إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

حكمة الصيام دل عليها ما افتُتِح به السياق الكريم وما خُتِم به، إنها التقوى، في مبدأ السياق وفي آخر السياق التقوى، التقوى هي أن يتحاشى المُؤمِن غضب الله – تبارك وتعالى – بانتهاك حدود الله والعدوان على ما حرَّم الله، هذه حقيقة التقوى، فالتقوى ضدٌ من وعلى العدوان، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۩، كل ما هو عدوان إن على حقوق الله التي هي في نهاية المطاف حقوق الأمة أو حقوق المجموع أو حقوق الناس – حقوق الله هي حقوق الجماعة – أو حقوق الأفراد يُعتبَر ضداً من التقوى وعليها، والتقوى لا تكون إلا بمُحاشاة غضب الله – تبارك وتعالى – بالعدوان على ما نهى الله وحظر من العدوان عليه، نسأل الله أن يُحقِّقنا جميعاً بحقيقة التقوى.

ولذلك إخواني وأخواتي العبادات من عند آخرها تدور على تحقيق هذا المُهِم العظيم: التقوى، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، كل العبادات! ليس الصيام وحده وإنما كل العبادات، ولذلك إذا أراد المُسلِم أن يقف على معيارٍ أو ميزانٍ يُعيِّر ويزن به صحة عبادته وجوهرية عبادته – هل عبد الله كما أراد الله تبارك وتعالى وأمر أم لا؟ – فلينظر وقوفه عند حدود الله.

لا يسوغ إخواني وأخواتي للمُؤمِن أن يغتر – والغرور هو الجهل دائماً، حافظوا على هذا، الغرور هو الجهل، الغرور ليس الكبر والعُجب، هذا شيئ وهذا شيئ، الغرور في لُغة العرب وفي لُغة الشارع الحكيم هو الجهل – بأنه أتى من العبادات صورها ثم هو بعد ذلك يعدو على حقوق العباد مادياً أو معنوياً، هذا ليس مِمَن اتقى الله بعبادته، هذا ليس مِمَن أثمرت عبادته تقواه، إذن هو ما عبد الله.

والصيام ليس بدعاً من هذه العبادات ولا من هذه القاعدة، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما صح عنه مَن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، هذا في البخاري، في الصحيح! قال مَن لم يدع قول الزور – أي الكذب، الكذب في صغير الأمر وكبيره وخاصة إذا تعلَّق بحقوق العباد، كأن تُزوِّر وتأتفك وتكذب وتنقص وتزيد والعياذ بالله – والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، لماذا يدأب نفسه؟ لماذا يُتعِب نفسه المسكين هذا الذي يكذب على عباد الله ويأتفك عليهم ويُزوِّر عليهم والعياذ بالله تبارك وتعالى؟ ولذلك عند الإمام النسائي وعند ابن ماجه – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش، ليس له أجر الصوم!

الإمام الجليل أبو بكر بن العربي المالكي – رحمه الله تعالى – حين ذهب يشرح الحديث الأول – مَن لم يدع قول الزور – قال – رضوان الله عليه – مُقتضى الحديث أن ثواب الصوم لا يزن بإثم قول الزور والعمل به، الصوم مُرصَد له ثواب ما الله عز وجل يعلمه، بالذات ثواب صوم، وهنا أعظم الحمق، أعظم الحمق أن تُتاح للمُسلِم وللمُسلِمة فرصة لأن ينال ثواباً خارجاً عن مدى الحساب مُتجاوِزاً نطاق العد ولا يستغلها، قال إلا الصوم، قبل ذلك ماذا قال؟ قال كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال – تبارك وتعالى – إلا الصوم، في الحديث القدسي قال إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والكريم – تبارك وتعالى – إذا جزى إنما يجزي على قدره هو ولا يُقادر قدره، لا إله إلا هو! لا يُقادَر قدره، قال الصوم خارج عن هذه القاعدة، قاعدة مُضاعَفة الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة! والصحيح في قول أهل العلم – رحمة الله عليهم جميعاً ورحمنا الله وإياكم برحمته الواسعة – أنه لا حد للتضعيف، لا تستطيع أن تقول ينتهي التضعيف عند سبعمائة أو سبعة آلاف أو سبعين ألفاً أبداً، التضعيف لا نهاية له، لماذا؟ لأن لا نهاية لكرم الكريم، لا إله إلا هو، لا نهاية لجود الجواد، لا إله إلا هو، عز وجل! قال إلا الصوم، الصوم بالذات خارج عن هذه القاعدة، لا يعلم عِظم جزائه وضخامة ثوابه إلا الله تبارك وتعالى، سُبحان الله! مثل هذه العبادة يأتي هذا المسكين يُفسِدها بقول الزور، بالكذب على الناس، بالغيبة، بالنميمة، بالتحريش، وبالمُحرَّمات أياً كانت هذه المُحرَّمات.

انتبهوا يا إخواني واخواتي فإن جماعة من أسلافنا الصالحين – رضوان الله عليهم – من الصحابة والتابعين وأئمة الدين ذهبوا إلى أن المعاصي تُبطِل الصوم، صحيح ليس هو رأي الجماهير – رأي الجماهير أن المعاصي تنقص من ثواب الصوم ولا تُبطِله وهو الأرجح – لكن القضية خطيرة، من أسلافنا ومن بينهم صحابة وتابعون ذهبوا إلى أن المعاصي تُبطِل الصوم، وأخذوا بظاهر هذه الأحاديث، مثل مَن لم يدع قول الزور ومثل رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش، إلى آخر هذه الأحاديث التي تعرفونها جميعاً وتتحفظونها.

حفصة بنت سيرين رُويَ عنها هذا، إبراهيم النخعي – إمام أهل الكوفة – كان يقول كانوا يرون أن الكذب يُبطِل الصوم، قال كانوا يرون! وقوله كانوا يُشير إلى جماعات من الصحابة والتابعين، فهو تابعي خطير، تابعي جليل إبراهيم النخعي رضيَ الله عنه وأرضاه، وهذا رأي الإمام الأوزاعي، إمام أهل الشام، وهذا رأي الإمام الخامس سُفيان الثوري رضيَ الله عنه وأرضاه، وهو الذي نصره واحتج له إمام أهل الظاهر أبو محمد بن حزم رحمة الله عليهم جميعاً، وناهيك بهؤلاء! هؤلاء أئمة أجلاء، أنت تتحدَّث عن الثوري والأوزاعي وابن حزم والنخعي، ليسوا أُناساً عاديين، ليسوا أُناساً يُستهان بقولهم وبرأيهم، ذهبوا إلى أن المعاصي تُبطِل الصوم، ولذلك كان من عادة الصحابة مَن ليس له معاش يرمه إذا كان صائماً لزم المسجد أو لزم بيته، يلزم المسجد ويضع مصحفه بين يديه ويذكر الله ويُسبِّح الله ولا يخرج ولا يلج، فإذا سُئل يقول صومنا نُطهِّره، نُطهِّر الصوم ونُحافِظ على الصوم، الصوم أجره عظيم جداً، لماذا نُضيّعه؟!

إذن لنلتفت جيداً إلى هذه المسألة ولنعد الآن إلى أبي بكر بن العربي، أبو بكر بن العربي – رحمة الله تعالى عليه – يقول مُقتضى الحديث أن ثواب الصوم لا يزن – والعياذ بالله بماذا؟ – بإثم قول الزور والعمل به، أي أن الصوم له ثواب – وقد رأيتم أنه لا يُقادر قدره، ثواب عظيم – لكن قول الزور والعمل به – والعياذ بالله – له إثمه ووزره، قال وزر قول الزور والعمل به يرجح بثواب الصوم، ولذلك في حديث مُعاذ بن جبل – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – حين نبَّه – عليه الصلاة وأفضل السلام – وحذَّر من السبع المُوبِقات وذكرهن قال ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، إلا وقول الزور، وكان جالساً أو مُتكئاً فقعد عليه الصلاة وأفضل السلام، كان مُتكئاً فجلس أو قعد وظل يُكرِّرها، يقول مُعاذ حتى تمنينا لو سكت، قطع قلوبنا وخوَّفنا جداً! لماذا بالذات قول الزور؟ طبعاً الكذب يا إخواني لا يُجامِع الإيمان، المُؤمِن لا يكون كذّاباً، المُؤمِن لا يكذب ولو على عدو كافر، فكيف على أخيه في المِلة والدين؟ هذه حقيقة الإيمان، لكن كيف يتحقَّق المرء بهذه الأخلاق العالية؟ إذا أحسن يعبد ربه، إذا أحسن العبادة وعرف كيف يعبد، العبادات تُزكي النفس وتحمل صاحبها بل ترفعه إلى رُتبة المُتقين، اللهم اجعلنا منهم، إذا عبد حقاً، إذا عرف كيف يُصلي وكيف يصوم وكيف يذكر وكيف يتلو القرآن وكيف يُزكي ماله وكيف يحج، إذا عرف معنى العبادة الحقة وتحقَّق بها صار من جُملة المُتقين، وعسى أن يكون عما قريب من جُملة الصدّيقين، اللهم ارفعنا إلى ذلكم المقام.

وإذا ذكرنا الصوم وحال بعض الصائمين الذين يُفسِدونه بالمآثم والمساوي – والعياذ بالله – فلنُذكِّر بالإمام حُجة الإسلام الغزّالي – رضيَ الله عنه وأرضاه – وكيف درَّج الصوم درجات، الحُجة الغزّالي درَّج الصوم درجات! قال الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، صوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص.

صوم العموم هو كصوم كثير من الناس مِمَن يصومون عن الطعام والشراب وشهوة الفرج ثم يُبطِلون أو ينقصون ويُحبِطون ربما ثواب صيامهم بالكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى ما حرَّم الله وفعل ما حرَّم الله وحظر، ما هذا؟ فمثل هؤلاء بتعبير إمامنا الغزّالي كمَن بنى قصراً وهدم مصرا، يُحسِن قليلاً ويُسيء كثيراً، أكثر مما أحسن! فهذا أحمق، هذا ساعٍ في خراب آخرته والعياذ بالله، ولذلك قال جابر بن عبد الله – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما – إذا صام أحدكم فريضةً من رمضان أو في غير رمضان تطوعاً فلتصم عينه وأذنه ولسانه عن الكذب والمآثم، وليدع أذى الخادم، الخادم سواء كان عبداً أو غير عبد، الآن مَن يكون في امرتك وفي مُديريتك، أنت مسؤول عنه، أحسن إليه، لا تُؤذه، ماذا عن الزوج والأولاد؟ أحرى، وخيركم خيركم لأهله، أحرى ألا تُؤذي أهلك، بعض الناس – سُبحان الله – في رمضان يُوقِع الطلاق، بعض الناس يفتعل المشاكل الكبيرة مع أهله وأولاده في رمضان، هذا ما صام ولا عرف معنى الصيام، قال وليدع أذى الخادم، وليكن عليه في يوم صومه سكينة ووقار، ولا يجعلن يوم صومه ويوم فطره سواء، لا يستويان! أنت تصوم، عبادة عظيمة هذه، الله نسبها إلى نفسه، إلى ذاته العلية، قال إلا الصوم فإنه لي، كيف تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء ولا يستويان؟

ونُغادِر صوم العموم، نسأل الله ألا يكون صومنا من صوم العموم، هناك صوم الخصوص، ويُراد بالخصوص هنا الصالحون، أي صوم الصالحين، الذين إذا صاموا انجمعوا وكفوا حواسهم وجوارحهم عن المحارم والمآثم، وقضوا نهارهم في ذكر الله وفي عمل الخير، هذا صوم الصالحين، أما صوم خصوص الخصوص فهذه رُتبة علية جداً، هؤلاء يصومون عما سوى الله بالكُلية، هؤلاء صوّم حتى عن الدنيا وما فيها ومَن فيها، وجعلوا إفطارهم لقاء الله تبارك وتعالى، اللهم اجعلنا منهم، رُتبة سنية علية جداً جداً، ولكن الحالون بها قلة، اللهم اجعلنا من هذه القلة على الأقل إن لم نكن من هؤلاء الخاصة، الخاصة هؤلاء مَن هم؟ النبيون والصدّيقون والمُقرَّبون، المُقرَّبون هم السابقون، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ۩ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ۩، ذكر الله – تبارك وتعالى – في عدتهم وفي كثرتهم أنهم ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ۩ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ۩، السابقون المُقرَّبون كانوا كثيرين في أصحاب رسول الله وأتباعه وأتباع أتباعه، خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، هذه القرون الثلاثة والأجيال الثلاثة المُنتخَبة ربانياً والمرفوعة اصطفائياً، أما نحن فنحن من الآخرين، المُقرَّبون فينا قلة، وقد يسأل سائل فما حال الصدّيقين؟ أقل من القليل، الصدّيق هو الذي غلب عليه الصدق ظاهراً وباطناً، بحيث لم يعد ثمة مساغ ولا فراغ للكذب، لا في نيته، لا في قوله، لا في فعله، لا في همه، وإيمانه يقين راسخ ثابت لا يتلجلج ولا يتزعزع، ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ۩، إيمان مُطلَق بالله – تبارك وتعالى – وبموعود الله، رُتبة الصدّيقية! وطريق رُتبة الصدّيقية يا إخواني مُلازَمة الصدق، هذا الطريق! فمَن نهج في هذا الطريق انتهى به بعون الله وحوله وفضله وطوله إلى نول رُتبة الصدّيقية، أن يكون صادقاً، يبدأ بلسانه، أن يكون صادقاً في أقواله، لا يكذب، لا ينقص، لا يزيد، لا يُبالِغ، وليس هذا فقط، ولا يحتقب ويقترف بلسانه ما لا يرضى الله – تبارك وتعالى – أبداً، هذا اللسان لا ينطق إلا بما يُحِب الله ويرضى، هذا الطريق وهذا صوم خصوص الخصوص.

إخواني وأخواتي:

يُقال عادةً في حكمة الصيام إن الصوم يُنبِّه صاحبه على مُعاناة المُعدمين، الفقراء والمساكين الذين لا يجدون ربما أحياناً ما يتبلَّغون به، وهذا حق! ولن نُطوِّل بشرح إذ هو معلوم للجميع، كان نبي الله يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم – عليه الصلاة وعلى آبائه وأجداده أجمعين والتسليمات – يصوم يوماً – وهو وزير المالية في مصر – ويُفطِر يوماً، فسُئل لماذا؟ قال أخشى إن أكلت كل يوم أن أنسى جوع الجائعين، أي حتى أتذكَّر هؤلاء! وكان نبي الله سُليمان بن داود – عليهما الصلوات والتسليمات – إذا صام لم يُفطِر إلا وعلى مائدته فقراء ومساكين، لا يُفطِر وحده، لا يُريد أن ينسى هؤلاء، هذا معلوم ومُقرَّر وهو بلا شك غاية حميدة وجليلة من غايات الصوم وأهدافه ومراميه، لكن ثمة غاية أُخرى لعل بعض الناس لا يلتفت إليها، وهي أن الصوم يُذكِّرك بما عساك أن تكون غفلت عنه من نعمة الله عليك.

حدِّثوني إخواني وأخواتي عن معنى الراحة في حق مَن لا يتعب، لا معنى لها! إنسان أمير ابن ملك وُلِدَ وفي فمه كما يُقال ملعقة من ذهب، ليل نهار على الفُرش والرياش كالمُخدَّرات، لا يتعب ولا يعرق ولا يسغب أبداً أبداً، هذا تعرفون ماذا يفقد؟ يفقد معنى الراحة، هذا لا يتمتع بالراحة، وهذا حياته مُرصَدة لأن تكون جحيماً على الأرض، حياة جحيمية مُمِلة كريهة ومُتعِبة جداً، لذلك يشذ هؤلاء في المسالك والأفكار والأشياء، يشذون المساكين لأنهم مُحطَّمون، لكن الراحة تأتي بعد التعب، وكذلك معنى الطعام والشراب، إنما يجده الذي عضه الجوع، ومنها قالت العرب نعم الإدام الجوع، مَن كان جائعاً وائتدم ببصلة وجدها خيراً من اللحم، لأنه جائع! أما الذي لا يجوع فهذا لا يجد معنى النعمة، معنى الطعام والشراب! لأنه لم يجع، يأتي الصيام هنا، وانظر إلى حكمة الله تبارك وتعالى، الله رحيم بعباده جميعاً، يُريد بهم جميعهم الخير، حتى الملوك والأغنياء يُريد بهم الخير حين يفرض عليهم الصوم، لعل هذا الغني، لعل هذا الملك، لعل هذا المُتموِّل المُثري يلتفت، يقول يا الله، ما أعظم ما أنا فيه من نعمة! وليس فقط على الغني، وأنا وأنت، مِمَن لم يجعلنا الله من الفقراء والمساكين، لدينا ما نأكل وما نشرب بفضل الله تبارك وتعالى، نلتفت! وهذا أحرى ألا نكفر نعمة الله، لأن منا مَن يكفر هذه النعمة، دائماً يُقايس ويُقارِن نعمته بنعمة مَن هو أوسع نعمة فيزدري نعمة الله عليه، يقول أنا ليس عندي شيئ، أنا فقير، انظر إلى هذا الذي عنده ملايين، لكن يا أخي أنت عندك المئات أو عندك الألوف، غيرك ليس عنده شيئ، غيرك يموت من الجوع، بعض الناس يبيع أولاده في بعض البلاد – في بلاد إسلامية يبيع أولاده – من الجوع، لكي يعول إخوانهم وأخواتهم، وأنت تكفر ما عندك من نعمة! احمد ربك واشتغل بالشكر، اشتغل بشكر الله على هذه النعمة، الصوم يلفتك إلى هذه الحقيقة، أنك من المُنعَم عليهم، لكنك لم تقم بحق شكر هذه النعم، نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعلِّمنا وأن يُفقِّهنا وأن يُعيد علينا من بركاته ومنحه وعطاياه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

الخُطبة الثانية

إخواني وأخواتي:

وأختم ولا أُريد أن أُطيل علىّ ولا عليكم في هذا الوقت الصعب علينا جميعاً لما تعلمون، أختم بحكمة من أجل حكم الصوم على الإطلاق، ولعلها جوهر الجوهر ولُب اللُب، إنها الحكمة التي لأجلها ومن أجلها قال المولى – جل وعز – فإنه لي وأنا أجزي به، الصوم هو مُجرَّد كف وامتناع، الصوم ليس عملاً، هو عدم عمل، عدم أكل، عدم شرب، عدم مُواقَعة الأهل، هو هذا! كف وامتناع، والصوم الشرعي الحقيقي والمُطلَق يُراد به الكامل، هو كف عن الغيبة والنميمة والزور والكذب وباطل القول ومد العين إلى ما حرَّم الله واليد والرجل، إلى آخر الجوارح، كف! ولأنه كف فهو عدم، هو شيئ سالب، لا يطلع عليه إلا الحق، لا إله إلا هو، مَن ذا الذي يحول بين أي منا من الصائمين والصائمات أن يدخل بيته ويُغلِق عليه ويأكل ويشرب ثم يخرج ويُفطِر مع الصائمين عند المغرب وكأنه صائم؟ لا أحد، أليس كذلك؟ بفضل الله حين كنا صغاراً – أطفالاً صغاراً دون الحلم بسنوات – وكنا نصوم وكان ثقيلاً جداً علينا لم نكن نفعل هذا، عظمة الإسلام! هذا الإسلام يا إخواني، هذا دين عظيم وجميل، والله ما أكرم ولا أعظم ولا أبهج ولا أحلى من هذا الدين! لكن بين قوسين أقول ربما بجُملة واحدة فقط (الجهل وانطماس البصيرة وتسيس الدين واللعب بالدين سياسياً وأيديولوجياً حوّل هذا الدين في نظر أبنائه وفي نظر غير أبنائه إلى نقمة).

سأُعلِّق فقط على ما يقع من أحداث ومن أعمال إجرامية هنا وهناك باسم الدين فقط بسؤال واحد، بالله عليكم يا إخواني – وكلكم بلا شك على ذُكرٍ من سيرة المُصطفى، وخاصة الأحداث الرئيسة فيها، صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – دلوني، أوقفوني، أوجدوني حالة واحدة – حالة واحدة فقط في مكة حين ابتُليَ المُسلِمون المُوحِّدون – تم اغتيالها من المُسلِمين، اغتيال! هل قُتِل مُسلِم أو مُسلِمة غدراً؟ لم يحدث، الكفّار – كفّار مكة – كانوا أشرف، كانوا عرباً أقحاحاً، كانوا أشرف من أن يغدروا، نعم نحن ضدك يا محمد وضد أتباعك، مَن وقع في أيدينا سوف نمتحنه ونفتنه ونُعذِّبه في الرمضاء ونُذيقه العذاب ألواناً ليكفر ويصبأ ويعود إلى كفرنا وشركنا، لكنهم لا يغدرون، وبالمُقابِل استُئذن النبي بالمدينة – عليه الصلاة وأفضل السلام – كما يقول قتادة من بعض رجاله ومن بعض الشباب ربما – شباب الصحابة المُتحمِّسين – في أمر خطير، قالوا له يا رسول الله ائذن لنا فنأتي مكة ونغتال كبار الفكّار من سدنة الشرك، فلم يأذن النبي بهذا، وقال – هو القائل عليه الصلاة وأفضل السلام – الإيمان قيَّد الفتك، لا يفتك مُؤمِن، المُؤمِن لا يغدر، المُؤمِن ليس غدّاراً، المُؤمِن حين تُفرَض عليه المُواجَهة بشرطها الشرعي يُواجِه في ساحة المعركة بشرف وبرجولة، هذا المُؤمِن! وفي ساحة المعركة لا يقتل ولا يتطرَّق بالأذى إلى لمَن أذن الشارع في أذيته وقتله، مَن هم؟ بكلمة واحدة الذين يحملون السلاح ويُقاتِلوننا فقط، هذا في المعركة! أما قتل الناس في الأسواق وفي الشوارع وبالجُملة والتفصيل وبغض النظر هذا الذي يموت يكون صغيراً أو يكون كبيراً أو يكون رضيعاً أو يكون شيخاً أو يكون عجوزاً أو يكون مُسلِماً أو يكون نصرانياً أو يكون يهودياً أو يكون هندوسياً أو يكون بوذياً – هذا غير مُهِم – فلا والله الذي سمك السماوات ورفعها بغير عمد، هذا ليس من دين الله في شيئ، هذا – وأُقسِم بالله مرةً أُخرى – ذبح للإسلام نفسه، فانظروا مَن وراؤه ومَن المُستفيد مِن هذا.

يا إخواني أقول لكم كلمة ولمَن يسمعني ربما من هؤلاء الشباب الذين يُضلَّلون ويُغرَّر بهم، والله وعزة جلال الله – لا إله إلا هو – لن أدفع عنك ولن يدفع عنك شيخك ولا الذي نظَّر لك ولا الذي أفتاك ولو كان الذي أفتاك عشرة بل مائة بل ألفاً، لأن الله – تبارك وتعالى – خلقك وكلَّفك بما خلق فيك من قوة درّاكة عاقلة، ولم يجعلك بهيمة أو دابة تُقاد من مقادتها وتُؤخَذ فيسلس قيادها لأي من الناس، هذا ليس في دين الله تبارك وتعالى، ليس في دين الله والأدلة على هذا كثيرة جداً، النبي هو القائل مرة – وذكرت هذا غير مرة، فاسمحوا لي فالمقام يقتضي، ثم أمضي على عجل – مَن أطاع الأمير فقد أطاعني ومَن أطاعني أطاع الله، ومَن عصى الأمير – أي أمير، أمير على جيش أو على عصابة من الناس في أي وقعة، هذا أمير، مَن يكون على عشرة من الناس هو أمير – فقد عصاني ومَن عصاني عصى الله تبارك وتعالى، هذا أمير صحابي، هذا صحابي وليس عدنان أو عثمان أو فلتان أو سُفيان في القرن الخامس عشر، صحابي! النبي أمَّره على جماعة من الصحابة، هذا الأمير عن له هكذا نزغة نفسانية – سُبحان الله – وربما شيطانية، فهو ليس بمعصوم وإن كان صحابياً، قال لهم اجمعوا حطباً فجمعوا حطباً، قال لهم أوقدوا فأوقدوه، أشعلوا فيه ناراً! قال أدخلوها فترددوا، هل ندخل أو لا ندخل؟ لكن النبي قال مَن أطاع الأمير فينبغي أن نُطيعه، بعد ذلك آخرون عندهم عقل فقهي قالوا لا، النبي حتى حين قال هكذا جُملة مَن أطاع الأمير كان لها مُقيّدات لها تُقيِّدها، لا تعم كل الحالات، من المُخصِّصات التي ذكرها العلماء من قرون مُخصِّصات مُنفصِلة للعام منها الحس ومنها العقل، هناك أشياء العقل يقضي فيها بأن هذا العام لم يبق على عمومه، وهناك أشياء يقضي فيها الشرع، الشرع هو القائل لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة في المعروف، فالنبي إذا قال أطع الأمر فهو يعني في المعروف، لو أمرك الأمير أن تقتل أباك المُؤمِن المُوحِّد أتقتله؟ لو أمرك الأمير أن تنحر نفسك أتنتحر؟ لو أمرك أن تكفر أتكفر؟ لا طبعاً، الطاعة في المعروف، فالصحابة قالوا لا، الطاعة في المعروف، وانتهوا بفضل الله بعد تلبث يسير إلى هذا الرأي، لما بلغ النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – الأمر ماذا قال؟ لم يقل لو دخلها بعضهم فماتوا واحترقوا غفر الله لهم لأنهم أخذوا بظاهر قولي، النبي قال مَن أطاع الأمير فقد أطاعني، لكن أين عقلك؟ حتى أمام قول النبي أين عقلك الشرعي وعقلك الفطري البشري؟ قال والذي نفسي بيده لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً.

حديث مُرعِب! افهموه وكرِّروه واتلوه على مسامع المُشتبِهين الذين اشتبهت عليهم الطرق والنُهج، قولوا لهم ليكن لكل منكم عقل فإن الله يوم القيامة سائله بما كلَّفه على ما أتاه من عقل وإدراك، لسنا دواباً ولسنا بهائم تُقاد فتنقاد، ثم ما فائدة هذا الكتاب الذي تتلوه؟ هذا الكتاب يكفي العالمين، القرآن العظيم هداية للعالمين، لأهل السماوات والأراضين! أتتلوه ثم لا تنتفع منه بشيئ ويُضحَك عليك؟

أنتم ترون طبعاً هذا القتل وهذا التفجير وهذا الغدر لم يعد يستثن حتى المساجد، يُقتَل فيها الركّع السُجّد، في العام الماضي لم يستثن مسجد رسول الله إلا أن الله ستر – لا إله إلا هو – ولطف بنا، أليس كذلك؟ قتل في كل مكان، فلا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم، اللهم إنا نبرأ إليك من كل هذا العبث، من كل هذا الغُثاء، ومن كل هذا الإجرام في حق دينك وفي حق كتابك ونبيك وفي حق هذه الأمة المُبتلاة المطحونة المسكينة، ينقصها بلاء فوق كل ما فيها من بلاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.

إذن يا إخواني من أعظم حِكم ومقاصد ومغازي الصوم أن ترقبوا – الله وتعالى – في السر والعلن وفي الخلوات والجلوات، سأل أحدهم شيخه، قال يا شيخي عظني، شيخه خبير خرّيت، أتاه من زاوية مُحدَّدة، قال له أي فلان إنك إذا عصيت الله خالياً – أي وحدك، لا يراك إلا الله، وتعصي الله – فإن كنت تظن أنه يراك فقد اجترأت على عظيم، إن كنت تحتفظ بالإيمان أن الله يراك وتفعل هذه المعصية وهو يراك وأنت تعلم هذا فأنت جريء جداً جداً جداً، وقح قال له، وقح في حق الله قال له، جريء على الله، وفي الحقيقة جريء على النار أنت طبعاً بالطريقة هذه، أنت جريء على الهلاك، هذا لا يضر الله شيئاً، ثم قال ولئن كنت تظن أنه لا يراك – لذلك عصيته في الخلوات – فقد كفرت، هذا هو طبعاً، إذا تظن أنه لا يراك فأنت كافر وانتهيت، هذا ليس الإيمان، هو يراك يراك، الصوم أكثر ما يُعلِّمنا – إن علَّمنا ونسأل الله أن يكون مُعلِّماً لنا أيها الإخوة – أن نرقب الله – تبارك وتعالى – في الخلوات، هذا أساس التزكية، لا يُمكِن أن تزكو نفس المُؤمِن ما لم يكن مُراقِباً لله – تبارك وتعالى – في أقواله وأفعاله وخلواته وجلواته، دائماً يُراقِب الله تبارك وتعالى.

وما عليك من الناس، لا ترقب الناس، ما عليك من الناس! الناس يرقبون الناس، يهمه جداً أن يكون مكانه ومقامه وسُمعته بين الناس حسنة، لا كان المكان ولا المقام ولا السُمعة، لذلك حين سُئل أحد العارفين بالله عن علامة الصدّيق – مَن هو الصدّيق؟ تكلَّمنا عن الصدّيق – قال الصدّيق مَن لا يُحِب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من صالح عمله، عمله الصالح كله يكتمه، يطلب به وجه الله، الله قال عن الصوم فإنه لي، يجب أن يكون له فعلاً وليس للناس، وإلا ليس له، سيُقال لك أنت ما صُمت، لم يكن هذا لي، صُمت للناس، تتزيَّن به أمام الناس، أنك صائم ومُتعَب ومُجهَد، يجب أن يكون لله حقاً! قال ولا يحزنه ولا يكره أن يطلع الناس على سيئ أعماله، وإذا الناس اطلعوا على أعمال سيئة له لا يحزن، لا يكره هذا، لماذا؟ لأنه لا يطلب المدحة أصلاً عند الناس، لا يطلب المقام عند الناس، يهمه حاله عند الله تبارك وتعالى، لأن الله – تبارك وتعالى – هو الذي يرقبه ولا يغفل عنه حين تغفل عنه العيون، أليس كذلك؟ وهو الذي يحفظه ويستره حين تسوء فيه الظنون، ظنون الناس! يقولون لعل هذا يكون كذا ولعل هذا يكون كذا ولعل هذا يكون كذا ولعل هذا يكون كذا، الله يحفظه ويستره، أليس كذلك؟ لذلك هو لا يطلب إلا الله ولا يرقب إلا الله ولا يرضى بالله بدلاً، لا إله إلا هو، عاقل! هذا عاقل، وهو الذي يكون أنيسك – لا إله إلا هو – في الدنيا وفي قبرك وفي الآخرة، إذا خلوت من الأنيس واستوحش منك الجليس الله يكون لك أنيساً،لِمَ لا تطلب إلا الله وحده لا إله إلا هو؟

إخواني وأخواتي:

جاءت امرأة مُنتقِبة إلى شيخ الطائفة أبي القاسم بن محمد الجُنيد – رضيَ الله عنه وأرضاه – ذات يوم ومعها زوجها، قالت له يا شيخنا، يا إمامنا أنا فلانة الفلانية وهذا زوجي أشكوه إليك، قال ما شكواكِ يا أمة الله؟ قالت تزوَّج علىّ أُخرى، قال له عليك ثلاث، أي يحق له المزيد، أنت واحدة ويحق له ثلاث أيضاً، مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ۩، قالت يا إمام لو كان يحل لي أن أكشف عن وجهي لأرايتك وجهاً تحكم معه بأن مثلي لا يُزوَّج عليها، فصرخ الإمام الجُنيد وغُشيَ عليه، لماذا؟ بعد أن ذهبت المرأة وأُسقِط في يدها – أخذت زوجها وذهبت – قالوا له يا إمام ما الذي حصل؟ لماذا صحت هذه الصيحة المُنكَرة؟ صاح صيحة عالية وأُغميَ عليه! قال لفتتني المرأة إلى أن مَن وجد الله لا يُؤثِر عليه غيره، قالت أنا امرأة جميلة جداً جداً جداً، لو ترى وجهي يا شيخ ستقضي لي بأن مثلي لا يُزوَّج عليها، فتذكَّر هو هذا، مَن عرف الله ومَن وجد الله هل يطلب بالله عدلاً؟ هل يعدل به شيئاً أو أحداً؟ أبداً! هذا العقل العارف، ثم إن ما من حسنة، ما من عطية، وما من جميلة إلا وهي مُجتناة من بُستان عطائه، مقطوفة من جنة كرمه وجوده، أليس كذلك؟ فلِمَ؟ لِمَ الإقبال والاهتمام بالآخرين الذين يحسدونك إذا أُنعِم عليك ويشمتون فيك إذا وقعت ويهتكونك إذا وقفوا على عورةٍ لك؟ لِمَ؟ لِمَ؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ۩.

أختم أيها الإخوة برجلين صالحين من أهل الشهود، لا يشهدان إلا المُنعِم لا إله إلا هو، حتى النعمة لا يشهدانها، يشهدان المُنعِم، قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۩، وكانا كلاهما من أهل الشهود، اللهم اجعلنا من أهل الشهود، أحدهما رأى الآخر مسكيناً فقيراً مُملِقاً ليس عنده شيئ فقدَّم إليه شيئاً، قدَّم إليه صدقة وقال له خُذها لا لك، فرد عليه الآخر قبلتها لا منك، فعجب! علم أنه من أهل المقام نفسه، قال له خُذها لا لك، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ۩، ليس لك، لله هذا! ولذلك أُعطيك ثم تبصق علىّ، أُعطيك ثم تسبني، سأُعطيك أيضاً لأنني لم أُعطك لك، أنت أعطيت لي عند الله، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ۩، انظروا إلى الإيمان يا إخواني، فكِّروا في الإيمان إذا تحقَّق به صاحبه كيف يُصبِح منبع خير لا ينقطع، حتى مع الجحدة – مع جحدة النعمة – ومع عدم الأوفياء لا ينقطع، يا سلام! وهذا بعض معنى ما كان لله دام واتصل، هذا بعض المعنى! لو كان لله يدوم ويتصل، لكنه كافر وجاحد وغير وفي، بغض النظر عن هذا أنا عملت لله، يعنيني هذا، لم أطلب شكره ولا جزاءه ولا محبته ولا مدحته، عملت لله! أما الآخر فقال ماذا؟ قبلتها لا منك، قال أنا أعلم أنك مُجرَّد واسطة مثلك مثل ما أعطيتني، المُنعِم الحق هو الحق، لا إله إلا هو.

اللهم افتحنا عليك بالحق وأنت خير الفاتحين، علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أنت أصلحت لك الصالحين فأصلحنا بما أصلحت به عبادك الصالحين، لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا ميتاً إلا رحمته ولا مريضاً إلا شفيته ولا غائباً إلا رددته ولا أسيراً إلا أطلقته ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه وأذهبت همه وغمه وحُزنه برحمتك يا أرحم الراحمين.

نسألك فعل الخيرات وترك المُنكَرات وحُب المساكين وأن تغفر لنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا خزايا ولا مُبدِّلين ولا نادمين برحمتك يا أرحم الراحمين، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا، لا تجعل مُصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، حقِّق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واختم بالسعادة آجالنا وبالباقيات الصالحات أعمالنا وتوفنا وأنت راضٍ عنا.

اكفنا ما أهمنا من أمر دنيانا وأمر أُخرانا يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين، لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين، اللهم إنا نسألك أن تدرأ عن المُسلِمين الوباء والغلاء والبلاء والزنا والربا والفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم أحسن جمعهم، اللهم وحِّد بينهم، اللهم جنِّبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن يا رب العالمين، اللهم مَن أراد بهذه الأمة المرحومة مكراً وسوءاً وشراً فأرده، ومَن أراد بها خيراً وعزاً فكُن له مُعِزاً يا رب العالمين، إلهنا ومولانا، ربنا تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا ودعاءنا، إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (9/6/2017)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: