إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا ۩ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ۩ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ۩ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا ۩ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلا ۩ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ۩ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ۩ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا ۩ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا ۩ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ۩ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ۩ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ۩ وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

لشهر رمضان الكريم اختصاص بالقرآن العظيم، كيف لا وفيه أُنزِل؟! شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ۩، ولذلك يعكف المُسلِمون والمُسلِمات، المُؤمِنون والمُؤمِنات، في هذه الأيام الزاهرات والليالي المُنيرات بأفضال الله ورحمته ونفحاته وتجلياته على كتاب الله، يتلونه ويتدارسونه ويتدبَّرونه في بيوتهم ومُنتدياتهم ومساجدهم، ويا حيهلاً.

وقد أخرج الإمام مُسلِم في صحيحه، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – من جُملة حديث طويل وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمَن عنده، ومَن بطّأ به عمله لم يُسرِع به نسبه، صلى الله على مُعلِّم الناس الخير وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، هذه أول جائزة، إلا نزلت عليهم السكينة، ونحن مُفتاقون ومُحتاجون جداً في هذا الزمن العصيب وفي هذا الوقت الصعب إلى سكينة النفس وراحة الإيمان، أكثر مَن ترى مِن عباد الله وإمائه مُشتتون حائرون ذاهبون مذاهب مُختلِفة، يجمعها أو ينتظمها الاهتمام والاغتمام والحسرات والحُزن المُتواصِل والزفرات على هذه الدنيا، ما ذهب منها وما لم يأت، فيحتاج المرء إلى سكينة النفس.

إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، مجلس ملائكي – أيها الإخوة والأخوات – هذا، مجلس ملائكي لأنه مجلس إلهي، لو خلق الله خلقاً أشرف من الملائكة وأطهر وأزكى وأنور لأرسلهم ليحفوا هؤلاء القرآنيين، لماذا؟ لأن القرآن مأدبة الله – سُبحانه وتعالى -، القرآن يا إخواني وأخواتي كلام الله، مَن تلاه فإنما يُناجي ربه، مَن بلغه فكأنما شافهه به محمد – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، وهو القائل مَن بلغه القرآن فكأنما شافهته به وصدق، ثم تلا وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ۩، الله أكبر! الله – عز وجل – هو القائل على لسان محمد – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ۩، لقد أنذرتنا يا رسول الله، صلى الله عليك وعلى آلك وأصحابك وسلم تسليماً كثيراً، مَن بلغه القرآن فكأنما شافهته به.

لا يُعذِّب الله قلباً وعى القرآن، صار وعاءً للقرآن، صار وعاءً وظرفاً للقرآن، روى الإمام ابن أبي داود في كتابه المصاحف بسند قال فيه الحافظ في الفتح صحيح، عن أبي أُمامة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – اقرأوا القرآن، أي داوموا على قراءته، استزيدوا واستكثروا من قراءته، لا تهجروه، لا تجعلوه كالشريعة المنسية، لا تجعلوه كالشريعة المنسوخة، نسياً منسياً، لا تُخلِّفوه وراء ظهوركم، لا تتشاغلوا عنه، لا بركة ولا خير في شيئ شغلك عن كتاب الله – تبارك وتعالى -، إنه رسالة أو رسائل كما قال الحسن البِصري من رب العزة إليك.

قال الإمام تقي الدين الحسن البِصري كان مَن مضى – يعني أصحاب محمد، رضوان الله تعالى عليهم – ينظرون إلى القرآن على أنه رسائل من ربهم إليهم، يتدبَّرونها ليلاً، ويعملون بها نهاراً، هكذا كانوا، لم يكونوا يسترزقون بأصواتهم، يُنغِّمون بها القرآن، لا! لم يكونوا يحتجون بالقرآن لنُصرة عصبيات أو مذهبيات وتأريث فُرقة بين المُسلِمين وحزبيات عمياويات، كلا! إنما كانوا يجتمعون عليه لتجتمع قلوبهم، تحقيقاً لقوله وإرشاده – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – اقرأوا القرآن ما اجتمعت عليه قلوبكم، قبيحٌ بهذه الأمة وقبيحٌ جداً قباحة ما بعدها قباحة أن تتوسَّل آي الكتاب لكي تدعم فُرقتها، لكي تزيد نفسها خبالاً على خبال وعنتاً على عنت، والنبي نهانا عن هذا مبدأً، فإن اختلفتم فقوموا عنه – قال -، اتركوا تلاوته، هذا جاء ليُوحِّد، جاء لينظم، لا ليُفرِّق، ولا ليُبدِّد، وإنما ليُوحِّد، هكذا!

قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – اقرأوا القرآن ولا تغرنكم هذه الصُحف – يعني المصاحف – المُعلَّقة، كتبه أحدهم في لخفة أو كتبه أحدهم في عسيب أو كتبه على حجر أو كتبه على شظية علقها، ليس هذا المُهِم، جوَّدنا كتابته جداً ولنا أجر جزيل، وربما جعلناه مُذهَباً، بماء الذهب، وهذا من تعظيم شعائر الله، وتعظيمها مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ۩، وصوَّتناه بأصوات صيتة جيدة، وهذا حسن، ولابد منه، ولكن هذا كله لا يكفي، أين الهُدى به؟ أين العمل به؟ أين الانبعاث به؟ أين تحويل الموات إلى حياة، والكسل إلى نشاط وعُرام، والجهل إلى نور وأضواء وأنوار، والقعود إلى انبعاث وحركة مُتواصِلة دؤوب بالقرآن الكريم؟

على أساس عتيد من هذا الكتاب الكريم خرجت أمة عظيمة، هي خير أمة أُخرِجت للناس – كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩ -، رباها الله على عين القرآن الكريم، في أضواء القرآن الكريم وفي ظلاله وأنواره، طبعها بطابعه، أفلحت هذه الأمة من بعد أن تُرسي دعائم حضارة وصرح مدنية على أساس من هذا القرآن، أجدت هذه المدنية على العالمين جدوى عريضة لقرون مُمتَدة من الزمن، هكذا كان القرآن، وهكذا كان دوره، لم يكن صُحفاً مُعلَّقة، قال ولا تغرنكم هذه الصُحف المُعلَّقة، فإن الله – تبارك وتعالى – لا يُعذِّب قلباً وعى القرآن، اللهم اجعلنا أوعيةً للقرآن، بتدبره وحفظه وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار والعمل به والدعوة إليه والتحاكم إليه وبعث هذه الأمة من جديد ونظم مُتفرِّقها ولم شعثها ورأب صدعها به، أي بالقرآن الكريم، اللهم آمين، اللهم آمين.

قال وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمَن عنده، الله أكبر! قال وذكرهم الله فيمَن عنده، تُرى لو جلسنا مجلساً نتدارس فيه شأناً سياسياً هل يذكرنا فيمَن عنده؟ هو أعلم، لو أخذنا في مباحث فلسفية أو علمية محضة هل يذكرنا فيمَن عنده؟ هو أدرى، لكن لو تلونا كتابه حتماً هو يذكرنا، أي شرف فوق هذا الشرف؟! أين تجلة وأي مقام فوق هذا المقام؟!

روى الإمام الترمذي في جامعه عن عبد الله بن عباس – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الجوف الذي ليس فيه شيئ من القرآن كالبيت الخرب، لن تُغني عنه تلك الأمداد الدافقة من العلوم والأفكار والآراء والفلسفات والأيديولوجيات والتمهر فيها والافتنان في شعوبها وذيولها، لن تُغني عنه! هل تعلمون لماذا؟ وسيبقى جوفه خرباً، سيبقى جوفه كالبيت الخرب، مأوى لبوم وغربان، تتناوح فيه الرياح، هل تعلمون لماذا؟ لأن: هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ۩، مَن لم يظفر بالتي هي أقوم كان في نُقصان، لن يكون كاملاً، لن يكون تاماً، ولن يكون مُستبصِراً، فالجوف الذي ليس فيه شيئ من القرآن كالبيت الخرب – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، كان أسلافنا يُضَوِّؤُون قلوبهم وأرواحهم وبيوتهم ومساجدهم ومحال عملهم ومُنتدياتهم وأهليهم – أولادهم ونساءهم – بالقرآن الكريم، كانوا حريصيت على هذا جداً.

نفرح حين نرى في الواقع أو في الرائي – التلفاز – دورةً امتدت شهرين أو أشهراً ثلاثة لا تزيد، تخرَّج بعدها خمسون أو خمسمائة من أطفالنا، من غلماننا، ومن فتياتنا، يحفظون كتاب الله، نفرح ولكن لنا تحفظ، ما هو؟ نرى فيه جانب المحنة بعد أن رأينا جانب المنحة الإلهية والفضل الرباني العميم، لأننا نرى – لن أكون مُتحفِّظاً، وسأكون واقعياً على ما أرى – أكثر المُسلِمين والمُسلِمات يتلون كتاب الله ولا يفهمونه، يتلون كتاب الله ولا يفقهونه، وأنا أعني ما أقول، وجامعيون وكبار وصغار وكهول وشيوخ، ولن أزيد عن هذا، حتى لا أكون قد بالغت، لن أقول وعلماء دين، ولا يفهمونه للأسف، تعوَّدنا على أن نتلوه وعلى أن نُقيم حروفه فقط، ويُمكِن لكل مَن ارتاب في هذه الحقيقة أن يُجري اليوم – الآن بعد الخُطبة – اختباراً على مَن شاء مِن عباد الله، ليفتح المُصحَف ويبدأ يسأل أسئلة مُعيَّنة، ما معنى هذا التركيب؟ ما معنى هذه الآية؟ ما سبب نزول هذه الآية؟ كيف يُمكِن أن نُزيل التعارض بين هذه وهذه؟ ستجد الأقلين فقط يُجيبون، الأقلين! والأكثرون لا يعرفون، مع أنهم يتلونه عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة، ما الذي دهانا؟!

ومن هنا بالأمس قلت وأنا في حال من الثورة والغضب والهياج الشديد ما قلت، لأنني أرى بعض المُسلِمين للأسف ينفصلون عن دينهم، يرتدون على أدبارهم وعلى أعقابهم خاسرين، وينتحلون أدياناً ونِحلاً مُهترئة مُتشاكِسة مُتناقِضة، لا يُمكِن – هذا ظلم للإسلام وظلم للقرآن – أن تُوضَع في سياق واحد وفي قرن مع هذا الدين العظيم، والله العظيم لا يُمكِن، نتحدى! ونسأل أنفسنا أولاً وقبلاً أين هو الكلام الذي يُمكِن أن نُؤكِّد معه ونجزم أنه كلام الله غضاً، طرياً، محضاً، غير مخلوط، وغير مشوب بذكريات البشر، أفكار البشر، سوانح البشر، والتماعات البشر؟ أين؟ أين هو خارج هذا الكتاب الكريم؟ دلونا عليه، اقرأوا الكُتب المُقدَّسة كما تُدعى، وقارنوها بكتاب الله، أين؟ مُستحيل! لكن هل تعرفون ما الذي حصل؟

الله – تبارك وتعالى في عليائه – يقول قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ۩ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩، نور! هذا النور تكسَّرت مصابيحه، أُطفئت سُرجه، آيات الكتاب الكريم! إننا نخر عليها صُماً وعُمياً، لا نكاد نفقه منها إلا قليلاً، لم تعد تُضوئ لنا قلوبنا ولا عقولنا، لم تعد تُربي عواطفنا ومشاعرنا، لم تعد تشحذ عقولنا، تُزكي نفوسنا، وتُضوئ آفاقنا، ولم تعد تجعلنا في نهار موصول الشروق في معية الله وحضرته – لا إله إلا هو -، لماذا؟ وكيف تم هذا؟

تم هذا بعد أن أُفسِد وعن عمدٍ ومكرٍ بالليل والنهار ذوق أو ذائقة هذه الأمة، تسمعون الآن مَن يتحدَّث، أين هي العربية المُستقيمة؟ أين هي فصحاها؟ أين هي بلاغتها؟ أين الحديث الذي يتساوق ويتواءم ويتراسل ويتناغم مع كتاب الله – الدستور والكلمة الأخيرة التي ألقت بها السماء – في بلاغته وفصاحبته وبيانه المُعجِب؟ أين هو؟ لا ذائقة، العربي أصبح عربياً بالانتماء، ليس عربياً بالذوق، ولا حتى باللسان، وهذه داهية ما لها من واهية، لم يعد عربياً حتى بلسانه، لأن لسانه أصبح لسان رطانات، لا هي عربية محضة، ولا هي أعجمية حتى قويمة، رطانات وأخلاط وأمشاج، فيقرأ كتاب الله ولا يفقهه.

استمعت إلى هذا الذي أسأل الله أن يُعيده وأن يرده إلى يفاع الإسلام رداً حميداً في الرائي قبل ليلتين، يقول لم أعد أستطيع أن أُمسِك القرآن، فأمسك الكتاب المُقدَّس إذن – ما شاء الله -، أمسك كلام البشر المُتخالِف المُتشاكِس، كلام مثل كلام أي إنسان مُؤرِّخ، أغاليط! أمسك هذا، نعم، يبدو أن الرجل صادق بوجه ما ربما مع نفسه، لأنه يقرأ القرآن ويراه مُعميات وألغازاً وطلاسم، تحتاج إلى قُدر غير إنسانية ربما يتوهَّم لفكها وللوقوف على معنى أسراراها وألغازها، لا يفهم شيئاً!

وفي الحقيقة هل هذا الكتاب يحتاج إلى ذكاء مُنقطِع النظير، إلى ذكاء استثنائي، وإلى قُدر تفوق إمكانات البشر، لكي يُفهَم، ولكي يُتدبَّر؟ لا، ليس الأمر كذلك، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ۩، نعم فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۩، في صدور الذين مرنوا ودأبوا على تدبره وإجالة النظر وإطالة الفكر فيه، في ليلهم ونهارهم، في مغداهم ومراحهم، في أصابيحهم وأماسيهم، نعم! أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ۩، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ۩، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ۩، قال وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ۩، ليس النوكى، وليس الحمقى، وليس المغلوبين على ذائقتهم ولسانهم وعقلهم وتاريخهم – إن كان لهم تاريخ يدرونه أو درسوه -.

ولذلك هناك الذي انفصل من دينه وارتد – والعياذ بالله – كافراً، كفر بمحمد وبرب محمد وبكتاب محمد – صلى الله على محمد وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً -، هذا كفر بعد ماذا؟ هل نعتب عليه أم نعتب على علمائنا أم على مدارسنا أم على جامعاتنا أم على مساجدنا؟ العتب بلا شك يلحق الجميع، يلحق الجميع! لكن يلحقه بدرجة أولى، هل تعرفون لماذا؟ لأنه قضّى حياته وزجّى أوقاته أمام التلفاز وشاشات السينما Cinema وفي ملاعب كرة القدم وفي جلسات الهُراء والسُخف من القول واللغو المُباح وغير المُباح منه، لم يدأب في تعلم آية من كتاب الله كل يوم أو كل أسبوع، لو فعل هذا – كل أسبوع تعلَّم آية – بعد ثلاثين سنة ربما أتى على القرآن كله، لكنه لم يفعل هذا، قضّى عمره في السخافات، ثم بعد ذلك جاء يزعم أن القرآن ما عاد يُقنِعه، ما عاد يُقنِع العلّامة الكبير، المُؤرِّخ الخطير، والفيلسوف العالي القامة، ما عاد يُقنِعه!

لقد غامر بحياته الأبدية حقاً، لقد خسر توفيق الله، وباء بخذلانه – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، هذه رسالة إلى هذا المنكود المتعوس وإلى أمثالنا أيضاً، إلينا جميعاً، ذكوراً وإناثاً، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، قال الله – تبارك وتعالى – وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۩، قال السادة المُفسِّرون في تفسيرها فَاتَّبِعُوهُ ۩ أي فاتبعوا أوامره واتقوا نواهيه، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۩.

روى الإمام أحمد في مُسنَده، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – لحُذيفة بن اليمان – رضيَ الله تعالى عنه – يا حُذيفة تعلَّم القرآن واعمل به، ثلاث مرات قال له، تعلَّم القرآن واعمل به، تعلَّم القرآن واعمل به، تعلَّم القرآن واعمل به، ثلاث مرات! لماذا جعلناه خلفنا؟ ألقيناه خلفنا ظهرياً، لماذا؟ ما الذي شغلنا عنه؟ لماذا حظنا مبخوس وقليل جداً من فقه الكتاب ومعرفة الكتاب؟

هذا الكتاب بلا شك هو في ذاته إذا نظرنا إليه كتاب أوسع من كل حيلة بشرية، وأشد انسياحاً واندياحاً من كل علم وفكر إنسانيين، كل أُفق إنساني إذا ما قيس بآفاق هذا الكتاب هو أُفق محدود جداً، كل عطن ونطاق عقلي بشري إذا ما وُزِن أو إذا ما قيس أيضاً بنُطق وميادين هذا الكتاب هو عطن ضيق ونطاق محدود جداً، ولكن لا علينا، لا بأس، فليملأ كلٌ منا وعاءه.

قال – سُبحانه من قائل – أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ۩، فليسل وادي كل منا بقدره، ولنُوسِّع أوديتنا، هذا كتاب عجيب، أمره عجيب، شأنه عجيب، وشأننا معه أعجب، والله شأننا معه أعجب، الأقوام الأُخرى يتشبَّثون ويمُسِّكون بصحائف – كما قلنا – مُتناكِدة مُتخالِفة مُتشاكِسة، لا صدقية تاريخية لها، يجعلونها في زعمهم كُتباً إلهيةً مُقدَّسةً، يُهدى بها البشر، وتُفتَّح بها أبواب الملكوت، أما نحن فلا نفعل، ولدينا كتاب غض طري مُتواتِر حرفاً حرفاً، ولا عليكم من كل هذا السُخف والهُراء الذي يتعاطاه بعضهم ليُشكِّك المُوحِّدين في تواتر كتابهم، فإن هذا الكتاب لو لم يُكتَب في صُحف أصلاً لما نقصت صدقيته حرفاً، هل تعلمون لماذا؟ لأنه كتاب يُحفَظ في الصدور، واسمه – اسمه الأول الرئيس العتيد – القرآن، كتاب يُحفَظ في الصدور، ويُقرأ صباح مساء في المحاريب، لا يُمكِن أن يُنتقَص، لا يُمكِن أن يُزاد فيه، ولا يُنقَص منه.

في حديث عياض بن حمار المجاشعي في صحيح مُسلِم يقول الله – تبارك وتعالى – وهو حديث قدسي جليل وأنزلت عليك كتاباً تقرأه نائماً ويقظان، لا يغسله الماء، قال لا يغسله الماء، بماذا يهرف هؤلاء الذين لا يعرفون شيئاً؟ بماذا يهرف؟ كتاب مُتواتِر، نحن نجزم أنه كلام الله – تبارك وتعالى -، هل تعرفون لماذا؟ لأن مشاعرنا تحس هذا تماماً، ائتوني بكتاب يقول فيه مَن ائتفكه أو مَن أنزله بزعمهم إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا ۩، نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ۩، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ۩ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ۩، مَن ذا مِن البشر في طوقه النفسي يستطيع أن ينتحل هذا القول وأن يقتعد هذا المقام وهذا المقعد؟! لا أحد، لا نبي، لا رسول، ولا فيلسوف، لا أحد! ولو حاول لن يستطيع، وسيجعل من نفسه مسخرةً وهُزءاً بين العالمين، إنه الله – تبارك وتعالى -.

ولكن هذا الكتاب يحتاج حقاً إلى ذهن مُتفتِّح، وإلى عقل يقظان، وإلى نفس زاكية طهور بارئة من الغرض، لأن الغرض مرض، وبارئة من المُسبَقات، الأحكام المُسبَقة! وبارئة من الدوران مع المصالح والمُوازَنات والمعايير غير القرآنية، ما قبل القرآنية، هل تعرفون لماذا؟ اسمعوا الآن، فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ۩ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ۩ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ۩، ما علاقة النجوم في مواقعها البعيدة السحوق ليُقسَم بها على أن هذا الكلام هو كلام الله – تبارك وتعالى -؟ ما العلاقة؟ تدبَّروا، ليس في هذا الموقع وحده، فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ۩ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ۩ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ۩ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ۩ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۩، الله أكبر! أهذا مرة أُخرى؟ هذا مرة أُخرى، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۩، قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، عالم سر السماوات والأرض وغيب السماوات والأرض هو الذي أنزل هذا الكلام العُلوي المُبارَك، تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ۩ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۩.

قلنا مرةً حق ربنا – سُبحانه وتعالى – أن يتبارك مرتين، وأن يُحمَد كرتين، القرآن علَّمنا هذا، القرآن فتق ألسنتنا وأنطقنا بهذا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۩، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ۩، تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ۩، ما عساها هاته الآيات الكريمات تقول لنا؟ ماذا تود أن تقول لنا هذه الآيات العجيبة؟ تقول لنا أموراً كثيرةً، في الحقيقة أنا في حيرة، أنا من هذه الآيات بإزاء آفاق يضل فيها الحليم واللبيب، مهما اختطفت، مهما تعمَّقت، ومهما تحدَّثت وتندست، أنت على الشاطئ القريب والقريب جداً.

كأن هذه الآيات تقول أولاً هذا القرآن هو عالم أيضاً فسيح، وهو كون مُترامي الأطراف، كهذا الكون الذي تسبح فيه الأجرام العُلوية، قال فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ۩، وقال بعدها وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ۩، سمعها أعرابي – ليس شخصاً عنده دكتوراة في الفلسفية ولا في الفيزياء Physics ولا في الأسترونوميا Astronomy، هذا أعرابي، لا يكاد يكتب اسمه بالحري – فأُغشي عليه، فلما أفاق قال ما الذي حمل رب العالمين على أن يُقسِم؟ هذا صاحب الذائقة، أعرابي! أعرابي ليس كهذا الذي ارتد ونكص، ولم يعد يُطيق أن يفتح وأن يُقلِّب أوراق المُصحَف، لأنه لا يجد فيها شيئاً ذا بال.

ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ                                   يَجدْ مُرّاً بهِ المَاءَ الزُّلالا.

قال:

وكمْ من عائِبٍ قوْلاً صَحيحاً                                  وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السّقيمِ.

العلة في القابل وليست في الفاعل، القرآن عند مَن عرفه وجال فيه ولو جولات هو نِعْمَ السَّمِيرُ.

نِعْمَ السَّمِيرُ كِتَابُ اللَّهِ إِنَّ لَهُ                       حَلَاوَةً هِيَ أَحْلَى مِنْ جَنَى الضَّربِ.

قال هِيَ أَحْلَى مِنْ جَنَى الضَّربِ، أي العسل الأبيض.

نِعْمَ السَّمِيرُ كِتَابُ اللَّهِ إِنَّ لَهُ                       حَلَاوَةً هِيَ أَحْلَى مِنْ جَنَى الضَّربِ.

بِهِ فُنُونُ الْمَعَانِي قَدْ جُمِعْنَ فَمَا                         تَفتُرُ مِنْ عَجَبٍ إِلَّا إِلَى عَجَبِ.

أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَأَمْثَالٌ وَمَوْعِظَةٌ                         وَحِكْمَةٌ أُودِعَتْ فِي أَفْصَحِ الْكُتُبِ.

لَطَائِفٌ يَجْتَلِيهَا كُلُّ ذِي بَصَرٍ                           وَرَوْضَةٌ يَجْتَنِيهَا كُلُّ ذِي أَدَبِ.

هذا القرآن! ومثل هذا الشاعر هو الذي يفهم القرآن، مثل هذه الذائقة المُستقيمة وهذا البيان المُعجِب هو الذي يُمكِن أن يتراسل وأن يتناغم مع القرآن الكريم، لا مثل هؤلاء المُلتاثين، أساتذة في فنون الغواية وفي فنون اللغو، وهم من العلم براء، والعلم منهم براء على سواء، هذا هو!

فنعود، القرآن يود أن يقول لنا عبر هاته الآيات العجيبات أنا أيضاً كون فسيح، عالم تترامى أطرافه، عالم لا من أجرام نارية أو ترابية صخرية، إنما من معانٍ ودلالات وإشارات وفتوحات إلهية، عليكم أن تعبوا، فقد عب عُباب مائها، عليكم أن تنهلوا منها، عليكم أن تستزيدوا، عليكم أن تستعينوا بالله لتكونوا من المُوفَّقين إلى فهم طرف من أطرافها، وحينئذ سترون العجب العُجاب، وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۩… هذه الآية العجيبة تُعرَب بإعرابين، أنا مُرتاح إلى الإعراب الثاني الذي يكون معناه لكنا هذا القرآن، لو أن كتاباً طُلِبت به هذه المعاجز وهذه الخوارق والمداهش لكان هذا القرآن.

وبعض عباد الله أنجز وأفلح بالاستناد إلى هذه الآية على أن يفعل بعض الخوارق، ما رأيكم؟ بهذه الآية، لا أُحِب أن أدخل في هذه السبيل، لكن أنصح لنفسي وإياكم، مَن أعجزه أمر، مَن غالبته مُشكِلة عويصة، فليتل هذه الآية بيقين، ثم سيرى العجب، ما رأيكم؟ ليتل هذا الجُزء من كتاب الله، ولذلك لا أدأب لا أزال ولا أنفك أقول ينبغي على الإيمان أن يستحيل تجربةً فرديةً، لها فرادتها، الإيمان ينبغي أن يكون تجربةً معيشةً، لابد أن تعيشه أنت، لابد أن يكون الإيمان إيمانك أنت، بتجربتك أنت، بآلامك وبتباريحك الروحية الوجودية أنت، ليس إيمان الترديد والترجيع والتقليد، انتبه! حينئذ ستغدو راقياً إلى مصاف لا تحتاج معه إلى براهين فلسفية وإلى حُجج علمية وإلى نظم كلام أبداً، إنما بُرهانك أنت، أنت البُرهان، ما رأيكم؟ أنت البُرهان، كما قال السيد المسيح من ثمارهم تعرفونهم، نحن نعرف هذا الكتاب من ثماره، لكن السؤال هل عرفنا ثماره؟ ما قيمة شهادة في الهندسة راقية بدرجة امتياز لكن لم يُفلِح إلى الآن صاحبها أن يشيد لنا مبنىً عظيماً؟ ما قيمتها؟ سيبقى الناس في شك من جدوى هذه الإجازة، حتى يروا الثمرة على الأرض، إن رأوها شهدوا فعلاً بنفاذ هذا المُهندِس في هندسته، وبنفاذه في علمه، وكذلكم الإيمان والعلاقة بالقرآن، أرونا ثمارها، أين ثمارها؟ أين هذه الثمار؟ سل نفسك هل اقتطفت شيئاً من هذه الثمار؟ حينئذ تغدو قضية الإيمان قضية تجربة، لا قضية حجاج وسجال علمي وفلسفي، مع احترامنا للحجاج والسجال العلميين والفلسفيين، نحترم هذا، لكن هذه البداية والحد الأدنى، ليست الأمد الأقصى، إنها ليست الأمد الأقصى!

إذن هاته الآيات تقول هذا، هاته الآيات لعلها تُريد – والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم – أن تقول لنا وتُدلي بأن هذا القرآن مَن أراد أن يقف على أعماق مقاصده ومرامي آيه  فعليه أن يكون رجلاً يُقلِّب النظر أبداً في أكوان الله – تبارك وتعالى -، في عالم الخليقة، في عالم الفليقة، في التاريخ، في الاجتماع، فيما ظهر، وفيما بطن، أن يُجيل نظره باستمرار في هذه العوالم، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۩… إلى آخر الآيات من آخر آل عمران، فهذه الآيات تقول هكذا، إن أحببت أن تتجاوب مع القرآن فعليك أن تكون أيضاً إنساناً كونياً، إنساناً بذهن عالم، ليس شرطاً أن تكون أينشتاين Einstein – مثلاً -، ولكن أن تكون بذهن عالم، بروحية عالم، وبمِزاج عالم، تُفكِّر دائماً، تغرس الأسئلة، تطرح هذه الأسئلة، والقرآن كتاب عجب إذا تعلَّق الأمر بهذا الخصوص، شيئ عجيب!

فعلاً مَن قرأ قال هذا شيئ عجيب، إنه يُحدِّثنا عن الغيب والشهادة، عن الأرض وعن السماوات العُلا، عن التراب وعن عرش رب الأرباب – لا إله إلا هو -، عن عوالم من الإنس والجن والملك والحور العين، إنه يُخصِّب خيال الإنسان، إنه يجعل الآفاق مُنداحة مُتسِعة باستمرار أمام العقل الإنساني، أمام الخيال المُجنِّح أيضاً، القرآن الكريم! كما يُحدِّثنا عن الشرائع والأحكام، كما أن به منظومة مُتكامِلة للقيم والأخلاق والمسالك الزاكية الطهور في هذا الكتاب نفسه، فيه جانب لا يُستهان به من عبرة التاريخ وعظة الأيام التي يُداوِلها الله ولا يزال بين الناس، لا إله إلا هو! هذا الكتاب فيه كل هذا.

تخيَّلوا طفلاً صغيراً يكون في مرباه حليفاً لهذا الكتاب، ويكون الكتاب أنيساً له في وحدته، في خلوته وجلوته، وينشأ عليه، وتتقدَّم به الأيام والسنون، حتى يشتد عوده ويكتهل ويكتمل منه العقل، ما عساه يصير هذا الرجل؟ ما عساها تصير هذه الإمة؟ لكن هذا إن أخذنا القرآن على شرط القرآن، إن تناغمنا معه على ما شرط، يقول الإمام عليّ – عليه السلام، وكرَّم الله وجهه – لا خير في تلاوة لا تدبر معها أو قال فيها، قال لا خير في هذه، تلاوة بلا تدبر لا خير فيها أبداً، كل الآيات تشرط هذا التدبر، وتجعل القرآن بعد ذلك إذا تُدبِّر باعثاً على أزكى العمل وعلى أشرف المسلك، إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ۩، مُباشَرةً! قراءة تُثمِر هُدىً، تُثمِر نوراً، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۩، هذه الاستجابة الشعورية والاستجابة العاطفية، لابد أن نختبرها في أنفسنا عند التلاوة، هل تقشعر منا الجلود وتقف أشعار البدن؟ هل تنحني القلوب وتسجد لعلّام الغيوب – لا إله إلا هو – حين نتلو هذا الكتاب؟ هل نتلوه بالتذاذ وتشوق وأريحية بالغة؟

يقول الصاحب الجليل أُسيد بن حُضير – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – لو أكون على حالات ثلاث من أحواله – يُريد لو أدوم، أي لو أدوم، أستمر – لكنت في الجنة، قال أنا أضمن لنفسي الجنة لو أدوم على هذه الأحوال، يعرف أحواله، يتحدَّث عن تجربة معيشة، انتبهوا! يتحدَّث عن تجربته الشخصية هنا، هنا لا يرفع أبداً حديثاً إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم، رفع الله قدر مَن اتبعه وتابعه -، إنما يتحدَّث عن تجربته الفردية هو، يقول الحالة الأولى عند تلاوتي لكلام الله، قال حالة عجيبة، لا أستطيع أن أصفها، قطعاً – قال – تُورِث الجنة، أي دخول الجنة، هذا الإيمان، انتبهوا! ليس إقامة الحروف، الذي هو مطلوب – إقامة الحروف أي التجويد -، ونقف عنده، وتنقضي الأعمار ونحن نُقيم الحروف، ونُضيِّع المعاني، وأين العمل؟ الله أعلم.

قال عند تلاوتي لكلام الله – تبارك وتعالى -، وعند سماعي له، وعند سماعي لخُطبة رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، قال حين أسمعه يخطب وحين أقرأ القرآن أو أستمع إليه، ثلاثة أحوال، لو تدوم لي – قال – أنا زعيم لنفسي بالجنة، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، هذه جُرأة مَن؟ جُرأة المُوقِن، بصدق التجربة.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يفتح علينا فتوح العارفين، وأن يُعلِّمنا ويُفقِّهنا في الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفوته من خلقه، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، أيها الإخوة والأخوات:

روى الإمام الجليل محمد بن نصر المروزي – أحد تَلامذة الإمام الرباني أحمد بن حنبل، رضيَ الله تعالى عنهما – في كتابه قيامِ الليل أو قيامُ الليل على الحكاية، قال جلس الأحنف بن قيس – التابعي الجليل والرجل الخطير الشأن، رضوان الله تعالى عليه، قال جلس الأحنف بن قيس، عُرِف بسيادته وسؤدده، كما عُرِف بحلمه البالغ، أحلم من الأحنف يُقال، كان رجلاً حليماً، قال جلس الأحنف بن قيس، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، انتبهوا! هذه الأمة كان فيها سادات، سادات تُضرَب بهم الأمثال، هذا يُقال أحلم من الأحنف، أين سادات الأمة اليوم؟ يا حسرتاه! أين السادات الذين يُنظَر إليهم ويُضرَب بهم المثل بالإجماع، مِن المُحِب والمُبغِض، ومِن المُوافِق والمُخالِف؟ لا يُوجَد سادات، نسأل الله أن يجعل لنا سادات وكُبراء، يكونون مضرب المثل، لكي يُحيوا موات هذه الأمة، أمثلة كثيرة، كانوا أمثلة عجيبة في كل شيئ، آلاف! كان منهم آلاف، رضيَ الله عنهم، وانظروا إلى هذا الرجل العجيب -، فخطرت على باله آية من كتاب الله، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ۩ – من سورة الأنبياء -، فانتبه، ثم قال علىّ بالمُصحَف، لألتمسن اليوم ذكري، وأنظر مع مَن أنا وبمَن أنا شبيه، قال هذه آية عجيبة، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۩، هو فهمها من زاوية أُخرى، وحُقَّ له الفهم، والزاوية المعروفة المطروقة في فهم هذه الآية هي لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ۩ شرفكم ورفعتكم، هكذا! لكن هو فهمها من زاوية أُخرى، وحُقَّ له هذا الفهم.

فجعل يُقلِّب أوراق المُصحَف آخذاً في سبيل، فمر بقوم كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ۩ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ۩ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ۩، ومر بقوم يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩، ومر بقوم يجتبون يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ۩ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۩، ومر بقوم يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ۩، ومر بقوم تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۩، قال اللهم إني لست من هؤلاء، لا أعرف نفسي فيهم، مُستبصِر ومُتواضِع ومُخبِت، لم يظن نفسه أنه بتلكم المنزلة أو المثابة، قال لست من هؤلاء، يا حسرتاه! لا تنطبق علىّ هذه الأوصاف.

هذا الرجل المُتدبِّر المُتوحِّد أقام من القرآن معياراً يزن به نفسه، يُعيِّر به أحواله، لا تستمع إلىّ وإلى وجهة نظري فيك أو إلى وجهة نظره أو نظرها أو نظرهم، سل القرآن عن نفسك، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۩.

وعظ يوماً أبو حازم الأعرج – رضوان الله تعالى عليه – سُليمان بن عبد الملك الخليفة، قال له فأين نحن يا أبا حازم؟ ما لنا عند الله؟ أي ما الذي لنا عند الله؟ قال اعرض نفسك على كتاب الله، تسألني أنا لماذا؟ قد أكذبك، قد أخشاك فأكذب عليك، لكن اعرض نفسك على كتاب الله، قال أين أجد؟ قال إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۩ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ۩، ثم اعرض نفسك بعد ذلك، هل أنت من الأبرار؟ الموازين القرآنية واضحة، يشهد الله لأهل البر ببرهم، ويُسجِّل على أهل الفجور فجورهم، فسل نفسك، لا تُخادِعن ذاتك، لا تترك يقين كتاب الله فيك لشكك في نفسك فضلاً عن أن تتركه لشك الناس فيك، انتبه!

قال اللهم إني لست من هؤلاء، لا أجد نفسي فيهم، ثم جعل يُقلِّب الورق، وأخذ في سبيل أُخرى، أخذ في سبيل أُخري – قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي ۩، هذه سبيل أُخرى الآن، غير سبيل الله – من السُبل، فإذا بقوم – أي مر بقوم – إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ۩ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ۩، ومر بقوم إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۩، ومر بقوم يُقال لهم مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۩ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۩ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۩ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۩ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ۩ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ۩، قال اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء، لست منهم، والحمد لله.

ثم جعل يُقلِّب الورق، وأخذ في سبيل ثالثة، حتى عثر على قوم هم آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ۩، قال اللهم إني من هؤلاء، فاغفر لي، عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، قال اللهم إني من هؤلاء.

هكذا كانت تنبعث لهم الفكرة ليتدبَّروا بها كتاب الله – تبارك وتعالى -، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم.

يا إخواني:

يقول رسولكم وحبيبكم وقدوتكم – صلى الله تعالى عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – فيما أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود اقرأ القرآن ما نهاك، فإن لم ينهك فلست تقرأه، ما بالنا نقرأ تحريم الكذب ونأخذ في الكذب ليل نهار؟! ما بالنا نقرأ الزجر الشديد والوعيد الأكيد على الغيبة والنميمة وليس لنا مشغلة إلا الغيبة والنميمة والإفساد بين الأحباء – والعياذ بالله؟! ما بالنا… وما بالنا… وما بالنا…

يقول – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – فيما أخرجه الترمذي ما آمن بالقرآن مَن استحل محارمه، يقول ما آمن بالقرآن مَن استحل محارمه، إن أراد المُصطفى – صلوات ربي وتسليماته عليه – استحل أي مِن بعد حُرمتها ورآها حلالاً فقد كفر حقاً، وإن أراد المُصطفى ركبها دون أن يراها حلالاً ويُناكِد شرع الله فالإيمان المنفي هو تمام الإيمان، أي إيمانه ليس تاماً، إيمانه مدغول ومدخول ومنقوص، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

أيها الإخوة والأخوات:

لذلك يا إخواني علينا أن نُعيد حساب أنفسنا مع كتاب الله في هذا الشهر، عسى الله أن يجعله شفيعاً لنا يوم القيامة، القرآن من حيث ذاته يشفع لأصحابه إذا أخذوه بصدق وتلوه بصدق واتبعوا ما فيه واتقوا.

روى مُسلِم في صحيحه، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – اقرأوا القرآن، فإنه يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة، ونحن الآن في رمضان – متَّعنا الله برمضانات كثيرة قادمة، وقبل منا وعنا أحسن ما أسلفنا في هذا الشهر الكريم، وأعاننا على ما بقيَ منه، في عباده الصالحين، إنه ولي ذلك -، عسى أن يكون هذا القرآن الرمضاني شفيعاً لنا يوم القيامة، فقد أخرج الإمام أحمد في مُسنَده، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام أي رب، منعته الطعام والشراب بالنهار، فشفِّعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل، إنه لم يتوسَّده، لم يحفظه ويستظهره على ظهر القلب، ثم يتخذه وسادةً له في الليل، إنما كان يدأب به قائماً قاعداً، هكذا! يقول منعته النوم بالليل، فشفِّعني فيه، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – فيُشفَّعان، اللهم شفِّعهما فينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اللهم تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا ودعاءنا وضراعتنا، واختم بالسعادة آجالنا، وبالباقيات الصالحات أعمالنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا.

اللهم إلهنا ومولانا لا تتوفَّنا إلا بعد أن ترضى عنا، برحمتك يا أرحم الراحمين، أعِنا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، اجعلنا صالحين مُصلِحين أوّاهين مُنيبين خشّاعين مُخبِتين، برحمتك إلهنا ومولانا رب العالمين.

لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته.

اللهم اشف مرضانا ومرضى المُسلِمين، وارحم موتانا وموتى المُسلِمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، ارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالإحسان إحساناً، وبالإساءة غُفراناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، وتابع بيننا وبينهم بالخيرات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

____________

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 5/9/2008

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: