إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا ۩ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ۩ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ۩ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ۩ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

بلغ الكتابُ أجله وقضى الله قضاءه واليوم يفرح المُؤمِنون بنصر الله، النصر الذي تجلّى في النيلِ من الطاغية الجبَّار العنيد الذي أرهق شعبه تعذيباً وتنكيلاً وتذبيحاً واغتصاباً وتشريداً، بلغ فيه كتابُ الله – تبارك وتعالى – أجله وانتهى الرجل وأفضى إلى ما قدَّم، نهايةً مُخزية وذليلة تشهد بعزوب العقل ونضوب الإيمان واليقين، ثنتان وأربعون سنة وعُمِّرَ فيها حاكماً مُطلَقاً لا مُعقِّبَ لحكمه ولا راد لأمره في شعبٍ مهضومٍ مظلومٍ مسكين لم يُراجِع نفسه فيها يوماً أو ساعةً ولم يدر أنه سيقدمُ على ربٍ عظيم، كما هو رحمن رحيم فهو مُنتقِمٌ وجبَّارٌ عزيز لا إله إلا هو، ولا يزال المُؤمِن في فُسحةٍ من أمره ما لم يُصِب دماً حراماً، أما أن تُصيب دماء أربعين ألف في التقديرات الأولية أو أكثر من هذا فأمرٌ مُخيف، هذه النهاية مُخيفة ومُفظِعة ومُحزِنة لكل واحدٍ منا تجعله يُراجِع نفسه ويعلم – والعياذ بالله – أن الله – تبارك وتعالى – إذا تأذَّن بالختم على قلبِ أحد فإنه يعودُ لا يسمع ولا يُبصِر ولا يعقل، وهذا الرجل كان من هؤلاءِ النفر الذين لا يسمعون ولا يُبصِرون ولا يعقلون، لم يفهم يوم هبَّ شعبه والشعوب لا تهب للتسلية ولا للعبث ولا للهو ولا تهب إلا حين لم يبق في قوسِ صبرها منزع، لم تبق لديها بقية من الاحتمال ومن القدرة على الاحتمال والمُواصَلة، تهب تُقدِّم حيواتها، تُقدِّم حياتها رخيصة عن سماح ورضا كفراً بالذل وإباءً للاستكانة، وبمُناسَبة هذه الجُملة أرجو من السادة العلماء والمُفكِّرين والمُثقَّفين وأصحاب المنابر والأقلام أن يتقوا الله أولاً في أنفسهم وأن يتقوا الله ثانياً في شعوبهم  وأممهم، ينبغي على المُثقَّف وعلى العالم والمُتعلِّم أن يتخفَّف قليلاً من نرجسية الثقافة، للأسف نحن معاشر المُثقَّفين تتآكلنا نرجسية، نظن أنفسنا طبقة خاصة من الناس، لنا حقٌ حصري أن نحكم فيهم وأن نحكم عليهم، أن نُدخِلهم مرة الجنة وأخرى النار، أن نجعلهم مواطنين شرفاء إذا أردنا وأن نجعلهم ملعونين بُعداء إذا اشتهينا لأننا فقط نملك المنبر ونتكلَّم في التلفزيون – Television – أو في الصحافة أو حتى على منابر الخشب، كلا هذا عيب وهذه نرجسية بغيضة، في نهاية المطاف على هذا المُتكلِّم أياً كانت صفته وأياً كان نعته أن يضع نفسه موضع هؤلاء المقهورين المظلومين، للأسف أكثر هؤلاء الذين يتكلَّمون هم من الذين شبعوا حتى التُخمة، أشبعهم النظام الظالم بلا شك ولكن الناس جوعى وهو لا يشعر بهم، أكثر هؤلاء لهم حيثيات ومزايا ولكن الناس لا شيئ لها، لا شيئ لها إلا الذل وإلا السجون والزنازين والمنافي والمهاجر، عيب قبل أن يكون حراماً على الإنسان أن يكذب على نفسه وعلى ضميره، وأُحِب أن أقول بهذه المُناسَبة لإخواني العلماء والمُتكلِّمين والمُفكِّرين والمُثقَّفين عليكم أن تحترموا شعور شعوبكم، الشعوب لا تخرج لكي تتسلَّى فتُقتَل وتُفقأ أعينها وتُشوَّه أعضاؤها وتُوضَع في أقبية السجون، كلا لناس لا تخرج إلا من أمرٍ عظيم، يُقال مدفوعٌ لهم ومدسوسون، سلَّمنا أن بعض المسئولين وبعض القيادات  في الداخل وفي الخارج دُفِعَ لها، سلَّمنا بهذا ولكن هل دُفِعَ لكل هؤلاء؟ هل دُفِعَ لمئات الألوف الذين يتحرَّكون كل يوم وليلة ويُضرَبون بالرصاص الحي؟ مَن الذي دفع لهم؟ لقد دُفِعوا نعم، لم يُدفَع لهم وإنما دُفِعوا، دفعهم شعورهم الريَّان بالهضيمة وبالظلم وبالذل وبالعار الذي يعيشون فيه ثلاثين وأربعين سنة، ومن أجل ماذا؟ أنا أُسائل إخواني هؤلاء العلماء والمُثقَّفين وأقول لهم عليكم أن تسألوا أنفسكم من أجل ماذا؟من أجل ماذا علينا أن نُدين كل هؤلاء؟ من أجل ماذا علينا أن نُدين المئات من الألوف والملايين أحياناً أو شعباً بأسره إلى ما ندر؟ من أجل ماذا؟ من أجل طاغية مُتجبِّر جعل نفسه رباً من دون الله، له وللأهله ولعزوته وحمولته كل شيئ، وليس للشعب شيئ، عجيب هذا المنطق، الله يُحِبُ الإنصاف، والمرء مسؤولٌ عن كل ما يفوه به، ألا يتساءل هؤلاء العلماء؟ ألا يتساءلون هذا التساؤل البريء والموضوعي؟

على كلٍ الرجل الآن بين يدي الله – تبارك وتعالى – وأفضى إلى ما عمل، وإنه لخيال وخاطر مُفظِع – كما قلت لكم – ومُخيف ومُزلّزِل لا أن تتخيَّل نفسك وإنما أن تتخيَّله هو الآن، وما عساه يرجع إلى ربه؟ ماذا سيقول لله القذَّافي؟ من أجل الكتاب الأخضر يا رب، من أجل أولادي وبنتي، من أجل عزي، من أجل تألّهي، من أجل عظمتي، من أجل أنني الذكي العبقري الوحيد فيهم وهم جُرذان!

أبى الله – تبارك وتعالى – إلا أن يستخرجوه تماماً حيث تقبع الجُرذان في مصارف المياه، الجُرذان والفئران تقبع دائماً في مصارف المياه ومن هناك أُخرِج الرجل، وهذا أمرُ عجيب، سخرية القدر أمرٌ عجيب، وتُقدِّرونَ فتضحكُ الأقدارُ، الشعب الليبي ليس جُرذاناً بل ليسوا أبطالاً، قلت قبل أشهر أذهلوا البطولة، واليوم ما أبكاني ويُبكي كل حر عظمة هذا الشعب وتسامح هذا الشعب ورحمة هذا الشعب، والله لقد بكيت أكثر من مرة بالأمس وقلت كبارٌ أنتم أيها الليبيون، هذا شعبٌ كبير يا أخي، لو لم أكن فلسطينياً  – لأن الله اختار لي هذا – لاخترت أن أكون ليبياً، ما هذا الشعب الطيب يا إخواني؟ ما هذا الشعب العظيم؟ الجزيرة وغير الجزيرة تُجري مُقابَلات عفوية مع أُناس هكذا من الشارع ومن الجيش ومن الكتيبة ولم أسمع من أحدٍ منهم أنه لعن القذَّافي ولم أسمع من أحدٍ منهم تعبيراً عبّر به علماء الإسلام الكبار كالإمام الذهبي الذي يقول وفي يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا مات الحجَّاج إلى غير رحمة الله، إلى غضب الله، لم يقلها ليبي بل أكثرهم كان يقول انتقل إلى رحمة الله، فأبكي وأقول ما أكبرك أيها الشعب الليبي، ما هذا الصدر؟ صدرٌ عظيم يا أخي، نفسٌ فسيحة الجنابات، ما هذه الرحمة؟ أنا أقول لهذا الليبي الشعب العظيم أنت شعبٌ راقٍ، شعبٌ راقٍ جداً ومُهيَّأ أن تكون مضرب الأمثال – إن شاء الله – في الرقي والعظمة والحضارة – بإذن الله – بتهيئة أسباب يسيرة فقط لهذا الشعب الطيب الذي يعيش على فطرة المسلم الحق، يقول إلى رحمة الله، أفي حق القذّافي يُقال إلى رحمة الله؟ قيل هذا أكثر من مرة وأكثر من شخص على الفطرة، حين استخرجوه كالجُرذ لم يبصقوا في وجهه، قالوا أخذناه هكذا من يديه، لم يأخذوه من شعره ومن باروكته الساقطة – سقطت باروكته – أبداً، لم يبصقوا في وجهه أبداً ولم يضربوه، لعله لو وقع في أيدي أُناسٍ آخرين لمزَّقوه إرباً إرباً على ما فعل فيهم في أربعين سنة وضاعف عليهم العذاب أضعافاً في هذه الأشهر اليسيرة، البنات يُغتصَبن، بنات العاشرة والتاسعة والثاني عشر يُغتصَبن، الفياجرا – Viagra – تُوزَّع بالكيلوات على كلابه – أكرمكم الله – المُرتزَقة، ما هذا الرجل؟ ما هذا المسخ؟ هذا مسخ له بشرياً لا ينتمي إلى نوع الإنسان، ولكنهم أخذوه من يده، ولما جُرِح أرادوا أن يسعفوه وكأنهم يأسفون أنه قضى نحبه بسرعة، قالوا ولكن هكذا للأسف مات إلى رحمة الله، قالوا  انتقل إلى رحمة الله، وهذا يُبكيني ولا يُغضِبني مع أنني أغضب مِمَن يجنح إلى الظلمة – وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ۩ – لكن هذه طبيعة الشعب الليبي، شعب كبير و شعب عظيم وشعب مُتسامِح رحيم ودود، رأينا الشعب الليبي – والله يُحِب الإنصاف – يُقال عنه في بعض المواقع انظروا إلى الصبية، يتحدَّث على الثوَّار على أنهم صبية، أقول له أنت غير مُنصِف، لن أقول أنك أنت الصبي ولكنك غير مُنصِف، في بعض المواقع الإسلامية المُحترَمة يُقال عن الثوّار صبية، الثوّار يُحقِّقون مع العلَّامة الجليل، لكن هل هو علّامة؟ هذا العلَّامة الجليل – غفر الله لنا وله – استمعنا إليه ورأيناه بأم أعيننا في التلفزيون – Television – يُحرِّض على الثوَّار ويأمر بقتلهم ويُسميهم القرود – ومَن أتى بهم قرود – لكنهم والله حقَّقوا معه بأسلوب راقٍ، أكثر ما قالوا له قل ماذا تقول؟ هكذا لم يسبوه ولم يطعنوا فيه وهو شيخ كبير، وماذا عن الشيخ الصغير مُفتي القذَّافي؟ وقد استمعنا إليه أيضاً يُحرِّض على الثوَّار بطريقةٍ أو بأخرى وإن تنصَّل من هذا اليوم طبعاً، وهذا شيئ غريب، هذا هو اللعب بالدين، بالأمس تكلَّم كلاماً لا يُقال في الثوَّار لكنه غيَّره اليوم حين وقع في أيديهم واستخرجوه ووضعوا فقط قيداً صغيراً وخيطاً نحيفاً في يديه واستخرجوه وألبسوه – كان بلباس داخلي – جلباباً ووضعوا على رأسه طقية الشيخ وحقَّقوا معه بأدب، ما أرقى هؤلاء الليبيين، ما أرقى هؤلاء الثوَّار، ما أرحمهم، هذا شعب يستحق كل خير والله، والله أذهلنا ببطولته بالأمس واليوم يُذهِلنا بتسامح وأدبه، هذا الشيخ الدجَّال كان يُحرِّض عليكم وعلى دمائكم لكنكم عاملتموه بكل احترام، وقال أنا أُشهِد الله أنهم ما آذوني ولا ألجأوني أن أتكلَّم هذا الكلام، ومدحهم – مدح الثوَّار – لأنه رأى صنفاً مُختلِفاً، ورأينا أذناب وطغمة القذَّافي ومُرتزَقة القذَّافي كيف يفعلون بمَن يقع تحت أيديهم، لا يرقبون فيه لا إلاً ولا ذمة، وهذا شيئ فظيع، لكن هذا هو التلاعب بالدين، قال أنا أفتيت بهذا قبل أن أقع في أيديكم وكتبت هذا في الإنترنت Internet، قال شيخ الإسلام ابن تيمية يقول كذا وكذا، فالرجل يستوحي شيخ الإسلام ابن تيمية بالأمس ويستوحيه اليوم، وهذا شيئ غريب، هذه مُتناقِضات، وما هو المنطق الذي يصدر عنه؟ منطق مَن غلب، اليوم الثوَّار غلبوا فقال أنا آمركم أن تخضعوا لهم وأن تسمعوا وتُطيعوا، قال هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا منطق مُضحِك، هذا منطق سخيف وهو على سخافته مُضحِك، يا جماعة هل أنتم تتكلَّمون بإسم دين محمد؟ هل أنتم تتكلَّمون بإسم القرآن والسُنة وبإسم الله وبإسم رسول الله؟ وتُفهِمون الناس أن السياسة كما نفهمها والسياسة الشرعية والمنطق الديني هو الأمر لمَن غلب، يغلب القذَّافي فالسمع له والطاعة بغض النظر ماذا قال القذَّافي في الله ورسوله وماذا عبث القذّافي في الدين، ينقص ويزيد في أعداد الصلوات كما يُريد القذَّافي أمام النالس جهاراً نهاراً، يحذف كلمة قُلْ ۩ من قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۩ يحذفها ويقول هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۩، يُحرِّف كتاب الله ويسخر من رسول الله ويتربَّب ويتألَّه، وهذا فضلاً عن مظالمه الفاقعة الفوَّارة، لكن يُقال القذَّافي غلب فله السمع والطاعة، واليوم المُجاهِدون غلبوا فلهم السمع والطاعة، أي منطق هذا يا شيخ؟ أي منطق هذا يا رجل؟ اتق الله واستح على نفسك، تجهَّم وجه الإسلام من أجلكم وبكم، والله تجهَّم وجه الدين يا أخي بهؤلاء الناس، ما أحلى السكوت، نعم السكوت لعنة في حد ذاته لكن ما أحلاه بالمُقارَنة مع هذا القيل الفاجر، اسكتوا واكفونا شركم بالسكوت، السكوت موقفٌ شجاع الآن كما نرى في الفتن، هذه فتن  مُخيفة عمياء طخياء، فالسكوت مُمتاز هنا، يا ليت أكثر علمائنا سكتوا مِمَن تكلَّموا وحرَّضوا على الشعوب وعلى الثائرين والمُجاهِدين هنا وهناك، لكنهم يُحرِّضون يومياً، لماذا؟ اسكت يا رجل واطلب السلامة واجلس في بيتك واستهد الله يهدك، خلنا منك ومن شرك، ولكنها النرجسية، هو عالم يُريد أن يُفهِم الشعوب، الشعوب الجاهلة كلها لا تفهم، انتبهوا مُمكِن في الحالة العادية يُوجِّه العالم شعباً كاملاً ويفهم ما لا يفهم الشعب، هذا صحيح في قضايا الفكر والفلسفة والنظر والتجريد وطبيعي بحكم التخصص، ولكن في قضايا الموت الشعوب تخرج تموت فلا تقل لها أنتِ غير مظلومة، أنتِ الشعوب تتدلَّعين، هذا دلع وترف، أنتِ تخرجين إلى الموت وإلى المذبحة من باب الترف، هذا غير مقبول فانتبهوا لكي نُفرِّق، حين أتكلَّم كمُثقَّف أو كمُفكِّر أو كعالم أو كفيلسوف في نظرية في الفلسفة اليمتافيزيقية أو في أصول الفقه أو في الأدب أو في التربية نعم، يُمكِن أن أتكلَذم على رأس ملايين وأن أكون أحسن مَن يتكلَّم، هذا مُمكِن بحكم التخصص وبحكم أن عندي ما ليس عندكم، ولكن حين يتعلَّق الأمر بأُناس يخرجون إلى المذبحة وإلى الموت لا يُمكِن أن تقول لهم أنا أدرى بمشاعركم منكم، مشاعركم مُزيَّفة، أنتم تشعرون بالمظلومية والمهضومية ولستم كذلك، هذا لا يُمكِن يا أخي، من أبسط مباديء التربية عليك أن تتقبَّل مشاعر الآخر حين يقول لك أحد الناس أنا مُنزعِج جداً لا تُناقِشه منطقياً، هو مُنزعِج وانتهى الأمر، كما يقول لك أحدهم أنا جائع لا تقل له أنت جائع، وجهك يبدو أنك لست جائعاً، فهذالا يجوز، هذا عبط ، هذا اعتباط أو تعابط، فقط  تقبَّل مشاعره، هذه الشعوب تدفع ثمن هذه المشاعر من دمائها وحيوات أبنائها وبناتها كل يوم، أقل شيئ سألتزم الصمت ولعنة الله على السياسة، بعض الناس ليست كذلك، الواحد منهم عنده حسابات سياسية، يقول أنا نصير لإيران لأن إيران تتحدَّى الصهيونية والأمريكان والغرب، هذه قناعتك وهذا جميل، أنا شخصياً عندي هذه القناعة، إيران ليست صديقة لإسرائيل في قناعتي أنا كعدنان إبراهيم وليست صديقة لأمريكا، أعلم هذا ولكنها دولة عندها سياسة وسياسة قذرة كمان في العراق وغير العراق، هذه سياسة مصالح،تُمارِس السياسة بالمعنى الميكافيللي إيران، وأنا أقول لكم هذا وهذا واضح جداً، لا أُحِب أن أكذب على نفسي ولكن أعلم أنها ليست صديقة لإسرائيل، ليست عميدة وليست عميلة لإسرائيل، أنا أفهم هذا ولا أستطيع أن أفهم غير هذا، يُمكِن مُخالَفتي في هذا لأن كل إنسان له رأيه، ولكن هذا الموقف شيئ وأن أُؤيِّد ذبح الشعب السوري لأن إيران تُريد هذا فهذا شيئ آخر، لن أفعل ذلك، هنا تحدث خيانة الضمير، أي تخون ضميرك، فلعنة الله على السياسة، حزب الله له مُشكِلته، حزب الله نحن قلنا فيه ما لم يُقل في الكُمَّل، ولكن حزب الله اليوم تحت وطأة حسابات سياسية مُضطَّرٌ أن يُؤيِّد النظام السوري في ذبح الشعب الحر الذي يُريد أن يتحرَّر من هذا الظلم المُخيِّم، فنقول له لا، لسنا معك، هذه الحسابات خاطئة، نحن لن نتقدَّم بالمُوافَقة.

لذلك أنا أقول لكم يا إخواني شيئاً وأقوله لنفسي أولاً، ضروري أن تُوجَد لدينا طبقة من المُثقَّفين والمُفكِّرين والعلماء من غير المُنتمين لا سياسياً ولا حركياً، انتبهوا فهذه لعنة، حين يكون كل مَن يتكلَّم يتكلَّم بإسم حزب وبإسم جماعة وبإسم حركة وبإسم طائفة فهذه تكون لعنة، سيتكلَّم مرةً بالحق وأخرى بالباطل، أنا أستمع إلى أمثال هؤلاء وأضحك ملء شدقي، يتكلَّمون ويقولون الشعوب الثائرة ثارت وانتصرت في تونس وفي مصر وفي ليبيا ويسكتون، ممنوع أن يقول الواحد منهم وفي سوريا،
ممنوع أن يقول هذا، هذه ليست ثورة وإنما هذا تمرّد ملعون مدموغ موصوم، لماذا يا رجل؟ ما الذي فرَّق بين الشعب السوري وبين هؤلاء؟ هذه نفس الطريقة ونفس المظالم ونفس السيناريو يتكرَّر، كأنه يقول نعم أنا مدفوع لي، أنا أرفع لافتة حزبية، هناك حسابات أنا مأمور بها، لكن هذا لا يجوز، ولذلك من هنا يحدث تزييف وعي العامة، يتزيَّف وعي الناس بسبب هذا، لكن لا يُمكِن أن نُزيِّف وعي البشر. 

لم يكن هذا موضوعنا ولكنني أحببت فقط أن أُهنّيء الأمة العربية والإسلامية والشعب الليبي، أحببت أن أُهنّيء أنفسنا بهذا النصر العظيم بإذن الله تبارك وتعالى، وأُهنّئهم أكثر – والله – بهذه النهاية التي لم نكن نتوقَّع سواها تقريباً، هذه نهاية كل ظالم، في المشهد الليبي كان الأمر واضحاً، إما أن يهرب ويفر بجلده وإما أن يُقتَل، وهذا طبيعي طبعاً، هذه نهاية مُرتقَبة على كل حال أو شيئٌ قريبٌ من هذا، لكن ما هو أعظم ويستحق التهنئة ألف مرة – أُكرِّر – سماحة الشعب الليبي وكرم الشعب الليبي وسعة صدر الشعب الليبي، بعض الناس قالوا هم مثَّلوا بالقذَّافي فضحكت، كيف مثَّلوا بالقذَّافي؟ أين؟ رأينا الصور عشرين ساعة بالأمس، هذه الدماء التي سالت منه بعد الرصاصات التي أُصيب بها ولم يُمثَّل بالرجل أبداً، الرجل كامل الجثة، لم نره مُجدَّع الأنف والأطراف، هل رأيتم أذنيه وقد اصطُلِمتا أو أنفه وقد جُدِع؟ لم نر شيئاً من هذا أبداً، لم يُمثَّل به، هم – كما قلت لكم – أخذوه من يده وأرادوا أن يسعفوه وأسفوا تقريباً على أن الله قضى فيه بالحق لا إله إلا هو، وكانوا يقولون انتقل إلى رحمة الله دائماً، لم أر مَن سبَّه، لم أر مَن قال الزنديق الملعون الكذا والكذا أبداً، الشعب الليبي راقٍ، هو حقيقةً راقٍ، لابد أن نعترف بهذه الحقيقة، هذا شعبٌ راقٍ، ثم أننا لم نر الغطرسة، أنا أتغطرس وأنتم تتغطرسون اليوم بمقتل القذَّافي، نتحدَّث بغطرسة وبفلسفة، لكن هؤلاء لا يتغطرسون، حتى الذين شرَّفهم الله بأن قبضوا عليه وأخذوا بيده يتكلَّمون بكل بساطة وبين الجُملة والجُملة يقولون والله أكبر، هذا يا أخي جمال، هذا شيئ جميل – والله – تقشعر له الأبدان، أكرمك الله أيها الشعب الليبي ونصرك الله وأعزّك الله ورفعك الله، إي والله، إي والله.

أنا مُوقِن – بإذن الله تبارك وتعالى – أن الغد الليبي سيكون غداً مُشرِقاً وعظيماً وطيباً، ولكن علينا أن نتعاون كلنا وبالذات الإخوة الليبيون من اليوم وأن نتوافق على مباديء هكذا تُؤكِّد هذه السماحة الليبية الأصيلة، إذا رأيتم في الغد ليبرالياً ليبياً أو يسارياً ليبياً أو إسلامياً ليبياً يتحدَّث بمنطق التعصب والانغلاق والإقصاء فاعلموا أنه يكذب على طبيعة الليبيين وأنه مدسوس على الشعب الليبي، صدِّقوني الليبيون ليسوا كذلك، الليبيون قبل حقبة مُعمَّر القذَّافي القاتمة البائسة التعيسة كانوا أكثر شعب مُسالِم في العالم، وقلت لكم هذا مرة في خُطبة القذَّافي، كان الجواز الليبي يُعتبَر جوازاً ذهبياً، كان رقم واحد في العالم، الليبي يدخل كل دول العالم من غير فيزا Visa سفر وذلك في عهد الملك إدريس، لماذا؟ لأن الشرطة الدولية لم تُسجِّل حالة واحدة لخرق قانون فضلاً عن جريمة أتاها ليبي خارج بلاده أبداً، شعب مُسالِم بطريقة غير عادية، فأفسد هذا الرجل طبائع بعض هؤلاء الليبيين بإسم الثورة وبإسم النظرية العالمية الثالثة، جعلهم مُجرِمين وقتلة يذبحون الناس ويُعذِّبون إخوانهم ويُفجِّرون الطائرات ويُروِّعون العالم الآمن، هذا المُجرِم هذا الذي قضى ما رأيتم أمس ولا أُحِب أن أصف، انتهى الأمر فالتشفي في الميت عيب، لقد قضى على النحو الذي رأيتم.

ومن وراء هذا الكلام أيضاً أُحِب أن أُهنّيء شعبنا البطل الصامد المُجاهِد الصابر المُحتسِب الشعب الفلسطيني العظيم على النصر الذي حقَّقه مع دولة الاحتلال المُتغطرِسة وبالذات مع نتنياهو Netanyahu، الرجل الذي كان لا أحد يطول رأسه،نتنياهو Netanyahu  كان يتحدَّى العالم وليس العرب فقط وإنما العالم،
ولكن ما كسر شوكة نتنياهو Netanyahu ولا أذله هذا الذل إلا أمران، صمود الشعب العظيم وخاصة صمود أهل غزة في حصارهم ونجاح العملية النوعية التي حدثت، تخيَّلوا في قطاع بسيط جداً ومحدود زُهاء خمس سنوات لم تُفلِح كل أجهزة الدولة الصهيونية ومَن عاونها على أن يعرفوا مكانه، وهذه عبقرية العربي، هذه عبقرية المسلم، هذه عبقرية المُجاهِد، هذه عبقرية المُقاوِم، وهى عبقرية نوعية، وهذا كان الشيئ الأول، الشيئ الثاني هو الثورات العربية طبعاً، نتنياهو Netanyahu  له أكثر من تصريح وأكثر من مقولة تُترجَم يقول فيها إني أرتعد مِن ما أرى، هكذا ترجمتها البسيطة، يقول أنا أرتعد مِن ما أري وله الحق، حُقَّ له أن يرتعد، والآتي أعظم بإذن الله تبارك وتعالى. 

نسأل الله – عز وجل – بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا في هذا المقام الكريم وفي هذه الساعة المُبارَكة أن يُتم فرحة إخواننا الثائرين المهضومين في سوريا وفي اليمن وفي كل البلاد وأن يُرينا يوماً أسود قاتماً أغبر – كما يُقال – في هؤلاء الطواغيت، في طاغية سوريا بشَّار ومَن لفَّ لفه وفي طاغية اليمن. اللهم آمين.

إن شاء الله يأتي هذا اليوم – بإذن الله تبارك وتعالى – ولن يكون مصيرهم أحسن من مصير القذَّافي، وعلى كل حال مصيره كان مصيراً دنيوياً حسناً جداً، لقيَ حتفه بسهولة بلا تعذيب وبلا إذلال وبلا تمزيق، لم يُمذِّقوه ولم يُقطِّعوه إرباً، لكن المصير الحقيقي بين يدي رب العالمين القائل حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ۩، وهناك يا قذَّافي ويا بشَّار لا أحد يزود عنك، لا تُوجَد حراسات –  Bodyguards – ولا تُوجَد كتائب ولا تُوجَد قدرة أن ترفع لا يدك ولا حتى تُحرِّك لسانك، تصلى عذاب الله – تبارك وتعالى – مخزياً مذلولاً مدحوراً إلى ما شاء الله، قال الله حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ۩.

والله الذي لا إله إلا هو لو كان الله – تبارك وتعالى – يعلم أن جهنم هذه لا تكفي في الانتقام من هؤلاء لعجَّل لهم العذاب في الدنيا، ولكنه يعلم أنها تكفي وتكفي وتُشفي صدور المُؤمِنين والمظلومين يوم القيامة، الكل سيشفى ويهنأ حين يرى انتقام الله من هؤلاء، أما بالنسبة للذي يقول – وأختم بهذه الكلمة هذا الموضوع – والله شعرتُ بالحزن حين رأيت القذَّافي فأنا أعلم وأعرف طبيعتنا العربية الخنوعة الغبية، تُوجَد طبيعة غبية فينا نحن العرب، نحن مُتسامِحون وعاطفيون، ولذا نجد مَن يقول والله – سبحان الله – الموت يا أخي حلَّال المشاكل وشعرت بالحزن، وأنا أقول له هذه مشاعر مُزيَّفة، انتبه سأُحلِّل هذا نفسياً، هذا ليس شعوراً بالحزن على إنسان في لحظة ضعف أبداً، هذا غير صحيح، أنا أقول لك هذا الشعور باليتم على رب اعتقدت ربوبيته من وراء وراء يا مسكين، هذه الفلسفة والروحية الطاغوتية أكلت شيئاً من ضميرك دون أن تدري، عليك ألا تلين لمصير هؤلاء، أحسن ما تتقدَّم به أن تقول أفضى إلى ما عمل، على الأقل لن ألعنه، سواء لعنت أو لم تلعن الأمر انتهى، كما قال تعالى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ماذا عمل عبد الله بن أُبي؟ قل لي بالله كم ألف قتل عبد الله بن أُبي؟ هو مُجرَّد رجل كذّاب كان يُناكِد رسول الله دائماً، فلعنة الله على عبد الله بن أُبي – إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ۩، والحديث ليس عن رجل قتل أربعين ألف في سبعة أشهر، علماً بأن هذه إحصاءات أولية، تسبَّب في قتل كل هؤلاء فضلاً عن عشرات الألوف لا يُعلَم مصيرهم ولا يُعرَف أين هم، هناك مقابر جماعية وألوف الفتيات الصغيرات التي انتُهِكَت أعراضهن، فضلاً عن الاحتقار والتنقص لسيدنا رسول الله لعشرين وثلاثين وأربعين سنة، طيلة حياة القذَّافي وهو يسخر من رسول الله، أنا أقول لكم أن عدوه الأكبر في البشر هو رسول الله، كل مَن قرأ سيرة هذا الرجل ووقف على ما كتب وعلى ما قال وعلى ما خطب يعرف أن أكبر عدو له في الهيئة البشرية هو محمد بن عبد الله، لم نسمع القذَّافي يوماً يتكلَّم بنوع من الحقد ومن الكره ومن الضغينة على كارل ماركس Karl Marx أو على نيتشه Nietzsche أو حتى على نتنياهو Netanyahu، لم يحدث هذا أبداً، يتحدَّث هكذا فقط عن الرسول محمد بالذات، بمُناسَبة وبغير مُناسَبة يأتي به ويغض منه، مَن أنت يا أحمق؟ فرنسوا فولتير Francois Voltaire الذي لو عاش القذَّافي مليون سنة يقرأ ويكتب ما بلغ عُشر دماغ فرنسوا فولتير Francois Voltaire، هو أكبر كاتب فرنسي في عهده وتقريباً في تاريخ الكتّاب والفلاسفة والأدباء الفرنسيين، هو الأكثر كتابةً، أكثر من ثلاثين ألف ورقة كتب هذا الرجل في الأدب والفلسفة والتاريخ وغير هذا، كان شيئاً عجيباً، فرنسوا فولتير Francois Voltaireغض مرةً من رسول الله لكنه مرة أُخرى أعلى من شأن رسول الله حقيقةً للإنصاف، ولكن مرةً يبدو أنه كان لم يتطوَّر فكرياً فغض من رسول الله، وبلغ هذا بعد ذلك نابليون Napoleon بعد الثورة الفرنسية طبعاً، وفولتير Voltaire كان قد مات، فعلَّق نابليون Napoleon بقوله وما عساه أن ينال من رجل التاريخ؟ محمد هذا رجل التاريخ، وأنت مُجرَّد كاتب فيلسوف، نعم جيد لكنك كاتب أما هذا رجل تاريخ، هذا بنى أمة، هذا أخرج أمة للناس وبنى حضارة، عنده دين عالمي مستحوذ على ربع العالم، فمَن أنت يا فولتير Voltaire؟ مَن فولتير Voltaire وغير فولتير Voltaire؟ نابليون  Napoleon  أذكى مليون مرة من القذَّافي الهالك، لكن القذَّافي يُمارِس هذا الدور المحقور ويُريد أن يغض من رسول الله،  يظن أنه في وهم وفي خاطر الليبيين أعظم من رسول الله فله أن يغض منه، فتباً له، له التباب طبعاً، له العار والنار والشنار، وهو ذهب إلى حيث ألقت، وسأكتفي بهذا لأن في الحقيقة موضوع خُطبتي كان شيئاً آخر ولكن هذا حدث ولا يُمكِن أن نتجاوزه.

موضوع الخُطبة ومن أجله قدَّمت بالآيات الكريمات تتحدَّث عن القسطاس وعن العدل هو عن طريقة تفكيرنا كبشر، لا أقول  كعرب أو كمسلمين وإنما كبشر، البشر عموماً يُفكِّرون بطريقة حدية وبطريقة استقطابية، مثل الديجيتال Digital اليوم، إما صفر وإما واحد لا يُوجَد وسط بينهما، وكذلك البشر يُفكِّرون بين نعم ولا، صح أو خطأ، صواب أو غير صواب، موجود أو غير موجود، جميل أو قبيح، محبوب أو كريه، ليل أو نهار، أسود أو أبيض، شابٌ أو كهلٌ، كهلٌ أو شيخٌ، وإلى آخره لكن هنا قد يقول أحدكم وما العيب في هذا؟ هذه الطريقة منطقية مُتسِقة وينبغي أن تكون هكذا، لكن بالعكس  هذه فيها عيوبٌ كثيرة، فيها جُملة عيوب وهى خطيرة طبعاً، علماً بأن القذَّافي مُصيبته أنه كان من هؤلاء الحديين جداً، أنا وكل ما بعدي صفر، أنا الحق المُطلَق وكلكم على باطل حتى محمدكم، هكذا كان هذا الرجل، وهذا في النهاية ينتهي بالإنسان إلى التألّه، الذي يقول أنا وأنا المُطلَق والحق المُطلَق كله عندي وما أقوله مُطلَق هو رب العالمين وحده، لا أحد يقول هذا، ولا أحد يُمكِن أن يكون بمثابة بحيث تُؤهِّله أن يقول هذا القول، هذا لرب العالمين فقط.

هذه الحدية خطيرة جداً جداً جداً، وهذه الحدية حين تسطو على وتستحوذ على المُتدينين تكون مُصيبة، وأنا يهمني دائماً الشأن الديني، هل تعرفون لماذا؟ قبل يوم حضرت حصة – كما يُسمونها التوانسة – أو حلقة مُتلّفَزة عن شباب جامعي يتناقش، قالوا ما هى الأيدولوجية التي سوف يكون لها قدم السبق ولها الصعود في العالم العربي؟ لكن هذا أمر مفهوم، هل تحتاج إلى نقاش؟ الأسلامية بدون أي كلام، سواء هذا يُعجِبك أو لا يُعجِبك هذا هو الحال، إذا أردت أن تكون علمياً ينبغي أن تعرف أن من الواضح جداً أن الذين يصعدون هم الإسلاميون، وذلك في كل الدول العربية، أكبر ناس يستحوذون على الساحة الإسلاميون، لا يُمكِن أن العامة في بلادنا تُعطي أصواتها وولائها للعلمانيين أو لليبراليين أو لليساريين، هذا حلم إبليس في الجنة حالياً، هذا مُستحيل وهذا أمر واضح، سواء هذا يُرضيك أو لا يُرضيك هذا هو الواقع، ولابد أن نُقرِّر الواقع كما هو، عندنا عليه نقادات أو تنقيدات وهذه مسألة ثانية، لكن هذا هو الواقع على كل حال، ولذلك لابد أن نهتم كإسلاميين وغير إسلاميين بالتنقيد على الخطاب الإسلامي وعلى الوضع الإسلامي، لكن ليس بداعي التشفي ولا بدواعي أيدولوجية فانتبهوا، وإنما بدواعي الإصلاح وخدمة مصالح الشعوب والأوطان، وإلا سوف نضيع جميعاً لأننا في مركب واحد، أقول خطير جداً حين يُفكِّر المُتدين على هذا النحو،  لأنه يُفكِّر على أساس مِن المُقدَّس ومن النص الإلهي، يظن نفسه أنه يُمثِّل رب العالمين ورسول رب العالمين حين يتكلَّم، وهذا شيئ خطير جداً جداً جداً حين يُفكِّر بهذه العقلية الحدية، فيُقال صح وغلط، الله قال يا أخي فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۩، يُوجَد حق وضلال، صواب وخطأ، أسود وأبيض، وهذا خطير جداً، هذه الطريقة الاستقطابية في التفكير تسمح لأصحابها أن يستعينوا بشعار اقتل الشر يحيا الخير، الشر واضح والخير واضح، اذبح الشر يبقى العالم عالماً مُتمحِّضاً للخير، لكي يكون عالماً نقياً – Pure أو Rein – خالصاً، كل الناس طيبون أمثالنا، ما هذا؟ هذا منطق مُخيف جداً، وهذا حدث في تاريخ الأديان ولا يزال يحدث، صحيح ربما تكثيف هذا المنطق بعبارة مثل اقتل الشر يحيا الخير  لم يقل به أحد إلى الآن على الأقل في العالم العربي لكن في الغرب فعلوه كثيرون، عدة فرق في أمريكا وفي أوروبا شعارهم كان اقتل الشر يحيا الخير، ولذلك لا قانون ولا محاكم ولا قضاء ولا بيِّنات ولا أدلة، يقول الواحد منهم أنا أقوم بهذا بنفسي وأنا مُرسَل من عند الله، كل مَن أرى أنه يُمثِّل الشر لابد أن أُزيحه من طريق الأخيار، وهذا المنطق مُخيف جداً، وفي النهاية هذا يُؤدي إلى احتراب داخلي داخل الصف الواحد، كل مَن لا يتطابق معك تماماً حذوك القذوة بالقذوة يُحسَب على الشر فيُنهى، وهذا منطق مُخيف فانتبهوا، لابد أن نتعلَّم وأن نرى، كان يُمكِن أن نتناول لو لدينا للأسف فُسحة من الوقت هذه المسألة من زوايا علمية وفلسفية ولكن أفضل نبدأ بزاوية دينية لضيق الوقت، وهنا قد يقول لي أحدهم أن الله قال فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ ۩ وأن الله قال اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩ ومن ثم يُوجَد صراط واحد وتُوجَد صُرُط مُتعدِّدة وكلها باطلة، فالأمور واضحة وانتهى كل شيئ، ليس بعد الإيمان إلا الكفر، إما مُؤمِن وإما كافر، لكن هذا غير صحيح، بالعكس الدين  والنصوص في كتاب الله وسُنة المُصطفى – عليه الصلاة وأفضل السلام – مُتظاهِرة ومُتضافِرة على تقرير وتدعيم وتشييد بناء طريقة أخرى في التفكير، إنها طريقة المُتصَل – Continuum – وطريقة المُدرَّج وطريقة السلم، وهذا الشيئ عجيب، هذه إضافات غريبة وهى موجودة الآن وسوف نأتي ببعض الأدلة – إن شاء الله – من الكتابِ والسُنة، نحن الآن نقتنِعُ وببساطة نقول هذا جميل وهذا قبيح، لكن هذا غير صحيح، في الحقيقة الذي لا يختلف الناس على كونه جميلاً أو وسيماً قلة نادرة من البشر والله أعلم ما مقدارها فنحن ليس عندنا إحصائيات، قد تكون بنسبة واحد في المائة أو واحد في الألف أو واحد في العشرة آلاف فلا ندري،والذي لا يختلف البشر على أنه قبيح قباحة مُؤذيةهو نادرة من البشر، مُعظمنا -مُعظم البشر – أين يتموّضَعون؟ ليس في الحدين الأقصيين، ليس في هذه النُقطة التي في أقصى اليمين ولا في تلك النُقطة التي في أقصى اليسار، في أقصى اليمين جميل لا اختلاف على جماله، والكل يُذهَل من جماله أو من جمالها، لكنه  قليل جداً، هذا الجمال ليوسف يا أخي، فهذا قليل جداً، وفي أقصى اليسار قبيح جداً، يُمكِن أن تتخذ له صورة لإفزاع أولادك في الليل حتى يناموا مُبكِّراً، لكن هذا قليل جداً، هذا القبح الإبليسي كما يظن الناس، أما مُعظم الناس يتموّضَعون حول نُقطة الوسط، لو مثَّلنا هذا بنقاط مُتكاثِفة أو مُتباعِدة تقريباً الصورة ستكون صورة مجرتنا درب اللبن، درب التبانة ثخينة في المُنتصف ونحيفة عند الطرفين، في أقصى اليمين الجميل، وفي أقصى اليسار القبيح، ومُعظم الناس أقرب إلى الجمال أو أقرب إلى القبح، أي بين بين، وهنا تدخل مسألة الأذواق والثقافة، نحن نرى هذا الشيئ أقرب إلى القبح وغيرنا يراه أدخل في الجمال، ويقول لك أحدهم لا بالعكس، هذا جميل، هل أنت لا تُلاحِظ هذا؟ نعم لا أُلاحِظ هذا، غير قادر على أن أُلاحِظ، فهذه مسألة أذواق صعب أن نُحكِّم فيها منطق الاستقطاب، يُقال لك الشيبوبة والكهولة أو الشباب والكهولة، لكن أين هذا؟ أين بالضبط بصراحة؟ كم عمرك؟ ثلاثون سنة، قال لك هم قالوا المرء يكون شاباً حتى  الربعة والثلاثين، لماذا؟ لماذا يُقال هم قالوا؟ هذه مواضعات اجتماعية العرب اتفقوا عليها، لكن غير العرب لا يقولون بهذا فانتبهوا، أين الحد؟ نرى شخصاً عمره ثلاثة وثلاثين وكأن عمره ثلاثة وعشرين، ونرى شخصاً عمره ثلاثين كأن عمره خمسين، مُتهالِك وكُهنة كما يُقال، فأين هذا؟ أين الحد بالضبط الذي تنتهي عنده مرحلة الشباب وتبدأ مرحلة الكهولة وتنتهي الكهولة وتبدأ الشيخوخة؟ غير موجود، هذا لا يُوجَد في الطبيعة، هذا أمر مُستحيل، تماماً مثل ألوان الطيف، أين ينتهي – مثلا – الأحمر ويبدأ البرتقالي أو الأصفر في ألوان الطيف؟ أين ينتهي الأزرق ويبدأ البنفسجي؟ هذا التدرج يستحيل على العين أن تلحظه، وأي حد يُوضَع هنا يُقال عند النانومتر Nanometer كذا – مثلاً – ينتهي الأزرق ويبدأ البنفسجي – وطبعاً طول موجة البنفسجي أقل، فالبنفسجي هو الأقل والأحمر هو الأطول – غير موجود في الواقع، هذه أشياء اعتبارية مواضعتية ليست في الطبيعة، نحن تواضعنا عليها من أجل التصنيف ومن أجل اعتبارات عملية، هذا هو فقط، لكن في الطبيعة هذا غير موجود، الطبيعة لا تُؤمِن بهذا، الطبيعة تُعطيك كل شيئ مُتصِلاً، أي في شكل مُتصَل ومُدرَّج، الآن نقول طويل أو قصير، فكيف نعرف؟ كيف نعرف أن هذا الشخص قصير؟ لو أتينا بالناس وصففناهم  في صف واحد من الأطول إلى الأقل إلى الأقل وهكذا ما الذي يحدث؟ سوف يُوجَد خطٌ مائل، لكن أين النُقطة التي ينتهي عنده الطويل ويبدأ القصير؟ لا تُوجَد نُقطة، هذا مُستحيل طبعاً، هذا مُتصِل – Continuum – أو مُدرَّج، الطبيعة هكذا تُعطينا، إذن ماذا يُمكِن أن نقول؟  في قضايا كثيرة وخاصة القضايا التي تتعلَّق بالأفعال البشرية وتقييمها على خلفية من القيم والمباديء والمثل وفي قضايا الأذواق والتقييم الفني – في هذه القضايا بالذات – من الخطير ومن الخطأ في الجُملة أن تعتمد المنطق الاستقطابي كأن تقول نعم ولا أو واحد وصفر، هذا غير صحيح، يُمكِنك أن تعتمد منطقاً أكثر مرونةً، يُمكِنك أن تعتمد منطقاً مُدرَّجاً، لدينا هنا في أقصى اليمين الصواب المُطلَق، وواضح أنه صواباً مُطلَقاً، لكن لدينا أمور أُخرى، ولنُمثِّل بالخير والشر، قل لي هل التقيت في حياتك بإنسان هو خيرٌ مُطلَق؟ أحسن إنسان التقيت به في حياتك – لأننا لسنا في عهد الأنبياء – من المُؤكَّد أنك ضبطته مُتلبِّساً بالكذب أكثر من مرة أو  لاحظت انفعاله الحاقد أو الحسود أو الغيور من نجاحات غيره أكثر من مرة أو لاحظت عدم إقساطه وعدم عدله في الحكم على خصومه أكثر من مرة، وهنا لا تقل لي هذا شر مُطلَق، هو ليس شراً مُطلَق بالعكس، وهو ليس خيراً مُطلَقاً أيضاً، هو فيه وفيه، وسوف نرى بعد ذلك الأغلب، ما هو الأغلب في هذا الرجل؟ لكن كيف سنعرف الأغلب؟ هل سنُجري له دراسة تقويمية؟ لا لن نفعل هذا، وإنما سنعرف بالانطباع، وأنت تستطيع أن تقول  لو كنت أميناً مع ضميرك لدي انطباع ان هذا الإنسان خيّر على هاناتٍ فيه وأنا كلي هانات، وذاك الإنسان  كالقذَّافي – مثلاً – فيه بعض الأمور الخيِّرة، هذا أمر مُؤكَّد، لكن ما حجمها؟ نُقطة في بحر، في بحر الشر تُغمَر ولا تُحسَب، النادر لا حكم له، فالانطباع الأولي إزاء شخصية مثل القذَّافي أنه شرير -شخصٌ شرير – والعياذ بالله، فهذا ما يحدث في قضايا الخير والشر، أنا أقول لك أن الناس الذين تقول أنهم يُمثِّلون الخير التام أو الكامل بالنسبة لي لو أسعدك الحظ والتقيت بهم هم قلة بل ربما تقول هو واحد في حياتي، أنا لا أزال أتذكَّر رجلاً واحداً يُمثِّل الخير التام الذي رأيته في حياتي، والنبي قال كَمُلَ من الرجال كثير، فهذا مُمكِن وهذا قد يكون من بعض الكملة، ولذلك القرآن الكريم ماذا يقول؟ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ۩  أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ۩، لكن كم هؤلاء؟ هؤلاء – ما شاء الله – في أقصى الخير، ليسوا بأنبياء ولكن هم في جوار الأنبياء وعلى تخوم الأنبياء ما شاء الله، لكن ماذا قال الله عنهم؟ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ ۩، في أصحاب رسول الله كانوا – ما شاء الله – مجموعة كبيرة، وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ ۩، نحن فينا القليل، هل تُريد أن تجد أحداً من هؤلاء السابقين المُقرَّبين؟ هذا قليل جداً جداً جداً، والله هو الذي قال هذا، هذا شأن الله، يقل أن تجد اليوم أُناساً في مثل يقين وجهاد وإيمان وتوكل الصحابة، ثم أننا بعد ذلك عندنا
أصحاب اليمين، مَن هم أصحاب اليمين؟ هؤلاء أُناس يغلب خيرهم شرهم، عندهم شر لكنه قليل، وعندهم خير كثير بفضل الله، ولكنهم ليسوا كالسابقين، قال الله ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ ۩ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ ۩، لماذا؟ لأن عموماً في كل شيئ – كما قلت لكم – مثل الخير والشر والجمال والقبح والذكاء والغباء الناس تتموّضَع في المُنتصَف، في مجرة درب التبانة نتموضع في الوسط، وأما في الحدين الأقصيين قلة، قلة في أقصى اليمين وقلة في أقصى اليسار، العباقرة كم نسبتهم؟ قليلة، هم قلة قليلة، وهذا إذا اتفقنا على تعريف ما هى العبقرية أصلاً، يُقال لك هؤلاء العباقرة قلة في أقصى اليمين، المجانين ونزلاء المُستشفيات النفسية والعقلية كم نسبتهم؟ قليلة، فهم قلة قليلة أيضاً، ومُعظم المُجتمَع ليسوا مجانين وليسوا عباقرة، فأين إذن مُعظَم الناس؟في المُنتصَف، في هذا المكان الثمين هذا، هؤلاء هم البشر، المجانين قلة والعباقرة قلة لكن الناس الطبيعيون كثرة، أما الناس الشاذون عن الطبيعة قلة، لكن أين الحد؟ لا يُوجَد حد، لا تستطيع هذا ومن ثم نحتكم إلى الانطباع عموماً، وبما أن الانطباعات تختلف من شخص إلى شخص ومن حالة إلى حالة وبحسب البواعث وبحسب المُسبَقات وبحسب المفروضات وبحسب حتى الثقافات – نطاق ثقافي ونطاق ثقافي آخر – إذن علينا أن نكون حذيرين حين نُطلِق أحكاماً تقويمية وتصنيفية على الآخر، الآخر فكراً والآخر مُعتقَداً والآخر عرقاً والآخر ديناً إلى آخره.

 نفترض أن مُزارِعاً ما يتعيَّش من غلته اليومية أو الموسمية، وهذا المُزارِع تكون له سلتان مثلاً، سلة يضع فيها ما يأخذ طريقه إلى السوق مثل الخضروات والأثمار والأشياء التي تصلح لأن تُباع في السوق، وسلة أُخرى يضع فيها ما يأخذ طريقه إلى ماشيته علفاً لها، ولكن هنا تُوجَد مُشكِلة وهى أن هناك بعض الأشياء التي لا يُمكِن أن تكون علفاً للماشية ولكن في نفس الوقت من الصعب أن نقطع بأنها تصلح للعرض في سوق مُحترَمة، فماذا نفعل؟ إذن ينقصنا سلة ثالثة، جميل لو أن هذا المُزارِع كان مرناً وقال لابد أن أصطنع ثلاث سلال وليس سلتين، والسلة الثالثة ينتهي إليها ما لا يُقطَع بصلوحيته للعرض في السوق وما لا يُقطَع بأنه علف ماشية، لماذا؟ لإعادة الفرز، بعد ذلك على الهوينة بهدوء نُعيد فرزه ومن المُؤكَّد أننا سنجد منه بعض الأشياء التي من المُمكِن في النهاية أن نُرجِّح أنها تكون من السلة الأولى، وبعض الأشياء سوف نتساهل ونتسامح فنضعها في السلة الثالثة، ومن هنا سل نفسك كم سلة في دماغك؟ أنت كم سلة لديك؟ مُعظم الناس لديه سلتان فقط، حق أو باطل، معنا أو ضدنا، ملعون والديه أو قديس من القديسين والأولياء، وهذا غلط، اجعل عندك سلة ثالثة على الأقل، وطبعاً السلاس المفروض تكون ثلاثين فانتبه، سوف تكون كذلك كلما كنت مُفكِّراً أكثر وفيلسوفاً أكثر وذكياً أكثر كالعلَّامة ابن خلدون الذي قال لو وقف المرء على أكثرِ ظروف البشر لعذر الجميع، انظر إلى ابن خلدون، هذا عقل جبَّار وهو فيلسوف التاريخ والاجتماع، قال لو وقفت على ظروف الناس – حتى ظروف الحضارات والمُجتمَعات وليس فقط الأفراد – سوف تعذر كل الناس، سوف تقول  كل شخص عنده عذره، وظروفه هى التي هيَّأته لهذا، وهذه أنا أسميها المشروطية وقد عملت عليها مرة خُطبة، فانتبه إلى المشروطية وإدراك المشروطية، ولذلك حين أفهم هذا وحين تفهم هذا يا أخي المسلم وحين تفهمين هذا يا أختي المسلمة سوف نرتاح – والله العظيم – جداً، أنا أشعر بطمأنينة مُطلَقة إزاء رب العالمين وأقول هو الذي يعرف، وأشعر بفيض رحمة غامر إزاء حتى مَن لا أُحِب وما لا أُحِب مِن البشر ومسالكهم، أقول أنا أرى أن من المُمكِن أن يكون هذا حقيقاً بجهنم لكن ما يُدريني؟ من المُمكِن أن هذا المسلم الطالح المُنحرِف يسبقني بسنين يوم القيامة إلى الجنة، وأتساءل لماذا يارب؟ هو كان كذا وكذا فلماذا؟ والله يقول لي أنت لا تعرف شيئاً، أنا أعرف ظروفه، ولو كنت أنت في ظروفه لكنت مثله، بالأمس كنت أتحدَّث مع أحد الناس وقلت له ما يُخيفني حقاً – وفعلاً هذا أخافني ونمت على هذا الخوف بالأمس ليلة الجمعة – أن الله يوم القيامة يُبدي لنا من دقة الحساب شيئاً يقطعُ النياط منا، فقال لي كيف؟ ماذا تُريد؟ قلت له ما أدراني لو كنت أنا مكان القذَّافي حاكم بأمري والدنيا كلها بين يدي أنني كنت أكون أسوأ منه ولا أحتمل مَن يقول لي “لا” وأسطو بالجميع وأكون ألعن منه؟ ما يُدريني؟ قال لي هذا أمر عجيب، هل لا يعرف المرء نفسه؟ قلت له نعم لا يعرف المرء نفسه، المرء يكذب على نفسه وأنا امرؤٌ من البشر، نحن نُدمِن الكذب على أنفسنا وندّعي وندّعي، ولذلك  انظروا حتى في رجال الدين وفي العلماء وخاصة إذا كان العالم عالم سُلطة، هو أيضاً خريج جامعة الإمام أو خريج الأزهر الشريف أو القرويين أو ديوبند وتعلَّم على نفس المشائخ لكن إذا حظه ألقى به في طريق السُلطة أو ألقاه في طريق السُلطة فسوف يحدث شيئ غريب، سوف يكون عنده منطق غير طبيعي في تحسين الظن بهذا الطاغية وتبرير كل أفعاله وكل جرائمه وحتى كل كفرياته، ويكون مُقتنِعاً بهذا ويبكي، فمُفتي القذَّافي كان يبكي في التلفزيون Televisionالليبي، يبكي على ليبيا وعلى الجرائم التي تحصل في ليبيا، لماذا؟ الرجل يبكي والثوَّار يبكون وأنا أبكي وأنتم تبكون.

إذا اشْتَبَهَتْ دُموعٌ في خُدودٍ                          تَبَيّنَ مَنْ بَكَى مِمّنْ تَباكَى.

ما عُدنا نعرف مَن الذي يبكي، والرجل ربما يبكي بصدق، فهو يخدع نفسه، ونفس هذا الشيخ لو أخذته ووضعته في طريق الثوَّار وجعلته ضحية للقذَّافي سوف تنقلب طريقته في التفكير تماماً، وطبعاً النصوص ستُسعِفه، الآيات والأحاديث وابن تيمية وابن قتيبة وما إلى ذلك دون أي مُشكِلة، سوف يأتيك بالأدلة ويقول هذا لازم لأن هذه حرب بُغاة وإلى آخره، هذا أمر عادي، لكن لماذا؟ انتبهوا لأن المسألة خطيرة، ولذلك نحمد الله على السلامة ونسأل الله أن تكون عاقبة هذه السلامة الدنيوية نجاةً في الآخرة إن شاء الله، وطبعاً هذا الذي يغلب على ظننا أن الله لا يُؤاخِذنا إلا بما كسبت أيدينا إن شاء الله، ولكنه سيُبدي لنا شيئاً عظيماً من دقته وبالتالي من رحمته، سوف يقول تعال يا عبدي أنت، يا مَن كنت تبكي على الدنيا، يا مَن كنت تُناضِل وتبكي على المناصب لأنك لم تنل منصباً حقيراً، انظر نفسك لو كنت مكان القذَّافي ماذا ستفعل، من المُمكِن أن رب العالمين يُريك هذا بقدرته وترى نفسك مكانه، ويكون القذَّافي صانع يدوي غير مُحترِّف للجريمة بالنسبة إليك، أما أنت – ما شاء الله – Mass production، من المُمكِن أن تُهلِك قارات كاملة، ما يُدرينا؟ وهنا قد يقول لي هذا المنطق فيه مُبالَغة لكنه ليس فيه مُبالَغة على الإطلاق، بدليل كل واحد فينا مر بتجارب تُشبِه هذا، مَن الذي يقول لي أنه بعد ان خضع للامتحان وللتجربة لم يخب ظنه في نفسه مرات؟ مَن؟ كلنا كذلك وأنا ذلكم الرجل، بعدما تخضع لامتحان مُعيَّن يخيب ظنك في نفسك وتقول كنت أظن نفسي أحسن من هذا، لماذا؟ هذا حدث مع  الصحابة أنفسهم، وهذا سيُغضِب الذين يرون الصحابة كلهم على أنهم واحد – لا يُوجَد  صفر – وعلى أنهم النهايات العُظمى جميعاً، لماذا واحد؟ لا يُوجَد واحد، هذا غير صحيح، هذا المنطق ضد المنطق وضد القرآن وضد العقل،اليهود والنصارى لم يقل الله في حقهم يُوجَد صفر وواحد، وإنما قال يُوجَد مُدرَّج، قال الله لَيْسُواْ سَوَاء ۩، أي أنهم لا يستوون، يُوجَد يهودي مُمتاز ونصراني جيد ويهودي ملعون خبيث ويهودي ضائع ويهودي ولا يفهم لأنه مُنافِق، فهذا كله موجود، وموجود هذا في الصحابة وإن كان مُعظمهم على الإطلاق هم الخيرة الأفاضل الأماثل، لكن فيهم هذا، فيهم المُنافِق والكذَّاب والمدسوس والغلبان والخائن والذي عمل كذا وكذا، هذا عادي وهو موجود في البشر، قال الله مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ۩، قال ابن مسعود والله ما كنت أظن أن منا مَن يُريد الدنيا حتى أنزل هذه الآية، الله قال هل تظنون أنكم مثل بعض؟ هذا غير صحيح، الله قال للصحابة هذا، قال منكم طلَّاب دنيا ومنكم طلّاب للآخرة، حيث يُوجَد أُناس يُريدون الدنيا وأُناس يُريدون الآخرة، قال الله إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ  ۩، إذن يُوجَد أُناس استزلهم الشيطان، قال الله أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ۩، يقول ابن مسعود استعتبنا الله، فالقلوب بدأت تقسو وتعسو، وهذا طبيعي لأننا بشر، لا تقل لي هناك طائفة بشرية بإسم أنها صحابة أنها على صواب كامل، هذا غير صحيح، فيهم وفيهم وهذا طبيعي جداً، هذا مُدرَّج فيه أقصى وأقصى ووسط، ومُعظمهم في الوسط طبعاً، هم ناس مسلمون طيبون، ولذا المُعظَم في الوسط، كم عليّ بن أبي طالب في الصحابة؟ كم عثمان في الصحابة؟ كم عمر في الصحابة؟ كم مُعاذ في الصحابة؟ كم حُذيفة في الصحابة؟ كم عمَّار في الصحابة؟ كم أبو ذر في الصحابة؟ كم كذا وكذا؟ هؤلاء قلة، بحسب تعريف العلماء العام للصحابة قالوا النبي مات عن مائة وعشرين ألف من الصحابة، فأين هؤلاء؟ أين تراجمهم؟ أين آثارهم في الإسلام؟ أين أعمالهم المشكورة العظيمة؟ هم بشر عاديون وكانوا بسطاء وطيبين في المُتوسِّط، وكذلك أعداء الأمة أيضاً، الله قال لَيْسُواْ سَوَاء ۩ وإن كانوا في الجُملة هم أعداء وأكثرهم ينتمي إلى الطرف الأقصى في اليسار، لكن منهم مَن يقترب منا وهم أقرب إلينا،حنانَيْكَ بعضُ الشرّ أهوَن من بعضِ، قال الله وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ۩، وهذا المنطق لا يفهمه اليوم المسلم العامي، المسلم العامي يقول اليهود خوَّانون العهود، لكن الله لم يقل هذا يا أخي، الله لم يقل اليهود خوَّانون العهود، ومع ذلك يُقال لأنه يهودي هو خوَّان العهد أكان إسرائيلياً أو غير إسرائيلي، وهذا غير صحيح، قال الله  وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ – يُعطيك قنطاراً من الذهب – وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۩، وهنا سيأتيني شخص سفسطائي ويقول لي حتى المسلمون كذلك، وهذا صحيح لكن العبرة بالأغلب، الأغلب على المسلمين – المفروض يكون هكذا لو كان مسلماً حقيقياً – الأمانة، أليس كذلك؟ والأغلب على هؤلاء الخيانة، ولكن الله قال أيضاً أنا لن أُعطي تعميماً جائراً وإنما سأتحدَّث عن المُدرَّج، يُوجَد مُدرَّج ومن ثم فيهم هؤلاء وفيهم هؤلاء، وكذلك في هذه الأمة وفي كل أمة، النبي ماذا يقول؟ أربعٌ مَن كن  فيه كان مُنافِقاً خالصاً، انظر إلى هذا الكلام، النبي يقول النفاق لا يثبت بصفة واحدة، لا يثبت إلا باجتماع أربع صفات، لابد من وجودها كلها، لو وُجِدَت ثلاثة سوف يكون ثلاثة أرباع مُنافِق، وهنا قد تسألني هل حقاً يُوجَد ثلاثة أرباع مُنافِق؟ نعم يُوجَد، والنبي يُعلِّمنا أنه يُوجَد المُنافِق الخالص ويُوجَد نصف مُنافِق ويُوجَد ثلاثة أرباع مُنافِق ويُوجَد ربع مُنافِق بحسب ما يتوفَّر فيه من خصال، فما هذا الحديث العجيب؟ هذا مُخرَّج في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو رضيَ الله تعالى عنهما، النبي قال هذا، لا تقل هذا يكذب وهذا مُنافِق، هذا عيب وستُسأل عن هذا يوم القيامة، إذا أردت أن تكون دقيقاً قل هذا فيه شيئ من النفاق لأنه مُدمِن الكذب، النبي قال مَن كن  فيه كان مُنافِقاً خالصاً.

بالنسبة للقلوب يُقال لك – مثلاً – هذا قلب مُؤمِن، لكن هذا ليس شرطاً، من المُمكِن أن يكون في قلب المُؤمِن إيمان وكفر وإيمان وشك وإيمان ونفاق، فما رأيكم؟ وهنا قد يقول لي أحدكم هذا أمرٌ عجيب، لكن النبي قال هذا، والله قال هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ ۩، لم يقل كفروا ولم يقل هم مُؤمِنون، وهذا أمر عجيب، إذن ماذا قال؟قال هم يتأرجحون ويتحرَّكون على مُدرَّج الكفر والإيمان، في اللحظة تلك وفي الموقف ذاك كانوا أقرب إلى الكفر، وهنا قد يقول أحدهم أن الله قال أيضاً فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۩، إذن كيف نفهم الآية حتى لا نضيع؟ الله يقول فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۩ بمعنى الحق الفاقع القريب من الطرف الأقصى و الضلال الفاقع القريب من الطرف الأقصى أو يُمثِّل الطرف الأقصى، فهنا الأمور واضحة تماماً، كما قلنا جميل جداً وقبيح جداً، ذكي جداً وعبقري لمَّاح مُخيف مُرعِب وغبي بليد تنبال بشكل مُرثي – يُرثى له – جداً، فهنا الأمور واضحة، هذا معنى فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۩، ولكن في مناطق الوسط لابد أن تقول أقرب وأبعد، استخدم السلة الثالثة والسلة الرابعة والخامسة، فعندك حقٌ مُطلَق وعندك حقٌ مُرجَّح ترجيحاً عظيماً وعندك حقٌ راجح وعندك حقٌ أقل أرجحية – مشكوكٌ فيه – وبعد ذلك عندك باطلٌ مُطلَق وعندك باطلٌ مُرجَّح ترجيحاً كبيراً وعندك باطلٌ راجح وعندك باطلٌ أقل أرجحية وهكذا، فهذا مُدرَّج طبعاً، وهكذا في الآراء وفي غير هذا، فهذا موجود حتى في الإيمان!

روى أبو سعيد الخدري وحُذيفة بن اليمان رضيَ الله تعالى عنهما – وأخرجه الإمام أحمد في المُسنَد عن أبي سعيد بن أبي شيبة عن حُذيفة بن اليمان وغيرهم – أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال القلوب أربعة، قلبٌ أجرد – هل تعرفون ما معنى أجرد؟ عارٍ وغير مُغطى، الحمد لله كالكوكب الدري، ما من غطاء يُغطيه أو ستر يستره – فيه مثل السراج يُزهِر، وقلبٌ أغلف مربوطٌ على غلافه، وقلبٌ منكوس، وقلبٌ مُصفَح، ثم بدأ يُفسِّر النبي، القلب الأجرد قلب المُؤمِن، سراجه فيه نوره الذي هو الإيمان، والقلب الأغلف المربوط على غلافه –  قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۩، فهذه مطبوع عليها ومختوم عليها والعياذ بالله – قلب الكافر، لا الكفر يخرج ولا الإيمان يدخل، لا يُوجَد مثل هذا الكلام، خرسانة مُسلَّحة وانتهى كل شيئ، فهذا الطرف الأقصى تماماً، والمُؤمِن هو الطرف الأقصى الآخر، أي المُؤمِن المُتميِّز إيماناً، وبعد ذلك قلبٌ منكوس وهو الذي  يتردَّد في نُقطة الوسط التي هى اعتبارية أيضاً بين هؤلاء وبين هؤلاء، قال تعالى مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ ۩، يأتي عند النبي فيسمع ويبكي ويقتنع ويقول لك هذا مضبوط وصحيح ومن ثم نحن نُؤمِن به، ويكون هذا المسكين صادقاً مع نفسه في اللحظة، ثم يذهب عند عبد الله بن أُبي أو عند أبي جهل فيكفر ويقول لك هذا مضبوط، محمد هذا دجَّال، فهذا مريض وشخصيته مُعتَلة، مرة هنا ومرة هنا، قال النبي القلب المنكوس قلب المُنافِق عرف – أيقن في لحظة مُعيَّنة – ثم أنكر، وتشبيه قلب المُنافِق في أول سورة البقرة، قال الله أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ۩، فالمُنافِق إذا وجد الضوء يسير وإذا وجد المسكين غير هذا يتحيَّر، إذا رأى مُعجِزة أو كرامة يُؤمِن وإذا رأى غير هذا يُنكِر ويتحيَّر مرة أُخرى، فأعوذ بالله من النفاق، آخر شيئ قال القلب – والعياذ بالله – المُصفَّح، ما هو المُصفَّح؟ القلب المُصفَّح قلبٌ فيه إيمان وفيه كفر أو نفاق، النبي يقول فيه الاثنان، فلا تقل لي هذا قلب مُنافِق أو هذا قلب مُؤمِن، هذه حالة وسط بين الحالتين، يُوجَد إيمان حقيقي  ويُوجَد نفاق حقيقي أو كفر حقيقي، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثلُ النفاق أو الكفر فيه كمثل القرحة – دمل فيه صديد – يمدها الدم والقيح، فأي المادتين غلبت غلبت عليه، أي أنه في النهاية إما يكون هذا وإما يكون ذاك، وهذا عجيب يا رسول الله، ما هذا المنطق العجيب؟ رسول الله هنا يُعلِن البراءة من أرسطو Aristotle، قال أنا لا أقول بمنطق أرسطو Aristotle، منطق أرسطو Aristotle منطق صارم، منطق نظام – System – ونسق مُغلَق، أي كالأنساق المُغلَقة، وأكبر مثال على الأنساق المُغلَقة الرياضيات، الرياضيات نسق مُغلَق ولذلك الرياضيات ليس فيها صحيح ونصف صحيح، فيها صحيح أو غلط، النتيجة دائماً إما صحيحة وإما غالطة، هذه هى الرياضيات، هذه هى الرياضيات، لا تقل لي جمع اثنين مع اثنين يُساوي رقماً مُحتمَلاً بين الأربعة وبين الخمسة، هذا غير صحيح، هذه العملية الحسابية تُساوي أربعة فقط، وأي شيئ آخر سوف يكون جواباً غالطاً،
ويُوجَد أُناس نظام القيم ونظام التفكير عندهم يكون نسقاً مُغلَقاً، يفترض الواحد منهم مفروضات مُعيَّنة وقبليات ينطلق منها ويبدأ يستخرج كل شيئ، وهذا غلط طبعاً، لابد أن تكون أكثر مرونةً – كما قلنا – وأن تُكثِّر وتُعدِّد سلالك – تضع أكثر من سلة – وأن تعمل مُدرَّجاً، فالنبي قال القلب هذا فيه كذا وفيه كذا، والناس اغتروا بمنطق أرسطو Aristotle، القانون الثالث في المنطق العقلي وفي المنطق الصوري إسمه القانون الثالث المرفوع Excluded Middle، فالشيئ إما حي وإما ميت، إما موجود وإما غير موجود، وهذا القانون يعمل في التناقض، أي في عالم المُتناقِضات، لكن ليس شرطاً أن يعمل في عالم الأضداد، غير الأسود والأبيض يُوجَد عندنا الأصفر والأحمر والبرتقالي والبني والبنفسجي وأكثر من خمسين ألف لون، يُوجَد عندنا مليون وسبعمائة وخمسين ألف لون، وهذا الذي اكتشفناه فقط، فهذا موجود إذن، وقانون الوسط المرفوع لا يعمل في القيم أو في الأذواق أو في الحكم على مسالك الناس بالحدية النسقية المُغلَقة التي تقول إما نعم وإم لا، هذا غلط طبعاً، ولذلك علينا أن نتعلَّم أن نكون أكثر تواضعاً وأكثر مُحاذَرةً حين نتخذ مواقف من الآخرين وأكثر من هذا حين نُطلِق أحكاماً على الآخرين، انتبهوا فالمسألة خطيرة جداً جداً جداً، والمسألة  مسألة قضاء، فأنت تقضي الآن، وسيخضع كل منا يوم القيامة لسؤالٍ بين يدي الله، فانظر نفسك، كم أنت عادل؟ كم أنت دقيق؟ كم أنت مُقسِط حين أطلقت هذه الأحكام على الآخرين سواء طوائف أو مذاهب أو أشخاص أو أفعال أو مسالك؟

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
                                                                (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

سُئل الإمام الأعظم أبو حنيفة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – مرةً يا إمام هذا الذي أفتيت به هو الحقُ الذي لا شك فيه؟ فقال والله ما أدري لعله الباطل الذي لا شك فيه، هو – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – يتحدَّث عن قوله هو وعن اجتهاده هو، فانظروا إلى انفتاح ومرونة وعظمة هذا العقل، أبو حنيفة لم يُصبِح أبا حنيفة من فراغ هكذا، وكان في عهد أبي حنيفة ألوف العلماء، وأبو حنيفة بفضل الله مات في سجن الظلمة، أي أنه لم يكن عالم سلطان ولا اشترى بدينه ثَمَنًا قَلِيلًا ۩، هو كان رجل مُعارَضة، عاش ومات رجل مُعارَضة حتى لا يُقال أن السُلطان هو الذي أعلى مثابته، الله هو الذي أعلى مثابته ورفع ذكره، لا يُعبَد الله بمذهب في الدنيا كما عُبِدَ بمذهب أبي حنيفة، أكثر المسلمين أحناف في العالم وهذا أمر معروف، بحسب النسبة والتناسب أكثر المسلمين أحناف، وهو رجل مُتواضِع ورجل عملاق، لذا قال لا أدري، هذا اجتهادي، لكن لعله يكون الباطل الذي لا ريب فيه، على حد علمي هو حق – إن شاء الله – ولذلك أنا أُفتي به لكن لا أدري، فالرجل يُفكِّر بطريقة احتمالية، يترك الباب مفتوحاً، ليس لديه نسق مُغلَق بالكامل ومن ثم يترك الباب مفتوحاً، بخلاف الأنساق المُغلَقة الذين يقولون لا بديل، لا تغيير ولا مهربNo Alternative, No Change & No Escape، لكن ما معناها؟ هذا إسمه غرور الصواب، لا بديل عن هذه الطريقة وعن هذا السبيل في التفكير، هو الحق وحده وما دونه باطل، لا تغيير فلن أنظر في حُجج غيري أصلاً ولن اُعيد تقويم حُجتي ورأيي، لماذا؟ لأنها بلغت درجة الكمال Perfection، ولذلك لا تغيير  No Change، وبعد ذلك لا مهرب من أن تنصاعوا لقولي ورأيي، فدخلنا مع القذَّافي الآن ومع بوش Bush الصغير، الذي ليس معنا يكون ضدنا ويكون ضد الحقيقة والعدالة ويُطارَد في العالم شر مُطارَدة، لذا لا مهرب No Escape، لماذا؟ لأن نحن نُمثِّل الحق المُطلَق والحق الكامل، إذن عليكم أن تخضعوا لما انتهينا إليه، وهذا شيئ مُخيف جداً جداً جداً، وأكثر الناس يُفكِّر بهذه الطريقة، لا بديل، لا تغيير ولا مهرب، وتكلَّم بعد ذلك وناقش وجادل ولن يفهم ولن يُريد أن يسمع أصلاً أو أن يُناقِش، وهذا الشيئ مُرعِب ومخيف جداً، علينا أن نُحذِّر منه وأن نتخفَّف من هذا وأن نستخدم طريقة أخرى في التفكير.

قرأت مرة لكارل بوبر Karl Popper الفيلسوف اليهودي الأصل والنمساوي كلمة فعلاً لا يُمكِن إلا أن تحترمها، يقول أنا الآن – وكان هذا في التسعين من عمره في آخر سنوات حياته – حين أكتب وحين أتكلَّم وحين أُحاضِر ليس في نيتي ولا يُشكِّل هدفاً من أهدافي أن اُقنِع الناس، أنا لا أُريد أن أُقنِع الناس، لست داعية ولست مُبشِّراً – Missionar – دينياً، أنا أُفكِّر فقط لكي أتحاور معكم، أي هيا نتحاور، وكل ما أكتبه ليس أشياء ناجزة وجاهزة، هذه فقط خُطوات في الحوار، أنا كتبت وأنتم اكتبوا وردوا وسوف نُناقِش ونرى، هذا هو فقط، لابد من الحوار.

ريتشارد رورتي Richard Rorty الآن الفيلسوف البرجماتي الكبير في أمريكا يقول الفلسفة انتهت – الفلسفة الميتافيزيقية والفلسفة بالطريقة التقليدية انتهت – وبقيت مُهِمة واحدة وحيدة نبيلة للفلسفة هى إدارة الحوار، أي نتحاور ونتناقش فقط،كلما تعمَّقنا في هذا الشيئ نكون تفلسفنا أكثر، لكن الفلسفة نقاش وليس أكثر من هذا، لا هى تبشير ولا هى أنساق مُغلَقة ولا هى مذاهب ولا هى أيدولوجيات على طريقة ماركس Marx وغير ماركس Marx، ونحن نقو لا، هذا يُشكِّل أحياناً فوضى وعدمية في التفكير، كما أن الجمود يُشكِّل تكلساً يستحيل معه البشر إلى حفريات Fossils، الثبات مُطلَق لكن التطوّر والنمو الذي هو صفة الحياة – نحن كائنات مُتطوِّرة ونامية بيولوجياً ومعنوياً وروحياً – دائماً نسبي وليس مُطلَقاً، ولأُوضِّح هذا أقول أنت الآن تركب سيارتك وتستطيع أن تُقلِّل من سرعتها بالقدر الذي تراه مُناسِباً ومُكافئاً لكي تتحاشى الاصطدام مع مَن أمامك مثلاً، وهذا يُعطينا استخلاصاً أن هذا النظام الميكانيكي وهذه السيارة فيها صفة من صفات الحياة، تسمح لك أن تفعل هذا، وهذا مُمتاز لأنها مرنة، ولذلك السيارة تتطوَّر، كانت – مثلاُ – سيارة بسيطة والآن وُجِدَت موديلات – Models – عجيبة جداً جداً جداً، والمراكب نفسها تطوَّرت إلى الطائرات وإلى سفن الفضاء، أما التمثال والنصب التذكاري الرخامي الذي يقبع مكانه مُستحيل على الدنيا ومَن فيها أن يُقنِعوه بكل أساليب الاقتناع أن يتقدَّم خُطوة أو يتأخَّر خُطوة من أجل أن تعبر عربة مثلاً، هذا مُستحيل لأنه هذا نظام ثابت، فالثبات مُطلَق أما التطوّر والتغيّر مُتحرِّك ونسبي، ونحن لسنا مُطلَقين، المُطلَق هو الله تبارك وتعالى، نحن كائنات تُريد أن تنمو، فنُحِب أن ننمو فكرياً وضميرياً وروحياً وثقافياً ومعنوياً، نحن نُحِب أن ننمو ولذلك لن نعتصم بهذه المُطلَقات دائماً، سنعتصم بالقدر الأقل منها والذي يتعلَّق ربما بقواطع الاعتقاد أو غيره وبالدليل أيضاً.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفهِّمنا الدين وأن يُعلِّمنا التأويل وأن يفتح علينا فتوح العارفين، اللهم اهدنا إلى أرشد أمورنا.
 

http://fb.me/Dr.IbrahimAdnan

(21/10/2011)

مسجد الشورى/ النمسا

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: