إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩  وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۩ 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

هذه الآيات مأنوسة للجميع من كبيرٍ وصغير، وتفسيرها والقول فيها مُقرَّرٌ مرجوع في القديم والحديث، على أننا – بفضل الله تبارك وتعالى – سنُحاوِل أن نتناول هذه الآيات أو ننظرُ إليها أو ننظُرَ إليها من زاويةٍ جديدة، فالملائكة تستفصل – حتماً هى لا تعترض هذه الكائنات المُنزَّهة – من رب العزة والجبروت – سبحانه – بقولها أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ – أي والحال أننا – نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۩، فكأن الملائكة أشارت إلى أجدريتها وقمانتها بهذه الخلافة المُنوَّه بها.

في قول الملائكة هذا أكثر من إشارة بل يُوشِك أن تكون تصريحاً بأن أقوى غرائز الإنسان وأظهر غرائزه هى غرائز التدمير مثل القتل والاحتراب وسفك الدماء، وعلى ما ذكرنا في الخُطبة السابقة التاريخ يُؤيِّد هذا التقييم الملائكي لبني الإنسان، فقد أسلفنا عن أحد كبار المُؤرِّخين – في الحقيقة هو ديورانت Durant – أنه قال من بين ثلاثة آلاف وأربعمائة سنة تُشكِّل التاريخ الذي يُمكِن أن يجول فيه نظر المُؤرِّخين زُهاء ثلاثمائة وأربعين سنة تقريباً كانت سلاماً، وسائر التاريخ كان حروباً واحتراباً، أي العُشر فقط!
لذلك يقترح بعضهم أنه لو تُعُطِيَ مع تاريخ الجنس البشري على أنه تاريخ عيادي – تاريخ طبي لفردٍ واحد –  لفردٍ واحد – فسيكون التشخيص هو الجنون، فهذا الفرد مجنون، إذن هذا النوع مجنون أو هذا الجنس مجنون، فالمسيرة مسيرة جنون مُختبِط ومُضطرِب، وليست مسيرة عقل ولا مسيرة روح ولا مسيرة ضمير وإنما مسيرة جنون، فهذا هو التاريخ العيادي الإكلينيكي للجنس البشري.

يقول الله في كتابه الكريم قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩، فعلى ماذا يُراهِن إن جاز التعبير – اللهم غفراً – رب العزة تبارك وتعالى؟!

تقول الآية الكريمة قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء ۩، فالزاوية الجديدة في هذا الاقتراب أو في هذه المُقارَبة تقترح التالي:

أن الذكاء الإنساني من وجهة نظر عمومية أو عامة جدير أيضاً ومُؤهَّل أن يتغلَّب على نوازع الشر، جدير في النهاية أن ينتصر وأن يُحرِز النصر في الجولة ربما الإخيرة وربما قبل الأخير – هذا تأميل وتفاؤل – على غرائز الشر في الإنسان، قال الله وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩، فما علاقة هذا الجواب أو التفاعل أو الاستجابة لاستفصال الملائكة بقضية وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء ۩؟ هذا ما نقترحه في نظريتنا الجديدة، فالذكاء الإنساني جدير أن يتغلَّب على غرائز الشر وعلى غرائز التدمير والقتل، ومن وجهة نظر أكثر تخصيصاً أو أكثر خصوصيةً وتحديداً الذكاء المُتمثِّل في التسمية أو في لياقات التسمية، أي قدرة الإنسان ولياقاته أن يُعطي الأشياء أسماءها, لكن ما معنى هذا؟!

هذا هو جوهر هذه الخُطبة بإذن الله تبارك وتعالى، بمعنى أن التسمية قد تكون هى الطريق الأوسع الذي يعبر من خلاله ويُعرّبِد الشر بل الشرور، وهذه الخُطبة يُوشِك أن تكون وصلاً للخُطبة السابقة، ففي الخُطبة السابقة تحدَّثنا أن الكذب يُشكِّل جذر الشرور، وتحدَّثنا بالذات عن الكذب في النوايا، وفي هذه الخُطبة سنتحدَّث عن الكذب اللفظي ليس في الأخبار وصوغ المفاهيم بعبارات وجُمل أو حتى كتابات مُسهَبة وإنما في التسمية، أي الكذب في التسمية بالذات عن طريق إعطاء الأشياء أسماء مُضلِّلة مُقنِعة خادعة ليست دقيقة، وهذه مسألة كبيرة تناولتها الآداب والفلسفات لا تزال تتناولها، ويبدو أن الدين أيضاً تناولها من طرفٍ خفي.

من قديم اقترح أفلاطون Plato أن أعظم سبب للخلافات الفكرية والفلسفية هو عدم الدقة في وضع الألفاظ أي المُصطلَحات، وفي العصر الحديث يقترح الفرنسي باروخ سبينوزا Baruch Spinoza أن أكبر سبب يكمن خلف الإشكالات المُتعلِّقة بالحقيقة هو وضع الأسماء الغالطة للأشياء والأمور، فهذا هو أكبر سبب في نظر هذا الفيلسوف الهائل والعالم كبير والروحاني أيضاً، وطبعاً اليهودي باروخ سبينوزا Baruch Spinoza اتُهِم بالزندقة من طائفته، واعتُديَ عليه في محاولة لقتله، علماً بأنه وحدوي في نهاية المطاف، وعلى كل حال نحن لا نريد أن نقتبس الرجل لكي نُعطيه إجازة مرور وإنما نُريد أن نقتبس فقط هذه الجُملة.

الثقافات القديمة كان لها نوع تعاطٍ مع قضية الأسماء والتسميات يبدو أنه كان أكثر حيوية وأكثر إحساساً بخطورة المسألة مما تفعل الثقافات المُعاصِرة أو الثقافات المُحدَثة الحديثة بشكل عام في العصور الحديثة، لكن كيف؟!

في القديم مُعظم الثقافات كانت تعتقد بصلة عضوية بين الإسم والمُسمّى – علماً بأن مبحث علاقة الإسم بالمُسمّى في علم الكلام الإسلامي مشهور جداً، وهو رجع وصدىEcho  فقط لما ذكره اليونان، والمذاهب معروفة في علم العقيدة أو في علم الكلام الإسلامي – ثم ذهبوا خُطوة مُتقدِّمة إلى الأمام فاعتقدت الثقافات القديمة أو ظنت هكذا أن مَن يمتلك إسم شخص يمتلك الهيمنة عليه، فالأسماء خطيرة جداً، لأن إسمك هو عامل يُمكِن أن يقود إلى تهلكتك أو إلى هلاكتك وذلك إذا وقع في يد إنسان شرير حسود غيران شانيء، فهذا من المُمكِن لذلك عمدت تلكم الثقافات إلى حيلة ثمثَّلت في أن الوالدين كانوا يُسمون أولادهم بأسماء حقيقية لا يعرفها أحد إلا هؤلاء الوالدون، أي لا يعرف هذا إلا الأب والأم فقط، فإسم هذا – مثلاً – هيلينيوس Helenius وممنوع أن يعرف هذا أحد، ثم يضع إسماً مُستعاراً فيُنادى بأبي جبريل أو أبي ميكائيل مثلاً، ومن خلف هذا الإسم يُعبِّر عما يريد ويسب ويُقذِع، على كل حال لابد من إسم مُستعار يُعطى للناس، فحتى لو امتلكه الناس لن يمتلكوا عبره سُلطة على الشخص وعلى المُسمّى لأن هذا ليس إسمه الحقيقي، وهكذا اعتقدت الثقافة، فالثقافة الفرعونية القديمة – مثلاً – كان تعتقد أن ميتاً ما مدفوناً في مدفنه لو نُودي عليه بإسمه فإنه يحيا، ولذلك دأبوا على أن يكتبوا على مدفانهم “لتُبارِك الآلهة ولتُحسِن جزاء أو مُكافأة من نادني بإسمي” لأنه سيُحييني.

 فهم اعتقدوا هذا، أي اعتقدوا أن الصلة عضوية بين الإسم والمُسمّى أو بين الدال والمدلول أو بين الرامز والمرموز، وطبعاً هذا إلى اليوم موجود في اعتقادت بعض الناس وخاصة عند الشعوب التي لا تزال قريبة من طور البدائية، فهم يعتقدون هذا، وهذا يُفسِّر لنا خرافات كثيرة وعادات كثيرة مُنتشِرة.

في الإطار الديني وفي المضامين الدينية عند اليهود والمسيحيين وعند المسلمين أيضاً هذا ربما يكون له علاقة بالاعتقاد فيما يُعرَف بالإسم الأعظم، وهو إسم من أسماء الله إذا عرفته وناديت الله به يُلبيك الله مُباشَرةً، حتى لو دعوت به على الكون أن يدثر وأن يُدمَّر وأن ينتهي فإن الكون سوف ينتهي لكن لو عرفت هذا الإسم، وهذا الاعتقاد موجود عند اليهود وعند المسلمين وعند الأديان التوحيدية ولكن هذا وضع مُختلِف تماماً، لأن الله تبارك وتعالى – إن جاز التعبير ونحن نستغفر الله من هذا الزلل – ليس مُجرَّد قوة واعية، بل هو منشأ الوعي في الكون كله، والآن يتحدَّث علماء كبار وإخصائيون عن درجات وعن رتب ومُستويات – Levels – من الوعي، فحتى هذه الجمادات وهذه الصوامت كلها تتميَّز بدرجة من درجات الوعي، ويدّعي بعضهم أن لديه قدرة التواصل مع هذه الموجودات على اختلاف مُستوياتها في الوعي، وعلى كل حال الله منشأ الوعي كله، كما أنه منشأ الوجود كله، فطبيعي – إذن مُمكِن فالفكرة ليست باطلة بالكامل – أن له إسماً مُحدَّداً مَن عرفه – ويبدو أنه لا يعرفه إلا باستحقاق عبودي وعبادي عبر الصلاح، ويجعله ربما الأصلح من بين أقرانه ونظرائه في زمانه – يُمكِن أن الله يلبيه، لأن الله حين شاء أن يُلبيه دلَّه على هذا الإسم بفضل عبادته وتقواه وخشيته، وليس مثل ما كانت تعتقد الشعوب البدائية، فهذا وضع مُختلِف تماماً، وعلى كل حال نحن لا نستطيع أن نُسلِّم بنظرية عشوائية الصلة بين الإسم والمُسمّى بطريقة مُطلَقة كعلم اللسانيات الحديث، فعلم اللسانيات المُعاصِر يقول أن الصلة عشوائية واعتباطية تماماً بدليل اختلاف اللغات، فهذا الشيئ يُسمّى بالعربية كذا ولكنه يُسمة بالإنجليزية كذا ويُسمى بالألمانية كذا ويُسمى بالأسبانية كذا وإلى آخره، أي مُسميات مُختلِفة لنفس الشيئ، إذن يُوجَد اعتباط، فهذه مُجرَّد عملية تعسفية اعتباطية، حيث شاء العرب أن يُسموه كذا، ولو سموه بكذا آخر لجاز لهم هذا، لكن ليست هذه المُشكِلة، فالمُشكِلة هى أن العوام إلى اليوم بل الناس وليس العوام فقط – الوضع كما قلت لكم أعمق وأخطر مما نظن – كما يُسجِّل علماء التحليل النفسي ينقادون بسهولة إلى اعتقاد أو توهم الصلة بين الأسماء والمُسميات، فالعوام يظنون هذا تماماً، بدليل أنه يكفي فقط أن تُسمي أحدهم “عالماً” حتى يتعاطى الناس معه على أنه عالم وإن كان ينطق بالحماقات،فمن أين لك أنه عالم؟ لكن هو يقول عنه هذا لأنهم يسمونه عالماً، ألم ينحلوه لقب كذا وكذا؟ فمُباشَرةً تُصبِح حماقاته هى عين الحكمة، ويقول لك أحدهم عنه “هذا رجل حكيم يا أخي وفصيح وبليغ”، لكن يا أخي هذا أحمق هذا، وهم الذين سموه عالماً، إذن هذا ينطلي على الناس.

ومن هنا علينا أن ننتبه إلى بعض الكلمات مثل أنهم يقولون “الأعداء أو الجار العدو”، لكن بالله ربكم مَن الذي عدى على الآخر؟

علماً بأن اللغة العربية لديها نوع من العقلانية الداخلية يُمكِن أن أدعوها بالعقلانية الاشتقاقية، وأحسن مَن كشف عنها أبو الفتح عثمان بن جني – رحمة الله عليه – في كتاب الخصائص، فهذا الكتاب هو أعظم كتاب وضع إلى الآن – في حسباني – في فلسفة وفقه اللغة العربية، والذي وضعه هو هذا الأعجمي البليغ الفصيح المُتعمِّق السابر للأغوار، فهنا الاعتباطية لا تشتغل منذ البدايات أبداً، لكن على كل حال لماذا سُمى العدو عدواً؟ سُميَ هذا في اللغة العربية لأنه عدى أو اعتدى، فهو الذي اعتدى، ومَن يعتدي ويعدو على صاحبه أو على جاره أو على أخيه يُسمى عدواً، ولكن ليس من العدل أن أُسمى أنا  – وأنا المعدو عليه وأنا الذي صيل عليه وأنا الذي اعتُديَ عليه – عدوا أيضاً، فأنا لم أعد على أحد يا أخي، أنا المظلوم فكيف أُسمى عدواً أيضاً؟ هذا شيئ غريب والله.

يعني هو يعتدي ويظلمك ابتداءاً ثم يُريد أن يُسوِّغ امتداد واستمرارية الظلم واستمرارية الاضطهاد والإلغاء بأن يُسميك عدواً، فصحيح أنت عدوي ولكن أنا لست عدواً لأنني أنا مظلوم إلى الآن، فأنت العدو ولست أنا، ومع ذلك تجد مَن يُبرِّر هذا قائلاً “هذه مجازات في علاقة كذا بكذا”، لكن هذه المجازات دمَرتنا في كل اللغات صراحةً، فهذه علاقات عجيبة غريبة جداً، وهذه المجازات المفروض أنها تتهاوي – كما أقول دائماً – وتتلاشى، فالمجاز يتلاشى ربما مع أول خطوات التعمق التحليلي، وأحياناً يتلاشى ويتكشَّف عن كارثة مفهومية مظنونية – فتُضلِّل تفكيرنا وتُسمِّم تصوراتنا وتهز قيمنا وتُخلخلها، فلا لست عدواً لأنني أنا المظلوم، وإنما أنت العدو، ويجب أن يعرف شعبك وأن يعرف المُجتمع الدولي أنك العدو وأنني أنا المظلوم، فلا يسوغ أن أُسمى عدواً، ولكن هناك مَن يقول “هى مُعاداة مُفاعَلة لأن لغتكم تقول هذا، فأنا أعاديك وأنت تُعاديني”وهكذا دخلنا في المجاز مرة أُخرى، لكن الصحيح هو أنك العدو ولذلك يجب أن نستبقي هذه التسمية، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى هذا، علماً بأنه يتكشَّف لي عند هذا المُستوى البسيط من التحليل الوجه السياسي القانوني للمسألة، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، كالقضية الفلسطينية اليوم مثلاً، حيث يتكشَّف الوجه السياسي لها، وليس الوجه الفيلولوجي أو اللنجوستكي واللغوي – الفقه لغوي – أبداً، وإنما الوجه السياسي والقانوني للمسألة لأن لابد أن نكون دقيقيين.

فالتسميات نوع من الكذب، فهناك كذب في وضع المُلصَقات Labels واللاصقات Stickers، فهناك مَن يضع مُلصَق على كل شيئ ونحن نُصدِّق، مثل ذلك الأحمق الذي حكيت لكم حكايته ربمت عشرات المرات والذي أراد أن ينجو من سطو النمل على سكره فكتب عليه ملح، وصحيح هذا يُمكِن أن أنخدع به أنا الإنسان ولكن لا ينخدع به النمل، لأنه لا يعرف لغتنا فلا تنطلي عليه أكاذيبنا،ولكن نحن نرطن لغة بشرية واحدة فتنطلي هذه الأكاذيب كأن يُسمي السكر ملحاً، ومن ثم طبعاً أنا لا أقربه ولا أضع في قهوتي منه، لأنه ملح وسوف يُفسِد المذاق، لكن النمل لا يغتش بهذا، ونحن البشر يُمكِن أن نكون نمالاً ذكية أحياناً وذلك بأن لا نذهب أبداً مع هذه المُلصَقات Labels وإلى آخره، فنقول من الأول: مَن الذي وضعها وعلى أي أساس؟ ما تبرير وضعها؟

ولأضرب أمثلة، وبالمثال يضح المراد في المقام، مثل مُصطلَح فقيه وعالم، فحجة الإسلام الغزالي – رحمة الله عليه – يتحدَّث في إحيائه كيف جرى تحوير هذه الأسماء الشرعية، فهذه الألفاظ وضعها الشارع على – علماً بأنه يُقال وضعه على، أي بإزاء كما يقولون الآن، لكن اللفظ الفصيح هو على، لأنها فعلاً مُلصَقات، فحتى التعبير بعلى للاستعلاء يُؤكِّد أن الألفاظ هى مُجرَّد مُلصَقات، فيجب أن نكون حذيرين ودقيقين وصادقين، فلا نُمارِس الكذب والتزييف حين نضع هذه المُلصَقات – معاني، أي أنه لفظٌ وضعه الشارع على معنى – أي بإزاء معنى أو لمعنى – مُعيَّن كما نقول الآن بالعامية، فتصرَّف فيه المسلمون – أي
العلماء وأهل الفكر والثقافة – لا بالنقل والتحويل – هم لم ينقلوه عن أصل وضعه – وإنما بالتخصيص والتقييد، فقلَّصوا واختزلوا مضمونه واختزلوا دلالته، ومن ثم دائرته الدلالية أصبحت أقل، وقد يكون المركز هو نفسه طبعاً – بلا شك – ولكن أقل، بمعنى أننا لو ذهبنا إلى كتاب الله نقرأ الموارد لهذه الكلمة فأولاً سيُفاجئنا أن الفقه وبالتالي الفقيه هو الراغب في الآخرة، فهو هذا الذي يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۩ ويرجو لقاء ربه، فهذا هو الفقيه، ولكن كيف؟!

قال الله وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ۩، وهذه هى وظيفة التفقيه، أي أن يُورِثك الحذر من الآخرة ومن العاقبة وأن تعظم رغبتك في الآخرة وأن تزهد في هذه الدنيا، لكن سوف نرى ما هو الزهد أيضاً لأن مثل هذه الألفاظ  أيضاً  حُوِّرَت – للأسف الشديد – ومن ثم تُوضَع بطريقة كاذبة خاطئة، فهذا هو الفقه، قال الله لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ۚ ۩ ، ولكن لماذا؟!

قال ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ  ۩، إذن هذا يعني أن الفقه يُورِث صاحبه تعظيم الله وخشية الله، فالفقيه ما من شيئ وما من أحد أعظم في نفسه من الله، لا الملك ولا الحاكم ولا المُخابَرات ولا أمريكا ولا إسرائيل ولا الدنيا ولا الجمهور ولا الناس والمذهب ولا الطائفة ولا شيئ، الله وحده أولاً وآخراً، ثم يأتي العالم كله بعد الله تبارك وتعالى فلا يهم هذا، وهكذا ينبغي أن يكون الفقيه، ولذلك قد يقول لي أحدكم “والله هذه مُصيبة إذن إذا كان هذا هو الفقيه”، وعلى كل حال هذا هو الفقيه قرآنياً إذا كنت تُريد الفقيه الذي حدَّده كتاب الله، لكنه قد يقول لي “أنا كنت أعتقد أن الفقيه هو الذي يُفتي في الحيض والنفاس والبيض واللعان والطلاق والأحوال الشخصية والإجارات والمُزارَعة والمُقارَضة والمُضارَبة وأحكام السير والجهاد والقتال وإلى آخره”، وهذا من الفقه لكن علينا أن ننتبه إلى أن هذا يُعتبَر معنىً ضيقاً من معاني الفقه، فبلا شك هذا من الفقه ولكن إن جعلنا الفقه هذا وحده فقد نقلنا الفقه من دائرته المُنداحة الوسيعة الخصبة المُثمِرة للخشية والتُقى – كما قلنا – والتعظيم والإجلال والمحبة والعشق والوله والصدق والإخلاص وتحقيق النية وتشحيرها وتمحيضها لله وعدلنا عنه إلى معنى واحد ضيق لا يكاد يعود على صاحبه بكثير خير – والله – ولا على الناس إذا كان هذا هو المعنى وحده، لذلك تجد من هؤلاء الفقهاء مَن هم – والعياذ بالله – من أراذل عباد الله نفاقاً للحكام ومُداهَنةً للشعوب وكذباً على الناس، بل أن أحدهم قد يعرض على نفسه للبيع الحقيقي، فتستطيع أن تشتريه بأن تدفع الثمن ثم تحمله، وهذا شيئ عجيب يا أخي ومع ذلك يُقال هذا الفقيه، وهذا غير صحيح، هذا ليس الفقيه.
لابد أن نُعيد الآن ما كنا نقوله، لكن هناك جُملة نرمي بها دائماً في سياق التهديد والوعيد، وذلك حين نقول لك “سنسمي الأشياء بأسمائها”، ونُطالِب غيرنا بأن يفعل هذا إذا رأيناه يلف ويُداوِر ويُناوِر ويحسب الحسابات ويضرب الأخماس في الأسداس قائلين “سم الأشياء بأسمائها”، وحين نُهدِّد يقول أحدنا “سأسمي الأشياء بأسمائها”، فما معنى هذا؟!

معنى هذا أن الأسماء الشائعة هذه والأسماء المعروفة ليست هى الأسماء وإنما هى أكاذيب تُغبِّش وتُقنِّع وتحجب الحقيقة، فالحقيقة غير شفافة وغير مرئية لأنها محجوبة بهذه الأسماء اللعينة الكاذبة، فلابد أن أسمي الأشياء بأسمائها وبالتالي ليس هذا هو الفقيه.

فرقد السبخي ذات يوم يسأل الإمام تقي الدين الحسن البصري – رضوان الله عنهما – عن مسأله، فيُجيبه أبو سعيد الحسن البصري بما فتح الله عليه، فيقول له فرقد السبخي “يا إمام الفقهاء يُخالِفونك”، أي أنهم يُخالِفون جوابه، فقال له “ثكلتك أمك فُريقدُ، وهل رأيت بعينك فقيهاً قط؟”، أي كيف تتحدَّث عن الفقهاء وأنت لم تر فقهياً واحداً في حياتك؟ فهو لم ير فقيهاً واحداً رغم وجود ألوف الفقهاء مثل فلان وعلان وأبي فلان وابن فلان وإلى آخره لأنهم كثر، واليوم يكفي أن تتحصَّل على ورقة – أي شهادة – بعد أن تدرس بعد أربع سنين فقط، وهذا كلام فارغ، لكن هذا يحدث حيث أن بعد أربع سنين من المُمكِن أن تُساوي فقيهاً لأن عندك شهادة في الشريعة، فيا سلام على الفقه وعلى هذا الفقيه والعالم الجليل – ما شاء الله – الذي سوف أستفتيه في ديني، ومن المُمكِن أن أقتل وأُكفِّر وأسفك الدماء بفتواه، وهذه مُصيبة طبعاً، لذا قال الحسن البصري لفرقد السبخي “ثكلتك أمك فُريقدُ، وهل رأيت بعينك فقيهاً قط؟”، ثم قال له ” إنما الفقيه هو  الراغب في الآخرة، الزاهد في الدنيا، البصير بدينه، المُقبِل على شآنه، المُخلِص في عبادة ربه، الكاف نفسه عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم  الناصح لجماعتهم، فهل رأيت فقيهاً قط؟”، أي أنه يقول له أن هذا هو الفقيه إذا كنت تُريد أوصاف الفقيه من الكتاب والسُنة، فهل رأيت مثل هذا إذن؟!

فلا تنخدعن ولا تنخدعوا بهذه الأسماء والمُلصَقات وانتبهوا جيداً، لأن الناس تُخدَع من هذه الأشياء.

غوستاف لوبون Gustave Le Bon في سيكولوجيا الجماهير أو علم نفس الجماهير يقول “البراعة  Cleverness – تحديداً براعة الحكام والسلاطين والرؤساء والملوك – تتمثَّل في اللعب بالكلمات، وبالمُناسَبة لنابليون Napoléon لعبارة جميلة الآن حضرتني يقول فيها “سيبقى على الدوام ملوك وإن لم يُسمهم الناس كذلك”، ونابليون Napoléon طبعاً سياسي وإمبراطور كبير، وهو الذي مثَّل مرحلة انكسار واجهاض في الثورة الفرنسية، فعدنا إلى الإمبراطورية وجاء نابليون Napoléon إمبراطوراً وأحب ذلك بطريقته التي  أذل بها البابا، لكن على كل حال هو قال “سيبقى على الدوام هناك ملوك وإن لم يُسمهم الناس كذلك”، فكأن نابليون Napoléon يقول لنا “أنا سياسي مُخضرَّم وإمبراطور وفاتح كبير، فانتبهوا ولا تنخدعوا بألاعيب الساسة التي سيُحدِّثكم عنها من بعدي غوستاف لوبون Gustave Le Bon في أول كتاب أُلِّف في علم نفس الجماهير”، علماً بأن غوستاف لوبون Gustave Le Bon يقول أن الجماهير الأنثوية، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى هذا لأن علماء نفس الجماهير يقولون “الجمهور أنثى”، لكن ما معنى أن الجمهور أُنثى؟!
ونحن نعتذر من الإناث ونعتذر من الأخوات في العالم كله، ولكن هذا تعبير هؤلاء العلماء، وطبعاً واضح أن هذا التعبير وهذه المصكوكة وهذا المُصطلَح مُصطلَح ذكوري وبطريركي ويحمل غير قليل من إزراء على المرأة، وبالتالي نحن نرفضه ولكننا نذكره من باب الأمانة لكي تفهموا ماذا يُراد أن يُقال فقط، فهم يقولون لك أن الجمهور أنثى وأن الجماهير مُؤنَّثة، بمعنى أنها تُقاد وأنها تُحكَم وأنها تُسيَّر دائماً، ولن أُعبِّر بتعبير آخر جارح، فهذا هو المقصود، لكن مَن الذي يقودها ويُسيِّرها؟ مَن الذي يخطمها ويُلجِمها بالخطام واللجام؟

القادة – القادة السياسيون بالذات – وأدواتهم من رجال الدين والمُثقَّفين والصحفيين والمُرتزِقة وكل هؤلاء الآكلين على الموائد طبعاً، ولكن كيف هذا؟!

يقول غوستاف لوبون Gustave Le Bon “براعة الساسة  – هؤلاء الذين يقودون الجماهير الأُنثى التي تُقاد – تتمثَّل في لعبة الكلمات”، فالسياسي المُحنَّك خبير جداً جداً جداً وإن لم يكن لغوياً، فهو أذكى من أي لغوي ويعرف إيحاء الكلمات، ليس  المجال الدلالي وإنما الإيحاء، فهذه الكلمة في هذا السياق تُعطي معنىً مُعيَّناً، لذلك علينا أن ننتبه إلى أنه ضمن المُجتمَع الواحد تُستخدَم تعابير بأعيانها وألفاظ بأعيانها، ويختلف إيحاؤها وأحياناً دلالتها أيضاً، فالأمر لا يتوقَّف على الإيحاء فقط وإنما على الدلالة أيضاً، وهذا مُستوى أكثر خشونة من الإيحاء لأن مُستوى الإيحاء أكثر لطافة وشفافية، لكن على كل حال يختلف الدلالة وتختلف حتى الإيحاءات وهى أكثر شفافية من طبقة إلى طبقة – من Schicht إلى Schicht أو من Class إلى Class – وهذا ما يُسجِّله فقهاء اللغة، والسياسي المُحنَّك – كما نقول  ملعون والديه بالعامية – يعرف هذه الأشياء تماماً ويُدرِك أنها تختلف، فغوستاف لوبون Gustave Le Bon  وأمثاله أُناس أذكياء يعرفون كيف يُفكِّرون وكيف يُعلِّلون لأنهم يُحِبون أن يفهموا، فهم ليسوا  مضروبين على أدمغتهم أو نائمين ولا يفهمون شيئاً، فيُفعَل بهم ولا يفعلون ولا يفهمون أيضاً الجاري، لذلك يستتلي غوستاف لوبون Gustave Le Bon قائلاً “وذلك أن من عادة الجماهير أن تُفكِّر بالصور”، والكلمات هى وسيلة استدعاء الصور، لأن الكلمات نوع من التصوير، فهذه الكاميرا Camera تلتقط صوراً، وهذه الصور دقيقة إلى حد بعيد، وأحياناً إذا عُطِبَت الآلة يحدث فيها تشويه، ولكن مادامت صالحة تأتي الصورة دقيقة إلى حد بعيد، ولكن هذه الدقة تعمل في حد الظاهر فقط، فالكاميرا Camera  تأخذ صورة فلان الظاهرية ولا تعرف عنه أي شيئ خلاف هذه القشرة أو ما وراء هذه القشرة، وكذلكم الألفاظ أيضاً، بل بالعكس الكاميرا Camera تعطي صورة دقيقة للظاهر، والكلمات هى صور لفظية وتوحي بصور ذهنية مفهومية ولكن هذه الصور اللفظية في مُعظم أحوالها مُشوَّهة وغير دقيقة وغير أمينة بالمرة، بمعنى أنها تُتيح للناس مُمارَسة الأحقاد والنفاسة غير الشريفة – أي التنافس غير الشريف – والغيرة والحسد والعداوات القومية والوطنية والإقليمية والمذهبية الوطائفية والأيدولوجية، فكل هذه تُمارِس عربدتها عبر صناعة المُصطلَح والتسمية وهذه المُلصَقات، لذلك يجب أن ننتبه جيداً إلى هذا، فنحن نُسمي مَن يعمل – مثلاً – لوطنه ولقضيته الوطنية بإخلاص وتفانٍ بحيث يثبت أو ثبت أنه ضحى الكثير من أجل هذا الوطن في لحظة مُعيَّنة – ونستغل السياق – بالمُتآمِر وبالمشبوه ومن ثم تُصدِّق الجماهير، وعلينا أن ننتبه إلى أن كلمة مُتآمِر تستدعي معها سلسلة من الصور،ولكن هذه الصور – كما يقول  لوبون Le Bon – لا علاقة لها البتة بهذا الشخص المسكين أبداً، فيُنسى ماضي هذا الشخص، وبُمجرَّد أن نُلصِق عليه المُتآمِر والمُشتبَه في ولائه تتداعى مُسلسلات من الصور المُخزَّنة في ذهن الجماهير بخصوص المتآمِرين والمشكوك في ولائهم، مثل فلان الذي أُعدِمَ في الساحة الفلانية، وآخر الذي نُفي من بلده وهو يتعامل مع الأعداء في الخارج، فما علاقة هذا المسكين بما حدث؟ لكن للأسف هكذا تُفكِّر الجماهير، ومن ثم عليكم أن تنتبهوا فأنتم جمهور، ونحن من الجمهور، وهكذا أيضاً نحن نُفكِّر لأننا لسنا معصوميين، ومن ثم يجب أن نكون دقيقين جداً هنا وأن نتوخى العدل، وأن نكون أكثر عقلانية، ولا نسمح لمُلصَقات أُلصِقَت أن تخدعنا.

المُعلِّم الألماني الكبير الشهير عالمياً الآن إيكارت تول Eckhart Tolle  والمُقيم في كندا يقول “بمُجرَّد أن تخضع لقواعد هذه اللعبة – أي لعبة المُلصَقات ووضع الإستيكرات Stickers – حتى يُصبِح عالمك ضحلاً وفقيراً وبلا عمق”، كل عالمك يكون هكذا، لكن لماذا؟!

أنت بمُجرَّد أن تُصنِّف كل ما في الوجود وكل ما في المُجتمَع وكل ما بإزائك إما تصنيفات لفظية أو حتى ذهنية حتى يُصبِح عالمك فقيراً جداً، وأنا سأشرح هذا بطريقتي بإذن الله، علماً بأنه لم يشرحه لكنه كان واضحاً جداً عنده وعند أمثاله، لكن كيف هذا؟! 

انتبهوا إذن، الآن حين نقول فلان الفلاني، نفترض – مثلاً – الداعية فلان الفلاني أو المُفكِّر الفيلسوف فلان الفلاني أو السياسي فلان الفلاني أو وزير الخارجية فلان الفلاني فنحن نظن أننا نعرفه، فقد يقول أحدنا أنه معروف لأنه وزير الخارجية فلان الفلاني ومن ثم فنحن نعرفه، لكن السؤال هو: ماذا تعرف عنه؟

لا يعرف عنه إلا خمس معلومات تقريباً، فيقول لك مثلاً أنه يسكر مثلاً، ولكن هل رأيته يفعل هذا؟ لم يره ولكن هناك مَن يقول عنه أنه دائماً ما يسكر خلال الأربع والعشرين ساعة، ويقولون أيضلً أنه محبوب عند الأمريكان وأن والده كان رجلاً مُحترَماً وهكذا.

إذن أنت تعرف خمس معلومات ومع ذلك تظن أنك تعرفه وهذا غير صحيح، فأنت تعرف وزير الخارجية الذي اشتغل ربما لمدة عشر أو عشرين أو ثلاثين سنة في هذا المنصب لبلده، وبلده لم يشك في ولائه ولا في جدارته ولا في لياقاته السياسية، فكيف خدعت نفسك أنك تعرفه بالخمس معلومات هذه؟ لكنك قد تستنكر أنك تعبير أنك خدعت نفسك وقد تقول “أنا خُدِعت بما يُخدَع به العالمون”، وهذا هو المُلصَقن فأنت تظن أنك تعرفه لأنك تعرف إسمه، لكن مَن قال لك هذا؟ فإذا كان يُمكِن لهذه الكاميرا Camera أو هذه الماكينة Machine أن تُعطيك حقيقة أي شخص بمُجرَّد أن ترى صورته فإذن يُمكِن لهذه المُلصَقات ولهذه التسيمات أن تُعطيك حقيقة الشخص لأنك عرفت أن إسمه فلان الفلاني، وهذا غير صحيح لأن الإسم لن يُعطيك هذه الحقيقة أبداً، وهذا معنى كلمة الألماني إيكارت تول Eckhart Tolle، ونحن أيضاً سوف نذهب خُطوة أعمق للأمام لكي نفهم الكلمة الكريمة هذه في مغزاها الحقيقي.
إذن أنا لن أُصنِّف لأنني لا أعرف هذا الشخص، فمن حُسن حظي وسعادة جدي أنني لا أعرف إسم ولا تصنيف هذا الشخص الذي أمامي، فالآن ما هى الوسيلة المُتاحة لي لكي أُقارِبه وأتعرَّف عليه وأقترب منه حقيقةً بلحمه ودمه ومن ثم أبدأ أعايشه؟!

هنا تبدأ المعرفة الحقيقية، فالآن ستراه عن كثب أنت لا عن صحافة وكتب، وإنما ستراه عن كثب وعن مقربة، وسوف ترى مقدار الالتزام الوطني عنده والحساسية الدينية لديه ونقاوة الضمير ونزاهة الموقف وشرف اليد وإلخ، فسوف ترى مقداره من هذا بمقدار ما تُعايشه وتخبره أكثر وأكثر وأكثر، لكنك قد تقول لي أن هذه قصة طويلة، وهذه هى المُشكِلة، فمُشكِلتنا تتمثَّل في أننا كائنات تتباهى، فنحن البشر كائنات تُحِب أن تُغرِّد مُتباهية أنها تعرف كل شيئ وكل أحد وكل ما يُذكَر لديها منه معرفة، وهذا هو الفضول وهذا هو التكلف الذي نزَّه الله نبيه عنه، تقول الآية الكريمة وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ۩، فنعوذ بالله من التكلف إذن، وإلا كيف أتكلَّم في كل ما أعرف وما لا أعرف؟!

قال تعالى وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ۩، فما معنى هذا؟!

معنى هذا أنك إذا بصَّرت نفسك ما لم تُبصِر فإنك ستُسأل عن هذا، فالله سوف يقول لك “أنت ادّعيت أنك رأيت هذا وأنت ما رأيته وبالتالي ستُسأل عن هذا، وادّعيت أنك سمعت هذا وأنت ما سمعته وبالتالي ستُسأل عن هذا، فأنت سمعت الذين ادّعوا أنهم سمعوا، وبالحري أيضاً هم أيضاً سمعوا من الذين ادّعوا أنهم سمعوا، وهكذا تتوالى السلسلة، وفي نهاية المطاف قد لا يكون هناك مَن سمع أصلاً، فهناك مَن افترى واخترق – إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ ۩ – ومع ذلك تدّعي أنك فهمت وعقلت وأدركت، وأنت ما فهمت ولا أدركت ولا عقلت ولا اصطنعت وسيلة واحدة ولا حتى خُطوة واحدة في طريق البحث والدرس والفهم لكي تدعي أنك فهمت، ومع ذلك تحكم على الآخرين وعلى الحضارات والثقافات والطوائف والمذاهب والأشخاص والمناصب، فكيف هذا؟”.

وهذا يقع فيه مُعظم البشر، فبمقدار انحطاط رتبة الإنسان وانحطاط ثقافات المُجتمَعات بمقدار ما تُوغِل في هذا، وأنا أقول لكم أننا نحن العرب – حقيقةً – لدينا قدر كبير من هذا الآن في عصر انحاطاطنا، ففي القديم ما كنا هكذا بفضل الله، فحين كنا سادة الحضارة لم نكن هكذا أبداً بل كنا العكس، ولذلك كان شيئاً طبيعياً أن تجد عالماً شرعياً إن تكلَّم في فن غير فنه أنه يُدهِش ويُعجِب، فهو عالم شرعي لا يسمح لنفسه أن يتكلَّم فيما لم يقتله درساً وبحثاً، مثلي أبي حامد الغزالي – رحمة الله عليه – الذي اقتبسناه اليوم، أبو حامد قال “أنا ما أحببت أن أتكلَّم في الفلسفة حتى أدرسها وأكون فيها كأنبغ مَن نبغ فيها في عصره”، أي لابد من أن يتفوَّق على أذكى فيلسوف في عصره ثم يتكلَّم بعد ذلك في الفلسفة، فيا سلام على المصداقية، هذه هى المصداقية إذن وليس ما يحدث اليوم، حيث يتكلَّم الواحد من هؤلاء في أشياء لا يعرف إلا الأسماء منها، علماً بأن هذا هو منشأ الوثنيات مثل الوثنية السياسية والوثانية الدينية والوثانية الاجتماعية والفكرية، فكل الأوثان والوثنيات منشأها هذا النزوع إلى التباهي والكذب، فالذين عبدوا أحجاراً قدوها بأيديهم وصنعوها بسواعدهم وأقاموها في أمكانهم ثم عبدوها ولم يبرحوها – فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ۩ – ما الذي خدعهم؟!

الإسم، حيث أنهم أسموها آلهة فأصبحت آلهة، لذا الله يقول إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا ۩، ويقول أيضاً أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ۩، فهذه مُجرَّد أسماء، ولذا القرآن هنا يُشير مرة أخرى أيضاً إلى هذه الورطة الكُبرى التي يتورَّط فيها الإنسان والبشرية وهى ورطة المخدوعية، وذلك بأن نُخدَع بالأسماء وبالمُلصَقات، لكن لا ينبغي أن نُخدَع بهذا.

الآن مَن الذي نُسميه ديّناً؟ علماً بأننا قد ضربنا على هذا الوتر في الأسابيع المُتأخِّرة، ويهمني جداً أن أضرب على هذا الوتر لأنني اقصد هذا بوعي أيضاً، فهل نُسمي الشخص الحيي ديّناَ؟ لا نُسميه هكذا، فقد يقول أحدنا”هو شخص غلبان ومسكين وأهبل ويستحي كثيراً ويُنزِل رأسه كثيراً، فليس هذا هو المُتدين، وإنما هو شخص غلبان ويستحي كثيراً، وكذلك الشخص الذي يسير لكي يدل الناس على أي شيئ أويقف لكي يعطيك – مثلاً – الخارطة ولكي يقول لك معلومات والإحداثيات هو إنسان لطيف وأخلاقه طيبة ولكنه ليس متديناً، وكذلك الشخص الذي إذا وجد زجاجة مكسورة أخذها ونحاها عن الطريق ووضعها في جردل النفايات Müllkippe ليس متديناً، فلا علاقة للدين بهذا لأن الهندوسي يفعل هذا وكذلك البوذي بل وأي أحد، ومن ثم المسلم أيضاً يفعل هذا دون أن يكون للدين علاقة”، وهذا شيئ عجيب، إذن مَن المتدين عندك؟!

لكنه إذا رأى أحدهم يلبس دشداشة قصيرة من تحت وله لحية كبيرة فإنه يقول “هذا طبعاً متدين”، ثم يقول له “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته”، فهو يلعب دور الدين أيضاً كأنه يقول له أنا أيضاً أُسلِّم بشكل  Perfect، ثم يضحك لمولانا، والسؤال هو: كيف عرفت يا مسكين أنه متدين؟ هل هناك حديث يقول المُتدين هو الذي يلبس الدشداشة؟ لكن هناك حديث صحيح – وكلنا نتحفظه – يقول “والحياء شعْبةٌ من الإيمان”، فالذي يُعَد رجل أهبل وغلبان عندك أعطاه النبي مُلصَقاً مُشرِّفاً ونيشاناً، وذلك حين قال أن الذي يستحي عنده شُعْبة من شُعْب الإيمان هذا، فهوعنده إيمان حقيقي بالحياء، وكذلك الحال مع إماطة الأذى من الطريق، فالذي أبعد الزجاجة المكسورة لكي لا تُؤذي الناس عنده إيمان، وهذا من أدنى شعب الإيمان وأدناها، فالنبي يقول لك هذا من الإيمان ولكن أنت لا تفهم هذا، لأن العادات والتقاليد والمخدوعية بالتسميات لا تسمح لك بهذا، فضلاً عن اللعبة التي لعبها نفر من الناس عبر العصور وأرادوا أن يُفهِموا الناس من خلالها أن هذا ليس هو المتدين وإنما نحن المتدينون، بأمارة أن لحانا طويلة وأننا نلبس عمائم في القرن الحادي والعشرين ونُقصِّر الجلباب على سُنة محمد  – صلى الله على محمد وآل محمد – طبعاً. 

فهكذا فهمتم الدين، لكن هل هذا هو الدين؟ ثم يُقال لك بعد ذلك كله “ليس لدينا في الإسلام رجال دين لأن كلنا رجال دين، فإذا أردنا أنت نتحدَّث عن رجال دين فكل مسلم هو رجل دين، لكن نحن لدينا علماء دين”، وهذا كلام جميل لو أن الواقع صدَّقه، ومن ثم علينا أن ننتبه لأنهم يضحكون علينا أيضاً بالمُلصَقات لأن لدينا  لدينا في الواقع رجل دين مثل رجال الدين  – أي Klerus أو Clergy – السياق الغربي خاصة القروسطي بنسبة تصل ربما إلى ثمانين في المائة، ولن نقول إلى تسعين في المائة وإنما إلى ثمانين في المائة، وبعضهم يُدخِل الناس الجنة والنار، وحين تعوزه الحجة يبدأ في الأيمان ويقول “أُقسِم بالله، قسماً بالله غير حانث أنه كذا وكذا وكذا”، وبالأمس استمعت إلى كارثة – هذا ليس مُجرَّد مقطع فيديو وإنما كارثة حقيقية – يقول فيها هذا الرجل – عفانا الله وإياه – يا جماعة أنا فلان الفلاني أقول بملء الفم أن كل مَن يقول لك أنا حداثي أو أنا علماني أو أنا ليبرالي أو أنا كذا أو أنا كذا فهو كافر خارج عن الملة، لكن كيف كافر يا مولانا؟ ما هذا الهبل؟ أي فكر هذا؟

وطبعاً هو يلعب على حب الناس لدينهم والغيرة عليه، ومن ثم سوف يقولون “هذا غيران على الإسلام،هو يغار على الإسلام كثيراً، لأن الإسلام عِرضه”، ولذلك هو لا يتردَّد في أن يُكفِّر بالعناوين!

وعلينا أن ننتبه إلى أنه طبعاً في خُطوة أخرى لن نقول مُتقدِّمة وإنما سريعة موالية  كما يقول المغاربة سوف يأتي أحدهم مُباشَرة ويقول لك هذا الشيخ علماني ومن ثم فهو كافر، أي أنه كفَّرك وأنت شيخ، فهم أعطوك مُلصَق علماني ومن ثم كفرت يا مسكين لأن الشيخ فلان قال أنك كافر، ومن ثم كل مَن يسمي نفسه علمانياً لن نتردَّد في تكفيره، فما هذه الطريقة في التفقه والتفقيه؟ما هذه الطريقة في الفهم؟ ما شاء الله، شيئ عجيب جداً.
إذن هم يُقسِمون بالله ويقطعون على غيب الله أن هذا كافر، لكن ما معنى أنك تقطع على غيب الله أن كل مَن سمى نفسه علمانياً ليبرالياً أو حداثياً أو كذا أو كذا أو كذا وإلى آخره أنه كافر؟!
معنى ذلك أنك تُدخِله نار جهنم، وطبعاً أصبح عادياً ومن الأسهل عليك أن تُقسِم أنه بعد أن يثبت أنه علماني أو ليبرالي أو حداثي أنه قطعاً في نار جهنم، فالقسم هنا أسهل ومن ثم نُسبِّعه سبعين مرة وليس سبع مرات فقط أنه في جهنم.

فرجل الدين هذا مثل رجال الدين في أوروبا هنا الذين كان لديهم الاعتقاد أنهم يعرفون مصائر الناس، فهو يعطيك صك غفران ومن ثم يغفر لك ذنبك ويُدخِلك الجنة.

 هذا شيئ غريب، هل أنت نفسك تعلم إلى أين ستذهب أنت؟ لكنه يدّعي أنه يعرف طبعاً إلى أين سيذهب بل إلى أين ستذهب أنت لأنه رجل دين لكن محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل أن يعرف المصير النهائي قال فيه الله تبارك وتعالى في سورة الأحقاف الآية التي تقول وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ  ۩، ولذلك في الحديث المُخرَّج في الصحيح لما مات عثمان بن مظعون – رضوان الله تعالى عليه – وشهدت فيه أم السائب قائلة “هنيأً لك الجنة” قال لها رسول الله: ما أدراكِ؟ والذي نفسي بيده وأنا رسول الله – علماً بأن هذا الحديث في البخاري – لا أدري ما يُفعَل بي، أي أنه لا يعرف مصيره فكيف لها أن تقول عن عثمان بن مظعون هنيأً له الجنة؟ مع أنه النبي بكاه بكاءاً حاراً مُراً وأبَّنه بقوله “لقد خرج من الدنيا وما أصاب منها وما أصابت منه”، أي أن هذا الرجل كان زاهداً، فالنبي يتحدَّث في حدود ما يعلم  – وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْم ۖ  ۩- لأنه يعلم أنه عاش زاهداً مُتقلِّلاً من الدنيا وعادلاً عنها، فلم يكن راغباً فيها، وهذا من دقة النبي – عليه السلام – التي ينبغي أن تلتفت إليها، فالنبي لم يتحدَّث عن جنة ونار، وعندما تحدَّثت أم السائب عن هذا رفض، وهذا عكس ما يفعله رجال الدين في أوروبا القروسطية، فصك غفران وقرار حرمان تحت سيطرتهم ومن ثم قد يُلقي عليك أحدهم الحِرم – Excommunication – فيحرمك ومن ثم لن تدخل الجنة إلى الأبد، فأنت انتهيت إذن، لأنك ستُحرَم من الكنيسة في الدنيا ومن مجد الله أيضاً في الآخرة.
فهذا هو رجل الدين في أوروبا القروسطية، واليوم أصبح عندنا شيئاً شبيهاً بهذا، فهم يُكفِّرون مُباشَرةً في أضيق من فراغ الميم أو من صدر اللئيم، ففي ثانية يُكفِّر لك الواحد منهم طوائف من الناس بالإسم، فهذا علماني إذن هو كافر، هذا ليبرالي إذن هو كافر، هذا حداثي إذن هو كافر وهكذا، لكن مثل هذا لابد – والله – أن يستيقظ، والحمد لله على ما نحن فيه، ومع ذلك يقول لك ليس لدينا أي تشديد أو تكفير ولا يُوجَد تكفيريون، لكن هذا موجود في الدعاة الذين يتبعهم أحياناً ملايين من الشباب، فهذه هى طريقتهم.

هناك التفتيش على عقائد الناس، إي والله، وأنت ترى طبعاً كيف تُناقَش المسائل، بالله الذي لا إله إلا هو كأنه يعلم منك ما لا تعلم من نفسك، وأنا العبد الفقير اتفق لي هذا، وأُقسِم بعزة جلال الله من على هذا المنبر أنهم تكلَّموا في بأشياء ونسبوا إلىّ أشياء لم تكن لا على بالي ولا على خاطري ولا قصدتها ولا أردتها ولا أنا منها ولا هى مني، ومع ذلك يحلفون لك على التلفزيونات Televisions ويقولون والله، لكن السؤال: كيف لك أن تفعل هذا؟ أنت تتحدَّث كأنك تعرفني أكثر من نفسي يا رجل، لا يجوز لك أن تُفتِّش عن الضمائر يا أخي، هل أنت رب العالمين؟ وأسامة بن زيد كان في الحُرُقات – اليوم في المملكة السعودية – يُقاتِل كفاراً ثم سطى بأحدهم، فتعوَّذ هذا الرجل بالشهادة بعد أن وقع السيف من يده قائلاً أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لكن قتله أسامة ومن ثم غضب الصحابة وهم في ساحة المعركة وقالوا له لماذا قتلته يا أسامة وأوامر النبي ليست هكذا؟ فقال قالها مُتعوِّذاً، لأن هذا حدث  في آخر لحظة بعدما سقط السيف من يده وكاد أن يسطو به، لكن بلغت الحكاية النبي فغضب غضباً شديداً،يقول أسامة “حتى تمنيت أنني لم أُسلِم إلا يوم إذ”، أي يا ليت قد تأخَّر إسلامي لأن النبي غضب جداً جداً جداً، وقال له أقتلته يا أسامة؟ فقال يا رسول الله قالها مُتعوِذاً من السيف، فقال أشققت عن قلبه؟ أي هل رأيت أنت قلبه؟ كيف لك أن تعرف أنه قالها مُتعوِذاً من السيف؟ فالكلام في النية إذن، لذا قال له أشققت عن قلبه؟

لكن هؤلاء يُقسِمون أنهم يعرفون نيتك خيراً منك، ففي الفضائيات يُقسِمون لكي يُقنِعوا الناس أن هذا الرجل كافر وزنديق، ويقولون لهم كفِّروه وانفضوا عنه واقتلوه، وهذا شيئ لا يُصدَّق ومع ذلك يقولون لك ليس لدينا رجال دين، ولكن ماذا عن هذه المُمارَسة إذن؟ هذه مُمارَسة رجال الدين ومن ثم علينا أن ننتبه إلى هذا، وكما قلت لكم أن النسبة تصل إلى ثمانين في المائة من مُمارَسات الدين هى كذلك، ومع ذلك يقولون لك ليس عندنا رجال دين وإنما عندنا علماء الدين، وهذا غلط وغير صحيح!

نأتي الآن على ذكر كلمة عالم دين – نحن قلنا كلمة فقيه وكلمة عالم دين – لنتساءل: كيف نعرف أنه عالم دين؟ علماً بأنه من الخطأ أن نقول مثل هذه الكلمة حتى نكون صادقين أمام الله وأمام الناس، ولكن ينبغي أن نقول مُتكلِّم في الدين، فهو قارئ لكتب أو حافظ لكتب ويعلم أشياء ثم يتكلَّم فيها، وهكذا ينبغي أن نُسميه، فهو مُتكلِّم في الدين ليس أكثر، وهذا ينبغي أن يحدث من باب الصدق لأننا سنُسأل عنه يوم القيامة، فيجب أن نقول المُتكلِّم في الدين الدكتور فلان أو الدكتور فلان المُتكلِّم في دين الله والمُتكلِّم في الإسلام، ولكن الآن ما هو نصيبه من التحقق بما يقول ومن الصدق في قوله وفعله ودعواه؟ لا يعلم هذا إلا الله، ولكن الأشياء عليها ولها أشباه، وعليها علامات وشيات، ولها سمات.
ثم نُقارِبه أيضاً خلال سنة أو سنتين أو ثلاثة سنوات لكي نرى مواقفه، فهناك مَن قال لك “أنا أشهد للرئيس السابق بكذا وكذا وكذا وكذا” وعندما ذهب الرئيس قال “لا أقل من أن يُعدَم”، وهذا – والله – شيئ عجيب وغريب، وأنا حين أرى هذا أُصدَم، وأنا لا أكذب عليكم وإنما أقول هذا صدقاً وأتكلَّم به لكي أضرب الأمثال فقط، فالحمد لله ليس من عادتي أن أذكر أحداً بإسمه، فلم أفعلها مرة بفضل الله، ولكن هذه نماذج حية أذكرها لكم فقط، فهذا الشخص بالأمس كان يشهد للرئيس ويقول “يُشرِّفني أن الرئس يدعوني وأنا أُلبي دعوته وأجلس بين يديه، فهذا شرف لي”، والآن الرئيس ذهب أو ذهبت به الثورة فقال “ليس أقل من أن يُشنَق، لأنه دمَّر العراق ودمَّر فلسطين ودمَّر بلادنا”، لكن السؤال: متى عرفت هذه؟!

قال “لم نكن نعرف هذه المعلومات”، لكن فجأة أطلعه الله على الغيب وعرف هذه المعلومات، وذلك مثلما قالوا أن الديمقراطية تُعَد كفراً والآن يقولون الديمقراطية جائزة، فقلنا يا جماعة أعيرونا عقولكم، فقالوا هذا تطور فكري، ومن ثم قلنا كيف يحدث تطور فكري في شهر؟ هل يُمكِن لأحد أن يتطور في شهر واحد فقط؟ هل هو أينشتاين Einstein مثلاً؟  أينشتاين Einstein  نفسه مكث لمدة ثلاثين سنة على نظرية ولم يصل إليها في نهاية المطاف، لكن هذا الشخص – ما شاء الله – لم يتطوَّر في ثلاثين سنة وإنما تطوَّر في شهر، وهذه إسمها الحربائية الفكرية، فيجب أن نكون دقيقيين، والكلام عن الدقة في التسمية، هذه إسمها الحربائية الفكرية.

فهذا الشيخ قال “لا أقل من أن يُعدَم”، فقيل له “هذه كلمة كبيرة يا مولانا”، فقال “لابد أن يُعدَم”، وهذا شيئ غريب، فضلاً عن أنهم يغضبون الآن مِمَن يدعون  إلى العفو عن الرئيس، لكن لو سألتني عن رأيي سوف أقول لك “اعف عنه يا أخي، فلا يُوجَد ما هو أحسن من العفو، هو فقد ملكه وفقد كل شيئ”، أقيموا للناس أنموذجاً في التسامح يكون فيه محمد – صلى الله عليه وسلم – هو رائدكم”، فالنبي قال “اذهبوا فأنتم الطلقاء” لأعدائه، وقال عن أكبر عفريت فيهم وهو أبو سفيان الذي حارب الإسلام طيلة حياة الإسلام “مَن دخل بيت أبي  سفيان فهو آمن”، فالنبي يُحِب من أبي سُفيان أن يُسلِم وأن يُسعِده الله وليس لديه أي مُشكِلة معه رغم كل ما فعله، فانظر إلى هذه العظمة، هذه هى عظمة النبي إذا أرت أن تقتدي بالرسول وأن تستن به كما يقولون، فإذا كنت تستن بالنبي فهذه هى سُنة محمد إذن، محمد عفا عن أبي سفيان يا حبيبي لكن أنت تقول الله “لا أقل من الإعدام”، ونحن نكره هذه اللغة – لغة الإعدام والقتل والدماء – ولا نُريدها، لأن عندنا المزيد منها، وعندنا فائض من العنف، ومن ثم نحن نُريد فائضاً من الرحمة ونُريد مزيداً من الرحمة ومن الليان ومن المحبة ومن السلام ومن التصالح، والله العظيم هذا الذي نحتاجه، وهذا هو جوهر ديننا بإذن الله تبارك وتعالى.

على كل حال أنا أقترح أن يُسمى مَن يتحدَّث في الدين بالمُتكلِّم في الدين، وهذه تسمية صادقة ودقيقية ومُنجية أمام الله لأن ليس فيها أي كذب، فنحن إذن صادقون حين نقول المُتكلِّم في الدين الدكتور فلان،وبعد سنوات إذا ثبت أنه يُبرهِن ما يقول بالأفعال وثبت أنه صمد وتجاوز امتحانات كثيرة وابتلاءات بنجاح فإننا سوف نسميه العالم لأن هناك فرق كبير جداً جداً يجب أن ننتبه إليه، لأننا الآن حين نُعطيه شرف العالمية وشرف أن يكون عالماً فكأننا نقول للناس “هذا جديرٌ أن يُستفتى وجديرٌ أن يُؤخَذ عنه العلم الشرعي فلا تخافوا إذن، بعون الله لن يفتيكم فتوى تقودكم إلى حرب أهلية، فهو لن يُدمِركم ولن يضحك عليكم ولن يبيع ضميره من أجل دراهم معدودات أبداً، وذلك – كما قلنا – إذا ثبت بعد سنوات طويلة – ما شاء الله عليه – فعلاً وضمن ظروف مُختلِفة مع الحكام ومع العامة، فالرجل – ما شاء الله – استطاع أن يُبرهِن صدقه.

لكن إذا مرت السنون والأيام والشهور وهو فقط يكتفي بطحن الكلام فأنا أقترح أن يُسمى الكلامنجي، فيُقال الدكتور الكلامنجي أو الكلامنجي الدكتور فلان، فنحن نقول له أنه كلامنجي لأنه لم يزدنا إلا مزيداً من الكلام ليس أكثر.

أما إن برهَن على أنه يعمل بعكس ما يدعونا إليه القرآن – وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ ۩ – فأنا أقترح قرآنياً أن نُسميه : المُفسِد فلان، لأن علينا أن ننتبه إلى أن المُصلِح هو الذي يتطابق فعله مه قوله، أما الذي يُخالِف فعله قوله فهو المُفسِد بمفهوم الآية وليس بنصها طبعاً، وإنما بمفهوم المُخالِفة، فهذا هو الفساد إذن، وهكذا يتطرَّق الفساد إلى الدين وإلى تصور الناس للدين.

إذن لديناعالم دين – هذه أرقى الرتب – ولدينا مُتكلِّم ولدينا كلامنجي ولدينا المُفسِد، لكن علينا أن ننتبه إلى أن كل هؤلاء تخرَّجوا من كلية الشريعة وكل منهم له لقب دكتور، لكن هذا دكتور عالم، وهذا دكتور مُتكلِّم، وهذا دكتور كلامنجي، وهذا دكتور مُفسِد، وهكذا.

وهذا يُجنِّب الناس – والله – مآسي وكوارث كبيرة، ويُجنِّبهم بعض ما يعانون منه ويطحنهم من فوضى فكرية ومن فوضى روحية والآن فوضى دينية في عالمنا العربي والإسلامي.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

إذن ظهر أن هذه الخُطبة – كما نوَّهت –  وصلٌ بطريقةٍ أو بمعنى أو بآخر للخُطبة السابقة، وجوهرها وجوهر ما نحن فيه مرةً أخرى هو الصدق، فيا ليتنا نتعلَّم الصدق في التعبيرات وفي المُلصَقات.

وتحدَّثنا عن الصدق الوجداني، فيا ليتنا نتعلَّم أيضاً الصدق الوجداني في المواقف والانفعالات في كل الظروف وتحت كل الاشتراطات.

مرةً كتب شكسبير  Shakespeare في  المسرحية الشهيرة جداً هاملت Hamlet  على لسان البطل الأكثر وهمية بولونيوس Polonius أنه كان يقول لابنه في آخر وصاته الطويلة “أي بني وتعلَّم الصدق مع النفس، وكما يتبع الليل النهار والنهار الليل سيتبع هذا حتماً أنك ستصير عاجزاً عن أن تكذب على أي أحدٍ من الناس”، فالشخص المُحترَم باختصار هو الذي يتعلَّم الصدق مع الذات – أي مع نفسه – ولا يُمكِن أن يرضى لنفسه أن يرى نفسه في المرآة كذَّاباً أو دجَّالاً، هذا هو فقط، علماً بأن هذه رتبة إنسانية عادية ومُتواضِعة، وليست شيئاً كبيراً كما قد يتوهَّم البعض، فينبغي ألا أسمح لنفسي أن أنظر لنفسي على أنني الدجَّال الغرَّار الكذَّاب، ومن ثم فأنت إذا أخطأت مرة وبكيت في مجلس خوفاً وطمعاً أو خوفاً أو طمعاً في شيئ عُد مُباشَرة وليكن لديك شجاعة أن تقول أن هذه الدمعة مسروقة من التمساح فأنا سرقتها منه لأنها ليست دمعة صادقة، قل هذا مرة واحدة وأنا أقول لك أنك لن تعود إلي هذه الفعلة مرة أخرى أن قلت هذا، وهذه هى فلسفة الاعتراف – وأختم بهذه الفلسفة التي سبق وأن نوَّهت بها مرة واحدة وحيدة – التي يعرفها ويتعارفها الكاثوليك، فهذه الفلسفة لها أصول إسلامية لدينا ولكن طبعاً بطريقة أكثر تحديداً، قال الله وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ  ۩، فالله يقول جَاءُوكَ ۩، إذن علينا أن ننتبه أن الاستغفار لم يكن في البيت أو في السيارة أو في الخلوات وإنما كان أمام الصحابة وأمام النبي، فأمام الناس كان يُقال “يا رسول الله فعلنا كذا وكذا وكذا، فاستغفر لنا الله وادع الله لنا”، إذن هذا اعتراف أم ليس اعترافاً؟ هذا اعتراف Confession، مثل الاعتراف الكاثوليكي ولكن بطريقة مُهذَّبة وبطريقة مُحدَّدة الآن أمام سيد الخلق الذي هو أرأف بنا وأحرص علينا من أنفسنا، قال الله وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ۩.

اللهم تب علينا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، واهدنا واهد بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا، واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، برحمتك يا أرحم الراحمين.

(26/10/2012)
 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليقان 2

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: