إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله -سبحانه وتعالى من قائلٍ – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۩ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ۩ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

ونمضي على بركة الله – تبارك وتعالى – فنعرض بوجوهٍ من وجوه التنقيد أو النقد للشروط العُمرية التي شرعنا في الحديث عنها في الخُطبةِ السالفة وقد فرغنا من الكلام على أسانيد هذه الشروط ووضح لنا وتبيَّن أنها لا تستندُ جيداً، فالشرط الإسنادي غير مُتوفِّر على الوجه الذي ينبغي أن يكون عليه، والأكثر من ذلك  التناقضات التي يعج بها متن هذه الشروط أو متون هذه الشروط إذ أن لها – كما طرق مسامعكم – أكثر من رواية وأكثر من سياقة، فمن ذلكم الاختلاف العارض في تحديد الشخص الذي تولَّى عقد هذا الصلح وإنجازه، مَن هو؟!

هل هو عمر بن الخطاب – رضوان الله عليه – رأساً، أم عبد الرحمن بن غنْم وكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب، أم أن أهل هذه البلدة أو المدينة هم الذين صاغوا الشروط ثم أعطوها لابن غنْم الذي بدوره أوصلها إلى أمير المُؤمِنين، أم أنه أبو عبيدة بن الجرَّاج في رواية هو الذي أخذ عليهم هذه الشروط، أم أنه عمر بشكل مُباشِر وعهد بها إلى سلامة أو سَلَمَة بن قيصر وهو أحد الصحابة؟!

أشياء كثيرة جداً مُختلِفة ومُتعارَضة، ولكن هذا ليس بالأمر العظيم، فالأعظم من هذا هو الاختلاف العارض في تحديد وتعيين البلدة التي صالحت على هذه الشروط، فمرةً هى الجزيرة. وهذه رواية أبي بكر الخلَّال التي صدَّرها ابن القيم ضمن روايات ثلاثة ذكرها في كتابه أحكام أهل الذمة، فهى أهل الجزيرة، وذكرنا أن الجزيرة يُراد بها الجزيرة الفراتية أو بلاد ما بين النهرين، كما قيل أنها بيت المقدس – إيلياء – وهذا ورد أيضاً في رواية حيث قيل هذا ما صال عليه أهل بيت المقدس وهذه غير العُهدة العُمرية، وورد أيضاً في رواية ثالثة أنها دمشق، وفي رواية رابعة على الإبهام قيل أهل بلدةِ كذا وكذا، أي قيل أنها بلدة كذائية، فلماذا هذا الإبهام؟!

الذي ترجَّح لدي – والله تبارك وتعالى أعلم – أن هذه البلدة كانت هى الجزيرة – الجزيرة الفراتية – عند مُخترِع هذه الشروط، فهذه الشروط مُخترَعة ونحن لا نشك في هذا، هذه السياقة وهذه الرويات مُخترَعة ومنسوبة ومُسنَدة زوراً وإفكاً وبهتاً إلى الفاروق – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – وهو منها براء، أي هو من هذه الشروط براء – رضوان الله تعالى عليه -، إذن أنا أُرجِّح أو ترجَّح لدي أنها الجزيرة الفراتية،  ولكن لماذا؟!

لأسباب، أوجه هذه الأسباب وأظهرها هو اسم عبد الرحمن بن غنْم الذي يتردَّد في أكثر الروايات، عبد الرحمن بن غنْم – كما قلنا لكم – رجل اخُتلِفَ في صحبته، والأرجح أنه ليس صحابياً ولكنه تابعيٌ جليل – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – معروفٌ بتقاه، ولكنه لم يُعرَف يوماً بأنه كان قائداً من قادة الفتوح، عبد الرحمن بن عنْم هو تابعيٌ جليلٌ رفيع المنزلة – عليه الرضوان والرحمة – ومشهور بالتٌقى وبالجهاد، كان مُجاهِداً جُندياً ولكن لم يكن يوماً قائداً لجيش من جيوش الفتح، والآن الذي جرت عليه العادة وتُعُرِّف عليه أن الذي يتولَّى عقد أو عهد الصلح هو القائد، فالقائد الفاتح هو الذي يتولَّى هذا ثم يُرسِله إلى أمير المُؤمِنين في المدينة – في المركز – وبعد ذلك يُجيزه أو لا يُجيزه، وفي العادة كان يُجيزه لأن الشروط مُتعارَف عليها أيضاً، فشروط العهد والصلح مُتعارَف عليها بين قادة الفتوح وكانت تجري على سنن واحدٍ تقريباً وذلك حتى من أيام رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه ومن والاه – وقد عهد إلى نصارى نجران، وعهد  إلى أُكَيْـدِرِ دُومة – دُومة الجندل – وعهد أيضاً إلى أهل أيْلة وكانوا نصارى، كما عهد إلى النصارى إلى أهل أذرح والجرباء، علماً بأن أذرح والجرباء هما بلدتان قريبتان الآن من معان في الأردن، تبعدان عن معان حوالي أو زُهاء عشرين كيلو متر وكان أهلهما أيضاً من النصارى، فالنبي في كل هذه العهود وقادة الفتوح من بعده كانوا يجرون في سنن واحد، على طريقة واحدة معروفة تتسم بالمُساهَلة والمُلايَنة والاختصار “نطلب إليكم الإذعان للحكم الإسلامي وأداء الجزية على أن نمنعكم وأن نحميكم، ولكم كل ما بين أيديكم من كنائسكم وديوراتكم وبيعكم، لا يُنتقَص منها شيئ ولا من حيز بلدانكم شيئ”، فعلى هذا النحو كانت تتم تقريباً كل العهود، وليس على هذا النحو المُمِل المُفصَّل المُتعسِّف والذي تُؤخَذ عليه وجوه نقد كثيرة.

إذن عبد الرحمن بن غنْم لم يكن قائد فتح في يوم من الأيام، فلماذا يتولَّى هو عقد الصلح؟!

أتعرفون لماذا؟!

لأن الذي اخترع هذه الشروط وباء بإثمها أمام الله والتاريخ – أمام الله تبارك وتعالى والتاريخ – رجلٌ ليس له إلمامٌ دقيق بتاريخ المسلمين على أنه أكيد من رواة أو من علماء المسلمين،ذلكم أن الذي فتح الجزيرة وكان صحابياً وفاتحاً مُظفَّراً عظيماً إسمه  اختلط عليه بإسم عبد الرحمن بن غنْم، فقال أنه عبد الرحمن بن غنْم، ولكن الصحيح هو أن فاتح الجزيرة هو عياض بن غنْم بن زهير الفهري، عياض بن غنْم وليس عبد الرحمن بن غنْم، وعياض بن غنْم – رضوان الله عليه – صحابي جليل أسلم قبل الحديبية وشهد الحديبية، فإذا ذهبت في كتب الطبقات والسير والرجال والتراجم تبحث عن ترجمة هذا الصحابي الجليل أول ما يفجأك أنه يُعرَف بلقب فاتح الجزيرة، ففاتح الجزيرة هو عياض بن غنْم وليس عبد الرحمن بن غنْم، وواضح إذن أن هذا العهد لم يجر يوماً وأن الذي ائتفكه واخترعه ليس له إلمام وافٍ ولا دراية دقيقة حتى بالتواريخ ولا بالأنساب ولا بالأسماء فذهب يكذب ويهذي ويهرف بما لا يعرف، والآن هذا يفتح لنا باباً جديداً من النقد العلمي، إذن عياض بن غنْم بن زهير الفهري – رضوان الله تعالى عليه – فاتح الجزيرة وهو يُعرَف هكذا لأنه هو الذي فتح مُعظَم بلدات الجزيرة على أنه مشهورٌ أيضاً بفتوحه في الشاميات فسبق وأن فتح أكثر من بلدة في الشام أيضاً، علماً بأن الجزيرة كانت مُقسَّمة بين الشام وتركيا وبين العراق – كما شرحنا في الخُطبة السابقة – وعلماً أيضاً بأن عهود عياض بن غنْم الفهري لا تزال موجودة، فهى موجودة في كتاب الأموال للزنجوي ولأبي عُبيد  وليحيى بن آدم وأيضاً في كتاب الخراج لأبي يوسف فضلاً عن البلاذري والطبري، وليس في عهدٍ واحدٍ منها شيئٌ يُشبِه هذا الاعتساف وهذا الإجحاف وهذا الميل والمين الذي تتصف به الشروط العُمرية، فالعهود موجودة ولولا  ضيق الوقت لأوقفناكم على نماذج منها سريعاً على أنها – كما قلت لكم – تجري في السنن الذي جرت فيه عهود رسول الله وقادة الفتح في الجُملة، فتلكم العهود كان يحدث فيها نفس الشيئ.
ثم من جهةٍ أخرى نجد أن الجزيرة لم تُفتَح دُفعةً واحدة، لم تُفتَح مرةً واحدة بل فُتِحَت في كلا عهدي الصديق والفاروق – رضوان الله تعالى عليهما -، فخالد بن الوليد فتح أجزاء من بلاد الجزيرة، قرية بني صلوبا، وفتح عانات وفتح قرقيسيا وعاهدهم عهوداً أيضاً على النحو المعروف وهى عهود طيبة ليس فيها اعتساف ولا إجحاف، فهذا ما فُتِحَ من الجزيرة في عهد الصديق، ثم بعد ذلك لما انتظم أمر الشام بعد فتح مُعظم بلداتها لأبي عُبيدة وقادة الفتح الكبار  وجَّه أبو عُبيدة عياض بن غنْم بن زهير الفهري إلى الجزيرة ليفتحها علماً بأنه كان ابن عمه، فعياض هو ابن عم أبي عُبيدة  وقيل كان ابن زوجته – ابن امرأة أبي عُبيدة – فالله أعلم أي ذلك كان، ولكن هو وجَّهه وفتحها – كما قلت لكم – ووادع أهلها، علماً بأن مُعظم بلدات وبلدان الجزيرة فُتِحَت صُلحاً من غير قتال، حتى قال البلاذري في فتوح البلدان “فكانت من أسهل البلادِ فتحاً” لأنها كانت تُصالِح، ومن هنا مُؤرِّخ الفتوحات الشهير المُؤرِّخ العراقي محمود شيت خطاب – رحمة الله تعالى عليه وطيَّب الله ثراه – يتساءل لماذا وقد استثار استغرابه وعجبه أن أهل الجزيرة الفراتية المعروفين بشدة البأس والنكاية في أعدائهم قد صالحوا واستسلموا من غير كبير قتال، وهذه المسألة مُهِمة أيضاً في النقد العلمي، فلماذا حدث هذا فأهل الجزيرة كانوا أشداء جداً ولكنهم رغم هذا صالحوا فكانت من أسهل البلاد فتحاً؟!

ويُجيب اللواء الركن – رحمة الله تعالى عليه – مُرجِّحاً العامل المذهبي – العامل الديني – قائلاً “لأن أهل الجزيرة اضطُهِدوا اضطهاداً شديداً من كلا الإمبراطوريتين الفارسية الساسانية والرومية البيزنطية”، ولكن لماذا يُضطهَدون وكانوا نصارى -أهل الجزيرة في  الجُملة كانوا نصارى – من بيزنطة؟!

سنذكر هذا بُعيد قليل، ولكن هذا على كل حال للاختلاف في المذهب والدين، فثمانون في المائة منهم كانوا نسطوريين أو نساطرة، وعشرون في المائة كانوا يعاقبة، وربما نشرح الفرق بعد قليل – إن شاء الله – لأنه مُهِمٌ أيضاً.

إذن واضح أن الذي ائتفك هذه الشروط يُريد الجزيرة، ولكن حصل اختلاف لأنه إفكٌ، فالكذب دائماً يتخالف ومن هنا قال الله  وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ۩ ومن هنا لأنه كذب يتخالف، فمرة يُقال إيلياء ومرة الشام ومرة بلدة كذا وكذا ومرة الجزيرة، ولكن الأرجح أنها الجزيرة للذي ذكرنا لكم من اشتباه اسم عبد الرحمن بن غنْم باسم عياض بن غنْم الفهري.رضى الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
نأتي الآن إلى مسألة مُهِمة، جورج زيدان المُؤرِّخ النصراني المُحدَث في كتابه تاريخ التمدن الإسلامي يُرجِّح صحة الشروط العُمرية، وطبعاً هذا كان دونما خوضٌ منه في مسألة الأسانيد لأنه لا دراية له بها لا في كثير ولا في قليل، ولكنه من ناحية معنوية – من ناحية المعنى – يُرجِّح هذا مع أنه اعتذر عن عمر وقال “هذه الشروط تُخالِف الذي عُرِفَ وعُهِدَ عن عمر من طبعه الرحيم الرفيق بأهل الذمة”فمن المعروف عن عمر عمر أنه كان مُتساهِلاً وأنه كان رحيماً بأهل الذمة ومن ثم لا يُمكِن أن يشترط مثل هذه الاشتراطات، وهذا ما قيَّده وسجَّله جورج زيدان ولكنه يقول “الأرجح أنه اشترط هذه الشروط على نصارى الشام”، ولكن السؤال الذي يثور من فوره: لماذا يشترطها على نصارى الشام بالذات من بين سائرِ سكان البلاد المفتوحة؟!

فقد فُتِحَت الشام والعراق ومصر وفارس ونواحيها، وهذه البلاد تشتمل وتضم سكاناً نصارى ويهوداً ومجوساً وصابئة وغير هؤلاء من الملل والنحل، فلماذا يُضيَّق هذا التضييق ويُعتسَف هذا الاعتساف مع نصارى الشام بالذات دون نصارى مصر – مثلاً – الأقباط وذلك وفقاً لما قاله جورج زيدان؟!

إذن زيدان يُؤكِّد أن العهد كان مع نصارى الشام، ولكن نحن أكَّدنا أنه مع نصارى الجزيرة، وهذا خطأ طبعاً من جهته فهو لم يُحقِّق جيداً ومن ثم قال أن هذا كان مع نصارى الشام، ثم استتلى مُجيباً أن السبب في هذا راجع للاختلاف المذهبي، فنصارى مصر – أقباط مصر – كانوا يختلفون عن نصارى بيزنطة وذلك لأن الكنيسة القبطية الإسكندرانية تختلف في مُعتقَداتها ومُتبنياتها ومقبولاتها الدينية والعقدية المذهبية عن كنيسة بيزنطة، كنيسة القسطنطينية، وبسبب هذا الاختلاف اضطُهِدَ أقباط مصر، ولما فتح عمرو بن العاص – رحمة الله عليه – بلاد مصر رفع عنهم الاضطهاد الذي مُورِسَ بحقهم، فقد كان هذا الظلم مُستمِراً إلى عهد الفتح الإسلامي حيث قُتِلَ منهم مئات الألوف – ليس العشرات وإنما مئات الألوف بسبب الاختلاف الملي في العقيدة مع أنهم كلهم نصارى – فجاء الفتح الإسلامي ورفع هذا الاضطهاد، ثم يستتلي جورج زيدان قائلاً “أما نصارى الشام فلا لم يحدث معهم ذلك، فهم على عقيدة الملك – على العقيدة الملكية – حيث كانوا ملكيين خلقيدونيين – نسبة إلى المجمع المسكوني خلقيدونية – وهذه العقيدة كانت تجمع بين نصارى الشام وبين نصارى بيزنطة”، وهذا الكلام خالٍ عن الصحة وتعوزه الدقة جداً، فبالعكس نصارى الشام كنصارى مصر كانوا في مُعظمهم على الإطلاق يختلفون في اعتقادهم عن المذهب الخلقدوني، علماً بأن جورج زيدان نصراني لبناني، صحيح أقام ومات في مصر ولكنه نصراني فكان لابد أن يكون على علم بعقيدته وتاريخه، ولكن هنا – للأسف – زلت قدمه ولم يُصِب شاكلة الصواب، “نصارى الشام  مُعظمهم – كما يقول المُؤرِّخ المسيحي المُعاصِر الكبير نقولا زيادة – في تلكم الأحقاب كانوا على المذهب المونوفيزيتي”، والمونوفيزيتي يعني مذهب الطبيعة الواحدة، أما المذهب الخلقدوني أو المذهب الملكي وهو مذهب أهل بيزنطة هو ذلكم المذهب القائل بالطبيعتين – بالطبيعة اللاهوتية والطبيعة الناسوتية مع اتحادهما اتحاداً غير قابل للفصم -، وطبعاً ثمانون في المائة من أهل الجزيرة – كما قلت لكم – كانوا نسطوريين – كانوا نساطرة – فيقولون بالطبيعتين ولكن من غير اتحاد، ولذلك مذهب نسطور أن العذاب حين وقع – عذاب الصليب – لم يقع على الجزء الإلهي وإنما وقع على الجزء الإنساني، وهذه المسألة كبيرة ومن هنا أيضاً النساطرة اضُطهِدوا بهذا السبب، فصحيح هم قالوا بالطبيعتين ولكن مع عدم الاتحاد، وذلك على عكس المذهب الخلقدوني وهو مذهب بيزنطة – القسطنطينية – حيث الطبيعيتان – اللاهوت والناسوت – مع الاتحاد الكامل بغير إمكانية الفصل، أما نصارى الشام وأقباط مصر فكانوا يعاقبة – وتعرفون طبعاً يعقوب البرادعي ونسطور أو نسطوريوس Nestorius – ومن هنا كانوا يقولون بالطبيعة الواحدة ولا يقولون بالطبيعتين، وكان نصارى الشام  يتبعون بطريركية أنطاكية – يتبعون أسقفية أنطاكية الكُبرى، الكرسي الرسولي في أنطاكية – لأن أنطاكية كانت ثالث أهم الكراسي الرسولية في المشرق بعد القسطنطينية والإسكندرية، علماً بأن أنطاكية كانت تُعلِّم وفق التعاليم الوضعية الأرسطية لذلك انحازوا إلى الطبيعة الناسوتية  – نسبة إلى الناسوت – فالتعليم كان وضعياً، ومن هنا كانت الصورة المشهورة لأرسطو Aristotle وهو يُشير إلى الأرض وأفلاطون Plato يُشير إلى السماء، أما أقباط مصر في الإسكندرية فكانوا يعتمدون طريقة التعليم الأفلاطوني الرمزي ولذلك مع كونهم يُشارِكون نصارى الشام في القول بالطبيعة الواحدة إلا أنهم انحازوا إلى الطبيعة اللاهوتية، الطبيعة الإلهية في المسيح.

على كل حال القول بالطبيعة الواحدة قد أدانه مُؤتمَر خلقدونية، فهو يُعتبَر هرطقة وبدعة وزندقة ولذلك حُرِب نصارى الشام كما حُرِب نصارى مصر، وبالتالي جورج زيدان لم يكن هنا مُدقِّقاً – كما قلنا – ولم يُصِب شاكلة الصواب، فهذا هو السبب الذي جعل نصارى الشام ونصارى مصر ونصارى الجزيرة  – فكما قلنا ثمانون في المائة كانوا نساطرة وعشرون في المائة كانوا يعاقبة أي يقولون بالطبيعة الواحدة – يُظافِرون المسلمين، هذا هو السبب الذي جعل كل هؤلاء يُظافِرون المسلمين ويُواطئونهم على أعدائهم من الروم، وهذا الأمر معروف في التاريخ ولذلك كان الفتح سهلاً، لم يكن فتحاً مُستعصياً في هذه الأصقاع الثلاثة.

إذن الذي ترجَّح أن الجزيرة – الجزيرة الفراتية – هى البلد المقصود، ومن ضمن النقود أيضاً على بنود هذه الشروط أو المُعاهَدة العجيبة الغريبة أنها اشترطت أن يقوم النصراني للمسلم عن مجلسه – إذا جاء المسلم يقوم النصراني ويُعطيه المجلس – وهذا مُخالِف تماماً لروح الإسلام، ففي سُنن أبي داوود – وإن كان الحديث فيه ضعف إلا أن جُملة أحاديث أخرى تشهد لدلالته – أن أبا بكرة – وهو نفيع بن الحارث الثقفي رضوان الله تعالى عليه الصحابي المشهور – جاء مرةً في شهادة – يُؤدي شهادةً – فقام له أحدهم عن مجلسه، فقال له “لا تفعل”وأبى أن يجلس في مكانه.
فلماذا يا صاحب رسول الله؟!

قال: لأن رسول الله – صلى الله عليه وآله – نهى عن هذا، نهى أن يقوم رجل ويجلس آخر في مكانه – ممنوع هذا – وأن يمسح الرجل بيده ثوب مَن لم يكسه.

أي أنك إذا مسحت شيئاً قدراً بيدك في ثوب ابنك أو عبدك – مَن كسوته – فلا بأس، أما في ثوب مَن لم تكسه فلا يجوز، فهذا هو معنى الحديث.

على كل حال هذا مُخالِف لهدي الإسلام، فكيف يُشترَط عليهم ذلك ويقبلون أو بالأحرى كيف يشترطون هم هذه المهانة على أنفسهم؟!

هذا ليس تواضعاً، هذا مهانة وإذلال، فضلاً عن أنه ورد في الشروط أيضاً أنهم لا يُظهِرون شركاً، فهل من المعقول أن يُسمِى النصارى دينهم شركاً ويعترفون بأن دينهم شرك؟!

لو اعترفوا بذلك لصاروا إلى التوحيد، ومع ذلك قال أنهم كتبوا “وألا نُظهِر شركاً ولا ندعو إلى ديننا” وهذا غير صحيح، وبين مُزدوَجين الأرجح – وهذا ما يقتضيه العدل والإنصاف، والله يُحِب العدل والقسط والإنصاف، وفي كل شيئ وفاء وتطفيف – في الاجتهاد – في اجتهاد الرأي – أن النصارى كاليهود كالمجوس كسائر أهل الملل والنحل فمن حقهم في ديار الإسلام أن يدعوا إلى أديانهم وأن يُبشِّروا بها، وهذا هو الصحيح وهذا الذي رجَّحه حتى بعض المُتشدِّدين أحياناً في الموقف من أهل الذمة كالعلَّامة أبي الأعلى المودودي الذي رجَّح أن هذا – أي دعوتهم إلى دينهم – من حقوقهم، علماً بأن دليله أقوى من الدليل الآخر، ولكن باختصار وبكلمة واحدة  – هذا الموضوع يحتاج أيضاً إلى خُطبة بحياله – لأن القرآن الكريم حدَّثنا عن مُجادَلتهم وكيف نُجادِلهم وأرشدنا وأوصانا بأن نُجادِلهم بالتي هى أحسن، ولازم مُجادَلة أهل الكتاب أنهم يدعون إلى دينهم، فما معنى أن الكتابي يُجادِلك ويُجادِل النبي والصحابة؟!

أنه يدعو إلى دينه ويُدافِع عن مُعتقَده، فإذن ليست مسألة عظيمة ومُخيفة أن يُقال أن غير المسلم له الحق في أن يُبشِّر بدينه، فطبعاً من حقه أن يُبشِّر بدينه بين المسلمين كما من حق المسلم أن يُبشِّر بدينه في العالمين، هذا حقٌ مكفول على سواء لجميع أهل الملل والنحل والأفكار، وطبعاً هذا يصدم بعض المسلمين ولكن هذا هو الحق وهذا هو فحوى وروح القرآن الكريم في هذه المسائل. والله – تبارك وتعالى – أعلم.

أيضاً من الأشياء التي تلفت النظر أن عمر بن الخطاب – رضوان الله تعالى عليه – أضاف شرطين في آخر الكتاب ألزم نصارى الجزيرة بهما، الشرط الأول هو ألا يشتروا من سبايا المسلمين, أي إذا سُبيَ بعض المسلمين أو المسلميات فلا يشتروا من هذا السبي، والشرط الثاني هو أن مَن ضرب مسلماً فقد خلع عهده، أي لو أن ذمياً ضرب مسلماً بيده أو بأي شيئ يُعتبَر انتُقِضَ عهد ذمته ومن ثم عاد حربياً فجاز قتله أو أسره، وهذا غير معقول بالمرة ولم يقل به الجمهور.

اللافت أن الإمام الشافعي – رضوان الله تعالى عليه – في كتابه العظيم الموسوعة “الأم” اقترح لائحةً مُفصَّلة مُطوَّلة ببنود يرى أنها هى الشروط المُعتبَرة التي ينبغي أن تُوضَع على أهل الذمة وأن تُشترَط على أهل الذمة ولكنه لم يذكر بكلمة واحدة الشروط العُمرية فكان هذا لافتاً حقاً، فلو كانت هذه الشروط معروفة ومأنوسة في عهد الشافعي لذكرها ولقال بموجب ومُقتضى شروط عمر فالشافعي إلى حدٍ ما مُتأخِّر لأنه مُتوفَى سنة أربع ومائتين للهجرة، ولكنها لم تكن معروفة ومن هنا لم يذكرها، ولكن فيما ذكر الإمام الشافعي – رضوان الله تعالى عليه – ما لا يُنتقَض به عهد الذمة، علماً بأن بعض ما ذكره مُخالِف تماماً لهذا الشرط المُجحِف.

يا إخواني أنت تعلمون طبعاً القاعدة المعمول بها وهى “لهم ما لنا وعليهم ما علينا”، ومن هنا لو أن مسلماً ضرب مسلماً هل يُقتَل ويُعتبَر حربياً؟!

لأ طبعاً، فقط يُقتَص منه بحسب ما فعل، فتُرَد الضربة بضربة والكف بكف والبوكس Box بالبوكس Box، ولكنه لا يُقتَل، فلماذا يُقتَل الذمي إذن بعد أن يُنتقَض عهده وبالتالي يحل قتله واسترقاقه؟!

هذا ليس عدلاً، فضلاً عن أن الشافعي ذكر أن قطع الذمي للطريق – أي لو قطع ذمي الطريق على المسلمين – لا يُؤدي إلى أنه يُعامَل كقاطع طريق أو كمُحارِب، بل يُعاقَب كما يُعاقَب قاطع الطريق المسلم ولا يُنتقَض عهده، وهذا هو العدل.

باختصار – لأن موضوع نواقض عهد الذمة  أيضاً طويل – الذي اتفق عليه الفقهاء في النواقض – في باب ما تُنقَض به الذمة أو عهد الذمة – هو عدة نواقض مُحدَّدة، فالناقض الأول هو أن يُسلِم الذمي، فإذا أسلم لم يعد محلاً لعقد الذمة طبعاً لأنه أصبح مسلماً، والناقض الثاني هو أن يلتحق بديار الحرب فيغدو مُحارِباً المسلمين، والناقض الثالث هو أن يغلب أو يتغلَّب أهل الذمة على مكان يُحارِبون منه المسلمين، وهذا لا يُعَد بغياً لأنهم الآن أصبحوا مُحارِبين، أما إن بغوا كما يبغي المسلم على الإمام فيُعامَلون كبغاة، وهذا هو العدل، إذن من أين أُوتيَ بهذا الشرط؟!

العجيب أن الإمام أبا حنيفة قال “لو أن الذمي سبَّ الدين – سبَّ الله وسبَّ دين الإسلام – لا  يُنتقَض عهده”، ثم أتى أبو حنيفة بأدلة على ذلك وهذا شيئ غريب، كما قال أبو حنفية أن الذمي الذي يرفض دفع الجزية أيضاً لا يُنتقَض عهد ذمته خلافاً للجمهور، وهذا يدل على التسامح الإسلامي العظيم الذي وضح هنا من خلال مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة، وأوضح أن السبب في عدم انتقاض العهد بالامتناع عن دفع الجزية قائلاً “لأن الله – تبارك وتعالى – جعل غاية القتال التزام دفع الذمة وهم يلتزمون ، أما أنهم الآن لا يدفعون فقد يكون السبب هو أنهم افتقروا الآن أو احتاجوا ولكنهم سيدفعون بعد ذلك، فلا أنقض عهدهم”، وهذا شيئ جميل جداً.
إذن هذه الثلاثة النواقض هى التي اتفق عليها العلماء، فيما عدا هذه الثلاثة النواقض لم يتفق العلماء كلهم على ناقض واحد، وكلٌ يقترح ما تُنقَض به الذمة فيرده غيره، وطبعاً جميل هذا الاختلاف والإثراء لأنه يُخصِّب ويُثري مجال الاجتهاد ويترك هامشاً مُنداحاً وسيعاً في التعامل والتعاطي مع هذه القضية.

إذن موضوع أن الذمي إن ضرب مسلماً يُخلَع عهده لا معنى له وبعيدٌ جداً أن يكون عمر قد اشترط هذا الشرط عليهم، ولكن هل لو سرق مسلم مال ذمي تُقطَع يده أو لا تُقطَع؟!

بالإجماع المسلم لو سرق مال المسلم تُقطَع يده وفقاً للشروط المعروفة طبعاً، وكذلك لو سرق المسلم مال الذمي تُقطَع يده بالإجماع، علماً بأن في المُستأمَن – مال المُستأمَن – خلاف وهو الحربي الذي طلب الأمان، لكن هذا موضوع آخر فالذي يهمنا  الآن هو وجوب قطع يد المسلم إذا سرق مال الذمي بالإجماع، وقال ابن قدامة في المُغني “ولا أعلم فيه خلافاً “، وهذا شيئ عجيب جداً، فكيف إذن يُقتَل الذمي لو ضرب مسلماً؟!

هذا فيه تناقض، علماً بأن لو أن مسلماً قتل ذمياً يُقتَل به عند الإمام أبي حنيفة وعند عثمان البتي وعند أهل الرأي عموماً، فإذن مُقتضى هذه الأشياء التسوية أيضاً بينهما في سائر الأمور إلا ما ثبت استثناؤه بيقينٍ قاطع.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستعفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عَليه وعلى آله وأصحابه وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

بقيَ أن نختم – للأسف الوقت أقصر من قصير – بوجهٍ جديد من وجوه النقد يتعلَّق باللباس والزي أو ما يُعرّف في لغة الفقهاء القدماء بالغيار.

المُستشرِق الإنجليزي المُنصِف آرثر ستانلي تريتون Arthur Stanley Tritton في كتابه الخلفاء ورعاياهم من غير المسلمين  The Caliphs and Their Non-Muslim Subjects لاحظ أنه من غير المعقول أن يكون عمر شرط هذا الشرط في باب الزي والملابس، علماً بأن كان من الذين زيَّفوا الشروط العُمرية وأتى بوجوه جيدة تابعه عليها مَن أتى بعده، والسبب في عدم معقولية هذا الشرط هو أن الأمم كانت تفعل هذا من تلقائها، فكل أمة تكون حريصة – خاصة ومن الناحية الملية – على أن تلبس لباسها، وهذا هو الصحيح فالأمة المغلوبة تجنح إلى تقليد الغالب ليس في أول عهدها بالمغلوبية وإنما بعد أن يتمادى عليها العهد قليلاً وبعد أن يستبحر الغالب في العمران والتمدن والتطور بحيث يُصبِح المغلوب مُعجَباً به وبتطوره، فهذا الشرط لم يكن مُتوفِّراً ولذلك موضوع اللباس هذا يُثير بحد ذاته الشكوك.

(7/12/2012)

http://www.facebook.com/Dr.Ibrahimadnan

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: