إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سبحانه ومخالفة أمره، لقوله جل من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.

ثم أما بعد/

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/

يقول الله جل من قائل في كتابه الكريم، بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ *

بسم الله الرحمن الرحيم:

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ *

بلى، ونحن على ذلكم من الشاهدين. 

إخواني وأخواتي/

بخصوص ملحمتنا الأولى والأكبر؛ ملحمة السقوط كما تُعرف في الأدبيات الغربية، ملحمة أبينا آدم وأمنا حواء – عليها صلوات الله وتسليماته وتبريكاته -، يثور سؤال، وهو بلا شك سؤال وجيه، ذو وجاهة! الملائكة استفصلت، ولا نقول اعترضت؛ لأنه ليس من شأنها أن تعترض، وإنما لها أن تستفصل، وما أعظم هذا الدرس بحد ذاته الذي يعرضه الله تبارك وتعالى علينا! الله، وهو الله العلي الكبير، لا إله إلا هو! صاحب العلم الكلي، والحكمة الكلية، والقدرة الكلية، لم يمنع ولم يحل بين الملائكة وبين أن يستفصلوا، أن يستفسروا، أن يستفهموا. 

قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ  *. لن نعرض هنا للنقاش الذي يُمكن أن يثور، ومن المُفيد أن يثور، حول منشأ علمهم، حول منشأ علمهم بما ذكروه؛ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ *، من أين علموا؟ لن نعرض في هذا المقام الضيق القصير لهذه المسألة، لكن سنعرض لمسألة أخرى، لا تقل عنها أهمية وحراجة، وهي أن الله تبارك وتعالى أجابهم بقوله إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ *. ثم اقتص علينا طرفا مما كان، من شأن الأسماء وتعليمها، والاختبار حولها وبها. 

السؤال؛ ما الذي تغير؟ ما الذي تغير؟ نحن ذكرنا، أيها الإخوة، في خُطب سابقة، استنادا إلى نص كتاب الله تبارك وتعالى، أن الجديد في المشهد كله، برمته، هو التسوية والتعديل ونفخة الروح؛ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ *. هذه الخليقة تتميز بهاتين الميزتين، الخصيصتين؛ خصيصة التسوية والتعديل، وخصيصة أو ميزة النفخ من روح الرحمن، لا إله إلا هو!

جميل، بعد التسوية، وبعد النفخ، ما الذي تغير؟ هل كفت هذه الخليقة عن القتل وسفك الدماء والإفساد والتخريب؟ للأسف تاريخ هذه الخليقة الآدمية يُجيب بالنفي؛ لم تكف، لم تكف عن الإفساد في الأرض وسفك الدماء، وهذا هو السؤال الحرج الذي أثاره بعضهم، وحقيق له أن يُثار! 

هذه الخُطبة مُحاولة للجواب عن هذا السؤال. تأتي هذه الخُطبة مُحاولة – أسأل الله تبارك وتعالى التوفيق والتسديد فيها والإصابة بحوله ومنّه – في الجواب عن هذا السؤال. 

لا، الذي حدث شيء كثير، وكثير جدا، ويُمكن أن يُوقف عليه بمُقايسة هذه الخليقة الآدمية بأنواع الحيوان، وخاصة الراقية أو المُتطورة الأخرى؛ القردة العليا وما دونها، والثدييات عموما، وهي واسعة جدا. سنقف على فوارق وموائز كثيرة جدا ومُهمة، إخواني وأخواتي.

وقبل أن أذكر مُحصَّل الجواب عن هذا السؤال المُهم الوجيه، أحب أن أشير ابتداءً إلى أن الله تبارك وتعالى لم يُشر ولو من طرف خفي، إلى أنه يُريد ويهدف ويقصد من وراء هذه النشأة، وبما أجراه عليها ومن تسوية وتعديل ونفخ فيها من روحه، أن تؤول إلى فردوس أرضي، أن يستبدل الفردوس الأرضي بالفردوس الأول – الفردوس الأرضي بالفردوس الأول، وليس الفردوس الأول بالفردوس الأرضي؛ لأن الباء تدخل على المُبدل منه -. الله لم يُشر إلى هذا، ولو من طرف خفي.

كيف، ومُجرد الإشارة إلى هذا، تعني العود بالإبطال على خُطة الخلق برمتها؟ القائمة على ماذا؟ المُتقومة بماذا؟ بالابتلاء. هذه الخليقة جاء لتُبتلى؛ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ  *، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ *، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *، وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ *. الخليقة كلها، هذه النشأة كلها، مُبتلاة**، مُتقوم وجودها بخُطة الابتلاء الإلهي. إذن من أين لنا؟ من أين لهذا الذي أثار هذا السؤال أن قضية الأسماء أو قضية الاستخلاف تُشير إلى ماذا؟ إلى يوتوبيا Utopia، إلى مدينة فاضلة، إلى نشأة أُخرى، سيكف فيها الإنسان عن القتل والتخريب والإفساد والعيث في الأرض سفكا وتخريبا وإهلاكا؟ غير صحيح! لكن أيضا السؤال لا يزال قائما، وله أن يقوم! ما الذي تغير؟ الذي تغير كثير، وكثير جدا.

يبدو أن ما اعترضت الملائكة عليه من إمعان هذه الخليقة، كما علمت أو كما حدست – كما قلت هذا مقام آخر -، في القتل والإفساد وسفك الدماء، كانت أنماطا أو نمطا مُتواترا مُمتدا – الله أعلم – على مدى أعصار لا يعلمها إلا الله، في الخلائق السابقة. كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ *، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ *. آدم مُصطفى، مُصطفى من خليقة، هو ينتمي إليها، انتماء النوع ربما إلى الجنس، انتماء النوع إلى الجنس! والملائكة قاست عليها. 

تلكم الخلائق، إخواني، التي لم تحظ بتكريم النفخ فيها من روح الرحمن، لا إله إلا هو، كانت مُجرد حيوانات راقية، تُحركها غرائز حيوانية، تستهدف التكيف والبقاء، التكيف والبقاء! ولا تزال! لا تزال هذه الحالة ماثلة في الحيوانات، المُتقدمة وغير المُتقدمة، إلى يوم الناس هذا.

إذن ما الذي جد مع آدم، مع تسويته ونفخ الروح فيه؟ الذي جد نشوء شيء جديد بالمرة، إنه الضمير، إنه النفس اللوامة، إنه التردد والتوتر بين حدين؛ حد أعلى، وحد أدنى. الحد الأعلى دائما في اتجاه الخير، في اتجاه التسامي، في اتجاه التعالي. الحد الأدنى في اتجاه التسفل والانحطاط والشرية – والعياذ بالله – والسلبية، التدمير والعيث والإفساد وسفك الدماء. وبين هذه الخليقة تهبط في قوس النزول من علو إلى سُفل، فلا بد أن تمر بالمهاد التأسيسي، إنه الحيوانية. أي حين يتدلى الإنسان من الأفق الملائكي إلى القاع الشيطاني، إنما يتجاوز بهذا ماذا؟ المهاد التأسيسي الحيواني. يُصبح شرا من الحيوان، عجيب! عجيب هذه الروح القرآنية وهذا التصوير الذي يُمكن أن يُفهم ببساطة، من غير مزيد تفلسف أو إمعان فكر، في آيات كتاب الله تبارك وتعالى!

العلماء إلى اليوم مصدومون! مصدومون من مدى العنف والعدوانية التي يتميز بها النوع الإنساني! لن أيضا أُفصّل ولن أخوض طويلا في هذه المسألة؛ لأن الدراسات فيها كثيرة جدا، وبلا شك هناك تفاوتات وجدالات ووجهات نظر مُختلفة، لكن الذين تخصصوا في هذا الباب بالذات – مثل النمساوي النوبلي كونراد لورنتس Konrad Lorenz، وتكلم طويلا ومُطولا! وفي دراسات علمية، ذات قيمة عالية جدا، حول عدوانية وعنف الإنسان – أشاروا إلى أن معارك الإنسان بطبيعتها حدية. الأنواع الأخرى، باستثناء الإنسان – وخاصة بالذات الراقية، التي يُمكن أن تدخل في مُقارنة مبدئية مع هذا النوع الراقي، الأرقى، النوع الإنساني، أو الإنسان العاقل العاقل – ليست كذلك. تلكم الأنواع، إخوتي وأخواتي، حين تخوض معاركها، معاركها لا تصل بها إلى ماذا؟ إلى أن تكون معارك حدية؛ إما أنا، وإما أنت. واحد ينجو، والآخر لا بد أن يهلك. أبدا! ليست معارك إجهاز. 

عموما قد تنشب هذه المعارك بين أفراد النوع الواحد، من باب ماذا؟ من باب مثلا تثبيت النجاح التناسلي. هذا يحصل! للأسف نعم، موجود في الحيوانات. وفي البشر موجود بشكل بشع جدا جدا، أبشع بكثير مما لدى الحيوانات. وأحيانا من باب التنافس على المصادر؛ مصادر المأوى والغذاء. لكن أكثر معارك الحيوانات، إنما تحصل مع أفراد الأنواع الأخرى. وهي هنا وهناك، في كلتا الحالتين، ليست معارك حدية، قل أن تكون حدية. بمعنى ماذا؟ بمعنى أنه إذا التقى مثلا مُقرّنان – حيوانان بقرون، أيلان مثلا، أيلان! ظبيان عظيمان، Elks -، إذا التقيا، تنشب المعركة بالقرون؛ لأن هذا هو السلاح الأكثر فتكا. تمتد دقائق، ربع ساعة، نصف ساعة، ساعة، ثم بعد ذلك، يخنع أحد المُتخاصمين، يُعطي إشارة بالخنوع والاستسلام، ثم يُولي دُبره. هي اللحظة الأكثر مُناسبة؛ لكي يُسدد إليه الخصم الفائز ضربة في جهته المكشوفة؛ في مؤخرته، في جانبه؛ لكي يقضي عليه تماما. إلا أن الحيوانات لا تفعل! هل هذه حالة من الشرف؛ أي شرف الفروسية الألائلية، شرف الفروسية الحيوانية؟ ليست كذلك. هناك طبعا ثمة تفسيرات كثيرة، على كل حال هذا الذي يحكم عالم الحيوان. 

هناك العالم الكيميائي والإحصائي والبيولوجي الشهير جدا، والذي مات مُنتحرا، وسأعود إليه؛ لأن له علاقة أيضا بُخطبتنا؛ جورج برايس George Price. الأمريكي الذي قضى مُعظم حياته بعد ذلك في بريطانيا، ومات مُنتحرا، وهو صاحب المُعادلة الشهيرة في الانتخاب الطبيعي، والمُعادلة الأشهر في الإيثار ال Altruism، المُعادلة الشهيرة جدا في الإيثار! والتي صاغ فيها مفاهيم دونالد فيشر Donald Fisher، عالم الوراثات العشائرية، في شكل رياضي مُتقن، ليؤكد أن الإيثار في ظاهره إيثار، لكن في باطنه أثرة وأنانية ودوران حول ماذا؟ حول الذات. 

هذا العالم توصل مع العالم الأسبق منه والأشهر منه في هذا الباب جون ماينارد سميث John Maynard Smith، إلى المُصطلح الشهير في هذا الباب، وهو حالة التطور المُستقرة، أو إستراتيجيات الاستقرار التطورية Evolutionary stable strategies، إستراتيجيات الاستقرار أو التوازن – ال Stable – التطورية. يُشير أو يُشيران في هذا العمل المشهور إلى قضية المعارك اللا حدية في عالم الحيوان. البشر معاركهم حدية للأسف. لو عُرّف الإنسان من بين مئات التعريفات التي حظي بها، بأنه الحيوان القاتل، لكان صحيحا مئة في المئة! الحيوان المُحارب، الحيوان المُقدس للحروب، مسعر الحروب، سفّاك الدماء، هو كذلك! للأسف مُعظم تاريخه حروب وسفك للدماء. الفترات الأقل هي فترات الهناء، فترات الهناء والسلام!

إريخ فروم Erich Fromm في كتابه العظيم بجزئيه تشريح التدميرية البشرية، يصدمنا! يصدمنا بهذا التواتر والازدياد في مُعدل التدميرية لدى البشر، حتى في العصور الحديثة! شيء مُخيف! يأتي بإحصائيات صادمة تماما! لماذا؟ لماذا معاركنا حدية؟ لماذا يُمكن تفسير عنف الحيوانات العليا، مثل القردة والسعادين، أي ال  Apesوال Monkeys، بالقياس على الإنسان؟ هذا الشيء شخصيا صدمني!

في ألف وتسعمائة وسبعة وسبعين، عالم الرئيسات – أي التي تدرس ال Primates، الرئيسات! مثل الإنسان والقردة العليا – ساره هاردي  Sarah hrdy، من جامعة هارفارد Harvard، صدمت المُجتمع العلمي، حين كتبت تقريرا علميا توثيقيا دقيقا، عن سعادين اللانغور Langur بالهند، في منطقة مُعينة جبلية بالهند!

عند سعادين اللانغور Langur هذه يقوم الذكر المُهيمن في المجموعة بوأد الصغار؛ صغار غيره، يقولون Infanticide! وأد أو مذبحة الصغار، أي الرُضع. Infanticide! الإجهاز! تصفية؛ تصفية الرُضع. لماذا يفعل هذا القرد المُهيمن؟ طبعا ليس صغاره، أي هو يقتل ليس صغاره، وإنما صغار غيره! من باب التنافس على النجاح التناسلي. مَن أنجح؟ مَن الذي تبقى ذريته؟ مَن الذي يبقى نسله؟ يقول أنا. الذكر المُقيم، الذكر المُهيمن الجديد! لماذا يفعل هذا؟ لماذا يفعل؟

قُدمت تبارير كثيرة أو تبريرات كثيرة، من بينها أن قردة أو سعادين اللانغور Langur ربما تفعل هذا؛ لأنها قريبة من مآوي ومساكن البشر. أي عجيب! تأثرها بالبشر ونزوعات البشر، جعلها أكثر شرية؟ لكن هذا التفسير كما قلت لكم صادم! البروفيسورة هاردي Professor Hrdy قالت لا، الصحيح أن هذه السعادين تفعل هذا كإستراتيجية للامتداد التناسلي؛ حتى تبقى جيناتها، يبقى نسلها.

لماذا؟ لأن الفرق أو الفترة بين الولادتين عند الإناث – ال Interbirth interval. الفرق أو المُدة الفاصلة بين الولادتين عند الإناث – تزيد على فترة خصوبة الذكر. مُتوسط فترة خصوبة الذكور هناك سبعة وعشرون شهرا. وهذه الأنثى الآن تُرضع أطفالا من ذكر سابق، ستُصبح الفترة طويلة، لا إباضة، لا إمكانية للحمل. إذن سيفقد فرصته في التناسل الناجح. لذلك يقوم بقتل الأطفال! لكي تبقى ماذا؟ ذريته. أي يُوجد مُبرر، لا نقول إنه منطقي أو عقلاني، لكنه مُبرر مفهوم. أصبح مفهوما!

هل البشر يفعلون هذا للسبب ذاته؟ لا. لديه أنثاه، ولديه أولاده، ولديه ذريته، ولكنه يقتل الآخرين؛ ذرية وآباء وأمهات! يقتل الجميع! يُجهز على الجميع! شيء غريب! لا يكاد يُفهم! إذن أكثر إمعانا من الحيوانات.

هذا في البداية كما قلت لكم كان صادما للعلماء، ثم تبين أن هناك أكثر من مئة وتسعة عشر نوعا من الحيوانات، تفعل هذا، بما فيها الأسود، بما فيها القردة الجبلية بالذات. حيوانات كثيرة تفعل هذا. البابونات Baboons، أنواع من الخيول! وهناك أنماط مُشابهة، هناك أنماط مُشابهة لقتل أطفال الآخرين، لكي تبقى أطفالي، أو لكي يبقى أطفالي.

الخيول البرية مثلا، أي ال Wild horses، تقوم بهذا. يعتدي على أنثى غيره الحامل؛ لكي يُجهضها. يُجهضها وطبعا يسقط الجنين ميتا؛ لكي يُسافدها بعد ذلك، ويبقى ماذا؟ جنينه هو حيا. شيء غريب! أنواع من البابونات Baboons، مثل Gelada baboons، بابونات Baboons الجلادةGelada ، تفعل الشيء نفسه! تعتدي على الإناث الحوامل؛ لكي يُجهضن. ثم يحملن بعد ذلك ماذا؟ بأولادهم هم، أو بأولادها هي؛ لأنها كائنات غير عاقلة. شيء غريب! 

لكن الإنسان يبقى الاستثناء الأكثر دموية، والأكثر حُمرة – والعياذ بالله -. يقتل ليس من أجل هذا السبب وحده، لا! من أجل أسباب أخرى غير مفهومة إلى الآن، كأنه يقتل من أجل القتل، معاركه حدية. الحيوانات معاركها غير حدية. لكن انتبهوا، أعتقد – والله أعلم، وقد توافقون على هذا – أن من مُشكلات العلوم الاجتماعية، من مُشكلات العلوم الإنسانية، أنها بطريقة أو بأخرى تحيزية، لا تنجو من التحيزات بشكل كامل. تُحاول طبعا؛ لأنها علوم. تُحاول، ولكنها لا تنجو من التحيزات.
عدم نجاحها في الإفلات من أشكال التحيزات المُختلفة، قد يُعزى في رأيي هذا – اقتراح مني، وقد أكون مُخطئا فيه – إلى طبيعة الإنسان التركيبية، إلى لا واحديتنا البُعدية. نحن لسنا حيوانات ذات بُعد واحد، لسنا مثل سعادين اللانغور Langur، لسنا مثل هذه البابونات Baboons أو القردة الجبلية أو الأسود أو الفهود، أبدا! نحن كائنات مُركبة. نحن كائنات مُركبة تتوتر وتتردد بين ماذا؟ بين حدين قطبيين، بين حدين أقصويين، بين أعلى درجات الخير، بحيث يُمكن للإنسان أن يُصبح أشبه بملك، أشبه بملك! لكن ملك غير مُجرد، من لحم ودم، ملك من لحم ودم! يفدي الآخرين، ليس بالضرورة أبناءه وبناته أو زوجه أو حتي أبناء عمومته، لا! يفدي الآخرين المُختلفين عن تماما، في العرق والدين واللُغة والمنشأ وكل شيء، يفديهم بحياته! وهذا يحصل كثيرا.

من سخريات القدر الآتي؛ هناك عبارة يديشية – وعلى كل حال هي قديمة – تقول الإنسان يُفكر، والإله يضحك. طبعا بفارق ماذا؟ بفارق العلم والحكمة. الإنسان يُفكر ويُدبر، بقدر علمه وحكمته. الله طبعا حكمته وعلمه مُطلقا، بلا حد. فتحدث هنا المُفارقة، ومُفارقة ساخرة! وأين التراب من رب الأرباب؟ وعلى حد قول حكيم المعرة:

تقفون والفلك المحرك دائر…………..وتقدرون فتضحك الأقدار!

إذن قبل حتى هذه العبارة اليديشية المعري قال هذا. قال أنت تُفكر وتُدبر، والرب يضحك، لا إله إلا هو! فتضحك الأقدار!

من سخرية الأقدار أن جورج برايس George Price الذي كمم وصاغ مُعادلة الإيثار في شكل رياضي إحصائي – لا إله إلا الله -، قضى وهو مُتنازل عن ملكه وأمواله الصغيرة، فقد قضى حياة صعبة جدا في بريطانيا، في آخر عمره. هذا العالم الكبير! كان عالما كبيرا وفذا. اشتغل حتى في مشروع مانهاتن Manhattan Project للقنبلة الذرية. كان عالما كيمياويا عظيما، وكان عالما أحيائيا رهيبا. ودرس علم الجينات الإحصائي لسبع سنوات، كان عبقرية، أي Polymath كما يقولون، مُتعدد المواهب ومُتعدد اللياقات العلمية.

هذا الرجل الذي تحدث عن الأنانية، وعن أنها مُجرد صفة تطورية، تطورت فينا، كحيوانات، ليس أكثر من ذلك، وأنها في جوهرها وقلبها أنانية مُقنعة، من سخرية القدر – رسالة من السماء – أنه أبى في آخر حياته إلا وأن يفعل الآتي، وقد بدأ حياته مُلحدا، وانتهى واهبا نفسه كلها للمسيح – هكذا يقول مُترجمو حياته -، وقضى آخر سنوات من عمره فاتحا أبواب منزله للسكيرين والمُشردين والفقراء والمعدمين، يُنفق عليهم كل أمواله، المسكين! ثم بعد ذلك، يبدو أنه لم يحتمل جحيم الحياة، وربما لم يحتمل ثقل أفكاره، هذه الأفكار المُتجاوبة مع النموذج العلمي المادي، التي ربما شععته، جعلته شعاعا، أشظاء مُتناثرة! لم يحتمل ذلك، فأنهى حياته بضربة من مقص حاد، قطعت شريانه السباتي، المسكين ذهب إلى العالم الآخر، عجيب! هذا الرجل أعرب عن درجة غير مفهومة من الإيثارية، ليس لأولاده، ليس لأبناء عمه، إنما للأغراب، أي والأغراب حتى الفاشلين، السكيرين والمُشردين، والمُعدمين طبعا بقدر أقل هؤلاء. شيء غريب! 

نفس السخرية التي سجلها القدر، على صاحب أخلاق القوة، وأخلاق السادة، الذي كان يُعادي بضراوة وبقساوة لا تلين أخلاق العبيد، أخلاق الضعفاء، التي هي التعاطف، المحبة، الرحمة، المواساة، المُساعدة، أبدا! قال هذه أخلاق الضعفاء، أخلاق العبيد، أنا مع أخلاق الأقوياء. صاحب سوبرمان Superman، أعني نيتشه Nietzsche، الفيلسوف الألماني نيتشه Nietzsche.

قبل أن يغرق في القاع المُظلمة للجنون، ويغيب عقله بشكل كلي في آخر عشر سنوات من حياته – أي المسكين نيتشه Nietzsche – ماذا حصل؟ آخر شيء فعله، هي اللحظة التي سقط فيها على الأرض، سقط فيها في غياهب الجنون! حين كان عابرا في شارع، أو ربما جالسا في بيته، فرأى رجلا قاسيا، يجلد حصانه، بغير رحمة، في غير رحمة وهوادة، نزل المسكين واعتنق الحصان، وجثى على ركبتيه، وجعل يبكي ويقول للحصان أفهمك، أنا أفهمك جيدا. ثم سقط المسكين مجنونا! حُمل إلى مصحة الأمراض العقلية، قضى فيها آخر عشر سنوات، حيث مات هناك! من ألف وثمانمائة وتسعة وثمانين إلى ألف وتسعمائة. نيتشه Nietzsche! غريب! وأين أخلاق السوبرمان Superman، وأخلاق الأقوياء، وأخلاق السادة؟ غريب! غريب! 

القدر يسخر هنا، القدر يُسدد ضربة قاتلة لنيتشه Nietzsche وجورج برايس George Price وكل هؤلاء الماديين، مَن كان له أذنان منهم ويستمع، ومَن كان له عينان ويُبصر. الرسالة تقول أنت لست مُجرد حيوان كما تُصر. نعم أنت حيوان، في نهاية المطاف نحن حيوانات قطعا، لا أحد يستطيع أن يُنكر أننا حيوانات، وفينا كل ما يُميز الحيوانات، كل ما في الحيوانات فينا، العناصر المُشتركة هائلة جدا بيننا وبين القردة وحتى الخنازير والكلاب، هذا لا يُنكره أحد، ولكن انتبه! لست حيوانات فقط، لست حيوانا وحسب – القدر يقول -، أنت حيوان وزيادة، وهذه الزيادة هي كل شيء، هذه الزيادة هي ملحمة الإنسانية. لست حيوانا فقط – هذه الاختزالية جاهلة جدا وظالمة وقاسية وفظيعة ولا نستطيع أن نتحمل تبعاتها ونتائجها، نتائجها مُخيفة جدا -، وإنما أنت حيوان وزيادة. وهذا عنوان خطبة اليوم؛ حيوان وزيادة!؟ حيوان وزيادة!؟

هذه الزيادة سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي *، هي كل شيء. ولذلك خَلْقًا آخَرَ *، لنا نشأة أصبحنا فيها خَلْقًا آخَرَ *. بعد نفخة الروح، أصبحنا خَلْقًا آخَرَ *.

قلت لكم مرة، ويُعجبني هذا التشبيه أو هذا الميتافور Metaphor، قلت لكم الطائرة، الطائرة البوينغ Boeing مثلا، التي تُكلف ربما أربعمائة مليون أو ثلاثمائة مليون، يُمكن أن تُستخدم كسيارة، أي في حدود المطار، تضع فيها أناسا، وتنقلهم مسافة أربعة كيلومترات أو خمسة كيلومترات، لكن هل الطائرة صُنعت لهذا؟ هذه حقيقة الطائرة؟ هذه ماهية الطائرة؟ وُضعت فيها مئات الملايين؛ من أجل أن تنقل الناس خمسة كيلومترات – المُهمة التي تقوم بها أي سيارة لادا Lada أو ميتسوبيشي Mitsubishi أو أي نوع -؟ أبدا! الطائرة بلا شك سيارة بهذا الاعتبار، لكن وزيادة، والزيادة كل شيء، هي الفارق بين سيارة وبين طائرة. الاختزالية دائما جاهلة، الاختزالية عمياء! الReductionism ، المذهب الاختزالي هذا، أعمى! 

هناك التلفاز الذي أمامك! من جهة مُعينة يُمكن أن نُشبه الإنسان – من جهة مُعينة، بلحاظ مُعين – بهذا التلفاز. يُمكن أن يختزله طفل بسيط، لا يفهم تعقيد المسألة تكنولوجيا وفلسفيا بأنه مجموعة أو جهاز مُجمع مُركب من البلاستيك وبعض المعادن والزجاج! هل هذا التلفزيون Television؟ مُستحيل! التلفزيون في نظر مَن يعرف حقيقة التلفزيون Television تقريبا هو الحياة كلها! كيف الحياة كلها؟ الحياة كلها، ومن غير مُبالغة. إذن أضف إلى الجهاز المُركب بالطريقة التي وصفها الطفل، أضف إليه عُنصر ماذا؟ عُنصر التركيبية؛ أنه مُركب على نحو مُحدد. ليس مُجرد تجميع، على نحو مُحدد، يحكي غاية مُحددة. غير كاف! أضف إليه الكهرباء. غير كاف! أضف إليه البث المُنتشر العائم في الفضاء – ولن أقول الأثير. لا يُوجد أثير فيزيائيا -، أضف إليه. غير كاف! لماذا؟ أضف طريقة الاستقبال والتفاعل. غير كاف! هذا البث من أين يأتي؟ ليس من العدم، أليس كذلك؟ يأتي من أستوديوهات Studios مُعينة، من محطات بث مُعينة. غير كاف! هذا البث يحكي ماذا؟ يحكي هذا المُسلسل، الذي شارك ثلاثمائة مُمثل ومُمثلة في إنجازه، عبر تسع سنوات، في أربعة مواسم مثلا أو خمسة مواسم. هذا المُسلسل يحكي ماذا طبعا؟ عمل المُنتجين والمُخرجين وكل الذين شاركوا فيه وهم أيضا بالمئات، يحكي الملايين التي دُفعت فيه، يحكي السيناريو، أو الرواية التي كُتبت سيناريو، وربما توارد على كتابتها، ربما عشرة أو أكثر أو أقل أو حتى واحد، وهذه الرواية من أين أخذها الراوي؟ أخذها من ملحمة الحياة، من آمالنا وآلامنا وأحزاننا، من آمالنا المخذولة، من إحباطاتنا، من فرحاتنا، من الأوقات الطيبة والأوقات الرديئة في حياتنا، من كل شيء، من حياتنا! في نهاية المطاف هذا هو التلفزيون Television لكي تفهمه وتعرف ما الذي يحصل وكيف يلذك أن تتابع فيه فيلما أو مُسلسلا، هو الحياة نفسها. الإنسان أكثر تعقيدا من هذا. الإنسان نفسه أكثر تعقيدا من هذا. لسنا مُجرد حيوانات، نحن حيوانات كما قلت لكم وزيادة.

ولم نُخلق هنا؛ لكي نستعيض بالأرض عن الفردوس، لكي تكون الأرض وهذه النشأة – هذا الجواب القصير عن السؤال – بديلا عن الفردوس. الأرض هنا، وحياتنا ونشأتنا هنا، طريق الفردوس، ويُمكن أن تكون أيضا طريق الجحيم، وهذا يتناسب مع طبيعتنا التركيبية. لمَن تدلى إلى الأفق الشيطاني، طريق الجحيم. والعكس لمَن تسامى عن المهاد الحيواني التأسيسي، النُسخة الأولى منا الطينية، حيوانات نحن، مثل كل الحياة التي أُنشئت من الطين، أليس كذلك؟ ونحن من الطين، حيوانات! لكن بعد ذلك نتسامى بفضل هذه النفخة إلى الأفق الملائكي، إلى الصفيح العلوي. وتُصبح هذه النشأة طريقا إلى الفراديس العُلا، إلى رضوان الله وقربانه وجواره – لا إله إلا هو -. اللهم اجعلنا كذلك، واجعلنا منهم. شيء عجيب وجميل! هذه الملحمة، هذه الملحمة الحقيقية، هذه أعظم الملاحم، أعظم الملاحم! 

لكن الذين يظنون أن بالإمكان الحديث عن فردوس على هذه الأرض، الآن وهنا، أخطر الناس. أريد هنا أن أقف وقفة قصيرة نسبيا، أو طويلة بعض الشيء. هؤلاء أخطر الناس! ولماذا نتحدث عنهم؟ لأن هؤلاء لم يكونوا فقط البلشفيين أو الفاشيين أو النازيين الشموليين، للأسف كثير من الأصوليين الدينيين عندهم هذا الوهم المجنون! أنه يُمكن أن يُعدّل الطبيعة البشرية، أن يُعدّل في خُطة الله، يُمكن أن يُقيم الفردوس على هذه الأرض. هذا غير مُمكن إطلاقا. كل الذين فكروا وحاولوا، انتهى بهم الأمر وبضحاياهم، ليس إلى تحقيق اليوتوبيا Utopia وتجسيد اليوتوبيا Utopia، بل الديستوبيا Dystopia. الديستوبيا Dystopia هي نقيض ماذا؟ اليوتوبيا Utopia. اللعنة مُجسدة على الأرض، الجحيم مُجسدا مُمثلا على الأرض.

البلشفيك هؤلاء في نهاية المطاف مع أنهم ضد الطوباويات كما يقولون – أي ال  Utopias-، كانوا يوتوبيين رغما عنهم، أليس كذلك؟ ليون تروتسكي Leon Trotsky في رسالته الشهيرة جدا كان طوبويا إلى أبعد حد، وتحدث بسذاجة طفولية لا تليق بمُفكر أصلا، تحدث أن الأفق؛ أفق الوعد الاشتراكي، هو ماذا؟ هو أن يكون الإنسان العادي؛ أنا وأنت وأي إنسان في الشارع، هو هيجل Hegel ونيوتن Newton و أينشتاين Einstein وأرسطو Aristotle وأمثال هؤلاء. ثم بعد ذلك يقول تأتي الآفاق الأعلى. والله؟ مُمكن؟ هل أنت أصلا مثل هؤلاء؟ هل أنت يا ليون تروتسكي Leon Trotsky بهذا التنظير الساذج، بالغ السذاجة والانفضاحية، في مرتبتة هؤلاء الذين ذكرت، حتى تُعطي وعدا؟ ما الذي حصل؟ أرخبيل غولاغ The Gulag Archipelago من ثلاثة وثلاثين أو من ثلاثين إلى خمسة وخمسين، وملايين الضحايا! هو نفسه – وأُتيحت له فرصة الحُكم ضمن سبعة آخرين في قيادة الحزب – أصبح ضحية لأحد هؤلاء المجنونين بالشمولية وبالاستكمالية أو النزعة الكمالية الفردوسية، طبعا ستالين Stalin، أعني سيء الذكر جوزيف ستالين Joseph Stalin، وبعث له مَن يُصفيه في سنة ألف وتسعمائة وأربعين، تخيل؟

في نهاية المطاف كم الضحايا؟ سبعة وتسعون مليونا. شيء مُرعب! أتحدث عن ماذا؟ هذه الاشتراكية الطوباوية، عن هؤلاء الشيوعيين. سبعة وتسعون، أي مئة، مئة مليون، مئة مليون ضحية، شيء لا يكاد يُصدق! أي الفاشية لا تزال تُعتبر رحمة بالنسبة لهذه الشيوعية؛ ثلاثون مليونا. وثلاثون مليونا أيضا شيء مُخيف ومُرعب! أليس كذلك؟ هذه كلها مُحاولات ماذا؟ صُنع فردوس على الأرض. لا يليق بنا، نحن لسنا مؤهلين لأن نصنع فردوسا هنا على الأرض. دائما ما كنت أنطوي على شعور بخطورة الاستكماليين. على فكرة المُحاولات بالعشرات؛ مُحاولات السذج – ليست ببراءة أطفال، أقل من ذلك – الذين حاولوا أن يُقيموا المدينة الفاضلة. المُحاولات بالعشرات، ودائما كانت تُمنى بفشل وخيبة، ديستوبيا Dystopia! دائما تنتهي ب ديستوبيا Dystopia! ليس يوتوبيا Utopia، أبدا!

هناك مُحاولة أعتقد قرأتها ربما من حوالي أربعين سنة، ولم أراجعها، عند بيتر فارب Peter Farb، على ما أذكر، لم أراجع هذا حقا. بنو الإنسان! وربما هي مُحاولة ولاية إنديانا Indiana في القرن التاسع عشر. مُجتمع صغير، أناس مُتعلمون طيبون، عندهم أخلاقية، عندهم تدين، حاولوا أن يعيشوا في مُجتمع فاضل. بعد أقل من شهرين، صاروا يتوقون إلى صوت الصراخ والرصاص؛ أين القتل؟ أين الجرائم؟ أين المشاكل؟ هذا هو الإنسان. رأوا أن هذه الحياة لا تستحق أن تُعاش، حياة بشعة، ماسخة – على قول الإخوة الليبيين ماسخة -، بلا طعم، بلا ذوق. ليست هذه الحياة! الإنسان لم يُخلق ملكا. 

انظر إلى حكمة الله عز وجل؛ أنت تريد أفقا مُتمحضا للخير؟ موجود – الله قال لك -؛ الملك. تريد أفقا مُتمحضا للشر؟ موجود – الله قال لك -؛ الشيطانية. تريد أفقا محايدا – أي Immoralist، Immoral -، محايدا أخلاقيا؛ الحيوان المسكين، الحيوان لا هو أخلاقي ولا غير أخلاقي، أي بصراحة. وتريد هذا الكائن التركيبي، البرزخي، الحدودي، الدائر بين الحدود، التائه الضائع المتردد بين الحدود؛ نحن. هذه عظمتنا على فكرة، هذه عظمة الإنسان، عظمة الإنسان وأيضا مأساة الإنسان. والخوف الخوف على الإنسان من هنا طبعا! انتبهوا! لأن هذه التركيبية وهذه الحدودية دائما حُبلى بالانزلاقية؛ بانزلاقية مُخيفة! كما قلت لكم هناك قوس الصعود وقوس النزول. في قوس التدلي يُمكن أن تهوي مُباشرة عابرا بالمهاد الحيواني، إلى الحضيض الشيطاني – والعياذ بالله -، شيء مُخيف!

على كل حال هذه المُحاولات دائما كانت تبوء بالفشل. لطالما كان يُخالجني شعور بخطورة الكماليين الاستكماليين. دائما كنت – وصرحت بهذا على المنبر – لا أرتاح إلى الأشخاص الذين يُظهرون ماذا؟ نزوعا كماليا؛ أنهم لا يُخطئون، أنهم مُستقيمون جدا جدا جدا. ستقول لي لماذا؟ أنت ضد الاستقامة؟ بالعكس، أعشقها، وأضرع إلى الله بأن يهبني شيئا منها في ليلي ونهاري وحلي وقراري. لكن ليس هذا! أنا مع الله، ومع رسول الله، الذي قال لو لم تذنبوا لذهب الله بكم. لماذا يا رسول الله؟ لا، أنتم خطيرون. الذي لا يُذنب هذا خطير، هذا شيء مُخيف، هذا ورطة أخرى على فكرة، هذا الكمالي شيء مُخيف. ولا يُوجد إنسان لا يُخطئ، كل ابن آدم ماذا؟ خطاء. تُقال على المنابر، وهذا جميل جدا، لكن للأسف لم يعد لها قيمة، تعرفون لماذا؟ مُبتذلة. كل شيء يُبتذل، يفقد قيمته. لذلك نحن مُضطرون أن نُعيد تعريف الأشياء الكثيرة، من غير زاوية الابتذال، وربما تحت عنوانات أخرى جديدة؛ لكي ننجو من ورطة ماذا؟ تفريغ المعنى بالابتذال، تفريغ المعنى واستنزاف المعنى بالابتذال. استنزاف بالابتذال! كل جمعة؛ كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون. ثم ذهب ونام. غن! ليس هكذا يا رجل! حاول أن تفهم، وحاول أن تُفهّم الناس، وحاول أنت أيضا أن ترقى بفهم جديد. يحفظها! لو لم تُذنبوا، لذهب الله بكم، ولأتى بأقوام آخرين، يُذنبون، فيستغفرون، فيغفر لهم. لا إله إلا الله! لماذا؟ قال هذا! هذه الحقيقة الإنسانية. النبي يقول، يُنبّه ويقول لك لا تلعب على الناس. كأن النبي يُخاطب هؤلاء على فكرة، يقول لهم لا تلعبوا. وأنا أحذر منكم بطريقة ذكية. النبي يقول أحذر منكم ومن أمثالكم بطريقة ذكية. لا تلعب الناس على دور الملك، لست ملكا، أنت ابن آدم، أنت طين وماء، والطين والماء يعتكر بأقل اهتزاز، أليس كذلك؟ 

حديث حنظلة وأبي بكر – رضي الله عنهما -. كانا عند الرسول، وذهبا وروحا. بعد قليل عبد الله بن حنظلة خرج، وجد أبا بكر. إلي أين؟ قال له. إلى رسول الله. لماذا؟ قال له. قال له نكون عند رسول الله، فيُذكّرنا بالله ويُذكّرنا بالآخرة وبالجنة والنار ويوم الحساب، فكأننا رأي عين! كأننا نرى ربنا ونرى الجنة والنار. فإذا عُدنا إلى أهلنا، عافسنا الأزواج والضيعات والأولاد، ونسينا كثيرا. قال له. نافق – قال له – حنظلة. قال له أنا مُنافق. قال له وما أخرجني يا حنظلة إلا الذي أخرجك. أنا حتى مُنافق – قال له أبو بكر -، أنا يحدث لي مثل هذا. أنا تعروني هذه الحالة، تعروني هذه الحالة!

تعرفون الحديث، في الصحيح. وأتيا المُصطفى الأبر الأطهر – صلوات ربي وتسليماته عليه – مه. قال لهما. قال نافق حنظلة، نافق حنظلة. قال مه. اسكتا، لا تسبما أنفسكما. النبي ناهمها عن هذا! لماذا تصف نفسك بالمُنافق؟ لست مُنافقا يا أبا بكر، لست مُنافقا يا حنظلة. فذكرا له، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما تعرف. انظر؛ مثالية النبي أنه واقعي، النبي واقعي! الإسلام واقعي، الإسلام كله واقعي! مثاليته أنه واقعي، إن كان ثمة مثالية مقبولة، فهي أنه ماذا؟ واقعي. يأخذ الإنسان بواقعيته، بشروطه، بحيوانيته وملكيته، بتركيبيته! الإسلام لا يُعاملك على أنك حيوان، ولا يُعاملك على أنك ماذا؟ ملك. يُعاملك على أنك حيوان وملك، حيوان وزيادة. والجانب الحيواني يتقاضى ماذا؟ حقوقه. يُريد حقوقه؛ الطعام والشراب والزوجة وما إلى ذلك. موجود، أهلا وسهلا. وحين يأتي الغضب وما إلى ذلك، يكون موجودا، كل شيء موجود. والجانب الملكي يتقاضى ماذا؟ يتقاضى حقه. يُريد أيضا حقه؛ الذكر واللطافة والبكاء والخشوع والإخبات والتوكل والإنابة والثقة والاعتماد والإحساب والاحتساب. موجود، موجود، كل هذا موجود. عظمة الإسلام!

لا أعتقد أن امرأ يفهم الإسلام حقا، لا يكون حكيما. وليس هذا المُهم على فكرة، تبا للواتساب WhatsApp! تبا لوسائل التواصل التي أوهمت الناس أنهم جميعا حكماء، بمُجرد أن يُشيروا حكمة غيرهم! مساكين! وعلى فكرة كل حكمة تُشيرهي حكمة الغير، أين الحكمة الأصيلة؟ كما أقول دائما أين نُسختك أنت؟ لا تُمعن في التشيير والكتابة، يا رجل قف قليلا، وحاول أن تستقطر الحكمة من تجاربك أنت، اعرض علينا نُسختك، لا نُريد هذه النُسخ المُبتذلة المكرورة. والله أنا أشعر بخطر هذا على فكرة؛ لأن هذا يخلق وهما لدى المُتواصلين أنهم حكماء، بمُجرد أنهم يُرسلون إليك الأشعار والقصص والروايات والمواعظ والأحاديث والحالات النادرة، جميل هذا من حيث المبدأ، لكن انتبه، لا تُمعن فيه كثيرا، وقف واستخلص كما قلت درسك أنت، عش تجربتك أنت، عش التجربة الواعية؛ لكي تكون حكيما حقا، وعارفا حقا، وفاهما حقا، ومُلتذا سعيدا حقا أيضا! لكي تسعد بالحياة هذه! لا ترمني عبر منجنيق الواتساب WhatsApp بتسعين رسالة في الحكمة، وبكرة أجد أنك طلقت زوجتك! تسعمائة رسالة حكمة، وبعد بكرة أجدك طردت أولادك وتخليت عنهم! وهذا يحصل يوميا، عجيب يا أخي! حكمة ماذا يا رجل؟ الحياة ليست هكذا، الحياة ليست تظاهرا، ليست تمثيلا. الحياة وعي وخبرة وعيش. 

إذن لطالما خامرني هذا الشعور بخطورة هؤلاء الاستكماليين أو الكماليين. لم يكن واضحا لي لماذا؟ منشأ الخطورة ماذا؟ ثم وضح لي فيما أظن، وقد أكون مُخطئا غالطا! ما هو؟ هذا الكمالي أو الاستكمالي أولا هل تظنونه شخصا رحيما؟ هناك عبارة لفيلو Philo أو فيلون الإسكندراني، ما أعظمها! فيلو Philo أعتقد أنه مات في سنة خمسين ميلادية، وُلد قبل الميلاد. هذا الحكيم الإسكندراني المشهور، يقول ماذا؟ حين تلقى أي شخص، عامله بلطف ومحبة كبيرين. لماذا؟ أي شخص. قال. فإنه يخوض معركة عظيمة. الله! ما أجمل العبارة هذه! فإنه يخوض معركة عظيمة. أي معركة؟ معركة الحياة. مَن منا بلا هم؟ مَن منا بلا حزن؟ مَن منا بلا مُعاناة؟ مَن منا بلا مشاكل؟ مَن منا غير مُشوش، غير ضائع ولو نسبيا، غير مُحتاج ولو نسبيا؛ ماديا أو معنويا أو رمزيا؟ كلنا لنا معاركنا، كلنا لنا مآسينا، أليس كذلك؟ كلنا نعيش آمالنا المخذولة، أحلامنا المُحطمة، يأسنا القابض القاتم. كلنا، كلنا! وهناك الجانب المُنير الطيب في الحياة، بلا شك.

فلذلك يقول فيلون حين تلقى أي شخص عامله بلطف ومحبة عظيمين، ارفق به، ارفق به، فإنه يخوض معركة عظيمة. الله! جميل! واضح أن فيلو Philo أو فيلون الإسكندراني، لم يكن استكماليا، لا يؤمن بالاستكمالية هذه التافهة، التي لا يؤمن بها إلا السذج روحيا ونفسيا، الذين لم يعرفوا لا أنفسهم ولا الحياة. لم يفهموا شيئا على فكرة، هؤلاء خطيرون جدا، هؤلاء لا يتسامحون مع الخطأ.

محمد صلاح – حلو والله، الآن خطر لي هكذا – اللاعب المصري الكريم الباذخ الجميل، مُمتاز هذا الرجل! الذي يسجد في الملاعب، الذي علم الناس أن تحترم رموز الإسلام وشعائر الإسلام، المحبوب بأخلاقه العُليا. محمد صلاح، مُجرد فقط أنه هنأ النصارى بالميلاد، وربما وضع – أنا لم أر هذا، ولم أتابعه، لكن سمعت – أشياء، ما شاء الله! منجنيقات على محمد صلاح، كأنه ارتد عن الإسلام، كأنه خرج من الإسلام. يا أخي اربع على نفسك، يا رجل! لا أدري هل هذا بالذات يتميز به العرب أكثر من غيرهم؟ أنا قلق من هذا، ومُستاء من هذا. لدينا نزوع غير طبيعي، لا يكاد يقف عند حد، في حُب وعشق تحطيم الناجحين وتحطيم الباذخين. ثم نقف على المنابر ونعظ بالأخلاق! كذب ونفاق واستكمالية مفضوحة. 

لو كان لك عقل، وحدك من غير أن تعود إلى المشايخ الاستكماليين – ليس كلهم طبعا، وإنما بعضهم – والمُتاجرين بالدين، سل نفسك؛ ما الذي فعله هذا الرجل؟ تقول لي احتفل بميلاد عيسى. عليه السلام، عيسى يا حبيبي! القرآن احتفل بميلاده؛ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ *. ميلاده إعجازي، القرآن ذكر لك أن ميلاد عيسى كان ميلادا ماذا؟ Miraculous، إعجازيا. لم يكن ميلادا عاديا. تقول لي هم يعبدونه! هم يعبدونه، أنا لا أعبده. القرآن برأه من هذه الوصمة، أبدا! القرآن أعاده إلى مكانه الباذخ الحقيقي؛ عبد الله وسوله – عليه السلام -. شأنه شأن موسى وإبراهيم ونوح وشيت ومحمد. لكنه من أولى العزم الخمسة من الرُسل، هو من الخمسة الأعظم والأكرم! أليس كذلك؟ ميلاده مُعجز، لي كمُسلم أن أحتفل بميلاد عيسى، وميلاد موسى، وإذا كنت أعرف ميلاد إبراهيم – لكنه غير معروف طبعا -، فلي ذلك. ميلاد إبراهيم وميلاد شيت وميلاد مَن أريد من الأنبياء، أبدا! وأكرّم هذا اليوم. 

النبي حين سُئل عن صوم يوم الاثنين، قال ذلك يوم فيه وُلدت. أي صوموه. الله يا رسول الله! صحيح، في صحيح مُسلم. النبي يقول اليوم الذي وُلد فيه محمد، هذا يوم عظيم وكريم، شيء جميل أن تصومه. ونفس الشيء؛ اليوم الذي وُلد فيه عيسى، يوم عظيم وكريم، أليس كذلك؟ أنا كمُسلم أريد أن أبتهج بهذا اليوم، وأبتهج بميلاد محمد أيضا، ليس عندي مُشكلة! لماذا تجعلني كأنني كفرت، وكأنني تاخمت الإلحاد والزندقة؟ ما شاء الله على الاستكمالية العربية هذه! الاستكمالية عند بعض المُسلمين، انقضاض بشكل غير مُبرر يا أخي، أبدا! ارفق بالناس، لك أخطاؤك. 

هذا الذي ربما – ربما طبعا – قذف محمد صلاح بهذه القذائف، ربما يكون ارتكب في اليوم نفسه فاحشة كُبرى، قد يكون خرج من فاحشة، فاحشة حقيقية! زنا أو شرب خمر، وطبعا فواحش تغول أموال الناس والضحك على الناس وتعال استثمر لك وتستثمر لي، ما شاء الله! بصراحة مُنتشرة كثيرا جدا بين المُسلمين، بين العرب بالذات. النصب والدجل في الفلوس والتجارات وأكل أموال الناس، مُنتشر كثيرا. أنا لا أحب أن أجامل! لدرجة كما قلت مرة، ولم أتلق ردودا قاسيا، لدرجة أنك تقريبا لا تكاد تثق بأحد أن تُعطيه شيئا من مالك، ليستثمره لك! لكثرة التجارب المُرة المُخيبة للآمال. وينتقدون محمد صلاح بسبب ماذا؟ الكريسماس. وبسبب ماذا؟ قال شجرة الميلاد. اتقوا الله، اتقوا الله. لا تكونوا استكماليين، كل ابن آدم خطّاء. حتى القديسون العارفون بالله، يعرفون جيدا معنى الخطأ، ويعرفون كيف يغفرون لأنفسهم، حتى حين يُخطئ أحدهم! يجب أن تغفر لنفسك، لماذا؟ لأن هذه طبيعتك. المُهم ألا تُصر على ما فعلت وتكون عالما؛ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ *.

ولنا إن شاء الله تكملة، إن شاء الله تكون وجيزة قصيرة، بعد صلاة العصر. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.

 

الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

عودا إلى موضوع محمد صلاح. وطبعا موضوع محمد صلاح موضوع يتكرر، ليس فقط لأجل الأستاذ محمد صلاح – بارك الله فيه ووفقه الله -، يتكرر كثيرا، أي قبل أيضا مُدة يسيرة، مع الأخت الكريمة، وربما العارفة بالله تبارك وتعالى، كما شهد لها عارفون بالله كبار، في مُقدمهم مولانا الشيخ الشعراوي – قدس الله سره -، الذي قال أعطانا ربنا عز وجل بعض ما أعطى الأخت شمس البارودي. هاته التي اعتزلت، وهي في قمة تألقها ونجاحها الفني والتمثيلي، وتركت الدنيا كلها، ولم تُعوّل على شيء. إلى اليوم للأسف الشديد، تُسب بمُجرد أن أحدهم – أصلحه الله، لا أقول أكثر من هذا – نشر إشاعة مُغرضة، سخيفة جدا، سخيفة! أنها عادت وخلعت الحجاب وتجردت، سُبحان الله! والله أنا بكيت يومها، بكيت! بكيت من هذا الظلم البيّن، ومن هذا أيضا الاستعداد العجيب جدا لمضغ لحوم الناس والوقوع في الناس بغير أدنى شُبهة. يا أخي قبل أن تُعلق وقبل أن تسب – هناك سب! بدأوا يسبون فيها، وسبوا في طريقتها وفي تدينها وفي نفاقها وفي كذا وأنتِ وأنتِ -، افهم. شيء غريب، غريب! أي امرأة شبه راهبة، شبه قديسة، انقطعت عن كل شيء، إلا خدمة زوجها وبيتها وأولادها وعبادة الله وذكر الله. 

لم يتحققوا، لم يتركوا لأنفسهم حتى فرصة أن يتحققوا؛ هل حصل هذا؟ وإذا حصل، أيضا كان يجب أن نبكي وأن نبتهل إلى الله أن يردها إليه ردا حميدا. لا! وبعد ذلك طبعا – بعد يوم واحد، أقل من يوم – تبيّن أنها دعاية مُغرضة – لا أقول أكثر من هذا -، سخيفة جدا، ليس عليها أي أثارة من دليل أو بيّنة. وتألمت جدا هي، في لقاء معها، تألمت جدا؛ لِمَ؟ لِمَ هذا الكذب؟ لكن ليس هذا، أنا لا ألوم على هذا الذي نزّل أو رفع هذه الدعاية السخيفة، ولكن على الذين تفاعلوا معه وما شاء الله بحماس! ينتصرون للدين وللحجاب وللشرف! أبعد الناس عن الشرف أنتم، أبعد الناس عن الشرف! الذي يُحب الشرف، يبكي على الشرف، لا يشمت فيمَن فرط في الشرف، أبدا! يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا *. وهذا من حُب إشاعة الفاحشة. صدقوني، هذا بعض ما تُفسر به الآية. 

وبالنسبة أيضا لموضوع محمد صلاح والاحتفال بميلاد المسيح – عليه السلام -، النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، حين أتى إلى المدينة، وسأل عن ذلك اليوم الذي كانت تصومه اليهود؛ عاشوراء، فيما ورد في الأحاديث الصحيحة، فقالوا هذا يوم نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون وجُنده أو قومه، فنحن نصومه؛ شكرا لله. فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – نحن أولى بموسى منكم. وصامه وأمر بصومه أو بصيامه. الحديث في الصحيح على كل حال، وحوله كلام. وكان – عليه الصلاة وأفضل السلام – يُحب مُوافقة أهل الكتاب، فيما لم يُنه عنه. إذا نهاه الله، ينتهي. إذا لم ينهه، فهو يُحب أن يُوافقهم. وكما قلت لكم مرة أخرى لا يعني أنهم يحتفلون بميلاده على أنه رب – أستغفر الله العظيم – أو ابن رب، أننا نوافقهم، كلا! ولا واحد في المليون، لا تُوجد أي مُوافقة، هذا توحيد! هم يحتلفون به كما يرون، نحن نحتفل به كنبي، هذا إن احتفلنا، إن احتفلنا! أنا لا أدعو إلى الاحتفال، لكن أقول لكم مَن احتفل أو أظهر الاحتفال والبهجة – والله أعلم -، لا تثريب عليه. هو يحتفل بنبي عظيم، برسول كريم. القرآن نوّه بميلاده! والنبي أعطى إشارات كما قلنا عن ميلاد نفسه – عليه الصلاة وأفضل السلام -. أنا أدعو الله، والمُشرك يدعو الله. المُشركون كانوا يدعون الله، لكن يدعون الله ومعه ماذا؟ ومعه ما يزدلفون به إلى الله. نوع من الشرك! نحن ندعو الله محضا، واحدا، أحدا، لا إله إلا هو. ليس معنى أنهم يدعونه بيا الله أيضا، ونحن ندعوه، أننا شاركناهم، أبدا! نحن ندعوه بالعقيدة السليمة الصحيحة التي نعتقد، وهم يدعونه بالعقيدة الباطلة الشركية. كما تقول العامة ذنبهم على جنبهم.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علما وفقها ورشدا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم، في هذه الساعة المُباركة، ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا كربا إلا نفسته، ولا ميتا إلا رحمته، ولا مريضا إلا شفيته، ولا غائبا إلا رددته، ولا أسيرا إلا أطلقته، ولا غائبا إلا رددته، ولا مدينا إلا قضيت عنه دينه وأذهبت عنه همه وغمه، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اغفر لنا ما كان منا في الزمان الأول. اغفر لنا خطأنا وعمدنا، جدنا وهزلنا، وكل ذلك عندنا. اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغارا، اجزهم بالحسنات إحسانا وبالسيئات مغفرة ورضوانا. واغفر اللهم للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميع قريب مُجيب الدعوات.

عباد الله/

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، وأقم الصلاة.

(7/1/2022)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: