ذكر الدكتور أحمد العرفج مُصطلَح المعاصي المدنية الذي طرحه الكاتب السعودي عبد العزيز السويد قبل عشر سنوات في مقال له مُتسائلاً لماذا يُركِّز الخطاب الوعظي على العبادات مثل الصوم والصلاة ويتناسى تجريم عقوبات المعاصي الدينية مثل التغيب عن العمل وتدمير المرافق العامة؟ فضلاً عن طرحه لبعض الأسئلة التي تتعلَّق بهذا موضوع.

وضَّح الدكتور عدنان إبراهيم المقصود بالمعاصي الدينية وهو كل أشكال وصور العدوان على حقوق الآخرين وأيضاً هو كل صور تغول أو إفساد المرافق والملكيات العامة.

أضاف أنه لا يُرى مُوجباً لصك هذا المُصطلَح، مُشيراً إلى أن الدافع من صكه على ما يبدو كان تهييج الشعور الديني، فهذه معاصٍ وليست مُخالَفات مدنية.

قال إنه لا يرى أيضاً مُبرِّراً لهذا المُصطلَح لأن الذين تكلَّموا عنه تكلَّموا طويلاً مُنتقِدين الفقه التقليدي، ناسبين إليه التقصير وأنه لم يُوف على الغاية في هذا الباب لأنه عُنيَ كثيراً بالمعاصي العبادية ولم يُعن بالمعاصي الدينية، وهذا كلام غير صحيح بالمرة سواء على مُستوى النصوص أو على مُستوى التراث الفقهي.

أضاف أن هذا الكلام يكون صحيحاً إذا تعلَّق الأمر ببعض الوعاظ المُعاصِرين الذين أسرفوا في الحديث عن المعاصي العبادية بالمعنى الضيق مثل الصلاة، وهذه المعاصي من الكبائر بلا شك ومُخيفة.

قال الذي ورد في النصوص الدينية بخصوص المعاصي المدنية أكثر بكثير مما ورد بخصوص المعاصي العبادية.

ذكر أن النبي قال الدواوين عند الله ثلاثة، ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، ديوان لا يُغادِر الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الذي لا يغفره الله – تبارك وتعالى – فهو الشرك بالله، قال تعالى إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ۩، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فعصيان العبد فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو من صلاة تركها، وأما الذي لا يُغادِر الله منه شيئاً فظلم العباد فيما بين بعضهم البعض.

استدل بقول الشاعر الذي أُخِذ من الحديث السابق:

كُن كيف شئتَ فإِن الله ذو كرمٍ                             وما عليكَ إِذا أذنبتَ مِن باسِ.

إلا اثنتين فلا تقربهما أبداً                                   الكفر بالله والإضرار بالناسِ.

تكلَّم عن حديث السبع المُوبِقات، مُشيراً إلى أن باستثناء الشرك بالله كلها معاصٍ مدنية تتعلَّق بها مصالح الأمة والناس.

ذكر أن النبي قال ثلاث مرات والله ما آمن عن مَن لا يأمن جاره بوائقه، فضلاً عن قوله المُسلِم مَن سلم المُسلِمون مِن لسانه ويده والمُؤمِن مَن أمن الناس بوائقه.

قال إن الذي يتغوَّل المال العام أو يتهرَّب من الضرائب أو يسرق من الكهرباء أو يُزوِّر في عداد الماء أو يُفسِد المرافق أو يُؤذي الناس وردت في حقه أحاديث مُخيفة.

ذكر الملاعن الثلاثة التي ذكرها النبي، وقال إنه الذي يتخلى في الموارد وفي قارعة الطريق وفي الظل، لأنه يُؤذي الناس ويُفسِد البيئة وخاصة مصادر المياه، فمَن يُقضي حاجته الغليظة بهذه الطريقة ملعون.

أضاف أن الحديث السابق فيه كنايات لأن الرسول حيي والله حيي كريم، يُكني عن ما شاء بما شاء، مُشيراً إلى وجود نصوص كثيرة تُؤكِّد أن الإسلام يُضيِّق فيما يتعلَّق بالحقوق العامة.

ذكر القاعدة الفقهية التي تقول حقوق الله مبنية على المُسامَحة وحقوق العباد مبنية على المُشاحة، وقال نحن لدينا تربية معكوسة لا تمنع البعض من تغول أموال الناس أو الولغ في أعراضهم في حين أن الواحد منهم قد لا يترك الصلاة.

أشار إلى قيام البعض بالتفتيش عن النوايا، فيُقال هذا زنديق أو هذا مدسوس أو هذا عميل، فهناك مَن يتساهل في هذا في حين أن النبي يقول أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه المُسلِم، وهذا شر مما يأتي محارمه بحسب ما ورد في بعض الأحاديث.

قال من جُملة الأسباب التي تجعل البعض يتساهل في المعاصي المدنية الأخلال التربوية، فالطفل حين يرى والده يتسامح في الحديث عن الناس ولا يتسامح في ترك الصلاة يُصبِح مثله، وكذلك الحال مع الواعظ الذي يطعن في الآخرين ويسبهم ويُحرِّض عليهم ويُبيح دماءهم في الوقت الذي يتباكى فيه ويدّعي الخشوع، فالإنسان يُصبِح شخصية مُتناقِضة عظيم فيها ما حقه أن يكون ضئيلاً وضئيل فيها ما حقه أن يكون عظيماً.

أشار إلى أن مَن يأخذ من المال العام هو سارق، مُؤكِّداً على ضرورة أن يحترم الإنسان نفسه، فحين ينظر إلى المرآة لا يرى نصّاباً ولا كذّاباً ولا رجلاً بوجهين فضلاً عن أن يكون بعشرين وجهاً.

ذكر قصتين مر بهما عن التربية الألمانية التي تقوم على احترام صورة المرء عند المرء وعلى تكريم الإنسان، مُشيراً إلى أن السارق الذي يغل المال العام فيلعب في عداد المياه أو يركب في المُواصَلات العامة دون أن يدفع ليس مُكرَّماً.

قال إن الذي غر بعض الناس بهذا هو أن القاعدة في مُعظَم المذاهب – وهي حق – أن الذي يسرق من المال العام لا تُقطَع يده، فرُفِع عنه حد القطع لشُبهة المِلك ولأن الشارع الكريم مُتشوِّف لدرء الحدود عن الناس، لكن العامة لا يفهمون هذا ولذا لا يُفرِّقون بين الحُكم الوضعي وبين الحُكم التكليفي.

قال بعض الناس إذا قلت له الذي يسرق من المال العام لا يُقطَع عند الأحناف والشافعية يظن أن هذا حلال ويسرق من المال العام ويأخذ قروضاً ولا يُسدِّدها، وهذا خطأ يجب توضيحه من جانب العلماء، مُشيراً إلى أن المالكية يقطعون مَن يسرق المال العام أخذاً بعموم قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ۩.

أضاف أن الشافعية دوراناً على شُبهة المِلك قالوا إن سرق من مال لا حق له فيه – مال مفروز مصرفه جهة ما – وهو يعلم قُطِع، أما إن كان له فيه حق لأنه فقير أو من الغارمين وكان المال للفقراء أو للغارمين لا يُقطَع لكن الفعل نفسه حرام بالإجماع، فهو سارق بالإجماع، وهذا حُكم قضائي أما الحكم الدياني عند الله هو النار.

عرض الدكتور أحمد العرفج مُداخَلة الحلقة وهي للمُستشار والناشط الحقوقي السعودي محمد سعيد طيب التي أشار فيها إلى وجود عصيان لأعراف مدنية تُنتهَك في أبشع صورة، وهذا الانتهاك على بشاعته وتعارضه الصارخ مع الدين لا يُهتَم به على الوجه المطلوب.

ضرب بعض الأمثلة كالمطل في الديون، عدم احترام قواعد المرور، عدم الالتزام بأبسط قواعد النظافة، الاستعلاء غير المُبرَّر على الوافدين، وعدم توفية أجور الشغّالات.

أثنى الدكتور عدنان إبراهيم على المُداخَلة، وذكر أن النبي قال اللهم إني أُحرِّج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة، فالوافدون والمُستخدَمون الآن ضعفاء لأنهم في رحمة هؤلاء الكُفلاء وحقوقهم مُحرَّجة لأن الله يُضيِّق فيها جداً، ولذا قال في الحديث اشتد غضبي عن مَن ظلم مَن لم يجد له ناصراً سواي.

قال لا يُوجَد ما هو أجمل من مُعامَلة الله لكن لا يُوجَد ما هو أصعب وأخفى وأدق منها مُستشهِداً بقصة شخصية وقعت لأسرته يُفهَم منها خطورة المال الحرام، ولذا قال لمَن يتغوَّلون ما ليس لهم اتقوا الله، إن لم تتقوه في أنفسكم وفي آخرتكم اتقوه في أبنائكم وبناتكم وأحفادكم حتى لا يُصيبهم بعض الغضب والعذاب.

أشار إلى أن مجمع الفقه الإسلامي الدولي المُنبثِق عن مُنظِّمة التعاون الإسلامي أصدر فتوى يُحرِّم فيها قطع الإشارة الحمراء وتجاوز السرعة القانونية فضلاً عن تحريمه التفحيط.

قال إننا مُأمورون شرعاً بإطاعة التسنينات والتقنينات التي تأتي بمصلحة الناس مُستدِلاً بحديث صحيح عن طاعة الأمير، فهذه مسائل شرعية ورد فيها نص.

تحدَّث الدكتور أحمد العرفج عن تزوير الشهادات العُليا، التحايل على العمل، التأخَّر عن العمل، وتوقيع شخص لشخص، مُتسائلاً هل هذه معاصي دينية أم مدنية؟ فقال الدكتور عدنان إبراهيم إن هذه معاصٍ دينية، لأن مفهوم المعصية أصلاً هو مفهوم ديني.

أضاف أن عمر بن عبد العزيز كان يُحافِظ على المال العام لذا حين أراد أن يُحدِّثه أحد الخدم في موضوع يخصه أمره بإطفاء السراج لأن الدهن دهن الأمة.

قال مَن يُطِل الصلاة في وقت العمل هو آثم، فينبغي أن يُصلي كما يُصلي في بيته، واستدل بقصة عن الإمام سُفيان الثوري مُلخَّصها أن أحدهم جاء إليه لمعرفة فضيلة الصلاة في الصف الأول وهو يتساهل في حقوق الناس فقال له يا أخي انظر ماذا تُدخِل جوفك ثم لا تُبالي إن صليت في الصف الأخير.

أكَّد على أن الذي يسرق المال العام ورطته أكبر بكثير من الذي يسرق من المال الخاص، لأن الذي يسرق من رجل قد يُسامِحه قبل أن يموت، لكن حين يسرق مِن الأمة والشعب مَن سيُسامِحه؟ واستدل بحديث المُفلِس.

ذكر مُسمى الغلول وأشار إلى أن الأحاديث فيه مُخيفة مُستشهِداً ببعضها، فالغلول ليس في الغنائم فقط كما يظن البعض، فحتى لو كان من المال الصدقات هو غلول، والنبي سماه غلولاً، ومن هنا يُفهَم أن الغلول هو تغول المال العام.

عرض الدكتور أحمد العرفج فيديو الحلقة الذي ظهر فيه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وهو ينتظر إشارة المرور الحمراء حتى تتحوَّل إلى اللون الأخضر، وقد أثنى الدكتور عدنان إبراهيم على هذا المشهد.

أشار إلى أن الحلول لابد أن تكون مُتكامِلة لأن الأسباب كثيرة ومُتكامِلة، مُؤكِّداً على أهمية القوانين للتخلص من التجاوزات مثلما يحدث في العالم المُتقدِّم حفاظاً على حياة الناس.

أضاف أن الأمر لا يقتصر فقط على القوانين رُغم أهميتها فهناك التربية، وقال إن ثقافتنا بشكل عام تحتاج إلى ترميم وإلى إنعاش في مواطن كثيرة.

أكَّد على أننا تعلَّمنا الدين بطريقة شكلانية وليس شكلية فقط، فهي مُغرِقة في الشكلية، ولذا يُحترَم مَن له لحية عظيمة ويلبس زياً على السُنة النبوية وإن كان له مُخالَفات أقلها غيبة الناس أو خيانة المال العام أو خيانة الأمة في النصح، والمفروض ألا يُحترَم هذا وألا يُعبأ بلحيته.

أضاف أننا لا نُريد التدين الشكلاني الميكانيكي الآلي وإنما نُريد التطور الجوهراني الحقيقي الذي يُزكي الباطن ويُزكي النفس ضمن مشروع التربية الجديدة وضمن مشروع إصلاح الخطاب الديني ولذا ينبغي أن تضطلع وزارات الأوقاف بدور كبير فتغير – مثلاً – من مواصفات الخطيب لأن الخطابة لابد أن تكون حضارية.

أوضح أن بعض الفقهاء يقولون إن قطع إشارة المرور هو نوع من التسبب في القتل وإن لم يُوجِب قصاصاً إلا أنه يُرهِق ضمير الفاعل، ولذا نحتاج إلى مُقارَبات عديدة مثل المُقارَبة الفقهية.

أكَّد على أن أجر إماطة الأذى من الطريق عظيم وذكر أن النبي حدَّثنا عن رجل نحى غصن شوك فشكر الله له فغفر له، وعند مُسلِم في الصحيح قال رأيت رجلاً يتقلَّب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تُؤذي المُسلِمين.

أضاف أن مثل هذه الأحاديث حين يُربى عليها الصغار يكون لها مفعول كبير جداً، مُشيراً إلى أن الأمم الغربية ينخلون تراثهم نخلاً ثم يخرجون بمقبوسة، لكن نحن لدينا تراث كبير.

رغب في إعادة توظيف هذا التراث وتدعيمه في البرامج التربوية والوعظية فضلاً عن الإعلامية، فالإعلام له دور وينبغي أن يُقارِب هذه المسألة بطريقة مُتكامِلة.

أكَّد على أهمية الندوات والمُؤتمَرات لتنمية الوعي بهذا الموضوع، مُشيداً بوضع الكاميرات التي تفضح وتُذكِّر، وقال في أوروبا يُوضَع شرطياً من ورق، وهناك دراسات نفسية أشادت بدوره، لأنه يُذكِّر الإنسان وفي النهاية الهدف هو أن ينضبط الإنسان بأي وسيلة لكف شره.

ختم بأن هذه المعاصي تحتاج إلى توبة ولذا قال إنه يرجو مِمَن استمعوا إليه أن يُعلِنوا توبة حقيقية من كل هذه المعاصي المدنية، ومن ثم كانت التغريدة: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩.

ـــ

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليق 1

اترك رد

  • لو كان أجر الذي يميط الأذى عن الطريق كأجره عند ربه أو قريباً منه ـ تطبيقاً للقسط ـ لكانت شوارعنا من أحسن ما يكون أما الحل في دول لا تقدم الرواتب المناسبة للموظفين فهو العمل باحتساب الأجر على الله ـ أي كالأنبياء ـ و الظن أن في هذا استحالة إلا إذا علم هذا الموظف أنه بهذا العمل سيحظى فيما بعد على أحلى و أجمل ما يتمنى و يسعد سعادة لا يحظى بها و لا حتى الملوك …..( قلنا يا قذَر كن زهراً و سلاماً على فلان ) …

%d مدونون معجبون بهذه: