إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله عز من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۩ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ۩ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ۩ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ۩ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ۩ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ۩ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ۩ خصلة من خصال المُؤمِنين المُفلِحين، لأن الله – سُبحانه وتعالى – بعد أن استهل هذه السورة الجليلة هذا الاستهلال البديع – قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۩ – أراد أن يُعرِّفهم فعرَّفهم بطريق الموصول، وكرَّره غير مرة، مَن هؤلاء الفالحون من المُؤمِنين؟ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۩ الَّذِينَ ۩… تعريف بالموصول كما يقول النُحاة، الَّذِينَ هُمْ ۩… وَالَّذِينَ ۩… وَالَّذِينَ ۩… وَالَّذِينَ ۩… وهذا يُستفاد منه لُغةً أن كل خصلة من هذه الخصال المذكورة جديرة بتحقيق الفلاح، فالفلاح ليس وقفاً – هذا من ناحية نحوية، أي فهم الآيات – على جمع هذه الخصال، فالإنسان قد يُفلِح ببعض هذه الخصال، لكنه لا يُفرِّط بأخذ حظه واستكمال نصيبه من سائرها، وهناك خصال أُخر لم تُذكَر في هذه الآيات الكريمات، وأيضاً هي من خصال المُفلِحين، وهذا معروف!

وسنخص قوله – تبارك وتعالى – وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ۩ وما وليها من آي بالتبيان والشرح في مقامنا اليوم إن شاء الله تعالى، وهذه الخُطبة أرجو الله – تبارك وتعالى – أن ينتفع بها المُتزوِّجون، لكي يُواصِلوا حياةً زوجيةً سعيدةً، أو يُرمِّموا حياةً زوجيةً مُتداعيةً، كما أسأل الله – سُبحانه وتعالى – أن ينفع بها العزّاب، أن يبتدئوا حياةً زوجيةً مُوفَّقةً على بصيرة.

وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ۩ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ۩ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ ۩، الإشارة بقوله – سُبحانه وتعالى – ذَلِكَ ۩ إلى ما استُثنيَ، وهن الأزواج والإماء، ملك اليمين! قد انتهى طبعاً الآن عهد الإماء وملك اليمين، فلم يبق إلا الأزواج، الزوجة! فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ۩، العادي هو المُعتدي الذي تعدى ما حد الله، الذي تعدى حدود الله سُبحانه وتعالى.

وقد وسَّط الله – سُبحانه وتعالى – ضمير الفصل لتأكيد الحُكم، كان يُمكِن أن يقول فأولئك العادون، لكنه آثر أن يقول فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ۩، هم هنا ضمير للفصل، وسَّط – سُبحانه وتبارك وتعالى – ضمير الفصل تأكيداً للحُكم، انتبهوا! فكأنه قال فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ۩ أو المُعتدَون الذين بلغوا الغاية وأوفوا عليها في العدوان على ما شرع الله، في العدوان على ما حد الله سُبحانه وتعالى، فالمسألة جد خطيرة وجد مُهِمة بهذه الإشارة الإلهية الكريمة.

وإذا شئنا أن نُعيد تأويل الآية بلُغة العصر – بلُغة علم النفس مثلاً – فنستطيع أن نقول إن هذه الآية تقول – ولذلك هذه الآية صادمة للإباحيين، صادمة لأصحاب عقلية التسول والاستهلاك الجنسي – بلُغة العصر كل تعاطٍ مع هذه الطاقة ومع هذا المنشط الأصيل في الإنسان – لا أحب أن أقول الغرزي لأسباب ستأتي في تضاعيف الخُطبة – أو مع هذا المنشط الإنساني خارج هذه الدائرة يُعتبَر إخفاقاً، يُعتبَر فشلاً، هذا فشل في التعاطي مع هذه القوة، مع هذه الطاقة الجنسية في الإنسان، فشل!

الذين ينزعون إلى تفريغ هذه الطاقة عبر وسائل كثيرة معروفة – لا نُحِب أن نجرح المشاعر بذكرها – يُخفِقون جنسياً، إنهم مُخفِقون وفاشلون، ويُغامِرون أيضاً بإفساد مُستقبَلهم الزوجي إن لم يكونوا قد تزوَّجوا، ويُغامِرون أيضاً بإفساد حياتهم الزوجية إن كانوا مُتزوِّجين، علموا أو لم يعلموا هذه هي الحقيقة.

الجنسية المثلية في الرجال وفي النساء إخفاق، إخفاق لهذه الطاقة، إخفاق لهذه القدرة التي منحها الله للإنسان، الجنسية المثلية إخفاق حقيقي، حتى الفاحشة – الزنا والعياذ بالله – مع الجنس الآخر إخفاق أيضاً، لأن الله قال إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ ۩، هذه هي المُقدِّمة!

طبعاً بعض الناس يرفض مثل هذا الطرح جُملةً وتفصيلاً، مُبتدأً ومُنتهىً، يقول هذا غير صحيح، من حقنا أن ننطلق في إشباع غرائزنا وحاجاتنا العضوية، والتخفيف عن توتراتنا بالطريقة المرضية عندنا، التي نراها مُناسِبة، أو ربما الطريقة المُتاحة أحياناً، أي ما تيسَّر، هذا هو المنطق الإباحي!

نُريد أن نُقعِّد وأن نُؤصِّل للنظرة على أساس عميق وسليم، فنشرع بالقول أولاً هل هناك حاجات بيولوجية أو غرزية عضوية بحت في الإنسان؟ في الحيوان نعم، هناك حاجات عضوية محض، ليس لها أكثر من هذا البُعد، فهل الأمر كذلك في الإنسان؟ بعض الناس يقول نعم، ومن ذلكم الحاجة الجنسية، إنها حاجة عضوية، تماماً كالحاجة إلى الطعام والشراب وغير ذلكم، ومثل هذه النظرة أنتجت موقفين مُتعارِضين بالكُلية، نفس هذا المُنطلَق ونفس هذا الفهم دائماً مُرشَّح ويُرشِّح لإنتاج نظرتين مُتباينتين تماماً على طول الخط، نظرة إباحية ونظرة رهبانية، لأن هذه الطاقة أو هذا المنشط – القدرة الجنسية أو الرغبة أو التوق الجنسي في الإنسان – إذا كان محض حاجة عضوية أو حاجة حيوية فقط إذن فليُعامَل على هذا الأساس، فكما تشرب أنت وكما تأكل وكما تتخلَّص من الفضلات فكذلكم تُمارِس هذه الحاجة، بنفس الاستسهال وبنفس الاستخفاف، وأنت تشرب من هذا الكوب ويُمكِن أن تشرب من كوب آخر، تشرب من هذا الماء وتشرب ماء آخر، لا بأس! قد تشرب عصيراً أو تشرب عصيراً آخر، لا بأس! تأكل في هذا المطعم أو في هذا المطعم، ونفس الشيئ هذه الحاجة الجنسية، نفس الشيئ! ولذلك هذه هي مُنطلَقات الإباحية، انتبهوا! إذن الموقف خطير، ولذلك حين نقرأ حتى في الكُتب الفقهية – مثلاً – عرضاً لمذهب السادة الحنابلة نجد شيئاً غير مقبول، وطبعاً هم لم يعنوا هذا وأنا جازم أنهم لم يفهموه أصلاً، هم أطلقوا كلاماً ظنوا أنهم يُقارِبون به الحقيقة، وابتعدوا جداً! لكن هذه اجتهادات فقهية، هذا ليس الدين، هذا كلام البشر من أمثالنا، كل بشر يُخطئ، وفي نهاية المطاف المُجتهِد المُطلَق حتى هو بشر، مثل الشافعي، أبو حنيفة، مالك، وابن حنبل، هم بشر أيضاً، والواحد منهم ينطلق من ثقافته ومن خلفياته ومن مدى سعة قاعدته المعرفية والعلمية في تناول الأمور، ليس أكثر من هذا! هو ليس نبياً يُوحى إليه، حين نقرأ – مثلاً – توصيفاً لهذه المُفرَزات أو الإفرازات على أنها مُجرَّد فضلات ويُمكِن أن يُتخلَّص منها كما يُتخلَّص من سائر الفضلات الموضوع خطير، هذا التوصيف غير مقبول، وهذا تخفيض لما هو إنساني إلى ما هو حيواني، انتبهوا! هذا خطير وإن ورد على أنه المذهب الحنبلي، لا يعنينا! وهذا يُمهِّد للإباحية بشكل أو بآخر وإن لم يقصد ولا يُريد البتة أصلاً ويستنكر لهذه اللوازم، لكنها تلزمه شاء أم أبى.

النظرة الثانية المُتعارِضة أو الموقف الثاني المُتعارِض مع الأول وهو الموقف الإباحي موقف التزمت والجمود والرهبنة، إنكار هذه الحاجات أصلاً أو التعالي عليها، لماذا؟ لأنها محض حاجات حيوية، محض حاجات إذن يُشارِكنا أو يشركنا فيها الحيوان، فلابد أن نتعالى عليها إن استطعنا، قد لا تستطيع أن تتعالى على الطعام والشراب مُدداً مُتطاوِلة، لكن تستطيع – مثلاً – أن تتعالى على هذا الأمر، وجرَّب هذا كل المُترهبِنين والمُنقطِعين إلى العبادة أو إلى العلم أو إلى أي أغراض حتى نبيلة أُخرى، جرَّبوا هذا، ويبقى السؤال مفتوحاً، إلى أي حد نجحوا في التجاوز والتعالي أم أنهم سجَّلوا إخفاقات مُتواصِلة واستُهلِكت جوانب كثيرة من إنسانيتهم وأخفقوا في أن يحقِّقوا تكاملاً إنسانياً حقيقياً كان مُتاحاً لهم كما هو مُتاح لسائر البشر برحمة الله التي هي من آياته سُبحانه وتعالى؟ يبقى السؤال مفتوحاً، مفتوحاً ومطروحاً أيضاً للتقويم والاستقصاء جوابه.

فإذن موقفان مُتعامِدان مُتقابِلان تماماً، نتجا من مُنطلَق واحد، من طرح واحد، من افتراض واحد، افتراضنا نحن مُعاكِس تماماً، افتراضنا أنه ليس في الإنسان ما هو غير إنساني، إذا تعلَّق الأمر بالإنسان فكل ما يتعلَّق به هو إنساني، بمُجرَّد أن نقول الإنسان ينتهي الأمر، كل ما يتعلَّق بالإنسانية ينبغي أن يكون إنسانياً، أعتقد أن هذا الطرح أخلاقي، يُقارِب الطرح الديني الروحاني، ولابد أن نتشبَّث به جيداً، إذا تعلَّق الأمر بالإنسان فكل ما يتعلَّق بالإنسان لابد أن يُبرهِن إنسانيته، فأكلي له جانب إنساني، شربي له جانب إنساني، هذه الغريزة لها جانب إنساني رفيع جداً، لا يُمكِن أن أُغامِر أو أُغالِط الحقائق والواقع وتركيبتي وفطرتي وتوجهاتي وتوقاني ونزوعي بتخفيض هذه الأشياء إلى محض آفاق حيوية، غير صحيح!

ولنبدأ بأسهلها، الطعام والشراب! حتى العامة يفقهون هذا جيداً، وليسوا فلاسفة ولا علماء نفس ولا علماء أخلاق ولا مُنظِّرين، حتى العامة يفهمون هذا حين يقولون العين تأكل قبل الفم، ائتني بأحسن طعام وأشهاه وأنا في حُرقة الجوع وشدته وثورته، لكن ضعه في إطار قذر، في إناء قذر، على خلفية وسخة، في غُرفة وسخة، مثلاً فيها بعض الرمة، فيها بعض القذورات، تفوح منها روائح كريهة، ستُعافه نفسي وسأُوثِر أن أُواصِل طاوياً على أن أتناول هذا الطعام الشهي، لأن الإطار قذر، الخلفية العامة بشكل عام قذرة، أليس كذلك؟ هذا هو! فالإنسان ليس مُجرَّد آكل، أنه يأكل فقط لكي يُزيل التوتر الناتج عن حدة وحُرقة الجوع، إنه أعلى من هذا، الإنسان أعلى من هذا!

ربة البيت، قد يتساءل هذا الذي لم يُدرِك هذه المعاني الراقية وهذه الآفاق العالية لماذا تُنفِق ربة البيت نصف ساعة تقريباً في تزيين الأطباق؟ تقوم بتزيين أطباقها وتصطنع أشكالاً من بعض الفاكهة ومن بعض الخضر وما شاكل، تضعها على الأطباق، لماذا؟ لأنها تعلم أن العين تأكل قبل الفم، لماذا الحرص الشديد على النظافة وتهوية المكان والروائح الطيبة في المطاعم؟ لأنهم يفهمون هذا جيداً، المُهتَمون بالإعلان والدعاية يفهمون هذا، سدنة الإعلام والدعاية يُدرِكون هذا تماماً، وقد يُروِّجون ويخدعونك بسلعة محض عادية بل أقل من عادية لكن بوضعها في إطار مُمتاز وجميل وشهي، وستُخدَع وستسمح لنفسك أن تنخدع، لأنك إنسان، انتبه! لست أبله، بل لأنك إنسان تفعل هذا.

إذن خطأ فادح أن نقول إن في الإنسان محض حاجات حيوية، لا يُوجَد محض حاجات حيوية، حتى الأكل وحتى الشرب ليسا مُجرَّد حاجات حيوية، اللباس – أن تستر عورتك وأن تستدفئ من الزمهرير وأن تُخفِّف عن نفسك في جُمارة القيظ والهجير – أيضاً له البُعد المعنوي، هناك الجانب المعنوي للباس وستر العورة، أليس كذلك؟ الجانب المعنوي! هذا هو الإنسان، كل ما يتعلَّق بالإنسان أو هكذا ينبغي أن يكون وكل ما يمسه الإنسان أو تمس إليه حاجة الإنسان يغدو إنسانياً، مُستحيل أن يبقى حيوانياً.

ونأتي الآن إلى هذه الغريزة، غريزة الجنس، المُناسَبة، اللقاء بين الزوجين، هل هي محض شيئ حيواني في الإنسان؟ مُستحيل، نعم في عالم الحيوان هي كذلك إلى حد بعيد، وخاصة في الحيوانات الدُنيا، كلما نزلنا في سلم الترتيب والتصنيف الحيواني صحت هذه النظرة، ولذلك اللقاء بين الأجناس الحيوانية بالمعنى اللُغوي وليس بالمعنى البيولوجي – أي بين الذكور والإناث من النوع الواحد، بين جنسي نوع واحد – هو محض لقاء بين عضوين تناسليين، ليس بين شخصيتين، ليس بين كينونتين، إنما بين عضوين فقط، بدليل أن في كثير من الحشرات وبعض الزواحف وكثير من الحيوانات الدُنيا أيضاً ينتهي دور الذكر وأحياناً دور الجنسين – أي الذكر والأُنثى – إلى الهلاك وإلى الموت بمُجرَّد القيام بالعملية، انتهى! لأن في عالم الحيوان النوع له الأولوية وليس الفرد، النوع! هذا انتهى، انتهى دور هذه الحيوانات بعد أن قامت بهذه العملية، أحياناً تفترس الأُنثى الذكر بأكل رأسه، أحياناً تقضي الإناث على الذكور كما في عالم النحل، أحياناً ينتهي الاثنان في نفس الوقت، وأحياناً يموتان بقدر – بقدر إلهي ينتهي كل شيئ – بعد أن تحدث عملية الإخصاب أو التخصيب، لماذا؟ لأن النوع هو صاحب الأولوية، الأولوية للنوع وليس للفرد، ليس للشخص، ليس للوجه، وإنما للنوع!

في الإنسان الوضع يختلف تماماً، ليست الأولوية للنوع، نعم الجنس في الإنسان يخدم النوع بلا شك – يخدمه شئناً أم أبينا – ولكن الأولوية ليست له، وهذا ما يُمكِن أن يُفسِّر استمرار علاقة زوجين مُنسجِمين مُتوائمين مُتحابين خمسين وستين سنة بلا خلف، بلا إنجاب! ويُؤثِر كل منهما أن يبقى مع الآخر وأن يُواصِل حياته هانئاً راضياً قانعاً، لا يفهم معنى للحياة والسعادة بغير هذا الآخر، هنا عظمة الإنسان، هنا إنسانية الإنسان!

ليست الأولوية للنوع، النوع يأتي في الدرجة الثانية، إذن ما الذي يأتي في الدرجة الأولى؟ هذا ما سنفيض فيه – إن شاء الله – في خُطبة اليوم، ما الذي يأتي في الدرجة الأولى؟ ما هو؟ أي شيئ هو ذاك؟ هذا ما ينبغي أن نفهمه جيداً، ولذلك نُسارِع إلى القول بأن الأزواج – سنقصر حديثنا على الأزواج، شركاء الحياة الزوجية – الذين يفهمون أو يفهم بعضهم أن هذه العلاقة هي علاقة حيوية بحت إنما يتورَّطون في التنازل والتسامح في إنسانيتهم، الذكور والإناث على سواء!

طبعاً الذين يفعلون هذا أكثر – ولنكن مُنصِفين – هم الذكور، الرجال وليس النساء! النساء قل أن يفعلن هذا، الرجال يفعلونه بشكل أغلبي للأسف الشديد، ولأكن واضحاً يبدو أن الرجل العربي مُتورِّط في هذا بشكل صميم، لأن ثقافتنا الجنسية وإدراكنا لأعماق هذه الأمور شبه معدوم للأسف الشديد، أفهم هذا من أدبياتنا، من أمثالنا الشائعة، من استعاراتنا المألوفة، من تشبيهاتنا، من المواقف التي تحدث باستمرار بين الأزواج، من شكل حياتنا، ومن أنماط حياتنا، يبدو للأسف أننا شبه مُفلِسين في هذا الجانب، شبه مُفلِسين إلى درجة مُحزِنة، لذلك علينا أن نُبديء ونُعيد كثيراً في هاته الموضوعات، وسنبدأ نتهجى، انتبهوا! لأننا مُفلِسون، لابد أن نبدأ من البداية الأولى أو ما تحت البداية، أن يكون الرجل في العقد الخامس أو السادس من عمره وعنده سبعة أو ثمانية من الأولاد ولا يزال يتعانى ويتكابد مشاكل يومية مع زوجته لأسباب سنرى أنها تتعلَّق بفهم مغلوط تماماً لطبيعة العلاقة الجسمانية بين الزوجين فهذا معناه الإفلاس الحقيقي، بغض النظر عن أي شيئ – لا يعنيني كم شهادة عندك؟ كم كتاباً قرأت؟ ما الذي تعرفه؟ ما الذي لا تعرفه؟ – أنت إنسان تورَّط في تخفيض نفسه، أنت إنسان لم تُحسِن أن تتكامل إنسانياً، وإن زعمت غير ذلك، لم تُحسِن! لم تنضج عاطفياً، لم تنضج إنسانياً، لا تزال طفلاً نرجسياً يدور حول ذاته، لكن الطفل أسعد منك، لأنه يعتقد بكُلية القدرة لديه التابعة للرغبات النرجسية والتي كثيراً ما يُبرهِن الأهل صدقيتها الزائفة بتحقيق رغائبه إذا بكى وإذا حرد وإذا غضب، أما الكبير فإن الظروف وإن شخصيات الآخرين وإن حقوقهم وإن الإمكانات المطروحة ستُبرهِن له دائماً أنه عاجز وغير كُلي القدرة، وتتحطَّم نرجسيته في حالة من الغضب المُتواصِل، ليُحيل حياته وحياة مَن حوله إلى جحيم مُستعِر دائم، وهو لا يفهم من أين أُوتيَ، لأنه منزوف الوعي، ليس عنده وعي، ليس عنده أدنى درجات الوعي في هذه المسألة بالذات، وهذا شيئ خطير جداً!

في لُغتنا العربية العامية يكثر جداً أن تُشبَّه المرأة – مثلاً – بالتفاحة، كما قلت الرجال يفعلونها أكثر من النساء، الرجال كثيراً جداً جداً وباستمرار وإلى اليوم وإلى الساعة! تُشبَّه المرأة بالتفاحة، (الخدود تفاحة تغار من تفاحة)، أليس كذلك؟ والتفاح مُعَد لماذا؟ للالتهام، للأكل! أليس كذلك؟ للأكل! (وأكلك منين يا بطة؟) للأكل! هذا المنطق الاستهلاكي، هو منطق ليس منطقاً إنسانياً، منطق استهلاكي! انتبهوا إلى هذا، كل منطق استهلاكي هو منطق تشيئي، يُحوِّل الإنسان الذي هو كينونة وشخصية وفردانية – فرد مُتوحِّد، نسيج وحده – إلى مُجرَّد شيئ، الشيئ مُعَد للاستهلاك، لا يُعَد للاستهلاك إلا الشيئ، ولذلك كل نزعة استهلاكية هي بدورها نزعة تشيئية، كل تشيئي هو ضد إنسانية وأنسنة الإنسان، تختلف معه على طول الخط، ومَن يُدرِك إنسانيته وشخصيته ومعنى كونه شخصيةً بوجه وباسم وبحقوق وواجبات ومزايا وفرادات وخصائص وشيات وسمات وعلامات سيرفض هذا المنطق، رجلاً كان أيضاً أم امرأة، وسيدخل في صراع مع مديره، مع رئيسه، مع أستاذه، مع شيخه، مع رئيس الجمهورية، مع زوجه، مع زوجته! وليتحطَّم مَن يتحطَّم، لكن لن تتحطَّم فرادتي، لن أُضحي إنسانيتي من أجل زوج غبي أو رئيس مُتسلِّط أو شيخ جامد مُتخلِّف رجعي أبداً، لابد أن أبقى أنا، الإنسان! هذا ما أفهمه من إنسانيتي، فهذا هو المنطق الاستهلاكي التشيئي.

نسمع باستمرار عن بعض هؤلاء المُتخلِّفين من الوحوش البشرية، للأسف الذين ينتمون إلى عالم العروبة والإسلام، تدخل زوجاتهم المشافي أو المُستشفيات لأنهم يأكلون أبضاعاً وأجزاءً من أزواجهم، ما هذا التخلف النرجسي الطفولي؟ ما هذا؟ ويظنون أن هذا رجولة وتعبير عن عُرام جنسي، هذا تعبير عن انحطاط حيواني، هذا الرجل مُستحيل – أي استحال – بل هو مُسِخ في الحقيقة – هو ليس استحال وإنما مُسِخ – إلى حيوان من حيث لا يشعر أو يشعر، والأمر لا يعنينه لأنه مُجرَّد حيوان، ليس عنده معين إنساني يستمد منه ليرتقي به ويُقوِّم أفعاله، نسمع عن هذا ونقرأ عنه في المجلات المُبتذَلة الرخيصة العربية، شيئ مُحزِن! ونحن في القرن الحادي والعشرين.

من أمثالنا العربية الشائعة ما يُعبِّر عن هذا، وكم سمعنا هذا آلاف المرات! إذا طلَّق أحدهم زوجته أو طلَّقته هي أو ماتت أو حدث ما حدث يأتيه مَن يقول له – وهم بالعشرات طبعاً، من ذويه وأقربائه وأودائه – ما الذي كان؟ ما الذي حصل؟ لماذا أنت حزين؟ لماذا أنت تاعس وبائس وكئيب؟ النساء غيرها كثير، نأتيك بعشرات، بعشرات! انتبه إلى هذا، مثلما يأتونك بعشرات الكُتب – مثلاً – أو عشرات لفائف السجائر أو عشرات المناديل أو عشرات القمصان أو عشرات الأحذية، بعشرات! نأتيك بعشرات غيرها، نأتيك بست ستها، مَن هي؟ مُستحيل، الإنسان الذي يعرف ما هي العلاقة، ما هي الزوجة، وما هي المودة والرحمة التي خلقها الله وجعلها من آياته بين الزوجين يعلم يقيناً أنه ليس على وجه الأرض مَن ستحل محلها، انتهى! قد تأتي أُخرى لكنها لن تحل محلها، النبي علَّمنا هذا، الذي أحب عائشة كثيراً وقرَّبها كثيراً وصرَّح بهذا الحُب، لكنه كان يُصِر أبداً حتى آخر يوم ونفس أن خديجة هي رقم واحد، خديجة! لا والله – يقول – ما أبدلني الله خيراً منها، خديجة انتهت يا رسول الله، صارت تراباً وانتهى كل شيئ، أي انتهت العلاقة الجُسمانية أو الجسمية بينكما، بغض النظر عن هذا، الحُب ليس مُجرَّد علاقة جنسية، الزوجية ليست علاقة جنس، أبعد من هذا بكثير! حتى وإن ماتت خديجة من عشر أو من عشرين سنة ستبقى خديجة على بال محمد وعلى ذُكر منه، يتذكَّرها باستمرار ويهفو إليها ويُحِب أيامها ويود صديقاتها، وأنتم تعلمون هذا، الأحاديث مشهورة جداً جداً! يسمع باستئذان هالة أختها – لها طريقة في الاستئذان – فيقول اللهم هالة، أي أسألك أن تجعلها هالة، يُحِبها! يشم منها رائحة خديجة، ما هذا الوفاء؟ هذا هو الحب، هذه هي الإنسانية، يفتح مكة وبعد أن تهدأ الأمور قليلاً يأتي إلى قبرها الشريف ويضرب قُبته هناك ويجلس يبكي، يتذكَّر عهد خديجة، أعظم شخص في البشرية! هذا هو الحُب، لا أتحدَّث عن الوفاء، انتبهوا! ليست القضية قضية وفاء، هي وفاء بلا شك، وليست قضية أمانة على الميثاق الغليظ، وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ۩.

هل مَن يقرأ آية الميثاق الغليظ يقول إنهن مثل الأحذية؟ سمعت هذا مئات المرات، يقولون ماذا؟ المرأة مثل الحذاء، تلبس حذاءً وتنزع حذاءً، تنتعل حذاءً ثم تنتعل حذاءً غيره، الله أكبر يا أخي! المرأة مثل القميص، قميص يُلبس وقميص يُنزَع، النساء غيرها كثير، غيرها بالمال! انتبهوا إلى هذا، أسوأ ما يُمكِن أن يصل إليه الإنسان في تصوره لهذه العلاقة الحميمة القدسية الإلهية – ذات البُعد الإلهي، وسيأتيكم بُرهان هذا كتاباً وسُنةً – هو فهمه أو اعتقاده أو ظنه أن عقد الزواج يُعطيه حق ملكية الزوجة أو ملكية الزوج، صك بالملكية! انتهى الأمر، ملك هذه، أتصرَّف فيها كما أشاء، ومن هنا أيضاً ما يُبرِّر المرء لنفسه أن يضرب زوجته ضرب البعير، ضرب الدواب! أحياناً يموتن، طبعاً هذا ليس في العالم العربي فقط وإنما في العالم كُله، تُضرَب المرأة أحياناً حتى تموت أو تدخل المُستشفى مُكسَّرةً مهيضةً، ما هذا؟ حتى لو كانت حيواناً في ملك لا ينبغي لك هذا، لكنها إنسان في ملكه وهو يرى أنه ينبغي له هذا، بمُقتضى ماذا يا رجل؟ هل هذا بمُقتضى العقد؟ هل هذا بمُقتضى العقد الإلهي؟ هل العقد الذي وُثِّق وأُكِّد باسم الله يُعطيك هذا الحق؟ إذن لا كان هذا العقد ولا كان هذا التوثيق، تجعلون الناس يشكون أصلاً في صدقية أن يكون العقد ممهوراً باسم الله تبارك وتعالى، هل الله هو الذي أعطاكم هذا الحق؟ متى؟ وأين؟ وكيف؟ مَن الذي أفهمكم هذا؟ شيئ عجيب! كل هذا يتم باسم الدين، وباسم العادات والأعراف والأخلاق والرجولة، كلام فارغ في فارغ في فارغ إلى آخر نفس، حتى ينقطع النفس هو فارغ، حتى ينقطع النفس!

نعود، إذن هذا هو المنطق الاستهلاكي، الذي هو بدوره منطق تشيئي، يمسخ الإنسان إلى مُجرَّد شيئ، والشيئ قابل للاستهلاك وقابل للإحلال والإبدال، الذي يُحِب – مثلاً – أن يلبس قميصاً كما يقولون فعلاً يُمكِن أن يستعيض عنه بقميص آخر، هذا لا يُعجِبني وسألبس الآخر الأزرق، الأزرق في وردي أو الأزرق السماوي وما إلى ذلك، نفس الشيئ! الذي يُحِب أن يُدخِّن لفيفة – كما يقول الرافعي لفيفة، أي سيجارة – سيان عنده سيُدخِّن هذه اللفيفة أو تلك أو تلك، المُهِم أن تكون – مثلاً – مارلبورو Marlboro، لكن أي لفيفة تصلح.

سمعت أحدهم – من إخواننا – يقول مرة – وهذه لا أنساها، وعلَّقت عليها في الدروس كثيراً، لا أنساها لأنها قاع الانحطاط في تصوره، والمسكين لا يقصد لكن هذا مُستواه، هذا مُستوى ما نشأ عليه ورُبي وفهمه للأسف الشديد، فآن الأوان له ولأمثاله أن يفهموا فهماً جديداً – بالنسبة لي النساء سواء، سواء تزوَّجت حمراء أو بيضاء أو سوداء وما إلى ذلك فالنساء سواء، هل تعرفون لماذا؟ لأنه لا يبحث عن الشخص، لا يبحث عن الكينونة، لا يبحث عن الأنت، يبحث عن الهو، هو يبحث عن الأُنوثة المُطلَقة فقط، الأُنوثة بالمعنى الهيولاني، الأُنوثة من حيث هي هي، تجسَّدت في شخص سين أو في شخص عين أو في شخص إكس X أو في شخص إبسيلون Ε، هذا غير مُهِم! هو يُريد الأُنوثة المُريحة التي تُدغدِغ خياله المريض المُلتاث وتصوراته الطفولية النرجسية والبهيمية أيضاً، هذه هي!

ومثل هذا الزواج الذي قد يُكبِّده شقاء حياته – مُستعِد أن يدفع مئات الآلاف على أن يحظى بهذه الأُنثى، لماذا؟ وجد فيها الأُنوثة الهيولانية التي يرتضيها – مُرشَّح للفشل، لحظة أن تفرض هذه الأُنثى المُطلَقة أُنوثتها الشخصانية، تقول له أنا، أنا فلانة الفلانية، بمُواصَفاتي – كما قلنا -، بحقوقي، بسماتي، بعلاماتي، وبفرديتي، أنا لي حقوقي، أنا فلانة، لست مُجرَّد هي، لذلك يقول الفيلسوف الشخصاني الكبير جان لاكروا Jean Lacroix الحُب حين ينضج بين الزوجين يستعيض مُباشَرةً عن الهو بالأنت، هذا هو! ما عاد يتكلَّم لُغة الهو، أي الهي، وإنما لُغة الأنتِ الآن، ولا تتكلَّم هي لُغة الهو، بل الأنتَ الآن، الأنتَ! ذات مُقابِل ذات، ليس ذاتاً مُقابِل شيئ، لا! ذات مُقابِل شيئ: استهلاك وتشييء، تتعاطى مع أقلام الرصاص، مع السيارات، مع المنازل، مع اللباس، مع الأحذية نعم بمنطق الذات والشيئ، أما مع البشر، مع الناس، ومع الزوجة بالذات فلا، ذات مُقابِل ذات، أنا مُقابِل أنا.

تقول ولكن أليس ينبغي على الزوجين أن يسعيا إلى الاتحاد والانسجام؟ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ۩، انتبه! الآية نفسها تقول لَكُمْ…۩ لَهُنَّ… ۩، اتحاد! ومُفارَقة هذا الاتحاد أن فردية كل من المُتحِدين تبقى موجودة، يقول إريخ فروم Erich Fromm – من أحسن وأروع وأعمق مَن كتب عن الحُب في كتابه المشهور عالمياً: فن الحُب – مُفارَقة الحُب هي أن اثنين يسعيان ليكونا واحداً، في حين يبقى الاثنان اثنين، هذه المُفارَقة! ولذلك إلغاء شخصية الآخر الذي هو في الحقيقة تشييء له لا يُعتبَر حُباً، لذلك مَن يُحِب زوجه أو مَن تُحِب زوجها ينبغي أن يكون لسان حاله ناطقاً بهذا المعنى، أن تكون لي ليس معناه ألا تكون لك، بل معناه أن تكون لك، وإذا غامرت بأن تكون لي ولم تجد نفسك فقد غامرت بالتنازل عن إنسانيتك وأصبحت شيئاً بعد أن كنت شخصاً، انتبه! لابد أن أبقى شخصاً ولابد أن تبقى هي أيضاً شخصاً حتى آخر لحظة.

البعض يقول مثل هذا الاتحاد الذي لم يرتق إلى وحدة حقيقية أيضاً هو مُرشَّح لإفراز صراعات، نعم! ومَن يقول إن الحياة الزوجية وحياة الأزواج المُحِبين هي بلا صراعات؟ انتبه! الزوج الطاغية أو الزوجة الطاغية الذي والتي يطلبان أو يطلب كل منهما من الآخر حياةً زوجيةً وادعةً هانئةً بلا نزاع أيضاً هو يطلب تشييء الآخر، يطلب أن يتحرَّك الآخر بمنطق ماذا؟ ميكانيكي آلي، حين تقول له اذهب إلى الشرق يذهب إلى الشرق، وحين تقول له اذهب إلى الغرب يذهب إلى الغرب، مثل السيارة التي تقودها، انتبه! وحين تقول له قف يقف، وهكذا باستمرار! طبعاً هنا لا نزاع، لذلك مثل هذا لا يُحِب ولا يعرف ما هو الحُب، إنما يُحِب ذاته مُتنكِّراً في خُدعة حُب الآخر، هو لا يُحِب الآخر ولم يُحِبه لحظة أصلاً، هو يُحِب ذاته، وبمقدار ما يُعطيها الزوج هذه الميزة أو بمقدار ما تُعطيه زوجته هذه الخصلة أو الخصيصة يكون مُرتاحاً ويظن أن الحياة الزوجية مُمتازة وهانئة بلا مشاكل، لأنها حياة فرد واحد مع أشياء، من ضمنها هذا الشيئ المُسمى زوجةً أو زوجاً، حياة الأنانية والنرجسية، بالعكس! الآن علماء الاجتماع ومن قبلهم علماء النفس – خاصة علم النفس العائلي – بدأوا يُركِّزون بشكل مُكثَّف ليس فقط على أهمية الفوارق الشخصية بين الزوجين والشريكين وإنما على أهمية التوتر الناجم والحادث والمُستمِر في الحياة الزوجية على أنه عامل حيوي ومُهِم ومُخصِّب ومُثرٍ للحياة الزوجية والتعايش والمحبة، شرط أن يتم تجاوزه، كيف يتم تجاوزه؟ ليس بقمعه، إنما بتفهمه.

لذلك الحُب نفسه مُهِم، يتحدَّثون عن حُب قبل الزواج، لا بأس! طبعاً بعض الناس المُتزمِّتين جداً الذين يقفون مع الحروف وخاصة من المشايخ لا يفهمون الكلام هذا، يقول الواحد منهم لا، أنت مُنحَل إذن لأنك تتحدَّث عن حُب قبل الزواج، لماذا؟ هذا موجود، هذا شيئ لا تستطيع لا أن تُؤكِّده ولا أن تنفيه، لأنه شيئ واقعي، مثلما أن هناك بعض الناس يعطشون وبعضهم يجوعون، هذه حقائق ووقائع! وأنت لا تستطيع أن تُهندِس مشاعر الناس، أن يُحِبوا وألا يُحِبوا! الإنسان بنظرة قد يرى أحداً من الناس فيرتاح إليه، من الجنس الآخر أو حتى كصديق من نفس جنسه، شيئ طبيعي هذا، لا تستطيع أن تتحكَّم في هذا وأن تُهندِس له بالشرع، باسم الشرع! كأن تقول ممنوع عليك أن تُحِب، هذا كلام فارغ، ولم يفعلها الرسول مرة، بالعكس! هو فعل عكسها تماماً وأكَّد عكسها تماماً، نحن نُؤكِّد العكس ولا أدري لماذا.

قبل أيام استمعت إلى واعظ شهير – رحمة الله عليه – أطلق العنان لأعلى الصيحات والصرخات مُستنكِراً على كاتب كتب كتاباً في علم الجنس، ويُردِّد الكلمة باستنكار، يتحدَّث عن ماذا هو؟ هل حين يتحدَّث عن الجنس يعني هذا أنه يتحدَّث عن الزنا أو عن الشذوذ الجنسي؟ يتحدَّث عن جانبي إلهي من حياتنا يا إخواني، عن جانب رباني! للأسف نحن لم نتعلَّم هذا، حتى الكلمة هذه أنا أقولها والبعض ربما يشمئز منها، الجنس! يقول هذا شيئ حقير، لماذا؟ ألم تقرأوا قوله تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ ۩؟ انتبهوا الآن، طبعاً قرأناها – تقولون – يا مولانا وسمعناها وفسَّرناها، قرأناها مائة ألف مرة! نعم، لكن لم نفهمها جيداً! ما معنى وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۩؟ ما معنى وَمِنْ آيَاتِهِ ۩؟ مما يدل عليه، مما يُقرِّب إليه، أنت لا تستطيع أن تقترب من ذات الله، يستحيل! لكن أنت تقترب من الله بأسمائه، بإدراك مجالي وفواعل أسمائه وصفاته ونعمته وكرمه وعطائه في هذا الوجود ولهذا الوجود، الله يقول مما يدل علىّ ويُقرِّب إلىّ إدراكك لهذا الجانب العجيب، نعم! إذن هذا جانب إلهي، هذا الجانب في حياتنا جانب إلهي مُقدَّس، إذن آن الأوان إلى تقديس أو تأنيس أو تديين الجنس في حياتنا، ونزع الصفة الحيوانية عنه، التي هي الصفة السائدة للأسف في تصوراتنا، نتعاطى معه على أنه شيئ حيواني! وطبعاً – كما قلنا – هذه مُغامَرة محسومة النتائج، نتيجتها ضد صالح الإنسان، ليست في مصلحة الإنسان، هذه سُبة، نسب بها أنفسنا، بالعكس! هذا الذي فينا ليس جانباً حيوانياً، بالعكس! هو جانب رباني.

لذلك – انتبهوا – كان النبي – عليه السلام – يتعاطى مع هذا الشيئ ويُعلِّمنا أن نتعاطى معه مُبتدئين باسم الله، كما نبدأ الصلاة بالتكبير ثم بالاستعاذة والبسملة نبدأ هذه العملية باسم الله تبارك وتعالى، باسم الله، اللهم جنِّبنا الشيطان، عجيبة هذا، باسم الله! أنت محظور عليك أن تُمارِس التخلية – إخراج الفضلات – باسم الله، ممنوع هذا، ممنوع لأن فعلاً هذا الشيئ مُنحَط، هذا شيئ مُنحَط، أما هذا الجانب بالذات فأنت تشرع فيه باسم الله، تقول باسم الله، عجيب!

هذا الجانب عبادة، النبي قال إنه عبادة، عبادة! قال نعم، في الحديث الصحيح! وفي بضع أحدكم صدقة، قال في الجماع تُوجَد صدقة، الصدقة من العبادات، والصحابة استغربوا! طبعاً العقلية العربية القديمة فعلاً خفَّضت المرأة إلى حد بعيد، إلى مُجرَّد شيئ، وعندهم أمثال وأشعار قبيحة جداً جداً جداً، أكثر أدبياتنا – لا أستطيع أن أذكرها على منبر جُمعة، مُستحيل! ولا حتى غير جُمعة – التي تحدَّثت عن هذه العلاقة الجسمانية بين الشريكين – أي بين الزوجين – هي أدبيات مُنحَطة تماماً، في كُتب ابن قتيبة، ابن عبد البر، الراغب، الأبشيهي، والأصفهاني، مُنحَطة كثيراً، إلى حد بعيد للأسف الشديد، وتختزل المرأة فعلاً إلى أداة، إلى أداة للمُتعة! وتعكس تصوراً يُسقَط على المرأة من الرجل وهو ظالم، يُثقِل المرأة ويفتري على حقيقتها وحقيقة مشاعرها وتوجهاتها، بأنها تنظر إلى نفسها على أنها أيضاً مُجرَّد أداة، لا ترتوي ولا تشبع، ما هذا؟ هذا باطل في باطل، هذا شوَّه حياتنا، شوَّه مفاهيمنا، شوَّه نظرتنا إلى أنفسنا رجالاً ونساءً،إلى أنفسنا كإنسان، كبني آدم للأسف الشديد!

النبي قال لا، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله، يأتي أحدنا أهله – أي شهوته – ويكون له أجر! والله شيئ غريب – قالوا – هذا، غير معهود! وطبعاً هو غير معهود، وحقيقةً قبل الإسلام هذا غير معهود، بطريقة أو بأُخرى غير معهود، لماذا؟ لأن قبل الإسلام كان الوضع مُختلِفاً، على الأقل من أيام أفلاطون Plato، واستمر الوضع وأعاد بعث هذه الخُرافة العلمية رينيه ديكارت René Descartes التي استمرت وعلى الأقل لها ظلال وتأثيرات وفواعل إلى اليوم، طبعاً الآن هي أخف بكثير من الأول، لكنها موجودة أيضاً بشكل أو بآخر، إنها تجزئة الإنسان إلى جُزئين، إلى عالمين، عالم الروح وعالم البدن، فطبعاً هذه الغرائز تنتمي إلى عالم البدن، فهي من العالم الظلماني التحتاني المحقور، عالم الظُلمة، عالم الطين! والأشياء الأُخرى تنتمي إلى عالم راقٍ رفيع، في الحقيقة الإنسان لا يُمكِن فصله ولا تستطيع أن تُسميه إنساناً إذا فصلته هذا الفصل، وكما قلنا حتى في تناولك لطعامك وشرابك أنت لست بدناً، أنت إنسان، انتبه! وتتناول الطعام بصفتك إنساناً، لا بصفتك جسداً فقط، بل بصفتك إنساناً.

جان بول سارتر
جان بول سارتر

كتب مرة جان بول سارتر Jean-Paul Sartre مقالة عجيبة جداً، أسماها الجوع هو أكثر بكثير من مُجرَّد جوع، ونحن نقول الشبع والطعام والشراب هو أكثر بكثير من مُجرَّد كونه طعاماً وشراباً عند الإنسان، انتبهوا! الجوع أحياناً يمس كرامة الإنسان، الجوع أحياناً هو استعلام بهُوية الإنسان الاجتماعية، بفصيله الطبقي، بانتمائه، وبموقفه السياسي، الجوع نعم! نُريد أن نُفلسِف الجوع كما فلسفه سارتر Sartre، لذلك الطعام والشراب واللباس والمركوبة التي تركبها – من سيارة أو من دابة أو من حمار أو من بلغ، إلى آخره! أكرمك الله – كذلك، إذن فكيف يكون الجنس؟ أكثر بكثير من كونه جنساً كما نظن نحن الآن في الاعتقاد السائد، لا نستطيع أن نُغامِر بتقسيم الإنسان إلى هذين العالمين المُتقابِلين، هذا غير صحيح، الإنسان – خِلقة الله – وحدة واحدة.

هناك معنى آخر عجيب جداً، طبعاً لم يُلتفَت إليه أيضاً من قبل وهذا عجب، إذا تُرِكَ هذا المنشط لحال سبيله – وحده من غير تدخل قصري خارجي – فإنه يُؤدي إلى ماذا؟ إلى الإنجاب، وهنا دور المرأة يكون أكبر من دور الرجل، لذا جاءت الوصاة بها ثلاث مرات، في حين جاءت بالرجل مرة واحدة، طبعاً لأن التبعات والأوهاق والأثقال والوهن أكبر بكثير في حق المرأة منه في حق الرجل، يحدث هنا أمر عجيب جداً جداً، مع كل حمل يتنزَّل ملكان بسر إلهي مُستغلِق عُلوي شريف جليل، إنه نفخ روح إلهية، أي من لدن الله، وليست جُزءاً من الله، أستغفر الله العظيم! لكن من لدن الله، من أمر الله، نفخ روح في هذه الرحم لكي يستحيل هذا اللحم والدم إلى إنسان، ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۩، الذي لم يُلتفَت إليه أن هذا لا يتم في صُلب الرجل، إنما يتم في رحم المرأة، فكم هي المرأة مُقدَّسة إذن! انتبهوا، ليس مُتاحاً لأي واحد منا كرجال أن يخبر هذه التجربة في يوم من الأيام، ولن يخبرها! لن تخبر في يوم من الأيام أن تتلقى روحاً من روح الله، لكن المرأة تفعل هذا مع كل حمل، فلِمَ نحتقرها؟ لِمَ لَمْ نلحظ هذه الميزة؟ هل أدركتم؟ هذا هو الإطار أيضاً، إطار التمييز ضد النساء، إطار احتقار المرأة، عدم رؤية حتى مزاياها وخصائصها، هذه خصيصة لا يمتلكها أي ذكر على وجه الأرض، ولن يمتلكها، تمتلكها المرأة.

المرأة لا تستطيع إلا أن تكون أعظم شاعرة وأعظم روائية وأعظم فنّانة أن تُعبِّر عن هذه اللحظات النادرة المُتفرِّدة تماماً والتي تتلقى فيها هذا السر الإلهي، هذا يكون بماذا؟ باسم ماذا؟ وبرسم ماذا؟ باسم الزواج، باسم العلاقة بين الذكر والأُنثى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ۩، لكن حظ المرأة منه أعظم، حظ المرأة أكبر! ولذلك أمرٌ يقود إلى استقبال نفحة ونفخة ربانية إلهية روحانية جدير أن يُبدأ باسم الله، إنه أمر على درجة عالية من السمو والقدسية، الله يقول وَمِنْ آيَاتِهِ ۩، إذن هذه آية إلهية، هذا يُقرِّب إلى الله.

للأسف آسفني وأحزنني أن الغربيين أحالوا الجنس إلى صنم يُعبَد من دون الله، وبالتالي أيضاً استنكروا إنسانيتهم ووحدتهم وتكاملهم وأخفقوا، الجنس هنا في الغرب يُخفِق، ويُغامِر بالإخفاق المُستمِر للأسف كما قلنا، الجنسية المثلية، كل أنواع الشذوذ، كل زنا المحارم، كل الفواحش والعياذ بالله، كل هذا إخفاق، إخفاق حقيقي، ولا زالوا يُخفِقون، ولكن كثيرٌ من فنّانيهم، من دُعّارهم، من مُجّانهم، من فلاسفتهم، ومن مُحلِّليهم النفسيين أدركوا الجانب الإلهي للجنس، أدركوا هذا، صدِّقوني! ونحن – أهل هذا الدين وأهل هذه النصوص – لم نُدرِك، ولسنا مُستعِدين بعد أن نُدرِك، غريب! لماذا؟ لأننا لا نستمد تصوراتنا ومفاهيمنا فعلاً من الإلهي، إنما من الآبائي، من الموروث، ومن الجاهلية! إلى الآن لسنا مُستعِدين أن نتخلى عن هذه الجاهليات وأن نتفتح بكل سلامة وبكل طيبة صدر وبكل رغبة في التلقي – وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ ۩ – أمام وبين يدي المائدة القرآنية، بين يدي الله تبارك وتعالى! لكي نُعيد بناء مفاهيمنا، بناء نظرياتنا، بناء منظوراتنا وأُطرنا التفكيرية، لسنا مُستعِدين! لا أعرف هذا خمود أو جمود أو بلادة أو آبائية، لا أعرف! طبعاً هناك أُطر – كما قلنا – أكثر ربما من أي شيئ آخر، أُطر مُعيَّنة جمدنا عليها!

أقول أدركوا هذا بشكل واضح، أحدهم يكتب على لسان بطله الماجن الداعر الذي يحتفظ بمجموعة – Collection – كبيرة من مُغامَراته مع مجموعة كبيرة من النساء والفتيات يقول ليس المُهِم في المجون هو الشهوة، إنما الإله! هذا الماجن يفهم هذا، عجيب جداً، لكن هل ينجح أو يُخفِق؟ طبعاً هو يُخفِق وسيُخفِق، لكنه يفهم هذا، فهم البداية ولكن لم تقده إلى نهاية صحيحة، لأن الطريق كانت خاطئة، البداية صحيحة والطريق خاطئة فالنهاية مفقودة! الغاية غير موجودة، لم تلح له.

سيمون دي بوفوار
سيمون دي بوفوار

من هؤلاء الملاحدة سيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir – عاشقة سارتر Sartre وخليلته، وهي مُلحِدة لا تعترف بالله تبارك وتعالى – التي تكتب في الجنس الثاني بالحرف الواحد تقول المرأة تجد رسالتها ودعوتها الأسمى في أن تهب نفسها للرجل الذي تبحث فيه عن الله، تفهم ماذا هي؟ تقول يختلط الحُب الإلهي بالحُب البشري، وهنا هي تتلمَّح الرد على سيجموند فرويد Sigmund Freud الذي صحَّح موقفه بكل أمانة علمية في آخر حياته وسأُشير إلى هذا في وقته، تقول يختلط الحُب الإلهي بالحُب البشري، والذي هو – أي الحُب الإلهي – ليس مُجرَّد إعلاء للحب البُشري، هذه نظرية فرويد Freud، فرويد Freud كان يرى أن الشعور الديني والتوقان الديني عند الإنسان هو مُجرَّد إعلاء للنزوع الجنسي، ترد عليه سيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir وتقول بل لإنه – أي الحُب الإلهي – هو تحريك لجُزء حقيقي فينا نحو المُطلَق، هذا موجود!

إذن الإلهي هو الذي يستقطب فينا النزوع الجنسي، هو الذي يستقطبه! وليس النزوع الجنسي هو الذي يُفرِز الإلهي بآلية الاستعلاء السيكولوجية، تقول هذا غير صحيح، عجيب منها! هذا الكلام مُمتاز، أنا أبصم عليه بالعشرة، صحيح! ستقولون هل معنى كلامك هذا أن مُمارَسة هذا الشيئ في الإطار المشروع طريق إلى الله؟ نعم، القرآن يقول هذا، النبي يقول هذا بشكل واضح، بشكل واضح القرآن يقول هذا! وهذا شيئ عجيب يا إخواني، شيئ عجيب جداً، لكن هذه الطريق لن تكون مُفضية إلا إذا سبقها ماذا؟ خضوع وبخوع لأمر الله، لخبر الله، ولشرع الله، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ۩، هنا! وإلا لن تصلوا كما قلنا، ستصح البداية وستغيب النهاية.

الله – عز وجل – يقول نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ – لنا تفسير خاص ذكرناه مرة – وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ۩، انتبهوا يا إخواني، هذا كلام الله، ليس كلام شاعر يهيم في أودية الخيال ويُحلِّق فيما يعن له من معانٍ وصور وأخيلة أبداً، هذا كلام رب العالمين! لو كانت الآية في سياق النهي عن الفحشاء ومُقارَفة الذنوب لفهمنا مُسوِّغ هذا الربط بين أولها الناهي المُثرِّب وبين آخرها وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ۩، لكن أول الآية في ماذا؟ أول الآية في الحث – لا نقول حتى في الإباحة وإنما في الحث – على مُواقَعة الأهل، على إتيان الأهل باسم الله تبارك وتعالى، نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ۩، يأمرنا بالكيس، كما أمرنا النبي جابر بن عبد الله ليلة زفافه، قال له إنك تأتي أهلك الليلة فعليك بالكيس، الكيس الكيس! بعضهم قال الكيس هو طلب الولد، ليس هذا! ثبت في السُنة بالذات أن الكيس – في السُنة بلسان رسول الله – هو حُسن التقديم لعملية اللقاء الجُسماني، ما يُعرَف بالــ Foreplay، وهذا اسمه تقديم، اسمه تقديم! أي Foreplay، الله يقول وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ۩، لذلك النبي في حديث آخر قال من العجز أن يقع الرجل عن أهله ثم ينزع قبل أن تبلغ حاجتها، قال هذا عاجز! وعكس العجز ما هو؟ الكيس، أين المُفسِّرون؟ يقولون الكيس طلب الولد، ليس طلب الولد، الكيس أن تعرف كيف تأتي أهلك، كيف تتفنَّن في هذا الشيئ، كيف تُعليه وتعلو به من أُفق حيواني حيوي ميكانيكي بحت إلى أُفق إنساني، يكون لقاءً بين كينونتين، بين شخصيتين، وليس بين أداتين أو بين شخصية وأداة أبداً! بالمُناسَبة طبعاً كل لقاء يُراد له أن يكون لقاءً بين شخصية وبين أداة ينتهي أن يكون بين أداتين، حتى الشخصية لن تبقى شخصية، ستضيع! وسنقول ما يُبرهِن هذا.

الله قال وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۩، لماذا قال وَاتَّقُوا اللَّهَ ۩؟ هل وَاتَّقُوا اللَّهَ ۩ أمر بالتقوى بعد أن أمرنا أن نأتي أهلنا؟ وهل هذا من سُبل التقوى؟ نعم، هذا من سُبل التقوى، الإمام النووي قال كلاماً هاماً هنا، وأنا أعتقد أن هذا بفتح إلهي، لأنه لم يتزوَّج، حالة! طبعاً نحن نزعم ونُجادِل أن الطريق الأوسع لتكامل الإنسان إنسانياً هي بالزواج وما يتلوه، هناك طرق ضيقة محصورة تصح مع الأنبياء والقدّيسين والأولياء الكبار، ولكنها طرق ضيقة محصورة، فيما عدا الأنبياء يبقى السؤال أيضاً مفتوحاً، إلى أي حد نجحوا في التكامل؟ انتبهوا! يبقى السؤال مطروحاً، إلى أي حد نجحوا في التكامل؟ هذا هو! لماذا؟ هل تعرفون لماذا؟ لأن الله حين خلق الإنسان لم يخلقه آدم وحده ولم يجعله حواء برأسها، إنما خلق الإنسان آدم وحواء جميعاً، هذا هو الإنسان! إذا تكلَّمنا عن إنسان فنحن لا نعني الذكر ولا نعني الأُنثى، نعني ماذا؟ الذكر والأُنثى، وهذه لُغة القرآن، هذا هو الإنسان.

إذن إذا تكلَّمت عن أي تكامل إنساني فلابد أن يسلك طريقه عبر الآخر، الآخر الجنسي ضمن النوع الواحد، الذين يُخفِقون لا يفهمون هذا، بعض الناس يُعتقَلون في فترة المُراهَقة في مُواصَلة الجنس ذاته لأسباب لن نُطيل بذكرها، لأنها نظرية طويلة جداً! في فترة المُراهَقة يعلقون في التماهي وفي مُواصَلة الجنس ذاته، فتى مع فتى وفتاة مع فتاة! للأسف هذا يُخفِق إنسانياً، لا يُخفِق فقط جنسياً وإنما يُخفِق إنسانياً أيضاً، وتبقى شخصيته غير ناضجة وغير مُتزِنة وغير مُكتمِلة، مطبوعة بطابع عدم الاكتمال باستمرار للأسف الشديد، لماذا؟ لأنك كرجل ترى في الرجال جميعاً في كل العالم أمثالاً لك، لا يُمكِن أن أرى في الرجل آخر، انتبه! أنا أرى مثلاً لي، صورة مُعدَّلة لي، لكن أرى في الأُنثى الآخر، الآخر النوعي! وهي ترى في الرجل الآخر النوعي، ولا يُمكِن أن يحدث التكامل إلا مع الآخر، رجل مع امرأة وامرأة مع رجل، ليس امرأةً مع امرأة وليس رجلاً مع رجل.

ولذلك حين تستنفذ البشرية قدرتها وإمكاناتها على أن تُحقِّق هذا التكامل الإنساني سيُطوى بساط الوجود، النبي يقول حين يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء – إلى آخره – يكون الله – تبارك وتعالى – قد تأذن بطي بساط هذا الوجود البشري، انتهى! اقتربتم من النهاية، لم تعودوا صالحين، كففتم أن تكونوا بشراً، أُناساً، أي إنساناً، انتهى! إذن فلينته كل شيئ، بدأنا للأسف هذا المشروع وهذا المشوار المُنحَط التدهوري، مشوار الاكتفاء للأسف! وهذا حيف وجفاء لإنسانيتنا، لإمكانية تكاملنا كإنسان.

فالله – عز وجل – إذن يقول وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ ۩، لا مُسوِّغ لهذا الربط وهذا التذييل في هذه الآية الكريمة إلا بالتسليم بهذا الافتراض، ما هو؟ أن هذه العملية لها جانبها الإلهي، لها جانبها العبادي، لها جانبها التقديسي، نعم! لذلك جعلها الله من آياته، قال وَمِنْ آيَاتِهِ ۩، كما قلت مُجّانهم ودُعّارهم وطبعاً علماؤهم ومُحلِّلوهم فهموا هذا بشكل واضح!

برتراند راسل
برتراند راسل

برتراند راسل Bertrand Russell أيضاً – المُلحِد الذي عايش ومات في الإلحاد، يُكابِر على الله وبراهينه – يكتب بشكل واضح يقول إنني أعلم أنني أقر في أعماق نفسي بأن طلبي لهذا الحُب الأُنثوي – أي حُب الآخر في شكل الجنس الآخر – إنما هو بديلٌ عن سعيي غير المُجدي نحو الله، الله أكبر! شيئ عجيب أن يفهم هذا الرجل، هو عقلية كبيرة بلا شك، عقلية كبيرة! إنسان ضخم، ليس سهلاً، فهم هذا، فهم الإلهي في هذه العلاقة، فهم المُقدِّمة لكن السبيل كانت خاطئة، وعلى كلٍ دعوا هذا، الفيلسوف الفرنسي الداعر شارل بودلير Charles Baudelaire – صاحب أزهار الشر، والذي عاش حياةً ماجنة من أولها إلى آخرها – يُسمي النساء الساقطات في رواياته وفي شعره ماذا؟ ماذا يُسميهن؟ الساعيات إلى اللانهاية، إلى المُطلَق! وهذا عجيب، أي عبر هذا الشيئ، لكن طبعاً كل هذا – كما قلنا – أخفق في أن يُبرهِن على أن هذه سبيل للتكامل عبر هذه المنظورات، البداية صحيحة لكن السبيل مفقودة، السبيل خاطئة، لذلك هل وصل بودلير Baudelaire؟ هل عانق المُطلَق؟ أي هل واصل إلى الله حقاً؟ هل ارتاح؟ هل يُقال هنا فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى، كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالإِيابِ الْمُسَافِرُ؟ لم يفعل، وكتب يقول أيضاً بالنص والفص أجدني باستمرار مُلاحِقاً لتلكم اللذة المسعورة التي وعدت بالارتواء لكنها لم ترو، لا فائدة، تحطَّمت!

ولذلك الدون جوان – Don Juan – أو الدون خوان بالإسبانية – والدونجوانية أصبحت ظاهرة – هو الرجل الذي يُعدِّد فتكاته ومُغامَراته، وعنده ليس مجموعة – Collection – واحدة وإنما مجموعات Collections، مع عشرات وأحياناً مع مئات! في نهاية المطاف كما قال أحد الفلاسفة الكبار الدون جوان – Don Juan – أو الدون خوان ليس مُجرَّد شخص غير أخلاقي، بل هو شخص لم يُحقِّق التوازن الراشد والنضج العاطفي، مُختَل، هو إنسان مُختَل!

لذلك أُحِب أن أقول لإخواني المُتزوِّجين والذين سيتزوَّجون كثرة المُغامَرات والبحث والعين الفارغة لا تدل لا على رجولة ولا على نشاط جنسي مُمتاز، إنما تدل على فشل عاطفي وعدم رشد وعدم اتزان، أنت شخصية غير مُتزِنة! تقول لي عندي مُبرِّراتي الموضوعية، ما هي أيها الطفل الكبير؟ المُبرِّرات الموضوعية أن بدن زوجته، صدر زوجته، قوام زوجته قد تحوَّل، لم يعد يُغريه! إذن أنت من أولئك الاستهلاكيين، هذه قضيتك إذن، هذه مُشكِلتك، أنت استهلاكي، أنت لست إنساناً، أنت لم تفهم كيف تكون العلاقة بين إنسان وإنسانة، لم تفهمها يوماً، لم تعشها! لذلك أنت تاعس، أنت بائس، وأنت مُعثَّر.

بعض الناس يرى العكس، أن الجواذب الجسمية هي الأساس، وبالمُناسَبة حتى في اللُغة الإنجليزية وفي اللُغة الفرنسية هناك مُصطلَح الشهية الجنسية، هذا المُصطلَح غير علمي، غير إنساني! لماذا؟ مرة أُخرى حين تقول لي الشهية والجوعة – يقولون الجوع الجنسي والجوعة الجنسية – يعني هذا أنك تعكس موقفاً تشيئياً استهلاكياً، شهية! نُريد أن نأكل وأن نشبع، شهية غير شهوة، شهية! هذا غير صحيح، هم لا يتكلَّمون عن شهوة الآن، عن شهية وعن جوعة لابد أن تُشبَع، وهذا غير صحيح، فهؤلاء – أي أصحاب هذا المنطق التشيئي – يفهمون أن الجواذب الجسمية فقط هي التي تُرشِّح لحياة جنسية سعيدة، والحياة الجنسية المُوفَّقة تلد الحُب، وهذا غير صحيح، يقول إريخ فروم Erich Fromm الحُب لا تلده علاقات جنسية مُوفَّقة، إنما الحُب هو الذي يُنتِج حياةً جنسيةً هانئةً، الحُب! حين تفهم ما هو الحُب وما هو اللقاء، وأنت ستفشل دائماً في تحقيق هذا اللقاء إذا أصررت أو بقيت مُصِراً على أن تُحوِّل الآخر إلى أداة لمُتعتك، وهذه الأداة طبعاً ريثما تستنفذ أغراضك منها ستُلقي بها، أليس كذلك؟ وستبحث عن أُخرى ثم عن ثالثة ثم عن رابعة بالطريقة الطفولية، باستمرار! إذن مُشكلِتك أنك غير ناضج عاطفياً، غير ناضج إنسانياً، في نهاية المطاف ستسقط تاعساً بائساً غير مُرتوٍ، لن تكون أكثر مُغامَرات من بودلير Baudelaire هذا مثلاً، لن تكون بأي حال من الأحوال، هذا محبوب الفتيات في عصره، لن تكون! سقط مُحطَّماً ولم يصل، وأنت تستطيع أن تصل وأن تشعر بالملء والامتلاء والإشباع مع زوجة واحدة.

ولذلك نعود إلى الموقف المُتزمِّت من قضية الحُب وما إلى ذلك، بالعكس! الأحسن والأفضل أن يتم الزواج ما كانت الشروط مُهيأة والظروف مواتية على اتفاق وانسجام واستلطاف، لا نُريد أن نقول يُوجَد حُب باستمرار، لكن يُوجَد استلطاف وتُوجَد مقبولية، هذا هو الموقف النبوي، وليس هو الموقف الفقهي، هذا الموقف النبوي! كل ما صح عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – من أحاديث يُؤكِّد هذه الحقيقة، أنه لا يجوز أن تتزوَّج ولا تُزوَّج لا بكر ولا ثيب إلا برضاها، سيقول لي أحدكم هل برضاها يعني بهواها؟ نعم، بهواها، سيقول لي هل هذا يعني بمحبتها؟ نعم، بحُبها ومحبتها، إذا ارتاحت وأحبت أن تقترب بهذا من الناس فهي وذاك، إن لم تُحِب فلا ثم لا، ممنوع! ولا تقل لي سأُرغِمها لأنها بكر لا تفهم وغير مُجرِّبة ولا تعرف الرجال، هذا كلام غير صحيح في منطق رسول الله، كل ما صح عنه من أحاديث لا نُطوِّل بذكرها – لأنها كثيرة جداً، وسنذكرها في مُحاضَرة غد إن شاء الله عن زواج الصغيرات – يُؤكِّد هذا.

يقول ابن عباس جاء إلى النبي بكر وثيب، زوَّجهما أبوهما بغير رضاهما – امرأة بكر وامرأة ثيب – فأبطل النبي نكاحهما، تم الزواج! زوَّجتك وقبلت وعلى بركة الله، انتهى! لكن النبي قال الزواج باطل، الزواج باطل! طبعاً أبطل الزواج في الاثنتين، ممنوع! يقول أيضاً ابن عباس – على ما أذكر – سُئل – صلى الله عليه وسلم – في بنت – بنت صغيرة بكر – طلبها رجلان – أي خطبها إلى أهلها رجلان -، رجل غني وآخر شاب فقير، وهي تُحِب الفقير وهم يهوون الغني – طبعاً هم يُحِبون الغني، الجانب المصلحي المادي -، فقال النبي زوِّجوها بمَن تُحِب، هم استغربوا هم، بمَن تُحِب! ما الكلام هذا؟ ما معنى بمَن تُحِب؟ قال زوِّجوها بمَن تُحِب، لم يُر للمُتحابَين – ليس للمُتحابِين كما ضبطها بعضهم وإنما للمُتحابَين، هذه الكلمة للمُثنى وليست للجمع – مثل الزواج، والنبي هنا أيضاً يُريد أن يُفهِمنا أن الزواج هو ظرف ومجال وميدان لاستدامة وإنعاش وتخصيب الحُب.

طبعاً في المنظور العام الزواج هو العدو رقم واحد للحُب، وهذا كلام فارغ، لأننا لم نفهم الزواج، بالعكس! أنا أقول لكم أكبر ما يفرق الزواج من الحُب أن الحُب مُهدَّد باستمرار، الحُب مُحاصَر، هذا معروف! ومن هنا الغيرة الشديدة التي تشب نيرانها في قلب المُحِبَين، مُهدَّد باستمرار لأسباب أو لأُخرى أو بأسباب وبأُخرى، أما الزواج فهو وعد الأمان، قال تعالى وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ۩، يقول علماؤنا بالإجماع الأصل في الزواج أنه عقد على التأبيد، عقد مُؤبَّد! يبقى للأبد، الطلاق استثناء، كما يقولون آخر الدواء الكي، أي إذا لم يبق إلا الطلاق فللأسف يُلجأ إليه، لا نقول أهلاً وسهلاً بالطلاق، لكن نقول للأسف يُلجأ إليه، أما الأصل – كما في المسيحية وغيرها – أن الزواج عقد مُؤبَّد، المفروض أن يبقى عقداً أبدياً، سيقول لي أحدكم هذا عقد أبدي وهذا يعني أن الاختيار لابد وأن يأخذ الاختيار مدى طويلاً، وهذا صحيح، لابد من فرصة حقيقية، حين تختار لابد أن تُفكِّر ألف مرة وليس مائة مرة، ألف مرة! هل هذه هي التي أُريدها؟ هل هذه التي يُمكِن أن أجد تكاملي معها وتجد تكاملها بي ومعي؟ أهذه أم ليست هي؟ المسألة ليست سهلة.

بعض الناس – وخاصة الرجال – يُسارِعون في الاختيار ثم يندمون، وهذا غير صحيح، عليك أن تُفكِّر طويلاً في موضوع الاختيار، كيف؟ من منطق هذا الحُب الذي ينبغي أن يكون أيضاً أبدياً، يقول أحدهم أن تُحِب معناها أن تقول للآخر أنت لن تموت، طبعاً الحُب الحقيقي فيه نزوع للأبدية، ومن هنا تشبث المُحِبين بالهدايا التي يتبادلونها وتكون في أغلب الأحيان من أشياء ثمينة، ويضنون بها ويحفظونها في حلهم وترحالهم وليلهم ونهارهم وفي أسمارهم ونواديهم باستمرار، لماذا؟ علامة على ماذا؟ على التأبيد.

طبعاً لابد أن يكون للُحب وللحياة الزوجية عثرات، تجبرها ماذا؟ الإرادة الواعية، إرادة الاستمرار، إرادة التقويم، وإرادة التفهم وأخذ الآخر على ما هو، أنا أُحِبك كما أنت، لا أُحِبك كما أُريد، انتبه! هذا الفرق بالمُناسَبة، الحُب قبل الزواج هو حُب في الأغلب كما أُريد، لكن الحُب في الزواج هو ماذا؟ هو حُب كما أنت، هذا الزواج الحقيقي، هذا معنى الزواج وهذا معنى لقاء شخصيتين، كل مَن يفشل أن يلتقي بالآخر هو سيفشل في أن يجد حقيقته وتكامله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

                                                                   (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، أيها الإخوة:

عائشة – رضوان الله تعالى عليها وعنها – قالت للرسول قد أبدلك الله خيراً منها، تعني نفسها، لأنها بكر وخديجة لم تكن بكراً، لأنها في مُقتبَل شبابها وخديجة كانت كهلة، حين تُوفيت على الأقل كانت كهلة أو في بداية كهولتها على الخلاف في قضية سنها أيضاً، لذلك قالت قد أبدلك الله خيراً منها، هي عجوز، حمراء الشدقين، هلكت في الدهر الغابر، غضب النبي وقال لا، لا والله ما أبدلني الله خيراً منها.

منظور عائشة – وأنا مُتأكِّد أنها لا تُؤمِن به لكن تصطنعه بدافع الغيرة ودافع إعلاء مثابتها وقيمتها والاستعلان بها، لكن من المُستحيل كامرأة واعية ومُحنَّكة أن تُؤمِن به – هو منظور تشيئي، بكر خيرٌ من ثيب، صغيرة خيرٌ من كبيرة، وهكذا! وحيٌ موجود – لحم غض طري – خيرٌ من ميت، أما منظور النبي فمنظور إنساني، ليس استهلاكياً ولا تشيئياً، قال لا، لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، تبقى خديجة كإنسانة عندها مُواصَفات تُلائمني، ألتئم بها وأنسجم معها أكثر بكثير من غيرها، وأنتِ من ضمنهن، النبي يُحِب أن يفتحنا على هذا المنظور.

قبل سنوات حين أتينا إلى أوروبا – وأختم بهذا – للأسف كنا نظن دائماً شيئاً – أحياناً يصح هذا لكم ليس في كل الأحايين هو صحيح – ونستغرب حين نرى – مثلاً – شاباً جميلاً – طول وعرض وقامة ووسامة وقسامة – مع امرأة تكبره سناً وليست في مثل وسامته ولا حتى في نصفها، لكنك تشعر أن بينهما وداً حقيقياً، من خلال النظرة وما إلى ذلك، فكنا نقول هؤلاء الناس مصلحيون وماديون، كنا نظن هذا، هذا مُنطلَقنا في التفسير، الآن استبان لنا أن هذا الكلام غير صحيح، يبدو مِن هؤلاء الناس مَن هم أعمق نظرةً منا، هذا ليس شرطاً! ليست المسألة مُتعلِّقة بالوسامة والقسامة وكبير وصغير، المسألة أعمق من هذا، الحياة الزوجية تستدعي أموراً أعمق من هذا، في العالم العربي – مثلاً – عندنا الأولوية بدرجة أولى للجمال، بدرجة ثانية للخلف، هل تُخلِّف أو لا تُخلِّف؟ وتُخلِّف ماذا؟ أولاداً، قيل (مَن خلَّف أولاداً بالذات فما مات)، الذي خلَّف بناتاً طبعاً مات وهو حي، عندهم هذا! طبعاً قيل:

بَنُونَا بَنُو أبنائِنا وَبَنَاتُنَا                             بَنُوهُنَّ أبناءُ الرِّجالِ الأبَاعِدِ.

قيل أولادنا هم الذين من ذكورنا، أما أولاد البنات فهم ليسوا بأولادنا لأنهم من أُناس آخرين، ليس لنا علاقة بهم، للأسف هذا منطق جاهلي، غير قرآني وغير إنساني طبعاً، منطق غير إنساني! تخيَّل شعور ابنتك، من صُلبك يا أخي، من لحمك ودمك، من رحمك يا امرأة، وأنتِ تُفهِمينها أن لا علاقة لنا بأولادك، هؤلاء للناس الأجانب، ما معنى يا أخي أنهم للأجانب؟ هي ابنتنا يا أخي، عجيب! منطق جاهلي، منطق عجيب، غير قرآني كما قلنا، غير قرآني وغير إلهي!

هذا عندهم كل ما هنالك، أي الجمال وخلف الذكور، فقط! والعكس هنا في أوروبا، ليس الأمر كذلك، يبدو أن بعض الناس عندهم نوع من التعمق أكثر من هذا، تُوجَد مُواصَفات شخصية بين الشريكين، ربما يتأخَّر الجمال فيها، ربما تتأخَّر اعتبارات كثيرة، وحتى الخلف يتأخَّر أحياناً، ويستمران بلا خلف فترة طويلة وينتهيان بهذا، وهذا شيئ نبيل، حقيقةً شيئ نبيل، لا نُشجِّع عليه دائماً والقضية تحتمل النقاش، ولكنه يدل على شيئ أكثر عمقاً مما نظن، أكثر عمقاً! نحن حصرنا أنفسنا وعمقنا وإدراكنا في استجلاء الجمال، جميل يأخذ جميلة، وجميلة تستحق جميلاً، ما هذا؟ أي في مسألة المسلاخ والجلود، الهيئات فقط! أين الصفات والشيات والسمات والخصائل والخلال الإنسانية الحقيقية؟ هذا كله غضضنا الطرف عنه.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يفتح علينا وأن يُعلِّمنا من لدنه علماً.

اللهم اهدنا واهد بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً.

اللهم إنا نسألك أن تجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوماً وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، لا تدع فينا شقياً ولا مطروداً ولا محروماً برحمتك يا أرحم الراحمين.

افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، واهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مُستقيم.

اللهم أعز الإسلام وانصر المُسلِمين، وارفع بفضلك وعزتك راية الحق والدين، اللهم مَن أراد بالإسلام والمُسلِمين خيراً فكُن له خير مُعين، ومَن أراد به وبهم شراً فخُذه أخذ عزيز مُقتدِر، فإنه لا يُعجِزك إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا 01/02/2008

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليقات 9

اترك رد

  • موضوع صعب مرعب
    الحرية أحسن من الزواج بالنسبة لي كإنسان (ة) طبعا له خلفيات خلفها تاريخه بدون نفاق
    لكن هناك طيف واسع بين الرهبنة و الانحلال …هناك عانسات لم يكن لهن نصيب في الزواج ووتعشن (طبيعي ) .
    ليس بالضرورة أن يكتمل العازب أو الانسان عموما أو المترهبن ….نعم الحياة بلا زواج ناقصة….
    كالاعقاقة لكن الزواج مصيبة تشبه الموت
    لكل شيء ثمن و الرضى بالقضاء و القدر جيد، الجحيم هو أن يعيش الانسان الزواج كي يدفن حيا و هذا هو الزواج عند العربي بلا مبالغة … جربت الزواج للأكثر من سبع سنوات كدت أفقد عقلي كل ما كنت أفكر فيه هو أن أصبح حرة حتى اسمي فقدته ،صرت زوجة فلان… لعنة … اايوم السعيد هو اليوم الذي ولدت فيه من جديد خرجت من المحكمة و أنا أضحك ،إسترجعت حريتي ، و منذ ذلك الوقت و أنا أحاول أن أجد( أنا) التي كدت أفقدها الى الأبد ..نحن قوم متجبرون يكاد أحدنا لا يدرك حيقية الآخر من كثرة تقنعنا هناك من يحمل وجه ملاك و يلبس حالة ملاك و لت يختلف اثنان حول صلاحه لكن الزمن يكذب ذلك كله …في المجتمعات العربية هذا كثير أحسن الناس تجده أكثر الناس التياثا و جنونا و هذه حقيقة ….المرأة لا تدفع ثمن الجهل المتراكم تحت أقنعة الوحوش فحسب بل تفقد حياتها رغما عنها لمجرد أن تكون زوجة فلان و فقط …أما العلاقة الجنسية فلا وجود لها في العالم العربي هذا بلآختصار .
    الجنس يختلف من فرد لآخر حسب الوعي و التربية و التكامل النفسي و الرشد الشخص الغير المكتمل و الغير الناضج لا يمكنه الا أن يستهلك الجنس كطاقة كغيرها من الطاقات بخلاف الانسان الذي يعيش حالة توازن فكري و نفسي و عاطفي لا يمكن أن يكون الجنس في حياته الا مقدسا داخل علاقة حب حقيفية عميقة بين شخصيتين ناضجتين . الحب ربما ودع للأسف ولكن هذه أيضا حقيقة …شيء فضيع لكن الحقيقة مرة وجوه الناس كانت تخدخ قبل عشرين عاما اليوم بدأت تتغير المفاهيم و بدأت تتعرى الحقائق و بعض ما تجنيه هذه الأمة المرحومة هو قسوة قلبها و عصيانها … أين القصائد و الاشعار أين حب قيس و ليلى ….ضاهر الحب على اادمار الذي أتى على هذه الامة على كل حال
    العنوسة خير من زواج ينتهي بالخراب والدمار و الحرية خير من حياة الوهم
    ليس المهم أن أكون غنية أو أن أنجب أو أن أقوم بإنجاز ما أكبر إنجاز أصبو له هو أجد نفسي و أجلس معها و أحتسي معها كأس شاي أو نجلس فقط على الارض وحدنا في الحرب أو جوعا المهم أكون مع نفسي لأعيش مرتاحة و أموت مرتاحة، ربما أكون على خطأ …اايوم الذي أجد فيه نفسي ربما ستدلني. على الصواب ….أو نتعاون معا لرؤية الحقيقة .

    • انت لم تخطئي..والله كانك تتحدثين عني…في الخطبة يكون شئ وبعد الزواج يزيل القناع واذ به انسان اخر غير الذي عرفتيه وتتكشف لك اشياء التي ظننت انها اساسيه ومتوفره في كل شخص ومفهومه ضمنا…واذ هم صفر على صفر في معاملته العاديه وفي اخص الاشياء. لم تخطئي ابدا…لسنا مضطرات لان نعيش في الذل فقط كي نظل متزوجات..اما ان تكون علاقة وفق واحترام واما فكل فليذهب في طريقه. الشاب الشرقي ماشالله عليه خمسه في عين الحسود…بفكر حاله بيفهم بيطلع ولا حاجه…الا من رحم طبعا ولا اعمم.

      • هههه تزوجت قبل خمسة عشرة عام و كأني انتحرت، ههههه لا زواج لا هم يحزنون و الادهى و الامر أنهم طينة واحدة ههههه اعنك الله أختي

  • قلبت علي المواجع هذه الخطبة
    الأمومة شيء لا يمكن وصفه الا أنه فعلا حالة ربانية تتلبس المرأة شيء يفوق الروعة …لم أنجب لكن أشعر أني أم منذ الأزل و لا يغادرني هذا الشعور أبدا من شدة حبي للإنجاب و الأطفال ككل النساء طبعا الا أنني أفكر بواقعية ربما تجعلني أفصل فصلا نهائيا بين ما أحب و بين ما يمكنني فعله مراعية للعواقب و غير متجاهلة لجدية الأمور ….أحيانا أسمح للأنثى داخلي بتأنيبي لا أبخسها حقها كما لا أبخس حق المجنونة المنفلتة العقال بتشظيتي و أناس كثر آخرين نسلك طريقنا معا الى أن نوحد هذه الجثة في نقطة ما ….لست أنانية بلا عقل لكن هناك فواصل و نقاط أحيانا تخاطبنا منذ الأزل من أعماقنا ( يا فلان إفعل و لا تفعل هذا ، إنتبه هذا غير صحيح ، الطريق من هنا ، لا تصدق الآخرين إنهم مجرد حمقى ، كن قويا لا تستسلم ، إنهم مجرمون قتلة، أهرب ،) و يبقى هذا الصوت مقابل عالم بكامله يتجاذبك و مخاوف تجمدك إلا أنه لا يستسلم و في كل مرة يخلق لك مشهدا لترى بعينك إجرام من حولك ….النقاط العميقة لا تأبه لقوانين و لغة الخارج معاييرها مختلفة …….. و تتذكر من تكون حقيقتك .فتضع نقطة .و ترجع الى سطر آخر تبدأ فيه رحلة هروب جديدة ، أحيانا أخاطب النقاط و الفواصل و أسألها ألست مخطأة في الهروب فتقترح علي المواجهة لأعلم أنها لا تكذب و ليست خيالا أو وهما مسلطا بل تبين لي أن الوهم هو الحقيقة التي نعيشها و الهروب فن لا يدرك الا بشق الأنفس سألتها مؤخرا ماذا تقصد بالهروب فلم تجبني ففبركت لي حادثا رأيت فيه نقطة سوداء ابتلعت عالما من حولي قبل أن أعرف ما الهروب ….و كنت ضمن ذاك العالم فاكتشفت أن من يكتب هذه الكلمات الآن إنسان آخر ….

  • على الأخ عدنان إبراهيم إعادة النظر في مفاهيمه القرآنية، لأن المنطلقات خاطئة لن تفضي لنتائج غير خاطئة قول الله تعالى لا تنتهي صلاحية بعض مفاهيمه بمورور الزمتن، فمل اليمين لا علاقة له لا بالرق ولا بالإيماء ووجب على الأخ عدنان إعادة النظر في مفهوم القاحشة ومفهوم الزنى، وأما محاولة توفيقه بين اتلعقلية الشرقية ومفهوم النكاح هو ليس تدبرا للقرآن بل هو ألأصبح يأم القرآن، وبرضخ القرآن لفكره ولا يبحث في القرآن عن معانيه
    ولذلك أقدم لأخوتكم محاولة بسيطة للذين يستعملون عقولهم ولا يتبعون غسرهم

    https://el7ikma.wordpress.com/2016/01/31/%D9%85%D9%84%D9%83-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D9%86%D8%8C-%D9%86%D8%B8%D8%B1%D8%A9/

  • عدنان رجل غير عادي و عالم يفعل ما بوسعك ليساعد البشرية جمعاء شعاره الأخوة و الرحمة و الحب صدره متسع للكل و هذا شيء ليس بالبسيط و لا الهين . العالم كله في جهة بضجيجه و كلامه و عدنان عالم آخر مختلف ساكن هادئ مسالم و قوي محارب في نفس الوقت يشعرك بالامان و الثقة و في كل مرة تزداد قيمته تألقا لأنك ترى صدقه و أمله وإرادته في رحمة الناس ..

%d مدونون معجبون بهذه: