الكوارث الكونية بين التفسير الغائي والميكانيكى

audio

إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات:
بعد كل حادثةٍ كُبرى من حوادث الكوارث الطبيعية التي تكرثُ جانباً من جوانب الأرض وأمة من الأمم المُنتشِرة فوق هذا المعمور تثورُ تساؤلاتٌ وجودية كثيرةٌ جداً، وجوهرُ ولُبُ هذه التساؤلات دينيٌ في الأصل، فيُقال لماذا حدث ما حدث؟ ما الحكمةُ من وراءِ حدوثه؟ لماذا حدث في هذا القطاع وفي هذا الجانب بخصوص هؤلاء الأقوام دون غيرهم؟ وإلى غير هذه الأسئلة، فدائماً كان يحدث هذا ودائماً كانت تثور الأسئلة ذاتها ونفسها!
في شهر يناير المُنصرِم – مثلاً – كُرِث الشعب الهاييتي بزلزالٍ مُدمِّر فذهب في غضون دقائق بأرواح زُهاء مائتي ألف من الناس، ألوف المنازل تهدَّمَت على رؤوس أصحابها وألوف الضحايا قضوا تحت الأنقاض بشكلٍ مُروِّع مُخيف، ضربة ساحقة ماحقة لم تُبق ولم تذر من الضربات الكثيرة التي تعرَّض لها الجنس البشري والتي يتلقّاها هذا الكوكب دوماً، ففي كل سنة تهتزُ الأرض أكثر من عشرة آلاف مرة مُعظَمها من عيار أو درجة أربعة على مقياس ريختر Richter، ما يبلغ الدرجة الثامنة فقط واحد من عشرة آلاف، وكان الله – تبارك وتعالى – يستطيع لو شاء أن يجعل نصفها أو ثُلثها أو عُشرها من هذه الدرجة فتقضي البشرية كلها وينتهي كل شيئ، ولكن فقط زلزالٌ واحد من عيار ثمانية من عشرة آلاف، وأكثر هذه الألوف العشرة لا نُحِسُ به، وكثيرٌ منها من الدرجة الرابعة كما قلت، وهذا التساؤل – كما قلت – حتى وإن كان تساؤلاً ساخطاً فالمسلمون أحياناً أسمع منهم في الواقع وعلى شاشات التلفزيون Television قولهم لم يُفعَل بنا هذا؟ لم يا رب تسمح بهذا؟ لم نحن يا رب؟ وهذا نوع من التسخّط ونوع من الضجر ونوع التساؤل القلق الحائر المُمِض، فأنا لا أعتبره بداةً نوعاً من الإلحاد أو التجديف على الله، كلا بالعكس حتى هذا الاعتراض في جوهره ديني، فلماذا؟ لأن الذي لا يُؤمِن بالله – تبارك وتعالى – ليس معقولاً أصلاً أن يطرح هذا السؤال، فلن يقول لم؟ وإلا إزاء مَن سيسأل لم؟ هو هكذا، هذه طبيعة عمياء غير عاقلة وغير واعية لأن لا يُوجَد إله، ولا نقول أن هذه الطبيعة تفعل ما تشاء لأنها لا تفعل شيئاً ولكن هكذا يحدث فقط، يتفق أن يحدث هذا وينتهى كل شيئ، إذن لا عزاء ولا إمكانية للجواب أصلاً لأنه لا سؤال، فلا تسأل ولا تعترض، هو هكذا، حتى مفهوم أن تتقبَّل ما حدث ليس له معنى، وإلا تتقبَّل ماذا؟ هل سوف تتقبَّل قدراً مقدوراً يعني؟ هو هكذا، لأن الوعي وبالتالي المعنى مفقود، ولذلك التفسير العلي والتفسير الغائي “لم حدث؟ ولم يحدث؟” في جوهره ديني لأنه يفترض الله، يفترض وجود هذه القوة العاقلة المُجاوزِة للكون كله والتي تضطلع بمُهِمة التقدير والفعل كيف شاءت ومتى شاءت، ولذلك حين جاء العلم الحديث في أوروبا هنا وهم يُؤرِّخون لميلاده بالقرن السابع عشر استبدل التفسير الآلي أو ما يُعرَف بالتفسير الميكانيكي – والتفسير العلمي دائماً بحسب منطق هذا العلم هو تفسير آلي ميكانيكي – بالتفسير الغائي أو العلي الديني، فالتفسير الغائي ديني – كما قلت – في جوهره، فهو تخلّى عن التفسير الغائي وبدأ فقط يتعاطى مع التفسير والتعليل الآلي الميكانيكي، بمعنى أنه استبدل كيف بلماذا، فما عاد يسأل لماذا لأن ليس لماذا السؤال وإنما كيف، كيف يحديث هذا؟ والآن العلم معنيٌ بكيف يحدث الزلزال، علماً بأن الزلزال إسم، الزلزال مصدر وهذا واضح في قول الله إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ۩، فكيف يحدث الزلزال؟ هذا هو العلم، كيف يحدث ويقع البركان؟ كيف تحدث العواصف و الأعاصير Tornadoes؟ كيف يهطل المطر؟ كيف ينزل البرد والثلج؟ كيف تُبرِق الدنيا وتُرعِد؟ كيف يحدث هذا؟ هذا هو العلم، فهو يُقدِّم لك تفسيراً آلياً ميكانيكاً، ولكن لماذا يحدث هذا لا يعنيه، فيقول “هذا دين، والدين أسطورة وخُرافة وكلام فارغ عندنا، فما عُدنا نسأل لماذا، هذا لا يعنينا لأنه لا جواب ولأنه لا إله”، هكذا – أستغفر الله العظيم – افترضوا أو هكذا أراد الملاحدة أن يفترضوا بإسم العلم، وفي الحقيقة العلم ينبغي أن يكون مُتواضِعاً جداً ويقول “أنا أرضي لنفسي بهذا الدور، وهو أن اضطلع بمُهِمة التفسير الآلي، بمعنى أن أُجيب عن سؤال كيف، أما سؤال لماذا فلا يعنيني، وهذا قد تتكلَّم فيه الفلسفة وتتكلَّم فيه مذاهب التصوّف وتتكلَّم فيه الأديان السماوية وغير السماوية، لكن أنا لا يعنيني لماذا”، ولكن ما حدث – وينبغي أن نتنبه إلى ما حدث – هو عكس هذا.

قبل أيام استلمت رسالة إلكترونية من أحد الإخوة الذين يُتابِعون الخُطب والمُحاضَرات والموقع من المغرب العربي وكان يستنجد ويستغيث لأن الإلحاد بدأ يعم هناك بفعل أفكار مُعيَّنة علمية وفلسفية لا أُريد أن أُصدِّع رؤوسكم الآن ببعضها وسنتناولها في مواضع أُخرى إن شاء الله تعالى، ولكن لماذا؟ لأن ليس هناك من علاقة منطقية وعلاقة تلازم بين اضطلاع العلم ونجاحه نجاحاً باهراً بمُهِم التفسير الآلي وبين قضية أُكذوبة الأديان أو خُدعة الإله كما سمّاها دوكنز Dawkins – هذا الحائر المسكين – The God Delusion أو وهم الإله، فليس هناك من أي تلازم منطقي على الإطلاق، لماذا؟ لأن البشر لم يعرفوا التفسير الآلي فقط مع مولد العلم الحديث في القرن السابع عشر وإنما هم لا يزالون يعرفونه من قديم ويُحاوِلون فيه، صح لم يكن قد استبحر هذا التفسير الآلي وكان يمشي بازدواج وتكافل وتضامن مع التفسير العلي لكن الإنسان العادي البسيط اليوم قبل عشرة آلاف سنة قد يتقبَّل إمكانية تفسير عضوي فسيولوجي حيوي لحركة يده وكيف تتحرَّك هذه اليد، كان يتقبَّل هذا تماماً ولكنه لا يرى أنه يتناقض مع إيمانه بهذا التفسير العضوي الحيوي الفسيولوجي الذي يُقدِّمه علم وظائف الأعضاء مع إيمانه في نفس الوقت بالتفسير الغائي، مثلما يُحرِّك يده ليهش الذباب عن وجهه، فهذا غائي وذاك تفسيرٌ ميكانيكي آلي يُوضِّخ كيف تتم حركة اليد وحركة كذا وكذا وكذا!

في مُحاوَرة فيدون Fedón قدَّم أفلاطون Plato على لسان أستاذه سقراط Socrates نموذجاً واضحاً جداً وسلساً وقريباً للفهم للتفسير العلي والتفسير الآلي، فنعم سقراط Socrates قدَّمه ولكن سقراط Socrates لم يكن يحترم كثيراً التفسير الآلي، ما هو أهم في نظره وبالتالي أيضاً في نظر تلميذه أفلاطون Plato هو التفسير الغائي، فأفلاطون Plato أكبر فيلسوف غائي وأيضاً أرسطو Socrates اعترف بالتفسير الغائي وهو أحد الأركان الأربعة الكُبرى للتعليل السببي لديه، فهم كانوا يعترفون ويتكلَّمون عن التفسير الميكانيكي أو الآلي وأيضاً في نفس الوقت عن التفسير الغائي.
واليوم أعتقد أن فناناً كبيراً أو مُغنياً أو مُنشِداً أو موسيقاراً لا يجد أي تعارض ولا أي تشاكس بين التفسير الآلي والغائي لمسألة التصويت، مثل كيف يتم التصويت وكيف تخرج أصواتنا، وذلك حتى تفسير جمال بعض الأصوات ورخامة وخشونة بعضها كما يُقدِّمه أيضاً الطب ووظائف الأعضاء، ولكن هذا لا يكفي مُطلَقاً في قضية تفسير تصويت من نوع خاص نتيجته أغنية تُحرِّك الكوامن وتستنزف المآقي وتُوحي وتُشجي، إنها عالم آخر، فما الذي بعث على هذه الأغنية؟ وكيف تم إبداعها؟ هذا إبداع مُركَّب ومُعقَّد جداً، فهذا تشترك فيه النفس والمشاعر والوجدان مع العقل ومع اللياقات ومع التدريب والمُمارَسة، هذا شيئ آخر يتخطّى التفسير الميكانيكي ويتخطّى التفسير الآلي، إنه يتطلَّلب تفسيراً بعد آلياً وفوق آلياً وأكثر من مُجرَّد ميكانيكي.

علينا أن ننتبه إلى أن الجواب عن سؤال كيف يتم التصويت يستطيع أي عالم في وظائف الأعضاء أن يُعطيك إياه، ولكن كيف يتسنّى لهذا المُغني أن يُغني هذه الكلمات بهذه الكيفية بحيث يُبكينا ويُشجينا ويُحرِّكنا ويرفعنا إلى سماوات بعد السماوات وفوق السماوات؟ هذه المسألة مُختلِفة تماماً، ولذلك التفسير العلمي الآلي يُمكِن أن يُشكِّل إفقاراً وإجداباً لأهم ما يُميِّز الإنسان وهى أشياء كثيرة جداً.

أُريد أن أقول – حتى لا أتيه عن تسجيل هذه المُلاحَظة العجيبة جداً – أنني وجدت في كتاب الله عز وجل – وهذ من ألطف ما يكون – ازدواج التفسير الغائي مع التفسير الميكانيكي، فالقرآن يقول هذا بشكل واضح، ولا أعتقد أن كتاباً سماوياً آخراً يفعل هذا كالتوراة أو الإنجيل، فلم نقرأ شيئاً من هذا القبيل قطُ، تقول الآية الكريمة أَلَمْ تَرَ – القضية محسومة – أَنَّ اللَّهَ – يفعل كذا وكذا – يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ – الآية لم تتم ولم تكتمل ولكن إلى هنا هذا تفسيرٌ آلي، فالآية تتحدَّث وتُقدِّم تفسيراً ميكانيكياً آلياً، أي تفسيراً علمياً بلغة العصر، وهو تفسير في مُنتهى الروعة، ولذا أدهش العلماء الإخصائيين في هذا المجال في الشرق والغرب، فهذه الآية أدهشتهم بل أن بعضهم أسلم بسبب هذه الآية، وهذا شيئ غريب جداً جداً جداً، فهذا تفسير آلي في مُنتهى الدقة، ولم يكن ليتسنّى لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لغيره ولا للبشر إلى ما قبل مائة سنة أن يصلوا حتى إلى تخوم هذا التفسير ولكن هذه الآية قدَّمته بكل سلاسة وبكل وضوح وثقة وطمأنينة – فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ ۩، دخلنا الآن في التفسير الغائي، فهذا هو التفسير الغائي، وعلى كل حال حتى هذه الآية بهذا النظم البديع العجيب المُعجِز والمُدهِش واللافت لا تقول أن العملية تمت فقط من أجل أن نُصيب به ونصرفه عن مَن نشاء، فالآية لا تقول هذا أبداً، ومَن يفهم البلاغة العربية لا يُمكِن أن يقفز إلى هذا الاستنتاج العاجل أو المُتعجِّل، فالآية لم تقل هذا ولا تقوله، ولكن هذه قضية أُخرى.

تقول الآية الكريمة وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ – الآية لم تتم ولكن إلى هنا هذا تفسيرٌ ميكانيكي، فالقرآن يُقدِّم التفسير الميكانيكي ولا يراه يتعارض أبداً مع التفسير الغائي التتلوجي Teleological- فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۩، هذا تفسير غائي، فهذه غائية لا يجد العلم نفسه مُضطَراً إلى التجهّم لها ونُكرانها، فصحيح هذا يتم بشكل أو بآخر، لكن هل يتم بفضل المطر أم بفضل الذي أنزل المطر وسخَّره؟ هذه قضية افتراق الآن، ولكن ازدوج التفسيران!

وهناك أمثلة أُخرى كثيرة لن نُطوِّل بذكرها في كتاب الله، ويكفي هذان المثالان مثلاً، فإذا كان ذلك كذلك فما الذي حدث هنا في الغرب؟ وما الذي يُراد له أن يحدث في الشرق؟ ولماذا يُراد للناس أن يخلعوا عنهم مبادئهم الدينية وأن ينزعوا بواطن وظهارات مُعتقَداتهم بسبب التفسير العلمي الذي يُزعَم له أنه احتكر قضية التفسير كلها مرة واحدة وإلى الأبد؟ وهذا كلام فارغ وغير صحيح، فالعلم في ترقٍ دائم وفي تناسخ وبالتالي لا يُقال مرة وإلى الأبد، ولكنهم يقولون هذا ويكتبونه بكل عُنجهية وصلافة، فيقولون “مرة واحدة وإلى الأبد”، وهذا كلام فارغ وغير صحيح ، فوالله هذا ليس صحيحاً حتى ولو إلى مائة سنة، فالعلم يُتناسَخ في أقل من هذا بكثير، ولكن هم يُريحون أعصابهم المكدودة في معركة صراع الأفكار والمُعتقَدات، وربما أيضاً يسلون أنفسهم من حيرتهم وقلقهم وتمزقهم الفلسفي الأنطولوجي بمثل هذه القطعيات السخيفة فيقولون “مرة واحدة وإلى الأبد” وهذا ليس صحيحاً، فلم يكن الأمر ولن يكون على هذا النحو، وإلا يتوقَّف البحث البشري والقلق المعرفي وهو أنبل ما في الإنسان، لكنه لا يتوقَّف ولا ينبغي أن يتوقَّف، فالذي حدث ليس عملية منطقية وليس أن التفسير الميكانيكي بذاته فعلاً يُقدِّم الأدلة والبراهين والإمكانية على نسخ وتنحية وإزالة التفسير العلي وإفقاده مصداقيته أبداً، ولكن الذي حدث نوع من التداعي السيكولوجي والتداعي النفسي، فكان هناك معركة بين الدين وبين العلم والعلماء، وهى معركة حامية الوطيس أُلقيَ فيها جماعات من العلماء في التنور ووُضِعوا على الخوازيق وأُحرِقوا أحياءً، وبعضهم عاش في إقامة جبرية، وبعضهم عاش فاراً بجلده كما يُقال، وبعضهم عاش مقموعاً مُضطهَداً – لذا قلت أنها معركة حامية الوطيس – في الوقت الذي كان يُقدِّم فيه الكهنة ورجال الدين تفسيرات جد سخيفة للظواهر الكونية تدّعي أنها تتكلَّم بإسم الله وبإسم كتبه وكلامه المُقدَّس، مثل أن مُفسِّري الكتاب المُقدَّس للأسف قدَّموا – مثلاً – لقوس قزح – يُسمى في شرعنا قوس الله، فقزح هو إسم الشيطان كما كان يقول النبي – على أنه هو مُجرَّد نذير ومُجرَّد علامة لله – تبارك وتعالى – حتى لا ينسى ويتشيط به الغضب مرة أُخرى ويغلط كرة ثانية فيُغرِق البشرية كما فعل مع طوفان نوح وندم على ذلك، فهذا الإله الذي يندم ويتعجَّل ويستفزه الغضب فيستحمق ويفعل ما يظل بعد ذلك يبكي وينوح على نفسه من أجل فعله، فصحيح حُقَّ للعلم وللعلماء وللفلاسفة العقلانيين التنوريين أن يرفضوه وأن يقولوا لن نُؤمِن بإله كهذا، فهذا كلام فارغ وهذا سُخف شديد جداً جداً جداً، فهذا لو حاكم دولة وفعل مثل هذا الفعل فسوف يُعتبَر مُستبِداً غير عادل ويُلقى به إلى النار طُعمةً، فكيف برب العالمين؟ ولكن هذا ليس خطأ الدين من حيث هو وإنما هذا خطأ الذين أيه ادّعوا الكلام بإسم الله وبإسم الآلهة وبإسم الكتاب المُقدَّس من الدجاجلة وضيقي العطن والفكر من علماء الدين، ولهم أمثلة في كل الأديان حتى في المسلمين وإن كان على قلة.

يجب هنا أن نفتح مُزدوَجين لنُسجِّل الحقيقة التالية، وهى أن المسلم عبر القرون بفضل الله – وهذا هو امتيازنا – لم يجد أي نوع من الصراع والمُنابَذة بين ضربي التفسير – أي الآلي من جهة والغائي الديني من جهة أُخرى – أبداً، فالمسلم دائماً كان يفهم أن الله يفعل بأسباب تبارك وتعالى، وهو هكذا لا يفعل بطريق المُباشَرة، وهو يفهم فلسفة هذا ولكن في نهاية المطاف الفاعل الحقيقي والأصلي والأوحد هو رب العالمين، ولذلك يقول مرةً اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ ۩ وهذا على سبيل الحقيقة، ففعلاً هو الذي يُحيي ويُميت ولكنه قول أيضاً يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ۩ على سبيل التسبّب، مثل قوله تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ۩ – أي الملائكة – على سبيل التسبّب، والمسلم يفهم هذا.
لو قلنا “أنبت الربيع البقل” – والربيع هو المطر الذي ينزل في هذا الفصل – لن نكون من المُشرِكين أو الملاحدة لأن هذا على سبيل المجاز وبالتالي لا مُشكِلة في هذا، فالمطر أنبت الزرع على سبيل المجاز، لكن على سبيل الحقيقة مَن المُنبِت؟ الله – أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ ۩ – هو الذي أنشأ وأنبت وخلق ورزق على سبيل الحقيقة، وهى حقيقة ما ورائية وضخمة وهائلة، لذا جاءت الأديان لتُقرِّرها بأكثر من أسلوب وعلى أكثر من نحو بديع وعجيب فترتاح له الفطرة الإنسانية، وهذا صحيح وهو ضرب من التفسير النهائي – – وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ۩ – وبالتالي كل ما دون هذا التفسير هى توصيفات علمية وفلسفية وتأمليات وليست تفسيرات نهائية، فلا يُمكِن أن تكون تفسيرات نهائية، علماً بأننا وضَّحنا هذا مرةً.

إذن قد وددت أن أتناول هذه المسألة من هذه الزاوية أولاً، أما الزاوية الثانية فهى أنني لستُ أُوافِق على الاستسهال البارد بإسم التسليم الذي يدّعيه بعض المسلمين وبعض أيضاً رجال الدين في كل الأديان، فعندما تحدث كارثة يقولون “فلتحدث لأن الله يُريد هذا وبالتالي نُسلِّم لقضاء الله”، وهذا تسليم بارد يحكي شيئاً من جفاف المشاعر وإجدابها، وهذا شيئ مُخيف، فأنا أخاف من هذه الطريقة لأن مثل هذا الشخص طبعاً الذي يُحيل الآن على الله ويُغلِق المسألة ويُغلِق النقاش ويُحوِّل النقاش كله إلى أن الله هو الذي فعل هذا وهو لا يفعل إلا الخير والرحمة بكل هذه البساطة يُمكِن أن يُزلزِله وأن يهزه هزةً أكثر من عنيفة وقد يُخرِجه عن إيمانه لو ابتُليَ بفُقدان أولاده – مثلاً – جُملةً.
عشرات ألوف الهايتيين ابتُلوا بفُقدان عائلاتهم جُملة – كل العائلة – ولو حصل هذا معك يُمكِن أن تُلحِد ويُمكِن أن تكفر تماماً، وإن لم تفعل بلطف الله – نسأل الله أن يلطف بنا دائماً – فعلى الأقل بلا شك ستتقلقَل وستهتَز، وأنا مُتأكِّد ستثور في دماغك وفي نفسك أسئلةٌ وجودية لأول مرة، وهذه الأسئلة ستُكابِدها وتتكأدك، لذلك علينا أن ننتبه إلى أن هذا التسليم يحكي إجداباً وفقراً وتصحّراً في إنسانيتنا وفي جانب التعاطف لدينا وفي حُب الحياة أو ما يُعرَف بالبيوفيليا Biophilia، فبعضُ الناس لا يُحِب الحياة وإنما يُحِب الموت ويُحِب العدم ويُحِب أن تقوم القيامة ويُحِب النهاية في كل شيئ، وهذا الإنسان مُدمِّر وسلبي وغير واعد، علماً بأن هذا لا يعد إلا بالدمار، وهو لا يُحسِن إلا الدمار، فهذا أعطه دوراً إرهابياً يتعلَّق بالقتل والتذبيح والتكفير وقطع الرؤوس وبالتالي سوف يفعله بإسم الجهاد، ولكن إن أعطيته دوراً بنائياً في الحياة لن يفعل شيئاً، ونحن نقول له “ابن يا أخي واترك أثراً حميداً مجيداً وأسعِد الناس وارسم بسمة وأورِثهم شيئاً زائداً على ما قدَّموه إليك، اخرج من الحياة وقد أضفت إليها كما أخذت منها”، لكنه هو لا يُؤمِن بهذا ولا يُحسِنه، ويفعل ما يفعل بإسم الدين كما يقول، وهذا كلام فارغ، هذا الشخص خطير جداً جداً جداً، علماً بأن مثل هؤلاء مُؤهَّلون تماماً أن يلعبوا دور الله، ولكن مَن يلعب دور الله؟ مَن الذي يُمكِن أن يلعب دور الله؟ لا أحد ، ولا الملائكة أجمعون، ولكن هناك من أهل الدين مَن يفعل هذا، ولا نقول من العلماء وإنما نقول من رجال الدين ومن عيال الدين ومن صبيان الدين ومن أولاد الدين، فهؤلاء أولاد صغار لا يعرف الواحد منهم كوعه من بوعه ولكنه يلعب دور الله ويتكلَّم بإسم الله ويقول “الله يُريد هذا، الله له حكمة في هذا”، ثم يفعل ما يفعل ويقول “الله – عز وجل – يُحِب هذا”، وهذا شيئ عجيب، فهذا الشخص مُخيف وهو شخص استئصالي.

مثل هذا المُتطرِّف الاستئصالي المُجدِب المشاعر والمُقفِر والمُتصحَّر النفس والوجدان تماماً العالم المادي أو الفيلسوف المادي في الشرق والغرب الذي يقول “ما الذي يحدث؟ لماذا تروعنا هذه الكوارث وهى لا تزال تحدث على مر الدهور والقرون والسنين؟ فهذه الأرواح تسقط تماماً كما تتساقط أوراق الأشجار في الخريف وكما تسقط ملايين الخلايا كل يوم وكل حين في أنحاء جسمك، فلماذا أنت لا تبكي على هذه الخلايا وهى كائنات حية؟ فالحيوانات تموت والعصافير تنفق وهناك أنواع كثيرة تنقرض كل سنة، وكذلك البشر يموتون، يموتون بالموت العادي أو بالأمراض وبالمجاعات وبالحروب وبالزلازل والبراكين والإعصارات والطوفانات والفيضانات، فهم يموتون أيضاً، تعدَّدت الأسباب والموتُ واحدُ، فما الذي يحصل؟ إذا أردنا أن نبكي على هؤلاء المكروثين فلنبك على الخلايا التي تموت كل ساعة في أبداننا، فهناك معركة أيضاً بين الحياة والموت”، وهذا خطير جداً جداً جداً وهذا مُشابِه من حيث لا يظهر لبعض الناس ربما تماماً لموقف المُتطرِّف الديني الذي حكيته سابقاً، فهذا هو نفس الشيئ، الكل يتحدَّث بمنطق فوق إنساني يعلو على الإنسان ويتجاوز الإنسان!

نحن بشر لنا مشاعر ولا يُمكِن لأحد أن يزعم أنه حين يُكرَث في مَن يهمه وفي مَن يخصه أنه لا يتأثَّر كثيراً وأنه يرى المسألة تختلف تماماً وبالكُلية عن سقوط الخلايا التي لا نشعر بها في أبداننا أو سقوط غربان وعصافير في الغابات المطيرة أو غيرها أو في الصحاري البعيدة المُقفِرة، هذا مُستحيل لأن المسألة تختلف تماماً، وهذا كذب وتدجيل، فهذا يلعب دور الله ويتحدَّث كأنه خلو من المشاعر الإنسانية، فله حسابات أكبر من كل هذه البسائط والسذاجات البشرية العاطفية الشرعية، فما هذا؟ هل أنت الله؟ لو الله – عز وجل – تحدَّث بهذا المنطق هو حر لأنه فوق كل الحسابات وفوق كل التحديدات، وأنا لدي مفهوم أُحِب أن أقوله وهو “كل ما هو محدود في ذاته يقبل التحديد من خارج”، لذلك علينا أن ننتبه إلى أن الله يستطيع أن يُحدِّدنا ويحكم علينا ويُشرِّع لنا ويرسم لنا الحلال والحرام لأننا محدودون وعلمنا محدود وقدراتنا محدودة ووجدونا محدود وحياتنا وإمكاناتنا ولياقاتنا محدودة، إذن نحن – والشيئ من معدنه لا يُستغرَب – يُمكِن أن نُحدَّد من خارج، وهذا الخارج قد يكون المُجتمَع وقد يكون القانون وقد تكون الدولة وقد يكون مَن هو أذكى مني ومَن هو أرفع مسئوليةً مني، ولذا هو أيضاً قد يُحدِّدني، فالمحدود في ذاته يُحدَّد لأنه قابل للتحديد من خارج، والله – عز وجل – ليس محدوداً بالمُطلَق، بالعكس هو المُطلَق – لا إله إلا هو – وهو غير قابل للتحديد ولا تحكمه معايير ولا يُمكِن لك أن تُعيِّره، بل لا يُمكِن أن تدله على الخير والشر وأن تُحاكِمه إلى معاييرك، ولكن حين تلعب دوره هذا وحين تلعب هذه اللعبة الخبيثة جداً مرة بإسم الدين ومرة بإسم العلم ومرة بإسم الثيولوجيا – Theology – ومرة بإسم العلموية وتبدأ تجترح منطقاً فوق بشري وفوق مشاعري وفوق إنساني فأنت لا تلعب إلا دور الله، وبالتالي سوف تكون خطيراً جداً وسوف تكون شخصاً استئصالياً.

علينا أن ننتبه إلى أن كل الفلسفات الاستئصالية التي دُعِّمَت في شكل حروب كونية وأنماط من الاستغلال غير المُتكافيء وإلى الآن تُعاني منها البشرية لها بطائن تُشبِه تماماً هذه الفلسفة بل هى ذات الفلسفة التي قصصتها عليكم قُبيل قليل، فهم يقولون ما الإنسان؟ الإنسان نتيجة صُدفة عمياء وقعت في ضاحية مجهولة في هذا الكون المُترمي وهو ليس أكثر من تركيب مُعقَّد راقٍ للمادة، وذلك وفقاً للمادية الجدلية، فهناك برتراند راسل Bertrand Russell والعلمويون والاختزاليون من أصحاب مذهب الردية Reductionism والبيولوجيا Biology التي يُمكِن أن تُرَد إلى الكيمياء، والكيمياء تُرَد إلى الفيزياء، والفيزياء تُرد إلى مبادئها، وهذا هو كل شيئ، فلم لا؟

هؤلاء استئصاليون وخطيرون جداً، وهنا يُمكِن أن يضح لنا كيف يُقدِّم الدين الضمانة الأوحد – ليس فقط الهائلة الكبيرة وإنما الأوحد – إزاء مُحاوَلات نزع القداسة عن الإنسان وبالتالي استئصاله، فهناك سواغية لاستئصاله وهناك تشريع وتبرير لإفناء الإنسان والإنسانية والشعوب والحضارات والأمم كما حدث ويحدث، لكن الدين يرفض هذا ويقول أن الإنسان ليس مُجرَّد ضرب من ضروب الحياة الراقية بتعقّد التركيب للمادة، فهذا ليس صحيح مُطلَقاً، هو نعم كذلك بنسبة مائة في المائة لكن بدون نفخة الروح، أما من بعد وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩ اختلف الإنسان، وأصبح شيئاً مُخالِفاً تماماً، أصبح عالماً قائماً بذاته، ووقعت المُسخَّرية له بفضل أنه حامل شرف وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩ ، فهذا هو الإنسان وحده.

ولذلك يأتي الفيلسوف المُفتي محمد عبده – رحمة الله عليه – وفقاً للموقف الديني من الإنسان والإنسانية ليقول “الإنسان – هو في المركز تماماً في هذا الوجود، ولكن ليس في المركز الهندسي وإنما في المركز المعنوي، فالمركز الهندسي اهتز قديماً مع كوبرنيكوس Copernicus قبل أربعمائة سنة فليهتز إذن، ولكننا نتحدَّث عن المركز المعنوي لأن الإنسان يقع من هذا الوجود في مركزه – هو عبدٌ لله وحده وسيدٌ لكل شيئٍ بعده”، فهذا هو محمد عبده، وهذا الكلام من أروع ما يكون، فهذه أروع فلسفة تنويرية وأروع فلسفة إنسانية وبالتالي علينا أن ننتبه جيداً، وهذا ليس مُجرَّد تعقيد زائد للمادة، لكن هم يقولون أنك تفترق عن هذا المنبر – مثلاً – أو عن هذه النبتة بالدرجة فقط لا بالنوع، وهذا ما قاله داروين Darwin وماركس Marx وسبنسر Spencer وريتشارد دوكنز Richard Dawkins الآن وهو صاحب الجينة الأنانية The Selfish Gene، فكل هؤلاء يقولون هذا، أي أن نفس الشيئ يتكرَّر، علماً بأن فيلسوف الإلحاد الإلحاد الأكبر في العالم الآن هو ريتشارد دوكنز Richard Dawkins، وهو الذي يقول “أنت تختلف بالدرجة لا بالنوع، فأنت لست أكثر من هذا أبداً”، وبرتراند راسل Bertrand Russell في الدين والعلم قال بنفس الشيئ وأنهى فصله الغائم والمُعتِم والقابض عن الغائية – غائية الوجود – ولم يجد مناصاً من أن يُنهيه هذه النهاية البائسة – ولا أقول المُتشائمة بل القنوط والكافرة بقدسية الإنسان – فقال “يبدو أن الثورة الكوبرنيكوسية لم تنج، وهى لن تُؤتي ثمارها حتى يتعلَّم البشر أن يكونوا أكثر تواضعاً مما هم عليه بكبريائهم الذي سوَّل لهم أن يعتقدوا أنهم بامتيازهم وذكائهم جعلوا معقوليةً لطرح مسألة الغاية من الوجود، فالمسألة كلها غير معقولة أصلاً، لا يُوجَد غاية ولا غير غاية، لأنك لست بالذكاء الذي بتظنه وأنت غير مُقدَّس وغير مُتميِّز”، وقبل صفحة واحدة كتب ما الذي يُميِّزك عن النمال – أي النمل – أو الأسود والفهود وقال أن هذه الكائنات هى أقوى بل وأجمل حتى منك، لكن هذه فلسفة عدمية، وبالتالي علينا أن ننتبه إلى أن مثل هذه العلموية الزائفة وهذه الفلسفات المُتحرِّرة الباطلة تنتهي حتماً دائماً بالنيهلية وبالعدمية وتنظر إلينا وإلى إنسانيتنا باحتقار، ونحن لا نُريد أن نُزايد ولكن هذه الحقيقة وهذا هو ما نطقوا به، لكن الدين يرفض هذا ويقول أنت في هذا الوجود أو من هذا الوجود في مركزه، وأنت مُسخَّر لك كل شيئ، وأنت امتيازٌ كبير، وأنت آية الله العُظمى، فآية الله العُظمى هو الإنسان.

هو هذا، وهذا ما يُعطيه الدين، لكن طبعاً حدث عكس هذا بسبب توظيف رجال الدين – كما ضربت مثلاً وهذا كان من زاوية من عشرات آلاف الزوايا – للنص الديني والخطاب الديني باستسهال واستهبال وتطنع – وهلك المُتنطِّعون – لكي يقوموا بتسويغ المجازر والمذابح وتكميم الأفواه واعتقال الألسنة وشق الصدور وإخراج القلوب النابضة بالحرية وبكرامة الإنسان، لكن الدين ليس من هذا في شيئ وينبغي علينا أن نُحارِبه كعلماء دين وكمُتدينين بغض النظر من أي عمامة خرج ومن أي لحية، فلا يهمنا هذا بإسم احترام العلماء والأئمة، هذا كلام فارغ، احترموا المُقدَّسات الحقيقية وفي رأسها الإنسان، فلا يُمكِن أن يُغتال بإسم الدين الإنسان.

هناك نُقطة ثالثة أُريد أن أتناول منها أيضاً هذا الشائك جداً – موضوع غائية الكوارث زفلسفة الكوارث والمصائب التي تُصيب الناس وتكرث البشرية – وهى أننا لابد أن نتنبّه للناحية النفسية، وقُبيل قليل أنا قلت أن الذي حصل ليس أبداً انتقالاً منطقياً وليس نوع من الانتقال المنطقي للعلم أو لفلسفة العلم أفضى إلى الإلحاد ورد الأديان، ولكنه نوع من التداعي السيكولوجي لارتباط الدين بالعلم تاريخياً وانتصار العلم، فينبغي أن ينهزم الدين الذي نكَّل بالعلم والعلماء، ثم أن هذا الدين كان يُقدِّم دائماً تفسيرات سخيفة فإذن هو باطل، ولكن الباطل هو التفسير الذي تورَّطوا فيه والباطل والسخيف هو مَن تورَّط في هذه التفسيرات السخيفة طبعاً، كما يخرج الآن للأسف بعض علماء ومشائخ ووعاظ المنابر من المسلمين ويقولون “الحمد لله في ألفين وثلاثة ضرب الزلزال بم Bam بإيران، وذلك لأن الشيعة الرافضة يسبون أبا بكر وعمر، فلعنة الله عليهم، والحمد لله قد حصدهم الزلزال” وهذا غير صحيح، لأن الزلزال ضرب تركيا المسلمة السُنية الحنفية يا حبيبي التي كان فيها بايزيد وعبد الحميد، فهو ضربها أيضاً وضرب إندونيسيا Indonesia وضرب العديد من البلدان الأُخرى، وهذا يُذكِّرني بزلزال لشبونة Lisbon، فهذا كان له تاريخ ووقع كبير في تاريخ الفكر والتنوير وذلك في سنة ألف وسبعمائة وخمس وخمسين في قرن التنوير في أوروبا هنا، فلشبونة Lisbon كانت أجمل عاصمة في العالم ولكن ضربها زلزال مُدمِّر صباح عيد كل القدّيسين، وكانوا يحتفلون في الكنائس وأخذوا زينتهم وهم يتضرَّعون إلى الرب وإلى العذراء أمه، وجاء الزلزال وضرب هذه العاصمة الجميلة والتي هى من أجمل عواصم العالم فسقطت الكنائس على رؤوس القدّيسين والراهبات المُتبتِّلات التقيات ولم يُوفِّر أحداً من هؤلاء اليسوعيين الطيبيين والكاثوليك المُؤمِنين التقوائيين، فإذن هو ضرب الكل ومن هنا قام البروتستانت في الضفة الأُخرى من الأطلسي ليقولوا “هذا انتقام من الرب القدير للبشرية المُفزَّعة المكلومة بجرائم الكاثوليك، لعنة الله عليهم ، فليذهبوا إلى الجحيم، إلى جيحم الزلزال”، وقام المسلمون في الرباط بالمغرب وغيرها ليقولوا “نعم هذا انتقام مما حدث لنا في البرتغال Portugal في محاكم التفتيش Inquisitions، فالحمد لله رب العالمين”، وبعد ساعات يسيرة ضرب الزلزال الرباط، فوقع الجامع الأعظم على رؤوس الرُكع السُجد، وذلك لأن الزلازل دائماً ديمقراطية، فهى ديمقراطية بشكل ممتاز ولذا لا تُفرِّق بين مسلم ومسيحي ويهودي وبوذي وهندوسي، وبعد ثمانية عشر يوماً على ما يبدو ظل الزلزال يتمادى فضرب على حافة الأطلسي الأُخرى الشامتين البروتستانت بالأمس القريب قبل ثمانية عشر يوماً وقُتِل في بوسطن Boston وحدها زُهاء ثلاثين ألفاً، فإذن يبدو أنه انتقم أيضاً من البروتستانت لأنهم شمتوا بالكاثوليك، ولنستسهل هذا الاستهبال، ولكن ليس الأمر هكذا، فالمسألة تختلف تماماً ولها وجهٌ آخر، كما طرح الله – تبارك وتعالى – الأمراض مثلاً، فلماذا لا تُروِّعنا الأمراض؟ أنا دائماً أضرب بالبعوضة المثال لأن الله قال إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۩، أي في الصغر أو في الكبر، بمعنى أصغر منها أو أكبر منها، فالآية تحتمل المعنيين، وهذه البعوضة الحقيرة – كما قلت لكم أكثر من مرة – قتلت عبر التاريخ أكثر مِما قتلت كل الحروب والجزّارون والدكتاتوريون، فالبعوضة تقتل يومياً وإلى اليوم ثمانية آلاف طفل كل صباح في جنوب الصحراء الكُبرى بأمراضها، وهذه مجزرة تحدث كل يوم مجزرة – ثمانية آلاف – ولا يشعر بهم أحد، ولا أحد يسخط على البعوضة ولا حتى على الله خالق البعوض، ولذلك علينا أن ننتبه إلى هذا، وهنا المسألة نفسية – وسنختم بها – تماماً، فاليوم القدرة الإلهية طرحت الأمراض وطرحت الموت وطرحت العجز والضعف والشيخوخة وطرحت فقد أعز مَن نُحِب مِن آبائنا وأولادنا وأصدقائنا وخلاننا الذين يموتون ولكننا لا نسخط كثيراً إلى هذه الدرجة، فما الذي يحدث؟ وأحياناً ينجح الإنسان في تجاوز هذه التحديات باستجابة سليمة فيتجاوزها ويُفلِح وتحسن الحياة وتجمُل، ولكن بماذا؟ بفعل إيجابي يشكِّل استجابة للتحدي الرباني فنقول “الله يُريد هذا، يبدو أن فلسفته في الابتلاء والخلق – وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ ۩ – تُريد هذا وتُريد هذه الاستجابة، فهو خلقنا لهذا وأعطانا القدرة على المعرفة لهذا، وذلك من أجل أن تُستثمَر في الاستجابة للتحدي الإلهي”.

يقول مُؤرِّخو الأمراض ومُؤرِّخو الأسر المالكة إن الملكة آنّ Anne – وهى آخر ملوك أسرة ستيورات Stuart في بريطانيا العُظمى – قد حملت في آخر سبع عشرة سنة من القرن السابع عشر ثماني عشرة مرة، يعني بمُعدَّل مرة كل سنة على الأقل، ولكنها كانت تُجهِض ولذلك أصبحن ثماني عشرة مرة، ولم تنجح في أن يُولَد لها مولودٌ حيٌ إلا في خمس مرات من ثماني عشرة مرة، وللأسف لم ينجح واحد من هؤلاء المواليد الخمسة الذين نجوا حين وُلِدوا أحياء في أن يتجاوز سن الطفولة، فماتوا جميعاً قبل أن يُراهِقوا البلوغ، يقول علماء القرن الحادي والعشرين “اليوم لم يثبت أن هناك أي خلل وراثي في الملكة آنّ Anne أو في أسرتها”، فلم تكن تُعاني من خلل وراثي، أما طبعاً ما توفَّر لها من الضمانات والكفالات والرعاية الصحية والطبية فبلا شك هو أعظم ما يُمكِن أن يُوفِّره المال، فهذا مال ملكة وإن كان ذلك طبعاً حصل قبل أن تُتوَّج ملكة حتى نكون أمناء مع التاريخ، ولكن هذا ما حصل، فما الذي حدث إذن؟ يقول المُؤرِّخون أيضاً أنفسهم – مُؤرِّخو الأمراض والطب – أن في عصر القنص والجمع – Hunting and Gathering وهو عصر جمع البذور والثمار – وقبل العصر الزراعي كان مُتوسِّط عمر الإنسان لا يتعدى ما بين العشرين والثلاثين سنة، والعجيب أن الحال ظل كذلك إلى نهاية العصور الرومانية والعصور الوسطى، فهذا هو مُتوسِّط عمر الإنسان في غرب أوروبا، لكن علينا أن ننتبه إلى أن في العالم الإسلامي في العصور الوسطى كان لدينا مئات بل آلاف العلماء المُحدِّثين الذين وصلوا إلى سن الثمانين سنة والخمس والثمانين سنة والتسعين سنة، في حين أن كان مُتوسِّط – Average – أعمارهم هنا في أوروبا من عشرين إلى ثلاثين سنة وهذا شيئ عجيب، فلم تحدث النقلة الهائلة إلا عام ألف وسبعمائة وثمانين حيث ارتفع مُتوسِّط أعمارهم إلى أربعين سنة، ثم ارتفع في ألف وتسعمائة وخمس عشرة إلى خمسين سنة، ثم ارتفع في ألف وتسعمائة وثلاثين إلى ستين سنة، ثم ارتفع في ألف وتسعمائة وخمس وخمسين إلى سبعين، والآن أصبح عمر الواحد منهم يُناهِز الثمانين لأول مرة عبر آلاف السنين، لكن لماذا؟ بفضل الله طبعاً ثم بفضل نظرية الجراثيم والرعاية الصحية والطبية والتكنولوجيا الطبية حيث استجاب الإنسان للتحدي، فهل تسمعون اليوم بالطاعون؟ لأسف سمعنا به في ليبيا قبل أشهر ينفجر بسبب أشياء مُعيَّنة، لكن في هامبورغ Hamburg في سنة ألف وتسعمائة وخمسة بألمانيا هنا كان الناس يُشيِّعون ألف إنسان كل صباح على مدى العام، وذلك بفعل الكوليرا Cholera التي تنفجر حيث القذارة ومُجافاة النظافة،والآن الكوليرا Cholera لا يكاد أحد يسمع بها، وكذلك الحال مع الطاعون الذي حصد في ثلاث سنوات من القرن الرابع عشر ثُلث سُكان أوروبا، فثُلث سُكان أوروبا قضوا بفعل الطاعون – Plague – في ثلاث سنوات فقط، لكن أين الطاعون – Plague – اليوم؟ اليوم الطاعون يُوجَد في كتب التاريخ – تاريخ الطب والأدواء – حيث انتهى كل شيئ بفضل الاستجابة الإنسانية، فحتى هذا البعوض المُرعِب – الدراكولا Dracula الأكبر والأعظم – العلماء لم يتركوه وحده، ولا تزال الأبحاث الآن من أكثر من خمس عشرة سنة تتواصل لتعديله جينياً ووراثياً بحيث يكف شره عن ابن آدم، أي ليكف شره عنا، لكن كيف سيكف شره عنا؟ باللعب في البرنامج الوراثي – Manipulation – للبعوضة، علماً بأن البعوضة طبعاً تشتهي رائحة الإنسان وتعرفه بالرائحة عن بُعد ستين كيلومتر، ولذلك هى صعبة جداً، فعن بُعد ستين كيلومتر تشم الرائحة أُنثى البعوض طبعاً وتأتيك مُباشَرةً، فالذي يلدغ هو أُنثى البعوض، ولذلك هم سيلعبون بها لكي تُفضِّل روائح أُخرى، فيفتحون لها مُتحفاً لروائحَ ثانية، وبالتالي ستترك الإنسان وسوف ننجو، وأنا مُتأكِّد من أنهم سينجحون كما نجحوا في القضاء على الكوليرا Cholera وعلى الطاعون Plague وعلى والزُهري Syphilis وعلى أدواء كثيرة وعلى أشياء كثيرة جداً جداً جداً، فهم نجحوا هنا، وهذا هو معنى التحدي والاستجابة، فهذه هى القضية إذن!

نحن ذكرنا بم Bam وذكرنا تركيا، ومن ثم سنذكر آيا صوفيا Ayasofya، فكم زلزالاً ضرب إسطنبول Istanbul ومع ذلك تقف آيا صوفيا Ayasofya شامخةً ولا يسقط منها حجر، ومن هنا سوف تجد مَن يقول أن هذا طبعاً لأنها مسجد، فهذا هو مسجد محمد الفاتح، وهذا غير صحيح، فمحمد الفاتح وضع يده عليه، وأنا لم أستحسن هذا، وعلماء كثيرون عندهم تسامح لم يستحسنوا هذا، عمر بن الخطاب لو كان حياً لن يستحسن هذا، فعمر رفض أن يُصلي في القيامة حتى لا يُغلَب عليها أهلها، فلم تضع يدك على كنيسة؟ هذه كنيسة الآخرين ولذلك ينبغي أن تبقى لهم، فهذه لم يبنها مُهندِس مسلم وإنما بناها مُهندِسان مسيحيان عبقريان بكلفة مليار جنية استرليني – مليار ذهبية، أي ألف مليون ذهبية – ولذلك هى كلَّفتهم الكثير، وفي القرن السادس الميلادي – تقريباً في خمسمائة وسبع ثلاثين – فُرِغَ من بناء آيا صوفيا Ayasofya ، فالمُهندِسان العبقريان استهديا بمعرفة القانون والسُنن وعلما أن البناء يصمد لا بثقله وعظم حجمه وأحجاره وإنما بخفة أحجاره وبالهندسة البارعة ففعلا هذا – عكس ما يفعل كل المُهندِسين في العالم – تحسباً للزلازل والكوارث، فبُنيَ البناء من هندسة بارعة بعدد أقل من الحجارة الخفيفة نوعاً ما نسبياً، ومن ثم صمد!
في ألف وتسعمائة واثنين وتسعين في جامعة برنستون Princeton غذّى المُهندِس التركي الشهير أحمد جقمق الكمبيوتر Computer بكل المعلومات اللازمة المُتعلِّقة بآيا صوفيا Ayasofya وهى الآن تُعتبَر مسجداً، ويُقال عنها المسجد الكنيسة أو الكنيسة المسجد، فسواء كانت كنيسةً أو مسجداً هى صمدت، ولكنها صمدت لا لأنها كنيسة ولا لأنها مسجد ولكن لمعرفة السبب المُتعلِّق بالتحدي والاستجابة لأن المُهندِس برع هندسياً، وبالتالي علينا أن ننتبه أن السبب ليس لأن هؤلاء كاثوليك أو لأن هؤلاء بروتستانت أو لأن هذا سُني أو لأن هذا شيعي، علينا أن نفهم هذا وأن نحترم القوانين حتى نُفلِح في تطويق الدمار والكوارث المعنوي والمادي منها، وعلى كل حال أحمد جقمق غذّى الكمبيوتر Computer بكل المعلومات وقام بتجربة مُحاكاة – Simulation – لزلزال بدرجة ستة ونصف ريختر Richter على آيا صوفيا Ayasofya فصمدت الكنيسة أو صمد المسجد، فيبدو أن آيا صوفيا Ayasofya صمد لأنه فعلاً يدين لهذه الهندسة البارعة لمُهندِسَين مسيحييَن عبقرييَن، وهما ليسا عبقريين لأنهما مسيحيان ولكن هما عبقريان لأنهما عبقريان، فقد يُوجَد مُهندِس مسيحي من أغبى ما يكون وقد يُوجَد مُهندِس مسلم من أغبى ما يكون، وقد يُوجَد مُهندِس مسلم عبقري أو مُهندِس بوذي عبقري أو مُهندِس صهيوني عبقري، فيجب أن ننتبه أن هذه الأمور ليس لها علاقة بتلك، فلا نختلط هذا بهذا ولكن هذا ما يتورَّط فيه – كما قلت – رجال الدين فيقولون هؤلاء سُنة ملاعين أو هؤلاء شيعة روافض وغير ذلك من الكلام الفارغ، فما هذا؟

ليس هكذا هو الصحيح، فلا تتكلَّم بإسم الله، مَن قال لك هذا؟ الله لم يقل هذا، هل أُوحيَ إليك أن هذا عذاب استئصال أو أن هذا عذاب عقوبة؟ مَن أدراك أو ما أدراك؟

أخيراً وقد بدأ يُدرِكنا الوقت سأختم بالناحية النفسية وهذه ستُعجِبكم كثيراً بالذات حين نُريد أن نُحاجِج وأن نُساجِل وأن نُجادِل هؤلاء الملاحدة الذين وجدوا ضالتهم ويجدون ضالتهم دائماً حين يعجز الغائي والمُتدين عن ذكر العلة والحكمة تفصيلاً في التفاريق والتفاصيل، ولكن صدِّقوني في أن لا أحد يقول بهذا، وأنا سأقول لكم عبارة وأستغفر الله منها سلفاً وهى أن حتى رسول الله – محمد صلى الله عليه وسلم هو أعظم الخلق وأجلهم وأعلمهم، ولكن هو أعلم الخلق وليس الأعلم، لأن الأعلم هو الله، وهذا يجب أن ننتبه إليه لأن الله قال وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ۩ – لا يستطيع أن يذكر لنا – وأنا أُقسِم بالله على هذا – الحكمة في كل شيئ ومن خلق كل شيئ، لأنه لو فعل سيكون إلهاً، أي سيكون الله، فالذي يعرف كل شيئ والحكمة من كل شيئ في دقيق الأمر وجليله هو رب العالمين، والنبي قال حتى في مسألة تلقيح النخل أنا لا أدري، أنا أردت الخير ولكن أنتم أعلم بأمور دنياكم، وكذلك الحال عندما سألوه عن ذي القرنين وهل هو نبي أم لا فقال لا أدري، وهوما تكرَّر مع الخضر ومع عزير حيث قال لا أدري رغم أن النبي يُوحى إليه، والله قال له وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً ۩، فكيف لك أن تقول – مثلاً – أنا سأُخبِركم؟ مَن قال لك أنك تستطيع أن تُخبِرهم؟ هل عندك العلم كله؟ فأنت يا خيرتنا ويا صفوتنا ليس عندك العلم كله، ليس عندك إلا ما علَّمناك.
أعلم الخلق وأرقاهم في عصره مَن هو؟ موسى بن عمران وقد اختُبِرَ علمه – في نهاية المطاف هذا علم بشري بمعنى أنه علم لائق ببشر ومُعطى لبشر حتى وإن كان مصدره إلهياً لأنه الآن أصبح علماً بشرياً وسيأخذ منه حسب طوقه – وهو علم أرقى وأعلم الخلق في زمانه ثلاث مرات وفي الثلاث المرات فشل، وذلك في قصة موسى والخضر، وبالتالي عليكم أن تنتبهوا إلى هذا وأن تفهموا الحكمة.

فلماذا يأتي ويتبجَّح علىّ مُلحِد مثل برتراند راسل Bertrand Russell الذي تبجَّح على العالم الفيلسوف المُتدين الدكتور بارنز Dr. Barnes؟ أقر بارِنز Barnes بكل تواضع المُؤمِن والعالم أنه لا يعرف – هذه المسألة صدَّعت رأسه، لكن هذه المسألة لم تُصدِّع رأسي ولا تهمني كثيراً وإنما تُهِم العالم المُتخصِّص – الحكمة من خلق الدودة الشريطية بقسميها البقري والخنزيري، فقال أنا لا أعرف ما الحكمة من خلقها، ونحن أيضاً لا نعرف الحكمة، فهى تُسبِّب الكثير من المشاكل ويُوجَد مثلها عشرة آلاف شيئ ولا نعرف الحكمة منه، ثم قال الدكتور بارنز Dr.Barnes أنه لا يعرف الحكمة من داء الكَلَب، وأخيراً وثالثاً أنه لا يعرف الحكمة من الرهاب أو خواف – الفوبيا Phobia – الماء، فقال لماذا؟ لماذا الله فعل هذا في بعض الناس وعذَّبهم به؟ فانشرح صدر برتراند راسل Bertrand Russell الغبي بهذا، لكن يا رجل لو أن بارنز Barnes أو أنت أو أي قسيس أو أي شيخ أو رابي أو عالم قال لك “سأُعطيك الحكمة من كل شيئ” فإن هذا سوف يُعادِل أنه إله، وهذا يُعادِل من جهتك توقّف العلم وتحدّر البحث وانتهاء كل شيئ، فسوف نطوي هذه الصفحة وتنتهي البشرية، لكن الإنسان مُتواصِل وهو يتكامل عبر البحث – وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ۩ – دائماً، فاليوم يجهل وبكرة يعلم وهكذا، فمَن الذي يُريد أن نقفه على الحكمة في كل التفاصيل؟ نحن لسنا آلهة وبالتالي لا نستطيع هذا، ومع ذلك الله طمئننا أنه لا يخلق شيئاً إلا لحكمة، فهو لا يخلق شيئاً عبثاً، وقال لنا وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۩ وقال أيضاً وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ۩ فضلاً عن أنه قال هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ۩ لكي يُطمئننا، ولذا أنا أقول لكم أن هذه الآية أتت لحاجة سيكولوجية لنا وهى أن نطمئن، فهل ماذا كان سيكون حالنا لو أن الله لم يُخبِرنا بهذا؟ حالنا كان سيكون فظيعاً جداً جداً لأننا لا نعرف هذا، ولا يُوجَد حتى أي منطق إنساني لكي نستهدي به الآن فضلاً عن عدم وجود أي منطق إلهي، وبالتالي هذا صعب جداً، ولكن في الحقيقة المسألة أعقد من هذا بكثير، ومن هنا أقول لكم أن الله قال هذا لكي نطمئن فقط رغم المسألة أعقد من هذا، لكن هل تعرفون كيف؟!

سأسأل سؤالاً فلسفياً الآن وهو: هل الله – تبارك وتعالى – يفعل ما هو عدلٌ وحكمة أو فعل الله عدلٌ وحكمة؟ علماً بأن هناك فرق كبير كما بين السماء والأرض بين المقامين، فإذا قلت ” الله يفعل ما هو عدل وحكمة ” فهذا يعني أنك تُحاكِم الله إلى معايير ما كما لو كنت مسؤولاً عن الله ما شاء الله ومن ثم أنت تحاكمه لعدلك ولحكمتك أنت، كأنك تقول له تعال لكي نعمل لك كشف حساب ولكي نعلم أين أخطأت وأين أصابت، وهذا كلام فارغ وهو قلب للأمور، فمَن الذي يُحاكِم مَن؟ ومَن الذي يُعيِّر لمَن؟ وكما قلنا المحدود في ذاته يقبل التحديد من خارج، فهل أنت الذي تُحدِّد الله؟ هذا لا يُمكِن لأن أنت المحدود، وبالتالي أنت الذي تُحدَّد لكن هو لا يُحدَّد، ولذلك الصحيح أن كل ما يفعله الله هو عدلٌ وحكمة، بمعنى أن هذا فلسفياً يُساوي أن الله لا يفعل وفقاً لمعايير مُعيَّنة، فمَن الذي يُعيِّر له؟ وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، لكن قد يقول لي أحدكم أن الله هو الذي قال يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي، وهذا صحيح، لكنه قال هذا لكي تطمئن، فافهم هذا بشكل سليم، لأن الذي قال حرَّمت الظلم على نفسي هو أيضاً الذي قال وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ ۩، والآن قد يأتيني مُلحِد مُشغِب أو مُشاغِب فيقول لي أن الله يقول يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ ۩، ألم نقل لكم أنه عبثي وأن الكون يحكي عبثيته؟ وكأن مُعظَم الكون لا يحكي النظام والدقة والحكمة والمُسخَّرية والمبدأ الأنثروبي للإنسان ، والعلم الآن يُقِر بهذا لكن هذا سكتوا عنه وحدَّثوك عن الإلحاد العلمي كما يقولون، وهذا الإلحاد ليس علمياً وإنما هو إلحاد أهوائي ومرضي، لكن المُؤمِن المُوقِن يفهم هذه الآية “وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ ۩” على أساس أن القدرة الإلهية مُطلَقة وبالتالي لا يحدها ولا يُحدَّدها شيئ، فهى عبارة عن طلاقة القدرة، وبلا شك هو كذلك، ومن هنا طمأننا وقال “لا أفعلُ شيئاً عبثاً بالجُملة، أما في التفاصيل فأنت لست إلهاً لكي تعرف كل التفاصيل”، لكن المنطق الصبياني ومنطق بُرهان الشر يقول لك لم هذا الشر كله في الكون؟ وهذا إسمه بُرهان الشر، وبالتالي علينا أن ننتبه جيداً لأنهم قالوا لنا “هذا بُرهان مُعقَّد جداً” وهو في حقيقة الأمر ليس كذلك، فأنا أرى أنه مسخرة وأن هذا كله مُجرَّد كلام صبياني ليس له علاقة بالفلاسفة الكبار، لكن كيف؟!

هم قالوا أولاًإ ن كان الله موجوداُ ويستطيع أن يُزيل هذا الشر ولكنه لا يُريد فهو شرير، إذن ليس إلهاً، فالشرير لا يكون إله، ثانياً إن كان الله موجوداً ويُريد أن يُزيله ولا يقدر فهو عاجز، والعاجز ليس إلهاً، وإن كان يُريد أن يُزيله ولا يستطيع أن يُزيله ولكنه لم يُزَل وموجود فهو غير موجود أصلاً، ولا يُوجَد شيئ إسمه الله، فهذه الفرضية أصبحت فاشلة” وهذا كله كلام فارغ، لكن هل تعرفون لماذا؟ هذا يُشبِه تماماً قول الصبي الصغير لأبيه “لأنني أعلم وأقِر بأنك حكيم وعطوف وشفوق وطيب وتستطيع أن تعمل لي كذا وتدرأ عني كذا أُريد أن أرى أنك كذلك، فاعمل لي كذا وادرأ لي كذا”، وخُطة الأب في تربيته وتعليمه وتهذيبه في أخذه وتركه وفي منحه ومنعه تتجاوز سن ابن ثلاث سنوات، إنها خُطة ابن ستين سنة، فهذا أب مُجرِّب ومُحنَّك وبالتالي لن يستجيب لهذه الصبيانية، ولذا تقول الآية الكريمة وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ ۩، فهم طلبوا الهلاك وقالوا لله أهلكنا ونزِّل علينا حجارة تُبيدنا، فقال الله لو آخذتكم بهذا المنطق سوف تذهبون جميعاً، ومن ثم لو آخذنا الله بهذا لذهب المُلحِد وكل مَن صدَّقه في اللحظة التي يقول فيها أن الله غير موجود، لكن الله لا يتعامل معنا هكذا بهذا المنطق الصبياني السخيف، ومع ذلك تجد مَن يُقول لك بُرهان الشر.

قلت لكم أنني سأختم بالناحية السيكولوجية التي أرجو أن تُعجِبكم – إن شاء الله – كفاء هذا الانتظار الطويل، فهؤلاء الذين يتبجَّون بأن قلوبهم تُوجِعهم وتُؤلِمهم على الإنسانية وعلى سُكان هايتي HaIti وسُكان بم Bam وسُكان تسونامي Tsunami إندونيسيا Indonesia وإلى آخره ويدّعون أنهم ربما أرحم من الرحمن الرحيم بخلقه وبمَن خلق ودبَّر ورزق وأحيا وأمات ليسوا كذلك، بالعكس هم – ونحن منهم، نحن في رأس القائمة – كذَّابون وأدعياء وزُعماء وأنانيون، فلا يُفكِّر الواحد فينا وفيهم إلا في نفسه، صدِّقوني كلنا هكذا وكلنا مُركَّبون هكذا، لأننا بسطاء ومحدودون، فالرحمة التي عندي كم تسع؟ هل الرحمة التي لدي تسع هذا المسجد؟ والله لا تسعه، فالرحمة التي عندي والتي عندك تسع بالكاد زوجتي وأولادي وأصدقائي المُقرَّبين وبعض الأرحام، وذلك على سبيل إعطاء القليل، فهو عطاء كالرشاش وكالرذاذ في نهاية المطاف، فكلما كانت الدائرة ضيقة كانت الرحمة كثيرة ما شاء الله، وبالتالي تستطيع أن تُعطيهم حتى كل المُرتب الخاص بك، ولكن كلما ابتعدت الدائرة واتسعت قل العطاء وأصبح بسيطاً جداً جداً جداً، فقد يصل إلى أربعين يورو في الشهر بل إلى أربعين يورو في السنة، فقد يُعطي الواحد منا هذا المبلغ البسيط لبنت أخت عمة خالته لكي يكون رحيماً ما شاء الله، لأنه لا يستطيع أن يفعل أكثر من هذا، فليس عنده ما يُعطي، وبالتالي يتكلَّم بإسم أي رحمة هذا؟ ولكن من الذي أعطى كل هذه الخلائق حياتها ورزقها وتدبيرها واستقامتها واعتدالها وبالتالي يرعاها لحظةً بلحظة؟ هذا هو الرحمن، ومع ذلك أنت تُزايد عليه في الرحمة ما شاء الله، والآن نسأل إذا كنا فعلاً تكرثنا هذه الكوارث وتُزلزِل عقائدنا ومبادئنا فلماذا لا تكرثنا – كما قلت لكم – البعوضة؟ لماذا لا نغضب جداً من الظلمة والجبّارين الذين ربما يقضون على الملايين في حرب واحدة من أجل أن يسودوا هم ومن أجل يتزعَّموا وأن يعلوا درجة في التاريخ وفي الواقع؟ علماً بأن كل ضحايا الكوارث لا تأتي عُشر وربما عُشر معشار ما فعله ستالين Stalin وهتلر Hitler، فستالين Stalin وحده قضى على أربعة وعشرين مليون، فما هو هايتي Haiti الذي قضى على مائتين ألف مُقارَنةً بما فعله ستالين Stalin؟ فهذا كلام فارغ، وما هى Bam وما هى برشلونة Barcelona مُقارَنةً بما فعله ستالين Stalin؟ هذا كله كلام فارغ، حيث ذهب ضحية كل هذه الأحداث ما يقرب من عشرين ألف أو ثلاثين ألف أو مائة ألف أو مائتين ألف، وهو كلام فارغ مُقارَنة بما وقع في عهد ستالين Stalin الذي ذهب فيه أربعة وعشرون مليون شخص، فذلك كله كان في حياة حاكم ظالم واحد ومع ذلك لا نشعر بالسخط والكفر بالاستبداد، بل بالعكس نعمل خدّاماً وأحذية للمُستبِدين والفلاسفة والعلماء والمشائخ المُستبِدين من مُبرِّري الاستبداد وحارقي البخاخير، ومع ذلك نُزايد على الله في رحمته عز وجل.

ثانياً لماذا لا نُروَّع من حوادث السير وحوادث السيارات؟ وما الذي يُروِّعنا أكثر: الزلزال أو البركان أو البعوضة؟ الذي يروعنا أكثر هو الزلزال والبركان على الرغم من أن البعوضة أخطر مئات المرات، ولكننا لا نخاف منها كثيراً صراحة دون أن ندري لماذا، بل ونخاف من الزلزال ومن البركان على الرغم من أن ضحايا البعوضة أكثر مئات المرات من ضحايا الزلزال والبركان.

ما الذي يُروِّعنا أكثر: الفيضان أم الزالزال؟ الذي يُروِّعنا أكثر هو الزلزال، لأننا نخاف من الفيضان مهما كان بدرجة أقل دون أن ندري لماذا.
ما الذي يُروِّعنا أكثر: حوادث الطائرات أم حوادث السيارات؟ الذي يُروِّعنا أكثر حوادث الطائرات طبعاً، فنقول أعوذ بالله من حوادث الطائرات ويا لطيف ألطف، لكن في حوادث السيارات لا نخاف كثيراً، ففي السيارة قد ترتاح بل وتنام فيها وتُشخِّر، أما في الطائرة ما شاء الله تشعر بخشوع عجيب حين تُقلِع وحين تتدلى للهبوط، فتبدأ تتوب من الذنوب وتقول الشهادتين وتقول لا حول ولا قوة إلا بالله وتقول لمَن حولك “هذه قدرة الله يا أخي، فالله هو الذي أقدرها على أن ترتفع ولا حول ولا قوة إلا بالله”، فأنت الآن أصبحت مُؤمِناً وتقياً جداً يا أناني، لكن في الحقيقة أنت مُجرَّد إنسان أناني وبسيط وبالتالي تتحرَّك بالمشاعر وليس بالعقل أو بالفلسفة الخاصة بك، وإنما بمشاعر سخيفة غير واضحة حتى لك!
لكن هل تعرفون ما هو السبب وراء كل هذا؟ الجامع المُشترَك في كل هذه الحالات ليس هو حجم الكارثة وليس هو حجم عدد الذين يُعانون وعانوا، فهذا كذب وبالتالي إذا قلت هذا فأنت تكذب على نفسك لأن هنا يموت عشرات الملايين وتقول لا يهمني ولا أخاف كثيراً، إذن السبب وراء هذا هو أنك تفعل هذا من أجل نفسك، فالإنسان تُروِّعه الكارثة ويخاف منها و يحسب لها ألف حساب كلما أتت بغتة وكلما تضيَّق الهامش الذي تتركه له للياذ وللفرار وللنجاة وللهرب وللإفلات منها، ولذلك يراها فظيعة جداً جداً جداً، فعدد الذين يقضون في حوادث السيارات أضعاف أضعاف مَن يقضون في حوادث الطائرات ولكنه يعلم أن من بين ألف – مثلاً – ذهبوا في حوادث الطائرات لم ينج ربما واحد في المائة أو واحد في الألف، ولكن من بين ألف ذهبوا في حوادث السيارات نجا سبعمائة، فمع أن حوادث السيارات يقضي فيها كل سنة – مثلاً – أربعمائة ألف ويقضي في حوادث الطائرات خمسة آلاف يقول أن هذه تُخوِّفه أكثر، فإذن هو لا يهمه الضحايا ولا أهاليهم ولا أولادهم ولا اليُتم ولا الترمل، هذا كله كلام فارغ، فالذي يهمه هو حاله فقط، ولذا يسأل نفسه هل هناك إمكانية لأن أفلِت لو تعرَّضت للمُصيبة هذه؟ فإذا كان هناك إمكانية فأنا سوف أتعاطف معها بل قد أطلب من ربي مُصيبة من هذا النوع، أما هذا النوع الآخر من الحوادث لا أُريده ولا أتعاطف معه رغم أن عدد ضحاياها أكثر، فليذهب الناس إلى الجحيم وليمت عشرة مليون أضافية.
إذن هذا كذَّاب، علماً بأن أكبر فيلسوف وأبسط إنسان عادي يتحرَّك بمشاعره وبأنانيته الذاتية، فهو يبحث عن ما يهمه هو، ولذلك يقول لك أنا وبعدي الطوفان!
فلماذا إذن تلعب دوراً تمثيلياً وتزايد على رب العالمين الرحمن الرحيم وتدّعي أنك غضبان عليه وأنك تشكِّك في وجوده وفي حكمته وفي عدله وفي رحمته لأنه يكرث الناس بهذه المصائب؟ في حين أن كل ما هُنالك هو أنك غاضب على مُجرَّد خيال أو وهم أو فرضية أنك سوف تضيع في شربة ماء كما يُقال إذا حدث معك هذا؟ فهذا هو إذن وليس أكثر من هذا.
نسأل الله أن يُعرِّفنا بأقدارنا وأن يفتح علينا وأن يُفقِّهنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم!

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
لذلك كان هلاك ابن نوح الكافر بالطوفان لأنه ظل يعتقد إلى آخر لحظة أن جبلاً ما سيعصمه من الماء، ولكن لو كان الهلاك ببركان أو زلزال فإن يقيني أنه كان سيُؤمِن وكان سيركب السفينة، ولكن في الطوفان هامش أعرض للهرب منه بخلاف البركان وبخلاف الزلزال المُدمِّر الذي يقضي على كل شيئ في لحظات!

انتهت الخُطبة بحمد الله

فيينا (12/2/2010)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: