إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِوَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

لَقَد تَّابَ اللَّه عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ۩ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ۩ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ۩ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

ثمة تمثُّل غالط للدين العظيم واختزالٌ – إن جاز للتعبير – مُضاعَف حين يُختزَل كتاب الله الأجل والمُشتمِل على زُهاء ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية في آيات التشريع والتقنين فقط والتي تُناهِز المائتين أو المائتين والخمسين آية في أشهر تقديرات علماء الأصول والاجتهاد، فهذا اختزالٌ مريب وهذا اختزالٌ مثيرٌ للنظر ولافت أيها الإخوة.
تمثُّل المُعاصِر وربما من قرون طويلة للإسلام يعتمد المنظور التشريعي، لذلك أكثر علماء الدين شيوعاً وذيوعاً ونجاحاً في المضمار الإسلامي هم الفقهاء الذين يُفتون في التشريعات وفي الحلال والحرام، فأين العقيدة؟ أين الأخلاق والمُعامَلات؟

سائر آيات كتاب الله – تبارك وتعالى – تدور على توطيد أركان الاعتقاد وتشييد بنائه، وعلى مُناشَدة الضمير الصاحي الحي اليقظان على تربية الأخلاق، فرسالة الدين العتيدة والرئيسة والأساسية هى تربية ضمير صاحٍ، لأن الدين يُرهاِن دائماً على الأخلاق وعلى الضمير وعلى الالتزام الذاتي كما يُقال، فطبيعة القانون غير طبيعة الدين، هل الدين فيه جانب قانوني؟ فيه، ولكن كم شغل من كتاب الله؟ زُهاء مائتي آية، فأين ذهبت سائر الآيات؟ أين الستة آلاف آية المُتبقية إذا قلنا بوجود مائتان وست وثلاثون آية في الجانب القانوني على الرغم من أنهم قالوا مائتان وقالوا مائتان وخمسون آية فقط؟

إذن ستة آلاف آية مُعطَّلة في تمثُّل المسلم للدين، أي التمثَّل القانوني والتمثُّل التشريعي الذي يتعلَّق بالحلال والحرام واللازم وغير اللازم، لكن طبيعة القانون تختلف عن طبيعة الدين بما هو دين، وهذه المسألة فيها تشويش وترنيق، وليس فيها وضوح وليس فيها شفافية، فالقانون مدعوٌ أصالةً إلى رسم الحدود الفاصلة بين مسائله التي يتعاطاها تحت طائلة المُساءلة، ومن ثم يقول هذا جائز وهذا غير جائز تحت طائلة المُساءلة، وهناك القانون حتى الجنائي، والمُساءلة قد تصل إلى حد الإعدام أو السجن أو الغرامات المُبهِظة الثقيلة، فهذا هو القانون طبيعته، والكتاب الأجل – كتاب الله الكريم سبحانه وتعالى – حتى في تنظيمه لشؤون العبادة لم يفعل ذلك بطريقة قانونية، علماً بأنني أتحدَّث عن القرآن العظيم الآن ولا أتحدَّث عما يُنسَب إلى النبي لأن الله أدرى بحاله، لكن أنا دستوري العتيد الذي ينبغي أن أنطلق منه وأن أُعيِّر كل شيئٍ إليه وبه هو القرآن العظيم، وهذه ليست طبعاً دعوة إلى التشكيك في السُنة ولا إلى إنكارها، ولكنها دعوة إلى إعمال النظر جيداً فيما يُنسَب إلى رسول الله، لأن أحياناً يُغبِّش ويُوشوِّش ويُرنِّق حتى على طبيعة الدين وعلى رسالة الدين نفسه، فتضيع هذه الرسالة وتختفي وتضل سبيلها إلى القلوب وإلى العقول وإلى السلوكات.

القرآن العظيم حتى حين ذهب يُنظِّم شؤون العبادة لم يُنظِّمها بطريقة قانونية البتة طبعاً، لكن أين المُساءلة؟ لا تُوجَد أي مُساءلة، فلا يُمكِن أن يُقال لك أبداً عليك أن تُصلي وإلا جزاؤك كذا كذا كذا في الدنيا أو عليك أن تحج وإلا يُرتَّب عليك عقاب كذا كذا، لكن القرآن نظَّم هذه الشؤون العبادة مُناشِداً ضمير الفرد ووجدانه، وإلا ما الفائدة من العبادة إذا كانت تحت طائلة المُساءلة والمُعاقَبة؟ هذا كلام فارغ لأنها سوف تُنبِت مُنافِقين وسوف تُنبِت أناساً روَّاغين دجَّالين يحذقون تماماً الالتفاف على الدين .

يوم ينحط المرء من رُتبة تمثُّل الدين كرسالةً أخلاقية وتجربةً روحية على المُستوى الفردي أصالةً – هو تجربة روحية على مُستوى الفرد – إلى رُتبة تمثُّل الدين تشريعياً قانونياً فمُباشَرةً ولا جرم ،حريٌ به أن يبدأ يُمارِس الاحتيال، وهناك طبعاً فصل كبير جداً في تاريخ المسلمين التشريعي إسمه فصل الحيل، مثل كيف نحتال على إسقاط الحقوق وكيف نحتال على التهرب من الزكاة وهكذا، وهذا شيئ عجيب، علماً بأنني حدَّثتكم قبل بضع سنين – وليس بحديث الساخرين، بل بالعكس حديث المألومين – عن تجار كبار في بلاد الإسلام عرف العامة عنهم هذه الحيلة السخيفة المرذولة، فيأتي أحدهم ويُعطي الفقير كيساً من القمح، وفي داخل الكيس الألوف أو مئات الألوف – بعملة بعض البلاد الملايين – ثم يقول له “هذه زكاتي عليك، فهل تقبلها؟”، فيقول له “بارك الله فيك ورزقك الله”، ثم يقول له “هذا كيس قمح، هل تبيعه لي؟”، فالفقير يتردَّد لأن هذا يُساوي مثلاً عشرة يورو لكن هو يعرض عليه أن يأخذه بعشرين ومن ثم يُوافِق ويقول له “بارك الله فيك وكثَّر الله من أمثالك”، ثم يعُطيه الكيس، فيقول التاجر “أنا أديت الزكاة، أنا أعطيته الزكاة وأشتريت القمح”،الله أكبر وللأسف تجد بعض مَن ينتمي إلى الدين يُبرِّر مثل هذه السخافات، وهذا شيئ عجيب جداً، فهل تعتقد أن هذا يسوغ على الله تبارك وتعالى؟ وطبعاً هو يعلم أنه لا يسوغ على الله، ولكن هل تعتقد أنه يسوغ على ضميرك؟ هل أنت مرتاح؟ هل تستطيع أن تنام جيداً؟ هل تأمن على مُستقبَل أولادك – أبنائك وبناتك – وعلى مُستقبَلك أنت؟ هل تأمن على آخرتك؟ ما هذا العبث؟

وطبعاً لو الدين قانوني – أي مثل أي قانون عادي – لتهرَّبنا منه كما نتهرَّب من الضرائب، فكما يتهرَّب الناس من الضرائب كانوا سوف يتهرَّبون من الزكاوات ومن الصلوات ومن أشياء كثيرة، فالواحد منهم يتهرَّب لأنه تمثَّل الدين قانوناً، ويظن أن الله – تبارك وتعالى – يستهويه أن نُمارِس لعبة القوانين هذه ولعبة الطقوس والشكلانيات والشعائريات، كلا فالله لا يستهويه هذا، قال رسول الله إنما الأعمالُ بالنيات.

إذن هذا اختزالٌ للدين، وقد يتضاعَّف هذا الاختزال، فبعض الناس يخرجون في الشوارع الآن ويبرزون عبر المنابر الثقافية المُختلِفة من صحائف وجرائد ومجلات وفضائيات هوائيات وهم يزعقون ويُصيحون قائلين: لابد من تطبيق الشريعة، نحن نُريد تطبيق الشريعة، ما الفرق بين هذا الرئيس وبين الذي قبله لأن الشريعة غير مُطبَّقة؟

لكن بالله عليكم ماذا تعنون بالشريعة؟ يعنون بالشريعة تسع آيات هى آيات الحدود والقصاص، وهذا هو الاختزال الكارثي، والحدود في كتاب الله خمسة كالتالي:

أولاً القصاص، وهو عند الأحناف ليس حداً ولكنه عند غيرهم من الحدود، مثل النفس بالنفس، ثانياً الزنا، ثالثاً القذف، رابعاً السرقة، خامساً الحرابة، وبعضهم قال جريمة البغي، لكن البغي جريمة ولا يُوجَد فيها أي حد واضح، فإذن هناك خمسة حدود، والآيات التي نظَّمتها ودستَّرتها تسع آيات، فإذا بدأنا نتكلم عن دين الله على أنه تطبيق شريعة وتكلَّمنا عن الشريعة على أنها الحدود التي أتت في تسع آيات فقط وعطَّلنا ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية فهذه كارثة حقيقية، ولكن نحن لا نشعر بأننا مكروثون، وهذا أمر يجب أن ننتبه إليه لأننا نشتغل تماماً ونتحرَّك وننشط عكس اتجاه كتاب الله، فلسنا مُتناغِمين مع كتاب الله ولسنا مُتجاوِبين معه ولم نفهم رسالته، ولكن كيف؟

مثل إنسان يقول لك “أنا طالب نجيب”، وأمارة نجابته أنه يقول لك “أنا أحضر مُحاضَرات البروفيسور Professor الأستاذ وأفهم منها اثنين في الألف، لذا أنا نجيب جداً”، ما شاء الله على النجابة، فهكذا النجابة تُضارِع وتُعادِل الحماقة والغباوة تماماً إذن، وهكذا يُضارِع ويُعادِل الدين اللادين، فأنت تتمثَّل الدين تشريعاً ثم تختزل التشريع في الحدود وفي الجنايات في تسع آيات، وهذا غير معقول، فأين ذهب باقي كتاب الله؟ لقد ضيَّعنا الكتاب الذي دأبنا على أن نتلوه وأن نتحفَّظه وأن نتغنى به دون أن نفقه منه إلا القليل القليل القليل طبعاً، ولذلك قد تسأل إنساناً أربعينياً – في العقد الرابع – أو خمسينياً أو ستينياً – في العقد السادس من عمره – عن آيات بسيطة جداً وواضحة إلى حدٍ ما في جزء عم ولكنه – والله – لا يعرفها ولا يعرف معنى هذه الأشياء، لا يعرف – مثلاً – معنى قول الله وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ۩، ويقول لك لا أعرف معنى اتَّسَقَ ۩، هل معنى اتَّسَقَ أنه تناغم؟ وكذلك في قول الله وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ۩، تقول له ما معنى غَاسِقٍ ۩ وما معنى وَقَبَ ۩؟ فيقول لك لا أعرف، وكذلك الحال أيضاً في قول الله وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ۩ فإذا قلت له مَن الذي لا يخاف عُقْبَاهَا ۩؟ وعقبى ماذا؟ فأنه يقول لك لا أعرف، فعمره وصل إلى ستين سنة ولكنه لا يعرف وهذه كارثة، فهناك في مُشكِلة حقيقية في تمثُّل الدين على جميع المُستويات.

إذن هذا هو الاختزال المُضاعَف، لكن علينا أن ننتبه إذن إلى أنه لكي نفر من هذا الاختزال لابد أن نُعيد إلى الدين رسالته وجوهره وروحه بأن نتناغم مع مجموع كتاب الله تبارك وتعالى، وهذا المجموع في جمهوره الأعظم وفي جمهور آياته – كما قلت لكم – يدور على تربية نفس وعلى تربية ضمير صاحٍ حي يقظان يستند إلى تصور كوني صحيح ومُعتمَد عند رب العالمين، أي لابد من العقيدة الصحيحة ومن التصور الكوني ومن هذه الصورة الكُبرى، فهذه هى رسالة الدين أصلاً، ثم أنني أتساءل: بربكم ما الذي ينتظره الناس من الدين؟!
دائماً ما تسمع مَن يقول “أنا مُتدين أو نحن مُتدينون أو نحن مُتدينات”، فما الذي ينتظره الناس من رجل يُنسَب إلى الدين ويُقال أنه مُتدين أو صاحب دين؟!

هذا سؤال كبير وسهل جداً ولكن أنا أقول لكم ببساطة أن الناس ينتظرون من الدين ما لا يُفلِح غير الدين في إنجازه وإعطائه وأدائه، فأنا لا أنتظر – وينبغي ألا أنتظر – من المُتدين وعالم الدين ومن صاحب الدين ما يُمكِن أن يعطيني إياه الطبيب، فالطبيب هو الذي يُداوي الأمراض البدنية وليس عالم الدين، لكن الآن وُجِدَ خلط كبير جداً جداً جداً، فتجد مَن يلعب دوراً مُزدوَجاً، فهو عالم دين وطبيب في آنٍ واحد ما شاء الله، فهو طبيب ديني ويستطيع أن يشفيك من السرطان، لكن في حقيقة الأمر هو سوف يُخرِب بيتك – والله العظيم – في نهاية المطاف.

حتى الأمراض العقلية والنفسية هى أمراض عندها أسس معروفة ومُصنَّفة علمياً، فيجب أن يذهب المُصاب بها إلى الطبيب المُختَّص وإلى المُعالِج النفسي، لأنه يُمكِن أن يُفلِح في علاجك إلى أمد بعيد،ولكن هناك مَن يقول لك عليك أن تذهب إلى مولانا وهو سوف يتلو عليك كتاب الله خلال الأربع والعشرين ساعة، وفي نهاية المطاف سوف تُجَن لأن هذا ليس علاجاً حقيقياً ولأن الله لم يقل هذا، وهذا شيئ غريب، فالنبي كان يتداوى، ومن هنا تعلَّمت عائشة الطب – رضوان الله عليها – وبرعت فيه، فكانت بارعة في الطب جداً، ومن هنا سألها ابن أختها عروة بن الزبير من أين لكِ هذا العلم؟ فهم فهموا سر معرفتها بالشعر والدين – مثلاً – ولكن ماذا عن الطب؟ فقالت له من كثرة ما كان يُوصَف الأطباء لرسول الله، أي أن الأطباء كانوا يأتون له من الشرق ومن الغرب إذا قال أن لديه آلام هنا في أي منطقة في جسده، وعائشة كانت تسمع وترى ما يجري، فلم يقل النبي أنا عندي القرآن وسوف أرقي نفسي وينتهي كل شيئ، هذا غير صحيح ومن ثم علينا أن ننتبه إلى هذا الدور المُزدوَج وهذا اللعب بالدين، فهؤلاء يلعبون بالدين ويفتحون دكاكين ويتمعيشون كما اقول دائماً، فهذا تعميش ولذلك تجد مَن يقول لك “الصيدلية القرآنية”، وطبعاً هو يفتح له عيادة في بلاد لا يُنظِّمها قانون حقيقي، فهى بلاد سائبة والحبل فيها على الغارب، فيقول لك أنه دكتور قرآني ويضع لك طبعاً علامة الهلال الأخضر، فما هذا؟ ما هذا العبث بالدين وبالناس؟ ولكن هذا يحدث بإسم الدين!

وأنا لا أنتظر من عالم الدين ولا من صاحب الدين الديّن ما يُعطيني إياه رجل الاقتصاد أو المُهندِس أو السبَّاك، لا أنتظر هذا لأن هذا يقوم به السبَّاك والمُهندِس والاقتصادي وإلى آخره، فماذا أنتظر؟!

علينا أن ننتبه إلى أن الصحيح هو أن الناس ينتظرون من المُتدين ما لا يُفلِح غير المُتدين في أدائه وإعطائه وترجمته، فهم ينتظرون الضمير الصاحي الحي اليقظ والصدق وأن يُعلِّم الناس الشرف، شرف الكلمة وشرف الموقف وشرف التعامل، فيكون التُقى الحقيقي، فضلاً عن أنهم ينتظرون أن يُذكِّر الناس بأن هناك إلهاً رقيب على كل أحد وهو شاهد مُطلِّع – لا إله إلا هو – فلا تلعبوا بالدين هذا، فهو الذي يُذكِّرنا بهذا ولكن ليس بكلامه وإنما بحياته، وهذا الأمر يجب أن ننتبه إليه، فيجب أن يكون أنموذجاً وموديلاً Model حقيقياً يعيش بيننا، فيُذكِّرنا على الرغم منا إن كان فينا بقية خير.

وحين نرى هذا العالم أو هذا الديِّن يُمارِس الدجل والاحتيال والالتفاف بنفس الطريقة فنحن طبعاً نًصعَق ونُروَّع، لكن لماذا يفعل هذا؟!

أنا أقول لكم أن هذا يعود إلى الخطأ الجذري، وذلك لأنه تمثَّل الدين قوانين، وبما أنه قوانين فالشاطر هو الذي سيُفلِح إذن، وأنا أشطر منكم وسوف أضحك عليكم بإسم الدين وسوف أغتنم وأكوِّن الملايين، وسوف ألعب بقضاياكم وبأوطانكم وبأديانكم، فألعب اللعبة المذهبية واللعبة الطائفية واللعبة القومية واللعبة الروحية ولعبة الجن والشياطين والعفاريت وكل هذه الألعاب من أجل أن أتحصَّل على الأموال، لأن في القانون يستطيع الشاطر أن يحتال وأن يلتف، وأنا أشطر منكم في هذا الدين القانوني، وهذا غير صحيح لأن ليس هذا هو الدين، فالدين الحقيقي يقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ۩، فهذا هو الجوهر، وهو أن تتقي الله وأن تكون صادقاً، فلو سألت أي أحد عن الصدق – هذا ما دعوته من سنوات وما زالت أدعوه بمعيار التبادر – وقلت له أن النبي قال “فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ” وأن الله قال وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ۩ وقال أيضاً لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ۩ وإلى آخره فما هوالصدق إذن؟ فأنه سوف يقول لك الصدق هو صدق الحديث، لكن هذا أضعف مراتب الصدق في حقيقة الأمر، فنحن حتى في الصدق لا نتمثَّل إلا أضعف مصاديق ومراتب الصدق وهو الصدق في الحديث، ويا ليتنا نصدق الحديث، فمَن الذي يصدق الحديث حقاً ويُراعي لسانه المُرسَل السائب؟!

فالصدق في الحديث هو أضعف المراتب إذن، وهناك مراتب كثيرة للصدق أشهرها مرتبة الصدق في العمل، قال الله مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ ۩، فكيف صَدَقُوا ۩ إذن؟ هل قالوا يا رب سوف نجاهد ثم قعدوا ولم يفعلوا شيئاً ومن ثم كانوا صادقين؟ لم يحدث هذا أبداً، وإنما نووا ذلكم وفعلوا ذلك، فمنهم من قضى شهيداً ومنهم مَن ينتظر أن يقضي شهيداً، ومن هنا قال الله أن هذا هو الصدق وذلك في قوله مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا ۩، فهذا ليس صدق اللسان وإنما صدق العمل الذي يُواطئ النيةً الصادقة، فهذا هو أعظم الصدق، ولذلك العرفاء – العارفون بالله – عرَّفوا الصدق أنه استواء السر والعلانية، فلو كُشِفَ عن سره لوجِدَ أنه ليس قبيحاً، فلن تكون علانيته أجمل من سره، بل أن الصادق لو كُشِفَ عن سره سيكون سره أجمل من علانيته، لأن ما يُخفيه من صدقه ومن تقواه ومن ورعه ومن عظيمه لله وحُرمات الله ودورانه مع مراضي الله ومُجافاته لمساخطه أعظم بكثير من الذي يُبرِزه ويُظهِره، فهذا هو الصادق إذن، قال الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ۩، والله أعطى النبي هذا التاج فقال وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ۩، قيل وأبو بكر وقيل عليّ رضوان الله عنهم أجمعين، فهؤلاء الجلة العظام كلهم صديق.

قال الله إذن في الصدق فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ۩، ولذلك قال رسول الله “إنما الأعمالُ بالنيات”، وهذا الحديث أعظم وأعمق بكثير مما نظن، فدائماً لا يزال في ظني أن هذا الحديث لم يُشَرح الشرح الوافي، فمن الصعب أن يُشرَح هذا الحديث، علماً بأن هذا الحديث لا يُشرَح لغوياً وبيانياً ونحوياً فيُفصَّل في أشياء كالتقدير ودلالات الاقتضاء والمحذوف وما إلى هنالك لأن الأمر لا يقتصر على هذا فقط، فهذا الحديث يُشرَح باستمرار – وهو قابل لإعادة الشرح باستمرار – وفقاً وبحسب التجربة الروحية التي تمر بها، ولأعطكم نبذةً يسيرة جداً من لطائف هذا الحديث:

الصدق في القول ما هو؟!

الذي يتبادر إلى الناس من لفظة الصدق ومن كلمة الصدق أن الصدق هو مُطابَقة القول للواقع، فأقول لك “فلان حضر” ويكون فعلاً قد حضر، ومن ثم يكون القول صادقاً وإلا يكون القول كاذباً والعياذ بالله، ومن هنا هذا هو الصدق.

فإذن ما هو معيار الصدق؟ كيف نُعيِّر نحن الأقول بأنها صادقة أو كاذبة؟!

بالمُطابَقة Corresponding، كأن أخبر عن شيئ وافق الواقع، فيكون هذا القول صادقاً.

وعلينا أن ننتبه إلى أن هناك صدق الأعمال، وصدق الأعمال في ظن الناس يتمثَّل في الأعمال التي تُوافِق الأقوال، فينبعي أن تتطابق الأعمال مع الأقوال حتى لا تبقى الأقوال دعاوى ومزاعم، وكما قال الأول:

والدَّعاوى ما لم تُقيمُوا                         عليها بيناتٍ أبناؤها أدعياءُ.

لكن علينا أن ننتبه إلى أن في المنظور الشرعي الحقيقي في كتاب الله وسُنة المُصطفى – عليه السلام – ليس هذا الصدق، فهو أكبر من هذا لأن لابد من شرط زائد، فصدق القول وصدق العمل مشروطان – وهكذا يُعيِّران – بمُطابِقة النية، أي أن يتطابق القول مع النية، فحين يقول لك أحدهم “أُحِبك” يجب أن تكون هذه نيته وهذا وجدانه وشعوره، علماً بأن علماء النفس الآن يتحدَّثون عن الكذب الوجداني والكذب العاطفي Emotional، لكن كيف هذا؟!

قال الشاعر:

يُعطيكَ من طَرَفِ اللِّسانِ حلاوةً      ويَروغُ منكَ كما يروغُ الثّعلبُ.

ويبتسم لك البسمة الصفراء طبعاً، فهذا هو الكذب الوجداني، لكن الصادق هو الذي يكون وجدانياً صادقاً، فإن رأيته هش في وجهك وتطلَّقت أساريره فاعلم أنه صادق وأنه يُحِبك حقاً، وإن رأيته انقبض فاعلم أنه انقبض، والنبي كان كذلك لأنه كان كالمرآة، فوجهه كان مرآة قلبه ومن ثم لا يُؤذيه شيئ ولا يتذمر من شيئ إلا وعُرِفَ هذا في وجهه، لأنه كان – عليه السلام – صادق وجدانياً، فهو مُعلِّم الناس الخير.

لكن علينا أن ننتبه إلى أنه لا يُوجَد أي اعتبارات زائدة، فالاستثناءات محدودة جداً، وربما نتكلم فيها وفي فلسفتها – إن شاء الله – بُعيد قليل، لكنها على كل حال محدودة جداً، فقد روى ابن ماجة – رحمة الله عليه – في سُننه عن قيلة أم بني أنمار – إحدى الصاحبيات غير المشهورات – أنها – رضوان الله عليها – قالت: أتى النبي – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – المروة ليحل في عمرة من عُمره – إحدى عُمر النبي، علماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات – وكنت امرأةً أبيع وأشتري – كانت امرأة كبيرة في السن وتبيع وتشتري لأنها تاجرة – فأتيت أتوكأ على عصا لي حتى جلست قُباله وقلت له “يا رسول الله إني امرأةٌ أبيع وأشتري، فربما أردت شراء السلعة – أي ابتياع السلعة لأن هذا من الأضداد، قال الله وَشَرَوْهُ أي بمعنى باعوه هنا، وشرى بمعنى اشتراه أيضاً، فربما أردت ابتياع سلعة – فأُعطي فيها أقل مما أريد أن آخذها به – السلعة تُساوي – مثلاً – عشرة يورو أو عشرة دراهم لكنها تُعطي ستة أو سبعة دراهم، وهى تُريد أن تُعطي عشرة إذا أصر صاحب السلعة – ثم زدت ثم زدت – أي أزيد وأزيد – حتى آخذها بالذي أُريد أن آخذها به – هى امرأة مُحنَّكة وتاجرة شاطرة، فهى تعطي سعراً واطياً ثم تزيد وتأخذ بالسعر الذي تُريده -، وربما أردت أن أبيع سلعتي فأستام – أي السوم، فتُعطي هى السعر – فيها أزيد من الذي أُريد أن أبيعها به – أي تُعطي سعراً أعلى – ثم نقصت ثم نقصت – هكذا تقول بصيغة الماضي – حتى أُعطَى فيها مثل الذي أُحِب أن أُعطَى”، أي بالسعر الذي تُريده.

رضى الله تعالى عن الصحابيات، حيث كان لديهن ورع، ومن هنا كانت خائفة هذه المرأة، لكن عندنا نقول عن هذه الأفعال أنها شطارة طبعاً، فكل شيئ أصبح عندنا شطارة، لكن هذه المرأة كان لديها ورع، فالسؤال إذن: هل هذا يحل أولا يحل؟ لأن من الواضح أن هذا يُجافي الصدق، ففيه نوع من الكذب لأنني أُظهِر شيئاً خلاف نيتي في هذه التجارة، فقال لها – صلى الله على مُعلِّم الناس الخير إلى أبد الآبدين – يا قيلةُ لا تفعلي هذا – أي أنتِ مسلمة مُؤمِنة فلابد أن يكون عندك ثقة بالله وغنى، والمُقدَّر سوف يأتي، فالمُؤمِن يختلف عن غير المُؤمِن الذي قد يُظهِر شطارته على الناس، لكن نحن مُؤمِنون وأُناس صادقون، نحن أمثلة ونماذج لأننا نعيش بديننا، فأنا كمُؤمِن لا يعنيني العالم كله ولا يعنيني الناس كيف يعيشون، وإنما يعنيني أن أنجو بصدقي وتقواي وأن أكون ديّناً حقيقياً، وهذه هى فائدة الدين وإلا لا فائدة من الدين، وبالله تأملوا فيمَن حولكم وفيما حولكم وقولوا لي أين الدين الحقيقي وأين الصدق الحقيقي؟ – ولكن إن أردتِ أن تشتري سلعة فاشتريها بما تُريدين أن تشتريها بها – أي لا تذكري سعراً آخراً – أُعطيتِ أو مُنِعتِ – أي بغض النظر عن أنهم وافقوا وأعطوكي أو لم يُوافِقوا ولم يُعطوكي -، وإن أردتِ أن تبيعي سلعتكِ فاستامي فيها – أي بعيها بالثمن الذي تُريدين دون أن تذكري سعراً آخراً – أعطيتِ أو مُنِعتِ”، أي أذكري سعراً واحداً فقط، فإذا أردتي أن تكون بخمسة – مثلاً – فلتقولي هذا، وهذا صدق طبعاً لأن لا ينبغي أن نكذب، ففي الحقيقة أنا أُريد هذا السعر، لماذا أذكر سعراً غيره؟ إذن إن فعلت هذا فإنه يُعَد كذباً.

إخواني وأخواتي:

الشخصية الإنسانية – كما يقول علماء التربية والنفس – مُثلَّثة الأضلاع، فالشخصية كلها هى مُثلَّث، وضلعٌ فيه هو الأفكار والمفاهيم – Concepts – والتصورات،وضلع فيها هو الوجدانات والمشاعر والعواطف، والضلع الثالث هو النيات والإرادات، فهكذا يقول علماء النفس، إذن الأفكار والوجدان والنية والإرادة.

يقول علماء النفس أي تباعد بين ضلعين من هاته الأضلاع الثلاثة يُؤدي إلى تهشش الشخصية ومُعاناتها، أي نوع من الفصام، ولكن ليس الفصام بمعنى الشيزوفرينيا Schizophrenia وإنما هناك فصام آخر قيمي وأخلاقي.
إذن لابد أن يكون هناك تعاضد وتآزر وتعاون بين أضلاع المُثلَّث الثلاثة، أي بين النية والوجدان والأفكار، ثم تأتي السلوكات بعد ذلك فتعكس شخصية مُتصالِحة مع ذاتها، وطبعاً وبالأحرى مُتصالِحة مع ربها ومع قدره ومع كل قيمة نبيلة، لكن أهم شيئ أن تكون مُتصالِحة مع ربها ثم مع ذاتها، فلو كُشِفَ الغطاء فإنه ليس هناك ما يسوء، ليس هناك عار وليس هناك ما يُستحيَ منه بحمد الله، ولو جاء ملك الموت فإنه يكون مُستعِداً لأنه شخصٌ جميع وليس شخصاً تفاريق، فهو ليس بشَذَرَ مَذَر لأن ضلوعه ليست مُختَلة، ومن ثم فشخصيتة ليست مُمزَّقة ولا تُعاني ولا يأكلها الحسد والغيرة والحقد والكذب والدجل والنصب والنظر إلى الغير وفراغ النفس وفراغ العين وفراغ اليد، وهذا شيئ رهيب!
إذن الدين يُعطيك ما لا يُعطيك إياه شيئٌ آخر غيره – أي غير الدين – إن فهمت الدين حقاً على وجهه، وإذن هناك ثلاثة أضلاع، لكن أي هذه الأضلاع هو الإخطر على الإطلاق؟!

الضلع الثالث وهو النية، ففي نظري النية هى أساس الشخصية، وهذا بعض معنى قول النبي – عليه السلام – إنما الأعمالُ بالنيات، وهذا ينطبق على كل الأعمال، فمثلاً إذا أتى إنسان مُفطِّراً من المُفطِّرات وهو صائم وهو يحسب أنه مُفطِّر، فهل يفطِر عند الله أو لا يُفطِر؟ يُفطِر، هل يأثم أو لا يأثم؟ يأثم، ومع ذلك قد تجده يقول لك “الحمد لله سألت واتضح أنه لا يفطِّر عند الجمهور”، وهذا غير صحيح، فأنت مُفطِر لأنك تقحَّمت هذه الحُرمة الربانية وأنت على ظن أو وهم أنها حُرمة وأنها حرام، ومن ثم فأنت مُجرِم، مع أن عملك اتضح أنه عملاً شرعياً أو عملاً مُباحاً لكن النية كانت مُجرِمة والنية كانت مُتعدية والنية كانت غير نظيفة، لذلك القلب هو موضع نظر الله منا بسبب النية، فالله ينظر إلى نوايانا، وعلينا أن ننتبه إلى أننا فلسفياً نُعيِّر العمل بمُطابَقته للقول في المرحلة الأولى، ونُعيِّر القول والعمل أيضاً بمُطابَقتهما للنية لكي نتأكَّد من وجود الصدق، ولكن بماذا تُعيَّر النية؟ بمُطابَقتها لذاتها، وهذا شيئ عجيب، لكن هذا هو آخر شيئ أو آخر مُستوى Level، فلا يُوجَد شيئ تُعيَّر عليه النية، فلا ينبغي أن تتطابق النية مع شيئ آخر حتى يحصل الصدق لأن هذا هو آخر مُستوى، فحجر الأساس إذن هو النية.

إذن العمل يُعيَّر بالقول، والقول يُعيَّر بمُطابَقة النية والعمل كذلك، لكن النية ينبغي أن تتطابق مع ذاتها فقط، فهى معيار ذاتها وهى مرجعية ذاتها، ومن هنا اهتمام الشرع الكريم بتربية النوايا وتربية النفوس والقلوب وتربية الضمائر، فهذا هو آخر مُستوى هى على الإطلاق، لذلك لو كانت نية الإنسان أن يكون صادقاً في نيته – أي صادق العزم وصادق الهم كما قال – فأنه يأتيه العون من الله تبارك وتعالى، ويُعان على القول الحق بإذن الله تعالى، ثم يُعان على ترجمة النية والقول الحق في عمل حق صالح بر مرضي لله تبارك وتعالى.

فهذه هى النية إذن التي لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى ، والتي قد يمرن الإنسان وتمرَّس في مُخادَعة نفسه بصددها.

سأنتقل الآن إلى نُقطة هى جوهر الموضوع لكي نكشف عن حقيقة أن الصدق يأتي على الشر من جذوره، فلو التزم الإنسان الصدق فإنه يتمحَّض للخير وتتضايق تماماً السبل أمام الشر في شخصيته وفي مسالكه وفي أفعاله وأقواله، إذن جذر الشرور جميعاً هو الكذب، فإذا أردت أن تبحث عن الجذر الأكبر لكل الشرور ستجد أنه الكذب والعياذ بالله، ولذلك الصدق يأتي ليُحارِب الكذب فيُحارِب الشرور من جذرها – أي في مُستوى جذري حقيقي راديكالي – ومن ثم يقتلعها، وسأضرب لكم أمثلة مُوحية بإذن الله تبارك وتعالى.

من أعظم الشرور التي تقع في عالم الإنسان ووقعت في مسيرة البشر ولا تزال الحروب، فالحرب هى أم القطائع وأم المساوئ وأم الجرائم، فحين تقع الحرب بالذات تُستباح الأعراض ويكون الاعتداء على النساء وعلى الأطفال وعلى الشيوخ وعلى الحيوات أمراً عادياً، فتُستباح الحيوات وتُستباح الأموال ويتحوَّل الإنسان إلى وحش، وقد يكون هذا الإنسان مُتديناً، سواء كان مسيحياً أو مسلماً أو غير ذلك، فهو يتحوَّل إلى وحش وإلى قاتل ثم بعد ذلك يستيقظ على نفسه بعد أن تضع الحرب أوزارها بقليل أو كثير ويقول: ما الذي حصل؟ لقد إضت، لقد أصبحت إنساناً آخراً.

فأنت فقدت ما كنت عليه قبلاً ولن تعود ثانية، فأنت تحوَّلت في مرحلة مُعيَّنة إلى مُجرم حقيقي وإلى وحش مُنفلِت العقال بسبب هذه الحروب، لذلك أنا أقول لكم أن مُعظَم هذه الحروب – إن لم نقل كل هذه الحروب – على الإطلاق لا يقع – والله – إلا بسبب الكذب، ولكن كيف؟!
طبعاً لا يُوجَد حرب يُحارِب فيها ملك ما ملكاً آخراً أو يُحارِب فيها رئيس رئيساً آخراً، يا ليت كان هذا يحدث، لذهبوا جميعاً في ستين داهية ولتخلصنا منهم جميعاً معاً، لكن هذا لا يحدث، فالواحد منهم يجلس مبسوطاً على كرسيه ويأكل في صحاف الذهب والفضة، بل أن منهم – أكرمكم الله – مَن يقضي حاجته في الذهب والفضة، وهذا شيئ لا يُصدَّق، في حين أننا نذهب نموت دفاعاً عن المُقدَّسات وعن استقلال البلاد وعن الحدود وعن الأوطان وعن العروبة وعن الإسلام وعن وعن وعن، فنحن نذهب نموت وتُسفَح دماؤنا وتُقطَّع أعضاؤنا ونرجع بعاهات مُستديمة إن رجعنا، فتزهق ألوف وأحياناً ملايين الأرواح في سبيل ما قلنا لك وما كنا نزعق بالحديث عنه من ساعة، فنحن نذهب في سبيل الأوطان والحريات والاستقلال والقوميات والمُقدَّسات والحُرمات والذمم ضد هؤلاء المُعتدين الملاعين الذين هم في دولة جارة، وقد تكون هذه الجارة مسلمة وعربية أيضاً، لكننا نُحارِب ضد هؤلاء الأوغاد، فما الذي حدث إذن؟!

الذي حدث فقط هو أن كذَّاباً كبيراً – أكبر كذَّاب في الأمة – يُسمى بالسُلطة العُليا – أي الملك أو الرئيس أو الشيخ أو السُلطان أو غير ذلك – قد ضحك على الأمة، ومن ثم نحن نُريد أن نُعطيه حبة صدق إن أمكن لكي يستيقظ، فيا ليت تُصنَع هذه الحبات – Pills – كالتي كانت في الفيلم المصري القديم الذي تحدَّث عن حبوب النفاق، فيا ليت تُصنَع هذه الحبوب الآن، فيكون هناك حبة ما يُمكِن أن يدسها خادم أو إنسان صالح في أكل وشراب هذا الملك، فيخرج الآن للخُطبة قبل الحرب والتي سوف يُذكي بها نار الحرب ويدق بها الطبول فيقول “أيها الشعب العظيم، والله الذي لا إله إلا هو إنما دعوتكم وحفزت هممكم وسخنت الدماء في عروقكم ليس من أجل الاستقلال الوطني ولا حُرمة التراب ولا الذمة ولا قدسية المباديء والمُعتقَدات، لا والله، ولا من أجل وجوهكم الصبيحة والمليحة، لا والله، وإنما من أجل أن يرضي عني ساداتي العظام، أي حُكام العالم الكبار ووكلاء الحروب و سماسرة السلاح، فيرضوا عني ولا ينزعوني من سُلطاني، لإنهم إذا غضبوا على أحد – يا ويله إذا صار مغضوباً عندهم – يُنزَع من سُلطانه بأتفه الأسباب، فيُحرِّكون عليه ثورة أو إنقلاباً أبيضاً أو أحمراً أو أسوداً، ومن ثم يُنزَع – لابد أن يُنزَع – من كرسيه، ولذلك أنا أخاف من هذا، وهذا يا شعبي بالله ولله ما حدث”، فهل تظنون أن صوتاً واحداً سيُشايع هذا المأفون في دعاية الحرب؟!

أبداً والله، وإنما سيُلحَق بألف مليون لعنة وسيُنزَع من ملكه وسيُقال له “لعنة الله عليك لأنك تُتاجِر بنا وبحياتنا وبمُستقبَلنا وبأولادنا وبدمائناً من أجل أن تبقى سنوات إضافية في الكرسي الذي أنت فيه من ثلاثين سنة ولم تشعر بالزهق حتى الآن”.

لكن – والله العظيم – هذا الذي يحصل، ومن هنا أنا أقول لكم لو أن الأمور تظهر كما هى لتخرَّب العالم في البداية، فالعالم كله سوف ينهار، وكل شيئ سوف يُدمَّر بدءاً من الأسرة إلى روضات أطفال – Kindergärten – إلى مُؤسَّسات الحكومة والدولة، فكل شيئ سوف ينهار ولكننا سوف نبني بعد ذلك بشكل سليم، وطبعاً هذا خيال ويوتوبيا Utopia ومن ثم لن يحصل، وبالتالي ليست هذه رسالة الخُطبة، لكن أنا أقول لكم فقط كيف يتدخَّل الكذب ليُشكِّل جذر الشرور كلها تقريباً والعياذ بالله، فلو صدق الرجل مع امرأته سوف يحدث الطلاق مُباشَرةً طبعاً، لأنه سوف يقول لها “في الحقيقة أنا – والله – ما مسست هذا الطيب ولا أخذت هذه الزينة من أجل سواد عينيكِ لأنكِ في نظري أصبحتِ شوهاء، وإنما من أجل امرأة الجار، فهذه هى الحقيقة وهذا هو الذي يعلمه مني الله يا زوجتي، ولا أدري ما الذي يحصل معي لكنني أشعر بأن شيئاً ما يدفعني إلى الصدق”، ومن ثم هى ستقول له “ماذا تقول يا داعر، يا عاهر، يا شايب، يا عايب؟ بناتك تزوجوا وأنت في الخمسين من عمرك ومع ذلك تنظر إلى امرأة الجيران”، ثم تُطلِّقه إذن، ونفس الشيئ يحدث مع المرأة حين نُعطيها حبة الصدق هذه، فتقول لزوجها “والله يا زوجي أنا ما خرجت لكي أقضي هذه الحاجة، وإنما خرجت لعل التفاتة من ابن الجار تقع علىّ، ففي قلبي منه الكثير، وله الكثير من الحب”، ومن ثم فهو يقول لها “يا امرأة يا خيتعور، يا شمطاء، كيف تفعلين هذا؟ هذا في سن ابنك”، ولكن هذا الذي حدث بعد أن صرعتها شهوات نفسها!

ومن هنا علينا أن ننتبه لأن الكل يكذب، فالرجل يكذب والمرأة تكذب والشيخ يكذب والأستاذ يكذب والأب يكذب والرئيس يكذب، الكل يكذب، أما الحقائق لا يعلمها إلا الله، قال الله يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩، فنسأل الله أن يُبلينا بلاءً حسناً مُشرِّفاً في سرائرنا، علماً بأن كل واحد فيك وفيكن – والله العظيم – يعلم الآن كيف سيُبلى يوم القيامة، فلا تدعو الله أن يُعرِّفك كيف ستُبلى يوم القيامة لأنك الآن تعرف، فأنت تعرف ما هى نيتك وما هى طريقتك.

وذاك الشيخ الذي يعتلي قنة المنابر وتنشق عقيرته من الصياح والصراخ سوف نُعطيه حبة الصدق في كوب ماء على المنبر لكي يشربه لأن عندنا موعد مع تصفية الحسابات طبعاً، فيعتلي المنبر إذن ويقول “أيها المسلمون، يا عباد الله، يا إخواني وأخواتي، والله الذي لا إله إلا هو – والله شهيدٌ على ما أقول – أنا ما ثورت تلك الثورة العنترية ولا غضبت هذه الغضبة المضرية من أجل دين الله، لا والله، ولا من أجل سُنة محمد، لا والله، ولا من أجل شرفة أهل السُنة والجماعة أو الشيعة الإمامية الاثنا عشرية كما أفهمتكم، لا والله، وإنما أنا واحدٌ من جمهور الكاذبين وهم كثر – وهذا معنى لو خلق الله للمنافقين أذناباً لما وجد الصادقون أرضاً يمشون عليها، فهذه أرضٌ بأذناب – ولذلك أنا فعلت هذا غيرةً ونفاسة من هذا العالم الذي بزغ نجمه وبدأ يعلو ويعلو، وجعل أبنائي وأحبائي الذين بلغوا من حبه مبلغ التقديس ينصرفون عني، فيا كبداه واحسرة نفساه، أعني يذهبون وعني يرغبون وإليه يذهبون؟ فلماذا يفعلون هذا؟ نعم أعلم أنه أصدق مني لهجةً وأفصح مني لساناً وأوسع مني دائرةً وعلماً ولكن قلبي يكرهه نفاسة وغيرة غير شريفة فتباً له، ولو أن الله لبَّاني فيه لدعوت بتقريب أجله، بل بفتح قبره الساعة – أي قبل ساعةٍ تالية – لأنني – والله – كرهته وكرهت مَن يتبعه، على أنني أعلم أنهم به يهتدون وإلى ضوئه يعشون، ولكنني كرهت الهُدى من أجلهم وودت أنهم لو يكفرون ليرى الناس حقاً أنه كافرٌ ملعون”، ومن ثم سوف يقول له الناس “بل لعنة الله عليك، انزل من على منبرنا، لعنة الله عليك، ما أنت إلا زنديق في ثوب صديق”، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن شيئٌ من هذا يحصل دائماً حتى في مُستوى علماء الدين، فأين الصدق إذن؟!

لا إله إلا الله، ألم نسمع في اليوتيوب YouTube وفي غيره بهذه الفضائح؟ وكما يُقال باللهجة المصرية فضائح بجلاجل، فهناك طبول تُشيع هذه الفضائح، فعلى اليوتيوب YouTube وأمام الناس هذا فضحوا بعضهم بعضاً وقال أحدهم “انتبهوا عندما يأتيكم أخي الشيخ الدكتور فلان واجعلوا له برنامجاً في القناة لأنه أستاذنا الذي نتعلَّم منه”، ثم قال هذا الدكتور “خرجت من المكان وذهبت الأيام والأسابيع ولم يكن هناك أي برنامج، فاتصلت بالمُخرِج فقال لي يا شيخ فلان بمُجرَّد أن خرجت من القناة قال لنا الشخص الذي وصَّى بك والله لو استضفتموه في هذه القناة فأنني لن أُعتِّبها مُباشَرةً بعد اليوم، يا إما أنا أو هو”، فلماذا تُوصي عليه إذن؟ لماذا هذا الكذب؟ لماذا هذا الدجل؟ هل أنت داعية؟ هل أنت تهدينا إلى الله؟ هل أنت تدلنا على الله؟ لا والله، ولذلك أنا أقول لكم أنا العبد الفقير أنني مُوقِن في داخلي أن حتى الذي يدعَّون أنهم اهتدوا بهداية أمثال هؤلاء لم يهتدوا حقاً وإنما اهتدوا على طراز هداية هؤلاء، وهى هداية النفاق والكذب ومن ثم سوف يُصبِحون صورة منهم، وسوف يُمارِسون النفاق والكذب بإسم الدين، فهذه عملية تفريخ ليس فيها صدق، وإلا أين الصدق؟ أين المُطابَقة بين القول والعمل؟ أين تُطابِق النية وتطابق الظاهر والباطن؟
لكن قد يقول لي أحدكم: هذا كلام جميل ومُثير ولافت، ولكن ما هى رسالة هذه الخُطبة؟ هل أنت تُفكِّر بطريقة طوباوية؟ هل يُمكِن للعالم أن يعيش بغير كذب؟ حتى النبي يا أخي جوَّز الصدق أحياناً!

لكن أنا أقول لهذا الشخص: انتبه ولا تغلط على مُعلِّم الناس الخير الذي حاز لقب الصادق الأمين قبل نبوءته، فهو الذي كان يُعلِّم الدنيا كلها كيف يكون الصدق، فالنبي – صدِّقوني – ما استثنى من هذه القيمة الخُلقية ومن هذا المبدأ الخُلقي الفعَّال – أي الصدق – إلا أشياء محدودة، وهى التي استثناها كل العقلاء عبر التاريخ قبل رسول الله وبعد رسول الله، سواء كانوا مُؤمِنين أو وملاحدة، بدءاً من أفلاطون Plato وحتى برتراند راسل Bertrand Russell، فكل هؤلاء استثنوا الحالات التي استثناها رسول الله، واقرأوا الجمهورية لأفلاطون Plato التي ترجمها فؤاد زكريا رحمه الله، ففي الجمهورية يقول أفلاطون Plato “الكذب أحياناً يغدو ضرورة”، أي يجب أن تكذب أحياناً، ولكن متى؟!

على العدو مثلاُ، فلا يُمكِن أن أصدق وأُسلِّم خُطتي وأكشف أوراقي أو أقع أسيراً وأنا جندي أو ضابط في يد العدو ومن ثم أُعطي الأسرار العسكرية لبلدي، فتُستباح بلدي ويُقتَل مواطنوها بما فيهم أهلي وأصدقائي وجيراني، لا يُمكِن أن أفعل هذا لأن هذه حماقة، ولا يُوجَد مَن هو يُفتي بهذا، والنبي قال “الحرب خُدعة”، وبالتالي في الحرب يجوز الكذب لأن هذه ضرورة، وإلا ماذا نفعل؟ ولو تصادق الناس وتصادقوا على الصدق حتى في الحرب لكان أمراً آخراً، لكنهم لم ولن يتصادقوا لأن هذه حرب، وأصل الحرب – كما قلنا – أنها من أمهات الشرور، فكيف يُؤجِّج أحدهم حرباً بدون هذا؟ ومُعظَم الحروب عدوانية، ومُعظم التاريخ حروب، فمن ثلاثة آلاف وأربعمائة سنة تقريباً أحصوها يُوجَد العُشر بالضبط – أي حوالي ثلاثمائة وأربعين سنة – سلام، والباقي حروب.

إذن مُعظم الحروب عدوان، ومُعظم التاريخ حروب، ومن ثم إذا جاءك عدو صائل ظالم يُريد أن يقتل إنساناً بريئاً وسألك عن محله وعن مخبئه يجب عليك أن تكذب، وهنا نُعلِّق قيمة الصدق لأجل قيمة أكبر منها، فنحن مع الصدق دائماً ولكن هنا يحدث تعليق Suspension ولكن وفقاً لمعايير فلسفية لابد من احترامها حتى لا نلعب هذه اللعبة السخيفة دائماً، ولا يوجد أي حرج علينا كعلماء الدين وكمسلمين في أن نتقيَّل طريقة الفلاسفة في اعتماد هذه المعايير، علماً بأن هناك معايير كثيرة لكنني سوف أذكر أهمها.

المعيار الأول هو قابلية هذا التعليق للتعميم، وهذا المعيار جميل جداً، لكن كيف هذا؟!

بمعنى أن تقول: لو افترضت شخصاً آخر يمر في مثل ظرفي، وأنا سوَّغت لنفسي أن أُعلِّق قيمة الصدق الآن وأن أتجوَّز بالكذب من أجل قيمة أعظم من قيمة الصدق الحالية، فهل يجوز لهذا الآخر الذي يمر بمثل هذه الظروف أن يفعل مثل فعلي؟!

إذا قلت طبعاً يجوز فإذن هنا يجوز لك أن تفعل، ولكن إذا قلت لا يجوز وأن هذا فقط لك فإذن هذا يخدم نزوة شخصية وشهوة ومصلحة ذاتية وبالتالي لا يجوز شرعاً ولا فلسفةً حتى، فهذه انتهازية يحذقها ويُحسِنها النهَّازون فقط، نهَّازو الفرص وخالقوا ومُصنِّعو الفرص بالباطل أيضاً.

إذن المعيار الأول هو القابلية للتعميم، المعيار الثاني هو مذكور ضمناً وهو ألا تُعلَّق قيمة الصدق ولا تُكسَر إلا خدمةً لقيمة أكبر في الظرف المدروس، أي في الظرف موضع الدرس والنزاع، فلا يجوز أن تُكسَر من أجل قيمة أصغر، فيبقى الصدق هو أعظم قيمة.

أنا الآن سأُضيف إضافة جميلة لعلنا نختم بها لأنها تُعرِب عن مُرادي من هذه الخُطبة وتُجلِّي رسالة الخُطبة، فنحن فهمنا أن الكذب يُشكِّل جذراً لشرور كثيرة بل لعله هو جذر الشرور أجمع، وفهمنا أن الصدق لو وُضِعَ على هذا الجذر لأتى عليه من أصله ولأنهينا شروراً عظيمة، ولكن كيف يُمكِن أن يُدعَّم هذا تربوياً؟!
هذا عليه اعتراضات، فالاعتراض الأول هو أن الإنسان قد يكون صادقاً في شريته كما هو صادق في خيريته، بمعنى أن الإنسان قد يحمل أفكاراً – نحن قلنا أن الإنسان لديه أفكار ووجدانات ونية، ولكنه قبل النية قد يحمل الآن أفكاراً استئصالية عصبوية وتعصبية – عصوبية استئصالية إلغائية تعديمية إجرامية مثل أفكار النازيين والفاشيين، وللأسف أفلاطون Plato الذي ذكرته اليوم كان عنده أفكار على هذا النحو، علماً بأن جمهورية أفلاطون لم تكن جمهورية سعيدة ومُمتازة، بالعكس هى جمهورية شمولية، وسوف تكون مُصيبة المصائب لو تُرجِمَت هذه في الواقع، لكنه كان يظن أن هذه فكرة مُمتازة، ولذلك أفلاطون Plato جوَّز الكذب للحاكم وقال “يجوز للحاكم بل ينبغي عليه أن يكذب لكي يُصدِّق جمهوره أسطورة – هو يعلم أنها أسطورة وكلام فارغ وخُرافة – أن بعض الناس مخلوقٌ من ذهب، وأن بعضهم مقدودٌ من خشب، فهذا أمرٌ لازم لكي يرضى كل أحد بوضعه الطبقي” أي حتى لا تحدث قلقلة ومشاكل فيكون كل شخص في طبقته، مثل طبقات الهند الخمس المشهورة، ولك أن تتخيَّل أن أفلاطون Plato يقول هذا ويُجوِّز الكذب، وهذا الكلام غير صحيح، وحتى فلسفياً مردود عليه.

على كل حال الفاشيون والنازيون رأوا فعلاً أنهم مخلوقون من ذهب وأن سائر البشر – وبخاصة الـ Slave والعرب واليهود أيضاً – بمثابة أوغاد لا ينبغي أن يبقوا على وجه الأرض، وكانت هناك خُطة نازية لمحو هؤلاء شيئاً فشيئاً لأنها شعوب لا تستحق أن تعيش، وهذا شيئ مُخيف، ومن ثم قد يكون هتلر Hitler صادقاً تماماً في نيته وهى أن يمحو هذه الشعوب، فالرجل كان صادقاً ولم يكن لديه أي كذب أبداً، ولكن المُشكِلة الآن ليست من صدقه في نيته أبداً ولكن تأتي المُشكِلة من صدق أفكاره ومن صحة أفكاره، أي في ما يُمكِن أن تُحاكَم إليه النية، فمن منظور آخر نحن الآن نُريد أن نُحاكِم نوايا النازيين وهؤلاء الفاشيين الاستئصاليين فإلى ماذا نُحاكِمها؟!

إلى منظومة قيم عالمية تحكم أن هذه القيم النازية قيم لا إنسانية، وهى قيم مُتوحِّشة وهمجية ووحشية، وبالتالي ينبغي أن تُحارَب بكل وسيلة حتى ننتهي منها.

أنا أقول لكم أن حتى في هذا المُستوى ينفع الصدق، وهذه هى قدرة الصدق العجيبة، لكن قد يقول لي أحدكم: كيف الصدق ينفع هنا أيضاً؟ سأُوضِّح لكم هذا وأسأل الله أن يُعينني على تجدية هذه الفكرة لأنها فكرة مُعقَّدة وطويلة إلى حدٍ ما، لكن أقول باختصار أن هذه الأفكار شريرة طبعاً، لكن طبيعة الخير بنائية استدراكية إيجابية، لذلك قال الله ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۩، فالخير عاقل، والشر غير عاقل حتى وإن توسَّل العقل، ودائماً الشر ينتهي إلى اللاعقل طبعاً، لأن الشر بطبيعته هدمي وتهديمي وعدمي وإعدامي، فعدم وجود النور – مثلاً – في بُقعة مُعيَّنة يُسمى الظلام، فعدم النور هذا يُعَد شراً، ولكن إذا وُجِدَ النور وجاء شخص وأطفأ هذا النور فهذا يُعَد إعداماً، لأنه هو الذي أحدث هذا الشيئ، إذن هذا الشر كله عدمي وإعدامي، وهو هدمي بطبيعته وتهديمي،ولذك هو غير استدراكي وغير عاقل.

بمعنى بسيط جداً: لكي نبني عمارة – مثلاً – فأننا نحتاج ربما إلى سنة أو إلى سنتين إو إلى أكثر أو إلى أقل بحسب حجم هذه العمارة أو هذا البرج، ونحتاج أيضاً إلى فريق من المُهندِسين المعماريين والمدنيين ومن العمّلة والفعّلة، فضلاً عن حاجتنا إلى أشياء كثيرة جداً مثل المال والخُطة المُحكَمة والدقيقة التي يصطنعها هؤلاء المُهندِسون، إذن هنا يُوجَد عقل وخُطة – Plan – لأن الأمر ليس عبثياً، ولكن لكي نهدم هذه العمارة من المُمكِن أن يأتي أي أزعر أو أي إرهابي عنده معلومات بسيطة تافهة وهدمية لكي يُفخِّخ هذه العمارة فقط ومن ثم تنهار مُباشَرةً، فقد يضع هذه المُتفجِّرات في وسطها أو في أعلاها أو في أسفلها فينهار ما قُدِّرَ له أن ينهار، وهذا يتم بسرعة شديدة، فأحياناً يحدث في دقائق وفي ثوانٍ، لكن نحن نحتاج إلى سنتين في بناء هذه العمارة، لأن الشر تهديمي وغير واعٍ وغير عاقل طبعاً، وليس عنده خُطة، فالمُهِم هو أن الشر نتيجته الهدم بأي طريقة كانت.

إنسان يُربِّي ولده الوحيد عشرين سنة ويُدخِله الجامعة ويُعلِّمه ويُنفِق عليه ثلاثمائة ألف يورو في أرقى جامعات العالم، لكن يأتي واحد إرهابي فيقتله في لحظة، فمسيرة ما يقرب من خمس وعشرين سنة وما قدَّمه من نفقات ومن عرق وسهر ذهب في ثانية، لأنه هذه هى طبيعة الشر، فالشر هدمي وتهديمي وغير عاقل ولا يحتاج إلى خُطة، هو يحتاج إلى خُطة فقط لكي يتوسَّلها في البداية، فهو يتوسَّل العقل في البداية فقط ثم ينتهي دائماً إلى لا عقل وإلى عبث وإلى لا جدوى والعياذ بالله.
لذلك علينا أن ننتبه إلى أن حتى الناس الذين يكونون مُقتنِعين بملء معنى الكلمة – كلمة الاقتناع – بأفكار نازية فاشية استئصالية أرهابية تكون قناعتهم مُهدَّدة دائماً، لكن كيف هذا؟!

تكون قناعتهم مُهدَّدة إذا ما بان لهم أن قاداتهم وزعماءهم يتوسَّلون هذه الأفكار وهذه الدعوات ويدعون إلى هذه المسالك والفعلات البشعة من أجل أهداف شخصية، ومن ثم هم ينصرفون عنهم مُباشَرةً ويلعنونهم، ويقولون ” كيف نقتل ونُدمِّر ونذبح من أجل أنت أن تكسب أنت؟ لعنة الله عليك”، فهم يغضبون جداً!

لكن طبيعة الخير – سبحان الله – استدراكية وإيجابية، فحتى النية حين لا تكون صالحة تماماً يبقى للخير نوع من الوجود الذاتي لأنه بنائي، لكن كيف هذا؟!

مثلاً رجل بنى مشفىً – مُستشفى – كبيراً لكي يُعالِج مئات المرضى من أبناء قريته أو مدينته الصغيرة، ففرح به الناس ثم بان لهم بالدليل والبرهان أن نيته كانت مدخولة، فهو ما بنى هذا المشفى إلا ليعطوه أصواتهم في الانتخابات القادمة، ولما ما أعطوه هذه الأصوات غضب عليهم وسبهم ولعنهم، لكن المشفى ظل باقياً، فهم قد ينسون له هذا لكن لا يُمكِن أن يدعو أحد منهم إلى هدم هذا المشفى، ومن ثم سيبقى هذا المشفى لأن هذه هى طبيعة الخير، ولذلك تقول الآية الكريمة وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ – فهذا له كينونة وطبيعته وجودية، أما هذا فهو عدمي بطبعه – إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ۩، يقول الله بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ۩، إذن هذا هو الفرق حتى في هذا المجال أو في هذا المُستوى.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

إذن الصدق لن يخلق لنا طبيعةً جديدة، لن يمحق غرائز الشر فينا وشهوات الباطن لأنها ستبقى موجودة، ولكن ماذا سيفعل الصدق لو التزمناه – لو التزمته أنا وأنتَ وأنتِ – كخُطة في الحياة تُراعينا باستمرار ونُراعيها؟!

الذي يحدث – كما قلت لكم – أن سبل الشر سوف تنمحق وتتضايق، فلن يجد الشر – بإذن الله تعالى – فرصة ليُعبِّر عن نفسه، وستجد أنك باستمرار تهتدي إلى مزيد من التكامل الذاتي والتصالح مع الذات ومع الشخصية، وإليه الإشارة بقول رسول الله في الحديث العظيم جداً المُخرَّج في الصحيحين والذي رواه أبو سعيد الخدري – رضوان الله تعالى عليه – حيث قال عليه السلام “عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر”،مع أن الصدق من البر ولكنه بطبيعته يهدي إلى مزيد من البر باستمرار، وهذا الأمر ينبغي أن ننتبه إليه.

بتبسيط أُخاطِب إخواني وأخواتي الكبار والصغار وأقول لهم: أنا ذاهب إلى حفلة الآن، فلماذا ألبس وأتعطَّر بهذه العطور؟ هل هذا من أجل إخواني الرجال أم من أجل أن أستغوي النساء؟ يجب أن أكون واضحاً مع نفسي، إن كان من أجل النساء فلا عطور ولا دعوة أصلاً وسوف أُلغي الموضوع كله وأجلس في بيتي، سأُقرِّر هذا مع نفسي دون أن يدري أي أحد، لكن الله يدري هذا طبعاً، لكن هذا الشيئ عظيم جداً جداً جداً ويُعطيك طمأنينة.

سُئل الحسن بن عليّ – عليهما السلام – وقيل له: يا أبا محمد ما حفظت من جدك رسول الله؟ علماً بأن النبي لما مات كان عمره حوالي ثمان سنين، أي أنه كان صغيراً ومع ذلك كان يحفظ أشياء قالها النبي، فقال “نعم ، حفظت منه – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – أنه قال دع ما يريبك – من راب الثلاثي، ولذلك هى مفتوحة، فلا نقول يُريبك وإنما نقول يَريبك – إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة”، وبيَّنت لكم لماذا يكون الصدق طمأنينة، لأنه ينتهي إلى أفق النية، والنية هى حجر الأساس ومن ثم تحصل الطمأنينة تماماً بالصدق، ومعيار الصدق هو المُطابَقة مع النية، فلا يتعلَّق الأمر بمُجرَّد الكلام وإنما لابد من المُطابَقة مع النية.

فإذن لابد أن أدع هذا مُباشَرةً ولا ألوي على شيئ فتتكامل الشخصية هنا، قال رسول الله “عليكم بالصدقِ، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتَب عند اللهِ صديقاً – اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم -، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتَب عند الله كذَّاباً” أي فلا ينمحي – والعياذ بالله – ويُبعَث كذَّاباً يوم القيامة ويُحشَر كذَّاباً ويُحاسَب كذَّاباً ويُنادى عليه بالكذَّاب فلان الفلاني،والعياذ بالله من سوء المصير ومن خزي الدارين.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (19/10/2012)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: