إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم،بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ ۩ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ۩ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ ۩ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ۩ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني في الله وأخواتي:

سنتناول – بحول الله تبارك وتعالى وتيسيره – في هذه الخُطبة معنىً من المعاني الدينية التي تبدو تقليدية، ولكن هذا التوصيف بالتقيليدية لمثل هذه المعانى بالذات هو الذي يعمل على تفريغ الدين من محتواه الأصيل ويعمل على إبعادِ وتنحيةِ فهمنا لهذا الدين عن حقيقة رسالته ودوره في الحياة، المعنى الذي عبَّر عنه القرآن بتطاول الأمد وباستطالة الأمد، قال الله فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ۩، فلماذا نُكرِّر المُكرَّر؟ نحن نعرف هذه الأشياء وسمعناها وأصبحت مُبتذَلة، وهى لا تُبتذَل ولا تبدو مُكرَّرةً غير غضة ولا نضيجة ولا مُثمِرة إلا إذا آثرناها معاني وألفاظ وكلمات ولم نصطنعها دستوراً في حياتنا تُلهِمنا العمل وتبعثُ على الفعل القويم والسلوك الحميد، فهذا مقتل من مقاتل الدين، وأرجو الله – تبارك وتعالى – وأدعوه أن يُعيننا على فهمه وتفهيمه في هذا المقام وفي كل مقام.

هذا المعنى من المعاني التي ينبغي أن يُعنى بها العلماء والدعاة في هذا الوقت العصيب، الوقت الذي تتألَّب فيه الأمة على نفسها، الوقت الذي تدعو فيه هذه الأمة على نفسها باللعن وبالويلات والثبور وعظائم الأمور، فيلعن بعضها بعضاً ويكره بعضها بعضاً، ومِن علمائها ومشائخها ودعاتها مَن يُعلِّمون الناس أن يلعن بعضهم بعضاً وأن يكره بعضهم بعضاً بإسم كذا وكذا وكذا، ولكن من بين هذه الكذائيات سياسةٌ كثيرة، من بينها ومن خلفها ومن ورائها ومن بين يديها سياسةٌ كثيرة، سياسة تتوسَّل الدين وتتوسَّل الخطاب الديني لكي تُمرَّر أفكار ومن ثم مَخطَّطات مُعيَّنة، وطبعاً الأمة لا تستفيد منها بل أن الأمة تُكرَث بها، ولذلك أكثر ما تحتاجه الأمة في هذا الوقت لنفسها ولأداء رسالتها في العالمين أن تتعلَّم هذه المعاني بالذات، وهذا هو المعنى الذي سندور حوله ونُشقِّق الكلام ونُفرِّعه من معناه الجذري الأساس.

قبل حين غير بعيد وقبل عصر الشبكة العنكبوتية – النت Net كما تُعرَف تقريباً – وقبل أن تستبحر وسائل الاتصال والمعلومات على النحو الذي نعرف جميعاً كان مُجرَّد وصف الشخص بأنه عالم أو مُفكِّر أو مُثقَّق يُشكِّل حُجةً في ذاته، حُجة ناجزة جاهزة لا تحتاج إلى تبرير، فكان إسم العالم مهيباً وله هيبة، فأيُ شيئ يصدر عن هذا العالم له هيبة وله حُجة أو ريح حُجة – رائحة حُجة – عند الناس بغض النظر عن أي شيئ، لذلك كان دور الجماهير مُنزوياً وضئيلاً، أي دور العامة مِمَن ليسوا بعلماء ولا مُفكِّرين ولا مُثقَّفين، لكن اليوم اختلف الحال لو كنا كنا نُتابِع ونُلاحِظ بعين ناقدة وبعين حصيفة ذكية، فهذا ما عاد يصدق في أيامنا هذه، لكن كيف؟!

هذا ما عاد يصدق في أيامنا هذه بدليل أنك تجد أستاذاً كبيراً وعالماً جليلاً في نظر أحبابه وأتباعه وشيخاً عمدة لا يعبأ الناس به ولا يُبالون كلامه بالاً، وما هو إلا أن يتحدَّث حتى يرشقه الناس بمُختلِف صنوف التنقص وأحياناً السباب وهذا غير لائق طبعاً، لأنهم لا يُبالون كلامه بالاً، فهل تعرفون لماذا؟!

لأن المعلومة أصبحت هينة، المعلومة بحد ذاتها ليست شيئاً كبيراً فيُمكِن أن يُوصَل إليها بسهولة ومن أقصر طريق، فأنت عندك معلومات ونحن نستطيع أن نحصل على المعلومات، فليس المُهِم هو المعلومات وإن كان هذا شيئ مُمتاز وتطور إيجابي، فهو على الأقل في حالة أمتنا وفي الموضوعات التي تعنينا هو تطور إيجابي، وهو أصلاً بشكل إجمالي وعام تطور إيجابي تماماً، لكن في حالتنا هو تطور مطلوب وإيجابي جداً إلى آخر النفس، فلماذا؟!

ما عاد كون المرء عالماً أو شيخاً أو أستاذاً أو مُثقَّفاً أو مُفكِّراً كبيراً يُعتبَر بحد ذاته حُجةً أبداً على كل ولكل ما يقول ويفوه ويكتب، فصار الناس الآن ينظرون في الأفكار ذاتها ويقولون هل هذه الأفكار تصلح لوقتنا؟ هل هى مُلائمة لحاجاتنا؟ هل هى مُناسِبة لظروفنا وشروطنا أم أنها تكرثنا وتُدمِّرنا وتُمزِّقنا؟ فهم يشعرون بهذا، أما المعلومة بحد ذاتها فقدت ألقها وهذا الشيئ طيب في نظري، فليس المُهِم هو أنك شيخ بلحية كبيرة وبألقاب عظيمة، وليس مُهِماً أنك مُفتي البلد وأنك شيخ وكذا أو كذا، هذا غير مُهِم عند الناس، لكن المُهِم هو ماذا تقول، هناك مَن يقول حماقات فيُقال عنه انظروا إلى هذا الأحمق الذي يعيش في القرن الحادي والعشرين ويقول هذا الكلام وهذه الحماقة، فمُباشَرةً يرمونه بهذه الألفاظ، وقد يقولون أيضاً هذا مُسيَّس – الناس يعرفون هذا – ومن الواضح أنه يخدم أجندة غربية، فكيف ينطق بهذا؟ هذا مُتناقِض لأنه بالأمس كان يقول كذا واليوم يقول كذا، فهو مُتناقِض تماماً، ويبدو أن تناقضه يشي بعصبية حزبية أو مذهبية أو بخدمة أجندية سياسية داخلية أو خارجية، فالناس إذن يفهون هذا بسرعة.

إذن هذا النت Internet أحدث لنا غريزة جديدة إن كنا نُلاحِظ هذا ولابد أن نُلاحِظ، فعلينا أن ننتبه إلى أن مُعظم البشر لا يُلاحِظون لأنهم يعيشون التطورات، يتنفسونها ولكن لا يشعرون بها، فأنت لا تُلاحِظ الهواء، تتنفسه ولكن لا تُلاحِظه إلا حين تفتقر إليه وحين تفقده، فحين تختنق تشعر بالهواء أو حين يعصف، وكذلكم الأفكار إذا عصفت تُذكِّر بقيمتها وتُذكِّر بدورها، ولكن إذا جرت وانسابت رخاءً لا يُشعَر بها أحد، لذلك نحن لا نشعر بهذه التطورات كما لا نشعر بالتطور الذي يعتري سحنة أحدنا، فإذا تابعناه يوماً بيوم وسنة بسنة لا نشعر به، أما الذي يأتي من مبعدة زمانية يُلاحِظ هذا التغير لديه فيُقال – مثلاً – له يا لله كم تغيرت وهكذا، إذن هذا تطور جيد.

من الأفكار التي ينبغي على العلماء والدعاة أن يُشيدوا بها وأن يبدئوا ويُعيدوا في التذكير بها ليل نهار أفكار رحمانية الشريعة ورحمانية المسلم ورحمانية الله ورحمانية القرآن ورحمانية النبي العظيم ورحمانية الإيمان، وأن يكونوا واضحين تماماً في أن الإيمان قرين الرحمة، ولا تُنزَع الرحمة إلا من شقي، فمَن كان فظاً وغليظاً غير رحيم مثل أن يكون غير رحيم بأهل الملة وغير رحيم بأهل لا إله إلا الله هل يُنتظَر منه أن يكون رحيماً بالآخرين الذين ينعتهم بالكفار وكذا وكذا؟ هذا مُستحيل، هذا سيكون لعنة على نفسه وعلى أمته وعلى دينه وعلى العالمين، فهذا إذن لعنة على الدين، لكن للأسف الشديد هؤلاء – لا أقول قليلون – كثيرون في هذه الأيام، كأننا نسينا أن هذا الدين أصالةً هو دين السلام ودين الرحمة.

يُسأل النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – مرةً يا رسول الله أي الإسلام خير؟

بمعنى أي هذا الدين أو أي هذا الشرع أو أي هذا النهج خير أو أي الإسلام خير؟ فيقول “طْعِمُ الطَّعَامَ – مُباشَرةً يتحدَّث عن العلاقات الأفقية لأن الله لا يحتاج إليك، فعليك أن تنظر إلى أن الرسول لم يقل له أن تذكر الله مثلاً مع أن هذا من خير الأعمال، ولكن ذكرٌ يبعث على بسط الرحمة أفقياً، فالله لا يحتاج إلى رحمتك، الله هو الذي يرحمك وأنت الذي تحتاج إلى رحمته، ولكن إخوانك في الإنسانية يحتاجون هذا، ولا أقول إخوانك في الدين فقط وإنما في الإنسانية من البشر، بل حتى البهائم المُعجَمة تحتاج هذا، وقد رأى عليه الصلاة وأفضل السلام يوماً بعيراً لحق بطنه بظهره من الهزال لأنهم يدأبونه ثم لا يُطعِمونه فقال “اتقوا الله في هذه البهائمِ المُعجَمة، فاركبوها صالحةً وكلوها صالحة”، فالرحمة حتى بالبهائم، هذا هو ديننا، ولكن أين نحن من ديننا؟ فعلينا أن ننتبه إذن – وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ”.

وهذا لا نعرفه كثيراً، نسمع به ولكن نتشبَّث كثيراً وأدرنا معركة فقهية عبر القرون شارك فيها الفطاحلة من ابن القيم وابن تيمية والطبري وابن حجر العسقلاني والشوكاني والصنعاني والكل بصفحات طويلة عن حديث في الصحيحين يقول أنك إذا لقيت يهودياً أو نصرانياً فلا تبدأه بالسلام واضطرَّه إلى أضيق الطريق، وفي القلب من هذا الحديث المُخرَّج في الصحيحين – لا أقول شيئ – ألف شيئ، فيبعد أن يكون محمد قال هذا، وإن كان قاله – طبعاً إن قاله فعلى الرأس ونعمة عين ومن ثم نحن سنتهم عقلنا – وصح أنه قاله – وليُفرَض هذا – فقد قاله في ظرفٍ خاص، ظرف تألَّب فيه هؤلاء القوم على الإسلام وأهله وخانوا العهد ونقضوا المواثيق، فالنبي شدَّد هنا وحرَّج في أن نواليهم أو أن نُحاسِنهم وأمر بمُخاشّنتهم لا بمُحاسَنتهم وبالتالي هذا سوف يكون مقبولاً لأن هذا يحصل في الظروف الطارئة، فإن صح الحديث – ولعله يصح، لا ندري – ينبغي أن يُحمَل على مثل هذا المعنى، وإن لم يصح فلا حاجة لنا به، لأن النبي كان يزور جيرانه من اليهود وغير اليهود، والحديث في الصحيحين الذي يقول أنه زار الفتى اليهودي حين كان مريضاً، فهل يزروه ثم لا يُسلِّم عليه؟ هل هذا معقول؟ هو لم يبدأه بالسلام فقط بل هو زاره في بيته، فذهب واستأذن ودخل بيته، وبالتالي قطعاً التبي سلَّم لأنه أرحم العالمين وأنبل وأكرم العالمين، فهل دخل عابساً دون أن يتكلَّم لأنه ينتظر أن يبدأوه هم بالسلام عليه؟ هذا غير معقول، وحديث أنه زار الفتى اليهودي في الصحيح أيضاً، لأن هكذا ينبغي أن نفهم هذه الأحاديث، لكن يُوجَد في الفهم مُشكِلة كبيرة لدينا للأسف، فلم نتعوَّد هذا ولم نتعوَّد التدقيق، وعلى كل حال كان ببركة زيارته ما كان، حيث أسلم الغلام ومات في تلك الساعة، ففرح النبي وخرج فرحاً جداً بإسلامه وقال الحمد لله الذي استنقذه الله بي من النار لأنه أسلم بعد أن عرض عليه الحق، ويبدو أن الغلام كان له سابقة مع رسول الله وقلبه يستشعر صدق هذا النبي وحقانية رسالته، فلماذا لا تُسلِم يا بُني؟ لأن بعض يهود وبعض أهل الكتاب كانوا يُقِرون بأنه النبي ولكن كانوا يخافون من القتل، وأقرأوا للنبي قائلين نعلم أنك النبي المبعوث في آخر الزمان والمذكور نعته في كتابنا الأول وكذا كذا، وسألوه عن عشر مسائل فأجابهم في وصايا موسى وتلى عليهم آيات الأنعام وشهدوا له، فقال فلم لا تُسلِمون؟ أي أنكم تعلمون وكل شيئ واضح عندكم فلماذا لا تُسلِموا والبرهان لائح والحُجة واضحة؟لم لا تُسلِمون؟ فقالوا يا محمد نخشى أن تقتلنا يهود، أي أنهك يخافون من القتل، فقال أنتم وذاك، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ ۩ ، أي أنتم أحرار، فهو لم يلعنهم ولم يُثرِّب عليهم.

أنتم عرفتم الحق فلماذا لا تُذعِنون؟ وبالتالي أنتم اخترتم الآن، قامت عليكم الحُجة وانقطعت المعذرة وأعذرتُ عند اللهِ منكم وفيكم، لكنه لم يلعنهم بل وترك هؤلاء الجماعة – كانوا ثلاثة يهود – وما اختاروا، صلى الله على مُعلِّم الناس الخير وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

إذن هذه هى رحمانية الإسلام، الرحمانية التي لا تجد طريقها إلا إلى قلبٍ غض طري مليء إيماناً، القلب الذي لا تصدر عنه الرحمة ولا يحيا بالرحمة هو قلب بعيد من الله، وبالتالي بعيد من الإيمان و إن ادّعى الإيمان، لكن مُشكِلة الناس أنهم يظنون أن الإيمان كالأخلاق وكالدين، ألفاظ تُقال وخُطب كهذه الخُطب، فأحياناً أشعر أنني أكره – والله – الخُطب، أكره حتى وظيفتي، ولكن أقول لابدأن نُؤدي ما علينا وأن نتقي الله في كل ما نقول، فأنا أشعر بالملل بالسآمة من الكلام، وهذا العصر بالذات استطال فيه الكلام، فالأمة كلها تتكلم، الكل يتكلم في الدين ليل نهار، فهناك فضائيات بالعشرات تتحدَّث عن الدين، ولكن أين الدين الذي يُبارِك حياتنا ويُطيِّب حياتنا؟ أين الدين الذي يبعث فينا المعاني الطيبة وفي رأسها الرحمة لأنه أول معنى وأعظم معنى؟ قال رسول الله وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، فإذا كنت تُريد رحمة الله لابد أن تكون رحيماً، فإذا لم تكن رحيماً لا حظ لك في رحمة الله، لأن النبي قال مَن لا يرحم لا يُرحَم، فليس استنباطاً مني ولكن النبي هو الذي قال هذا بصريح النص الصحيح، مَن لا يرحم لا يُرحَم.

لنا موقف ولنا تعليق على موقف أمنا عائشة – رضوان الله تعالى عليها – علماً بأن طبعاً الحديث الصحيح الذي رواه ابن عمر وأيضاً أبو هريرة لم ينفرد به أبو هريرة – رضوان الله عليه – طبعاً بل رواه غير من الصحابة، وهو أن الله – تبارك وتعالى – أدخل امرأةً النار – عُذِّبَت امرأةٌ في نار جهنم في الآخرة – في هرة، وتعرفون جميعاً هذا الحديث الذي كنا نعرفه مُذ كنا صغاراً، ولكن – كما أقول لكم – هذه المعرفة لا تستحيل إلى ثقافة، هى مُجرَّد معلومات نقولها، فيقول هذا الحديث رجل قاسي القلب وغليظ جداً لكنه يتحدَّث عن الرحمة وحديث الهرة، فأين أنت من هذا الحديث؟ هذا الحديث لم يستحل إلى الثقافة لأننا فقط تعلَّمنا أن نقول ونتكلَّم، فلا نعرف كيف نتربَّى على الأشياء وكيف نُحيلها إلى ثقافة حقيقية في حياتنا، كأحاديث النظافة، فنتحدَّث عن الإيمان والنظافة ونحن بيوتنا وسخة وملابسنا وسخة بل وأحياناً مساجدنا وسخة، فللأسف نتأذَّى ويتأذَّى بعضنا من بعض بسبب هذه القذارة، فالنظافة عندنا مُتمثِّلة في أحاديث ونصوص تُقال لأنها ليست ثقافة، وبالتالي علينا أن ننتبه إلى أنها الآن علم وثقافة ومن ثم لابد أن تستحيل إلى الثقافة، وهذا المفتاح، فلابد أن نتواصى بإحالتها إلى ثقافة حقيقية نتنفسها على هينتنا.

يقول علقمةرضوان الله تعالى عليه – كما أخرجه أحمد في مسنده كنا عند أم المُؤمِنين عائشة – رضى الله تعالى عنها – فدخل أبو هريرة فقالت له يا أبا هريرة أنت الذي يُحدِّث – أي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – أن الله عذَّب امرأةً في هرة حبستها لم تُطعِمها ولم تسقها، قال هكذا سمعته منه، أي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى الدقة الآن، فعلقمة قال هكذا قال، أي أن هذا ليس من عندي، فهو قال أن أبا هريرة قال “هكذا سمعته منه” ولم يقل “هكذا سمعته من رسول الله”، كأنه استعظمها فكان ينبغي أن يقول “هكذا سمعته من رسول الله” لأن هذا هو الذي ينبغي له صلى الله عليه وسلم، لكنه قال “هكذا سمعته منه” لأنه الآن في مقام الدفاع عن نفسه – رضوان الله عليه – فعائشة كانت شديدة هنا لأنها تقول له أنت الذي يُحدِّث؟ لأنها تُريد أن تُقيم له الميزان وتُحاسِبه، علماً بأنها كانت نقَّادة، فأنكرت على ثلاثة وعشرين من الصحابة العديد من الأحاديث، فأنكرت على هذا وعلى هذا ومن بينهم عمر وابنه عبد الله بن عمر، إذن على كل حال قالت عائشة أنت الذي تُحدِّث عن رسول الله بكذا وكذا؟ قال هكذا سمعته منه، فقالت أتدري ما كانت تلك المرأة؟ أي هل أنت تعرف مَن هى أم لا تعرف؟ لقد كانت على ما فعلت مُشرِكةً، أو قالت كافرةً،
وإن المُؤمِن لأكرم عند الله – تبارك وتعالى – من أن يُعذِّبه في هرة، فإذا حدَّثت عن رسول الله يا أبا هريرة فانظر كيف تُحدِّث، أي دقِّق كيف تُحدِّث عن رسول الله فلا تخلط الأمور في بعضها.

نحن في هذه القضية نستروح تماماً إلى حديث ابن عمر وأبي هريرة ولسنا مع أمنا عائشة ح رضوان الله على الجميع لأننا نرى أن التوفيق لم يُحالِفها هنا،فهؤلاء حدَّثوا عما سمعوا وليس في الحديث ما يُنكَر، ولكن هى أنكرت أن الله – تبارك وتعالى – يُعذِّب مُؤمِناً بهذا، فالإنسان عموماً وليس خصوص المُؤمِن مُكرَّم عند الله – تبارك وتعالى – ومُسخَّر له كل ما في هذا الوجود بما فيها البهائم، ومن هذه البهائم ما يحل ذبحه لمصلحة الإنسان ولغذائه، فكيف يُقال بُمجرَّد تعذيب هرة أدخل الله المرأة النار؟ فهكذا فهمت عائشة لأنهاأخذت المسألة من هذه الزاوية التي تُفيد بأن الإنسان ثم المُؤمِن بالذات أثقل وزناً وأخطر مثابةً وأشرف قدراً ومنزلةً عند الله من أن يُهدِر عمله ويُدخِله جهنم بسبب هرة، ولكن الذي نتلمَّحه من خلل هذا الحديث العظيم أن الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن صح الحديث – وفي الظاهر أنه صحيح – إنما أراد أن يُفهِمنا أن امرأً ما – رجلاً كان أم امرأة، فلابد أن نُجرِّد الإنسان هنا، فليس المُهِم هنا هو أنها امرأة، فالحديث عن الإنسان رجلاً كان أم امرأة – إذا انحط إلى درجة – والعياذ بالله – يهون عليه معها وفيها أن يُميت وأن يُهلِك حيواناً بغير جريرة وبغير ذنب فإن هذا يدل على أنه قاسي القلب، فما ذنب هذه القطة المسكينة؟ ولذلك في رواية عند مسلم قال حتى هلكت هُزالاً، أي أن القطة ماتت، فهى حبستها حتى هلكت هزلاً – أي هزالاً – وماتت، فما المسألة إذن؟!

المسألة أن هذا الرجل قاسي القلب، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أنه من المُستحيل أن يكون قاسي القلب في هذه المُفرَدة فقط، فلا يُمكِن أن يكون قاسي القلب أو قاسية القلب فقط مع هذه الهرة ولكنها تذوب حناناً ورفقاً ورقة مع كل المخلوقات والبشر، فهذا غير صحيح، ومن المُستحيل أن تكون قاسية جداً إلى حد الإجرام في حق هذه العجماوات ولكنها تذوب رقةً وحناناً إزاء بني البشر، هذا غير صحيح، فالذي يُمكِن – والعياذ بالله – أن ينحط إلى دركة وإلى رُتبة أن يقتل بهيمة بغير ذنب وبغير ضرر – هذه القطة لا تضر، فهى ليست من الفواسق مثلاً التي يُقتَلن في الحل والحرم لأنها غير مُؤذية – عنده أهلية واستعداد أن يقتل بني البشر، لماذا؟!

لأن هذا الفعل إنما يشي بنفسية – والعياذ بالله – إجرامية ونفسية قاسية، فهذا القلب غليظ وليس فيه رحمة والعياذ بالله.

ولذلك من العدل كما دخلت النار امرأةٌ في هرة أن نقول دخلت امرأة بغي الجنة في كلب أعزكم الله وأعزكن جميعاً، فهذا هو العدل، ولكن قد يقول لي أحدكم: كيف هذا؟ هذه المرأة البغي قطعاً هذه لا تُصلي ولا تصوم ولا تعرف حدود الله – كما أقول دائماً تعيش في ذنبٍ مُمتَّد ومُتصِل – وبالتالي كيف تدخل الجنة؟

هل تعرفون لماذا؟ لأنها على بغيها وعلى تفريطها في شرفها و تفريطها أيضاً في هذه الحقوق الربانية لا تزال تختزن الكثير من الرحمة والرقة التي ألجأتها إلى أن تخلع وتنزع موقها – الموق هو الخف هنا – وتنزل وتملأه ماءً ثم تُسقيه الكلبَ، هناك يُوجَد رقة ويُوجَد حنان، وربما ظروفها ألجأتها إلى أن تكون بغياً – والعياذ بالله – مثل المسغبة وعدم التربية والثقافة السائدة والمُجتمَع والظلم، فلا ندري السبب، ولكن هنا يُوجَد رحمة، رحمة مع ذنب ثم فازت برحمة الله تبارك وتعالى، وهذا من العدل.
وهذه المرأة التي قتلت القطة ربما كانت تُصلي، نعم عائشة تقول كافرة وبالتالي إن صح هذا عندها عن رسول الله سلَّمنا به، لكن النبي لم يقل هذا، فنحن نقطع أن المُؤمِن لو عمل هذا أيضاً سيُعذَّب، ولذلك في أحاديث أخرى في العصافير كأن يقتل أحدهم عصفوراً وليس هرة، وإنما عصفور وهذا أصغر لأن هذه الروح أصغر من هرة وأقل وزناً وخطراً، لكنه قد يقتل عصفوراً هكذا تلاعباً – يلعب ويتدرب على الصيد مثلاً – فيأتي هذا العصفور يتشخَّب دمه يوم القيامة – أي يشخَّب دماً عبيطاً – ويقول يا رب سل فلاناً فيم قتلني، أي أنه لم يقتلني لمأكلة أو لمنفعة، فلماذا قتلني وأنا نفس منفوسة؟ وسيُسأل طبعاً الإنسان، ووراء المُسألَة في حساب، لأن هذا هو رب العالمين لا إله إلا هو، فإذن هى مسألة الرحمة والقسوة، قال الله فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ۩، وبالتالي علينا أن ننتبه إلى أن قاسي القلب بعيد من الله وبالتالي لا ينتظر إلا المقت وإلا السخطة وربما اللعن، ما لعن اللهُ عبداً إلا قسى قلبه، ولكن لا يُوجَد مُلازَمة طرداً وعكساً، فقد يقسو قلب الإنسان ولكن قد لا يكون ملعوناً، ولكن ما من ملعون إلا وهو قاسي القلب، ولذلك قسوة القلب علامة ومُخيفة وخطرة وراعبة ومن ثم قد يخشى هذا القاسي القلب على نفسه أن يكون ملعوناً، فهو قد يكون ملعوناً وهو لا يدري لكن ليس بالضرورة، أما الذي صحت النصوص بلعنه على أفاعيل بأعيانها فيأتيها ولا يتوب ولا ينزع قطعاً هذا يكون قاسي القلب باللعنة، فيكون ملعوناً ويكون قاسي القلب، قال رسول الله لعن الله آكل الربا ومُوكِله وكاتبه وشاهديه، وقال هم – أي في الإثم – سواء والعياذ بالله، فلا يُوجَد مُرابي رحيم ولطيف ورقيق والعياذ بالله منهم، فأكلة الربا من أقسى عباد الله قلباً، لأن الواحد منهم يعبد ويتعبَّد ويتحنَّث في محراب المال والدنانير والدراهم والدولارات واليوروات فلا يُفكِّر في أحد، وكذلك الحال مع الرشوة وتضييع حقوق الناس، فقد يستحق أحدهم أن يدخل الجامعة لكنه لم يدخل لأنه فقير ومسكين ولأن أباه فقيراً في حين أن هناك مَن لا يستحق أن يدخلها ولكنه دخلها بالأموال، ولذا قال رسول الله لعن الله الراشي والمُرتشي والرائش – أي الواسطة – بينهما، فهذا ملعون لأنه ضيَّع حقوق الناس.
قد يقول لي أحدهم “أنت تُكلِّمنا عن الرشوة والربا الآن، ينبغي أن تتكلَّم عن بشار الأسد” وأنا أقول سوريا دُمِّرت، البلد كلها دُمِّرت الآن وانتهى كل شيئ، مع أخذ كل شيئ بعين الاعتبار وبغض النظر النظر عن أي شيئ ينبغي أن نقول لا يُوجَد مُبرِّر تحت كل الظروف أن تُدمِّر بلدك من عند آخرها هكذا وأن تضرب بالطيران ألوف المساكن،في البداية كان يُقال هذه داعيات ونحن لا ندري الحقيقة، لكن الآن برح الخفاء وكل شيئ أصبح واضحاً بالصور التي تُنشَر يومياً، فكل شيئ يُدمَّر من أجل ماذا؟!

قال من أجل أن يبقى حاكماً وطنياً قومياً يقف إزاء المُخطَّطات الصهيونية والصليبية، لكن أين هذا؟ أنت لا تقف إلا على خراب سوريا وعلى الأشلاء والدماء والجماجم في المقابر، فهل خوَّلك الشعب بهذا؟ هل هكذا يكون الوطني؟ هل هكذا يكون القومي؟

علينا أن ننتبه إلى أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – لعن مَن أمَّ قوماً وهم له كارهون، والمقصود ليس بعضهم طبعاً لأن حتى النبي كان يُوجَد مِن الناس مَن يكرهه، والمُنافِقون كانوا يكرهونه ويكرهون صلاته وقرآنه، ولكن المقصود هو أنك حين تؤم عشرة ويُوجَد منهم ثمانية يكرهونك فأنت ستُصبِح ملعوناً – النبي قال – إذا كنت تعرف هذا، فلا ينبغي لأي إنسان أن يفرض نفسه على الناس، يقول الشاعر:

والله لو كرهت كفي يوماً مُصاحَبتي               لقلت لها عن صحبتي بيني

فإذا كنتم لا تُحِبون إمامتي لن تروا – والله – وجهي ولن أؤم – والله – أحداً منكم في صلاة واحدة، هناك عزة النفس يا أخي، لكن هذا يُحِب السُلطة لذلك هو ملعون، هو رجل يعشق السُلطة، فالواحد منا لا يتخلى عن إيمانه بالله حتى ولو مات ويقول أموت ولا أتخلى عن ديني، لكن هذا يموت ولا يتخلى عن سُلطته، لأنه يعبدها ولا يعبد الله، هو يعبد السُلطة ولذلك هو ملعون، ولكن هو لا يهمه أن يُصبِح ملعوناً أو غير ملعون لأن الأمر كله عنده سيان أو سواء، ولذلك هو يذبح شعبه ويُدمِّر شعبه بالكامل ويُدمِّر حضارة سوريا، فهناك أحياء قديمة في حلب وأسواق قديمة من مئات السنين دُمِّرت، فلماذا إذن؟ من أجل ماذا هذا الدمار؟ من أجل أن يبقى في الكرسي، فلعنة الله على الكرسي وعلى مَن في الكرسي، ما هذا؟ ما هذه العقلية؟ علماً بأن ما بشار وأمثال بشار إلا واحد منا لأن خرج من نفس ثقافتنا، وبالتالي علينا أن ننتبه حتى نكون واضحين ونعي الدرس، فهناك أزمة في ثقافتنا، ولذلك أيام الأزمات التي مرت بالأمة قبل بضع عشرة سنة كنا نتمنى من سفير عربي – مُجرَّد سفير – أن يستقيل ولكن لم يستقل أي أحد،في حين أنه استقال عشرات السفراء الأمريكان والإنجليز الذين شنوا الحرب على البلاد العربية، وهذا شيئ عجيب، فضلاً عن أنه لا يُمكِن لنا أن نتمنى من وزير أن يستقيل لأن هذا الطلب أعلى وأصعب، فمن الصعب أن يستقيل وزيراً عربياً،
في حين أن هناك آحاد الوزراء في بريطانيا والولايات المُتحِدة – USA – الذين استقالوا احتجاجاً وقالوا أن هذا ظلم وأن هذه الحرب ظالمة، فهم استقالوا ولم يستقل أي مسؤول عربي، هل تعرفون لماذا؟!
بسبب الثقافة، هذه ثقافة مرضية تعشق إلى حد العبودية – أي العبادة – السُلطة والكرسي والألقاب والفخفخة والفخامة وهذا الكلام الفارغ، فبماذا ينفع اللقب وبماذا تنفع السُلطة والكرسي ومَن فيها حقيراً؟ لن تنفع بشيئ وسوف يبقى الحقيرُ حقيراً، وكذلك سوف يبقى العظيم عظيماً سواء بلقب أو بغير لقب وسواء بكرسي أو بغير كرسي، لكن قد يقول لي أحدكم أن غالبية الناس لا تفهم هذا، ومن ثم أنا أقول بدوري أن مَن لا يفهمون هذا هم حقراء وبالتالي لا يعنيني أن يفهموا أو لا يفهموا، ولا يُسعِدني أن أظهر عظيماً في نظر حقراء لأنني لا يعنيني هؤلاء أصلاً، وبالتالي علينا أن ننتبه إلى أن الأمة الواعية التي تفهم وعندها موازين ومعايير دقيقة وتضع الشيئ في موضعه هى التي تُقدِّر الأشياء وتُعيِّرها بمعيار صحيح، وبالتالي تعرف تُقدِّر مَن وتحقر مَن وترفع مَن وتُزري بمَن، علماً بأن انتخاب الديمقراطية وانتخاب الحريات يُعتبَر أمراً ممتازاً لكي تختبر هذه الأمة ثقافتها، فمَن يأتي إلى السُلطة يكون بسبب أن الشعب هو الذي انتخبه وبالتالي لا ينبغي لأي أحد أن يعترض وخاصة من الذين انتخبوه لأننا سوف نقول للواحد من هؤلاء أنت انتخبته حسب خلفيتك وحسب مفهوميتك، فهذا أقصى ما عندك يا مسكين، غيِّر ثقافتك إذن وابدأ الآن بجد واجتهاد، ابدأ افهم العالم وافهم الأمور وتعلَّم وتثقَّف، ولكي تفعل هذا عليك أن تقرأ يا رجل، لكن للأسف أمة اقرأ لا تقرأ، فينبغي عليك أن تتعلَّم حتى تُصبِح بشراً وإنساناً سوياً، لكن الجهل قتلنا ودمَّرنا ودمَّر هذه الأمة لأن هذه الأمة لا تقرأ ولا تكتب ولا تُترجِّم ولذلك وفقاً للإحصائيات هى في ذيل القافلة.

على كل حال مَن أمَّ قوماً وهم له كارهون لعنه رسول الله، هذا ملعون لو أمَّ ثلاثة وكان من بينهم اثنان يكرهونه فضلاً عن أن يكون الثلاثة كذلك، فهذا يكون ملعوناً إذا كان يعرف، وبالتالي ينبغي عليه أن يقول أنا لن أؤمكم ولن أتقدَّمكم، فلماذا أتقدَّم مَن يكرهني؟ ولكن هذا السُلطان لا يؤم ثلاثة في مسجد وإنما هو يترأس شعباً كاملاً وهو شعب عريق في بلاد الشام، فدمشق من أقدم المدن في التاريخ على الإطلاق، فما وزنك أنت يا طبيب يا العيون؟ أنت تُريد أن تُدمِّر هذا التراث وهذه الحضارة وهذا العالم كله من أجل ماذا؟

لذلك تذكَّروا الذي قلته لكم في أول أيام ما يُعرَف بالثورة السورية، فأنا قلت لكم – وأنا كنت مُنقبِضاً ولم أُؤيِّد هذه الحركة وعرفت أنها ستفشل على الأقل فشلاً يُكلِّفنا أكثر من مائة ألف لأن لدي معايير خاصة في وزن الأمور – إن كنا نُعوِّل على الغرب وغير الغرب فإن الغرب سوف يخذلنا، وقلت على منبر الجمعة أيضاً أن الخُطة ستكون أن يُترَك هذا الجزَّار المُتوحِّش يذبح ويُدمِّر ويعيث فساداً حتى يصل إلى درجة الشعب السوري تقريباً من عند آخره يقول فيها مرحباً بأمريكا وببريطانيا وبفرنسا وبإسرائيل، مرحباً بإسرائيل لأن إسرائيل أرحم، إسرائيل لا تفعل هذا في الفلسطينيين.

وطبعاً الآن الذي يحدث في حلب وغير حلب هل حدث مثله هذا في فلسطين على مر الأزمان؟ هل حدث بمثل هذا التوحّش؟!

أبوه – ما شاء الله – الأسد الكبير في أحداث حماة دمَّرها، وطبعاً ونالت مدن أخرى حظها من الدمار، فوالله لا أنساها أبداً وقد كنت غلاماً صغيراً – هذا في بداية الثمانينيات – وشعرت بمجروحية وجُرِحت جرحاً شديداً، وأفتح التفلزيون فإذا به إسحاق رابين Yitzhak Rabin – والله – يُعيِّرنا ويقول “نحن لا نفعل بالفلسطينيين كما فعل الأسد في سوريا، فنحن لا نذبح ونُدمِّر لأننا لسنا وحوشاً، نحن مُتحضِّرون”، فشعرت بالمجروحية لأن الرجل يتكلم كلاماً لا تستطيع أن ترده عليه، فهم لم يفعلوا بنا ما فعله الأسد الكبير في حماة وفي غير حماة، وهذا ابنه – ما شاء الله – الأسد، وهذا الشبل من ذاك الأسد كما يُقال، لكن لا ذاك أسد ولا هذا شبل، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩، فما هذه الثقافة؟ كم ندفع ثمن هذه الثقافة؟ ولذلك قد يتساءل أحدكم قائلاً كيف يفعل هذا؟ ونحن نقول له أنه يفعل هذا لأنه ملعون، هذا قاسي القلب ولذلاك يتأمَّر على الملايين من شعبه، وهم يكرهونه ويُبغِضونه ويلعنونه، فهو يتأمَّر عليهم ولو بذبحهم، وسبق وأن ذكَّرنا بمقولة برتولت بريشت Bertolt Brecht أو بريشت Brecht الذي يقول فيها “احتج الشعب على الحكومة وعلى برلمان الحكومة، فقالوا فليُحَل الشعب”، فهم لم يقولوا فلتُحَل الحكومة وإنما قالوا فليُحَل الشعب، وهذا بالضبط ما يفعله اليوم بشار الأسد، فكأن بريشت Brecht يقرأ هذه اللحظة بحدس الأديب الفنان، لأن الشعب لا يُريد الأسد ولا حكومة الأسد وبالتالي ليذهب الشعب وتبقى الحكومة، ومن قبل نفس الشيئ حدث مع حكومات العار هذه وذلك حين سقط الجولان والقُنيطرة وما إلى ذلك فقالوا “لا يُوجَد أي مُشكِلة لأن دمشق لم تسقط”، أي أنهم يُريدون أن يقولوا “لا يُوجَد أي مُشكِلة لأن الحكومة لم تسقط”، فتسقط كل البلاد دون أن يعبأوا بهذا السقوط، فبما أن الحكومة المركزية والفاشية لم تسقط لا يُوجد أي مُشكِلة، تأخذ إسرائيل الجولان والقُنيطرة دون أن يكون عندنا أي مُشكِلة، فإذن هذه هى نفس العقلية لأن لم يتغير شيئ، ولذلك لابد لثقافتنا أن تتغيَّر، فثقافة عبادة الأشخاص وتصنيم الأشخاص وتقديس الأشخاص وعبادة السُلطة والسُلطان والكرسي والعنجهية الفارغة لابد أن تتغيَّر، وإلا إذا لم تتغيَّر سوف نبقى ندفع الثمن مُضاعَفاً في كل حقبة وفي كل دورة من دورات حياتنا، والله وحده المُستعان على ما نحن فيه لأننا مألومون مألومون مألومون,

نعود إلى موضوعنا، إذن ما مِن أحد يلعنه الله إلا ويكون قاسي القلب، الإمام الراغب الأصفهاني – رحمة الله تعالى عليه – في كتابه العظيم المُفرَدات غريب القرآن حين فسَّر اللعن بأنه الطرد والإبعاد بسبب السُخطة – أي أنه يأتي تسخطاً، فالله يسخط عبده ومن ثم يطرده ويُبعِده – قال “وهو من الله – تبارك وتعالى – في الآخرة عقوبة”، أي أن اللعن في الآخرة عقوبة، ولكن كيف يكون اللعن في الآخرة؟ عن طريق أنهم سوف يدخلون جهنم البعيدة ولذلك هو عقوبة، لكن كيف يكون اللعن في الدنيا؟ قال الأصفهاني بمعنى الكلام “بمنعه من تلقِّي رحمة الله”، علماً بأن هذا المعنى وصلت إليه فقط بتأملي وحين عُدت اليوم إلى الراغب وجدتني مسبوقاً إليه، فقلت سبحان الله لقد توصَّل إليه، وهذا معنى دقيق جداً جداً جداً، وأنا مُتأكِّد هذا المعنى لا تُعطيه اللغة بذاتها بل يُعطيه التأمل في نصوص كتاب الله – تبارك وتعالى – وأحوال البشر المرحومين والملعونين، فكيف فهم الراغب الأصفهاني أن اللعن من الله في الدنيا يمنع العبد أن يتلقَّى رحمة الله؟
وهذا المعنى في قمة الدقة والصوابية تماماً، فهذا هو معنى اللعن في الدنيا، فالذي لا يتلقى رحمة الله هو عبدٌ ملعون – والعياذ بالله – وقلب معطوب خرب قاسٍ قسوة شديدة، وكم في الدنيا من ملاعين وخاصة من هؤلاء الحكام والمُتنفِّين الملاعين والعياذ بالله، فالواحد منهم عنده قسوة شديدة جداً لأنه ملعون بالذنوب!
يقول عبد الله بن مسعود “والله ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ۩“، أي أن قلوبهم قاسية وأعمالهم فاسقة، مُباشَرةً هذا هو، فالذين لديهم قسوة وقلوبهم قاسية لا يُمكِن أن تكون أعمالهم طيبة ورحيمة، وإنما تكون فاسقة وباطلة وخارجة عن الحد الشرعي ومليئة بالمُخالَفات والعياذ بالله، لذا بعد أربع سنيني من الإيمان – هذا في أول الإسلام لأنه في السنة الرابعة للإسلام أو للبعثة – نزلت سورة الحديد فيها هذه الآية، فالله يقول لهم ما هذه القسوة؟ فكيف يكون هناك قسوة في الصحابة وهم أهل الليان وأهل الرحمة؟ لكن المُشكِلة في الأمد، فالإنسان في البداية يكون مُتحمِّساً وبعد ذلك يفتر، ولذلك لابد أن يُتعاهَد القلب، ففكرة مُرعِبة عند الأذكياء الألباء من الناس أن يقسو قلب المرء وهو لا يدري، لذلك سل نفسك هل فعلاً أُعاني من قسوة القلب؟ هل يسوء فهمي؟ هل أميالي النفسانية مع أهوائي البشرية وليس مع الحدود الشرعية؟ يقول الله ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّه قُلُوبهمْ ۩، فالواحد من هؤلاء لا يُحِب الشريعة طبعاً ولا يُناسِبه أمر الله وبالتالي لا يُريده لأنه لا يُناسِبه ولا يخدم مصالحه، ولذلك هذا قلب قاسٍ وأعمى ومن ثم ينصرف، ومن هنا قال الله صَرَفَ اللَّه قُلُوبهمْ ۩، وقال أيضاً لَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ ۩ فالواحد منهم لا يُريد أن يلتزم، ولكن ماذا بعد؟ هل تُفرِّط في حدود الله؟ هل تُفرِّط في الفرائض؟ هذه إسمها عهود والله سماها الأمانة، وهذه الأمانة أن مُؤتمَن عليها، فيُوجَد عهد ضمني فضلاً عن العهود التي نجترها ونقطعها على أنفسنا حين نقول يا ربي أُعاهِدك إن شفيت لي ابني وإن نجَّحت لي ابنتي أن أفعل كذا وكذا مثلاً، لكن هل تُصلي الصلوات؟ هل لا تُفرِّط في الفرائض؟ هل تُخرِج الزكاوات؟ هل تلزم حدود الله؟ فإذا لم تكن مُستقيماً وقلت لي أنك لا تفعل هذا دائماً فهذا يعني إمكانية أن تُضرَب باللعنة وبالتالي تُصبِح قاسي القلب – والعياذ بالله – فتكون انتهيت وفُرِغَ منك، ققال تبارك وتعالى وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ – انظر إلى أي مدى بلغ هذا العهد – أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا – هذا هو العهد وهذه هى بنود العهد مع رب العالمين – لَأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ۩ ثم يقول الله في الآية والتها وعقبَّتها فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ – أي أنهم لم يفعلوا هذا، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن بنود هذا العهد والميثاق صنفان، علمية وعملية، وعقدية ومسلكية، لأن الله قال وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ۩ ثم تحدَّث عن إقام الصلاة وإتاء الزكاة وإقراض الله قرضاً حسناً، علماً بأن الإقراض غير الزكاة، فالزكاة فرض أما الإقراض فهو من باب التوسعات في البر، لذلك لا تقل لي أنك تُخرِج زكاة مالك بالضبط دون زيادة، فكم أحقر مَن يفعلون هذا، وسأقولها هكذا بوضوح وقد صادفت بعضاً منهم مِمن يخرجون زكاتهم بالمللي، فالواحد منهم يخاف مِن أن يُخطيء ويُخرِج مائة يورور زئادة وإلا فهى الكارثة عنده ثم يأتي ويقول أنا أخرجت زكاتي والحمد لله، ومن ثم نحن نقول له إذا قطَّرت – والله – سوف يُقطِّر الله عليك، فكما تُعامِله تبارك وتعالى هو سوف يُعامِلك، فيا رجل إن في المال حقاً سوى الزكاة، فكيف تُخرِج الزكاة فقط؟ أحياناً يُوجَد حقوق أخرى وأنت تراها وتعلمها فلا يُمكِن أن تكتفي بالزكاة فقط، فمن المُمكِن أن تُخرِج الزكاة ثم بعد ذلك ترى الآن رجلاً في مُصيبة وفي ورطة لأنه لا يجد ما يدفع به – مثلاً – علاج ابنه أو ابنته، فكيف لا تدفع له ولا تُساهِم معه؟ ينبغي أن تدفع وأن تُساهِم وإن استطعت أن تدفعل المبلغ كل مرة واحدة فلتفعل لأن ما عند الله لا يضيع، والذي يفعل لله يفعل الكثير ويتوسَّع لأنه يعمل هذا لله وبالتالي لا ينظر للناس أبداً ولا يهمه أن ينظروا إليه، وعلى كل حال المُهِم الآن هو أن الله قال فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ ۩ أي أنهم نقضوا الميثاق، فلم يُقيموا الصلاة ولم يُؤتوا الزكاة ولم يُؤمِنوا جيداً بالرسل ولم يُعزَّروا ولم يُقرضوا لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ – ثم ماذا؟ – يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ۙ ۩، علماً بأن هذه الأمة تفعل نفس الشيئ، وطبعاً كتابنا غير قابل لتحريف الكلم بمعنى اللفظ والحروف والحدود، ولكنه قابل لتحريف المعنى،وكم نفعل هذا، كم وكم نفعله يومياً، وبعض مشائحنا وعلماؤنا يفعلون هذا فضلاً عن العامة طبعاً لنهم يفعلون هذا بشكل خاص أكثر وأكثر، فإذن نحن نفعل هذا ونلعب بكتاب الله وبالسُنة، فالواحد منهم يأخذ لك من السُنة فقط الذي يشي بتدينه الكاذب الشكلاني الطقوسي كأن يكون عنده لحية فيُحدِّثك فقط عنها فقط ويقول لك “هناك بضعة عشر حديثاً صحيحاً وحسناً في اللحية، والنبي أمر بها وأنت تُخالِف ما قاله النبي”، ولكن هل هذا هو كل شيئ؟ هل لا تُوجَد آيات في الغيبة والنميمة؟ أنت يا رجل تتحدَّث على مدار الأربع والعشرين ساعة في الغيبة والنميمة، فأنت لا تترك أحداً إلا قرَّضت أديمه، كما يُقال باللهجة المصرية “هريته”، فأنت هريته غيبة وبالنميمة!

فهو شيخ ولكنه ينسى كل هذا ويتحفَّظ فقط الأحاديث التي أتت في اللحية، كما لو كانت اللحية شيئاً كبيراً لكن غيبة الناس والطعن في أعراض الناس وفي أمانات الناس ليست بشيئ، وبالتالي لا يحفظ منها أي آية أو أي حديث، فما هذا الدين؟

نحن أصبحنا مثل هؤلاء الذين تحدَّث الله عنهم، فنحن نتشبَّث بأشياء شكلانية فقط لأنها تُوافِق هوى النفوس ودعوى الدين الكاذب الزائف والدين المعلول المغشوش كما سماه شيخنا محمد الغزالي رحمة الله عليه، لذا تقول الآية الكريمة لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۩، أي أنهم أصبحوا يلعبون بالدين، لكن مَن الذي يُحرِّفه؟ أحبار بني إسرائيل، فلا تظن أن العامي هو الذي يُحرِّف هذا لأنه لا يقدر على أن يُحرِّف، لأن مَن هو المُؤتمَن ومَن هوالمُستحفَظ؟ الله قال أنه استحفظ أُناساَ، فمَن هم المُستحفَّظون على الكتاب المُقدَّس؟ الأحبار والحاخامات والرابيون، فالله قال أن هؤلاء بالذات هم الذين حرَّفوا الكلم، فلماذا؟ لأنهم ملعونون وقُساة القلوب، ولكن لماذا لُعِنوا؟ لتفريطهم في الفرائض ولتضييعهم حدود الله – تبارك وتعالى – ومن ثم نقضوا الميثاق مع الله، فلا يُوجَد عقوبة – كما تخالون – مُباشِرة فيأخذهم الله مثلاً ولكن العقوبة هى أنهم أصبحوا ملعونين وقُساة القلوب وبالتالي يُحرِّفون الكلم، فهذه هى العقوبة الدنيوية وهذا شيئ غريب، أما العقوبة الأخروية فهى كما تعلمون.

قال الله يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ ۩، وهنا قد يقول لي أحدكم: هذا أمرٌ عجيب، أنت تقول أن الله قال يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ ۩ فكيف تكون التوراة بين أيديهم أو الكتاب المُقدَّس بين أيديهم ويُحرِّفون فيه؟ كيف نسوه؟

هذا النسيان ليس نسيان الحروف وإنما نسيان الهم ونسيان القيام بأمر هذا المنسي وكأنه ليس من الدين، فيمر عليه – مثلاً – عشرة أو عشرون سنة وينتهي كل شيئ وكأنه ليس من دين الله، فيُصبِح مُضيَّعاً بالكامل، ولذلك علينا أن ننتبه إلى أن الله قال وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ ۩ وهذا أورثهم الخيانة، أي الخيانة للعهود والمواثيق مع البشر، فهل تعتقد أن الذي يخون عهده مع الله – بالله عليكم – لا يخون عهده مع البشر؟ بالله عليك لو وجدت مُؤمِناً عادياً أو مُؤمِنة عادية لا يُمكِن أن يتعمَّد الوقوع في ذنب كبير بالذات ويقول لك إني أخشى الله وحاشا لله أن أقع في ذنب فهل تأمن جانبه أو لا تأمن؟ تأمن ومن ثم تقول هذا الرجل من المُستحيل أن يغتابني ومن المُستحيل أن يكتب تقريراً عني ومن المُستحيل أن يفتري علىّ في عرضي وفي أمانتي وفي ديني لأنه إنسان يخشى الله، والعكس صحيح فقد تجد إمام مسجد وشيخ منبر يتحدَّث على مدار الأربع والعشرين ساعة في الناس – والعياذ بالله – ويبغي لهم العنت والمشاكل، فهذا أنت لا تأمنه لأن ليس عنده أي إيمان كما قال النبي وبالتالي لا يُؤمَن جانبه حتى ولو كان علَّامة في الدين، لن ينفعه هذا، فهذا كله يُعتبَر كلاماً فارغاً.

قال الله وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩، ولكن المعنى المُبشِّر – وهذه بُشرى – أن قسوة القلب – كما قلنا – لا تكون دائماً أمارة على الملعونية أبداً، فالملعون يكون قاسي القلب حتماً ولكن ليس كل قاسي القلب يكون ملعوناً، فإذن هناك إمكانية للنجاة – بإذن الله – وإمكانية للاستدراك وللعلاج وللتطبب، والقرآن يقول هذا بشكل عجيب ولطيف، فالله يقول أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ۩ ثم أنه يقول في الآية التي أتت بعد هذه الآية مُباشَرةً اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۩ الله أكبر، ومع ذلك تجد مَن يقول لك هذا كلام محمد، فكيف يكون هذا الكلام هو كلام محمد؟ هذا كلام رب محمد وهو رب العالمين، فالله يقول لا تخافوا على أنفسكم ولا على قلوبكم ولا تُوجَد أي مُشكِلة إن انصلح أمركم، فنعم أعظم شيئ الله يُعاقِبك به هو أن يضربك بقسوة القلب – قال مالك بن دينار وما ضُرِبَ عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب – لكن هناك إمكانية للعلاج، فأنت الآن مضروب بقسوة القلب لكن هذا لا يعني أنك انتهيت، ولكن كيف يا رب هذا؟!

قال اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا – الأرض تكون موتى وصحراوية ويبس ثم ينزل الماء فتحيا بإذن الله تعالى وتُثمِر وتُخرِج أحسن ما فيها، وكذلكم هذه القلوب القاسية العاسية من المُمكِن أن ينزل عليها ماء الهُدى وماء الرحمة فتحيا بإذن الله تعالى، اللهم أحيي موت وموات قلوبنا بغيث رحماتك يا رب العالمين – قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۩.

روى الإمام أبو بكر البزّار من حديث أنس بن مالك – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – قال “أربعٌ من الشقاء – أي علامات للشقاء، قال الله فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ۩، والشقي طبعاً سيذهب إلى جهنم مع مَن يدخلونها خَالِدِينَ فِيهَا ۩، أما السعيد فسيذهب إلى جنات النعيم إن شاء الله والرضوان المُقيم، فاللهم اجعلنا من السعداء والمبرورين -، جمود العين – أي العين التي لا تبكي ولا تعرف البكاء فيكون صاحبها مُباشَرةً من أصحاب القلوب القاسية، فهنا تُوجَد علاقة علّية بين القلب القاسي والعين الجامدة، إلا أن تكون عين مُنافِقة طبعاً، فهناك أُناس مُنافِقون والعياذ بالله، يبكي الواحد منهم وهو قلبه قاسٍ، ولذلك قال الحسن البصري أعوذ بالله من خشوع النفاق، فقالوا ما خشوع النفاق؟ فقال أن يخشع البدن ولا يخشع القلب، وقال أيضاً الإمام عليّ عليه السلام المُنافِق يملك عينيه، لأنه متى شاء بكى ومتى شاء أمسك، مثل الصنبور الذي يفتحه ويُغلِقه على هواه دون أن يتأثَّر القلب بشيئ،فنعوذ بالله من هذا الخشوع، فالعين الجامدة تشي بقلبٍ قاسٍ، علماً بأن صاحبها يعرفها – وقسوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا”، لكن قد يقول لي أحدكم ما هوالحرص؟

الحرص هوالتشبث الجنوني، فهو لآخر لحظة مُتشبِّث بالدنيا وروحه تخرج منه، فلديه حرص غير طبيعي، وهذا الحرص يحمله على أن يمنع الحقوق وعلى أن يبخل وعلى أن يركب المركب العثور – مركب الشُبهات والمُحرَّمات – حتى يُكثِّر ماله، لوجود حرص على الدنيا، وهذا ليس أمراً محموداً، هذا من الشقاء ولذلك يكون صاحبه إنساناً شقياً.

أما المقصود بطول الأمل هو علمه بأنه سوف يموت ولكن كأنه في شك من هذا، فيتصرَّف كما لو كان خالداً، وهذا شيئ مُخيف، ولذلك تجد إنساناً في السبعين من عمره وأحياناً – والله – في الثمانين وهو مُصاب بالسرطان والطبيب قال له سوف تموت بعد شهرين ولكنه يبقى كما هو، فيُفرِّط في العبادة ويتكلم في أعراض الناس كما لو كان لن يموت، فلا ينفع منه أي شيئ بسبب طول الأمل، فهو لا يُصدِّق أنه سوف يموت ويظن أنه سوف يعيش مائة سنة أُخرى بل وسيموت بعدنا وذلك بعد أن يقبرنا جميعاً، فنعوذ بالله من طول الأمل لأنه يمنع حُسن العمل.
أيضاً من الأسباب التي تُسبِّب قسوة القلب كثرة الكلام في غير ذكر الله وبغير ذكر الله، وهذا حال كثير من الناس، فهناك ألسن مُرسَلة على مدار النهار إلا فقط في وقت النوم بل ومن المُمكِن أن يستمر هذا الكلام الفارغ في الأحلام أيضاً، فعلى مدار النهار يُوجَد كلام في غير ذكر الله وفي غير خير، وهو كلام فارغ مُنفلِت من عقوله، فلماذا هذا الكلام؟!

روى الإمام الترمذي في جامعه والإمام مالك – عند الإمام مالك في الموطأ جعله من كلام عيسى عليه السلام، لكن عند الترمذي والبيهقي في الشعب والسُنن الكُبرى هو من كلام رسول الله – أن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال “لا تُكثِروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب – أي قسوةٌ للقلب – وإن أبعد القلوب من الله – لا تقل عن وإنما قل مِن، فلا تقل مثلاً أبعد عن وإنما قل أبعد مِن، ولا تقل مثلاً طرده عن رحمته وإنما قل طرده من رحمته، وكذلك قل هو قريبٌ من الله وبعيدٌ من الله ولا تقل هو قريبٌ من الله وبعيدٌ عن الله، فِهذا لحن عامي – القلبُ القاسي”، وعند مالك إضافة “ولكن لا تعلمون”، وذلك كله بسبب كثرة الكلام في غير ذكر الله.

لذلك مَن شعر أو استشعر شيئاً من قساوة القلب عليه أن يُهرَع إلى كثرة الاستغفار وذكر الله تبارك وتعالى، ومن هنا شكى أحدهم إلى الحسن البصري قسوة قلبه قائلاً “يا أبا سعيد أشكو قسوة القلب” فقال له “عليك بذكر الله”، فانظر إلى عظمة هذا الفقه، هذا فقه رباني وفقه روحاني عجيب، فالعلاج موجود وهو كثرة ذكر الله، لذلك قال له “عليك بكثرة ذكر الله”.

شكى أحدهم – أحد الصحابة – إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قسوة قلبه وجمود عينه، فقال له “إذا أردت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم وأطعم المسكين”، وهذه هى الأشياء الأفقية التي تحدَّثنا عنها، فهذه الأمور كلها تتعلَّق برحمة الخلق ورحمة الناس، ولذلك النبي يقول “ليست رحمة أحدكم أهله وخاصته ولكن رحمة العامة”، إذن لابد من رحمة العامة، فترحم كل ضعيف وكل مَن يستحق الرحمة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستعفروه.

 (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

كيف يكون منا قاسي القلب ونحن أمة الرحمة ونحن أمة النبي الرؤوف الرحيم وأمة هذا الكتاب الريّان والغاص بآيات الرحمة وشاراته؟ نحن أمة كتاب يقول عن رب العزة أنه وسع كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً ۩ وبالتالي كل شيئ مشمول برحمة الله، نحن أمة الرب الذي يُخبِر عنه نبيه الأبر الأصدق الأطهر بقوله أن الله – تبارك وتعالى – لما فرغ من الخلقِ كتب كتاباً فهو عنده فوق عرشه فيه إن رحمتي تغلب غضبي، إذن رحمته صفة ذاتية، فكيف يكون من هذه الأمة أُناس قساة القلوب وعُساة وغِلاظ وشِداد؟

هذا يحتاج إلى خُطبة بحيالها ولكن بكلمة قبل أن نمضي نقول: لأن هذه الأمة تظن أن إيمانها بالله يأتي على نحوٍ واحد وهذا غير صحيح، فكلٌ منا يُكوِّن عقيدةً وتصوراً لله حسبما يتفق له والله أعلم، فبعض الناس يتفق له منذ الصغر أن يتعلَّم الدين بطريقة في النتيجة تكون صورة الله في ذهنه وفي اعتقاده هى صورة رب قاسٍ جبَّار قهَّار مُنتقِم، وهذا صحيح من صفات الله ولكن جانب الرحمة وجانب المغفرة وجانب العطاء والكرم والجمال مُتقلِّص ومُتهمِّش في هذه الصورة، والإيمان برب على هذا النحو يجعل الشخصية على نحوٍ مُشابِه، فتكون الشخصية غليظة وقاسية، لذلك قال مرةً توماس بين Thomas Paine “”Belief in a cruel God makes a cruel man أي أن الإيمان بإلهٍ قاسٍ يجعل المرء قاسياً، وهذا صحيح فالإيمان بإلهٍ قاسٍ يجعل الإنسان قاسياً، لذلك المسألة لها جذرها الاعتقادي، فعلينا أن نُعيد فهم آيات العقيدة – فهم الآيات عموماً وخاصة آيات الاعتقاد – على نحوٍ يُؤكِّد الحقيقة الماثلة في كتاب الله في مئات الآيات وهى أن الرحمة هى التجلي الأول والأعظم لله على الوجود كله، ثم علينا أن ندعم هذا التصور العقدي، فنُنشِّأ أولادنا فعلاً على هذا وبالتالي ينشأ لنا المسلم الرحيم الرفيق بكل شيئ، فالنبي كان يتحسَّس جداً من أي شيئ فيه خشونة وفيه غلظة، وذات مرة ركبت عائشة جملاً – دابة – لكنه استصعب عليها فجعلت تُردِّده – معنى تُردِّده أنها تأخذه من عقاله فتجذبه ثم تُرخيه – فقال لها النبي يا عائشة – لأن النبي كان حسَّاساً، وهذا الحيوان يتألَّم حتى ولو كان شموساً ومُستعصياً – عليكِ بالرفق، إن الله يُحِب الرفق في الأمر كله، ما وضع الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه، وهذا هو سبب الحديث الذي نعرفه جميعاً دون أن نعرف سببه، علماً بأن عائشة – رضوان الله عليها – هى التي تتحدَّث عن نفسها وتقول أن هذا حدث معي لأنني فقط جذبت البعير فتحسَّس النبي واعتبرها قسوة، لذا النبي يقول ما وُضِعَ الرفق ف شيئ إلا زانه وما نُزِعَ من شيئ إلا شانه.

يقول أبو هريرة قام رسول الله – أي في الصلاة – وقمنا خلفه نُصلي فقال أعرابي بصوت عالي “اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً”، أي أن هذا أمر حصري – Exclusive – لي ولمحمد فقط، والصحابة كانوا يسمعون هذا الأعرابي الغلبان ويتعجَّبون من كلامه، وبعد أن سلَّم النبي – انظروا الآن ماذا سيفعل مُعلِّم الناس الخير – قال “لقد تَحَجَّرْتَ واسعاً”، يُريد رحمة الله، فرحمة الله أوسع من أن تخص محمداً وأعرابياً، تقول الآية الكريمة وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ۩، فرحمة الله واسعة جداً، ولذلك قال النبي “لقد تَحَجَّرْتَ واسعاً”، واسمعوا الآن لتتمة القصة التي تعرفونها حيث قال أبو هريرة فما لبث أن قام وبال في المسجد – طبعاً شخص بهذه العقيدة وبهذه العقلية من الطبيعي أن يبول في المسجد، لذلك سبحان الله بعد قليل قام وأخذ يُبوِّل في المسجد – فأسرع الناس إليه – انظر الآن ماذا سيفعل النبي الرحيم الذي سبق وقال له لقد تَحَجَّرْتَ واسعاً – فقال النبي “لا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ”، أي اتركوه ولا تقطعوا عليه بولته، دعوا هذا المسكين يتبوَّل كما يُحِب، وهذا من رحمة النبي الذي سمح له بهذا الفعل في المسجد وقال “لا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ” أي لا تقطعوا عليه بولته، والحديث معروف للجميع.

اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ولا تُعذِّبنا فأنت علينا قادر وألطف بنا فيما جرت به المقادير.

 

  (انتهت الخُطبة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: