روتانا خليجية…شبابها.. أدرى بشعابها.
تابعونا http://twitter.com/#!/Khalejiatv و http://www.facebook.com/khalejiatv

روتانا خليجية أقوى البرامج الحوارية والاجتماعية والفكرية والرياضية والكوميدية.. اليومية والاسبوعية، بالإضافة لأروع المسلسلات العربية والخليجية وأضخم الإنتاجات الغنائية تجدونها فقط.. على خليجية..

الترددات.

NileSat 104 Freq. (11,296 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4
102 Freq. (10,775 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4
Arabsat Freq. (11,843 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4

 

برنامج آفاق

وجوه الكفر في القرآن

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

إخواني وأخواتي:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، حديثي إليكم في هذه الحلقة عن وجوه من الكفر في كتاب الله – تبارك وتعالى -، أو بعبارة أسهل وأيسر كيف تعاطى القرآن الكريم مع الكفر – مع أنواعه وصوره وجوهه، أيضاً مع أسبابه وبواعثه والدوافع عليه وإليه -؟

مَن يقرأ هذا الموضوع قراءة مُتكامِلة – أيها الإخوة والأخوات – في كتاب الله – سُبحانه وتعالى – يلفته أن القرآن العظيم قد تقصى هذا الموضوع من شتى جوانبه، وعرض له عرضاً مُستفيضاً مُوعِباً، حتى لا مزيد.

في البداية أود أن أُنبِّه على أن الكفر المُتحدَّث عنه إنما هو الكفر بالمعنى الشرعي، لا الكفر الذي يتحدَّث عنه بعض المُفكِّرين وبعض الفلاسفة، لأن أكثر هؤلاء وخاصة في هذا العصر إنما يقصرون هذه الكلمة أو هذه اللفظة على الكفر بالله – سُبحانه وتعالى -، أي ما يُسمى في عصرنا هذا – العصر الحديث – الإلحاد، على كفر الإلحاد!

لكن نحن نتحدَّث عن الكفر بالمعنى الشرعي، كالكفر بالله – عز وجل -، الكفر بالأنبياء والمُرسَلين، الكفر بالملائكة، الكفر بالكُتب والشرائع الإلهية، الكفر باليوم الآخر، والكفر بالبعث والنشور، كل أولئكم كفر – والعياذ بالله تبارك وتعالى -.

فإذن الكفر المُتحدَّث عنه والمبحوث إنما هو الكفر الشرعي، أول نوع يُمكِن أن نُشير إليه من أنواع الكفر هو كفر النفي أو كفر الإنكار، وبدأت به لعزة الموارد التي تتحدَّث عنه في كتاب الله، أي لندرتها وقلتها، وأيضاً دفعاً للشُبهة التي يُثيرها بعضهم، بالقول إن القرآن الكريم لم يتحدَّث عن كفر النفي أو كفر الإنكار، لكن بدايةً ما هو النفي؟ ما المُراد بالنفي هنا؟

المُراد بالنفي أو الإنكار – إخواني وأخواتي – الإلحاد بالمعنى الحديث، أي الــ Atheism، لأن هؤلاء يقولون القرآن لم يتحدَّث عن كفر بمعنى إنكار لوجود الذات الإلهية، ذلكم أن العرب لم تعرف هذا النوع من أنواع الكفر، وإنما كان كفرهم كفر شرك، كفر وثنية، آمنوا بالله – تبارك وتعالى – خالقاً ورباً مُهيمناً مُدبِّراً مُحيياً مُميتاً ورازقاً، إلى آخره! لكنهم شركوا معه في تدبير مُلكه وفي العناية بخلقه شركاء، من طواغيتهم، أصنامهم وأوثانهم وأوهامهم، فهذا هو كفر العرب، لكنهم لم يعرفوا كفر النفي أو الإنكار بمعنى الإلحاد، بالمُصطلَح الحديث! ولذلك القرآن خلا منه، وهذا الكلام غير صحيح.

لكن أُنبِّه مرةً أُخرى أن كلمة أو لفظة الإلحاد لم تُستعمَل ولم ترد في كتاب الله بالمعنى الذي نعرفه الآن في هذا العصر الحديث، بمعنى إنكار وجود الذات الإلهية، لا! وإنما القرآن استخدم الإلحاد بمعنى الانحراف في فهم أسماء الله وصفاته، بمعنى وقوع شيئ من التحريف والتشويه المفهومي لله – تبارك وتعالى -، لمفهوم الله – تبارك وتعالى -، لأن الوقوع في انحراف في فهم أسمائه وصفاته مُباشَرةً بل هو يعدل – يعدل أي يُساوي ويُعادِل – تحريف مفهوم الله، أي الــ Concept، مفهوم الله – تبارك وتعالى – في ذهن المُحرِّف وفي اعتقاده، قال الله – تبارك وتعالى – في سورة الأعراف وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۩، قال يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۩، ولنا عودة إلى هذه النُقطة ربما في آخر هذه الحلقة.

لكن كفر الإلحاد بمعنى نفي الذات الإلهية هذا نُسميه كفر النفي أو كفر الدهريين، النزعة الدهرية، النزعة الطبيعية، نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۩، إذن ما من إله، ما من خالق، ما من مُعتنٍ، ما من مُحي، ما من مُميت، وما من باعث، لا إله إلا هو! يُنكِرون هذا كله، وهذا وردت الإشارة إليه في كتاب الله – تبارك وتعالى -، في سورة الجاثية، وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۩، هؤلاء هم الدهريون، الطبائعيون أو الطبيعيون، الذين يعزون كل شيئ إلى الطبيعة، الطبيعة هي التي خلقت، الطبيعة هي التي تُحيي، الطبيعة هي التي تُميت، ولا يعترفون بالله، هؤلاء ملاحدة بالضبط، هؤلاء ملاحدة! ملاحدة بالمعنى الحديث، وأُنبِّه مرة أُخرى على هذا، وإلا هذا هو كفر النفي، كفر الإنكار، هكذا كان يُسميهم أبو العلاء المعري، أبو العلاء المعري يُسميهم النُفاة، ينعتهم بالنُفاة، أي الملاحدة، الذين لا يعترفون بالله – تبارك وتعالى -، أي بوجود الله – تبارك وتعالى -.

الملاحدة في العصر الحديث طبعاً يُقِرون بظاهرة الحياة والموت بلا شك، يُقِرون بأن الكوكب الأرضي – مثلاً – مُناسِب لحياة الإنسان، مُناسِب تماماً! لكن يقولون الطبيعة هي التي صاغت هذا، هيَّأت هذا، الطبيعة والوجود المادي المُكتفي بذاته، وهذا إلحاد، هذه نزعة إلحادية.

إذن الإشارة موجودة إلى هذه النزعة في كتاب الله – تبارك وتعالى -، وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۩ – والعياذ بالله -، على حد قول قائلهم إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، لكن ما من إله يُحيي ويُميت، وما من إله يبعث وينشر يوم القيامة.

إذن كفر الإلحاد بهذا الإلحاد أو كفر النفي والإنكار موجود في كتاب الله – تبارك وتعالى -، وهناك ضرب آخر من الكفر يُمكِن أن ندعوه كفر اللاأدرية، وهو قريب جداً من كفر الشك والظن، يقرب منه كفر الشك والظن، على كل حال القرآن لم يُفرِّق بين الظن والشك على طريقة المناطقة، تقريباً هما مُترادِفان إلى حد بعيد في كتاب الله، أي الشك والظن.

فما هو كفر اللاأدرية؟ أي الــ Agnosticism، يقولون هذا لاأدري، بعضهم يُعرِّف نفسه بأنه لاأدري، يقول لست مُلحِداً، لكنني من اللاأدريين، اللاأدريون – أيها الإخوة والأخوات – هم أُناس قُطِع بهم، راوحوا بين النفي والإثبات، في المُنتصَف، بالعكس! لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ۩، لا إلى هذه الجهة ولا إلى هذه الجهة، يقولون قد يكون وقد لا يكون، تقول لأحدهم هل تُؤمِن بالله؟ فيقول لا أدري، تقول له هل تعتقد بأنه موجود؟ فيقول لا أدري، قد يكون موجوداً، لكن لا أدري، وقد لا يكون موجوداً، ليس لدي أدلة تكفي للإثبات، كما ليس لدي أدلة تكفي للنفي، فأنا أتوقَّف.

ولذلك – كما قلت لكم – يقرب من كفر اللاأدرية في كتاب الله – تبارك وتعالى – كفر الشك والظن، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ۩، لكن مع التنبه – إخواني وأخواتي – إلى أن هذه اللاأدرية يُمكِن أن تتعلَّق بالله – تبارك وتعالى -، فيكون المرء لاأدرياً بخصوص الإيمان بالله، تقول له هل هو موجود أو غير موجود؟ فيقول لا أدري، أي إنه Agnostic، لاأدري، ليس لديه معرفة، أي Agnostic، هذه الــ A للنفي، ليس لديه المعرفة الكافية ليُثبِت، ولا المعرفة الكافية لينفي، كما يُمكِن أن تتعلَّق هذه اللاأدرية – مثلاً – بالبعث والنشور، يُؤمِن بالله على أنه خالق مُدبِّر، لكن يقول هل هناك بعث ونشور؟ 

وطبعاً هذه الأنماط من الكفر تتحرَّك دائماً – إخواني وأخواتي – خارج ماذا؟ خارج الإيمان الشرعي، خارج الإيمان الرسالي، الإيمان الوحياني، الذي أتى به الوحي، هذا الإيمان الإلهي! لأن الإيمان الإلهي مُتكامِل، مُباشَرةً إيمان بالله واليوم الآخر، عبر ماذا؟ عبر الرُسل والنبوات، بواسطة الكُتب التي أُنزِلت عليهم، هذا واضح جداً، لكن بعضهم يُؤمِن بعقله بوجود قوة خالقة مُدبِّرة، ليس على طريقة الوحي، ولذلك يُؤمِن بهذه القوة، وقد يُسميها الله أو الإله أو الخالق المُنشئ المُبدِع، إلى آخره! لكنه لا يُؤمِن باليوم الآخر، فهذه تتحرَّك خارج منظومة الإيمان الديني، الإيمان الوحياني! لذلك يُمكِن أن تتعلَّق اللاأدرية أيضاً بقضية البعث والنشور.

في كتاب الله – تبارك وتعالى – صاحب الجنتين، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ۩، يقول وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ۩، لكن على فرض وبفرض أنها قامت، يقول أنا من الناجين المسعودين، وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا ۩، أي من جنتي، مُنقَلَبًا ۩، ولذلك نعته صاحبه المُؤمِن بالكفر، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ۩، أي وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ۩ كفَّره، لأن هذا كفر، وهو لا يدري، يقول ليس لدي يقين بهذه الساعة، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ۩، هذه لاأدرية، لكن تتعلَّق بالبعث – إخواني وأخواتي -.

بشكل عام أيضاً كما في سورة إبراهيم ماذا قال الكفّار لرُسلهم أو لغير رسول؟ كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ۩، قالوا وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ۩، يدعوهم الأنبياء إلى ماذا؟ إلى الإيمان بالله وإفراده بالوحدانية في الربوبية والإلهية وفي أسمائه وصفاته أيضاً، وإلى الإيمان باليوم الآخر والبعث، وما يستتبع ذلك من جُملة أمور معروفة لجماعة المُؤمِنين، يقولون نحن نشك في هذه الأمور كلها، ليس لدينا يقين، ليس لدينا حتى ترجيح، نحن نشك في جُملة هذه الأمور، وتقريباً هذا يقرب جداً من أن يكون إيمان اللاأدريين، إيمان الشاكين الظانين – والعياذ بالله تبارك وتعالى -.

بعد ذلك – إخواني وأخواتي – لدينا وجه آخر من وجوه الكفر، وهو كفر النفاق، وتعرفونه جميعاً، لكن مع التنبه أيضاً إلى أن النفاق في كتاب الله – عز وجل – لم يرد إلا بمعنى واحد، نفاق الاعتقاد، نفاق الباطن، نفاق القلب، ليس في القرآن الكريم نفاق عمل ونفاق اعتقاد، هذا ورد في السُنة المُشرَّفة، كل النفاق في كتاب الله هو نفاق اعتقاد – والعياذ بالله -، نفاق اعتقاد! بمعنى أنه يُظهِر الإيمان، ويُبطِن الكفر والشك والتردد والحيرة – والعياذ بالله -، هذا مُنافِق!

قد يقول قائل إذا كان المُنافِق شاكاً مُتردِّداً مُذبذَباً كما وصفه الله – تبارك وتعالى – في سورة النساء وكما هو مفهوم آيات كثيرة أيضاً – لذلك المُنافِق مُراوِح بين الكفر والإيمان، مرة إلى الكفر ومرة إلى الإيمان، مرة ينزع إلى هذه الجهة ومرة ينحو إلى تلكم، فالقرآن الكريم وصف هذه الحالة – فما الفرق بينه وبين الشاك؟ إذا كان ذلك كذلك فما الفرق إذن بينه وبين الشاك؟ ما الفرق بينه وبين الشاك؟

الفرق – إخواني وأخواتي – هو الآتي، حتى إذا قلنا هناك بعض الشكّاك، فسنجد أن الواحد منهم يميل مرة إلى هذه الناحية ثم يميل أُخرى إلى الناحية المُقابِلة، لكن الفرق أن الشاك يُعرِب عن هذا، يُعرِب عن موقفه، لا يكذب ولا يُزيِّف، أما المُنافِق فإنه يكذب ويُزيِّف، يُظهِر الإيمان والإيمان الموالي الصادق المُخلِص، ويحلف ربما بأغلظ الأيمان وأوثقها، لكنه في حقيقة الحال وواقع الأمر – والعياذ بالله – مُتحيِّر مُتردِّد.

بعض الناس يظن أن النفاق في كتاب الله – تبارك وتعالى – حالة من النفي اليقيني، المُنافِق كافر بيقين في باطنه، بمعنى أنه يُنكِر صحة النبوة والرسالة أو وجود إلى الله، إلى آخره! لا، ليس بالضرورة، بالعكس! النفاق في عمومه في كتاب الله – تبارك وتعالى – حالة مرضية – والعياذ بالله -، حالة مرضية! فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ۩، المُنافِق شخص مريض، شخصية هشة، شخصية ضعيفة، ليست واثقة من نفسها، ليس لديها القدرة على أن تستعلن بآرائها، بمُنتحَلاتها، وبعقائدها، لأسباب كثيرة، وهذا معنى فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ۩.

ولذلك قلب المُنافِق يشهد الإيمان أحياناً، لكن الإيمان لا يستمسك فيه، لا يحله إلا ليُفارِقه سريعاً، يحل فيه الإيمان ثم يُفارِقه، ويحل ثم يُفارِقه، وهذا معنى قوله – تبارك وتعالى – أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ۩، هذا البرق كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ۩، أي وقفوا، ما معنى هذا؟ معنى هذا كما قال السادة المُفسِّرون أن المُنافِق أحياناً تظهر له بعض الأنوار، بعض الهدايات، وبعض المعالم، فيُؤمِن، ثم تخفى، وتغبى عليه، فيعود إلى الكفر – والعياذ بالله -، هنا يسير وهنا يقف، الله يقول هنا يسير في هذا النور ثم يقف في الظلام، المسكين يتردَّد بين النور والظلام، مُنافِق! قلب ضعيف، شخصية هشة، ليس هكذا حال المُؤمِن، المُؤمِن يطمئن قلبه بالإيمان، المُؤمِن مُطمئن قلبه بالإيمان، اللهم اجعلنا من المُؤمِنين الصادقين المُخلِصين، أما المُنافِق فقلبه لا يطمئن بالإيمان، كأن قلبه صفوان، حجر أمس، كأنه حجر أملس! يزل عنه الإيمان، كما يزل القطر أو المطر عن الصفا أو الصفوان.

ولذلك في الحديث عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – أنه شبَّه قلب المُنافِق ونعته بالمُصفَّح، قال هو قلب مُصفَّح، وشبَّه بماذا؟ بالقَرحة، نحن نقول القُرحة، أي الدمل الكبير، شبَّهه بالقَرحة، يمدها الدم ويمدها الصديد والقيح، فأيهما غلب غلب، إن غلب الدم بعد ذلك طهَّرها وشُفيَ صاحبها، وإن غلب القيح والصديد – والعياذ بالله – تبيَّغت أو ربما تبيَّغت بصاحبها، فأتلفت له عضواً، وربما أتلفت نفسه من عند آخرها، فالمُنافِق قلبه فيه إيمان أحياناً، لكن هذا إيمان ضعيف، وإيمان لا يحل إلا ليرتحل – والعياذ بالله تبارك وتعالى -.

على كل حال النفاق في كتاب الله هو نفاق الاعتقاد، نفاق الباطن – والعياذ بالله -، والمُنافِقون في الدرك الأسفل من النار، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ۩، لأنهم جمعوا إلى هذا الكفر والتردد والتحير والذبذبة – والعياذ بالله -، جمعوا إلى ذلكم الكذب والتزييف والادّعاء والاختداع للرسول وللمُؤمِنين، وهذا حال المُنافِق في كل عصر، إنه كاذب مُخادِع – والعياذ بالله -، ولذلك لا ولاء له لجماعة المُؤمِنين، لا ولاء له للمُسلِمين، ولاؤه لمصلحته، وهو مع العنصر الغالب، مع الفئة المُنتصِرة، دائماً يُريد أن ينظر مَن الذي يغلب فينحاز إليه، إن انهزم المُسلِمون تبرأ منهم، وبدأ يُظهِر الشماتة، إن غلبوا انحاز إليهم، وبدأ يُقسِم أنه دائماً كان معهم بقلبه ويده ولسانه، كاذباً – والعياذ بالله -، وعلى كل حال النفاق معروف في كتاب الله.

هناك – إخواني وأخواتي – ضرب أو وجه آخر من وجوه الكفر، وهو كفر الجحود، كفر الجحود من الجحد، والجحد هو ماذا؟ هو إنكار ما يعلم المُنكِر أنه على غير الوجه الذي يُظهِره به، ومنه جحد العارية، يستعير أحدهم من جاره أو تستعير من جارتها ماعوناً أو آنيةً أو متاعاً، ثم بعد ذلك تجحده، وتقول لا، أنا ما أخذته، أنا ما أخذت هذا الشيئ، يُقال جاحد العارية، أي الشيئ المُستعار، هذا هو الجحد.

قلبه في باطنه يعرف الحق، وقد يقول لي أحدكم ما الفرق بينه وبين المُنافِق؟ المُنافِق قلبه لا يعرف، كما قلت لكم المُنافِق مُتحيِّر مُتردِّد مُتشكِّك، يُراوِح بين هذا وهذا دائماً، مُذبذَب! أما الجاحد فقلبه عرف معرفة تامة، عرف الحق، عرف الحق ولكنه يجحده – والعياذ بالله – لأسباب كثيرة، ربما الآن نأتي على بعضها، وربما نأتي على بعضها في إطار آخر، على كل حال يجحده لأسباب، لكن في رأس هذه الأسباب العلو والاستكبار، لا يُريد أن يعترف، قلبه يعرف أن هذا هو الحق بالدليل وبالحُجة البيّنة، ولكنه لا يُقِر، يجحد، يُنكِر بعد أن عرف باطنه – والعياذ بالله -.

بعض كفّار قريش كانوا هكذا، وكانوا يعلمون علم اليقين أن محمداً مُرسَل من عند ربه، وأن ما أُوحي إليه هو كلام لا كسائر الكلام، وأنه فعلاً مُعجِز، وأنه حق من لدن الحق – لا إله إلا هو -، ولكنهم أبوا وجحدوا، مثل قوم فرعون، لما جاءتهم آيات مبصرة ظلموا بها، الله يقول أنكروها – والعياذ بالله -، وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ۩، قال فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا ۩… ماذا؟ هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ۩ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ۩… هذه هي! إذن الجحد، في مُقابِل ماذا؟ اليقين، الاستيقان، هم مُوقِنون في نفوسهم أن هذه آيات من عند الله، وأن موسى رسول صادق من عند الله ومُؤيَّد بتأييد الله – تبارك وتعالى -، لكنهم قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ۩ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ۩.

فهذا من أسباب الفساد والإفساد في الأرض، أن الإنسان لا يصدع بالحقيقة التي يُوقِن قلبه بها، يُنكِر – والعياذ بالله – ويُظهِر عكس ما يعتقد، فيعم الفساد في الأرض، يعم الفساد في الأرض وتضيع الحقيقة، وخاصة – إخواني وأخواتي – أن مُعظَم الناس على الإطلاق في كل المِلل وفي كل الأمم وفي كل أين وآن وفي كل عصر وزمان ومكان، مُعظَم الناس مُقلِّدون، يُقلِّد بعضهم بعضاً، والناس مجبورون على هذا تقريباً، أو هي الثقافات السائدة، فالذين يعرفون الحق بالدليل قلة، الذين يعرفون الحق بدليله قلة من البشر، وهؤلاء – سُبحان الله – وضعهم غريب وعجيب، مَن صدق منهم شكَّل ومثَّل وجسَّد قوة هائلة جبّارة، وقد يكون فرداً برأسه، بحيال جماهير أو جماعات أو سُلطات أو جهات مُعيَّنة قوية ومُنظَّمة، لكنه يأبى أن يتنازل، ويأبى إلا أن يصدع بالحق، وأن يشهد بالحق، وأن يقوم به، شيئ غريب! قوة هائلة، لكن في المُقابِل تخيَّلوا – إخواني وأخواتي – الآتي، ومن هنا طبعاً يُبتلى، مثل هذا الشخص يُبتلى بالترغيب وبالترهيب وتُعرَض عليه أشياء كثيرة، مناصب وأموال وجوائز، لكنه يأبى، يأبى أن يُضحي بالحق الذي عرفه، يتعبَّد الله – تبارك وتعالى – بصدقه مع ضميره ومع قناعته، ومن هنا تأثير هؤلاء الناس، الذين قد يكونون من آحاد الناس وضعافاً من جهة التنفذ والسُلطة والمال، أُناس عاديين جداً جداً، بل أقل من عاديين في نظر الناس، لكن هؤلاء قد يُغيِّرون مسار التاريخ أو مسار الجماعة أو مسار الأمة أو مسار الشعب، شيئ غريب، قوة! هذه قوة الحق – إخواني وأخواتي -، هذه قوة الحق!

لكن تخيَّلوا – مثلاً – أن سُلطة تُريد أن تُغري كل مَن لا يرضى عنها، لكن من ماذا؟ من الطغام، من عوام الناس الذين لم يعرفوا الحق بدليله، ولا هم مُلتزِمون بقضية الحقيقة، لا يُمكِن أن تكفيهم أو تكفيها – أي تكفي هذه السُلطات – كل أموال الدنيا، هل تعرفون لماذا؟ لأن مُعظَم الناس يقبل هذا، مُعظَم الناس! خُذ مَن شئت هكذا، لا على التعيين، وقل له تشهد بكذا وكذا وتُقِر بكذا وكذا، وسنُعطيك – مثلاً – مليون دولار، فسيقول نعم، مُعظَم الناس يفعل هذا، يتمنى هذا، وسيشهد بكل ما تُريد، ويُقِر بكل ما تُريد، ولكن أين هي الأموال التي تسع هؤلاء الأوغاد – حاشاكم إخواني وأخواتي -؟ أين هي الأموال التي تسع كل هؤلاء الأوغاد وكل هؤلاء الصغار الأدنياء؟

ولذلك السُلطات دائماً لا تُبالي هؤلاء بالاً، لا تُعنى بهم، إنما تُعنى بأصحاب الشخصيات القوية، المُلتزِمين بالحقيقة وبقول الحقيقة، بعد اكتشافها بالدليل، هؤلاء يرمون بها في وجوه كل سُلطة، في وجوه كل طغيان، وفي وجوه كل جبروت، دون أن يلووا على شيئ، ولا يُمكِن أن يُستنزَلوا عن موقفهم، وعن مجدهم هذا، مجد الحقيقة! لا بترغيب، ولا بترهيب، لكنهم قلة، كثَّرهم الله في أمتنا وفي كل أمة.

نأتي الآن – إخواني – إلى كفر آخر عرض له القرآن الكريم، إنه كفر الإعراض، ما معنى كفر الإعراض؟ هو كفر الإعراض أو كفر الصد، هو كفر الصد أيضاً، لأن فعل صد يأتي لازماً ويأتي مُتعدياً، ونُريد هنا المعنى اللازم له، أي حين يكون لازماً، ما معنى لازماً؟ أي لا يتعدى إلى مفعول، كأنه يلتزم فقط فاعله، فقط! فنقول صد فلان عن آيات الله، بمعنى أعرض عنها، لم يُقبِل عليها، أباها، هذا معنى صد فلان، هذا لازم، هذا فعل لازم! لكن يختلف الأمر في صد فلان فلاناً عن آيات الله، هذا فعل – نفس الفعل – مُتعدٍ، فعل مُتعدٍ! صد الرجل صاحبه عن آيات الله، أي جعله يُعرِض عنها، أغراه بالإعراض عنها، كرهه فيها، أي في آيات الله – تبارك وتعالى -، فهذا كفر الصد وكفر الإعراض، والآيات حوله في كتاب الله كثيرة، يُعرِضون!

مُنذ البداية هو لا يُريد أن يطلع على ما عندك، لا يُريد أن يسمع آيات الله – تبارك وتعالى -، ويهرب منها، يستغشي ثيابه، ويجعل أصابعه – أي أنامله طبعاً – في أُذنيه، ويولي مُدبِراً، وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ۩، أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ۩، يضرب ليتاً ويلوي، ثم يُدبِر مُباشَرةً، والآيات كثيرة في تأكيد هذا المعنى، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ۩، ما معنى وَالْغَوْا فِيهِ ۩؟ حتى حين يتلوه محمد أو أحد أصحاب محمد أنتم فلتتعال أصواتكم بأي شيئ آخر، لتهوشوا عليه ولتشغبوا عليه، وَالْغَوْا فِيهِ ۩، لا نُريد أن نسمعه، ولا نُريد لغيرنا من الناس أن يسمعوه أيضاً، فهؤلاء صدوا في أنفسهم، وصدوا غيرهم عن آيات الله، وقد يجتمعان، ويندر أن تجد مَن يصد عن آيات الله في نفسه إلا وهو يُغري الناس بالصد عنها، كما قال – تبارك وتعالى من قائل – وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ۩، قال وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ۩، ما معنى هذا؟ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ۩ أي يصدون غيرهم عنه، وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ۩ أي في أنفسهم، يبتعدون ويصدون هم في خاصة أنفسهم عنه، أي عن الحق الإلهي، إذن يجتمعان.

كونوا معنا أحبتي بعد هذا الفاصل، بارك الله فيكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

يا أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي.

إذن كفر الإعراض أو كفر الصد، إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ ۩، قال الصُّمَّ ۩، والأصم هو الأطروش، حين يكونون لا يسمعون، هل تستطيع أن تدعوهم؟ لا يسمعون هذا الدعاء، إذن هما مفعولان، وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ ۩، هذا مفعول به أول، الدُّعَاءَ ۩، مفعول به ثانٍ، إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ۩، هم صُم ومع ذلك أيضاً يولون مُدبِرين، بلاغة قرآنية عجيبة! صم ومع ذلك يولون مُدبِرين، لا يُحِبون أن يعطوا أنفسهم فُرصة – فُرصة صغيرة – لكي يستمعوا.

النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان دائماً ما يُكرِّر في المرحلة المكية، يُكرِّر عليهم أنه لا يُريد أكثر من أن يُخلوا بينه وبين الناس، أعطوني فُرصة فقط لكي أُبلِّغكم ما عندي، اسمعوا مني، ثم أنتم بعد ذلك بالخيار، إن شئتم أخذتم، وإن شئتم تركتم، ولكنهم أبوا عليه حتى هذه الفُرصة – عليه الصلاة وأفضل السلام -، هذه هي!

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ۩، الإعراض هو هذا، الإعراض! يصد في نفسه، يُعرِض، ينأى، يولي، يُدبِر – والعياذ بالله -، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ۩، إنه كفر الإعراض، شيئ غريب! هذا الكفر عجيب، وطبعاً واضح أن هذا الكفر يتخلل في مُعظَم الحالات وجوه الكفر الأُخرى، أي هل المُنافِق حريص على أن يسمع كلام الله دائماً؟ أبداً، بالعكس! المُنافِق في مُعظَم الأحوال والأوقات حريص على ألا يسمع، فهو ينأى بنفسه ويُعرِض، لا يُتيتح لنفسه هذه الفُرصة، لكن ليس في كل الحالات، في حالات مُعيَّنة يأتي ويستمع، لكن المُعرِض كما نقول يأخذ الطريق من قصير، لا يُريد أن يُعرِّض نفسه لخطر أن يستمع إلى الحق، أو إلى هذا الشيئ الذي لا يزال على الأقل في تقديره وفي وهمه في قيد البحث، هو حق أو باطل؟ لا يُريد أن يعرف، وربما زعم أنه باطل دون أن يستمع إليه، دون أن يستمع إليه! أي هذا شيئ غريب، أي الإنسان كأنه فعلاً عدو نفسه، الإنسان عدو نفسه! لا يُريد أن يُمتِّعها بفُرصة أن تختبر هذا الشيئ، هو راضٍ بما هو عليه، لماذا؟!

لذلك لابد أن نُحاوِل أن نتلمَّس أو نلتمس بعض الأسباب النفسية لهذه الحالة الغريبة جداً، لا تليق بالإنسان، لا تليق بالإنسان المُفكِّر والكائن الناطق العاقل، أن يحرم نفسه هذه الفُرصة، ونفس الشيئ مع الكافر الجاحد، بالحري أنه في مُعظَم الحالات لا يُعطي نفسه فُرصة أن يسمع، ولو لمزيد سماع، إنه عرف وجحد، لماذا يُعرِّض نفسه لهذا الشيئ؟ فيُعرِض بعد ذلك، يُعرِض بعد ذلك، وإن كان أساس كفره ليس الإعراض، وإنما الجحد، وهذا هو الفرق، لكن هنا هذه الحالة أساس الكفر فيها الإعراض والنأي والصد، هذا الذي يُفرِّق بين هاته الحالات المُتداخِلة أحياناً.

لكن لماذا يُعرِض الكافر؟ لماذا يُعرِض المرء عن الحق، أن يسمعه، أن يتملاه، وأن يتأمله؟ قطعاً هناك جُملة أسباب نفسية، ليست معرفية، ليست عقلية، وليست علمية، مُستحيل أن تكون علمية أو معرفية، هذه بالضبط – إخواني – عكس وعلى الضدد تماماً من وعلى طبيعة المعرفة العلمية، طبيعة المعرفة العلمية بل طبيعة المعرفة عموماً أنها جسورة، شجاعة، تتخلل الأشياء كالنور، تُريد أن تستطلع كل شيئ، وتتقصى كل شيئ، لكن هذا لا يُريد، لا يُريد أن يطلع من الأصل، إذن ليس السبب معرفياً، السبب ماذا؟ سبب نفسي، سبب مِزاجي، السبب نفسي!

في رأس هذه الأسباب الخوف – إخواني وأخواتي -، من ماذا؟ من سطوة الحق، من قوة ومن جاذبية البُرهان والدليل، يخاف هو! يخاف أن يستمع، فيسطو به الحق، يغلبه الحق، يظهر عليه بدليله وحُجته، فماذا في ذلك؟ الأفضل أن يتبع الحق، لا! هو يعلم أنه إن اتبع هذا الحق فإنه سيفقد مصالحه، ولذلك من وراء هذا السبب أسباب أُخر، أي أسباب أُخرى، في مُعظَمها – إن لم تكن كلها – أسباب مصلحية، منافعية، لأنه يعلم أنه إن اتبع هذا الحق وصدع به فإنه سيفقد مصالحه، سيفقد منافعه، لن يستطيع أن يُحصِّلها، سيفسد معاشه ربما – إخواني وأخواتي -، خاصة في مُجتمَع يتظاهر ضد هذا الحق وضد هذه الحقيقة، وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ۩ – مثلاً -، لا يُريدون! وهم قد نعتوه بالهُدى، هم أدركوا أن ما أتى به محمد هو هدى، لكن قالوا إذا اتبعنا هذا الهُدى نتخطف من أرضنا، يتألَّب علينا الناس، يرموننا عن قوس واحدة، كوننا خالفنا عقائدهم ودينهم الوثني الشركي هذا، مثلاً!

هناك المصالح، الحيثيات، الاعتبار، والسُمعة، ماذا سيُقال عني بين الناس؟ ماذا سيُقال عني بين أصدقائي وبين معارفي؟ إذن لا أُريد، لا أُريد! إذن هذا هو السبب النفسي الأول، السبب الثاني أنه مُستغرَق في أمور أُخرى، فالدين ليس ضمن أولوياته، ولذلك هو يُعرِض مُنذ البداية، غير مُهتَم بالقضية الدينية، غير مُهتَم بالقضية الروحية، لكن هو يجري جرياً ويعدو عدواً إلى أصغر صفقة، يكسب فيها بضعة ألوف – مثلاً – من الدنانير أو الدولارات أو كذا، يجري مُباشَرةً، لا يتقاعس، ولا يتقاعد عنها، لكن الأمور الروحية الدينية ليست ضمن أولوياته، ليست ضمن اهتماماته، ولذلك يُعرِض عنها، أبداً! غير مُعتنٍ بها.

والقرآن الكريم أشار إلى هذه الحقيقة بطريقة عجيبة وغريبة جداً، في قوله – تبارك وتعالى – من سورة النمل بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ۩، وهذه الآية حيَّرت المُفسِّرين، كما لاحظ العلّامة المُفسِّر الشيخ الطاهر بن عاشور – رحمة الله تعالى عليه -، حيَّرتهم وقالوا فيها أقوالاً كثيرة، عجيبة وغريبة وغامضة، مُثقَلة بالتكلف! ما معنى بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ۩؟ قال بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ۩، ولا نُريد أن نعرض لما قاله مُعظَم المُفسِّرين، أُريد فقط أن أعرض عليكم – إخواني واخواتي – ما أنا مُرتاح إليه ومُقتنِع به، ادَّارَكَ ۩ هنا طبعاً صرفياً من تدارك، بل تدارك علمهم في الآخرة، وطبعاً هذا قد يكون بمعنى تلاحق، قد يكون بمعنى تلاحق، أي لحق بعضه بعضاً، ومنه أدرك، فلان أدرك فلاناً – مثلاً -، أدركه، لحقه! إذن بمعنى تلاحق، وبعد ذلك يكون المعنى – والله أعلم – تلاحق علمهم بحيث أن الخلف قلَّدوا فيه السلف، من غير بصيرة فيه، أي من غير بصيرة في هذا العلم.

ماذا ظنوا في الآخرة؟ هم ظنوا كما ظن أسلافهم، من غير تحقيق، من غير تأمل، ومن غير بصيرة، لحق فيه الخلف السلف، هذا رأي ولا بأس، لكن أحسن منه أن ادَّارَكَ ۩  هنا – كما قلنا لكم – ومعناها تتابع وتلاحق من ماذا؟ من الآتي، كأنه تشبيه، فيُصبِح مجازاً، كأنه تشبيه بأن يُدرِك بعض الشيئ بعضه، يلحق بعضه بعضاً، حتى بعد ذلك لا يبقى منه شيئ، تماماً كعقد انفرط نظامه أو قُطِع نظامه، فتلاحقت حباته، يلحق بعضها بعضاً، حتى لا تبقى منها حبة واحدة في النظام.

ما المقصود إذن؟ المقصود كما قال بعض المُفسِّرين – رحمة الله عليهم جميعاً -، المقصود أن علمهم فنيَ، فلم يبق لديهم من العلم شيئ يُعتَد به بصدد الآخرة، أي لم يولوا هذه المسألة شيئاً من وقتهم طائلاً، لم يهتموا بها، لم يدرسوها، لم يتأملوها، ولم يتعمقوها، في حين أنهم أنفقوا سنوات ثمينة من أعمارهم في تحصيل الأموال وتحصيل اللذائذ والمُشتهيات والمُقتنيات وأعراض الدنيا، لكن قضايا الآخرة وقضايا الغيب والإيمان وكذا غير مُهِمة، فيصير هذا معنى الآية،  بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ۩، ونظام الآية عجيب، هذه الآية عجيبة جداً من سورة النمل، بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ۩، إذن هم يُعرِضون لأنهم غير مُهتَمين، وهذا السبب الثاني، الدين ليس ضمن أولوياتهم، لديهم أولويات، رتَّبوها ربما في جدول مُعيَّن، والدين ليس من ضمن هذه الأولويات على الإطلاق أصلاً، وهكذا!

نأتي الآن – إخواني وأخواتي – وفاءً بما ذكرت لكم لنتحدَّث عن كفر الإلحاد في القرآن الكريم، ليس الإلحاد بالمعنى المُعاصِر، وهو إنكار وجود اذلات الإلهية، وإنما الإلحاد كما يعرضه القرآن الكريم، وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۩، يُسميه كفر الإلحاد، قرآنياً! ما معنى كفر الإلحاد؟ بعبارة مُعاصِرة – إخواني وأخواتي – يُمكِن أن نقول إن كفر الإلحاد في كتاب الله – تبارك وتعالى – يعني النزعة التخفيضية الاختزالية لمفهوم الله – تبارك وتعالى -، أو لمفهوم الإله بالمُطلَق، هكذا! ما معنى النزعة التخفيضية الاختزالية؟

طبعاً – إخواني وأخواتي – حتى أُوضِّح وأُبسِّط أقول لا أحد يمتلك أو يستطيع أن يتعاطى ويتعامل مع الله – تبارك وتعالى – كذات، الله ذات، لا كالذوات، لا إله إلا هو! كيف؟ وهو الذي لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۩، وهو الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ۩، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ۩، انتهى! كل طماعية مُنقطِعة في هذا الباب، أن نتعامل مع الله كذات مُستحيل، لكن نحن نتعامل معه – لا إله إلا هو – كمفهوم، مفهوم! أي Concept، هذا المفهوم تتنازعه الأساطير، تتنازعه الأساطير، الأديان الوثنية، الأديان الشركية، والأديان الحلولية، تتنازعه المفاهيم الفلسفية أو المُحاوَلات الفلسفية للتعاطي مع هذا المفهوم، وفي نظرنا كمُؤمِنين وكمِليين وتنفرد الكُتب الإلهية والأديان الوحيانية – إن جاز التعبير – بتقديم المفهوم السليم والصحيح اللائق بالله – تبارك وتعالى -، مَن الذي يُقدِّمه؟ الله نفسه، لا إله إلا هو! هذا هو.

هنا خصوصية الدين الوحياني، هنا يفترق النبي عن أي فيلسوف، هنا يفترق الكتاب الإلهي عن كل الأساطير، عن كل الفلسفات، وعن كل التأمليات والاستبصارات بخصوص القضية الإلهية، الله – تبارك وتعالى – هو الذي يُقرِّب ويُقدِّم لنا صورة مفهومية عنه – لا إله إلا هو -، هو هذا! أما الصور الأُخرى والمُحاوَلات الأُخرى فكلها من عند آخرها تقترب وتبتعد، المُشكِلة أن مفهوم الإله أو مفهوم الله – تبارك وتعالى – مفهوم حسّاس جداً، هذا مفهوم حسّاس جداً وهو مفهوم مُركَّب أيضاً، وفيه اعتماد مُتبادَل، كل شيئ فيه مُتعلِّق بكل شيئ، ومن هنا لا يكفي أن تقول أنا أُؤمِن بوجود الذات الإلهية، أنا أُؤمِن بأن الله خلق – مثلاً – ورزق واعتنى، لا! لابد أن تُؤمِن بكل أسماء الله وصفاته، لا إله إلا هو! لأن بعضها يعتمد على بعض، وبعضها يُفسَّر ببعض، وتعمل سويةً.

مفهوم الله في الاعتقاد المِلي أو في اعتقاد المُوحِّدين هو هذا، هذا جُملة وتفاصيل، لا تستطيع أن تأخذ بعضه وتترك بعضه، ممنوع! بحسب منطق القرآن العظيم أنت لا يُسمَح لك أن تُفرِّق حتى بين أنبياء الله – تبارك وتعالى – فتقول أنا أُؤمِن بهذا وأكفر بهذا، بما أنهم جميعاً من عند الله – تبارك وتعالى – ممنوع عليك أن تكفر بواحد منهم، كما قال – عز من قائل – في سورة النساء إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ۩، فكيف إذن؟ فسَّرها بقوله وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ۩، كيف نُفرِّق بين الله ورُسله؟ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ۩، فسَّرها! وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ۩ أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا – والعياذ بالله – وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ۩، شيئ مُخيف جداً، لماذا؟ لأنهم جميعاً من عند الله، لا تستطيع أن تُفرِّق، فكيف بصفات الله وأسمائه؟ كيف تُؤمِن ببعضها وتكفر ببعضها؟ كيف تُوافِق على بعضها وتُكذِّب ببعض؟ لا يجوز، هذا كفر، هذا إلحاد، القرآن يقول هذا إلحاد، حتى الإيمان من حيث الأصل بالبعض ثم تحريف مفهومها – أي مفهوم هذه الصفة أو مفهوم هذا الاسم – يُعتبَر إلحاداً بنص كتاب الله – تبارك وتعالى -، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۩.

لذلك – إخواني وأخواتي – للأسف المفهوم الإلهي أو مفهوم الله أو مفهوم الإله عبر التاريخ كان ولا يزال للأسف الشديد يتعرَّض لمُحاوَلات تشويهية، مُحاوَلات اختزالية تخفيضية، بلُغة القرآن الكريم إلحادية، مُحاوَلات إلحادية تخفيضية، فالعرب – مثلاً – كانوا إذا سُئلوا مَن الذي خلقكم؟ قالوا الله، كانوا يعترفون مُباشَرةً، أي العرب الوثنيون، كفّار الجزيرة العربية، كانوا إذا سُئلوا مَن الذي خلق السماوات والأرض؟ قالوا الله، إذا سُئلوا مَن كذا… ومَن كذا… قالوا الله، ولكن خفَّضوا مفهوم الله – تبارك وتعالى – أو مفهوم الإله، بحيث صار شيئاً أكبر من أصنامهم وأعظم من أصنامهم، ولكن ليس بالمُطلَق، لماذا؟ لأن هاته الأصنام وتلكم الأوثان كان تشركه، أي تُشارِكه، في ماذا؟ في العناية بتدبير الخلق، في العناية بإدارة الكون، شيئ غريب! هل الأصنام والأوثان تفعل هذا؟ إذن ما هذا الإله الذي يحتاج إلى أوثان وأصنام لكي تشركه ولكي تُعينه في تدبير خلقه والعناية بهم؟ هذا يعني أن هذا الإله ضعيف جداً طبعاً، وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ۩.

أكثر من هذا أنهم نسبوا إليه الولد، وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۩، وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ۩، قالوا هذه بنات الله، أستغفر الله العظيم، عجيب جداً! فهذا ليس الله الذي يعرفه المُؤمِن المُوحِّد، صحيح العقيدة، وسليم التصور والفهم لمفهوم الله الذي يعرضه الكتاب المُقدَّس وهو القرآن العظيم – مثلاً -، فهؤلاء لا يعرفون هذا، وخفَّضوه!

ما الذي حصل بهذا التخفيض – إخواني وأخواتي -؟ الذي حصل بفعل هذا التخفيض أنهم بعد ذلك أنكروا قدرة الله على البعث والنشور، قالوا لا، هو موجود، وخلق، ويُدبِّر مع هذه المُدبِّرات، هذه المُدبِّرات من الأصنام والأوثان كلها تشركه وتُعينه، لكن هو أعجز من أن يُعيدنا مرةً أُخرى إذا هلكنا وفنينا، أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۩، يستبعدون هذا، يستبعدون جداً! هل هذا مُمكِن؟ نحن ذُبنا، ضَلَلْنَا ۩، ذُبنا، انتهينا في الأرض، وتفرَّقنا، من أين له أن يقدر على أن يُعيدنا؟ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ۩، استبعد هذا، قال هذا مُستبعَد جداً، مُستحيل – قال هذا الكافر اللعين -، مُستحيل أن يُحيي العظام وهي رميم.

هل تعرفون لماذا؟ فعلاً هذه نتيجة منطقية للمُنطلَقات السخيفة غير المنطقية وغير المعقولة التي بدأوا بها، وهي المُنطلَقات التخفيضية لمفهوم الله، حيث خفَّضوا مفهوم الله، لم يستطيعوا – إخواني وأخواتي – وربما لم يُحاوِلو أن يتعاطوا مع مفهوم الله كما هو، على أنه كُلي القدرة، كُلي العلم، وكُلي المشيئة، لم يستطيعوا أن يفهموا هذا، لا! أرادوا أن يُخفِّضوه، وهذه أمراض الديانات للأسف الشديد، أمراض الديانات! ولذلك يبدأون بالتوحيد، وينتهون بالتعديد، يبدأون بالتوحيد! كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ۩، أي على توحيد الله – تبارك وتعالى-، قال الحسن البِصري فاختلفوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۩، هكذا! بدأوا بالتوحيد، وانتهوا إلى التعديد، بهذه النزعة الأنثروبومورفية، النزعة الأنسنية، أي هم يرون أن الله أعظم منهم بقليل، إنسان كبير عظيم، فقط! فيمدون صفاتهم لتكون هي صفات الله، لا! بالعكس، فرق كبير بين الثرى أو بين التراب وبين رب الأرباب، أين التراب من رب الأرباب؟! أين الإنسان من رب الإنسان يا إخواني؟! فهذه نزعة تخفيضية، وطبعاً هذه النزعة التخفيضية – كما قلت – انتهت بهم إلى أن يُنكِروا قدرة الله على البعث والنشور، فكفروا بهذا، كفروا كفرة صلعاء شنعاء – والعياذ بالله -.

إخواني وأخواتي:

فرق كبير بين الذي يُكيِّف طريقة فهمه وحتى طريقة سلوكه وعيشه في الحياة بل يُكيِّف نفسه وشروطه لكي تتلاءم بــ وتتسق مع وتتناغم مع المفهوم الديني لله – تبارك وتعالى – والمفهوم الإيماني بشكل عام، وهنا يُصبِح الدين ماذا؟ تدبيراً، هنا يُصبِح الدين قوة هائلة، يستطيع أن يُثبِت بها الإنسان قدرته على الانتصار على نفسه، على شهواته، لى غضبه، على مصالحه، على اعتباراته وحيثياته الذاتية، وعلى كل الهشاشة البشرية، بالإيمان يا إخواني، لماذا؟ لأنه أصبح إيمان تدبير، وبين الذي يُكيِّف مفهوم الله ومفهوم الإيمان بعامة، لكي ماذا؟ يُكيِّفه مع ماذا؟ يُكيِّفه مع شروطه هو، الإيمان يتكيَّف مع شروطه، شيئ غريب! هنا يُمسَخ مفهوم الله – تبارك وتعالى -، ويُمسَخ مفهوم النبوة، ومفهوم الدين، ومفهوم الشرع الإلهي، تفسد الحياة!

وهذا الذي يُفسِّر لنا كيف يُمكِن باسم الدين أن تُرتكَب الجرائم والفظاعات والقتل والاعتداء على الناس، يتم الاعتداء على الناس أولاً، وفي البداية على المُخالِفين لنا في الدين والمُخالِفين لنا في الاعتقاد، لكن تالياً وبعد ذلك حتى على إخوتنا في الدين وإخوتنا في المُعتقَد وإخواننا في الوطن، نذبحهم ونقتلهم وباسم الدين! هل تعرفون لماذا؟ لأن هذا دين تبرير، وليس دين تدبير، لم يُؤخَذ مُنذ البداية بهذه الطريقة التي شرحت لكم، أن نُكيِّف أنفسنا وشروطنا وظروفنا لكي تتلاءم وتتناغم مع الشرط الديني، مع المفهوم الديني، أبداً! نحن كيَّفنا المفهوم الديني لكي يتناغم معنا.

الكوميديان الأمريكي الشهير إيمو فيليبس Emo Philips قال مرةً حين كنت صغيراً دعوت الله أن يمنحني درّاجة – أي Bicycle، درّاجة هوائية -، ثم سرعان ما أدركت أن الأمور لا تُدار بهذه الطريقة، فسرقت الدرّاجة، ثم سألته أن يغفر لي! تماماً هذا الكوميديان ضرب لنا مثلاً كيف يُمكِن أن يُقلَب الدين إلى تبرير لخطيئة الإنسان، تبرير وتسويغ لجرائم الإنسان، بهذه الطريقة!

اتفق لأحدهم قبل فترة يسيرة – إخواني وأخواتي – أن جاءته فواتير باهظة أثقلته من شركة الهاتف المحمول، بطريقة أو بأُخرى هو علم أنهم تقريباً سرقوه بطريقة قانونية، فلا يستطيع فعل أي شيئ، حتى لو عرف قضية في المحكمة هو سيخسرها، شركة كبيرة! لديها عشرات المُحامين وكبار المُحامين، وتقريباً هو ربما كان مُغفَّلاً، لكن هي سرقة مُقنَّعة، سرقة مُقنَّعة وباسم القانون، فغضب! وفي حال كان غضبان جعل يدعو، انطلق يدعو، اللهم دمِّرهم، اللهم أخسِرهم ولا تُبرِحهم، اللهم… اللهم… اللهم… لكنه لما كان يتساءل دائماً ويُفتِّش نفسه ويلومها عاد إلى نفسه، ليُدرِك أنه بأدعيته هذه كان يُسيء الأدب مع الله – تبارك وتعالى -، كيف؟ إنسان ظُلِم، سُرِق بطريقة مُقنَّعة، من شركة تمتلك المليارات، وهو لا يمتلك – أي هذا المسكين – شيئاً بالنسبة إليها، وأثقلته بهذه الفواتير، لماذا أساء الأدب؟!

علم أن الله الذي يدعوه بهذه الدعوات لا يُمكِن أن يكون هو الله كما تعرَّف إلينا في كتابه الكريم، هذه الدعوات ترجمت وعكست صورة مفهومية عنده لله – تبارك وتعالى – فيها اختلال، فيها كبير اختلال! كيف؟ تنبَّهوا معي، هذه نُقطة مُهِمة جداً، وربما تكون أهم شيئ حتى في حلقة اليوم، أين الاختلال في هذه الصورة المفهومية؟ أين الإلحاد؟ قرآنياً يُوجَد إلحاد في هذه الصورة.

قال لنفسه هذه الشركة عملاقة، تُوظِّف ألوف – إن لم يكن عشرات ألوف – المُوظَّفين في أكثر من دولة، فيها عمّال ومُوظَّفون بالألوف، كل واحد منهم أو مُعظَمهم يُعيلون أسراً، إذن هذه الشركة تُساهِم في فتح عشرات ألوف البيوت، وعيالة عشرات ألوف الأسر، خير كثير يلحق الناس من جرائها! ثم وجد نفسه مُشترِكاً فيها من بضع سنين، لأول مرة يحدث هذا الشيئ، إذن قد يكون حدث بطريق الخطأ، يا سيدي في أسوأ الظروف قد يكون حدث على سبيل الاختلاس المُقنَّع، اختدعوه! اهتبلوا فُرصة غفلته، لم يأخذ ببعض الإجراءات وببعض التحوطات، المُهِم استطاعوا أن ينهبوا منه هذا المبلغ، لنفترض في أسوأ التقديرات أن هذا هو الذي حصل، فهل هذا يُسوِّغ لك أن تدعو الله – تبارك وتعالى – بأن يُدمِّر هذه الشركة رأساً على عقب من عند آخرها وأن يُحرَم عشرات ألوف الناس من أرزاقهم ومن معائشهم لأجل انك غضبان؟!

ثم قال لنفسه يا لله! لو أن الله – تبارك وتعالى – عاملني أنا على هذا النحو لهلكت مُنذ أمد بعيد، كيف؟ الإنسان فينا – أحبابي، إخواني وأخواتي – قد يُحسِن عشرين أو ثلاثين سنة، ثم مرةً – مرةً، في يوم من الأيام – يُسيء وعن تعمد، يغلبه ضعفه البشري، فيُسيء إلى بعض الناس، يظلمه ربما في عرضه، أي يتكلَّم عليه ويغتابه، يظلمه شيئاً ربما من حقه المادي أو المالي، وهذا شيئ فظيع عند الله – تبارك وتعالى -، لكن هذه خطيئة، بعد عشرين أو ثلاثين سنة من الإحسان، فلو أن هذا الذي ظُلِم وأُسيء إليه رفع يديه وجعل يبتهل إلى الله – تبارك وتعالى – بأن يُدمِّره وأن يُلحِق به العار والشنار وأن يُصيِّره إلى النار وأن يفعل به ويفعل ويفعل واستجاب الله – تبارك وتعالى – تُرون هل كان هذا الرجل سينظر إلى الله – عز وجل – في هذه الحالة على أنه رب عادل رحيم؟ أبداً، كان سيشك، مثلاً لو اطلع على الغيب وتحصَّلت له هذه الصورة للموضوع كله وهذا المشهد الغيبي العجيب، لكن الله ليس كذلك، لا إله إلا هو!

ولذلك يا إخواني حتى حين ندعوه ينبغي أن نكون مُحاذِرين وحذرين جداً حتى نهاية الشوط من أن نُسيء الأدب معه، لا إله إلا هو! إياك أن تظلم أو تتجاوز ثم تدعو بعد ذلك على مَن ظلمت، هذه إساءة أدب مع الله – تبارك وتعالى -، أي عليك أن تتخيَّل وعليك أن تتصوَّر أن الله – تبارك وتعالى – يُخاطِبك، يقول لك يا عبدي أهكذا تُؤمِن بي؟ هل أنا ذاك الإله الظالم الذي ينصر الظالم على مظلومه؟ أوتدعوني وأنت ظالم؟ هذه قلة أدب مع الله – تبارك وتعالى -.

هذه الأشياء نتورَّط نحن في مئات من التنويعات عليها، السبب الرئيس والجذر الأساسي هل تعرفون ما هو؟ هو اختلال المفهوم، اختلال مفهوم الله في أذهاننا، لا نتعامل معه وفق ما ينبغي له من تقديس وإجلال، بحسب ما تعرَّف علينا في كتابه الكريم.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يهدينا سواء السبيل، وأن يجعلنا من عباده الصادقين.

وإلى أن ألقاكم في حلقة أُخرى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

 

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: