واستُشهِد عمر وهو في المدينة، ويقول وسق “كنت غلاماً لعمر بن الخطاب – رضوان الله تعالى عليه –  فكان يقول لي يا وسق أسلم فإنك إن تُسلِم استعنا بك في أو على بعض أمانة المسلمين – أي في بعض الأعمال، مثل ربما في الدواوين أو في أي شيئ، فنحن نُريد أن نستعين بك وأن نرفع قدرك قليلاً، ولكن أسلم لأن هذه الأعمال أمانة – فكنت آبى – أي لا أُريد – فكان يقول عمر – انظر الآن إلى  عمر العنصري الجبار الفرعون –  لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩”، وهذا أمرٌ جميل حتى نفهم تفسير الآية ونفهم كيف فهمها عمر، ثم قال وسق “فلما حضرته الوفاة  – شهيداً رضوان الله تعالى عليه – أعتقني وقال لي اذهب حيث شئت”، وهنا علينا أن ننتبه فقد كان يسع الفاروق – رضى الله تعالى عنه وأرضاه – أن يُورِّثه لأهله، لأنه مال  ومن أكثر المال، فهو غلام بآلاف الدنانير أو ربما آلاف الدراهم، وهذا مالٌ طائل وجزيل، ومن ثم كان من المُمكِن أن يُورِّثه أهله، فإن شاءوا باعوه وإن شاءوا استخدموه، ولكنه أعتقه لأنه كان يتقرب بعتقه إلى الله تبارك وتعالى، وهذا ما ذكره وسق حين قال “فلما حضرته الوفاة أعتقني وقال لي اذهب حيث شئت”، فإذن هذا ماذا؟  هذا عجمي.

هناك مولى آخر إسمه عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي، وهو مولى من الموالي الخزاعيين، يقول ولي مكة في زمان عمر بن الخطاب في فترة من الفترات – أعتقد اسمه نافع بن عبد الحارث – عنه “قدِمَ الفاروق وخرجت إلى استقباله واستنبت عبد الرحمن بن أبزى – أي جعل هذا المولى الذي لم يكن حراً صميماً عاملاً على مكة المُكرَّمة – فلما لقيت عمر قال مَن جعلت – أي مَن استنبت – على أهل الوادي؟ – وأهل الوادي هم أهل مكة، نسبةً إلى وادي مكة، قال الله بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ – فقلت عبد الرحمن بن أبزى، فقال مَن عبد الرحمن بن أبزى؟ فقلت مولى من موالينا – هذا عبد من عبيدنا أو من عُبداننا – قرأ القرآن وأحكم الفرائض – أي أنه كان عالماً بالقرآن وعالماً بالمواريث – فقال إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال إن الله يرفع بهذا القرآن رجالَ ويخفض به آخرين”، ولم يقل كيف تفعل هذا مع مولى؟ تباً لك إلى آخر الدهر، لم يقل هذا أبداً، وإنما قال له هذا مُمتاز، لقد أحسنت لأنه مولى ويحفظ كتاب الله، ومن هنا علينا أن ننتبه، فهذا هو عمر بن الخطاب، ومع ذلك  قال لك عنده موقف من الموالي وموقف من العجم، ما شاء الله على الصدق.

هل كان سلمان الفارسي عربياً أم عجمياً؟ كان عجمياً، فسلمان الفارسي عجمي، وهو شخصية مُقدَّسة وأسطورية عند إخواننا الشيعة الإيرانيين بالذات لأنه إيراني أو فارسي، ولكن هل عمر أخَّر سلمان الفارسي – رضوان الله عليه أم قدَّمه؟ هل أحبه أم أبغضه؟ قدَّمه وأي تقديم، فقد جعله واليه على المدائن، فرئيس المدائن هو سلمان الفارسي، ولكن هذا عجمي يا أمير المُؤمِنين فيكف تُوليه؟ لكن عمر كان لا يهتم بهذا وقال تباً لك، عربي ماذا وعجمي ماذا؟  إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩، فهكذا عاش ومات عمر، ورائده وشعاره  إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩.

الإمام الجليل والمُحدِّث الكبير النبيل محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة وصاحب كتب ظاهر الرواية في المذهب الحنفي – رضوان الله عليه – في كتابه شرح السير الكبير يذكر عن الفضل الرقاشي قائلاً “حصرنا – أي حاصرنا – أهل حصنٍ ، وكان في الجيش عبدٌ عجميٌ التحق بالجيش – هذا مسلم ولكنه كان عبداً عجمياً، فالتحق بالجيش على سبيل التطوّع لأنه لم يكن مُوظَّفاً رسمياً – فكتب لأهل الحصن كتاب الأمان”، الله على عظمة الإسلام، والله القلب يبكي وليست العين هى التي تبكي حين نقرأ هذه الأشياء، ومن هنا علينا أن نستلهم الإسلام الصحيح – وهو مثل هذا الإسلام – ونحن الآن ندعو إلى تحكيم الإسلام في الحياة، فهذه هى القيم الحقيقية وليست قيم القشور والمظاهر، فهذا عبد وعجمي مسلم ولكنه كتب لهم كتاب أمان وجعله على سهمٍ ثم أرسله إليهم وقال لهم أنا فلان الفلاني، فقالوا له مَن أنت؟ هل أنت مِن عبس أو ذبيان أو طيئ أو من بني هاشم أو مِن غير ذلك؟ مَن أنت؟ فقال أنا عجمي ولكنني مسلم، ثم كتب لهم كتاب أمان وقال أمَّنتكم، فالذي قال هذا ليس القائد وإنما هو، فقال لهم لقد أعطيتكم الأمان، ومن ثم خرجوا في أمانه وتركهم الجيش المسلم لأن هذا المسلم أمَّنهم، ولكن لأنه عجمي وعبد كتبوا إلى عمر بن الخطاب قالوا له يا أمير المُؤمِنين كيت وكيت وكيت، فقال لهم “أمانه نافذ، إنه رجلٌ من المسلمين – أي لا يهمني أنه عبد أو حُر أو عجمي أو عربي، يكفي أنه مسلم – والنبي – صلوات الله عليه وعلى آله وتسليماته – يقول المسلمون – عمر ذكَّرهم بهذا وقال لهم النبي هو الذي قال هذا وليس عمر أو غير عمر، فهذا شرع محمد، ونحن كلنا نصدر عن شرع محمد وعن روح محمد، وهذا الذي أعطى عمر ألقه وعظمته، أنه كان محمدياً حتى النخاع –  تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يدٌ على مَن سواهم”، الله على الإسلام العظيم الذي ما عدنا نعرفه إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي  ۩، فهو قال لهم يسعى بذمتهم أدناهم، وليكن هذا أدنى المسلمين وبالتالي ذمته ذمة المسلمين،  الله أكبر يا عمر!

والعجيب والله أن السيد مُرتضى الشيرازي – سبحان الله العظيم – يبدأ – وهى خير فاتحة في سماء المُفاتَحة – بأن عمر نهى أن يدخل المدينة أحدٌ من العجم، وهذا شيئ عجيب لأن لا ينبغي بالذات للشيرازي وغير الشيرازي أن يحتج بهذا، لكن هل تعرفون لماذا لا ينبغي أن يحتج هو أو غيره بهذا بالذات؟ لأن الوقائع جاءت وأبت إلا أن تُصدِّق عمر، هذا إن ثبت عن عمر أنه فعل هذا، فالسؤال هو هل عمر فعل أم لم يفعل؟ وأنا أتيت بأمثلة تُؤكِّد أن الكلام غير صحيح وأن هذه استثناءات، لكن نعم كانت سياسة عمر وكانت نصيحته للأمة ولإخوانه من الصحابة وقاطني المدينة تدور على ألا يُدخِلوا العلوج المدينة، فهل تعرفون معنى العلوج؟ لا يُقال لمسلم عِلج – الله يرحم أيام الصحابة – لأن  العلوج هم الكفار، فالرجل الكافر يسمونه  بالعِلج، وبالذات من كفار العجم، فهو قال لن نُدخِل المدينة هؤلاء الكفار كسبي وكأسرى، فنحن لا نُريدهم، وسوف نرى بعد قليل لماذا، لكن على كل حال جاءت الوقائع لتُؤكِّد صحة تدبيره وحُسن نُصحِه -ورشده في هذا الباب، وذلط لأن عمر – بأبي وأمي – لقيَ مصيره على يد عِلج، فلو أن هذا العِلج لم يدخل المدينة ما استُشهِد الفاروق – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – وهو في الثالثة والستين، وإلا الأمة كانت أحوج إلى عشرة أو عشرين سنة زائدة من هذا الرمز المُذهِل  من رموز العدل والتقوى والنزاهة، فرضوان الله تعالى عليه وجمعنا به في مُستقَر رحمته.

وطبعاً يُوجَد أثر لا مُرتضى العاملي ولا مُرتضى الشيرازي ذكروه لنا بطوله، وعلى كل حال الأثر من جهة السند فيه مطعن، لأن هذا الأثر لا يتصل عن عمر بن الخطاب ويرويه الزهري، والزهري لم يلق عمر، وهناك رواية أخرى ليس فيها أنه كان يمنع أحداً من العجم أن يدخل المدينة، وهذا الأثر مُخرَّج في صحيح البخاري في كتاب المناقب عن عمر بن ميمون التابعي الجليل الذي شهد مصرع عمر، ولم يكن بينه وبين عمر إلا ابن عباس في صف الصلاة “صلاة الفجر”، فعمر بن ميمون –  رضوان الله تعالى عليه – هو شاهد عيان،ولكن لنقرأ الأثر الذي أورده المُرتضيان  بطوله: كان عمر لا يأذن ولا يسمح لأحدٍ من العجم بدخول المدينة، أكمِل ثم ماذا؟ وإن المُغيرة بن شعبة كتب إلى – وهذا شيئ عجيب، فعلاً الغرضُ مرض، فوالله العظيم الذي لا إله إلا هو  لا ينبغي ولا يستطيع تقيٌ نقيٌ أن يُزوِّر على عدوه، فدائماً تذكَّروا وحاولوا أن تعيشوا بهذه الروح، حتى ولو كان عدوه هذا كافراً وعدواً للإسلام والمسلمين ولله ورسوله، فالتقي لا يستطيع أن يكذب، والمُؤمِن ليس كذَّاباً وليس مُزوِّراً، فهو يلتزم خُطة الصدق دائماً، ولكن خُطة التقصيص وخُطة الكذب والائتفاك أيضاً واختلاق الأشياء واستغلال جهل العامة غير مقبولة، فالعامة المساكين لا يعرفون لا أسانيد ولا متوناً ولا يعرفون لا نقدات ولا تحقيقات، وبالتالي يُصدِّقون كل شيئ، فعامة الشيعة يُصدِّقون ما يقوله علماء الشيعة، وعامة السُنة يُصدِّقون ما يقوله علماء السُنة، وهكذا تشتعل النيران، لأن حين يفتقر هؤلاء أعني العلماء أو بالأحرى بعض هؤلاء وبعض هؤلاء  إلى الصدق والنزاهة وإلى خشية الله وإلى تقوى الله تشتعل طبعاً  النيران بين العوام وبين الجماهير هنا وهناك وتتسمَّم الأرواح وتتسمَّم الأفكار، فأرواح العوام هنا تتسمَّم كما هى مُسمَّمة أرواح خواصهم وعلمائهم وكبرائهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل –  إلى عمر بن الخطاب قائلاً يا أمير المُؤمِنين إن لدي غلاماً ماهراً نجَّاراً نقَّاشاً حدَّاداً وفيه منافع للمسلمين، فإن أذنت أن أُرسِل به – أي لكي يدخل المدينة، فبدو أنه كان في الطائف وربما في الكوفة، فلا ندري، والمُغيرة أصله ثقفي – فعلت، فقال أرسله.

وكان المُغيرة بن شعبة – المُغيرة هو سيده لأن هذا الرجل كان مولى للمغيرة – رتَّب عليه درهمين في كل يوم خرجه، لأنه نجَّار ونقَّاش وحدَّاد، فكما يُقال ثلاث صنائع والبخت ضائع، لكنه من أهل جهنم، وإلا كيف يقتل أمير المُؤمِنين عمر بن الخطاب ويقتل معه سبعة من المسلمين؟ فقطعاً هو من أهل جهنم، لكن هناك أُناس يترضون عليه اليوم، فهناك مَن يترضون عن أبي لؤلؤة المجوسي، وهناك مَن أقاموا له مقامات وأشياء كبيرة، وهذا لا ينبغي أن يحدث، فلو افترضنا أن عمر يستحق القتل – وحاشاه وحاشاه وقطع الله اللسان إن قال بهذا – فماذا عن هؤلاء السبعة؟  فكيف يبعج المسلمين؟ هذا رجل حاقد على أمة محمد وعلى أهل لا إله إلا الله، ثم أن هذا الملعون لما غموه بعباءة نحر نفسه، ما شاء الله على البطل الاستشهادي الكاميكازي  الذي نحر نفسه.

المُهِم جاء فأدخله عمر المدينة، فلقى عمر بعد أيام وشكى له أمره – لأن مُرتَّب عليه خراج كثير – ، فقال له الفاروق – رمز العدل – ما تُحسِن؟ قال أنا نجَّار نقَّاش حدَّاد، فقال ليس خراجك في كونه ما تُحسِن من الأعمال بكثير، أي أنك تشتغل وتتكسب من النجارة والحدادة والنقاشة، وبالتالي درهمان في اليوم ليسا بالشيئ الكثير، لكن تأتي الروايات أيضاً وتُؤكِّد أن عمر كان يُريد أن يُوصي به وأن يضع عنه شيئاً من خراجه، وهذا في صحيح البُخاري من أثر عمرو بن ميمون، فقال لما علم أنه هو الذي قاتله قاتله الله، لقد أوصيت به معروفاً، لكن هذا لا ينفع مع هؤلاء الأجناس للأسف، فهناك حقد على دين محمد وعلى أمة محمد، لكن ماذا قال أبو لؤلؤة في رواية أُخرى؟ قال – وهذه حُجة عليهم وعلى مَن يُدافِع عن فيروز أبي لؤلؤة، فهى تدفع في صدورهم -بالمنطق الصحيح الفصيح الصريح – أبو لؤلؤة وقد مضى مُتذمِّراً وسع عدله الناس كلهم إلا إياي، أي أنه يعلم أن عمر كان عدلاً ويعلم أنه نموذج العدل، وهذا أمر معروف، فيعرف أعداؤه قبل أوداؤه أنه نموذج العدل، وما كرهه مَن كرهه – حتى من أقرب الناس إليه – إلا لعدله، فهو سيف مُسلَط لإقامة العدل.

وعلى كل حال القصة باختصار كما تعلمون أن أبا لؤلؤة هو الذي طعن عمر في خاصرته وفي كتفه، فأرداه وهو يُصلي إماماً بالناس – رضوان الله تعالى عليه، بأبي وأمي وروحي هو – ونقلوه إلى البيت وهو يقول الصلاة، الصلاة، الصلاة، ثم قال لابن عباس انظر مَن قتلني، قال ابن ميمون فجال ساعة ثم قال أبو لؤلؤة، فقال الصنع؟ أي غُلام المُغيرة، فالذي قتلك هو غلام المُغيرة الذي أذِنت له بدخول المدينة وياليتك ما أذِنت، ومع ذلك يحتجون على عمر ويقولون كيف لا يأذن بدخول الأعاجم العلوج الكفار المدينة؟ فعمر رجل دولة ويعلم أن هذا غير مُناسِب وأن هذه خُطة غير أمنية بالمرة وغير صحيحة، فكيف نُدخِلهم؟ وقد قتلوه ومع ذلك يحتجون على عمر أيضاً، ما شاء الله على التفكير العلمي، ما هذه العقول الضخمة؟ ما هذا الذكاء المُنقطِع النظير؟ فالعدل العدل يا إخواني، والعقل العقل العقل أيضاً، حكِّموا عقولكم.

المُهِم عمر سأله قائلاً الصنع؟ أي هذا الغلام الماهر المُحترِّف الصنَّاع؟ فقال نعم، فقال الحمد لله الذي لم يجعل قتلي على يدي مسلم يدعي الإسلام، وهذا يدل على أن عمر كان يعرف أنه كافر ولم يدخل الإسلام، لكن إخواننا في إيران يقولون لك أنه مسلم بل ومسلم مُمتاز ويترضون عليه، فحتى لو كان مسلماً نحن نقول لكم أنه في النار، فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ۩، كما في سورة النساء في الآية واحد وتسعين، لأنه قتل عمر وسبعة من المسلمين، فهو بعج ثلاثة عشر إنسان، عاش منهم أيه مَن عاش ومات سبعة، وهذا لا يجوز، فحتى لو قلتم أن عمر – والعياذ بالله – يستحق فما ذنب هؤلاء المساكين؟ ومَن هم؟ وما أسماؤهم؟ أم هل عنده ما شاء الله C .V بكل واحد وقائمة حياة لكل واحد فيقتل مَن يُريد؟ هذا الملعون بدأ يقتل بشكل عشوائي في المسلمين، فلعنة الله على الظالمين، وبالتالي عجيب أن يحتجوا على عمر بهذا، فلا يُوجَد عقل إذن، لأن هذه الواقعة بالذات التي احتجوا بصدرها تشهد لحُسن سياسته.

ثم قال عمر بعد أن قال له مَن القاتل”كنت نهيتكم عن إدخال هؤلاء العلوج المدينة، فأبيت أنت وأبوك إلا أن تستكثروا منهم”، فهو يقول هذا لمَن؟ لعبد الله بن عباس، يقول الراوي وكان العباس أكثرهم رقيقا، أي عنده الكثير من الرقيق العلوج، فقال ابن عباس إن شئت فعلنا، وأحد الرواة فسَّرها إن شيت قتلنا، لكن أنا أعتقد إن ابن عباس أراد بإن شئت فعلنا أي إن شئت نفيناهم من المدينة، فقال عمر كذبت، فانظر إلى هذا الرجل الرجل الذي قُتِل على يد هذا العِلج الخبيث اللعين المُعثَّر ومع ذلك يعدل، فعمر إلى الآن يلتزم خُطة العدل والقول بالحق والقصاص المُستقيم ولذا قال له كذبت.

قال ابن حجر  وأهل الحجاز يضعون كذبت موضع أخطأت، أي أن كلامك غير صحيح، فليس المُراد بكذبت إنك تكذب، وإلا أين الكذب هنا؟ فهو على كل حال قال له
كذبت، كيف وقد تكَّلموا بلسانكم وصلوا إلى قبلتكم وحجوا حجكم؟ فسواء كان المعنى أن تقتلهم – وهذا في نظري غير قريب – أو تنفيهم من المدينة هم استوطنوا فيها.

العالم أنطونيوس الأنطوني هو مُؤرِّخ ورجل دين قبطي أرثوذوكسي مصري، عودوا إلى كتابه المطبوع بإسم وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها، فأنطونيوس الأنطوني  يقول مُعقِّباً على قصة عمر مع عبد الله بن عمرو بن العاص والقبطي التي قال فيها متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحراراً ؟ أن هذه القصة تُؤكِّد أن عمر بن الخطاب كان لا يُميِّز ولا يُفرِّق في حقوق المُواطَنة على أساس دين أو غيره، فالحمد لله لأن هذه الشهادة تأتي من قبطي وليس من مسلم شيعي أو غير شيعي، فهذا قبطي ويعترف بعدل عمر، فهو قال أن عمر كان هكذا، فهو لا يُميِّز بين أي أحد، ومن ثم العدل على الجميع والحقوق للجميع، مسلماً كنت أو غير مسلم وعربياً كان أو غير عربي، فهذا لا علاقة له بالموضوع.

لكن لابد أن أقف هنا وقفة طويلة بل وقفة أطول لكي نُؤكِّد صحة سياسة عمر، فعلينا أن ننتبه إذن إلى أن عمر لم يمنع العلوج والعجم من دخول المدينة، إنما أحب هذا ونصح لأصحاب محمد بهذا فقط، ولكن على أي أساس؟ وعلى أي خلفية؟ على خلفية أمنية، والآن سأُفصِّل لكم هذا وسوف نرى كيف يُقرأ التاريخ وكيف يُفهَم التاريخ ، لكن العجيب أن السيد جعفر مُرتضى العاملي عنده موسوعة في التاريخ الإسلامي، ولا أدري هل مُؤهَّل لأن يكتب في التاريخ  أم لا، فمَن يكتب في التاريخ ومَن يدرس التاريخ ويُدرِّس التاريخ لابد أن يفهم منطق التاريخ.

عمر كان يُحِب هذا وينصح به، ولكن الصحابة لم يُطاوِعوه ولم يُسعِدوه بأن يستجيبوا له، فقال له هذا الذي نالني، لقد قُتِلت يا ابن عباس، فافرح أنت وأبوك ، فقد قُتِلت لأنكم أدخلتم هؤلاء العلوج واستكثرتم منهم، أي استكثرتم من هؤلاء العلوج.

قد  يقول لي أحدكم ولكن عمر هو الذي أذن له، فلماذا أذِن إذن؟ لأنه رأى أن العلوج كثروا في المدينة وانتهى الأمر، فلا فائدة إذن، وعمر لا ينظر ولا يعلم الغيب ولا ينظر إلى حالة مُفرَدة، عمر يُريد كسياسة عامة ألا يتواجد العلوج في المدينة لأنها مركز الدولة الإسلامية، فهذه مركز الدولة وأي دولة، هذه ليست دولة استقرت من قديم وانتهت حروبها، بل بالعكس هذه الدولة غير مٌستقِرة وجيشها تقريباً مُعبَّأ كله في الجبهة الفارسية – في هذا الوقت جيش المسلمين كان مُعبَّأ كله في جبهة فارس – وهؤلاء العلوج من الفرس، وهذا فارسي ومن ثم كان يجب ألا يدخلوا المدينة.

ماذا فعلت الولايات المُتحدة الأمريكية في أربعينيات القرن العشرين المُنصرِم؟!

اعتقلت كل مُواطِنيها الذين هم من أصل ياباني، وقالت ليس عندي أبداً وقت أو ترف أن أُحقِّق في كل حالة بمُفرَدها، فالآن نحن في حرب، وهذا شيئ عجيب، فاليابان بينها وبين أمريكا المحيط الهادي – كل المحيط الهادي – ومع ذلك اعتقلت مُواطِنيها الذين هم من أصل ياباني، وجعلتهم في المُعتقَلات والمراكز حتى تضع الحرب أوزارها.

إذن هذه خُطة أمنية، فما بالك بالمدينة المُنوَّرة في الوقت الذي كان فيه الجيش كله في الجبهة الفارسية؟ لذلك أنا سأهتبل هذه الفرصة وأفتح ملفاً آخراً رغم أنه يحتاج إلى خُطبة بحيالها، ولكن سأُلخِّص وأُكثِّف فيه الكلام تكثيفاً إن شاء الله تبارك وتعالى، حيث أن هناك مَن يقول لك أن عمر بن الخطاب أجلى نصارى نجران ولذا نحن قلنا لكم أنه طائفي وظالم، فهؤلاء نصارى وكانوا يعيشون في بلدهم نجران، فلماذا تُجليهم إذن؟

هو أجلاهم إلى نجران العراق، لأن نحن لدينا نجرانان “نجران اليمن الآن  ونجران العراق”، وهو أجلاهم إلى نجران العراق، وأوصى بهم خيراً وعوَّضهم أضعافاَ عن أموالهم – لأن هناك الكثير من الأموال غير منقولة كالأراضي والعقارات – حيث قيل أنه عوَّضهم ضعفين وقيل أكثر من ضعفين، وأوصى الولاة والعمال بالأقاليم، فيجب على كل مَن مروا به أن يُعينهم وأن يُحسِن إليهم، ولكن لماذا فعل هذا وهم عرب وليسوا عجماً؟ فإذن هذا لم يحدث على خلفية عرقية إثنية لأنهم عرب وإنما على خلفية دينية وبالتالي تناقضنا وحصل التناقض، لكن الصحيح هو أن هذا لم يحدث لا على خلفية دينية ولا على خلفية عرقية، وإنما على خلفية جيوسياسية وعلى خلفية استراتيجية أمنية، فعمر قائد دولة وليس مُجرَّد درويش مثلنا، هذا هو عمر بن الخطاب الذي قال – صلى الله عليه وسلم – عنه “فلم أر عبقرياً يفري فريه”، وقال حافظ إبراهيم:

فمن يبـاري أبا حفص وسـيرتـه         أو من يحاول للفاروق تشـبيها

فعلى كل حال النبي قال “فلم أر عبقرياً يفري فريه”، ووالله إنه لعبقري هذه الأمة، لكن قبل أن أنسى أُحِب أن أقول يأبى النصارى مرةً أخرى إلا أن يُؤكِّدوا عدل عمر ويشكروا صنيعهم تجاههم، فهم لم يقولوا أبداً أنهم أجلاهم من نجران وأنه شخص مُتفرِّعن ومُجرِم، بل بالعكس قال المرحوم الدكتور نظمي لوقا في كتابه عمر بن الخطاب البطل والمثل والرجل “نحن سميناه الفاروق”، علماً بأنه نصراني مصري ولكنه قال هذا، وهذا شيئ عجيب، فلماذا سميتموه إذن بالفاروق؟ قال هناك روايات شتى، لكن أنا أقول أن للمسلمين رواياتهم، فنحن المسلمين نقول أن الرسول لقَّبه بالفاروق، وعندنا بضع روايات تُؤكِّد هذا، لكن النصارى العرب يقولون هذا غير صحيح، واقرأوا طبقات ابن سعد كمان ولا تكتفوا فقط بأن تقرأوا كتبنا السريانية، ففي طبقات ابن سعد ما يُؤكِّد أن لقب الفاروق منحه النصارى له، وطبعاً نحن لم نميل إلى أن الرسول فعل هذا، ولكن أياً ما كان الأمر فالدلالة واحدة، وهى أن النصارى شعروا شعوراً غامراً بعدل عمر بن الخطاب، فمنحوه هذا الوسام ومنحوه لقب الفاروق الذي يُفرِّق بين الحق والباطل، علماً بأن كلمة فاروق تعني في الأصل فاعول وهى كلمة ليست عربية، ومن ثم قالوا هذه الزنة ليست عربية.

هناك عالم سرياني مُعاصِر – مات قبل عقود – إسمه مار اغناطيوس يعقوب الثالث قد قرأت له بعض التحقيقات في مجلة المشرق اللغوية التي تُؤكِّد علو كعبه ورسوخ قدمه في علم اللغة العربية والسريانية، فلدي قاموس (عربي – سرياني) من تأليف هذا الرجل، علماً بأن مار اغناطيوس يعقوب الثالث هو بطريرك السريان الأرثوذوكس في وقته وكان لديه كتاب مطبوع في هذا الصدد، وعلى كل حال هو كان عضواً في بعض المجامع اللغوية في بغداد على ما أعتقد لأنه كان علَّامة كبيراً في اللغة، ولذلك قال وهو أرثوذوكسي سرياني أن هذه الزنة ليست عربية وأنها كلمة سريانية، ففي اللهجة السريانية الغربية كلمة فاروق تعنى المُخلِّص، ولكن لماذا؟  لأنه خلَّصنا من ظلم البيزنطيين، فهو يقول أن عمر هو الذي خلَّصنا من ظلم الروم، فتنفسنا لأول مرة من مئات السنين بفضل عمر بن الخطاب.

فالحمد لله أن الحقيقة لا تفقد مَن يخشع لها – لا إله إلا الله – ولا تعدم أن تجد مَن يخشع لها ويتواضع بين يديها ويعترف بها، فإذا كنت تُحِب أن تُكابِر عليها فأنت حر لكن أنت الذي تخسر والله، لأن كل إنسان يُناكِد ويُناكِف الحقيقة يُسمِّم روحه، فالاعتراف دائماً يُطهِّر الروح بالحقائق، وبالتالي عليك أن تعترف بكل شيئ – قال الله وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۩ – لكي تتطهر الروح، وهذا الرجل اعترف وقال باللهجة السريانية الشرقية يُقال باروق، وبالغربية إسمه فاروق، لكن بالسريانية الشرقية إسمه باروق وهى تعني أيضاً المُخلِّص، وذلك لأنه خلَّصهم من ظلم السريان، لكن لماذا أجلى عمر نصارى نجران عن نجران في حين أنالنبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – عاهدهم المُعاهَدة المعروفة؟ هناك مُعاهَدة معروفة في كل الوثائق، وقد جدَّدها لهم أبو بكر الصديق، فلماذا طردهم عمر؟ التعليلات كثيرة، حيث قيل لأنهم أسلموا ثم ارتَّدوا، وهذا لا يصح لأن سنده ليس بشيئ، وقيل لأنهم تعاطوا الربا، وقيل لأن بدر منهم نكثٌ ونقدٌ لعهد الذمة، وقيل لأنهم تكاثروا حتى بلغت عدتهم أربعين ألف نفس فتحاسدوا وتباغضوا واحتربوا فأتوا عمر وقالوا له يا أمير المُؤمِين أجلنا – أي أجلنا لكي نرتاح من بعضنا البعض – فأجلاهم – أي أن عمر اهتبلها طبعاً – ثم ندموا، ومن هنا يقول الراوي “فاغتنمها عمر لأنه خافهم على المسلمين”، لأن هؤلاء في خاصرة الدولة القريبة، وهم أربعون ألفاً من النصارى وعلى مذهب يجعلهم حُلفاء لبيزنطة، وبالتالي لحُلفاء بيزنطة وهم الأحباش، والحبشة قريبة طبعاً، وسوف نرى التاريخ ونقرأ التاريخ من سياق مُقارَن أو مُقارِب لكن على كل حال عمر اغتنمها فرصة فأجلاهم على النحو المذكور ثم ندموا فقالوا أقِلنا فلم يفعل، وكل هذا ليس فيه مقنع، ففي الحقيقة الذي انتهيت إليه بعد درس هذه المسألة تفصيلاً قبل بضعة شهور هو أن عمر بن الخطاب – رضوان الله عليه – أجلاهم على خلفية – كما قلت – تدبيرية، وهذا ما يُسمى بالسياسة الشرعية، أي أنه فعل هذا بسبب تفكير استراتيجي وأمني، لكن لماذا؟!

سنقول لكم السبب وهو أن في مطلع خلافة عمر بن الخطاب كان القراصنة النصارى التابعون للحبشة يقطعون البحر – ليس البر الآن وإنما البحر – على السفن التجارية للمسلمين وغير المسلمين في الجانب الغربي للبحر الأحمر، فأثَّر هذا على وضع التجارة، وهذا كان أولاً، لذلك – كما قلت لكم – التاريخ غير البعيد يُؤكِّد أن اليمن تم احتلالها لما تحالف أذواء اليمن – يُسمونهم بالأذواء – النصارى مع الحبشة، فجاءت جيوش الأحباش واحتلت اليمن، وعمر كان يخشى أن تتكرر هذه اللعبة مرة أخرى، فجيش المسلمين – كما قلت لكم – على الجبهة الفارسية، لأن الأخبار كانت تترى أن فارس تُلملِّم فلولها وتُحشِّد جيوشها لكي تنقض على الدولة الإسلامية، فاضطُرَّ الفاروق عمر أن يجعل الجيش في الجبهة الفارسية، والمدينة تقريباً خلو، فهل من المعقول الآن أن يسمح للأعاجم بدخول المدينة؟ هل من المعقول أن يترك أربعين ألف نصراني في نجراني هكذا لحلفٍ مُحتمَل مع الأحباش؟ علماً بأن قراصنة الحبشة كانو يعيثون في البحر الأحمر الفساد، فهناك خلفيات كثيرة كانت موجودة آنذاك، وعمر أخذ هذا كله بعين الاعتبار، لكن الأعجب من هذا – وهذا لا يكاد يتحدث عنه إلا الأقل الأقل – أن  حروب الردة لم تسلم من الأصابع الكتابية وخاصة من النصارى، والعجيب أن أمنا عائشة – رضوان الله عليها – كما يروي عبد الملك بن هشام في السيرة كانت تقول وتُوفى رسول الله وارتَّدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية، وهذه إشارة غريبة لم يأخذها المُؤرِّخون على محمل الجد، فما المعنى المُراد من وراء هذه الكلمة؟ لماذا كانت تحكي السيدة عائشة هذا؟ ما معنى اشرأبت اليهودية والنصرانية؟ فالسيدة عائشة قالت وتُوفى رسول الله وارتَّدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، أي الغنم إذا أصابها المطر، فكيف تتبدَّد وتتفرَّق إذن؟ وهذا كلام عائشة، لكن العجيب أننا وجدنا أن كبار المُتنبئين ورؤوس حركات الردة إنما كانت في المناطق التي فيها تواجد نصراني، فما رأيكم؟ هذا هو درس التاريخ وهذا هو الدرس النقدي العلمي للتاريخ.

عندك في اليمن  نصارى نجران – كما قلنا – حيث وصل عددهم إلى أربعين ألف وما يتعلَّق بالأسود العنسي، وهناك نصارى مُتفرِّقون في أصقاع ولكن عمر تركهم في مكانهم، وهناك يهود في اليمن عددهم يفوق عددهم عدد نصارى نجران وعمر تركهم في مكانهم أيضاً، والآن قد يقول لي أحدكم لقد وضح لماذا لم يُجلهم عمر، وذلك لأنهم لا يُشكِّلون قوةً خطرة يُمكِن أن تتفاقم خطورتها بالتحالف مع جار قوي كالحبشة، فهؤلاء اليهود ليس لهم أي حليف ومن ثم لم يُجلِهم وأجلى النصارى لأنهم  لا يُشكِّلون خطراً وإلا النصارى أقرب إلينا من اليهود، لكن عمر لا يتحدَّث بعقلية أنصية أو دينية محضة على المُستوى العقدي الأيدولوجي، وإنما يتحدَّث على المُستوى الجيوسياسي والاستراتيجي والمُستوى الأمني، فاليهود أبعد ولكنهم لا يُشكِّلون أي خطر ومن ثم تركهم رغم أن عددهم كان العدد الأكبر وبالتالي هذا لا يهم كثيراً، لكن هؤلاء كان عددهم كبير وكانوا يُشكِّلون خطراً كبيراً جداً، فالتحالف مع الحبشة ربما يُحدِث لنا فتقاً لا يُمكِن رتقه ولا رقعه.

فهذا هو إذن، فكان عندنا اليمن ولدينا اليمامة، وكان فيها تواجد نصراني إلى حدٍ ما، وفيها مُسليمة الكذَّاب، وعندنا سجاح بنت الحارث في الجزيرة الفراتية قرب بادية الشام، والتواجد النصراني كان هناك معروفاً، فما رأيكم؟ فكُبرى حركات الردة كانت في أماكن شهدت تواجداً نصرانياً، وهذه المسائل لا يُمكِن أن تغيب عن الفاروق العبقري الكبير، فعلى هذه الخلفية اجترح واتخذ قراره بنفي نصارى نجران، ولكن  علينا أن ننتبه إلى أن هذا النفي ليس إلى خارج حدود الدولة الإسلامية التي كان يتمنى كثير من الآخرين الذهاب إليها، فبلغة برنارد لوي Bernard Lewis – برنارد لويس Bernard Lewis – كان يحدث في تاريخ الخلافة الإسلامية ما سماه لينين Lenin  – لينين Lenin التابع للاتحاد السوفيتي  – الاقتراع بالأقدام، حيث كان يحدث اقتراع وانتخاب – Wahl – وتصويت لكن بالأقدام، والمقصود بالاقتراع بالأقدام الهجرة، وكان يقول برنارد لوي Bernard Lewis “دائماً كانت الهجرة من الغرب إلى الشرق الإسلامي”، فالعالم الإسلامي هو العالم الذي كان يُأمِّن للناس مُستوىً عالياً من الحريات ومن الكرامات ومن ضمان الدخل.

علماً بأن في قضية استشهاد عمر المروية في البُخاري عن عمر ميمون في أولها قال أنه شهدت عمر بن الخطاب قبل وفاته – بأربع أيام كما يُظهِر السياق – قد وقف على عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان وقد قدِما من العراق، فقال لهما انظرا أنت تكونا حمَّلتما الأرض – أي الأرض الخرجية وليست الأرض العشرية، فالأرض الخرجية هى أرض الأعاجم وأرض غير المسلمي، أما الأرض العشرية فهى أرض المسلمين، لكن هذه كانت أرضاً خرجية لغير المسلمين –  فوق ما تُطيق، فقالا ما حمَّلناها يا أمير المُؤمِنين إلا ما تُطيق وما فيها كبير فضل، فقال والله لئن سلَّمني الله –  ويا ليته سلمه – لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً، قال فلم تمر عليه إلا أربعة أيام حتى طُعِن.

فهذا هو عمر رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، لذلك هذا الملحظ مُهِم جداً، وهو أن عمر لم يُجل نصارى نجران إلى خارج الخلافة وإلى خارج ارض الخلافة الإسلامية وإنما أجلاهم إلى نجران العراق وكانت داخلة في حدود الخلافة الإسلامية.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أيها الإخوة:

لأنني وعدتكم ألا أُطوِّل اليوم فسألتزم بوعدي، وقد بقيَ من ملف عنصرية عمر على الأقل خمس نقاط، وتقريباً نحن ناقشنا وعالجنا مسألة واحدة، ولذلك الموعد – بإذن الله تبارك وتعالى – الخُطبة المُقبِلة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (26/4/2013)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: