إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الحق – سُبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ۩ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ۩ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ۩ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالا وَسَعِيرًا ۩ إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ۩ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ۩ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ۩ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ۩ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا ۩ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ۩ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ۩ وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

صحيحٌ أن من أُسس التربية الروحية كما الاجتماعية الصحيحة أن نُعلِّم أولادنا كما نُدرِّب أنفسنا على أن نبذل الخير والندى دون أن ننتظر شكراً من أحد، إلا من المولى سُبحانه وتعالى، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا ۩.

ولنلفت النظر هنا أن هؤلاء السادة الذين راضوا أنفسهم على الإخلاص والتجرد للمولى – سُبحانه وتعالى – ظاهرٌ أنهم لم يقولوا ولا يقولون هذه العبارة مُكافَحةً لمَن يُحسِنون إليه، لأن هذا يجرح مشاعر المُحسَن إليه، بالحري هم لا يقولون لهم إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا ۩، لم يقولوا هذا! إنما يقولون هذا في أنفسهم، يفعلون هذا ويُخاطِبون أنفسهم في مثل هذا المشهد التخيلي، وهذا أيضاً من علائم الإخلاص ومن مُتمماته، من شارات الإخلاص ومن مُتمماته!

بمقدار ما هذه الحقيقة صحيحة مُقرَّرة صحيحٌ أيضاً أنه لا يصح البتة ولا بأي وجه من الوجوه أن نشتق منها نتيجةً فضلاً عن أن نجعلها حقيقةً وقاعدةً تُقرَّر تقول إذن لابد أن نُساير هؤلاء المُخلِصين فيما هم بصدده وبسبيله من رياضة أنفسهم على الصدق والإخلاص والتشحر لله سُبحانه وتعالى، فلا نُسمِعهم كلمة شكر، هذا كنود!

بعض الناس يُمكِن أن يشتق دليلاً وبرهاناً لحالة الكنود التي طالت منها شكاة الناس في كل زمان، التي طالت واستطالت منها شكاة البشر، شكاة المُنعِمين، شكاة الأجواد والمُحسِنين! مِن هؤلاء الذين ترسَّخ هذا الكنود في طبعهم، وإذا كان الإنسان لربه كنوداً فكيف لا يكون كنوداً إزاء البشر وإزاء أنعام البشر؟

فيما يُروى في أدبيات النصارى أن روح الله عيسى – صلى الله تعالى عليه وآله وأصحابه وسلم – قد شفى بإذن الله – تبارك وتعالى – في يوم واحد عشرة من الناس، ويستتلي الرواي يقول ولكن واحداً منهم فحسب هو الذي عاد وتقدَّم إليه بكلمة امتنان، التسعة لم يلووا على شيئ، عادوا بأبصارهم ولم يلووا على شيئ، عجيب طبع هذا الإنسان، وهو مع الله – سُبحانه وتعالى – أعجب، إننا لا نكاد نقوم بشكر نعمة واحدة من نعم الله تبارك وتعالى، ولعل بعض الناس لا يخطر منه على بال أنه كنود وأنه كفور للنعمة وكفور بالمُنعِم سُبحانه وتعالى، حتى يبدأ في تصحيح نفسه ومُراجَعة أوضاعه وحساباته، هذا طبع مُتأصِّل في البشر.

على كلٍ قد يسبق إلى ذهنكم أنني أُريد أن أُحدِّثكم اليوم عن شكر الله سُبحانه وتعالى، وإنه لمن أشرف الموضوعات على الإطلاق، والشكر مرتبة عالية، وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ۩، لا ينالها ولا يعظم حظ إلا مَن عظَّم الله حظه وقسمه منها، اللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين المُعترِفين بنعمك والقائمين بحقها، اللهم آمين، لكن أُريد أن أتحدَّث عن نوع آخر من الشكر، إنه شكر بعضنا البعض، إنه شكر الناس.

وقد يُسارِع أحدكم إلى القول ولو في نفسه واضح وبدهي أن مَن يكفر ربه لابد أن يكفر نعمة الناس، وهذا صحيح، ولكن أيضاً صحيح ومُقرَّر وبدهي أن مَن يكفر نعمة الناس يكفر نعمة الله، الفضائل لا تتجزأ، الإنسان لا يعيش بالمُفرَّق، الإنسان لا يعيش بالصفقات، هو صفقة واحدة، مِزاج واحد، كيفية نفسانية واحدة مُتحِدة ومُلتئمة، مهما تمثَّل ومهما حاول أن يلعب أدواراً أُخرى، المُتخلِّق إلى أربعين ثم يعود إلى خلقه كما في الخبر وقيل هو أثر، المُتخلِّق إلى أربعين، لا يستطيع أن يتعدى أربعين يوماً، يعود في حافرته، يعود! 

ومهما تكنْ عند امرئٍ من خليقةٍ                  وإن خالها تَخفي على الناس تُعلَم.

مُباشَرةً! 

ثوبُ الرياء يشفُّ عما تحتهُ                                فإذا التحفت به فإنك عار.

الإنسان لا يستطيع أن يكون مُمثِّلاً بارعاً إلا ربما على الخشبة لساعة، لساعة إلا ربع أو لثلاث ساعات أو في عشرين حلقة، لكنه لا يستطيع أن يُؤدي دور مُمثِّل سنوات، فضلاً عن أن يُؤديه لعقود من الزمن، لا! يُعرَف مُباشَرةً.

ولذلك في الحديث الصحيح الذي خرَّجه الإمام أحمد – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – والإمام الترمذي وقال حسن صحيح وأبو داود وابن حبان والطبراني والبيهقي وكثيرون من رواة أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – مَن لا يشكرُ – انتبهوا، لم يقل مَن لا يشكرْ، ليست قضية إنشائية، ليست قضية شرطية، إنها قضية خبرية، فرق كبير مَن لا يشكرْ الناس ومَن لا يشكرُ الناس، النبي قال مَن لا يشكرُ – الناس لا يشكرُ الله، فالقضية خبرية.

ما معنى كونها خبريةً؟ ليست شرطية، مَن يشكرْ يشكرْ، لا! مَن يشكرُ يشكرُ، قضية خبرية تقريرية، النبي يتحدَّث عن حقيقة، حقيقة إنسانية، تعمل في الميدان النفسي، في الميدان السلوكي للإنسان، وفي ميدان المُجتمَع وعلائق الناس أو علاقات الناس بعضهم ببعض، إنها قضية تقريرية، ليست قضية إنشائية أو تشريطية، مَن لا يشكرُ الناس، كأنه يقول أعلنوا الإياس منه، أو أعلنوا منه الإياس، لنكن من السجّاعين، مَن لا يشكرُ الناس فأعلنوا منه الإياس، كما قال عبد الحميد الكاتب مَن لا يشكرُ الإنعام فهو أقرب إلى الأنعام، هذا ليس بشراً، الإنسان بطبعه لابد أن يُغالِب الكنود، أيضاً هذا بطبعه، هناك صوت في الضمير!

ولذلك وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۩، نفهمها أيضاً من زاوية ضيقة، صحيحة لكنها ليست الزاوية الوحيدة، ليست الزاوية الوحيدة لفهم هذه الآية الجليلة الكاشفة عن أمداء بعيدة من نفس الإنسان وتعقيداته وتلافيفه، وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۩، ليس من زاوية فقط أنه يتلقى الأجر، سيتلقى الأجر من لدن الله على هذا الشكر، لا! فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۩ بمعنى أنه يُساهِم في تثميرها، يُساهِم في إنضاجها، ويُساهِم في قرارها واستقرارها وشعورها بالطمأنينة والتصالح الذاتي.

لماذا حتى السارق فينا – والعياذ بالله – وحتى الخوّان الأثيم الذي يتغوَّل أموال الناس – يأخذها بطريق الدين وبطرق احتيالية أُخرى وفي ذمته وضميره أنه لا يُعيدها – لا ينام مرتاحاً، لا يمشي مرتاحاً، ولا يُصلي مرتاحاً؟ ويبقى دائماً يشعر بالمديونية، شيئ يقول له أنت سارق، أنت مدين لفلان، عليك أن تُعيد إليه دينه، ويبدأ يُبرِّر لنفسه! لكنه غني وأنا فقير، لكن ما أخذته قليل جداً جداً، لكن هو لا يُطالِب، ولو احتاجه لطالب به، ثم غبرت عليه سنون بعيدة جداً جداً، لعل الله يغفر، لعلها من الصغائر، مسكين الإنسان! لكن سيظل هذا الصوت الضميري الداخلي يُقرِّع صاحبه، كما قال الشاعر الظريف:

ومن الرزية – أي البلية، الرزايا هي البلايا والمصائب – أن شكري صامت        عما فعلت َوأن برّك ناطق.

وأرى الصنيعة منك ثم أُسِرها                                                         إني إذاً لندى الكريم لسارق.

سرّاق – قال – أنا، أشعر أنني لص، انتفعت منك بشيئ – ولو بدرهم، ولو بمعلومة، ولو بنصيحة، ولو بدمعة واسيتني بها – ثم لم أشكر، أنا سارق، أشعر أنني سارق، شيئ سخيف جداً جداً!

أحد الإخوة من أحبابنا ومِمَن انعقدت الوصلة بيننا وبينه عبر الــ Website كما يقولون اتصل بي من مدريد، لا أعرفه، أحببته في الله من صوته، وأحبني في الله، قال لي يا شيخ أنا أتحفَّظ خُطبك كما هي، كما أتحفَّظ القرآن، ثم أتلوها على الناس، فيقع الناس في الدهشة والحيرة والإعجاب الشديد، ولكن أنا محزون، قلت له طبيعي، قال أنا محزون، أشعر أنني مُمثِّل، أشعر أنني شيئ آخر، يُريد أن يقول سارق، فهدأت من روعه، وقلت له لا، لا عليك، هذا حتى في العلماء، مُعظَم العلماء الكبار الذين تراهم إنما يسرقون علوم غيرهم، يأخذون من الكُتب، أحياناً يُشيرون، وفي أحايين أُخرى لا يُشيرون، هذا بحسب أدب العالم، بحسب رسوخه في أدب العلم، ومن كرامة القول أن يُعزى إلى صاحبه، هذا من شرط الأمانة العلمية، وأنت – قلت له – تأخذ مني، تُشير أو لا تُشير هذه قضية أُخرى، أنت تأخذ مني كما يأخذون هم من غيري، لكن على المرء أن يُؤدِّب نفسه وأن يروضها على أن يعترف بالجميل لصاحبه.

هذا ليس تواضعاً، هذا تصالح مع النفس، تصالح مع الضمير، حتى لا يظل هذا الضمير يُقرِّع، حتى لا يظل يُشعِرني بالمديونية، المديونية الدائمة لفلان وعلان، لابد أن أشكر مَن أسدى إلىّ نعمة، أياً كانت هذه النعمة، مهما دقت، فضلاً عن أن تكون من تلك النعم التي جلت، أيادي لم تمنن وإن هي جلّت كما قال الشاعر، أيادي لم تمنن – لم يمنوا بها – وإن هي جلّت، شكر الله لأمثال أصحاب الصنائع العظيمة على أنهم لا يمنّون ولا يُفسِدون المعروف بأذى المن.

على كلٍ إذن وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۩، هذا لك، ستتصالح مع نفسك، ستشعر بأنك إنسان طبيعي، لست سارقاً، ولست مُبهَظاً بشعور المديونية الدائم إزاء الناس أبداً، أديت بعض ما عليك!

يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي خرَّجه أبو داود في سُننه من حديث جابر بن عبد الله الأنصاريين – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما -، يقول مَن أُبليَ – بالبناء للمجهول – بلاءً حسناً فذكره فقد شكره، فإن هو كتمه فقد كفره، النبي يقول ارض لنفسك إذن هذا العنوان، الكفور! 

قال بعض الفصحاء أو أحد الفصحاء الكريم شكور أو مشكور، واللئيم كفور أو مكفور، ولنعم ما قال! الكريم شكور، ما معنى شكور؟ يشكر النعم، يشكر الأيادي البيضاء التي أسداها غيره إليه، أو مشكور، يُسدي النعم لغيره، شكور أو مشكور، أي فاعل أو مفعول، واللئيم كفور أو مكفور، كفور بمعنى لا يشكر نعمة أُسديت إليه، لا يعترف بها!

إن في بعض الناس وهماً قاتلاً قبيحاً، يُشوِّه صفحة مسلكهم وأخلاقهم الظاهرة والباطنة، يظنون أن النعم التي يتفضَّل بعض الناس بإسدائها إليهم، يظنونها حقاً لازماً وواجباً حتماً، حقاً لازماً لهم وواجباً حتماً على غيرهم، فأنت إن فعلت هذا لم تفعل شيئاً، أنت أعطيتني وتفضَّلت ببعض – حتى لم تتفضَّل ببعض، أنت تقدَّمت ببعض – ما يجب لي عليك، لماذا؟ لست أباك ولست أمك، أبداً! يظن هكذا، ولذلك لا يكاد أمثال هؤلاء يستشعرون نعمة مَن يُسدي إليهم.

قلت مرةً في هذا المقام ترى من بعض الناس – هذا شيئ عجب – أنه إن جاء – مثلاً – ليستمع إلى مثل هذه الخُطبة يُريد أن يُشعِرك – أنت الخطيب مثلاً – بأنه يتفضَّل عليك، عجيب! مَن يتفضَّل على مَن؟ هو جاء ليستمع إليك! طبعاً لو كان من ورائي انتخابات وأُريد أصواتكم لكان من المُمكِن أن تقولوا هذا النفع مُتبادَل، أنت تنفعنا بعلمك أو بما أُوتيت من علم قليل، ونحن ننفعك بأصواتنا وعديدنا، غير صحيح! انتبه تماماً، كُن واعياً بالوضع كما هو أبداً، يُشعِرك بهذا ويقول لك أنا غضبت من هذ الخطيب ولن أستمع إليه، هو يُعاقِبني، عجيب! هو يُعاقِب نفسه، هذا الرجل عجيب.

إذن هذا الرجل – النبي يقول – وضعه خطر جداً جداً مع الله تبارك وتعالى، مَن لا يشكرُ الناس لا يشكرُ الله، الكنود إزاء البشر، إزاء النعمة، وإزاء الأيادي، هو كنود بإزاء الرب، لا إله إلا هو! النبي يقول لا تشكون في هذا، لأنه أرسلها إرسال المُسلَّمات، النبي أرسل هذه القضية إرسال المُسلَّمات، هذه قضية خبرية – يقول – تكشف عن بعض الطبائع المُلتاثة، فنعوذ بالله أن نكون من هؤلاء المُلتاثين.

ونعود إذن، النبي يقول مَن أُبليَ، والإبلاء بمعنى الإنعام، ولذلك نُسِب للمجهول، أي مَن أنعم عليه أخوه أو مَن أنعم عليه أحد من الناس بنعمة، مَن أُبليَ بلاءً حسناً فذكره فقد شكره، قال العلّامة الإمام الماوردي في أدب الدنيا والدين وقال علماؤنا من شروط النعمة أن يُذكَر صاحبها، لا تقل لي والله بعض الناس أسدى إلىّ كذا وكذا، مَن بعض الناس؟ فلان الفلاني، حتى وإن كان أصغر منك سناً أو أصغر منك قدراً أو علماً أو رُتبةً وحيثية اجتماعية قل يا أخي مَن هو، لأنك أخذت منه المنّة، أنت تقبَّلت النعمة، لماذا لا تذكرها؟ لماذا تكفرها؟ لا تقل لي تعلَّمنا من بعض الناس كذا وكذا، مِمَن تعلَّمت؟ هل تعلَّمت من الشافعي وأحمد والصادق؟ مِمَن تعلَّمت؟ اذكر الذي تعلَّمته منه، اذكر – النبي يقول – وإلا كنت كفوراً، هذه عُنجهية في النفس، كبر والعياذ بالله، لا يُريد أن يتواضع بذكر مديونية لمَن يراه أقل منه!

على كل حال حين قبلت نعمته لم يكن أقل منك، لأن اليد العُليا خيرٌ من اليد السُفلى، الذي أعطى وامتنّ هو أعلى، انتبه! حتى وإن كان أقل اجتماعياً وأقل في الرُتبة وأقل في الحسب والنسب، هو الآن من هذه الحيثية أعلى منك، وهكذا! الناس للناس، من بدو وحاضرة، بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم كما قال أبو الطيب، طيَّب الله ذكره، يجب أن تُدرِك هذا، أنت لست إلهاً ولست شيئاً مُستغنياً عن الخلق، أنت كائن اجتماعي، تحتاج إلى الناس ويحتاجونك، تُنعِم على الناس ويُنعِمون عليك، تأخذ وتُعطي.

شرط الإنسان السوي الصحيح نفسياً هو أنه يأخذ ويُعطي، ويعترف ويُحِب أيضاً أن يُعترَف له، صحيح هو لا يفعل هذا لطلب الشكر، فباعثه الأول – المُؤمِن المُخلِص باعثه الأول – ليس طلب الشكر من الناس، ولعله لا يُحِبه، لكن لست أكذبكم، حين يُشكَر فإنه يرضى، يشعر برضا، هذه طبيعة إنسانية، لا نقول هذا ضعف بشري حتى كما نقول دائماً، أعتقد أن هذه طبيعة إنسانية، قد يقول أحدكم يا أخي رب العالمين حتى يُريد الشكر، لا! لا تغلطوا، الله – تبارك وتعالى – لا يُريد الشكر لنفسه، يُريد الشكر لنا، من أجل أنه يُحِب تكميلنا، الله خلقنا – نحن الكائنات المُعجِزة المُسماة بالبشر، كائنات مُعجِزة أو إعجازية، نادرة، وفريدة – وهو يُحِب لنا أن نتكامل، أي Integrates، يُحِب لنا أن نتكامل، أن ننضج، أن نُصبِح كائنات راقية حقاً، وأن نستحق لقب الخليفة، الخليفة المُكرَّم في هذه الأرض!

ولذلك قال وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۩، انظروا إلى التعبير العجيب، لم يقل ولا يرضى من عباده الكفر وإن تشكروا يرضه منكم، لا! قال لَكُمْ ۩، هو يُحِب الشكر ويرضاه لنا، من أجلنا! من أجل أن نُصبِح مُتكامِلين، من أجل أن نُصبِح شخصيات راقية وشخصيات مُهذَّبة، بعض الناس يظن أنه حين يُظهِر الشكر والامتنان يُصبِح صغيراً، بالله الذي لا إله إلا هو أنت صغير إن لم تفعل.

في الخُطبة السابقة اقتبست الفيلسوف والأديب الإنجليزي توماس كارليل Thomas Carlyle صاحب البطولة حين قال – عبارة عظيمة جداً جداً وجميلة وجليلة وحلوة – ألا يشعر الرجل الكبير بالإجلال لنفسه وبالعظمة الداخلية حين يُظهِر تواضعه لمَن هو أعظم منه؟ يشعر! الإنسان الكريم يشعر بهذا، لماذا؟ أشعر بأنني لست مريضاً، لست مُعقَّداً، لست مُلتاثاً نفسياً، لست حسوداً، لست غيوراً، لست حقوداً، لست غشّاشاً، ولست مُزيِّفاً، أنا إنسان واضح، الله امتاز علىّ بمزايا، وهبني خصائص وأعطاني عطايا، لكن يبدو أنه أعطى فلاناً أكثر مني في الباب الفلاني، فلأعترف بهذا، سأعترف بهذا، سأشعر بالتصالح أيضاً، وسأهرب أيضاً من الشعور المُبهِظ بالمديونية، الآن لست مديناً، اعترفت! هو أفضل مني في هذه الناحية، سأعترف على رؤوس الملأ.

بعض الناس يعترف فيما بينك وبينه، يُوشوِش لك، وفي الناس يذمك، هذا سارق الأيادي، انتبه! هذا شخص يُعاني من شيئ نفساني، المسكين يحتاج إلى علاج، مسكين! ماذا نعمل له؟ ليس طبيعياً، الله لا يرضى هذه الحالة.

الأب الذي يحتاز ثلاثمائة أو أربعمائة أو نصف مليون يورو قد يشتري لابنه لُعبة – سيارة هكذا مثلاً أو مُسدَّساً – بخمسين سنتاً أو بسنتين، يُعطيها لابنه وطبعاً هذا لا يضره أبداً، سواء أعطاه أو منعه هذا لا يُمثِّل شيئاً له، أي للأب، ولكن الأب يشعر بامتعاض وبشعور قلق إزاء وضع ابنه الذي لم يشعر بدافع يحفزه إلى أن يأتي فيُقبِّل وجنة أبيه أو يده ويقول له شكراً بابا، بارك الله فيك، جزاك الله خيراً، أنا فرح بهذه الهدية، شكراً لك على هذه السيارة، لماذا؟ هل الأب يحتاج فعلاً هذا الشكر؟ هل يتكامل به؟ هل يسد فيه شيئاً؟ لا، لكن قلق الأب مُبرَّر تماماً من البداية وحتى النهاية، لماذا؟ نفهم هذا إذا فهمنا شعور الأب المُطمئن المُرتاح حين يشكر ابنه، لماذا؟ سنفهم إذن الأولى، لأنه يشعر بالطمأنينة على مُستقبَل ابنه، يشعر فعلاً أن ابنه هذا سيكون شخصية ناجحة اجتماعياً، هذا الذكي اجتماعياً، سيعيش مُحترَماً بين الناس، سيُحِبه الناس ويُحِبه الناس، سيألف الناس ويألفه الناس، سيُوقِّر الناس ويُوقِّره الناس، انتبهوا! مُهِمة جداً جداً.

بعض الناس لا يستطيع حتى أن يُوقِّر الآخرين، أكثر ما ترى منه الأذية والعياذ بالله، تُحسِن مائة مرة فيسكت عنها، ربما يُثني عليك مرة، تُسيء مرة في وهمه فيأتي ويُريد أن يجعلها قُبة يهدمها على رأسك، هذا إنسان غير مُحترَم، ولا يعيش سعيداً، هو يعيش دائماً مُضطرِباً وفي نزاع وتشاكس – والله العظيم – مع نفسه قبل أن يكون في تشاكس مع الناس، أنا أقول لكم الذي ترونه مُشاكِساً دائماً للناس – يقع في هذا وفي هذا وفي هذا وفي هذا، ولا يُعجِبه لا هذا ولا ذاك ولا ذلك ولا تلك – اعلموا أنه غير راضٍ عن نفسه، اعلموا أنه يعيش معركة نفسية مُرهِقة جداً جداً وشرسة مع نفسه المسكين، فندعو له الله تبارك وتعالى، والذي يكون راضياً يظهر عليه الرضا، رضا عن ربه، رضا عن قدر الله، رضا عن إخوانه، ورضا عن الناس، سُبحان الله! حتى عن الخطّائين، ترون فيه صبغة مُحمَّدية مسيحية، ترون فيه صبغة إبراهيمية، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ ۩، لماذا؟ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ۩، قال لا، قال لماذا؟ لماذا يُدمَّر هؤلاء الناس الذين يرتكبون الفواحش والخبائث؟ قال لا، لنُمهِلهم قليلاً، يستحقون! الله أعجبه هذا الخُلق من إبراهيم، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ۩، عليه الصلاة والسلام، فنسأل الله أن يجعلنا إبراهيميين عِشريين، إبراهيم كان أبا الأضياف، يُحسِن مُعاشَرة الناس، لذلك كان أمةً وحده، يُمكِن أن يقوم في واجب الدعوة والهدي إلى الله والدلالة على البضاعة الربانية بدور لا تقوم به أمة كاملة، بمثل هذا الخُلق الراقي، وبمثل هذا الذكاء الروحاني والاجتماعي، إنه ذكي روحياً وذكي وناضج اجتماعياً.

نطمئن على أولادنا – أبنائنا وبناتنا – حين نرى أنهم اكتسبوا طبع الشكر وأصبح لهم سجيةً وطبعاً، أو اكتسبوا عادة الشكر بالأحرى – لنكن دقيقيين – فصار لهم سجيةً وطبعاً، أي الشكر، نشعر بالطمأنينة على مُستقبَلهم! وأنا أقول لك اشعر حقاً بالطمأنينة، والله العظيم لن تشعر بالطمأنينة إن أورثت ابنك مليون دولار، لا والله! والله قد يُبذِّرها ويُضيِّعها في أشهر معدودة من بعد موتك، وربما في حياتك، ثم يجلس ملوماً محسوراً ومخذولاً مدحوراً بين الناس، الكل يطرده ويدحره، أليس كذلك؟ لكن يُمكِن ألا تُورِّث ابنك إلا مثل هذه المفاهيم والسلوكات الراقية والأخلاق الفاضلة والشخصية الواعية الناضجة، وسوف ترى أنه من أنجح الناس.

حدَّثتكم مرة قبل زُهاء سنتين في خُطبة عن الذكاء العاطفي – أي الــ Emotional intelligence – عن أن مُعظَم خرّيجي هارفارد Harvard الناجحين في حياتهم تابعوهم بعد أربعين سنة لتخرّجهم، استمر هذا لأربعين سنة! تابعوهم وإذا بالنتيجة عجيبة ومُدهِشة، لكنها في الحقيقة ليست عجيبة، فهمنا هو العجيب والغريب، غير صحيح! النتيجة أن الذين نالوا الدرجات والنهايات العُظمى – إن جاز التعبير – في الامتحانات وتخرَّجوا أوائل لم يكونوا هم الأنجح اجتماعياً، لم يكونوا هم المُدراء الناجحين ولا الصحافيين الكبار ولا… ولا… ولا… أبداً، وإنما مَن؟ أُناس كانوا في المُتوسِّط، علاماتهم في المُتوسِّط، ونجاحهم في المُتوسِّط، فما السبب إذن؟ هؤلاء برهنوا أنهم الأنجح في الحياة العملية، وهم الذين قادوا المُجتمَع، كلاً في ميدانه، بسبب ماذا؟ ليست بسبب الــ IQ، أي ذكاء المعلومات والحفظ وقال فلان وقال علان وتحفظ الكُتب، هذا كلام فارغ، وإنما بسبب الذكاء الاجتماعي، الذكاء العاطفي، فهم الآخرين، التحسس للآخرين، مُراعاة الآخرين، مُحاوَلة تقمص دور الآخرين، المشي في أحذية الآخرين.

كل الأديان – كما قلت لكم – عندها عبارة مُشترَكة، لاوتسو Lao-Tzu، كونفوشيوس Confucius، موسى، عيسى، محمد – صلى الله عليه وسلم -، وكل حُكماء الدين – وهذا ليس مُبالَغةً – حُفِظ عنهم عبارة، كل هؤلاء حُفِظ عنهم عبارة – نفس العبارة – مُعيَّنة، حتى آخرهم الفيلسوف العظيم النقدي كانط Kant عنده نفس العبارة، كل هؤلاء أجمعوا على أن لُب الأخلاق وجوهر الأخلاق أن تأتي إلى الناس مثل ما تُحِب أن يأتوا إليك، فقط هذا هو! لا يُؤمِن أحدكم حتى يُحِب لأخيه ما يُحِب لنفسه، إذن هنا الإيمان لا يغدو قضية غيبية ميتافيزيقية ماورائية فلسفية واستدلالية، لا! الإيمان يغدو ماذا هنا؟ ذا بُعد اجتماعي تفاعلي، ذا بُعد تفاعلي – أي Interactional dimension – وعلائقي بيننا وبين الآخرين، هذا هو الإيمان! حتى يُحِب لأخيه ما يُحِب لنفسه.

حتى لا نُطوِّل بذكر مثل هذه المُقدِّمات والتمهيدات نعود إلى موضوعنا، إذن مَن أُبليَ بلاءً حسناً فذكره فقد شكره، فإن هو كتمه فقد كفره، روى الإمام أحمد في مُسنَده، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – إن أشكر الناس لله أشكرهم للناس، عجيب! أي أشكر الناس لله الذي نراه مُتلطِّفاً جداً ورقيقاً واجتماعياً ويُحسِن الشكر مع الناس، علماً بأن بقية الخُطبة سيكون موضوعها كيف نشكر وعلى ماذا نشكر، هذا هو الموضوع المُتبقي، فهل هذا سيكون أشكر الناس لله أيضاً؟ قال نعم، النبي قال هذا، هذا هو! كما قلنا لأن الشخصية كلها مُتحِدة والفضائل لا تتجزأ، هذا طبع ومِزاج، كما قلنا يُحِب أن يكون مُتصالِحاً مع نفسه، هذا هو فقط، لذا يعترف، هذا اعتراف، لأنه ليس مُزيِّفاً، ليس مُمثِّلاً، يحكي الحقائق كما هي، هذا فضل فلان وهذا فضل فلان وهذا فضل علان وهذا فضل رب العالمين قبل وبعد كل خلائق الله تبارك وتعالى، هذا إنسان عظيم وإنسان كريم.

يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – في حديث عبد الله بن عمر، يقول مَن استعاذ بالله فأعيذوه، ومَن سأل بالله فأعطوه، يقول إذن مَن استعاذ بالله، لو شخص استعاذ بالله – قال لك أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم من كذا وكذا – أعذه، أعذه لتُبرهِن أن الله لباه، فتكون هنا أتيت بفعل ذا طابع إلهي، مَن استعاذ بالله فأعيذوه، ومَن سأل بالله فأعطوه، ومَن دعاكم فأجيبوه، لو أخوك دعاك إلى مأدبة أو إلى زيارة قصيرة – أياً كانت – لبه، حتى وإن كان أقل منك.

مُحمد إقبال – رحمة الله عليه – دعته شخصية سياسية علمية كُبرى في بلده فلم يُلبها، فكأنه عتب عليه، لماذا يا أيها الدكتور الكبير؟ يا دكتور محمد إقبال لماذا؟ قال أنا قبلت دعوتك في كرامة أخي فلان الفقير، لأن فقيراً آخر دعاه فلبى دعوة الفقير، لكي لا يكسر بخاطره، الغني حين لا تُلبى دعوته لن ينكسر خاطره كثيراً، لكن الفقير يقول هذا حدث لأنني فقير!

مولانا بدر الدين الحسني – قدَّس الله سره إلى يوم الدين، علّامة الإسلام، شيخ الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري، الذي لم تر الأمة كما قال المُحدِّث العلّامة الكتاني مثله مُنذ أيام الحافظ ابن حجر، كان عجباً من العجب، قدَّس الله في سره، كان عجباً من العجب في العلم والولاية، وفي العلم والكرامة، شيئ عجب مُذهِل، قدَّس الله سره – يبعث إليه السُلطان عبد الحميد – رحمة الله عليه – بارجة – بارجة حربية وليست سفينة عادية – لكي تُقِله من الشاطئ السوري إلى بلاد تركيا – تحديداً إسطنبول – فيعتذر، يقول لا، ليس لدي فُسحة أن أُلبي دعوة السُلطان، ويذهب في نفس اليوم إلى قرية بعيدة في حنطور ليزور إمام مسجد مغموراً لا يعرفه أحد، يُصلي خلفه ربما خمسون أو ستون من الناس، زاره وقضى عنده نهاية الأسبوع، الله أكبر يا أخي! ما العظمة هذه؟ ما هذه الشخصيات العظيمة الماجدة؟ شخصيات عظيمة! 

بعض الناس يعرفك وتعرفه ويدّعي محبتك وأخوتك، أنا أقول لك اختبره في مجمع عام، مجمع فيه صحافيون ووزراء وما إلى ذلك، كأنه لا يعرفك، يُعطيك طرف أنامله، لأنك لست ذا حيثية كُبرى، عيب بعد ذلك أن تُلتقَط له صورة معك، انظروا إلى النفوس الصغيرة، النفوس المهينة، والنفوس الفارغة كما قال أفلاطون Plato في الجمهورية، النفوس التي تُريد أن تتكامل وتُكمِّل نفسها برتوش خارجية، وبزخارف فارغة مع فلان ومع علان، كله كلام فارغ!

في نهاية المطاف أنت أنت، أنت ما تكونه، أنت ما تملكه، أنت ما نسجته، هذا أنت، أنت نسيج وحدك، ماذا نسجت أنت في داخلك؟ أنت هذا، حين تتصوَّر مع رئيس الجمهورية لن تُصبِح صديقاً لرئيس الجمهورية، وفعلاً الناس يعرفون هذا، يعرفون أن الرئيس مُتواضِع وطيب وقبل أن يتصوَّر معك، الناس تفهم هذا، انتبه! ليسوا أغبياء الناس، لأنهم قد تُتاح لهم مثل هذه الفُرصة أيضاً، ويعرفون مَن هم، فلماذا هذا التمثيل والحياة الفارغة البطّالة هذه؟ لكي نعيش هكذا دائماً مُهشَّشين فارغين ومُجوَّفين، مَن سماهم ت. إس. إليوت T. S. Eliot الرجال الجوف، أي الــ Hollow Men، الرجال الجوف الفارغون، لا! المُؤمِن ليس فارغاً، المُؤمِن الكريم الخلوق رجل ملآن.

حتى لا نُطيل عليكم أُحِب أن أختم بنُقطتين، النُقطة الأولى على ماذا نشكر؟ والنُقطة الثانية كيف نشكر؟ هذا مُهِم جداً، القضية ليست واضحة، قد يقول أحدهمDankeschön، شكراً، شكراً جزيلاً، Dankeschön، انتهى الأمر، هذه هي، لا! هذا الشكر طقوسي، أنا أُميِّز بين نوعين من الشكر، بين الشكر الحقيقي والشكر الطقوسي، وكل ما هو طقوسي – أنا أضمن لكم – مُبتذَل ومُفرَغ من المعنى، هذا جوهر الطقوسية، ابتذال للشيئ، طبعاً! الصلاة حين تستحيل طقوساً تُبتذَل وتخلو من معناها، لا نغدو نتقدَّم بها خُطوة واحدة إلى الله تبارك وتعالى، ولا ترفع أخلاقنا ومُستوانا الروحي حتى درجة واحدة أو سنتيماً واحداً إن جاز التعبير، هذا هو، لأنها طقوس، هناك شكر طقوسي، هو هذا، تقول شكراً جزيلاً أو Dankeschön أو Thank you – هذا هو فقط – ثم تمشي، تقول بارك الله فيك أو جزاك الله خيراً ثم تمشي.

لم نُكمِل الحديث، عفواً! إذن ومَن دعاكم فأجيبوه، ومَن صنع إليكم – أو قال مَن اصطنع إليكم – معروفاً فكافئوه، من أخلاق المُؤمِن المُكافأة، يأخذ ويُعطي، اصطنع إلىّ وسأصطنع إليه، شكرني وسأشكره، لأنني إنسان، أليس كذلك؟ لا يُمكِن أن أكون إنساناً وأنا فقط دائماً أتلقى ولا أُعطي، أليس كذلك؟ لا يُمكِن أن أكون إنساناً وأنا آخذ ولا أهب، كيف هذا؟ ما الإنسانية هذه؟ ما الأنانية المقبوحة هذه؟ قال فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تُكافئونه فادعوا له وأبلغوا في الثناء عليه، حتى تظنوا أن قد كافأتموه، قال حتى تظنوا أن – أن هذه المصدرية أو المُفسِّرة، هذه أن مصدرية أو مُفسِّرة – قد كافأتموه.

ولذلك في حديث الترمذي عن أنس يقول أنس – رضيَ الله تعالى عنهما – لما هاجرنا إلى المدينة المُنوَّرة – على مُنوِّرها ألف مليون تحية وسلام – أتى المُهاجِرون رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – وقالوا يا رسول الله ما وجدنا قوماً أبذل من كثير ولا أحسن مُواساةً من قليل – أي في قليل – من هؤلاء، يعنون مَن؟ الأنصار، الأنصار الذين أثنى عليهم مَن؟ رب العالمين، هل الله يُثني؟ نعم يُثني على عبده، هل سمعتم هذا؟ قرأتم القرآن وكله ثناء، مملوء وطافح بالثناء على عباد الله من أنبيائه وصُلحاء وعُرفاء عباده الذين يبذلون ماذا؟ الخير والإحسان، ويفعلون المعروف، لأن الله شكور حليم، يشكر الله! فإذا أحسن المرء أثنى الله عليه، ولذلك الله يُعطي ألقاباً لأنبيائه وللصُلحاء، مثل حليم، أواه، غفور، مُنيب، شكور، أليس كذلك؟ كريم، يُعطي ألقاباً! قال رؤوف رحيم عن رسول الله، يُعطي ألقاباً! رب العالمين يُوزِّع ألقاباً، انتبهوا! هذه ليست نياشين يُوزِّعها لواء أو فريق أو ركن أو عميد، لا! رب العالمين، لأنه شكور، يُثني، ولا يكتفي بالثناء أبداً، يضم – تبارك وتعالى – دائماً – وهذا معنى كونه شكوراً – إلى الثناء وحُسن الأحدوثة – ينشرها بين الناس بالوحي المعصوم المُؤبَّد – ماذا؟ المُكافأة والعمل.

في حديث البغي – أكرمكم الله، تعرفون هذا الحديث الصحيح – قال فشكر الله لها، فـــ… غفر لها، متى غفر لها؟ حين شكر لها، أراد الله أن يشكر صنيعها، لأنها سقت كلباً يلهث من العطش، لم يقل لها برافو Bravo، أنتِ مُمتازة، لا! غفر لها، غفر لها عقوداً من البغاء – والعياذ بالله – أو سنين عديدة في البغاء بسقياها كلباً، كيف لو سقت عبداً من عباد الله؟ كيف لو أحسنت إلى إنسان – بشر – مُؤمِن؟ 

في الحديث المُخرَّج في الصحيح – في البخاري وغيره – المُسلِم إذا أسدى إلى أخيه معروفاً يأتي هذا المُسدى إليه يوم القيامة في موقف كرب – في كربات القيامة – ويشفع فيه، ما رأيكم؟ لماذا تشفع في يا أخي؟ يقول لأنك أسديت إلىّ معروفاً، النبي قال سقاه شربة ماء، النبي ذكر السبب، سقاه مرةً شربة ماء، رآه وهو عرقان، خائر القوى – يلهث المسكين -، وتعبان، فتقدَّم إليه بشربة ماء، الله – تبارك وتعالى – سيُشفِّع مَن أُسديت إليه اليد في المُسدي، ولنعم الرجلان هما، الشافع والمُشفَّع فيه!

حتى لا أنسى قرأت قصة قبل حين بلغت مني مبلغاً بعيداً في التأثير، وهي قصة أجنبية – من أمريكا – عن غُلام يافع يمشي في الشوارع، يتجوَّل على قدميه، يبيع بعض الملابس المُستخدَمة من أجل أن يُساهِم في تسديد نفقات تعليمه، كان فقيراً مُملِقاً المسكين، علماً بأن هذا حدث في بنسيلفانيا، وذات يوم كان الجو حاراً جداً، وبلغ به العطش مبلغاً بعيداً، حتى خارت قواه واصفر وجهه وما عاد يستطيع أن يبل حلقه بريقه، جف ريقه في حلقه المسكين، فقرَّر أن يتسوَّل، يتكفَّف الطعام من أول منزل يُصادِفه، وفعلاً حين رأى أول منزل على الناصية طرق الباب، فخرجت فتاة لطيفة، مُهذَّبة، كسيرة الطرف، حيية، ومُؤدَّبة، يبدو أنها من تربية دينية، قالت نعم يا أخي، ماذا تُريد؟ فالرجل ناله الحياء، ركبه الحياء، ولم يستطيع أن يطلب شيئاً، ليس مُتعوِّداً أن يشحذ، لم يتعوَّد على الشحاذة، قال حسنٌ، لا أُريد إلا كوباً من الماء البارد من فضلك، ففهمت حين رأت الجهد، فتاة ذكية ذكاء عاطفياً، هذا اسمه الذكاء العاطفي، أرأيتم؟ فهمت من وجهه ومن الخجل أنه يُريد شيئاً ثانياً، فآتت له بكوب من الماء وبكوب آخر من الحليب الساخن، وأعطتهما له، فشكرها وشرب الكوبين على عجل، ثم لم يكن معه إلا عشرة بنسات وعمل كأنه يُريد أن يُخرِج ثمن الكوب، قال يا أختاه كم ثمن الكوب؟ قالت لا، كلا! هذا لا ينبغي، لقد علَّمتني أمي ألا أنتظر أجراً من أحد على الطيبة والمعروف، تربية دينية! قالت لا، أُمي علَّمتني هذا مُنذ نعومة أظفاري، افعل الخير – كما نقول – وارمه في البحر، لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا ۩، لا نُريد هذا، فقال شكر الله لكِ، ثم انطلق.

وكرَّت السنون، ولعلها بضعة عقود، كرت السنون، كبرت هذه الفتاة المسكينة، وكان حالها من ناحية مالية – كما يُقال – غير مُتيسِّر، كانت تعيش في عُسرة أو شبه عُسرة، ألم بها أو نزل بساحتها مرض عضال، برَّح بها حتى عجز كل أطباء قريتها الصغيرة في تلك الولاية عن مُعالَجتها، وارتأى بعضهم بعد ذلك أن يبعثوا بها إلى أعظم مُستشفى في الولاية على الإطلاق، وفيها أعظم قسم لأمراض النساء والولادة، وفعلاً نزلت المُستشفى وهي لا تدري – استسلمت للقدر – كيف ستُسدِّد الفاتورة – الــ Bill – بعد ذلك، أي فاتورة هذه المشفى الكبيرة الشهيرة، أرقى مُستشفى على الإطلاق! ولكن الله – تبارك وتعالى – يسَّر لها طبيباً كان رئيس قسم النساء والتوليد وكبير المُستشارين في المُستشفى، وهو واحد من أربعة أسَّسوا تلكم المشفى، مشفى جونز هوبكنز Johns Hopkins، هو أحد هؤلاء الذين أسَّسوها، في عام ألف وثمانمائة وتسع وخمسين ميلادية أُسِّست جونز هوبكنز Johns Hopkins، في تلك السنة أُسِّست وهذا كان أحد الأربعة وهو كبير المُستشارين، الله قذف في قلبه الرحمة بها والشفقة عليها ووفَّرها، فجعل يُعنى بها، أجرى لها كل الفحوصات، ثم دخل في معركة شرسة مع المرض اللعين، انتهت – بفضل الله – بإجراء عملية طويلة مُرهِقة، ساعده فيه جماعة من مُعاونيه الأطباء المهرة، وبفضل الله مع الأيام تحسَّنت حالتها، وبعد أيام قليلة ظهرت النتيجة المُبهِرة المُفرِحة، لقد نجحت العملية، وبدأت تنقه الفتاة أو المرأة وتتعافى، تتماثل للشفاء التام بفضل الله عز وجل، وجاء اليوم الذي ينبغي أن تُسرَّح فيه من المشفى وأن تدفع الفاتورة، أي الــ Bill! ولكنها كانت في حالة توتر شديدة جداً جداً، لماذا؟ لأنها لا تدري كم ستبلغ هذه الفاتورة! وبالحري هي مبلغ عظيم جداً جداً، لعلها ستبقى تعمل بيديها إلى أن تموت حتى تُسدِّد تلكم الفاتورة.

بقيت مُتوتِّرة المسكينة وفي حالة ترقب، إلى أن جاءتها إحدى المُمرِّضات بالفاتورة في ظرف هكذا على طبق – المظروف هي الفاتورة، وهي جاءتها بها في ظرف – فأخذتها بيدين مُرتعِشتين، وبخط أحمر مُباشَرةً انتقل ناظرها إلى أسفل الورقة، حيث خُط بالأحمر العبارة التالية: Paid in full with one glass of milk، قال With one glass، أي واحد فقط، ليس حتى With a glass، قال With one glass of milk، لقد دُفِعت بالتمام، سُدِّدت! Paid in full، أي سُدِّدت تماماً، أي هذه الفاتورة، بكأس من اللبن، فتأثَّرت! لم تكد تتذكَّر، ما معنى هذه العبارة؟ وبعد أقل من دقائق جاء الطبيب الفارع الطول، المُهذَّب المُحيا، والخلوق البروفيسور Professor أو الدكتور Doctor/ هاورد كيلي Howard Kelly، أحد المُؤسِّسين الأربعة – كما قلت – ورئيس قسم النساء والتوليد، قال لها سيدتي الكريمة والمرأة الرحيمة أتعرفين مَن أنا؟ قالت لا، قال أنا هاورد Howard الصبي الذي مننتِ عليه قبل كذا وكذا سنة بكوب من اللبن، كل ما قدَّمته أرجو أن أكون ساهمت به في تسديد ما علىّ من دين إزائك أيتها المرأة الرحيمة، الله أكبر! إذن هكذا يكون الشكر، ليس Thank you ومع السلامة ثم ينتهي الأمر، لا! والشكر أعم من الحمد باعتبار ماذا؟ باعتبار وسائل وطرق أدائه والتعبير عنه، لذلك يقول الشاعر العارف:

أَفَادَتكم النعمَاء منِّي ثلاثةً                          يدي ولساني والضميرَ المُحَجَّبَ.

يدي للطاعة – الشكر يكون بالطاعة -، ولساني بالثناء، والضميرَ المُحَجَّبَ بالتوقير والمحبة، هذا هو الشكر، الشكر يكون باللسان، ويكون بالقلب واستشعار النعمة والفضل للمُنعِم، ويكون بالفعل والسلوك، بالجوارح وبالأعضاء! كما فعل البروفيسور Professor/ هاورد كيلي Howard Kelly، طيَّب الله ذكره حقيقةً، شيئ عجيب جداً جداً ومُؤثِّر، نحتاج  أن نتعلَّم هذا.

للأسف أدركنا الوقت، على كل حال على ماذا نشكر؟ أنا أقول لكم لا ينبغي أن نبقى دائماً أسيري النظرية الحسية المادية، فنشكر فقط لمَن أعطانا شيئاً محسوساً، كمية من النقود، هدية نأكلها أو نلبسها أو نركبها، هذا جميل جداً – بلا شك هذا شيئ طيب – ولكن أيضاً هناك مُعنويات رمزية كبيرة، لعلها في أكثر الأحايين – والله – أهم من الماديات وأهم من مئات آلاف الدولارات، مثل ماذا؟ شخص حين سمع بمُصابك بكل انفعال صادق هملت عيناه، بكى من أجلك، من أجل أمك المُتوفاة أو من أجل ابنك المريض ودعا له، هذا معروف كبير جداً جداً جداً، عليك أن تشكره وأن تُجزِل له الشكر، هذا شيئ كبير جداً جداً، أنه يبكي، هذا إنسان عظيم، هذا ليس شيئاً سهلاً.

شخص أتاك من دون العالمين – وهو شخص كريم، ليس مهذاراً مذياعاً مكثاراً، لا! شخص كريم مُتعلِّم وله حيثية، جاءك وجلس معك بعد أن استأذن واستماحك الفُرصة – وأفضى إليك بمكنونه أو ببعض سره أو بثك بعض بثه وهمه، عليك أن تشكره أيضاً، ولا تُشعِره بالإبهاظ، أنه أخذ من وقتك، عليك أن تشكره، لأنه جعلك موضع ثقته، هذا يُعطيني شعوراً طيباً إزاء نفسي، أنني موضع ثقة الناس، هذا إنسان مُحترَم، إنسان مُحترَم هذا وله حيثية في المُجتمَع، حين يخصني أنا بذكر هذه المسألة الفاضحة أو المسألة الكارثة أو المسألة الكُبرى من دون الناس – من دون أخيه من أمه وأبيه – هذا يعني أنه أسدى إلىّ خدمة كبيرة، دعَّم ثقتي بنفسي، أليس كذلك؟ يجب أن أشكره أنا، لأنه ائتمنني على سره وبثني نجواه، أليس كذلك؟

ولكم أن تفكروا في عشرات بل مئات الأشياء على هذا الطراز، لأن الوقت أدركنا، كيف نشكر؟ هذه قضية لا تقل عن القضية الأولى أهميةً، كيف نشكر؟ انتبهوا! اتركوا الشكر الطقوسي، حتى جزاك الله خيراً ينطبق عليها هذا، قد يُقال لي النبي قال مَن صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء، لكن الحديث فيه غرابة كما قال الترمذي، هذا حديث أسامة، لكن فيه غرابة، ضعيف الحديث، لكن هو حُقَّ أن يكون ضعيفاً، لا! حين تقول لشخص جزاك الله خيراً لا تقل لي أبلغت له في الثناء، بمعنى أن هذا كافٍ، لا! ليس كافياً، الشكر يكون باللسان – كما قلنا – وبالأركان وبالقلب أيضاً وبالجنان، والحديث ضعيف بفضل الله عز وجل، ضعيف! لأن قد يُقال لي هل أنت أفهم من الرسول يا عدنان؟ هل تتفلسف علينا والنبي قال قل له جزاك الله خيراً وهذا يكفي؟ لا، الحديث فيه ضعف بحمد الله، لكن على كل حال هذه حتى لو كانت تكفي من حيث هي نحن نعلم أنها بالابتذال والطقوسية فُرِّغت من معناها، هذا الشكر طقوسي، نقول شكراً وشكراً ثم نمشي، على ماذا نقول شكراً؟

سأقول لكم ربما ثلاث نقاط فقط، النُقطة الأولى هي على الشكر أن يكون طابعه فردياً شخصياً، بمعنى أن تقول له أحمد لك، أشكر لك، أشكرك، أي أنت بالذات، لأنك – هكذا ينبغي أن تقول – فعلت كذا وكذا، أشكرك على كذا وكذا، أنا – بفضل الله – فعلت هذا وارتحت بسببه مُنذ سنوات بعيدة، الآن أقود سيارتي، لكن حين كنت أستقل الباصات Buses في أكثر المرات – والله وبفضل الله – لم أكن أنزل وأشعر بالمديونية حتى آتي إلى السوّاق وأقول له شكراً على القيادة الجيدة، وكنت أشعر بأنني أرتاح وأتصالح مع نفسي، ساق بنا وقاد قيادة جميلة جداً جداً حتى في المُنعرَجات، وأنا أُعجَب به، أي بالسائق، لذا أقول له شكراً على القيادة، فيبتسم هو ويتهلل، أقول يا ليتهم جميعاً يعملون هذا! لماذا لا يعملون هذا؟ إنه يتعب من أجلنا، حتى لو كان مُوظَّفاً، أليس كذلك؟ المُمرِّضة في المُستشفى يجب أن تشكرها جداً وأن تُهديها شيئاً، لأنها عُنيت بك أو بزوجك أو بابنتك، لماذا لا تفعل هذا؟ افعل هذا بشكل واضح، قل للمُمرِّضة أشكرك لأنك أحسنت بفعل كذا وكذا، قل لمَن زارك أشكرك لزيارتك إيانا بالأمس، لقد كان أولادي فرحين مسرورين بالزيارة، أنا شعرت بالبهجة في أولادي، أنتم سبب هذه البهجة، أشكركم.

انتبه، إذن لابد أن تكون ذا طابع شخصي فردي، أشكرك أنت، ليس شكراً هكذا عاماً، كذلك حين تأكل افعل هذا، وبالمُناسَبة هذه الخُطبة كلها الذي بعثني على إنشائها عزومة أو مأدبة دعاني إليها أخ كريم، وفرح جداً أنني لبيته، وأنا فرحت بدعوته، ووجدت أختنا – بارك الله فيها – أم أحمد قد تعبت جداً في تحضير مأدبة ملوكية والله العظيم، لماذا كل هذا؟ وأنا أُصلي المغرب قبل أن أزدرد قلت كيف سأشكرها؟ قلت الصيغة الدارجة الطقوسية – شكراً، بارك الله فيكم، أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة – لا تُجزي، لا! أصبحت مُبتذَلة وطقوسية، لابد أن أبدأ أشكرها وأُعبِّر فعلاً عن انفعالي مع ألوان الطعام، شكراً على الحساء – الــ Soup -، لقد كان طيباً، شكراً على كذا وكذا، أي أذكر لها ما صنعت وأشكرها على صنعه، وفعلت هذا ثم سألتها، فقالت أنا مُمتنة جداً لهذا، فقلت لها هل هذا أفضل؟ فقالت هذا أفضل مائة مرة من قول جزاك الله خيراً، فتعلَّمت شيئاً جديداً عبر هذه الفكرة مع نفسي، هذه كانت مُراوَضة ومُفاوَضة مع نفسي، يجب أن نكون واضحين وأن نُفصِّل، قل أشكرك على كذا وكذا وكذا، لأنه كذا وكذا، قل هذا بشكل واضح، لا تقل فقط هذا طعام مُمتاز يا بخيل، يا بخيل هل ممتز نفسه هو؟ لماذا تقول فقط هذا طعام مُمتاز؟ هل أنت تقول هذا وهي ستفهم وحدها؟ هل هي فيلسوفة؟ هل هي أرسطو Aristotle لكي تفهم قولك؟ هي تُريد شيئاً واضحاً شخصياً، هي التي ممتزت هذا الطعام، يجب أن تشكرها هي أمام زوجها الأهبل هذا الذي يأكل ثم يقول الحمد لله رب العالمين فقط.

علينا أيضاً أن نشكر أزواجنا، أنا أفعل هذا – بفضل الله – يومياً، وأقول لأولادي أن يفعلوه، لابد أن تشكر زوجك كل يوم على الطعام الطيب، والله العظيم! اشكرها على الليمونادة Lemonade الهنيئة، قل لها بارك الله فيكِ، سلَّم الله يديكِ، ما أجملها! ما أحسنها! ماذا سينقصك؟ وأنت سترتاح أكثر، هذه كانت النُقطة أو الناحية الثانية.

النُقطة أو الناحية الثالثة والأخيرة – وأختم بها – هي تأكيد الشكر وتكريسه، هل تعرفون كيف؟ زارني أحدهم فشكرته عند الباب، حين يعود إلى البيت – في اليوم التالي مثلاً – أبعث إليه برسالة عبر الــ Email أو أبعث له رسالة قصيرة SMS، ويُمكِن عبر التليفون Telephone أن أتصل به مرة أُخرى، أقول له فعلاً أود كرةً أُخرى أن أشكرك يا أخي، لقد كانت الزيارة لطيفة جداً جداً، تركت أثراً طيباً في العائلة كلها، أصبحنا اليوم نتحدَّث عنها، وهذا يحصل حقيقةً، إذن لماذا لا أُبلِغه بهذا؟ سأُبلِغه هذا مرة أُخرى، سيشعر هو بامتنان زائد، أليس كذلك؟ سيشعر بأنه مدين هو لشكرك هذا.

نسأل الله أن نكون من عباده الشاكرين لنعمائه، المُثنين بها عليه، وأن يجعلنا من الشاكرين لنعمه وأفضاله وأيادي عباده الكرماء، وأن يجعلنا من الكرماء المُكرَمين في الدنيا والآخرة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                               (الخُطبة الثانية) 

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، أيها الإخوة:

هذا وإن من أعظم نعم الله – تبارك وتعالى – علينا هذه النعمة التي عشناها أو كدنا – بإذن الله – نأتي على تمام التنعم بها، وهي إدراك شهر رمضان وصومه وقيامه بحمد الله تبارك وتعالى، قال – تبارك وتعالى – وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩.

فنرفع أكف الضراعة والدعاء إلى الملك العلّام الشكور الحليم الغفور الرحيم العفو سُبحانه وتعالى، نبتهل إليه بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا أن يجعلنا في هذه الساعة من هذا اليوم المُبارَك – يُوم الجُمعة، آخر جُمعة في هذا الرمضان المُبارَك – من المبرورين، اللهم لا تُخرِج رمضان هذا إلا بذنب مغفور وسعي مشكور وعمل مُتقبِّل مبرور.

اللهم اغفر لنا ما سلف وما بدر منا فيه يا رب العالمين، اللهم هب المُسيئن منا للمُحسِنين، وهب الطالحين للصالحين، وهب الفاسقين للمُتقين، وهب المُقصِّرين للجادين العاملين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم ونسألك أن تُعيد رمضان علينا أعواماً عديدة وسنين مديدة، وأن تجعلنا فيه أبداً ما أحييتنا وبلَّغتنا إياه من الفائزين الظافرين المبرورين المقبولين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم نسألك أن تُعتِق رقابنا من نار جهنم في هذه الليالي المُبارَكات، ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وقراباتنا وأزواجنا وذرارينا ومشايخنا وأساتيذنا وكل مَن له حق علينا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

لا تُؤاخِذنا بما فعل السُفهاء منا، بلِّغنا مما يُرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم لا تتوفنا إلا وقد رضيت عنا.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكرو الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(18/9/2009)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: