إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ۩ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ۩ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ۩ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا ۩ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا ۩ لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

جرى على ألسنة العلماء والفضلاء التعبير عن محاسن الآداب وفضائلها بالزينة والتزين، حين يقولون ما تزيَّن امرؤٌ بشيئ أفضل من خُلق حسن، ولعلهم يشرعون في تعداد بعض مصاديق وآحاد هذا الخُلق الحسن.

والحق أن في هذا التعبير على شيوعه وسواغيته لدى العامة والخاصة تقصيراً بادياً، إن في هذا التعبير تقصيراً بادياً، فليس شأن الخُلق أن يُبلَغ به أن يكون زينة، إنه وراء ذلك، وإنه أخطر من ذلك، وأثقل في الموازين من أن يكون مُجرَّد زينة ومُجرَّد حلية، إنه جوهر الإنسان، إنه جوهر الواحد منا.

فواحدنا في نهاية الأمر ليس إلا مجموعة خلائقه ومسالكه، لا يُمكِن أن يُختزَل في اسمه أو في رسمه الظاهر وشكله وصورته، كلا! وليس بهذا يكون التفاوت، إنما يكون التفاوت بالخلائق والمسالك الحميدة.

أيها الإخوة والأخوات:

ولذلك هذه الخلائق وهذه المسالك السنية الرفيعة الشريفة هي التي تُشكِّل حقيقة الإنسان وجوهره، وهي التي يقدم بها الإنسان على ربه – سُبحانه وتعالى -، ويُمكِن أن يُرجّي بها رحمته ورفعة المقام وشرف الرُتبة لديه والزُلفى – سُبحانه وتعالى -، بهذه الأشياء، إنها إذن أكبر من حلية وأخطر من مُجرَّد زينة ظاهرة.

وديننا الحنيف – ولله الحمد والمنّة – بلغ في الدلالة والإرشاد على مجامع هذه الأخلاق الحسنة والمسالك الشريفة ما لم يبلغه دين أو فكر أو شرع سواه، لا قبله ولا بعده، على الإطلاق! 

فمن ذلكم ما سمعتم من قوله – عز من قائل – لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۩، وفي هذا يقول المُصطفى المصدوق – صلوات ربي وتسليماته عليه – فيما أخرجه الإمام الترمذي وابن ماجة من حديث أم حبيبة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، يقول كل كلام المرء عليه – أي لا له، عليه وليس له، مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ۩، لم نُخلَق سُدى ولم نُترَك هملاً – إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر وذكر الله سُبحانه وتعالى، فللمرء ما كان من أمر أو نهي أو ذكر، ويدخل في الذكر أشياء كثيرة، الذكر ليس وقفاً وليس حصراً في نحو سُبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وهذا من أشرفه على الإطلاق إن لم يكن أشرفه، وإنما الذكر كل ما دل على الله وازدُلِف به إلى الله، فمجالس العلم بلا شك – العلم الشرعي النافع – ذكر بإجماع الأمة سلفاً وخلفاً، كما قال عطاء الذكر مجالس الحلال والحرام، ما ينبغي وما لا ينبغي، قال هذه مجالس الذكر، فالعلم يدخل في هذا، ولذلك استُثنيَ هذا العلم في أحاديث صحاح أُخرى، الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكرُ الله وما والاه أو إلا ذكرَ الله وما والاه، ولكل منهما وجه في النحو العربي إن نصبنا وإن رفعنا، أو عالماً أو مُتعلِّماً، مُستثنى! لأن هذا أيضاً يدخل في عموم الذكر، لأنه به يُذكَر الله، كيف لا يُذكَر به الله وهو دلالة على حُكمه، وهو دلالة على مُراده، وهو دلالة على مقصوده منا في أبواب العبادة وفي أبواب المُعامَلة وفي أبواب الأخلاق والمسالك؟ بلا شك أنه يدخل في عموم ذكره – سُبحانه وتعالى -.

ولما ذُكِر هذا الحديث الجليل – حديث أم حبيبة، رضيَ الله تعالى عنها – بين قوم كان فيهم الإمام الجليل سُفيان الثوري – رضيَ الله تعالى عنه – أظهروا عجبهم، تعجَّبوا! هل فعلاً كل كلامنا علينا إلا هذه الأشياء فقط المُستثناة؟ فقال الإمام سُفيان بن سعيد الثوري – قدَّس الله سره – وما عجبكم من هذا الحديث؟ أليس قد قال الله تعالى لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۩؟ قال أتتعجَّبون لأنه حديث؟ الآية تقول هذا، القرآن قال هذا، كأنه يقول لهم إن كنتم تقرأون القرآن وإن كان لكم في القرآن نظر واعتبار وفكر، الله يقول هذا! لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ ۩، والآية أدق من الحديث، الآية تقول لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ ۩، لأن هناك أشياء أُخرى يُمكِن أن تُستثنى ولا يظهر وجه اعتلاقها بالثلاثة المُستثناة أو المُستثنيات، ولذلك قال تعالى لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ ۩، فقد يصح أن يدخل في هذه المُستثنيات ما كان من جنسها وفي معناها مما يذهل الذهن عن مُلاحَظة اعتلاقه بهذه المُستثنيات أو بهاته المُستثنيات، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

أيها الإخوة:

أُحِب ان أجعل كلامي في هذا المقام الشريف عن أمور ثلاثة، عن أمور ثلاثة فقط! وهي ترك الفضول من النظر ومن القول ومن الخُلطة، وأكثر ما يهلك به الخلق الفضول – وهو الزيادة على الحاجة – في هذه الأبواب الثلاثة، أولها بلا شك فضول القول، إرسال اللسان رسلاً رسلاً، يهوي ويأتي وينتجع كل وادٍ مما يحل ومما يحرم، لا يُبالي! وهذه حال الفجّار والعياذ بالله.

قال الإمام إبراهيم التيمي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – المُؤمِن وقّاف، إذا أرد أن يتكلَّم نظر، لا يُرسِل لسانه، إنما ينظر، يزن كل كلمة، كل جُملة لها وزن ولها تقويم، المُؤمِن وقّاف، فإن أراد أن يتكلَّم نظر، فإن كان له مضى، وإلا أمسك، إذا كان هذا الكلام لي – في صحيفة حسناتي – أتكلَّم إن شاء الله، سأقول بما يُرضي الله، وإن كان غير ذلك سكت، صمت، فلم أتكلَّم، هذا هو المُؤمِن، اللهم اجعلنا على هذا الوصف وهذا النعت الشريف.

وإنما الفاجر لسانه رسلاً رسلاً، يتكلَّم – والعياذ بالله – فيحطب في حبل الكذب، وفي حبل المُبالَغة، وفي حبل التيه والزهو والمدحة الكاذبة والملق والدهان، ويُصبِح صاحبه ذا وجهين، بل ذا وجوه – والعياذ بالله -، وذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً، يأتي هؤلاء بوجه وبلسان، وتضطره مُخالَطة الناس والمُتايَعة والمُتابَعة والاستغراق في مُخالَطتهم إلى أن يأتي ربما أعداؤهم أو شانئوهم فربما حمله هذا على أن يأتيهم بوجه آخر وبلسان آخر، فيصير مُنافِقاً من حيث لا يشعر، فيصير مُنافِقاً كذّاباً مُرائياً مُداهِناً وملقاً من حيث لا يشعر.

ولذلك لما قيل لأحد الصالحين ما الذي حملك على اعتزال الناس؟ قال خشيت أن أُسلَب ديني وأنا لا أشعر، وجدت أنني أحطب في المعاصي كلما التقيت بهؤلاء الناس، فما يحملني؟ اعتزل، جلس في بيته الرجل وخيراً صنع، وخيراً صنع! لأن دينه بدأ يتفلت منه، وهذا في زمانهم، فكيف بهذا الزمان السوء؟ كيف بهذا الزمان السوء – والعياذ بالله -؟ ولسنا ندعو إلى عُزلة هكذا، وإنما نُنبِّه، إنما هي ملاحظ وملامح.

إذن فضول القول، أي إرسال اللسان، وفضول النظر، أي إرسال العين، وفضول الخُلطة، أي إرسال الرجلين، ويسعى إلى كل ندي، وإلى كل مُجتمَع، وإلى كل محفل، وإلى كل مجلس قوم، يجلس مع هؤلاء وهؤلاء، لا شغل له، لا صنعة له، إلا أن يُزجي الأوقات مع عباد الله، ما هذا؟ وهكذا يهلك أكثر الناس، بالفضول في هذه الأشياء الثلاثة، فعلى مَن شاء أن يُؤدِّب نفسه أن ينتبه إلى هذا، أقول هذا وفي ذهني أن مُعظَم الناس إنما يتلقَّون مثل هاته المواعظ ومثل هذا الكلام على أنه مُجرَّد أدبيات، مُجرَّد مواعظ كما وصفتها، تُسمَع فتُستحسَن، ثم يمضي المرء على شاكلته وعلى ما هو عليه، هذا من قلة العقل، أنا أقول لكم هذا من قلة العقل ومن قلة الدين، وإنما العاقل – الذي تم عقله وكمل رُشده – مَن ينظر في خيره ويُلزِم نفسه الأدب، ولابد من مُجاهَد.

إن كنا نظن أن رضوان الله يُصاب وأن الجنة تُنال بإرسال النفس على هواها والميل معها في أميالها كيف كانت وأنى كانت وكيف شاءت هذه النفس فلا والله، إنما هذه السبيل سبيل الهالكين، هذه سبيل الفجّار والفاسقين، ليست سبيل المُؤمِنين المُجتهِدين الأيقاظ الواعين، المسألة تحتاج إلى مُراجَعة.

وجدت في نفسي وفيما أعرف وفيمَن أعرف من عباد الله أن أكثر هلاكنا أيضاً من كذبنا على أنفسنا، لو سألت امرأً وكان عاقلاً مَن أكثر مَن كذب عليك؟ فتعدى نفسه فليس بعاقل، لو كان عاقلاً لقال نفسي، أكثر مَن كذب علىّ في حياتي نفسي، أكثر مَن غرَّني نفسي، أكثر مَن خدعني نفسي، نفسي! هي أعدى أعدائي.

قبل ليلتين قلت لأحد أحبابي في الله الآتي، والآن أُمثِّل هذا في خواطركم، هذا ما سيكون حتماً ولزوماً بين يد الملك الجليل غداً، لا إله إلا هو! فلا والله الذي لا إله إلا هو لن يسطيع أحدنا بين يدي الله كذباً ولا ميناً، وَقَالَ صَوَابًا ۩، سيتكلَّم بالحق على الرُغم منه، في الدنيا تقول لنفسك أولاً وتقول للعالمين ثانياً، إنما من موقفي من فلان ابن فلان لأنه أراد الدين بسوء، لأن أراد المُسلِمين بسوء، لأنه لا يتقي الله، وكل هذا كذب، وأنت تعلم أنه كذب، وإنما الذي حملك على بُغضه وشنآنه والتنكر له والحط منه الحسد، تعلم هذا! أنت تعلم أن الحسد هو الذي حملك على ما تصنع، لكنك لا تقول هذا لنفسك، ولا تقول هذا لمَن اتخذته عدواً، ولا تقول هذا لعباد الله، دائماً تتستَّر بالدين وبالمصلحة العامة ومصلحة الجماعة ومصلحة الأمة، أليس كذلك؟ وتتستَّر خلف أخطائه، كأنك المعصوم المُهذَّب، ولست به، ولن تكونه إذا كانت هذه سبيلك وهذه الكيفية التي تدرج عليها، غداً بين يدي الله سيختلف الأمر، وبالله تصوَّروا هذا يا إخواني، قبل أن تناموا كل واحد منكم ليقل لنفسه غداً إذا وقفت بين يدي الله بماذا سأعتذر إذا خاطبني في مسألة كذا؟ وأنا أعرف عُذري، ليس لي عُذر، إنما هو الكذب والتدليس والتدجيل على النفس، ماذا سأقول لربي؟ إذن كيف سيكون مُنصَرفي؟ إلى أين سيكون مُنصرَفي؟ إلى أين سيكون مُنصرَفي إذن؟ فضيحة وهُلكة، مهلكة عظيمة يا إخواني!

الإنسان يكذب على نفسه، يكذب على نفسه أكثر ما يكذب – والعياذ بالله -، يخدع نفسه أكثر ما يخدع، ثم يُحاوِل مُخادَعة الناس ومُخادَعة مَن لا يُخدَع، لا إله إلا هو! الله لا يُخدَع أبداً كما تعلمون، فعلينا أن نكون صادقين واعين مُباشِرين مع أنفسنا أولاً قدر ما نستطيع، علينا ألا نلتمس لها المعاذير، انتبهوا! كل مَن يلتمس لنفسه هذه المعاذير هو إنسان لم يتم عقله، لم يكمل رُشده، وهو مخذول، الله ما أراده بعناية، لو أراده بعناية لبصَّره بعيوب نفسه، لكان صادقاً، حتى في قضايا النزاع والاختلاف والحقوق والمُشاقة سيقول لنفسه نعم فلان ظلمني لكن أنا أيضاً ظلمته أكثر أو بأكثر مما ظلمني، والحق أحق أن يُتبَع، أنا الذي بدأته وأنا الذي أحرجته وأنا الذي استفززته، أنا! ثم إنه أساء فرددت عليه بأضعاف إساءته وأستغفر الله، هكذا الصدق!

هل يُمكِن أو هل أتاكم أو هل أتى أحداً منكم أحدٌ يوماً وقال له أخي استغفر لي ولك الله سُبحانه وتعالى، فكل ما كان بيني وبينك ليس من سوء حقيقي لاحظته أو وقفت عليه من جانبك، إنما هو الحسد من جانبي، قلبي مريض فاستغفر لي الله؟ هل حصل هذا؟ لا يحصل هذا، لا منا ولا من غيرنا، لأننا نكذب على أنفسنا، لسنا صادقين، لسنا صادقين مع الله تبارك وتعالى، لو كنا صادقين لسلكنا هذه المسالك، إي والله! لسلكنا هذه المسالك.

أنا اتفق لي هذا مرات في حياتي مع أُناس أفاضل، اعترفوا بمثل هذه المعرفة بوضوح، وبعضهم جعلها في مجمع والله، وهؤلاء فتح الله عليهم بعد ذلك، ليس بفضل أنهم اعترفوا بأخطائهم، وإنما بفضل ما أعطاهم الله من طبيعة طيبة ومن قلب سليم، لا يُحِبون أن يكونوا مُبتلين بالحسد وبالكذب والخديعة أيضاً والغش، فإن ابتلاهم الله بشيئ من حسد فلا أقل من أن ينجوا بالصدق، كان عندهم نوع من الصدق والمُصارَحة لأنفسهم ولإخوانهم، اللهم اجعلنا كذلك، اللهم اجعلنا كذلك، لا تجعلنا من أهل الدعوى وأهل التمثيل، كأننا مُمثِّلون في مسرحيات وتمثيليات، كل واحد يُمثِّل، أعوذ بالله من هذه الحالة، والله ليست هذه بحالة المُؤمِنين ولا بحالة المُتديِّن الحقيقي، اقرأوا القرآن، اقرأوا كتاب ربكم، كل آية فيها – كما قال ابن مسعود – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ۩ أرعوها سمعكم، وكذلك الأمر نفسه مع الآيات التي فيها إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ۩ أو أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۩، انظروا إلى أوصافها، هذه طبيعة الإيمان، وهذه لوازمه ومُقتضياته، مَن صح إيمانه تحقَّق ولابد بهاته الصفات، لأنه مُؤمِن، الله يقول هذا هو المُؤمِن، المُؤمِن شأنه هكذا، هل أنت هكذا؟ فإن كنت هكذا فأنت مُؤمِن، إن لم تكن هكذا أو كنت على بعض هذا ولم تكن على بعضه فإيمانك منقوص ومدغول ومدخول، زِن نفسك بكتاب الله، ليس بخديعة النفس، وليس بالكذب على الذات وعلى الآخرين، اعرض نفسك على كتاب الله، لا تسأل الشيخ ولا العلماء ولا الأصحاب، سل كتاب ربك، سل ربك، لا إله إلا هو! ما أنا يا رب عندك؟ وما خطري؟ وما قيمتي؟ وما وزني؟ وسيقول لك اعرض نفسك على كتابي، اعرض نفسك على هذا الكتاب، مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۩، اعرض نفسك بصدق على كتاب الله تبارك وتعالى، والله ستعرف نفسك حقيقةً، ما أنت؟ وأين أنت؟ وأين تقف تماماً؟

لذلك هذه القضية ينبغي أن نأخذها بجد، هذه ليست قضية مواعظ وكلام هكذا يُقال لكي نتزيَّن به – أتزيَّن به لكم وتتزيَّنون به بعضكم لبعض -، لا! ليست هكذا، والله هذا لا يُفيد، حتى لا يستحق تضييع الوقت، ولكن علينا أن نتخذ هذا مدرجةً ندرجها إلى المراقي وإلى المعالي، تربية! تربية نفسية حقيقية، ليرضى الله – تبارك وتعالى – عنا.

ولنأت – وكلنا ذلكم الفضولي، نحن أهل فضول – إلى فضول اللسان، لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۩، ماذا قال الربيع بن خثيم؟ هذا التابعي الجليل والولي الصالح تَلميذ عبد الله بن مسعود، ولعله تلقَّى هذا وتعلَّمه من شيخه أبي عبد الرحمن، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، ابن مسعود هو الذي قال أُنذِركم فضول الكلام، هو الذي قال هذا، قال أُنذِركم – قال أُحذِّركم – فضول الكلام، بحسب امرئٍ من الكلام ما بلغ به حاجته، إن تأدى المعنى والمقصود بكلمة فالثانية فضول، إن تأدى بجُملة فالثانية فضول، انتهى! تكلَّمت وفُهِم عنك فاسكت، انتهى! قال العلماء ولا يُستحَب التكرار والعود على البدء إلا في نحو تدريس وتعليم وموعظة، لمَن كان لا يفهم ولا يحذق لأول مرة، بعض الناس عنده نوع من البطء في الفهم والتلقي، فهذا يُستحسَن – من مُستمِع أو من مُتلقٍ أو من مُتعلِّم أو من طفل صغير أو من إنسان حديث العهد بالعلم والتربية والموعظة وربما الإسلام أيضاً، أي مِمَن أسلم حديثاً، إلى آخره – ويُستحَب – وهذا أيضاً من آداب أسلافنا الصالحين – أن يُعاد له الكلام، النبي كان يفعل هذا، يُعاد مرة ومرتين وثلاث مرار حتى يفهم، أما مَن كان لقناً زكناً فهماً يقظاً فلا، يفهم المقصود بكلمة، انتهى! لماذا أنا أُعطيه الثانية؟ فضول مني!

ولذلك إمامنا أبو حامد الغزّالي – قدَّس الله سره – في إحيائه لما تكلَّم عن آفات اللسان جعل الفضول – فضول الكلام – الآفة الثانية، أي جعلها رقم اثنين، الآفة الثانية – قال – الفضول، أي فضول الكلام، وعرَّفه بأجمع تعريف وأحسنه وأمنعه، قال وفضول الكلام ما كان في غير معنى، في أمر غير مُفيد! يجلس بعضنا إلى بعض فيقول أحدهم هل استمعت إلى الأخبار اليوم؟ فأقول استمعت، فيقول هل استمعت إلى خطاب أوباما Obama؟ فأقول استمعت، ومع ذلك يبدأ يتلوه علىّ، أنت سألتني يا أخي، قلت لي هل استمعت؟ وأنا استمعت وقلت استمعت، فلماذا تتلوه علىّ؟ تُضيِّع وقتك ووقتي، انتهى! نحن استمعنا، إن كان لديك مدخل تحليلي – تُريد أن تُحلِّل شيئاً – فتفضَّل، لكن لا ينبغي أن تُعيد ما استمعنا إليه، لا يجوز هذا، لا يحسن، تضييع وقت وفضول هذا، لن يأتي منه معنى جديد.

قال أبو حامد والزيادة على قدر الحاجة فيما يعني، إذن الكلام فيما لا يعني – فيما لا معنى تحته، لا مُحصِّل ولا طائل من ورائه – فضول طبعاً، كلام فارغ وأشياء فارغة، مُعظَم أحاديث عباد الله في الدنيا أو في هذا المعمور هي كلام فارغ – والله العظيم – وفضول، والمُسلِمون في رأس الأمم، بالعكس! ليسوا في المُؤخَرة في هذا، في رأس الأمم، الذين مُعظَم أحاديثهم فضول وكلام فارغ، لو جعلوا مُعظَم حديثهم درساً وعلماً وتعليماً وتلاوةً وذكراً – والله – لظلوا في مُقدَّم الأمم، لظلوا الأمة الأولى، لكن مُعظَم أحاديثهم لا معنى لها – والعياذ بالله -، وهي أمة تتلو قوله – تبارك وتعالى – مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ۩، وتتحفَّظ جيداً قول الصادق الأبر – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – مَن كان يُؤمِن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمُت – وتُضبَط أيضاً ليصمِت، كلتاهما فصيحتان، أو ليصمُت أو ليصمِت -، أخرجه الشيخان من رواية أبي هُريرة، هكذا! 

تتحفَّظ هذا جيداً ولكنها لا تعمل به، هذا كلام يُقال، كلام يُدرَّس للأطفال وفي المدارس وفي الكتّاب، لا ندرج عليه، ولا يُحاسِب امرؤٌ نفسه، ولا يُحاسِب أخٌ أخاه على هذا، نتكلَّم فيما يحلو وفيما نشتهي بلا معنى، فالكلام فيما لا يعني فضول، والزيادة على قدر الحاجة فيما يعني فضول أيضاً، فمهما تأدى المعنى – كما قلنا – بشيئ لم يجز ولم يحسن أن يُزاد عليه، لأنه ربما انجر إلى ما لا يجمل، بل ربما تأدى بصاحبه بأخرة – في آخر الحديث – إلى نحو غيبة أو نميمة أو دعوى نفس أو مدحة كاذبة أو مُداهَنة أو… أو… أو… إلى آخره، فلماذا إذن؟ من الزيادة، من الإكثار، فابن مسعود يقول أُنذِركم فضول الكلام، بحسب امرئٍ ما بلغ به حاجته، أي من الكلام، انتهى! بلغت حاجتك فاسكت، انتهى! عُد إلى الصمت، إلى تسبيح الله، إلى ذكر الله بالقلب أو باللسان.

قال الربيع بن خثيم – قدَّس الله سره، تَلميذ ابن مسعود – ينبغي السكوت إلا من تسعة، تسعة أمور نتكلَّم فيها، في غير هذه لابد من السكوت، هذا الربيع! كان ابن مسعود إذا رآه يقول الله أكبر يا ربيع، وجهه يُنبئ عنه، وجهه نوراني ملائكي علوي، يقول الله أكبر يا ربيع، وبشِّر المُخبِتين، والله لو رآك رسول الله لأحبك، يقول له نعم أنت لم تُدرِك الرسول، أنت تابعي، ولكن أنت لو كنت صحابياً لأحبك رسول الله، رجل عابد عجيب، قدَّس الله سره، هذا أعطانا درساً في الفضول – أي في ترك الفضول -، في الأدب، في الانجماع على الخير وعلى مرمة المعاش والظعن للمعاد، هذا هو! قال إلا من تسعة، ذكر منها سُبحان الله – عدَّدها هكذا – والحمد لله ولا إله إلا الله، كأنه يقول اجعلوا هذا كلامكم، اجعلوا هذا ما تُملأ به الصحائف كل يوم، هذا هو، ذكر! لابد من مسبحة معك، لابد أن تكون المسبحة معك لكي تكون في ذكر مُستمِر، لا يُوجَد غير هذا، لو خاضوا في الباطل خُض في ذكر الله أنت، دائماً! لا تقل لي أنا أصمت عن كل شيئ، لا والله، لا تستطيع أبداً، القلب ينشغل، والعين رائد – والعياذ بالله – أو رسول القلب، فينشغل بأشياء مما لا يُرضي الله، لذلك اشغل نفسك بالصالحات.

ولذلك قال الشافعي استفدت من كلام القوم – هؤلاء المُتزهِّدين المُتفقِّرة استفدت من كلامهم – فائدة لو لم يكن إلا هي لكفت، قال كلمة عظيمة جداً تعلَّمتها من هؤلاء الذين سيُسمَون فيمَن بعد بالصوفية، المُتفقِّرة المُتزهِّدة قالوا نفسك إن لم تشغلها – أي إن لم تشغل نفسَكَ، ويجوز نفسُكَ أيضاً، لكن نفسَكَ منصوبة على التحذير، احذر نفسك – بالخير شغلتك بالشر، لا تقل لي أصمت عن كل شيئ، لا تستطيع، فاشغلها بالخير دائماً، اشغلها! حتى يُصبِح هذا ديدنها، تصير إلى حالة وأنت نائم – في المنام – تحلم بالأذكار وبالصالحين وبالقرآن وبالمعاني الدينية، وتقوم وأنت تُسبِّح، شيئ عجيب! وغداً تُدفَن، فتُوقَظ في قبرك، فتقوم تُسبِّح، لا إله إلا الله، فيقول لك الملكان قد كفيتنا أمرك يا عبد الله، نم نومة العروس، ما هذا؟ درجة أولى، امتياز هذا في الامتحان، طبعاً لأنه اعتنى بهذا في الدنيا، لم يكن على مدار الأربع والعشرين ساعة مُهتَماً بالكلام الفارغ أو بعد النقود، هذا دخل وهذا خرج، الناس على مدار الأربع والعشرين ساعة في محراب المادة، شيئ عجيب يا أخي، شيئ عجيب! كأنهم سيخلدون في هذه الدنيا، وكأن أرزاقهم مقطوعة إلا أن يُتابِعوها هذه المُتابَعة المهووسة أو المُهوَّسة المجنونة – والعياذ بالله -، ثم يموتون شر ميتة في تعب ونصب، وهم مُقِلون جداً من ذكر الله ومن الحسنات.

هل يخطر لأحدنا أن يسأل نفسه كم كتب علىّ ملك اليمين اليوم وكم كتب ملك الشمال؟ هل تسأل نفسك هذا السؤال؟ هذا سؤال مُخيف، أين الحسنات؟ سل نفسك أين الحسنات التي فعلتها اليوم؟ سل عن الحسنات التي فعلتها اليوم ما عدا الصلوات التي صليتها وربما في غير أوقاتها والله أعلم كيف قرمطتها وكيف نقرتها نقر الغراب الدم – صليتها بسرعة -، ومن غير سُنن ومن غير مُعقِّبات، لا آية كرسي ولا تسبيح، هناك مَن يقوم مُباشَرةً، يُسلِّم ويقوم مُباشَرةً، عجيب! ثقيلة جداً عليه، أي الصلاة، لقاء الله ثقيل جداً على أحدنا، اللهم نشكو إليك هذه النفوس – والله العظيم – وهذا التعب، هذا التعب من العبادة، ما هذا يا إخواني؟ نتعب من أقل العبادة ولا نُحسِنها، فيما عدا ذلك ماذا يجد هذا المسكين ليكتب؟ هذا الملك الكريم ماذا يكتب؟ لا يكتب شيئاً، أما الآخر فما شاء الله باستمرار يكتب، هذه نظرة فيما حرَّم الله، في المجاس – ما شاء الله – لسانه يطول، اللسان هذا لا يكاد يهنأ إلا أن يغتاب أو ينم أو يتكلَّم بالكلام الفارغ القبيح، انتبه! 

والإنسان عموماً إنما يبتغي نفسه اللذة والسعادة والمسرة والفرح، غريزة هذه في الإنسان، تطلع فطري، لكن يا هنيئاً لمَن كانت مسرته وفرحته وراحته ورَوْحه فيما يُرضي الله، ما الذي يمنعكم من هذا؟ والله العظيم يا إخواني – أُقسِم بالله الذي لا إله إلا هو – إن لذة الطاعة ولذة ذكر الله والفكر في الله – عز وجل – والأُنس بالله – والله العظيم – لا يعدلها شيئ في الكون، جرِّبوها! جرِّب يا مُؤمِن، جرِّبي يا أختي، جرِّب هذا حقاً، وبعد ذلك يستحيل أنك تهنأ بمعصية، لا يُمكِن! يتشوَّش عليك حالك وقلبك وظاهرك وباطنك، تمقت نفسك – والله – بعد ذلك، الآن أنت حالك مُشوَّش إلا أن تعصي، وتشعر باللذة، لكنها وقتية، بعد ذلك تشعر بالانقباض وبالحصر وبالحرج في صدرك وبالضيق، وبعد ذلك تبدأ تعرض نفسك – إذا كان عندك بعض المال – على أطباء مُعالِجين، فيقولون إنك تُعاني من الــ Depression، أي الاكتئاب، Depression ماذا؟ هذه معصية، قال تعالى أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ۩، والله العظيم لو صدق الإنسان في عبادته – والله – لما احتاج إلى طبيب نفسي ولا غير نفسي ولا إلى استشارة، أين؟ أنا مع الله، وأنا في ذكر الله، لا أحتاج إلى شيئ، فالله طبيبي، الله شافيي، لا إله إلا هو! والوصفات في كتابه، قال أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ ۩، قرَّر وأرسلها إرسال المُسلَّمات، الله – تبارك وتعالى – أرسل هذه الحقيقة إرسال المُسلَّمات، قال أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ۩، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ۩، نُضرة في الوجه، قوة في القلب، ثبات في العزم، ثبات في الخطو، استبصار واستشراف وتيقظ دائم في الفكرة والهم والخطور، هذا هو المُؤمِن، هذا هو المُؤمِن!

المُؤمِن تتيه الأكوان فيه كما قال إقبال رحمة الله عليه، الأكوان تيه فيه، والفاسق والفاجر وضعيف الإيمان والدنيوي والشهوان يتيه في شبر ماء، يتيه في خُطوة واحدة من خُطوات النفس وأهوائها، يتيه ويضيع المسكين، ولا يُنقِذه شيئ في هذا العالم.

تدخل أحياناً على أُناس من ذوي الهيئات في هذه البلاد وفي غيرها، بعضهم أطباء – مثلاً – وغير ذلك، تجده كالمُهوَّس، حركته ليست موزونة، ليس مُنضِبطاً، يدخل ويخرج كالمجنون، تقول ما هذا؟ أهذا مُتعلِّم؟ أهذا فعلاً طبيب؟ ما هذا؟ لا تُوجَد سكينة، لا يُوجَد هدوء، ولا تُوجَد شخصية، والله العظيم! كباراً كانوا أو صغاراً، من ابن أربعين إلى ابن سبعين، أنت أمام إنسان مُعتَل، يظهر هذا من حركاته، وطبعاً هذا لو عُرِض على طبيب نفسي سيقول هذا يُعاني اضطرابات خطيرة جداً جداً في شخصيته، يُعاني من كذا وكذا وكذا، هذا جزاء البُعد عن الله تبارك وتعالى، أما المُؤمِن فليس كذلك، عجيب حتى أمر المُؤمِن هذا، حتى أمام المصائب نجده صابراً مُعتصِماً مُحتسِباً، يعتصم بعروة الصبر والتسليم والرضا بقضاء الله تبارك وتعالى، ويرجو ما قد تعلمون جميعاً مما لا يرجوه كافر أو مُلحِد أو فاجر فاسق، وأمام النجاحات – أمام سعة الدنيا، أمام المال، أمام مناصب الدنيا، أمام التوفيق في شأن الأولاد والزوجة، وفي كل شيئ – تجده قراً، لا يُستطار فرحاً – إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ۩  – كأنه أنجز ما لم يُنجِزه أحد في العالمين وكأن الله امتن عليه بما لم يُعطه أحداً من الخلائق أجمعين أبداً، بالعكس! يقول لعله فتنة، أسأل الله ألا يكون فتنة وألا يكون متاعاً إلى حين، ماذا قال سُليمان بن داود – عليهما السلام – وقد ملَّكه الله من المُلك ما قد تعلمون؟ سُليمان ماذا قال؟ قال لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۩، قال هذا بلاء، أنا أعرف – قال – هذا، كل هذا المُلك الواسع العريض القصير جداً جداً جداً بلاء، لأنه سيكون بعمري أو بما بقيَ من عمري، قال أنا أعلم أنه ابتلاء، لن أُفتَن به إن شاء الله، إني إلى ربي من الراغبين، وبه من المُستعصِمين، هكذا هو الإيمان، هذا درس الإيمان يا إخواني، هذا ليس مواعظ، عيشوا هذا حقيقةً لتعلموا ما هو الإيمان، لكي تذوقوا وتطعموا طعم الإيمان يا إخواني.

فنعود بعد هذا التفصيل، قال إلا من تسعة، سُبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر ومسألة الله الخير والاستجارة به من الشر، فهذه تسعة كوامل، قال هذه أكثروا منها، في غير هذا اسكتوا.

قال أحد أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – إن الرجل ليُكلِّمني بالكلمة – أي بالكلام، بالجُملة – وجوابه أشهى إلىّ من الماء البارد للظمآن – أُحِب أن أتكلَّم، أُحِب أن أُجيبه، ربما يسأل سؤالاً وعندي جوابه، ربما يقول قولاً وعندي رده – فأُمسِك، لماذا؟ قال مخافة أن يكون فضولاً، لعل الموضوع كله يتعلَّق بالكلام الفارغ والفضول، ليس موضوعاً مما يُرضي الله، ولذا سأُمسِك، سأدعه يتكلَّم لكن أنا لن أتكلَّم، سأسكت.

وهذا كان حال بعض كبار علماء هذه الأمة، لا يكادون يتكلَّمون، إلا في العلم والذكر، فيما عدا ذلك يسكت الواحد منهم، صامت الرجل وكأنه عيي، كأنه عيي أخرس، وليس بالعيي، هو سيد في الفصاحة والبيان، لكن لا يتكلَّم إلا فيما له، قال الفُضيل بن عياض – قدَّس الله سره – أعرف مِن أصحابنا مَن كان يُحفَظ كلامه مِن الجُمعة إلى الجُمعة، تستطيع أن تعد كم كلمة تكلَّم في الأسبوع، لا يتكلَّم، لا يُمكِن! دائماً هو ساكت، لابد من السكوت، فليقل خيراً أو ليصمت، لو عندك خير هات، لو ليس عندك خير اسكت يا رجل، هذا أحسن لك وأفضل.

ولذلك قال إبراهيم النخعي – قدَّس الله سره – هلاك الناس من خلتين، خصلتان – قال – أو خلتان هما سبب هلاك الناس إلا مَن رحم الله فلم يهلك، فضول الكلام وفضول المال، عنده مال زائد فيبدأ – ما شاء الله – يُصرِّف هذا المال الزائد في أشياء لا تُرضي الله، كما قلت لكم غير مرة ولست مُتظرِّفاً – هذه الحقيقة – بعض الناس أول ما يخطر على باله بالمال الزائد أن يتزوَّج على زوجته، لا لأنه يحتاج إلى زوجة ثانية، ولا لأنها لا تقوم بحقه، لا! لأنه بطران، أبطره المال، ما شاء الله! الآن – كما يقولون بالعامية – شم نفسه، أول ما يُفكِّر يُخرِّب بيته، أحمق! هذا أحمق، ليس فحلاً، وليس رجلاً له حاجات زائدة، أحمق! إنما هو أحمق، لا أكثر ولا أقل، انتبهوا! هذه الحقيقة، فيهلك المسكين في الدنيا قبل أن يهلك في الآخرة، أحمق!

العاقل ليس هكذا، العاقل يُحدِّد مقصده وبُغيته، ويعمد إليها، لا يتخوَّنه شيئ، ولا يكسر حد عزمه أحد ولا شيئ أيضاً، هذا العاقل، لذلك قالوا إذا تم العقل نقص الكلام، وقالوا أيضاً لا تكمل العقول إلا بترك الفضول، حتى قالوا – ولنعم ما قالوا وأحسنوا ما شاءوا – الزُهد في الكلام خيرٌ من الزُهد في غيره، بعض الناس يزهد في الشهوات وفي المال وفي المناصب، هذا حسنٌ، لكن أحسن من هذا وأصعب منه الزُهد في الكلام، ألا تتكلَّم إلا فيما يُرضي الله، ستقول لي هذا صعب جداً جداً، أنا أجد سلوتي وعزائي في هذا، أُريح نفسي بالكلام الفارغ هذا، نعم أعرف هذا، كلنا ذلكم الرجل، فتعوَّد غيره، هذا من الكسل، الذي يُسميه علماء التربية البشرية الآن الكسل العقلي، مُتعوِّد إذا جلس ووضع رجلاً على رجل أن يبدأ يتحدَّث في الكلام الفارغ، لا! الآن قل لعقلك ولنفسك لا، لن أفعل هذا، انتهى هذا، اليوم مشوار جديد، افتح المُصحَف، ستقول هذا صعب جداً، أأفتح المُصحَف وأقرأ؟ القلب غير مُرتاح، الصدر حرج جداً، نعم نعرف هذا، نعم! الشيطان موجود، لا يُريد لك هذا، لكن هذا يحدث فقط في البداية، بعد حين إذا صدقت الله – فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ۩ – فستجد العزاء والسلوى والرَوْح والريحان واليقين والغنى والعزة كلها في هذا الكلام الإلهي بإذن الله تعالى، لكن واصل، واصل! لا تتعلَّم الكسل، لا تُعوِّد عقلك ونفسك الكسل العقلي، اترك هذا الذي يُسمى بالكسل العقلي، قل لها لا، خط جديد ومسيرة جديدة بإذن الله تبارك وتعالى، افعل هذا بقوة، امتحن نفسك، اجعله امتحاناً لنفسك، وعاقبها حين تفشل، وعُد إلى السواء، دائماً هكذا! بعد حين ستكون إنساناً آخر بإذن الله تبارك وتعالى، لِمَ لا؟ ليس مُستحيلاً، ليس صعباً.

ومَن أراد الله والدار الآخرة فعل هذا، مَن خاف الله ووقَّره فعل هذا، مَن أحب الجنة وخاف من النار فعل هذا، مَن لم يُبال شيئاً من هذا مُبالاةً لم يفعل شيئاً ولم يُلق إليه بالاً ولم يرفع به رأساً، لأنه من الهالكين، انتبهوا! هكذا هي المُعادَلة.

في حديث عُقبة بن عامر الجُهني قال يا رسول الله دلني على النجاة، هذا الحديث حبيب إلى نفسي، كم أُحِبه! وكم أُحِب التذكير به! ولعلكم جميعاً تحفظونه، لكنه من جوامع الحكم ومن أجمع الوصايا الشفيقة، يا رسول الله ما النجاة؟ قال، أُريد النجاة، أُريد أن أنجو برقبتي، فقال أمسِك عليك لسانك، هذا أول شيئ، قال النجاة هنا، حذَّره من اللسان، قال أمسِك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك، لا تتباك على خطايا الناس وأنت تقول الناس فسدوا والناس فسقوا، ما لك وللناس؟ ادع لهم بالخير، وابك على نفسك أولاً، أنت أيضاً مثلهم، أنت من الناس، وربما ذنبك الذي تعلمه أعظم مما تعلم من ذنوب الناس التي افتُضِحوا بها، أليس كذلك؟ فابك على ذنبك كما قال النبي، وقلِّل الخُلطة، قال وليسعك بيتك، اترك فضول الاختلاط، لماذا تكون على مدار الأربع والعشرين ساعة خارج البيت؟ بالعكس! المفروض أن تكون على مدار الأربع والعشرين ساعة داخل البيت، والأقل خارج البيت إذا لزم الأمر، انتبه! تعوَّد أن تلزم بيتك، فهذا أحسن، لكي تشتغل بما فيه صلاحك وصلاح أهلك وولدك بإذن الله – تبارك وتعالى -.

فنعود إلى فضول الكلام، لنتجاوزه إلى فضول النظر، هذا فضول الكلام، والأحاديث فيه كثيرة جداً، الأحاديث في فضول الكلام كثيرة جداً، في حديث أبي ذر عند ابن حبان – وهو حديث طويل مرفوع إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – يقول في صُحف إبراهيم – عليه الصلاة وأفضل السلام – على المرء ما لم يكن مغلوباً على عقله – إذن هذا التعبير ليس لي، هذا لرسول الله، النبي قاله، قال إن لم يكن المرء مجنوناً أو مُهوَّساً فعليه أن يكون كذلك، كما ستقول هذه الصُحف – أن تكون له أربع ساعات، أربع ساعات تتفقَّد فيها أموراً بأعيانها، ساعة يخلو فيها بربه، وساعة يُحاسِب فيها نفسه، وساعة يُقبِل فيها على أمر معاشه – دبِّر أمور حياتك -، وساعة يُروِّح فيها عن نفسة بلذة في غير ما حرَّم الله – لذة مُباحة -، وهكذا تستوي النفس، طبعاً لأن النفوس إذا كلت وتعبت عميت، فهناك اقتصاد، هناك مُوازَنة، وعلى المرء ألا يُرى ظاعناً – وعلى المرء ألا يُرى مُتحرِّكاً مُشتغِلاً – إلا في سعي لمعاده – أمر أُخروي عبادي، يتهيأ به للآخرة – أو مرمة لمعاشه، وعلى المرء أن يكون بصيراً بزمانه، مُقبِلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومَن عد كلامه مِن عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه، مَن علم أن الكلام محصي مكتوب مزبور مسطور وأنه من العمل الذي سنُجزى به وعليه لا جرم أن يقل الكلام منه إلا فيما يعنيه.

روى الإمام الترمذي – وهو حديث حسن كما قال ابن رجب وغيره – من حديث أبي هُريرة – رضوان الله تعالى عنه -، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وفُسِّر هذا الترك لما لا يعني في مُعظَم كلام السلف بترك الكلام فيما لا يعني، أهم شيئ ينبغي أن تتركه فيما لا يعني أو مما لا يعني أن تترك الكلام فيما لا يعني، حتى النظر فيما لا يعني يُترَك أيضاً، الخطو إلى ما لا يعني يُترَك، كل شيئ! كل هذا فضول، هذا كله فضول، وعرَّفنا الفضول، لكن أخطره الكلام.

ولذلك روى الإمام أحمد في المُسنَد من حديث الحُسين بن عليّ – عليهما السلام ورضيَ الله تعالى عنهما -، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – إن من حُسن إسلام المرء قلةَ الكلام إلا فيما يعنيه، هنا خص وهناك عم، هناك عم فقال تركه ما لا يعنيه، يدخل فيها الكلام وغير الكلام، هنا خص فقال قلةَ – هذا اسم إن – الكلام فيما لا يعنيه، فلنتعوَّد ولنُعوِّد أنفسنا وإخواننا وأهلينا وأبناءنا وبناتنا قلة الكلام فيما لا يعني.

أخطر ما يُقرأ في هذا الباب الحديث الذي أخرجه الترمذي في جامعه من حديث أنس – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال مات أحد أصحابه – صلى الله عليه وسلم -، في بعض الروايات – هذا الحديث مروي من وجوه كثيرة – وفي بعض الطرق أنه مات شهيداً، أي قُتِل شهيداً، هذا شهيد! قال أنس فقال أحد الصحابة أبشِر بالجنة، يقول للشهيد، يقول له هنيئاً لك، أبشِر بالجنة، فماذا قال النبي – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم؟ هذا في شهيد، وأضعف أحواله أنه صاحب من أصحاب رسول الله، لم يُعرَف بنفاق ولا بكذاب، صاحب! شرَّفه الله بالصُحبة، مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ۩، نعم! فقال – صلى الله عليه وسلم – وما يُدريكم؟ قال كيف تُثنون عليه وتُبشِّرونه بالجنة؟ لعله تكلَّم فيما لا يعنيه – أو قال بما لا يعنيه – أو بخل بما لا يُغنيه، قال فإن كان فعل فالجنة منه بعيدة، هذا المعنى! عجيب، هذا صحابي وقُتِل شهيداً، قد يُوقَف ويتعثَّر أمره وأمر حسابه في الآخرة لأنه كان يتكلَّم بما لا يعنيه، لا تتكلَّم ولا تتكلَّمي بما لا يعنيكَ ويعنيكِ، لا تفتح دفتر حساب لعباد الله، لفلان وفلانة، وماذا فعل؟ وماذا فعلت؟ وماذا فعلت زوجه وزوجها وأولادهم وأحفادهم وأنسباؤهم وأقرباؤهم وجيرانهم؟ هل نجح ابنك في الامتحان أو رسب في الامتحان؟ بكم جاء؟ وفي أي مادة؟ ماذا تُريد من الناس؟ ليس لك علاقة بالناس يا حبيبي، لماذا؟ لا تتدخَّل فيما لا يعنيك أبداً، في أي أمر لا تسأل عما لا يعنيك، إن أخبرني أبوه وقال ابني بحمد الله نجح، فسأقول له نعم نجح، لن أقول له حصل على كم؟ لن أقول له هل حصل على واحد أو اثنين؟ هذا لا يهمني، وإن قال لي إنه رسب فلن أسأل عن السبب، هذا لا يعنيني، كذلك إن طلَّق زوجته، هذا لا يعنيني، وكذلك إن تزوَّج أُخرى، هذا لا يعنيني، لا يعنيني هذا! يعنيني حين يسألني ويستشيرني بوجه شرعي – هنا يلزمني الجواب – أن أُجيب بقدر الحاجة، في غير هذا لن أتدخَّل، هذا لا يعنيني، ليست قضيتي، ليست قصتي، لن أتدخَّل فيما لا يعنيني.

علِّموا أنفسكم هذا الأدب لتنجوا في الدنيا والآخرة، هذا هو، هذا هو! وعلى ذكر حديث من حُسن إسلام المرء بعض الناس يقول ما معنى هذا؟ ما هذا الترغيب؟ ترغيب عظيم، هل تعرفون ما جزاء من حسن إسلامه؟ قد يقول أحدكم أحسنت الإسلام، فماذا بعد؟ هل هذه مسألة زينة وتحلٍ؟ لا، مسألة قُربة إلى الله ورضوان، في صحيح مُسلِم من حديث أبي هُريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – مَن حسن إسلامه – فما له يا رسول الله؟ هذا هو، في مُسلِم هذا، قال صلى الله عليه وسلم الآتي في مَن حسن إسلامه – كان له بكل حسنة عملها عشر حسنات، إلى سبعين، إلى سبعمائة ضعف، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۩، إذن هذا التضعيف خاص بمَن؟ ليس بكل أحد، بمَن حسن إسلامه، الله يُضاعِف له الأجور، يُضاعِف له الهبات والعطايا، والمأمول في كرم الكريم وليس بمحجور – إن شاء الله تعالى – أنه يُضاعِف له الهبات أيضاً، يُضاعِف له في عقله أو في جماله أو في قوته أو في عمره أو في علمه أو في ماله أو في ولده أو في أهله، يُضاعَف في كل شيئ، لأن إسلامه حسن، انتبهوا! هذه أشياء دقيقة جداً، قال وكُتِب له بكل سيئة عملها سيئة مثلها، فقط! سيئة واحدة، قال – صلى الله عليه وسلم – إلى أن يتوفاه الله، الله أكبر! اللهم اجعلنا مِمَن حسن إسلامهم.

بعد ذلك – وأدركنا الوقت فنُوجِز الكلام إيجازاً إن شاء الله لعله لا يُخِل – فضول النظر، روى الإمام الطبراني في جامعه والإمام الحاكم لكن من حديث حُذيفة بن اليمان، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، قال الله تعالى مَن تركها مخافتي أبدلته حلاوة الإيمان يجدها في قلبه.

قال الإمام السفاريني – قدَّس الله سره – في شرح منظومة الآداب، قال أوسع مداخل الشيطان اللسان والنظر، أوسع المداخل! لأن جارحتيهما – أي النظر والقول، النظر والكلام، الجارحة هي العين واللسان – لا تشبعان، قلت وفي معنى اللسان الأُذن، وصدق مَن قال الآتي، هم قالوا أربعة، لكنني سأتجاوز عن الرابعة، يعلمها مَن حفظه، سنقول ثلاثة، ثلاثة لا تشبع من ثلاثة، عين من نظر، وأُذن من خبر، وأرض من مطر، والرابعة نتركها لبذاءتها، لا تشبع! بخلاف البطن، فإن البطن إذا شبع لم تنشأ له إرادة في الطعام، يل يتقذَّره ويعافاه، سُبحان الله، مُباشَرةً! حتى الفرج إذا أوتيَ حاجته وسؤله وبُغيته بالحلال أو بغير الحلال فإنه يترك هذا، يعافه إلى حين، أما هذه – أي العين – فلا تكاد تعاف، طالما الإنسان غير نائم هي تنظر، سُبحان الله! وكذلك يستمع، يستمع إلى الأحاديث والقصص والحكايات وما إلى ذلك، ولكن الأذن تمل أكثر مما تمل العين وأسرع، العين لا تكاد تمل، واللسان هذا – والعياذ بالله – يتكلَّم على مدار الأربع والعشرين ساعة، يتكلَّم حتى في النوم! اللسان يتكلَّم طبعاً في النوم، الإنسان يرى نفسه يتكلَّم ويأخذ ويُعطي ويبيع ويشتري.

ولذلك قال العلماء – منهم مَن سميت – أوسع مداخل إبليس اللسان والنظر، لكن مَن غض طرفه دام ظرفه، ومَن أطلق طرفه طال أسفه، كما قال الحسن البِصري، قدَّس الله سره، يطول أسف مَن أطلق البصر رائداً للقلب، لأن البصر رسول القلب – والعياذ بالله -، وفي أحايين كثيرة لا يعود إلا بما يُشقي وبما يُتعِب، وخاصة في هذه البلاد، فأُحذِّر نفسي وإخواني وأخواتي من (الصرمحة) في الشوارع، حلق الذقون ولبس أطيب الثياب والاستعطار و(الصرمحة) في الشوارع! لِمَ تنظر إلى ما حرَّم الله؟ وتعود كارهاً لزوجتك، زاهداً فيها، تتمنى الأماني، وتحلم بالأحلام الفارغة، مسخوط عليك ومغضوب عند الله، لماذا؟ لماذا يا عبد الله؟ لماذا؟ 

وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا                     لِقلبكَ يَوْماً أتْعَبَتْكَ المنَاظِرُ. 

رَأَيْتَ الَّذِى لا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْه                    وَلا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابرُ. 

أرأيتم الشاعر الحكيم؟ هذا شاعر حكيم، قال هذا الكلام، قال تُرسِل عينك رسولاً لقلبك، وبعد ذلك تعود بأشياء لا تقدر عليها، ولا تصبر عنها أيضاً، تتعب! تبقى تعبان، بعض الناس يسخط حياته مع زوجته، وهي – أي زوجته المسكينة (الغلبانة) بنت الناس التي خلَّفت له سبعة وثمانية، والله (غلابة) النسوان – لا تعرف لماذا يتسخَّط عبد الله، قال إنه يتسخَّط بحجة أنه وجد حبة أرز لم تنضج في الطبيخ أو بحجة أنه وجد شريطة هكذا مُشرمطة في طرف الدار، لماذا هذا؟ لكن ليس هذا السبب الحقيقي، هو يتسخَّط لأنه يمشي في الــ Kärntner Straße، أنا أقول لكم هذا السبب، يمشي على مدار الأربع والعشرين ساعة هناك، نعم! يمشي على مدار الأربع والعشرين ساعة هذا الفاسق الغبي – والله العظيم – هناك، هذا غباء وحماقة يا أخي، اتق الله يا رجل، اتق الله.

هل تقرأون كتاب الله؟ هل تقرأون آية النور العظيم؟ آية عجيبة! اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، أين ذكرها الله؟ في سورتها، في سورة النور، متى ذكرها الله؟ بعد قوله – لا إله إلا هو من ناظم، لا إله إلا هو من مُتكلِّم – قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۩، فكأنه يقول مَن غض بصره وحفظ فرجه نوَّرت قلبه، لأنني مُنوِّر السماوات والأراضين، جعلته من خاصة أوليائي، نعم! والجزاء وفاق، الجزاء من جنس العمل، أنت غضضت الطرف عما حرَّم الله وعما لا يُحِبه الله، فلا جرم أطلق الله عين بصيرتك، فصارت تجول في الملكوت، وتعود إليك يا عبد الله ويا أمة الله بطرائف الحكمة، افهموا عن الله، افهموا يُفهِّمكم، هكذا! الجزاء من جنس العمل.

ماذا قال شاه بن شجاع الكرماني – قدَّس الله سره -؟ قال العلماء وكانت لا تُخطيء له فراسة، الألماعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمع، لا تكاد تُخطيء له فراسة بإذن الله، مُؤمِن! عبد نوَّر الله قلبه، ماذا قال شاه بن شجاع الكرماني؟ قال مَن عمَّر ظاهره باتباع السُنة وباطنه بدوام المُراقَبة وأكل الحلال – أي فقط، لم يأكل الشُبهة والحرام، رزقه كله حلال، لباسه، طعامه، شرابه، مركوبه، ومسكنه من حلال، كله من حلال، لا شُبهة، ولا حرام – وكف عن محارم الله لم تُخطيء له فراسة، هو أخبرنا بسره، قال أتُحِبون أن تعرفوا لماذا لا تُخطيء لي فراسة وأعرف كل شيئ كأنني أقرأ اللوح المحفوظ؟ قال أربعة أمور، أربعة أمور! إعمار أو تعمير الظاهر باتباع السُنة – اتباع رسول الله – وتعمير الباطن بدوام المُراقَبة وأكل الحلال والكف عن محارم الله، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، فنكتفي بهذا القدر في موضوع البصر، وإلا الكلام فيه طويل جداً.

وأخيراً فضول المُخالَطة، سمعتم قوله – صلوات ربي وتسليماته عليه – لعُقبة بن عامر الجُهني، قال وليسعك بيتك، وليسعك بيتك! قال أبو الدرداء – رضوان الله تعالى عنه وعن أصحاب رسول الله أجمعين – كان الناس ورقاً لا شوك فيه – يتحدَّث عن أصحاب رسول الله، وبلا شك هم الورق والثمر والله الأطيب -، فصاروا اليوم شوكاً لا ورق فيه.

قيل لابن الزُبير هلا انحدرت إلى المدينة؟ كان في مكة وبها استُشهِد، فقال ولِمَ؟ وليس ثمة إلا حاسد لنعمة أو فرح بنقمة، قال هؤلاء هم الناس، إذا أنعم الله عليك حسدوك، وإذا نزلت بك بلية اشتفوا وأظهروا الشماتة والتعيير وفرحوا، قال هؤلاء هم الناس، ماذا أُريد منهم؟ قال لا أُريدهم، بيتي أوسع لي وجسدي أوسع لي من خُلطة هؤلاء، انتبه!

ولذلك يا إخواني مَن أراد أن يُخالِط فلا يُخالِطن إلا مَن يُذكِّره بالله ويُعينه على تقواه، فقط! قد يقول لي أحدكم ليس على هذا الوصف إلا واحد أو اثنان، وهذا – والله – كثير، اثنان مُمتاز جداً، ما لك؟ مُمتاز، تذهب إليه ويأتي إليك مرة أو مرتين في الأسبوع، كافٍ جداً جداً، فيما عدا ذلك أنت في بيتك يا أخي وفي عملك ومع أهلك وولدك، ماذا تُريد؟ أتُريد أن تكون كل يوم خمس ساعات مع الناس؟ ليس طيباً هذا، ليس جيداً، ستندم على ذلك.

قال سُفيان بن عُيينة – الشيخ الجليل، إمام أهل مكة، شيخ البخاري بواسطة – قال لي سُفيان الثوري مرةً في اليقظة وأُخرى بعد وفاته في المنام أقِل يا سُفيان من معرفة الناس، قال له أوصاني حين كان حياً وأوصاني بعد وفاته، وسُفيان الثوري كان له قدم وكان له لهج أيضاً بالعُزلة أحياناً والإقلال من فضول خُلطة الناس، وإلا فهو إمام متبوع، رضوان الله تعالى عليه.

قال يوسف بن أسباط سمعت سُفيان الثوري يقول لقد حلت والله الذي لا إله إلا هو العُزلة، قال العُزلة فيها شُبهة شرعية، والكلام فيها ذو شعوب، مُتشعِّب جداً! سُفيان كان يحلف، يقول لا والله، العُزلة حلال، حلال! قال أنا أُفتي بهذا، أنا أُفتي وأقول لكم إنها حلت، وسُفيان كان أمير المُؤمِنين في الحديث والإمام الخامس في الإسلام – في الفقه -، قال أقول لكم العُزلة حلال في هذا الزمان، أي في زمان سُفيان الثوري، هذا في القرن الثاني الهجري أو بالأحرى في القرن الأول والثاني الهجري، فكيف بالقرن الخامس عشر الهجري؟ قال حلت العُزلة والله، يُمكِن أن تعتزل.

الإمام مالك بن أنس – إمام المذهب – كان يُصلي الجُمعة والجماعات، ويعود المرضى، ويأتي الجنائز، ثم ترك هاته الخصال واحدةً واحدةً واحدةً حتى عاد لا يأتي شيئاً منها، وكان يقول ليس كل أحد يقدر على أن يتحدَّث بعُذره، عندي عُذر في كل ذلك، لا تسألوني عنه، لأن أيضاً من الفضول – كما قلنا – أن تسأل عما لا يعنيك، هو ترك للفضول ربما أو لسبب آخر، وأنت لا تسأل، لا تسأل عما لا يعنيك، لا تنظر إلى ما لا يعنيك، وافعل واجتهد واشتغل واستُهتِر بما يعنيك.

نسأل الله أن يُعطينا ذلك، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                   (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

قيل لأحد المُعتزِلين الصالحين إلى ما أفضت بك العُزلة والخلوة؟ فقال إلى الأُنس بالله تبارك وتعالى، كأنه يختبره أو يشمت به، ها أنت اعتزلت، فماذا حصَّلت؟ قال حصَّلت الأُنس بالله – تبارك وتعالى – والعيش مع الله، العيش مع الله!

قال أحدهم إذا تكلَّمت فاذكر سماع الله قولك، يسمعك الآن، قال – تبارك وتعالى – أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَىٰهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ۩، كل شيئ! حتى السر وحتى النجوى يعلمها، قال وإذا سكت فارع نظر الله إليك، هو معك على كل حال، دائماً! حين تتكلَّم وحين تسكت، فآنس نفسك بالله.

قال الجُنيد – قدَّس الله سره – لي ثلاثون سنة بين الناس وهم يظنون أني أُخاطِبهم وإنما أُخاطِب ربي، حتى في خُلطته مع الناس قلبه كان مُعلَّقا أبداً بالله – تبارك وتعالى -، إذا تكلَّم وإذا قال وإذا سكت إنما نظره إلى الله أبداً أبداً، هذه حالة غريبة جداً وقوية، قدَّس الله سره، تماماً كما قال الأول وهو المجنون:

وَإِنّي لَأَستَغشي وَما بِيَ نَعسَةٌ               لَعَلَّ خَيالاً مِنكَ – هو قال مِنكِ – يَلقى خَيالِيا. 

وَأَخرُجُ مِن بَينِ البُيوتِ لَعَلَّني   أُحَدِّثُ عَنكَ – هو قال عَنكِ – النَفسَ يا لَيلَ خالِيا.

نسأل الله أن يُؤنِسنا به، ونسأل الله أن يجمعنا به، لا إله إلا هو! وأن يُفيض علينا من رحماته، أن يُنزِل علينا من بركاته، وأن يُسبِغ علينا من نعمه، وأن يُكثِّر لنا من هباته، إنه مُحسِن، مُفضِل، مُجمِل، جواد، كريم، لا إله إلا هو!

اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تُعذِّبنا فأنت علينا قادر، والطف بنا فيما جرت به المقادير، أصلِحنا وأصلِح بنا، وخُذ إلى الخير بنواصينا.

اللهم زوِّدنا التقوى، وجنِّبنا شر النفوس وغوائلها وشهواتها وأميالها، يا رب العالمين، اللهم أصلِح لنا أزواجنا، وأصلِح لنا أولادنا – أبناءنا وبناتنا -، وأصلِح إخواننا وأخواتنا وقراباتنا وأحبابنا ومعارفنا فيك أجمعين بما أصلحت به عبادك الصالحين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

____________

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(12/6/2009)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: