إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ۩ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ۩ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ۩ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ۩  وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ۩ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ۩ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ۩ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ۩ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

من أعظم آيات الله – تبارك وتعالى – وأظهرها، هذه العلاقة التي وصفها القرآن العظيم بأنها ميثاق غليظ بين الجنسين؛ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ۩، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ۩.

ولذلك بالإزاء كان الطلاق ووقوع الفُرقة بين الزوجين، من أحب الأعمال إلى إبليس – لعائن الله عليه مُتتابِعة -، وقد روى الإمام مُسلِم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله – رضيَ الله تعالى عنهما -، قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – يقول إن عرش إبليس على البحر – أي على الماء، في البحر، على الماء -، فيبعث سرايا – هو يبعث سراياه -، فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنةً – أعظمهم، أي مكانةً ومثابةً، عند إبليس، كبيرهم، أعظمهم فتنةً، الذي تكون فتنه أعظم في البشر، يكون له مكانة أعظم عند إبليس، لعنة الله على الشياطين -، فيأتيه أحدهم، يقول صنعت كذا وكذا. فيقول ما صعنت شيئاً – أي يقول جعلته يفعل كذا وكذا، يعصي الله في كذا وكذا. فيقول له هذه بسيطة، ما صنعت شيئاً -. ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته – أي ابن آدم، الآدمي – حتى فرَّقت بينه وبين امرأته. فيُدنيه ويلتزمه – يضمه ويعتنقه -، ويقول له نِعمَ أنتَ – أي نِعمَ الشيطان أنتَ، أنتَ أحسن الشياطين، أنتَ أكثر الشياطين شيطنة، والعياذ بالله -.

ولذلك كلنا نتحفَّظ حديث مُحارِب بن دثار، عند الإمام أبي داود – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، من قوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – أبغض الحلال إلى الله الطلاق. أبغض الحلال إلى الله الطلاق! وفي رواية ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق. وكلاهما عند أبي داد – رحمه الله تعالى -.

ظاهرة الطلاق – إخواني وأخواتي – اتسعت إلى حد مهول ومُزعِج ومُقلِق في السنوات الأخيرة في عالم المُسلِمين، في عالم العرب وفي عالم المُسلِمين عموماً! تقريباً بدأت تُسامي وتُعادِل ما لدى الغربيين، الذين كنا نُعيّرهم ونفخر عليهم بأننا مُتماسِكون اجتماعياً أكثر منهم، والفضل لديننا وأخلاقنا وعوائدنا وما إلى ذلكم. في الغرب عموماً النسب تتراوح بين النصف إلى الثُلثين. أي خمسون في المائة من إجمالي عدد الزيجات أو عقود الزواج، تنتهي إلى الفشل، إلى الطلاق. إلى الثُلثين، إلى سبعين في المائة. فبلجيكا – مثلاً – قبل سنة بلغت فيها النسبة أو تفوقت على السبعين في المائة. أي من كل عشر حالات، تنجو حالتان أو ثلاث حالات، وتفشل السبع البواقي. شيء مُريع ومُخيف، مُجتمَعات تتفكَّك، مُجتمَعات تتفكَّك!

وطبعاً أعظم الذين يُضحون ويدفعون الثمن مُعاناةً وحرماناً وألماً وتشتتاً عاطفياً وتشوشاً فيما يُعرَف بالولاء العاطفي في علم النفس وعلم النفس الاجتماعي، الأطفال للأسف الشديد. مئات ملايين الأطفال تقريباً يُشرَّدون، يضيعون بطريقة أو بأُخرى. على أن الجميع مِمَن لم يضع الضياع الكامل، يُعاني مما ذكرت، من التشتت ومن التشوش في الولاء العاطفي.

للأسف الشديد العالم العربي بدأ يُسامي هذا العالم المُتقدِّم لهذه الجهة، جهة التفكك الاجتماعي. نحن نتفكَّك، مُجتمَعات تتفكَّك! أي من جهة إيماننا يتفكَّك: الإلحاد، الربوبية، اللاأدرية، الشكوكية. التفكك السياسي، على مُستوى الأوطان والدول: مُعادة بعضنا لبعضنا. التفكك الأسري. نتفكَّك يبدو على جميع المُستويات: معنوياً، روحياً، أخلاقياً، سياسياً، اجتماعياً. شيء مُخيف! نحن نعيش الآن في لحظة مُخيفة، لحظة فارقة ومُرعِبة على فكرة. لو تسنى لرجل حكيم مُتزِن ووازن الرأي، قبل خمسين سنة، أن ينظر إلى عالمه العربي المُسلِم اليوم، لربما فقد عقله، أو دار رأسه، ولم يفهم شيئاً.

قبل خمسين سنة كانت نسبة الطلاق في جمهورية مصر العربية سبعة في المائة فقط، الآن كم؟ ثمانية وأربعون في المائة. قريب من خمسين في المائة! ومصر هي الدولة الثانية، بعض الإحصاءات تقول لا، هذه مُبالَغة، مصر تقريباً نسبتها تصل إلى أربعين في المائة. وإن شاء الله تكون حتى أقل من هذا. أما الدولة الأولى فهي الكويت، قريب من خمسين في المائة، والثالثة الأردن، قريب من ثمانية وثلاثين في المائة، وهكذا. شيء مُخيف، شيء مُخيف! هذه مُجتمَعات مُسلِمة عربية تقليدية، إلى حد بعيد مُجتمَعات تقليدية، وخاصة المُجتمَع الأردني – مثلاً -. ما هذا الارتفاع المهول المُقلِق؟ ما الذي يحصل؟ ما الذي يحصل؟

طبعاً مثل هذا الموضوع الحسّاس والحرج، لا يُمكِن مُقارَبته وعظياً، بأن نسرد الآيات والأحاديث ونصائح السلف الصالحين، ثم نمضي. لا! الموضوع أشد تعقيداً، على أن الآيات والأحاديث وتبصرات أسلافنا الصالحين، مُفيدة جداً، لو أمكن موضعتها في موضعها المُناسِب.

لكي لا أُطوِّل بالمُقدِّمات، أُحِب فقط أن أحصر حديثي في نقاط مُحدَّدة جداً. وطبعاً لا يُمكِن أيضاً حتى أن نُشير إلى عنوانات هذا الموضوع، هذا الموضوع له جنبة اجتماعية/ سوسيولوجية، وله جنبة نفسية بلا شك، وله جنبة تربوية، وله جنبة ثقافية، وله جنبة حتى اقتصادية، لا أدري هل جنبة سياسية؟ لكن له أكثر من جنبة، له أكثر من جهة. وإذا ذهبت تتقصى الحديث عنه بطريقة علمية، أعجزك الأمر. أعجزك الأمر! أنت تحتاج إلى جحافل من العلماء المُتخصِّصين، كلٌ يتناوله من جهة مُعيَّنة، لكي نُقارِبه مُقارَبة علمية مُحترَمة، لكي نُحاوِل أن نضع الأُصبع على مكمن الداء حقاً. ما الذي يحصل؟ من أين لنا أن نُشخِّص تشخصياً سليماً ودقيقاً، لكي نتبصر بسُبل العلاج وسُبل الانقاذ؟ لكن أُحِب أن أحصر حديثي في نقاط مُحدَّدة جداً، حتى لا يتفلت الموضوع من بين أيدينا.

النُقطة الأولى – إخواني وأخواتي -، هناك جانب نفسي مُهِم جداً في هذه القضية، لا بد أن نُثقِّف أبناءنا وبناتنا بخصوصه. بمعنى ماذا؟ بمعنى أن هناك شخصيات مُحدَّدةً، مُرشَّحة أكثر من غيرها وبشكل جاهر وبشكل صريح، لأن تَفشل وتُفشل العلاقة الزوجية. فالمفروض أن البنت أو الشاب مُنذ البداية، يكون لديه نوع معرفة، نوع استبصار، بهذه الشخصيات الخطيرة، لأن هذه الشخصيات الخطيرة لديها اضطرابات، وطبعاً تندرج تحت عنوان الاضطراب النفسي. لا أتحدَّث عن الأمراض الذهانية، فهذا موضوع آخر، وأيضاً له وجهة أُخرى، لن نخوض فيه اليوم، ولكن عن اضطرابات الشخصية. فمثلاً هناك الشخصية النرجسية، الشخصية الاضطهادية – أي الـــ Paranoid -، الشخصية السيكوباثية، والشخصية الهستيرية. هذه أربعة أنواع من الاضطراب في الشخصية، مُرشَّحة أكثر من غيرها وبنسبة ساحقة زاعقة، لأن تَفشل وتُفشل العلاقة الزوجية.

فبمعنى أن الشاب أو الشابة إذا عرف ابتداءً أن الطرف الآخر هو أحد هذه الشخصيات، فإننا نقول له ابتعد وانج عُمير وانج بجلدك، لا تتورَّط. شخصية سيكوباثية، ماذا تفعل بها؟ يستحيل! لا ينفع فيها لا طب نفسي ولا مُعالِج نفسي ولا واعظ ولا مُصلِح ولا مُجتمَع حُكماء ولا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ۩. انس، انس! وسل الخُبراء النفسيين وسل الأطباء النفسيين. شخصية سيكوباتية، انس! ويُمكِن أن تخدع الجميع. وربما آتي إلى تعريف بهذه الشخصيات بُعيد قليل في تضاعيف الخُطب.

كذلك الشخصية الهستيرية، والشخصية النرجسية العابدة لذاتها، المُتمحوِرة حول نفسها، والشخصية الاضطهادية – أي الــ Paranoid -، الذي يرى صاحبها أن الكون كلها يتآمر به، العالم كله شرير حسود حقود كريه مُنحَط سافل، يُبغِضه ويُريد إفشاله وإشقاءه واتعاسه، لا ثقة في أحد، ولا أحد يستحق الثقة. فما هذا؟ ماذا تفعل بهذه الشخصيات؟ انس! ولذلك علينا أن نُوفِّر المُعاناة على أنفسنا، وعلى أولادنا (أبنائنا وبناتنا)، مُنذ البداية.

انظر إلى الآتي عن ماليزيا. أنا ذكرت قُبيل قليل الدولة الأولى عربياً في مُستويات الطلاق، أي الكويت. والغريب – وربما يكون لهم عُذرهم، ولكن أنا على كل حال وجدت هذا غريباً، وأرجو أن يتغيَّر – أن قبل ثلاث سنوات رُفع مُقترَح إلى مجلس الأمة الكويتي – أي البرلمان، المجلس التشريعي -، يُطالِب بتقنين هذه المسألة، في الشكل الآتي:

لا يُسمَح بإمضاء عقد الزواج أو بإنهاء عقد الزواج – أي بتتميم عقد الزواج -، إلا بعد أن يدخل الطرفان – الخاطب والخطيبة أو المخطوبة – دورة تثقيفية، تتعلَّق بقضية الزواج، ومشاكل الزواج، ومسئوليات الزوجين، وأشياء كثيرة.

جميل جداً! قال لك لا. المجلس رفض هذا، قال لك يتعارض مع الدستور، ويتناقض أو يتعارض مع العادات والتقاليد. عجيب جداً – والله -، عجيب! أنا أجد أن القرآن والسُنة لو فهمناهما جيداً، يُمكِن أن يفيا بمُقتضيات دورة تثقيفية على أعلى مُستوى، والله على أعلى مُستوى! والله الذي فهم دينه جيداً، وطبَّقه بصدق وجيداً، ولم يكن مُضطرَب الشخصية، كهذه الشخصيات الأربعة، يُمكِن أن يكون شخصية قهرية، وسينجح. يُمكِن أن يكون شخصية اعتزالية انطوائية، وسينجح. وطبعاً الشخصية الانبساطية، أكيد تنجح. وسنعرض أيضاً للتعريف بهذه الشخصيات بُعيد قليل. لكن نحن لا نفعل للأسف الشديد.

في المُقابِل، على الأقل قبل سنتين، أقل دولة على مُستوى العالم في نسبة أو مُعدَّل الطلاق ماليزيا، وهذا فخر للمُسلِمين. دولة مُسلِمة، وعدد هائل من السكان. أقل دولة! مع أنها كانت قبل سنوات أو قبل عقود يسيرة، مُرتفِعة النسبة. النسبة فيها كانت مُرتفِعة، والآن تدنت وأصبحت الأدنى، ولا أدري الآن الوضع في هذه السنة. بسبب ماذا؟ بسبب هذه الدورات التثقيفية والتي قُننت – المسألة أصبحت ماذا؟ مُقننة مُشرعنة – لمُدة شهر. شهر كامل! ويبدو أنها دورات مُكثَّفة، شهر كامل يخضع له الطرفان. تدنت النسبة بشكل واضح – بحمد الله تبارك وتعالى -، فلماذا لا نفعل؟

ولذلك هذا ألهمني موضوع هذه الخُطبة، أن هذه الخُطبة خُطوة على التثقيف، خُطوة بدائية بسيطة، وغير كافية طبعاً، لكنها مُنبِّهة فقط ومُوقِظة، على الطريق – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

إذن أمثال هذه الشخصيات المُضطرِبة – كما قلنا – الحل معها مُنذ البداية اختصار المُعاناة، اختصار التعب، اختصار الوقت والحياة. لا نرتبط بها، وطبعاً لسنا مسؤولين عن أقدارها، وبعد ذلك ما مصيرها؟ وما إلى ذلك. لا تخف.

لكل ساقطةٍ في الحي لاقطةٌ                              وكل كاسدةٍ يوماً لها سوق.

أي لا تخف، أنت لن تُهندس مشاعر الناس، وكلامي هذا لن يفهمه بعض الناس ولن يحترموه، سوف يقول لك البعض ما معنى أن هذا هيستيري وهذا غير هيستري يا أخي؟ وطبعاً خاصة المُصابون بهذه الاضطرابات، يحتقرون مثل هذا الكلام، ويُسخِّفونه، لماذا؟ لأنهم ينصبون حبالهم. وطبعاً في مُقدَّمهم الشخصية السيكوباثية المُبدعية. السيكوباثي المُبدِع خطير جداً، ضحاياه لا تنتهي، طالما هو في قيد الحياة، وضحاياه تتوالى، ضحاياه تترى. كل يوم ضحية جديدة – والعياذ بالله -، شيء مُخيف وخطير جداً.

النُقطة الثانية في الخُطبة؛ نعم هناك شخصيات غير مُضطرِبة، لكن هناك أنماط ربما يصعب مبدئياً التكيف معها، فأنا – مثلاً تنظر إلى نفسك – شخصية انبساطية، أُحِب المُجتمَع، أُحِب الناس، أُحِب مُلابَسة الناس والاجتماع بهم، لدي حس الفكاهة، حس المرح والدعابة، أُحِب النشاطات الجمعية أو الجماعية، إلى آخره، إلى آخره! جميل، ومُنفتِح على الناس، وبسيط. بسيط! المُنبسِط فعلاً بسيط، حتى بسيط، غير مُعقَّد، غير مُركَّب، بسيط وواضح جداً، باطنه كظاهره، بسمته صادقة، ضحكته مُجلجلة، من القلب، ولا يفتعل. هذا الانبساطي، أنجح شخصية تقريباً، تنجح هذه دائماً. ولكن الطرف الآخر شخصية انطوائية، مُمكِن! لا تُوجَد مُشكِلة، هذا مُمكِن، مُمكِن أن يتعايش معه الانبساطي، وهذا الأفضل أيضاً، الأفضل أن يقترن به، أي سيحدث نوع من التكامل، لكن تكامل على مُستوى الحقيقة، وليس على مُستوى المظهر. ويُمكِن بالتالي لهذه الشخصية الانطوائية أن تتعدَّل شيئاً فشيئاً، وطبعاً تحتاج إلى زمانية طويلة، لا يُوجَد شخص ولا يُوجَد تغير في الشخصية يتم في شهر أو في شهرين، أي مع العمل الجاد والمُتقن والصعب والمُثابر، على الأقل تحتاج إلى سنة. وذكرت هذا بالتفصيل العلمي في خُطبتي التوبة العصبية وكيف يتم هذا، موضوع آخر هذا وهو مُقنن علمياً. بعد سنة كاملة وعمل مُتواصِل يُمكِن أن تُصبِح هذه الشخصية الانطوائية أقل انطوائيةً، يُمكِن أن تُصبِح أكثر تبسطاً، على أنها ستبقى في العُمق انطوائية، لكن هذه حقيقة التكيف – أي الــ Adaptation -، هذا هو التكيف! لا بد أن أتكيف مع الطرف الآخر، وهو أيضاً أن يتكيف معي. أي كما يقول العوام خُطوة من هنا وخُطوة من هنا، ونلتقي في مُنتصَف الطريق.

الــ Paranoid – مثلاً – لا يُوجَد عنده مُنتصَف الطريق. الشخصية الاضطهادية لا يُوجَد عندها Compromises أو حلول وسط. لا يُوجَد عنده حلول وسط! حسّاس جداً جداً، حسّاسية مرضية اتهامية شكوكية، مُتجذِّرة في نفسه، مُضطرِب الشخصية الــ Paranoid صعب، لكن الانطوائي ليس كالـــ Paranoid، فهذا مُمكِن معه، مُمكِن! وهو يصلح لهذا، أهلاً وسهلاً.

أحياناً الزوج يكون انبساطياً، والزوجة كذلك انبساطية، والأمور يجب أن تكون – أقول هذا بين قوسين – (عال العال) كما يُقال، ولكنها ليست (عال العال)، تُوجَد مشاكل. هنا يُفلِح الطبيب والمُعالِج والحكيم والقرآن والسُنة والوعظ والتذكير، خاصة إذا كان الطرفان مُتعلِّمين أو حكيمين أو ذكيين أو مرنين. وأنا أرى الذكاء في الجوهر هو المرونة. المرونة الحقيقية هي الذكاء. من أكبر علامات الذكاء المرونة وتقبل الآراء الأُخرى وتقبل أنني بشر. قد يقول لي أحدكم يا سلام! ما هذا؟ طبعاً مُعظَمنا يعيش ويعلم أنه بشر، ولكنه يعيش على أنه ليس بشراً، كأنه إله يا أخي، لا يتقبَّل! هو صح في كل شيء، وهو عارف بكل شيء، وهو (فهمان)، وهو (شاطر)، وهو بريء وضحية، والآخرون والعالم كله ليسوا مثله. لا يا أخي، أنت تكون هكذا اضطهادياً، غير صحيح، تقبَّل وتقابلوا، هناك أشياء كثيرة، تحتاج أن تتعلَّمها، مهما كنت! ولو كنت حاصلاً على نوبل Noble في بعض التخصصات، تحتاج أن تتعلَّم أشياء في تخصصات أُخرى. تعلَّم، تواضع، انفتح على المرايا الأُخرى، المرايا التي يُمكِن أن تُريك حقيقتك، حين ينصح لكَ أخ صادق، حين تنصح لكَ زوجتك/ أو ينصح لكِ زوجك، وهكذا سائر الأقارب والمعارف والأحباب، حاول أن تكون مرناً، وحاول أن تكون مُتواضِعاً، تقبَّل هذا النُصح، انظر، وقل أكيد لعل في أخطاء، لعل في نقائص، لعل في ما يُشوِّه شخصيتي، لا بد أن أُبدِّل، ولا بد أن أتغيَّر.

فالموعظة ومثل هذه الخُطب تنفع في هؤلاء، تنفع في هؤلاء! هؤلاء سنتكلَّم معهم جُملاً يسيرة، ثم نمضي إلى الشخصيات المُضطرِبة، لنُعرِّف بها من باب التحذير فقط. وهذا موضوع خُطبة اليوم، أي هذه مُقارَبة بسيطة لنقاط مُهِمة على كل حال، ويُمكِن أن تُعطينا خارطة طريق مُهِمة أيضاً في قضية الزواج والطلاق. لأن الطلاق في الحقيقة عند مَن يفهمه، وخاصة إذا كان في البين أولاد، إحدى الكوارث الاجتماعية، بصراحة! إحدى المصائب. ليس حدثاً بسيطاً مُفرَداً، يُمكِن أن يُتجاوز بسهولة، وليس له عقابيل، ليس له توالٍ مُدمِّرة. بالعكس! هو حدث مُدمِّر، في الصميم، على المُستوى الاجتماعي. مُدمِّر حتى الأُسس، مُدمِّر حتى الأُسس! يبلغ الأُسس في المُجتمَع، ولذلك لا بد أن يُدَق ناقوس الخطر. أنا لا أرى أن هذا الناقوس يُدق بالكيفية المطلوبة وبالدرجة الكافية. المفروض على البرامج العربية والفضائيات وما إلى ذلك أن تشتغل… أي ماذا أقول لكم؟ مُعظَم الوقت على هذه القضايا، لأنها مُجتمَعات تتفكَّك، مُجتمَعات تزول دون أن تدري. فالقضية فعلاً مُخيفة، وتحتاج إلى دق ناقوس الخطر بصدق وجد.

نقول الآتي للأسوياء الطبيعيين، الذين يعيشون ولا يتكيفون. لا يُوجَد عيب جوهري في الزوج، ولا يُوجَد عيب جوهري في الزوجة، ولكن الأمور تُشارِف الطلاق. ما الذي يحصل؟ أشياء كثيرة جداً جداً جداً هنا. لكن استلهاماً للنص الديني نقول ينبغي على الزوج والزوجة أن يُدرِكا وضع مُعامَلة الطرف الآخر، المُعامَلة المثالية، المُعامَلة الأرقى والأفضل، التي تُوفِّر حشمته وحُرمته واحترامه وشخصيته، وتحفظ قدره ومشاعره أيضاً، وتُرضيه وتتودد أيضاً وتُحاوِل أن تُسعِده.

وبين قوسين – واسمحوا لي على هذه التقصيات والاستقصاءات – أقول (وربما يكون هذا جوهر الحُب). تكلَّموا في الحُب كثيراً، وتعريف الحُب بالمئات، إن لم تكن بالألوف، بالمئات! ولكن أرى أن الحُب هو الرغبة في القُرب، الرغبة في التودد، مع الرغبة الصادقة في إسعاد الطرف الآخر، مع احترام شخصية الطرف الآخر. إذن تودد! مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۩، الله قال مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۩. والرحمة يدخل فيها احترام شخصية الطرف الآخر. الشخص الآخر فيه ضعف مُعيَّن، ضعف ربما في تكوينه البدني، في تكوينه الجمالي، في تكوينه التعليمي والثقافي، وربما في أشياء أُخرى. عليك أن تحترم هذا، إياك أن تجعل هذا محل تجريح أو شماتة أو تعيير أو همز أو غمز، إياك! لأنك ستكون شخصاً مُتنمِّراً وسيء الخُلق عند الله وعند الناس. لا يجوز إطلاقاً هذا! وهذا يدل على أنك شخص لا تعرف الحُب. الحُب على العكس من هذا، يعمى عن أمثال هذه الأمور. الحبيب الصادق لا يرى في حبيبه إلا كل خير وكل جمال، ويتقبَّله كما هو. بعض المسائل التي قد تكون موضوعياً مُزعِجة، نعم يُمكِن مُعالجتها، ولكن بحُب، ومن خلال منطق الحُب أيضاً، وبالطريقة التي لا تمس مشاعر الآخر واحترام الآخر لنفسه.

انتبهوا، أنا أعتقد أنا من ضرورات الحياة الزوجية – لن أقول من مُقدَّسات الحياة الزوجية، ولكن من ضرورات الحياة الزوجية – احترام الطرف الآخر ككيان مُستقِل، له كل التقدير وكل الاحتشام. ليس معنى أنها زوجتي، أنها أصبحت ملكي، مثل أشيائي، مثل محمولي، مثل سيارتي! ما هذا؟ ما هذه النظرة المادية الوثنية؟ الذي يملك البشر هو خالق البشر فقط، لا يُمكِن لبشر أن يملك بشراً آخر. ولا تملك ابنك ولا ابنتك، ويجب أن تُعامِل حتى أولادك بهذا المنطق، أنت لا تملكهم، أبداً! بل كل ما هنالك أن عليك واجباتٍ، وأن في عُنقك حقوقاً، إزاءهم ولهم.

قال – تبارك وتعالى – وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۩. إي والله، أُشهِد الله ما قرأت مثل هذا النص، لا لبشر ولا لإله يُنسَب إلى مجمع الآلهة، يُوجِز ويُكثِّف العلاقة بمنطق حقوقي عادل مُنصِف مُساواتي بين الطرفين، كهذه الآية العظيمة. شيء عجيب يا أخي! وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ ۩. أي يُوجَد لك حقوق، وعليك واجبات. وبالمثل لها حقوق بإزاء الحقوق، وعليها واجبات بإزاء الواجبات. الله أكبر، الله أكبر! شيء تقشعر له الأبدان.

روى الإمام أبو بكر البيهقي في السُنن الكبرى – رحمه الله تعالى -، أن ابن عباس قال إني لأتزين لزوجتي، كما تتزين لي. يقف أمام المرآة و(يضبط حاله) ويُهذِّب نفسه ويُصلِح من ريحه – أي من رائحته – ويأخذ زينته. قال أتزين لها كما تتزين لي، فإنهن يُحببن منا ما نُحب منهن. لكن يُمكِن أن تخجل، وأنت رجل – ما شاء الله عليك – على مدار الأربع والعشرين ساعة تشرب سيجارة إثر سيجارة، الأسنان صُفر قُحر بُخر، والرائحة سيئة، وهذا شيء عجيب. أي هناك نوع من (البهدلة)، وكأن هذا عادي، عيب! عيب ولا يجوز. هل تُحِب أن تراها أنت بهذه الطريقة وبهذه الهيئة؟ طبعاً لا. وهي أيضاً لا تُحِب، ولكن ربما لأنها – أي هذه المسكينة – بنت ناس، وبنت أصول، ورُبيت، لا تتكلَّم، أو أعياها الكلام، تكلَّمت بطريقة أو بأُخرى ونصحت، ولكن لا فائدة، لا حياة لمَن تُنادي.

ابن عباس قال لك لا. لماذا يا ابن عباس؟ قال لأن الله – تعالى – يقول وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۩. الله أكبر يا أخي، هذا الفهم للدين، لكن تعال وانظر إلى المُسلِم الآن، انظر إلى المُسلِم المُعاصِر، كل ما يحفظه من الدين في هذا الباب، هذه النصوص: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ۩ – على أنه يفهمها غلطاً، هذه الآية في صالح الأُنثى على فكرة، أي وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ۩ -، الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ۩، وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۩، ناقصات عقل ودين، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحدٍ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. من عظم حقه عليها! هذا هو الذي يعرفه، فقط! لا يعرف أي نصوص أُخرى، ويتحدَّث عن الناشز، ويقول هي ناشز. ولا يدري وكأنه لم يقرأ القرآن في رمضان، على الأقل مرة في العام؛ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا ۩، وأنت أيضاً ناشز. الرجل ينشز أيضاً كما تنشز المرأة. هذا لا، هذا لا يُقال لنا، حتى على المنابر لا نُذكَّر بهذا كثيراً، لا نُذكَّر بهذا! لأنها عموماً مُجتمَعات بطريركية، مُجتمَعات أبوية، وذكورية. تُعلي من شأن الرجل، فالرجل هو كل شيء، والمرأة لا شيء.

وأنتم تعلمون طبعاً القضايا وقضايا قتل الشرف وجرائم الشرف، نعم! الرجل لا يعيبه شيء. وعندنا هذا المثل العامي. لا! يعيبه ما يعيب المرأة، وزيادة بصراحة. لا! عندنا الرجل لا يعيبه شيء. حتى ولو ارتكب الفاحشة، “جدع” وبطل ولا يعيبه شيء ويتزوَّج بشكل عادي. ما هذه المُجتمَعات الجاهلية؟ مُجتمَعات جاهلية، والله كالجاهلية الأولى، في هذا الباب. لا يجوز! وتدّعي التمسح بالإسلام، عن أي إسلام يتحدَّثون؟ البنت الصغيرة المسكينة لو حامت حولها شائعة – أنها عابت بنت صغيرة، خمس عشرة سنة – تُقتَل مُباشَرةً. مئات الحالات في بلاد العرب والمُسلِمين، بعد أنه تُقتل هؤلاء البريئات، بيّن الطب الشرعي أنهن أبكار، لم يُمسسن. عادي! ولا يطرف جفن، المُهِم أنه أرضى المُجتمَع، وغسل العار بالدم. مُجتمَعات مُنحَطة! هذا انحطاط حقيقي، هذا يُوجِب غضب الله – تبارك وتعالى -، هل هذا شرع الله؟ شرع الله لو أنها فعلاً عابت وارتكبت الفاحشة وكنتم تُطبِّقون شرع الله، تُجلد مائة جلدة. لكن لا، لا تُوجَد مائة جلدة، السكين مُباشَرةً، مائة جلدة ماذا؟ ولا يُقيمون وزناً لشرع الله، ولا تجد حتى أئمة ووعاظاً يعتلون المنابر، يزعقون ويصرخون بأن هذه جاهلية وأنكم تنتهكون حدود الله وترتكبون جرائم، لن تُحاسَبوا عليه فقط، لا! بل سُتبعَثون قتلة، من أوسخ القتلة يوم القيامة. هناك مَن يقتل لحمه ودمه، يقتل ابنته، من أجل إشاعات فارغة، لم يُتحقَّق منها، من أجل فقط أن يُسكِت ألسنة مُجتمَع سيكوباثي. بصراحة مُجتمَع سيكوباثي مريض، مُجتمَع سادي، يُحِب أن يُعذِّب الآخرين، وهو مُجتمَع لا يتقي الله حتى في الكلام في أعراض الناس، الآن تحصل هذه الأشياء.

ولذلك – مثلاً – بعض الناس اقترح علىّ في الخُطبة الأخيرة وقال تكلَّم عن قصة إسراء غرّيب. لا يا حبيبي، أنا لست نائباً عاماً، ولست قاضياً في هذه القضية، ليس عندي الحيثيات الكاملة، فكيف أتكلَّم؟ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا ۩، على مثل الشمس فاشهد. حين أكون أنا النائب العام أو القاضي، وعندي كل الحيثيات وعندي إقرارات أو بيّنات، سأقول أهلاً وسهلاً، بعد ذلك سأتكلَّم وسأُخرِج بياناً. اليوم الكل يُخرِج بياناً، ولا ندري مَن الظالم ومَن المظلوم، المرحومة – رحمة الله عليها – أم أهلها؟ يُمكِن أن يكون أهلها ظُلموا كثيراً جداً، بكلام كثير مُتناثِر هنا وهنا. الكل يتكلَّم! مُجتمَعات تُريد أن تتشفى، عجيب يا أخي! تُريد أن تُعيِّر، تُريد أن تشمت. وكأنهم كملة! أيضاً أنتم أبناء هذه المُجتمَعات، وأبناء هذا المُستنقَع الثقافي، وأبناء الثقافة نفسها. ويُمكِن لو حصل معك شيء قريب مما حصل هناك، أن تفعل أسوأ مما فُعل. يجب أن نكون صادقين، كما أقول دائماً ينبغي ألا نُداري وألا نُماري وألا نُداجي في الحقائق أنفسنا، وأن نكون واضحين. وشرع الله ينبغي أن يكون على الجميع وللجميع، وليس في حالة دون حالة، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ۩، هذا تفريق للدين، وهذا تعضية للدين، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ۩، نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ۩، نكفر عملياً ببعض القرآن، بشكل واضح! ولعشرات، بل لمئات السنين، ولا حياة لمَن تُنادي، عادي! هو هكذا، عادات وتقاليد. ديننا العادات والتقاليد، وليس دين الله، ليس دين الله!

دين الله مقبول بقيد واحد، وهو إذا تطابق مع عاداتنا وتقاليدنا. حتى ولو كانت مسمومة، سخيفة، مجنونة، مُنفلِتة. بغض النظر! يجب عليه هو أن يتكيف معنا، لا أن نتكيف معه. ثم نزعم أننا مُسلِمون. لا أدري بأي معنى! ما هذا الإسلام؟ ما هذا الإسلام؟ خلونا نكون واضحين يا إخواني.

على كل حال نعود إلى ما كنا فيه. فمثل هذه الآية تكفي يا إخواني، تكفي لمُسلِم صادق، أن يرى ديناً وعبادةً وزُلفى إلى الله، أن يتودد إلى زوجته، وأن يُحسِن مُعامَلتها، وأن يحترم شخصيتها، وأن يُبرهِن حُبه لها. وهذا الحُب له علائم وأمارات، تشي به وتدل عليه. مثل أيضاً أن يُحِب أهلها، وأن يحترم أهلها، أبويها وإخوانها وأخواتها، وأن يُحسِن إليهم إذا كان في موقع الإحسان، دون تجريح ودون امتنان. فهذا يدل على أن هناك ماذا؟ يدل على أن هناك حُباً وأن هناك صدقاً، مع توفير الاحترام للجميع، مع توفير الاحترام للجميع!

أنا كنت أُريد أن أقول كلمة، ولكن – سُبحان الله – سبقني لساني إلى كلمات أُخر. هذه الكلمة هي أنني أعتبر أن من ضرورات الحياة الزوجية، أن أجعل زوجي، أن أجعل زوجتي، حمىً محمياً. لا أُسوِّغ لأحد، لا لأبي ولا لأمي الجور عليها. والأب والأم على الرأس والعين ونعمة ألف عين، ولهم كل الحق، ولكن أن يجورا على زوجتي، غير مسموح. غير مسموح! انتبهوا إلى هذا، لأن المُشكِلة عندنا أن العقل المُسلِم عقل مُتهتِّك يا جماعة، كما قلت لكم الأمور عنده غير واضحة. باسم بر الوالدين، يقول نعم، إذن يحق لأبي ولأمي ولأخي ولأختي وللعائلة أن تُهين زوجتي، أن تستذلها، أن تجور عليها. وهي عليها فقط أن تسكت، يُقال لها اسكتي واتقي الله وهذا لا يهم، لا تُوجَد مُشكِلة، لأن هؤلاء أهلي. ما هذا الكلام الفارغ؟ أي دين هذا؟ أي عادات هذه؟ مَن قال لكم هذا؟ هذا ظلم، والله هذا ظلم حقيقي، يُغضِب الله ورسوله، هذا لا يرضى به الله – تبارك وتعالى -.

حمى! وكما نقول دائماً إذا كان أهلي يُحِبونني ويحترمونني، فمن حُبي احترام زوجتي. أن تُحترَم، هذه زوجتي وهي مسؤولة مني، شرفها من شرفي، كرامتها من كرامتي. هي حمىً محمي، لن أسمح لأحد من قراباتي أن يُذلها أو يُهينها. كما لن أسمح لها طبعاً، أو له بالمُقابِل، أن تتطاول أو تتنمر على أحد من عائلتي أو من أقربائي أو حتى من أصدقائي. كل شيء في مكانه! الإسلام دين المُحترَمين، دين الاحترام، دين التوقير، دين الرحمة، مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۩، هذا كله داخل في ماذا؟ في المودة والرحمة الحقيقية، وليست الزائفة، الاجتماعية التظاهرية.

فانتبهوا إلى هذه، وهذه النُقطة تحتها خبيء كبير، كبير! إحدى أكبر المسائل التي ينشب بسببها خلافات كثيرة، تصل إلى الفُرقة وإلى الطلاق، المسألة هذه. والله إني لأعلم عن أزواج، أنهم يتركون أزواجهم في كل أسبوع، ثلاثة أرباع الأسبوع، أي خمسة أيام وستة أيام، قال أحدهم إرضاءً للأم. أم ماذا؟ أم ماذا؟ قال لك نعم، الأم! الأم تُريد ابنها دائماً عندها، وأن يقوم على خدمتها. مع أن هذه الأم لها أولاد آخرون ولها بنات أُخريات، وبعضهم يسكنون عندها في البيت. لا! عليه أن يأتي من بيته، وأن يلزمني خمسة أيام وستة أيام في الأسبوع. وتسمح له مرة أو مرتين وعلى مضض، أن يذهب يُواصِل زوجته وأولاده. ما هذا؟ أي دين هذا؟ أي عادات هذه؟ مَن الذي فهَّمك يا سيدي، يا أخي، يا حبيبي، أن هذا من بر الوالدين؟ لِمَ لَمْ يقل لك مثل هذه الأم شخصية مُضطرِبة؟ هذه شخصية مُضطرِبة نفسياً، ابحث لها عن توصيف، وحاول أن تُعالِجها، إن كان العلاج بالإمكان. هذه الأم غير طبيعية.

رحم الله الشيخ عليّ الطنطاوي، أنا سمعته بأذني مرة يُحدِّث عن أم كانت كل ليلة تأتي وتحشر نفسها في السرير، بين ابنها وزوجته. قال تعلقاً بابنها، حُباً لابنها. لا كثَّر الله في العالم أمثال هذه الأم المريضة، المُضطرِبة نفسياً. ولا كثَّر الله أمثال هذا الأبله الأحمق الذي يرى أن السكوت على هذه الوضعية أو هكذا وضعية مُضطرِبة من بر الوالدين. أي بر؟ أي بر؟ وأي دين؟ وأي فقه؟

ولذلك ماذا قال الإمام أحمد؟ طبعاً قبل أن أقول لكم ما قاله، سأتلو عليكم الحديث، حديث أبي داود والترمذي – رضيَ الله عنهما -، عن ابن عمر. قال عبد الله بن عمر – رضيَ الله تعالى عنهما – كانت تحتي امرأة – وهذا التعبير في النفس منه شيء، ولكنه تعبير عربي، أعتقد أنه من بقايا الجاهلية، تحته! قال كانت تحتي امرأة – وكنت أُحِبها. أي الأفضل والأكرم كانت معي امرأة أو كانت لي امرأة، وليس تحتي. هذا تعبير عربي جاهلي طبعاً، وهكذا يُنظر إلى المرأة على أنها من التحوت. قال كانت تحتي امرأة، وكنت أُحِبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي طلِّقها. قلت لا. انظروا، تُوجَد شخصية، أرأيتم؟ وعمر شخصية مهيبة، ولكن ابن عمر أيضاً له شخصية، قال له لا، لا أُطلِّقها، أُطلِّقها لماذا؟ أُحِبها وتُحِبني، أُطلِّقها لماذا؟ لا أُطلِّقها. وعمر يلح عليه، يقول طلِّقها. قال فقلت لا. فأبى! أي تُوجَد شخصية فعلاً يا أخي.

فذهب عمر لرسول الله، وذكر له. وهنا واضح طبعاً أن المسكوت عنه شيء لا يعلمه إلا الله ورسوله، وربما وعمر طبعاً، الله أعلم لماذا عمر أمر بهذا؟ عمر هذا، نموذج العدل، لكن عمر ستير ويُحِب الستر، ولا يُريد أن يبوح لابنه بما قد يجرح ربما. فذكر الأمر للرسول. قال فقال رسول الله لي طلِّقها. قال فطلَّقتها. هنا يُوجَد شيء طبعاً مسكوت عنه، هذا الدين! الدين ستر ورحمة.

الآن في عهد الإمام أبي عبد الله، أحمد بن حنبل – رضوان الله عليه -، جاء رجل وسأله، قال يا أبا عبد الله إن لي امرأةً، وأنا أُحِبها، وأبي يأمرني بتطليقها، فأبى علىّ، فقال لي عبد الله طلَّق امرأته بأمر أبيه. وعلى فكرة طبعاً هو بأمر الرسول، أي ليس بأمر أبيه، بصراحة! أي هو حتى كذب على الخبر هذا. فقال له أحمد بن حنبل إن كان أبوك مثل عمر، فطلِّقها. جواب ذكي. لا يُوجَد استهبال باسم الدين، لا يُمكِن أن تأتي بالحديث ثم تقول لي طلِّق. أبوك يقول لك طلِّق! أبي؟ هذا عمر.

وعلى فكرة؛ وعمر لم يكن كافياً، أمانة مع الأثر والخبر، عمر لم يكن كافياً، حتى أتى الأمر مِن مَن؟ مِن رسول الله. ورسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا يأمر إلا بما فيه رضا الله. ولذلك في الصحيح – في البخاري – لما طلَّق مُغيث بريرة – وكانت مولاة ومُعتقة، ملكت نفسها على كل حال – تبعتها نفسه. طلَّقها وندم، قال آخ! وكان يُحِبها، حدث خلاف وطلَّقها، وهي فرحت؛ لأنها لا تُريده، فكان ربما تكون في الطواف، فيأتي مُغيث، يطوف حولها ويبكي. تسح دموعه على خديه، يُريدها! فقال الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – للعباس عمه يا عباس ألا تعجب من حُب مُغيث بريرة، وبُغض بريرة مُغيثا؟ ثم قال لها رسول الله في الرجوع إليه. فقالت يا رسول الله شافع أو آمر؟ أي أنت تشفع له أو تأمر؟ أي هل أنت “محضر خير” كما يقولون بالعامية، أم أن هذا أمر؟ قال شافع. قالت فلا حاجة لي به. أي لا أُريده! أرأيت؟ مُجتمَعات مُستقِلة، تربية حقيقية. هذا رسول الله، رسول الله أعلى سُلطة روحية أخلاقية دينية سياسية. قال لها لا، أنا لا أقدر على أن آمرك، لا يُوجَد عندي أمر من الله، وأنا لا آمرك، ولكن أنا فقط شافع، أي أقول لك ارجعي إليه وما إلى ذلك، لأنه يُحِب. فقالت له لا، لا أُريده، أنا لا أُحِب هذا، أنا لا أُحِبه وأنت لست آمراً. فالنبي حين أمر ابن عمر، فهو أمر، والله يعلم الحقيقة، لماذا أمره؟ وما الذي ذكره عمر لرسول الله؟ الله أعلم. هل هذا واضح يا إخواني؟

إذن هذا هو. قال له إن كان أبوك مثل عمر، فطلِّقها. اليوم في عالمنا العربي في حالات غير نادرة، تقول له أمه، يقول له أبوه، يقول له عمه إن كنت رجلاً، طلِّقها. فيقول أنت طالق. ما شاء الله عليك! والله لست برجل، والله لست برجل والذي طلَّقها هو أبوك أو عمك، أنت الذي تملك عُقدة النكاح يا رجل. مَن الذي يُمكِن أن يُجبرني على أن أُطلِّق امرأةً لا أستريب فيها؟ كيف أُطلِّقها في غير ريبة؟ أهواها وتهواني! ائت لي بدليل شرعي حتى أُطلِّقها. لن أُطلِّقها لكي أُثبِت أنني رجل، لأنني رجل حين لا أستمع إلا للبُرهان والدليل، ولمُقتضى الحكمة والعدل. فلست رجلاً لأنني أتبع عمي وأبي والكبار والصغار في القبيلة أو العشيرة، أبداً!

هناك حالات غريبة عندنا في المُجتمَعات العربية يا إخواني، وبعد ذلك يقول لك أحدهم هل الإسلام كرَّم المرأة؟ طبعاً الإسلام كرَّم المرأة وأنصف المرأة، ولكن أنتم ما كرَّمتموها ولا أنصفتموها – إلا ما شاء ربي، وقليلٌ ما هم -. لا بد وأن نكون واضحين! قال أحدهم إذا الإسلام كرَّمها، فكأنهم هم كرَّموها. أنتم ما كرَّمتموها! تكرمتها أن تُطبِّقوا فيها شرع الله، الذي يُرضي الله – تبارك وتعالى -.

المرأة في عهد الرسالة كانت شيئاً كبيراً، المرأة في مُجتمَع رسول الله كانت شيئاً عظيماً جداً، فعلاً شخصية حقيقية! والله اليوم لا تجد مثل هذه الشخصية في أرقى مُجتمَعات المُسلِمين، شخصية حقيقية. أين هذا في مُجتمَعات المُسلِمين؟ اليوم لا تُوجَد امرأة مُسلِمة فاضلة إلا وتكون هكذا. والحمد لله مُعظَم أخواتنا المُسلِمات فُضليات – بفضل الله تبارك وتعالى -، مُعظَمهن بطريقة ساحقة فُضليات تقيات كريمات طيبات، والله! لا يُردن إلا ماذا؟ إلا البيتوتة والعيش السعيد والستر. لكن مَن مِن هؤلاء الفُضليات التقيات العفيفات الصيّنات الديّنات، مَن تجرؤ أن تأتي إلى القاضي وأمام بعض الناس وبعض الحضور في محضر القاضي، وتُطالِب بحقها في الفراش؟ نعم، الصحابيات فعلن هذا، فعلن هذا!

النسائي روى عن الغميصاء أو الرميصاء، أنها طالبت بهذا، وذكرت الشيء الذي ذكرته امرأة رفاعة القرظي في حديث عائشة – رضوان الله عنهن جمعاوات -، والحديث مُخرَّج في الصحيحين وعند أهل السُنن. قالت أم المُؤمِنين – رضيَ الله عنها وأرضاها – أتت زوجة رفاعة القرظي، إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، واختُلف في اسمها، وطبعاً هؤلاء الجماعة – الشيخان وأهل السُنن – لم يُصرِّحوا باسمها، الإمام مالك في روايته صرَّح باسمها، تميمة بنت وهب. وهذا يُؤكِّد أنها ليست الغميصاء أو الرميصاء المذكورة في حديث النسائي، كما رجَّح الإمام العيني في عُمدة القاري. المُهِم وقالت يا رسول الله كنت تحت رفاعة القُرظي، فطلَّقني، فبت طلاقي. بينونة كبرى، انتهى! قالت فبت طلاقي، فتزوجني عبد الرحمن بن الزُبير، وليس معه إلا مثل هُدبة الثوب. تُكني عن هذا الشيئ، أي لا يصل إليها، كما في حديث الغُميصاء، لا يصل إليها، الرجل ضعيف، ضعيف وتُوجَد عنده مُشكِلة في التواصل البدني. ليس معه إلا مثل هُدبة الثوب. حتى تبسم النبي، وخجل أبو بكر في رواية خجلاً شديداً، قال ما هذا؟ ما هذه الفضيحة؟ هذه امراة جريئة! تُطالِب بحقها، لا تُريد أن تصل إلى الخيانة، هذا حقها يا أخي. كما أنت أيها الرجل، أيها الفحل، عندك حق، وتقول هذا حق وأُريده وتتحدَّث عن التعدد والقوة والأنا. يا سلام! وهي أيضاً من بني آدم، عندها حال! كما تجوع أنت، تجوع هي. كما تعطش، تعطش. كما تتعب تسأم وتشعر بالملل، هي كذلك، الشيء نفسه! كيان عضوي كامل يا سيدي، لماذا لا تُحاوِل أن تُنصِف هذه الحقيقة أيضاً؟ لأن يُقال لا يجوز. لا! يجوز لها طبعاً، بالعكس! وواجب عليها، وجزاها الله خيراً، شرَّعت للنساء مثل هذا الموقف الجميل القوي الواثق الكريم أيضاً والشريف. لا تُريد الكفر، أي كفر العشير وكفر الفراش في الإسلام، كما في حديث أيضاً حبيبة بنت سهل، زوجة ثابت بن قيس بن شمّاس، أكره الكفر في الإسلام. لا أُحِب أن أخون زوجي! هذه امرأة شريفة، بنت شرفاء. لا أُريد أن يتطرَّق بي الأمر إلى الخيانة، ولكن أُريد حقي. حقي!

فالنبي تبسَّم، وقال تُريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ فقالت نعم. قال لا، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك. لا بد أن يحصل لقاء تام، هكذا نُكني، لقاء تام! قبل أن يحدث اللقاء التام، لا يجوز. وهذا رأي الجماهير، بحسب علمي لم يُخالِف في هذا إلا سعيد بن المُسيب، كما حكاه ابن العربي في أحكام القرآن، ولكن هذه قضية أُخرى على كل حال، انظر، هذه المرأة المُسلِمة الشريفة التقية الواثقة تُطالِب بحقوقها. اليوم لو فعلت هذا امرأة مُسلِمة، والله يهتكون عِرضها بأبشع الأوصاف والنعوت. هذه امرأة كيت وكيت وكيت وكيت، هذه امرأة عينها برحة وقوية… وما لا أعرف! لماذا يا أخي؟ تُطالِب بحقها ولم يُنصِفها أحد، وتُريد من رسول الله أن يُنصِفها. هو هذا! يجب أن نكون واضحين.

وعلى كل حال الحديث في هذا الباب يطول جداً، أكتفي بهذا القدر وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، إخواني وأخواتي:

روى الإمام أبو عبد الله بن ماجه، في سُننه، بإسناد صحَّحه بعض المُحدِّثين، كالشيخ الألباني من المُعاصِرين، وغمزه بعض العلماء الآخرين، عن ابن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما -، قال أُتيَ رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -، وقيل له يا رسول الله، إن عندنا يتيمةً. انظر إلى هذا، فقضيتها مُحرَّجة وضيقة، هذه يتمية، ولا بد أن يكون النظر في شؤونها منوطاً بالمصلحة، لا بد أن يكون النظر في شؤونها وتدبير كل شؤونها منوطاً بما فيه مصلحته. إن عندنا يتيمةً، وقد خطبها رجلان: مُوسِر ومُعدِم. ونحن نهوى المُوسِر. هذا رجل غني وهذه يتيمة، فيستقيم حالها وأمرها. وهي تهوى المُعدِم! هي تهوى مَن؟ الشاب أو الرجل الآخر، على أنه فقير مُعدِم.

فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لم يُرا للمُتحابين مثل النكاح. أي زوِّجوها بمَن تهوى، وإن كان فقيراً. انظر إلى هذا، فهذا هو! وقال لك الإسلام لم يُنصَف. أنصف! اليوم في بعض المُجتمَعات العشائرية القبلية العربية التقليدية البنت تُزوَّج على رُغمها، ولا تُستشار، ولا تُستأمر، ولا يُؤخذ رأيها ولا رأي أمها. يقول أحدهم أعطيتك كلمة، إذا كان الله أعطاك. مَن أنت يا حبيبي؟ تتصرَّف في حياتها كيف؟ ماذا هي؟ أهيَ نعجة وبعتها أنت؟ يقول لك لا. يا أخي سلها. لا! عيب، كيف يسأل؟ عيب، هذا يُصبِح هُجنة بين الناس، لأنه ذهب لكي يسأل البنت وأمها. والنبي قال آمروا النساء في بناتهن. أيضاً هذا حديث آخر، سلها وسل أمها يا رجل، يا جاهلي، يا جاهلي! يا صاحب الصلوات الخمس في المسجد، على أنك جاهلي في كل ما يتعارض مع هواك. ولن يُؤمِن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به. وليس لما أقرته القبيلة والعشيرة والمُجتمَع والناس والضغط الاجتماعي. لما جئت به.

اتقوا الله في دينكم، في شرعكم، وفي أولادكم أيضاً، وفي مُستقبَل هذه الأمة التي تتفكَّك. قال لم يُرا للمُتحابين مثل النكاح. أي زوِّجوها بمَن تهوى، وإن لم تهوهه أنتم، لأن هي التي ستتزوج.

إخواني وأخواتي:

أقول إنجازاً لعدتي لكن على جهة الاختصار السريع، ما هي الشخصيات الأربع المُضطرِبة التي ينبغي أن نحذر منها؟ سواء البنات أو الشباب في هذا، احذروا من هذه الشخصيات، وهذه الشخصيات ليست في الرجال فقط، وفي النساء أيضاً.

أولاً – كما قلنا – هناك ماذا؟ الشخصية السيكوباثية. السيكوباثي هو الشخصية ضد المُجتمَع، ضد الآخرين. شخص ملآن بالكره، بالحقد، بالحسد، بالشر، بالرغبة في الإيذاء، بالرغبة في اتعاس الآخرين، باستغلال الآخرين، باستذلالهم، بمصهم كالليمونة حتى آخر قطرة. لا يشعر بالآخرين، لا يتعاطف معهم. إن أظهر شيئاً من هذا، فمن باب المسرحة والتمثيل الدرامي الكاذب. يحلف أغلظ الأيمان وهو كاذب في أتفه الأمور أو أجل الأمور، وهو كاذب! شخص خطير جداً جداً. طالما تكلَّمت عن الشخصية السيكوباثية وحذَّرت منها، احذروها واقرأوا عنها. هذه الخُطبة ليست خُطبة في السيكولوجي Psychology وما إلى ذلك، ولكن اذهبوا واقرأوا، وسوف تجدون مواد علمية كثيرة، تفقَّهوا في هذا، وخاصة الشباب والشابات، احذروا من السيكوباثي، وخاصة السيكوباثي المُبدِع، أي الذكي، لأن السيكوباثي الغبي سرعان ما ينكشف أمره، فيُحذَر.

السيكوباثي ليس له صداقات دائمة. كل يوم صديق، وكل يوم علاقة جديدة، لأنه حين ينكشف، طبعاً الناس مُباشَرةً تتحاشاه وتهرب منه إلى آخر ما يُمكِن الهرب. فينصب شباكه على آخرين ويُوقِعهم ضحاياه، وهكذا! شخصية خطيرة.

علاقاته الجنسية – لا مُؤاخذة – مُضطرِبة، لا يُمكِن ولا يصبر ويعجز عن أن يصبر على علاقة واحدة شرعية، ولذلك هو يُعدِّد العلاقات المُحرَّمة. رجل فاحش، يرتكب الفاحشة – والعياذ بالله -، وربما يتستر دون أن يُدرى، لكن حبل الكذب والتستر قصير، لا بد أن يُكشَف يوماً ما، لهذا أو لذاك من الناس.

الشخصية السيكوباثية خطيرة جداً. أخطر اضطرابات الشخصية على الإطلاق السيكوباثية، فاحذروها.

ثانياً الشخصية النرجسية، هناك العابد لذاته، فعلاً النرجسي هو الذي يعبد ذاته، ذاته مُتورِّمة مُتضخِّمة. يعيش في عالم من المرايا. كلما نظر، لا يرى إلا نفسه. ولذلك إذا كان رجلاً، يُستغرَب منه، أنه يُنفِق أوقاتاً طويلة جداً، وكل يوم، في قضية ماذا؟ في قضية التزين والتجمل والتسريحة والشعر في الوجنات واللباس والهيئة. مُهتَم جداً بصحته، يُمارِس تمرينات رياضية. إذا نخزته نخزة بسيطة، هُرِع للأطباء، لأنه خطير. العالم بدونه يتهدم، أي النرجسي! هو رحمة الله في هذا العالم، العالم لا قيمة له بدونه، لا يُمكِن – إلا من باب التمثيل فقط، حين يكون مُضطراً – أن يعترف لأحد بقدر أو بقيمة أو بأهمية أو بمثابة. كل الناس أصفار، كلهم تحوت، لا قيمة لهم. هو صاحب القيمة، وصاحب الإبداع، وصاحب العظمة، وصاحب الجمال، وصاحب القوة، وصاحب المُوفقية التامة، هو كل شيء! شخصية خبيثة عجيبة غريبة.

ليس لديه مساحة لأن يُحِب، مُستحيل! النرجسي لا يُحِب، انتبهوا! فيا ابنتي، يا أختي، يا ابني، إذا ابتُليت أو عرفت مظاهر الشخصية النرجسية في شخص ما، فاهرب وإياك أن ترتبط به. مهما مثَّل عليك، خاصة في فترة الخِطبة، هذا كلام فارغ، النرجسي لا يرى إلا ذاته، يعجز عن أن يُحِب إلا نفسه. وطبعاً مَن لا يُحِب، لا يُحَب. ولذلك تفشل العلاقة الزوجية مع النرجسي. يا ويلك إذا انتقصت من قيمة النرجسي أو من ثقته بنفسه أو من صورته الذاتية المُتضخِّمة، ستخضع للجلد الشديد، بلسانه، وربما إذا استطاع أن يُوصِل إليك الشر، أوصله كالسيكوباثي، على أنه أقل شراً من السيكوباثي، لأنه أذكى لهذه الناحية، في مُراعاة القوانين والعقابيل القانونية.

على كل حال قضية النرجسية أيضاً قضية طويلة، وأُلفت مُؤلَّفات عن النرجسية وأعراض النرجسية.

ثالثاً الشخصية الهستيرية، صاحبها شخص زائف، هو Holo person، شخص مُفرَغ. الشخص الهستيري يا إخواني يكون هكذا! وطبعاً من أجل الهستيريين، تأتيك الدعايات وجنون الموضة – الــ Fashion -. من أجل الهستيريين!

الهستيري شخص يُحِب الشهرة، يُحِب التميز، يُحِب أن يكون فاقعاً في لباسه، في مظهره، في ضحكته، في كلامه، في مواقفه، في آرائه. إذا أحب، يُظهِر أنه يُحِب بعنف شديد جداً. يُمكِن أن يذوب فيك، يُمكِن أن يُفجِّر نفسه شطايا، شعاعاً، من أجل أن يُنير لك الطريق. لكن لمرحلة قصيرة جداً، ثم لا يلبث أن ينقلب عليك، وكأن شيئاً لم يكن، كأنها سكرة، ذهبت السكرة وجاءت الفكرة. لا يبقى من الحُب شيء!

الهستيري شخص غريب مُبالِغ. الهستيري لا يرضى أن يكون في المكان الثاني، هو دائماً في المكان الأول معنوياً ومادياً. إذا دُعيَ إلى حفل أو محفل، لا يرضى إلا أن يكون في الصف الأول. دائماً! ولا يخجل، يأتي آخر الناس ويأتي يتقدَّم، ليجلس في الصف الأول. الشخص الهستيري يُحِب أن يكون في مركز دائرة الضوء، تماماً! وأن يُسلَّط عليه الضوء. والويل لمَن يُبدي اهتماماً من أقاربه أو أحبابه أو خلانه، بآخر غيره، أياً كان هذا الآخر! سيخضع أيضاً لسلاطة لسانه وانتقاده وسُخريته اللاذعة.

والهستيري إذا ضُيق عليه الخناق أسرياً واجتماعياً وعُرفت حقيقته، تتفكَّك شخصيته. وأنتم تعرفون الشخصية الهستيرية، أكيد قرأتم عنها وشاهدتم عنها أفلاماً كثيرة. تتفكَّك الشخصية، فيُصاب بالإغماء، ويُصاب بالتخشب. يتخشَّب! هناك تشنجات – Convulsions – وتخشبات وإغماء. ويُصاب بتعطل وظفي – أي Functional – أو وظيفي لبعض الحواس، كالسمع والبصر والكلام. فيصير ماذا؟ أعمى. يقول أنا عميت. وطبعاً أنتم تأخذونه إلى الدكاترة وإلى الشيوخ، وتقرأون عليه آيات السحر وآيات الحسد. الرجل أُصيب بالعمى! هذا اسمه العمى الهستيري، وفعلاً يعمى، لا يعود يرى شيئاً، هستيرياً! اسمه العمى الهستيري. أو يُصاب بالصمم، فلا يعود يسمع. لا يسمع شيئاً! وهذا اسمه الصمم الهستيري، أو يُصاب بالكم، فلا يعود يتكلَّم، يُصاب بالخرس الكامل، وهذا اسمه الخرس الهستيري، عجيب! وتحت إيحاء من طبيب ومُعالِج نفسي، يعود إليه الحس، تاماً كاملاً، والحمد لله، الله أذهب الشر، وطبعاً يُخضِع الآخرين؛ أي انتبهوا، لا تضغطوا علىّ، ولا تتعبوني. يا حبيبي! ماذا يحدث حين يكون هذا زوجك يا أختك؟ يا حبيبي! يا حبيبي! ماذا سيحدث لك حين تكون هذه زوجتك يا ابني؟ سوف تنبسط أنت مع هستيرية مثل هذه!

والهستيري عنده لعبة مُفضَّلة، وهي التهديد بالانتحار. حين يُضيَّق عليه الخناق، يقول سأنتحر. وهو لا ينتوي إطلاقاً أن ينتحر حقيقةً، يُمثِّل الانتحار، وربما أتى ببعض المُقدِّمات، فيجرح شيئاً يسيراً من نفسه، يبلع ثلاثة أقراص – ليس ثلاثين قرصاً أو ثلاثمائة قرص، ثلاثة أقراص – ويدّعي أنه كان سينتحر. وهي لُعبة مكشوفة بعد قليل لمَن حوله، لأنه أدمن عليها. أصبحت مفضوحة لُعبته المُفضَّلة!

الشخصية الهستيرية شخصية أيضاً مُتعِبة وزائفة، وأيضاً غير قادرة على العطاء، غير قادرة على الحُب، غير قادرة على التنازل. احذروا منها!

وأخيراً الشخصية بالغة التوجس، بالغة التخوف، بالغة سوء الظن بالآخرين، وهي مُنطوية على نفسها بالكامل، وقد يبلغ هذا الانطواء درجة مرضية من الزهو والكبرياء والغرور، يُقرِّبه من النرجسي. يرى نفسه شيئاً مُميَّزاً جداً، كأن مطبعة الخالق أو مصنع الخالق لم يصنع إلا هذا الشخص. وطبعاً هذا الوصف أولى بالنرجسي، لكن قد يبلغه الاضطهادي، أي الــ Paranoid، الذي يرى أن العالم – كما قلت – عالم شرير، مكّار، حسود، حقير، يغار منه، يحسده، يأتمر به، يمكر به، لا يُريد له الخير، يُريد أن يضع العصي في دواليبه، إلى آخره، إلى آخره! ولا يُمكِن إقناعه بغير هذا، لا يقتنع مهما قامت الأدلة، على أن هذا غير صحيح، وقيل له يا أخي بالعكس، بالذات فلان هذا إنسان طيب، وهذا يُحِبك. إذا نصحت له بهذه الطريقة، أنت تُصبِح أيضاً أحد المُتآمرين، وأحد المُضطهِدين له، وأحد الحسدة، وأحد أعدائه. وتدخل في ورطة جديدة.

الشخصية الاضطهادية أيضاً شخصية مُتعِبة جداً جداً يا إخواني!

هذه أربع شخصيات، ليتفقه أبناؤنا وبناتنا بصددها. وطبعاً لا أنسى ما ذكرته في خُطبة الإباحية، من تأثير إدمان الإباحيات على مواقفنا العاطفية والمشاعرية، وتفككنا الأسري، وفشل زيجاتنا. الإباحية لها حظ كبير أيضاً في هذا الباب، كما أن لوسائل التواصل الاجتماعي أو السوشيال ميديا Social media حظ آخر أيضاً، وإن كان أقل من الإباحيات، لأن الشباب اليوم والشابات، وأحياناً الكهول والكهلات، وربما الشيوخ أيضاً، أي الذين هم فوق الخمسين سنة، بدأوا يعيشون أو يتكيَّفون للعيش في مُجتمَعات افتراضية. لم يعد يهمه المُجتمَع الواقعي الحقيقي، مُجتمَع الأهل والجيرة والقرابات لا يهمه، يهمه ماذا؟ جماعة الفيسبوك Facebook الخاصة به، جماعة الفيس! وعلى مدار الأربع والعشرين ساعة وفي كل أوقات الفراغ يفتح الفيس! ويضع صوراً لنفسه وهو “مطعوج”، وهو “مصحصح”، وهو نائم، وهو مُتعَب، وهو على الشاطئ، وهو فوق قنة الجبل، وهو ذاهب لكي ينام. يا أخي مَن أنت؟ يا أخي ماذا نُريد من كل هذا الهبل، ومن كل هذا السُخف؟

ولذلك في مُجتمَع مثل هذا، مُجتمَع افتراضي، غير تقليدي، وهو عالمي ومفتوح، وأيضاً مُخلخَل حتى الأُسس، مُفكَّك حتى العمد يا إخواني وحتى الأساطين الأساسية لبنائه، طبعاً ترى فتاة – ما شاء الله – تعمل لك في نفسها مشاكل عجيبة غريبة، وأشياء لا يُمكِن أن تفعلها بنت مُحترَمة، تحترم أهلها وسُمعتها وشرفها. فبعضهن تأتي وتُقبِّل زوجها، قُبلة مليئة بالشغف الجنسي المفضوح السافل، وتُصوِّر هذا، وتقول إنها تنزله لنا. أين نحن نعيش؟ في أي كوكب نحن؟ ما الذي يحصل هذا؟ ما الذي يحصل؟

وعلى فكرة أطمئنكم وأُقسِم بالله، هؤلاء ليسوا سعداء، ليسوا سعيدين. هؤلاء أشقياء، شخصيات شقية، وشخصيات جوف، مُهلهلَة ومُفكَّكة. لكن يُجرِّبون طرقاً جديدةً، لاستقطار السعادة. السعادة ليست هكذا! السعادة فلسفة حقيقية في الحياة، السعادة تواصل حقيقي مع الله – تبارك وتعالى -، تسليم الأمر له – لا إله إلا هو -، التضوء والتنور بخُطته الشرعية في فهم غاية الحياة، غاية الوجود، لِمَ وُجدنا؟ لِمَ نعيش؟ ما الذي نُريده؟ هذا الذي يُعطيك ثباتاً انفعالياً، وضوحاً في الغايات، وضوحاً في الأهداف، ونُضجاً في الشخصية.

أخيراً أقول لأخي وأقول لأختي، لابني ولابنتي، لكل هؤلاء الأحباب، الفضلاء والفضليات:

انتبهوا، الزوج الناجح قبل أن يكون زوجاً ناجحاً، أو مع كونه زوجاً ناجحاً، بالحتم وبالضرورة هو إنسانى ناجح. أكيد هو ناجح في عمله، في علمه، في اجتماعياته، في نشاطاته. ومن الصعب أن تكون ناجحاً نجاحاً حقيقياً، ثم تكون ماذا؟ زوجاً فاشلاً. إلا أن تُغلَب على أمرك، بسبب فشل الشخصية الأُخرى. وهذا موجود أيضاً، حتى لا نظلم الناس.

ولكن بالمُقابِل انتبه، إن كنتَ وإن كنتِ، زوجاً أو زوجةً، فاشلاً وفاشلةً، فهذا يُنذِر بأنك بشكل عام إنسان فاشل. أي في بعض الحالات أو في كثير من الحالات، وليس دائماً طبعاً، ليس دائماً – كما قلنا -. فانتبه، حرصك على أن تكون زوجاً وأن تكوني زوجةً ناجحةً، يدل على ماذا؟ يدل على نجاحك العام، نجاحك المُطلَق في الحياة.

ونسأل الله – تبارك وتعالى – أن يمنّ علينا بنعمة السعادة والاستقرار والحكمة البالغة، حتى نُدرِك فضل الله علينا في أنفسنا وفيما أولانا من نعمه وأفضاله وأسبغ علينا من آلائه ومننه.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً. اهدِنا واهدِ بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا. لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا أسيراً إلا أطلقته، ولا غائباً إلا رددته، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه، برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

 

فوائد إضافية حول الشخصيات المُعتلة والشخصيات السليمة

 

هل يُمكِن أن تجتمع هذه الأنماط الأربعة للشخصيات المُضطرِبة – أي الشخصية السيكوباثية، الهستيرية، النرجسية، والاضطهادية أو الــ Paranoid – في شخص واحد؟ لا، لا يُمكِن، لأن كل نمط من هذه الشخصيات له مُميِّزات مُحدَّدة ومُشخِّصات، وبعض هذه المُشخِّصات تتعارض مع المُشخِّصات الأُخرى، فكيف تجتمع؟ مُستحيل! تستبعد، يصير هناك منطق استبعادي وليس استيعابياً. أي لا يُوجَد لدينا نمط جامع من اضطرابات الشخصية يستوعب كل هذه الأنماط الأربعة أبداً، أبداً! لأن هذه الأنماط الأربعة بطبيعتها في أكثر مُشخِّصاتها استبعادية بإزاء الأنماط الأُخرى، وليست استيعابية، هل هذا واضح؟

هذا جميل، لكن طبعاً بعض الناس – وخاصة غير المُتعلِّم، أو الذي ليس عنده الذائقة العلمية، الذي لم يتمرَّس بالتفكير العلمي والأدبيات والاطلاعات العلمية – يُمكِن أن يتشكك، ويقول لك ما الكلام هذا؟ اضطهادي وسيكوباثي وكذا! أين هذا؟ أين هذا في الكتاب والسُنة؟ بعض الناس الذين يغلب عليهم المنطق النصوصي، يُريد الواحد منهم كل شيء في نص يُثبِت له أن المسألة كذلك للأسف، والمنطق هذا طبعاً لا بد أن يُعالَج، وهو منطق بسيط وساذج جداً جداً.

في الحقيقة قطعاً هذه الأنماط من الشخصيات وهذه الشخصيات لا تزال موجودة عبر التاريخ، من أول يوم كان فيه ابن آدم موجوداً! أكيد قابيل هذا الذي قتل أخاه هابيل، أكيد يُعاني من اضطراب مُعيَّن، من شيء مُعيَّن في شخصيته، يُمكِن أن يُدرَس، أكيد! فمن يوم كان الإنسان وهذه الأنماط موجودة، ما فضل العلم الآن علينا وفضل هذه الدراسات العلمية الجميلة؟ أنها جعلت السبيل لتعرف هؤلاء وتحديد وتشخيص هؤلاء أسهل، ضمن ماذا؟ ضمن رُتب تنميطية تصنيفية مُعيَّنة. من السهل جداً معرفة هذا، وانظر أنت الآن فيها، أي كأنها تُعطي أسماء لظواهر مُركَّبة مُتفرِّعة ومُعقَّدة. أنت الآن لو أردت أن تصف الطاولة بغير اسمها، ستأخذ زمناً. وهكذا العلم أيضاً، أي العلم يُعطيك هذه الفُرصة، أن تُجرِّد. أنت جرَّدت أشياء كثيرة، ووضعت الجوهر تحت اسم واحد، اسمه ماذا؟ الشخصية السيكوباثية – مثلا -. ففهمنا! جميل جداً هذا، فهذا يُعطيك قدرة على مُقارَبة ماذا؟ الشخصيات في العالم الواقعي.

ولكن طبعاً أيضاً في هذا الإطار لا بد أن أُشير وأن ألفت وأن أُنبِّه، إلى أن من الخطير جداً استخدام المعلومات المجزوءة، والقراءات الفطيرة – أي غير الناضجة، الجهيضة، القراءات الفطيرة الجهضية غير الناضجة، مثل قراءات النت Net، وسماع بعض المُحاضَرات وبعض المقاطع وما إلى ذلك – للحُكم على الناس. أي إياك أن تذهب لكي تلعب دور عالم نفسي ودور طبيب نفسي، فتبدأ تُصنِّف في الناس، فتقول والله هذا يبدو وكأنه Schizophrenic، والله هذا يبدو وكأنه Psychopath، والله هذا يبدو وكأن شخصيته هستيرية. إياك! هذا طبعاً فيه ظلم، وفيه تجنٍ، وفيه تورط كبير، وعدوان، وتنمر على الآخرين بصراحة أيضاً، هناك تنمر! لا، نحن نتكلَّم عن مساعٍ مُحترَمة وجادة، ولا تقصد إلى الانتقام ولا إلى التنمر، إنما تقصد إلى ماذا؟ إحراز النفس. أنا بنت – مثلاً – أو أنا شاب، وأُريد أن أرتبط، فنعم طبعاً لا بد وأن أتثقف وأفهم تماماً مسائل مُعيَّنة، بحيث أكون قادراً على أن أُقارِب الشخصية التي أمامي بنوع من المُقارَبة العلمية المُحترَمة، فلا أكون ضحية له، لا أكون مخدوعاً فيه، أليس كذلك؟ وأحياناً فعلاً القراءات والدورات التي تمتد لأسبوعين أو لثلاثة أو لشهر، تُعطيك هذا المفتاح، صحيح! فتقول يغلب على ظني، بنسبة ثمانين في المائة، أن هذه الشخصية مُضطرِبة. هذا بنسبة ثمانين في المائة، فأنا لست طبيباً نفسياً، فلا أقدر على التصنيف، لكن واضح أنه كذلك.

فالشخصية النرجسية، مَن الذي يُخطئها؟ النرجسي المسكين لا يستطيع أن يُمثِّل، فمُشكِلة النرجسي أنه يُمارِس نرجسيته علاناً جهاراً عياناً بياناً. أنا وفقط! انظر إلى قعدته، وقفته، كيف يتكلَّم، كيف يُعبِّر، كيف يضحك، كيف يتعامل مع الآخرين، كيف يُعلِّق على الآخرين، وكيف يُعلِّق على اجتهادات الآخرين، شيء مُقرِف، شيء غير طبيعي! كما قلنا الله خلق نُسخة واحدة منه، المصنع الرباني أخرج نُسخة واحدة فقط، ثم أغلق أبوابه، فلا يُوجَد غيره، لا إله إلا الله! كأنه يقول لك لا إله إلا أنا ولا شريك لي، أنا لا يُوجَد مني اثنان. ما هذا؟ فهو شخصية مفضوحة، فقط يلزمك ماذا؟ أن تفهم شيئاً معقولاً عن النرجسية، ما هي النرجسية، وسمات الشخصية النرجسية، ومُشخِّصاتها، لكي تكتشف أن هذا نرجسي، شخصيته نرجسية. فأنت عرفت وانتهى الأمر.

النرجسي سأشقى معه، ذكراً كان أو أُنثى، ذكراً كان أو أُنثى! لأنه شخص يفشل أن يُحِب – كما قلت -، لا تُوجَد مساحة في قلبه وفي حياته للحُب. يطلب أن يُحَب، يُريد من كل الناس أن تُسبِّح بحمده باستمرار، تمدحه باستمرار، تُعلي من شأنه باستمرار، تقول واو Wow. أي دائماً “واو Wow هو”؛ أي واو Wow عليك، على شكلك، على منظرك، على طولك، على لباسك، على ذوقك، على كلامك، على فصاحتك، على صوتك الحلو، على شعرك، على تسريحتك، على نظارتك، على الموتوسيكل Motocycle الخاص بك، على الدراجة (البسكليت) Bicycle، وعلى فيلتك. شيء يُجنن يا أخي، شيء غير طبيعي، شخصية مُتعِبة، مُتعِبة جداً جداً جداً هذه الشخصية النرجسية.

فعلى كل حال إذن لا، الجواب باختصار لا، لا يُمكِن أن تجتمع هذه الأنماط الأربعة في نمط شخصية واحد. يُمكِن أن تتداخل مع نمط من هذه الأنماط بعض المُشخِّصات الأُخرى، هذا مُمكِن، مُمكِن! أي مُمكِن أن تكون الشخصية في جوهرها نرجسية، وتُعاني من بعض الاضطهادية، فهو يرى أن الناس يكرهونه وأن الناس يتآمرون عليه وأن الناس يحسدونه وأنهم كذا وكذا، وبعد ذلك يبدأ قليلاً في أن يأخذ مواقف اضطهادية، مُمكِن! ولكن هذا لا يُحيله إلى شخصية اضطهادية، يبقى شخصية في الجوهر نرجسية، مع مسحة اضطهادية، مُمكِن! فهذا يحصل.

أخيراً؛ هذا سؤال أخير عن الشخصيات الجيدة إزاء الشخصيات المُضطرِبة، نقول لا، الشخصيات الجيدة كثيرة. نحن ذكرنا أربعة أنماط للشخصية المُضطرِبة، أما الشخصيات الجيدة فكثيرة، لكن في رأسها الشخصية الانبساطية. كما قلنا الشخص الانبساطي شخص اجتماعي، بسيط، يُحسِن الدعابة، يُحسِن المُمازَحة، يُحسِن الضحك من قلبه، يُحِب التواصل مع الناس، يعترف للآخرين بمزاياهم، لا يحسدهم، لا يحقد عليهم، بعيد جداً جداً جداً من الشرية والضر، لا يُحِب أن يضر أحداً، حتى مَن ضره، أبداً! مُتسامِح، كريم، مُغضٍ، عفو. هذا الشخص الانبساطي، شيء عجيب! لأنه شخص سعيد وراضٍ.

وعلى فكرة ينبغي أن تحذر من أي شخص ترى عنده مرارة أو استبدادية أو تسلطية أو تنمرية أو انفجارية أو عدم ثبات انفعالي، تجده قاعداً وأنت تضحك معه، وفجأة يصرخ، ويقول لا، لا أسمح، اسمح لي بكذا، التزم حدك. وأنت طبعاً تقول ما الذي حصل؟ Explosion، انفجر فجأة، ما له هذا؟ هذا يُعاني. الشخص الذي يكون على هذا النحو هو شخص يُعاني. الشخص الانبساطي الذي لا يُعاني حتى ولو تجاوزت في حقه وغلطت فيه وتنقصت من قدره، يستوعبك، ويضحك، وما إلى ذلك. ويُمكِن أن يُعطيك إشارة بسيطة هكذا، ولكن بتهذيب. وأنت كنت حريصاً على كسر خاطره، وإظهار تنمرك عليه، وهو لا يُحِب أن يكسر خاطرك ولا أن يجرحك، هل تعرف لماذا؟ لأنه شخص راضٍ، يعيش في سعادة بلورية، عنده القلب مثل الألماس، مثل الكريستال، وهو حريص جداً على أن يتعاهد هذا القلب دائماً بالتنظيف، يُريد منه أن يبقى شفّافاً وجميلاً. ولن يسمح لك أن تُشوِّش عليه سعادته ورضاه، فما رأيك؟ حتى وإن كنت أنت مُشوَّشاً! إذا هو عداك، فأنت سعيد، لكن من الصعب أن تعديه. هذه أحلى شخصية! اللهم اجعلنا انبساطيين بهذه الطريقة.

هناك الشخصية الانطوائية، شخصية جيدة في العموم، قد تقول لي كيف؟ طبعاً! الشخص الانطوائي شخص طهور، وأنا أُحدِّثك عن علم النفس، فهذا ليس من عندي، هذا مُلخَّص دراسات، هكذا! شخص طهور، شريف، أمين، صدوق، عنده التزام – Commitment -، يلتزم! يلتزم بالأسرة، بالصداقة، بالآباء، بالعمل، بأستاذه، بشيخه، بجاره. التزام! لا يضيع المسئولية. إنسان خجول، يُعطي كل ذي حق حقه، يستحي جداً ويخجل من أن يُقصِّر في الحقوق. لو أنت عملت له معروفاً بسيطاً، لا بد وأن يشكرك، يُظهِر الامتنان وما إلى ذلك. هذا موجود، موجود! فما عيبه؟

عيبه أنه إنزوائي، انعزالي، يخجل من الآخرين، لا يقدر على أن يُعبِّر عن شخصيته وعن مواقفه إزاء الآخرين، لا يقدر على أن يُعبِّر عن حُبه، وعلى فكرة هو عنده قدرة غير عادية على الحُب، أي الانطوائي. يُحِب فعلاً، يُحِب هذا المسكين من قلبه ويُضحي، ولكنه لا يقدر على أن يُعبِّر.

الآن هل هناك إمكانية لعلاج هذا الخطأ البسيط؟ وما مدى المصاعب مع شخصية انطوائية؟ قليل جداً. مدى المصاعب مع شخصية انطوائية قليل جداً، فهذا ليس شيئاً كبيراً، أبداً أبداً أبداً أبداً! سوف تجد مصاعب، لكن يُمكِن التكيف معها. وكما قلت في الخُطبة التكيف تفهم، إعذار، احترام، تقبل، وتعود. هل هذا جيد؟ إذا تكيفت معه بهذه المعاني وهذه المعايير النفسية، فما الذي سوف يحدث؟ بعد فترة على فكرة سوف يحدث الآتي.

مَن أقوى: الشخصية الانبساطية أو الانطوائية؟ الانبساطية. مَن أنجح؟ الانبساطية. مَن أكثر راحة؟ الانبساطية. الانطوائي المسكين يتعب قليلاً مع نفسه، ولكنه لا يتعب غيره كثيراً، يتعب حاله أكثر هذا المسكين. مَن الذي سيُعدى؟ الأضعف يُعدى من الأقوى. فإذا كان الزوج انطوائي والزوجة انبساطية، أو العكس، فإن شاء الله بعد فترة – بعد سنة أو سنتين أو ثلاث، فهذا بحسب الجهود المبذولة، وبحسب ما تكون مُتقَنة ودقيقة – يُصبِح أقل انطوائية. كما قلت في الخُطبة أقل انطوائية، أقل عُزلة، يبدأ في أن يُشارِك الآخرين، فالانطوائية ليس شخصية سيئة، بالعكس! شخصية جيدة في الجُملة، وعندها الملمح هذا.

أخيراً حتى لا نُطوِّل، لأن الشخصيات كثيرة، هناك الشخصية القهرية. أنتم تسمعون عن الشخصية القهرية، قريبة جداً من الانطوائية، من الجانب الإيجابي. الشخص القهري شريف، طهور، صادق، مُلتزِم، وفي، ومُخلِص. مثل الانطوائي تماماً، كل هذه الصفات مُشترَكة بين الشخص الانطوائي والشخص القهري، لكن الانطوائي قلنا ما الجانب السلبي فيه، أو ما الجانب المُشخِّص له؟ هو هذا. القهري ما الجانب الذي عنده؟ العناد، الإصرار، عدم المرونة، لا يتغيَّر بسهولة، لا يقتنع بسهولة، مُنضبِط جداً إلى حد مُتعِب، في مواعيده في برامجه، في أكله، في شربه، في نومه، في طريقة لباسه، لا بد من كي الملابس والاعتناء بالحذاء وما إلى ذلك، شيء مُتعِب! في النظافة مُتعِب كثيراً، أعانكَ الله إذا كانت زوجتك قهرية، وأعانكِ الله إذا كان زوجكِ قهرياً. يرفع كل سجادة وينظر تحتها. حين يرى حبة تراب، يُجن! السجادة كيف تكون هكذا؟  هذه اللوحة ليست مُعتدِلة، يجب أن تُحرَّك مسافة ربع سم إلى اليمين. لا بد وأن تكون مستوية بنسبة مائة في المائة، لو فيها ربع سم من الانحراف، ينزعج. أوف! سوف تقول لي ما الشخصية هذه؟ قهرية. هي هكذا هذه الشخصية المسكينة، هذه الشخصية القهرية، وهذه ملامح العيب التي فيها! حُب الانضباط، حُب الدقة، لا بد من الــ Perfectionism، صاحبها يُريد أن يكون كل شيء مُعتدِلاً بنسبة مائة في المائة، تخيَّل! وليس مرناً، “مخه كاسح” كما يقول إخواننا الليبيون، “مخه كاسح” وصعب الإقناع. لكن إذا أقنعته، لا يحيد عن رأيه الجديد. إذا نجحت في أن تُقنِعه، انتهى الأمر، يسير مثل القطار، يعمد إلى غايته الجديدة مثل القطار، بلا حيد؛ لأن عنده التزام – كما قلت -.

إذن المُعاناة مع الشخصية القهرية ليست كبيرة جداً، لا! مقبولة، مُمكِن أن نتكيَّف معها، ما رأيها؟ مُمكِن أن نتكيَّف مع الشخصية القهرية. ومُمكِن بالاستيعاب من شخصية انبساطية، شخصية مُتفهِّمة حكيمة، أن نُخفِّف من قهرية ماذا؟ هذا القهري. هل هذا واضح؟ فتبقى الشخصية القهرية نبيلة، فانتبهوا إذن! هذه ليست شخصية حقيرة ولا سيئة أبداً، أبداً! هذه الشخصية جيدة، مثل الشخصية الانطوائية. لكن أحسنها الشخصية ماذا؟ الانبساطية.

والآن اعذروني على الإطالة.

 

(انتهى التعقيب بحمد الله)

فيينا 13/9/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: