برنامج آفاق

أس الحكمة وجذر التفهم

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

إخواني وأخواتي:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، في عالم يزداد يوماً فيوماً صغراً تتهيَّأ للإسلام وللمُسلِمين فرص عظيمة، يبدو أنها لم تتهيَّأ لهم من قبل على هذا النحو، لكن مع تهيؤ هذه الفرص الكبيرة العظيمة تبرز وتتحدَّد تحديات كُبرى هي الأُخرى.

الفرصة العظيمة هي فرصة أن نتواصل مع سكان المعمورة جميعهم تقريباً في كل الأصقاع والبقاع، وبطريقة غير مُكلِفة وسهلة ومُؤكَّدة، ما يعني أن بإمكاننا أن نُعرِب عن ديننا، عن مبادئه أو عقائده ومنظومته القيمية والتشريعية بشكل نُحسَد عليه.

أما التحدي الذي يبرز بالإزاء فهو أن خطابنا هذا لن يكون خطاباً معزولاً، بمعنى أن عليه أن يُواجِه عشرات – إن لم يكن مئات أو ألوف حتى – التحديات، التنقيدات، التصويبات، المُجادَلات، والمُحاوَرات، في الوقت ذاته أهدافنا وهي هنا – في هذه الحالة – أهداف بشرية لن تكون أيضاً أهدافاً معزولةً، بحيث يُمكِننا الاستفراد بها وتشكيل وصياغة قناعاتها وفق ما نُحِب وبالطريقة التي نرغب، لأن هذه الأهداف البشرية ستكون أيضاً عُرضةً لزوابع، لأعداد مهولة من الخطابات التي تتسارع عليها، لكسبها ولاجتذابها.

ولذلك ينتهي هذا التحدي إلى طلب الوفاء بشطرين اثنين كبيرين: الشرط الأول هو شرط المطلوبية، بمعنى أن علينا أن نصوغ خطابنا بطريقة تُثبِت وتُبرهِن أنه خطاب مطلوب، تماماً كالدواء الذي يكون مطلوباً في حالات الأمراض والعلل المُختلِفة، والشرط الثاني الذي على خطابنا أن يفي به – أي بتحقيقه – هو شرط النجاعة، شرط الشغل والعمل، أن يشتغل، أن يعمل، وأن ينجع، تماماً كما يُطلَب من الدواء المطلوب الذي يفي بشرط الاحتياج إليه أن يكون دواءً نجاعاً.

ولا شك أن هذين الشرطين شرطان كبيران وصعبان في عالم – كما قلت إخواني وأخواتي – يزداد صغراً، وبالتالي يزداد فيه الاعتماد المُتبادَل، وفي الوقت ذاته يزداد فيه صراع الأفكار والنظريات والطروحات والخطابات.

في برنامجنا هذا (آفاق) نُحاوِل أن نُشاغِب قليلاً – إخواني وأخواتي -، نوع من الشغب الفكري أو العلمي، إن شئتم دعوتموه أو سميتموه شقاوة فكرية، بحيث نتصدى لإعادة النظر في موضوعات كثيرة مما يهم المُسلِمين أنفسهم، ومما نُرشِّحه أن يكون موضع اهتمام من غير المُسلِمين حول العالم، لكن الجديد أننا نُحاوِل – أحبتي – أن نطرح هاته الموضوعات بمُقارَبات فيها نوع كما نأمل من الجدة، وفيها نوع أيضاً من الابتكار ومن التشغيب على المألوف والسائد.

لأن المألوف والسائد فيه أجزاء، فيه أشطار، وفيه عناصر ومُكوِّنات يبدو أنها بغلغلة النظر فيها مما انتهى صلاحيته، إلا أنها لا تزال تعمل، وعملها بلا شك سيكون عملاً سالباً أو عملياً سلبياً.

في (آفاق) – إخواني وأخواتي – سنتناول كما سترون موضوعات شتى مُختلِفة، بحيث نُخصِّص كل حلقة لموضوع بحياله أو برأسه، نبدأ ثم نفرغ منه في حلقة، وواضح وبديه أننا لن نتمكَّن أن نقول إلا بعض ما يُمكِن أن يُقال في هذا الصدد، أي بصدد موضوع بحياله، بعض ما يُقال! لكننا نتلمَّح من قبل ومن بعد شيئاً مُهِماً، نُريد أن يبرز في كل حلقات هذا البرنامج، ما هو هذا الشيئ؟!

إخواني وأخواتي:

هذا الشيئ هو أن هاته الموضوعات المُختلِفة على عكس ربما ما استقر وما قر من انطباع في أذهان العامة وربما حتى في أذهان بعض الخاصة، أنها موضوعات فيها سعة، فيها منادح للقول، فيها مجال للاجتهاد وتقليب النظر، لكن ما يحدث ومن أسف شديد أن هاته الموضوعات قد جرى كثير من عارضيها ومُسوِّقيها على عرضها من زاوية واحدة، بحيث يكون الانتصار والتدعيم دائماً لوجهة نظر واحدة وحيدة، وبالتالي حتى هذه الوحدة تفقد معناها، لماذا؟!

لأن هذه الوحدة لا تظهر إلا ضمن سياق تعديدي، وهذا السياق مفقود، ولذلك أو بالتالي يترتب على هذه الوضعية حصول وترسخ انطباع بأن هذا هو الحُكم الشرعي، هذا هو القول الإلهي، هذا هو النص المُقدَّس، والحال أنه ليس كذلك، الحال أنه ربما يكون – وهذا في مُعظَم ما نعرض له – وجهة نظر باللُغة العصرية، لكن باللُغة الفقهية أو الأصولية القديمة اجتهاد، اجتهاد من ضمن اجتهادات كثيرة، يقترب بعضها من جهة اليمين، ينحاز بعضها إلى جهة الشمال أو اليسار، يُراوِح بعضها في منطقة الوسط، لكنها تبقى مُجرَّد اجتهادات.

هذا ما نأمل أن ننجح في إنجازه وفي تحقيقه، أن نُعيد للاجتهاد اعتباره، أن نبعث أقوالاً، ولذلك بين مُزدوَجين أقوال (ليس بالضرورة الأقوال التي نشغب باستحيائها وببعثها أن تكون أقوالاً مُعاصِرة، أي طازة كما يُمكِن أن يُقال، لا! بل ربما أكثر هذه الأقوال كما سيضح لكم هي أقوال ينميها الزمن ويعود بها إلى القرون السوالف، إلى العصور الخوالي، إلى القرون الهجرية المُتقدِّمة، وينتسب كثير منها إلى أئمة مُعتبَرين وإلى قادة من قيادات أو من قادة الفكر والرأي والاجتهاد).

لكن ما الذي نُريد أن نقوله مرة أُخرى بالتحديد؟ وكيف سنقوله؟ نُريد أن نقول بالتحديد – أحبتي في الله، إخواني وأخواتي – إحدى كوارثنا هي الاعتقاد بأن كل شيئ واضح، وكل شيئ مقطوع به، وكل شيئ مجزوم، لا يحتاج إلى إعادة استكشاف، ولا يحتاج إلى مُساءلة وإلى اختبار، هذا القول أو هذا الاعتقاد أو هذا المسلك أو المِزاج الفكري والعلمي بكلمة واحدة يُمثِّل ويُشكِّل إحدى كوارثنا العقلية، إحدى كوارثنا العلمية المعرفية، فالأمور ليست على هذا النحو.

ومهما تعددت القطعيات والجزميات وكثرت الوثوقيات في أمة أو كلما كانت كذلك كلما تراجع الاجتهاد، كلما تراجع التسامح، كلما افتُقِد التفهم، وبالتالي التفاهم، من المُحال إن لم أتفهمك أن أتفاهم معك، التفهم خُطوة تسبق التفاهم، كل هذا سيكون مفقوداً، غير حاضر على مسرح الحياة الثقافية في عوالم المُسلِمين، في دنيا المُسلِمين لن يكون له حضور.

ولذلك – أحبتي في الله – نُؤكِّد مع الحكيم الصيني الكبير كونفوشيوس Confucius والذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد – لم يكن يفصل بينه وبين الفيلسوف الإغريقي أو اليوناني الكبير أفلاطون Plato سوى جيل واحد – أن التعليم والتعليم والتعليم أو التعلم والتعلم والتعلم شرط لازم لكل نهضة، بل شرط لازم لكل قيمة خُلقية يُمارِسها الفرد ويدعمها المُجتمَع أو يبعثها.

ففي المأثور الكونفوشيوسي – إن جاز التعبير – يسأل كونفوشيوس Confucius أحد تَلاميذه وهو الخبير ليو، يقول له يا ليو Lui هل لديك إلمام بالإدراكات الست أو الستة والضلالات الست أو الستة؟ فقال أيها المُعلِّم ليس لدي ثمة فكرة عما تتحدَّث عنه، قال هيا، فاجلس إذن لأُعلِّمك، جلس الخبير ليو، واستتلى كونفوشيوس Confucius يقول أن تُحِب الإنسانية لكن دون أن تتعلَّم هذا ما يُدعى ضلال الحماقة، أن يدّعي امرؤٌ من الناس أنه مُحِب للإنسانية لكن دون أن يتعلَّم، كيف يُحدِّد هذا الحُب؟ كيف يُعرِّف هذا الحُب؟ كيف يُحيط خُبراً بماهيته؟ ثم في المرحلة التالية كيف يُمارِسه؟ كيف يُترجِمه سلوكاً عملياً؟ هذا يُدعى ضلال الحماقة، هذه حماقة!

ثانياً لأنها ستة إدراكات وستة ضلالات، ثانياً أن تُحِب الحكمة دون أن تتعلَّم يا ليو Lui هذا ما يُدعى ضلال التسلية، الذين يدّعون أنهم طلّاب حكمة، ينشدونها ويرتجونها ويُؤمِّلون في تحصيلها، دون أن يتعلَّموا ويتعلَّموا كثيراً وبشكل مُستمِر ومُمتَد، هؤلاء يتسلون، هؤلاء يتسلون وليسوا طلّاب حكمة، هذا الضلال التسلية.

ثالثاً أن تُحِب الإخلاص دون أن تتعلَّم يا ليو Lui هذا ما يُدعى ضلال الذريعة، وهذا معنى عميق جداً، أنا شخصياً مُندهِش، كيف أمكن لهذا الحكيم الصيني الكبير أن يُحدِّده بمثل هذا التكثيف وهذا التركيز وهذه الأناقة؟! شيئ مُدهِش، يبعث على العجب، أن تُحِب الإخلاص دون أن تتعلَّم هذا ما يُدعى ضلال الذريعة، ما معنى هذا؟ ما معنى هذا الكلام؟ سأُبسِّطه بضرب مثل أو مثلين – إخواني وأخواتي -.

أن تدّعي الإخلاص في الدين أو في التدين أو في حُبك للدين – أنك مُخلِص في حُب هذا الدين والدفاع عنه وفي نشره والدعوة إليه – لكن دون أن تتسلَّح بالعلم الكافي، ودون أن تتعلَّم كيف تكون مُخلِصاً للدين حين تُحِبه أو إذ تُحِبه، سيكون هذا ضلالاً من ضلالات التذرع، التوسل، والتبرير – أي Justification -، هذه ذريعة، ووسيلة.

أن تُحِب الوطن أيضاً وتدّعي الإخلاص في حُب الوطن دون أن تتعلَّم، هذا أيضاً يهوي بك في هذه المهواة، مهواة ضلالة أو ضلال التذرع، الذريعة! ما معنى هذا؟ معنى هذا في الحالتين – إخواني وأخواتي – كلتيهما هو الآتي، وهذا ما يحدث ولا يزال يحدث، حدث تاريخياً أو في التاريخ، ولا يزال يحدث إلى يوم الناس هذا، في كل مكان تقريباً، في كلتا الحالتين سوف نرى الأخ يذبح أخاه، يحكم عليه بالمروق، بالخيانة، بالكفر، وبالزندقة، مرة باسم الوطن، وأُخرى باسم الدين، هذا هو معنى كلمة كونفوشيوس Confucius من خلال ضرب مثل أو مثلين.

ثم يستتلي كونفوشيوس Confucius أن تُحِب الحق أو الحقيقة دون أن تتعلَّم… إخواني وأخواتي ترون ماذا يُمكِن أن يكون هذا الضلال؟ عنوان هذا الضلال فكِّروا فيه قليلاً، ريثما أعود إليكم بعد هذا الفاصل.

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم من جديد، ومع (آفاق) ومع كونفوشيوس Confucius، كونفوشيوس Confucius يقول مُخاطِباً الخبير ليو Lui أن تُحِب الحق أو الحقيقة دون أن تتعلَّم هذا ما يُدعى ضلال التعصب، وهذه من أعمق ومن أروع مقولات كونفوشيوس Confucius، لأن الحق – إخواني وأخواتي – ما لم يكن مُؤسَّساً على دراية وعلى علم وعلى معرفة واعية سيكون محض تعصب، لذلك التعريف المُختار للتعصب هو أن تكون في وضع ما أو في موقف ما نظري أو عملي وفكري أو مسلكي دون أن تمتلك التبرير الكافي له، لماذا أنت هنا؟ لماذا تقول بهذا؟ لماذا تُعارِض هذا؟ لماذا تتصرَّف على النحو الكذائي وليس على النحو المُعارِض – مثلاً -؟ ثم لا يكون لديك تبرير كافٍ مُقنِع لمَن يسألك، أنت في وضع تعصبي!

قد يُدافِع المُتعصِّب خُطوة أو خُطوتين عن موقفه، ثم تخذله الحُجة مُباشَرةً، يُفتضَح أمره، لأنه مُتعصِّب، إذا واصل هذه المسيرة فهو ينتحر ضميرياً وعقلياً، بكلمة: إنسانياً، ينتحر إنسانياً، إذن أن تُحِب الحق دون أن تتعلَّم هذا ما يُدعى ضلال التعصب.

في القرآن الكريم – أيها السيدات والسادة – الله – تبارك وتعالى – في لفتة عجيبة ومُدهِشة لفت ويلفت إلى أن مُبرِّر استخلاف آدم في هذا العالم وفي هذه الأرض ليس التسبيح والتقديس، قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۩ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ۩، لكن بالإزاء هناك الآية الشهيرة وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ۩، هذا مطلوب! بنظم الآيتين في وحدة واحدة وفي سياق واحد نخلص إلى أن العبادة المُرادة لله – تبارك وتعالى – هي عبادة مُؤسَّسة على معرفة، على علم، وعلى إدراك، مُبرَّرة بالوعي.

أما العبادة التي يُشبِه أن تكون مُبرمَجة فلا حاجة بها، لا حاجة للقدر بها، أيضاً لا تُبرِّر الاستخلاف، وإلا فالملائكة أدخل في هذا الباب وأعرق، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۩.

ثم يقول كونفوشيوس Confucius أن تُحِب الشجاعة دون أن تتعلَّم فهذا ما يُدعى ضلال التهور، الشجاعة بلا تعلم وبلا معرفة كافية ضلال التهور، ويختم بالإدراك السادس والأخير، المصحوب بالضلال السادس والأخير، أن تُحِب العزيمة وقوة الإرادة – لديك عزيمة من صخر أو من صُلب، لا تلين، لا تنثني، ولا يُمكِن أن تخونك – لكن دون أن تتعلَّم هذا ما يُدعى ضلال الفوضى، الفوضى! العزيمة الماضية القوية الصُلبة مثل موتور Motor، مثل مُحرِّك، بقوة هائلة، تُحرِّك صاحبها في كل اتجاه، يُحطِّم هنا، يُدمِّر هنا، ويمحو هنا، بلدوز Bulldozer! لذلك العزيمة والإرادة القوية بلا تعلم تُؤدي إلى الفوضى.

أحبتي في الله، إخواني وأخواتي:

مَن منا قادر على أن يتبجَّح فيدّعي أو يزعم أنه عارف وعالم بكل مُحدِّداته وبكل ما يجعله ما هو؟! ما الذي يجعلني أنا أو ما أنا عليه بالضبط داخلياً وخارجياً، وخاصة داخلياً – أفكاري، مُعتقَداتي، مِزاجي، قناعاتي، ومُنتحَلاتي الفكرية والعقدية -؟ صدِّقوني مُعظَم البشر على الإطلاق – ونحن منهم – لا يعرفون، لا يعرفون ما الذي يجعلهم ما هم وما الذي يجعل أحدهم ما هو أو ما هي.

لذلك نُحِب أن نبدأ أيضاً من هذه النُقطة، كيما نُصيب حظنا المفقود الضائع من التواضع، نتواضع قليلاً! وهنا – أحبتي – يكمن أُس الحكمة، أس الحكمة حين نتعرف بهذه الحقيقة، الفيلسوف اليوناني الكبير ويُمكِن أن ندعوه الشهيد سقراط Socrates، أستاذ أفلاطون Plato، وضع أُصبعه على جوهر ولُب الحكمة، مُحدِّداً إياه – أي هذا الجوهر وهذا اللُب – بأنه إدراك المرء لأوجه النقص والقصور في معرفته.

لذلك سقراط Socrates كان يدعو نفسه مُحِباً للحكم، فهو Philosoph كما نقول، أي فيلسوف، الــ Sophia أو الــ Sophy هي الحكمة، بإزاء السفسطائيين المُعلِّمين، السفسطائيين الذين كانوا يدّعون وهذا ما يُعطيه اسمهم، يدّعون أنهم الحُكماء، السفسطائي معناها الحكيم، الذي أصاب ونال الحكمة، نائل الحكمة ومُصيب الحكمة، أما سقراط Socrates فتراجع بتواضع إنساني نبيل وجميل يُحسَد عليه، فقال لست حكيماً، أنا مُدرِك لوجوه النقص في معرفتي وفي علمي، أنا مُجرَّد رجل يُحِب الحكمة، مُحِب لها! هل أصاب حظه منها أو لم يُصِب؟ هو كان يقطع بأنه لم يُصِب إلا حظاً ضئيلاً جداً، ولعله لم يُصِب شيئاً منها.

وبالتالي إذا كانت هذه الحكمة فسقراط Socrates هو أكبر حكيم، إذا كانت الحكمة بالضبط تعني إدراك الإنسان لأوجه النقص والقصور في معرفته فسقراط Socrates مُدرِك لهذا جيداً ويعترف به، فهو حكيم إذن، فهو حكيم من حيث أراد أن ينفي عن نفسه الحكمة، مُكتفياً بكل تواضع بعنوان حُب الحكمة، أنه مُحِب للحكمة.

إخواني وأخواتي:

الإنسان حين يُفكِّر لكي يُحصِّل معلومات، لكي يُعاير ويروز ويُوازِن ويُقارِن بين معلومات – بين أفكار أو بين نظريات أو بين مناهج – يُفكِّر وأمامه وينشط وإزاءه عوائق كثيرة: عوائق خارجية وعوائق باطنية داخلية.

لذلك التفكير بطبيعته لابد أن يكون نشاطاً حراً، حتى ينبثق وحتى يعمل لابد أن يكون نشاطاً حراً، لا يعمل إلا في فضاء الحرية، الفكر لا يعمل إلا في فضاء الحرية! ومن هنا حديثهم المكرور والملحوح – إن جاز التعبير – عليه كثيراً عن ضرورة حرية الفكر والتفكير، هذه الحرية التي تُسلِم إلى ماذا؟ حرية التفكير تُسلِم إلى تحرير الإنسان نفسه، فكر حر وتفكير حر يعني مزيداً من التحرر للإنسان، بحيث لا يُضحَك عليه، لا يُستغفَل، ولا يُختدَع.

وبديه أن اختداع واستغفال إنسان أُمي وجاهل لا يُمارِس التفكير بحرية أسهل بمراحل من اختداع واستغفال إنسان مُدمِن على التفكير، مُدمِن على المُقارَنات، على المُوازَنات، وعلى التعيير والروز، ولذلك الفكر الحر يعني إنساناً أكثر حريةً.

لكن أنى لنا أن نُفكِّر بحرية والعوائق الخارجية كثيرة؟! هناك إكراهات، هناك أنواع من الرُهابات أو الخوافات التي يُمارِسها المُجتمَع، وهو سبب في نشوئها وفي تأكيدها، كما أن هناك عوائق داخلية، وسنعرض لشيئ من هذه وشيئ من هذه، بحيث يبدو لنا بعد قليل إلى حد بعيد جداً أن أكثر مُنتحَلاتنا ربما لا تزيد عن كونها قدراً جغرافياً وقدراً مُجتمَعياً.

ببساطة وُلدت في هذا النطاق من العالم الذي يعيش فيه مُسلِمون – مثلاً -، فوجدت نفسي مُسلِماً، هم مُسلِمون سُنة، فوجدت نفسي مُسلِماً سُنياً، هم على المذهب الفلاني أو العلاني، فوجدتني كذلك، ولكم أن تُنوِّعوا بحسب النُطق الجغرافية وبحسب المُجتمَعات وأديانها وثقافاتها المُختلِفة، هذا ما يحصل مع مُعظَم عباد الله على الإطلاق، قلة قليلة مُستثناة من البشر هي التي يُمكِن أن تزعم باعتزاز أنها انتخبت ما هي عليه من أفكار ومُعتقَدات ومُتبنيات، قلة قليلة! الله أعلم بنسبتهم مئوياً، الله وحده أعلم بتحديد هذه النسبة، بكم هذه النسبة.

أكثر من هذا – إخواني وأخواتي -، ما يظنه الإنسان – الواحد فينا ومنا – أنه حقائق قطعية ونهائية، سواء في ميدان الأفكار أو في ميدان القيم الأخلاقية والمُجتمَعية، للأسف الشديد هو مُتفاوِت جداً من ثقافة إلى ثقافة، ومن مُجتمَع إلى مُجتمَع، ومن حقبة زمانية إلى حقبة أُخرى.

هناك عبارة للفيلسوف بسكال Pascal – أي بليز باسكال Blaise Pascal، الفيلسوف الفرنسي الشهير، والعالم والمُخترِع الكبير – مُهِمة، يقول إن ثلاث درجات من خطوط العرض كافية أن تقلب حقائق الأمور الأخلاقية، ثم يُوضِّح…

فما يُعتبَر فضيلةً وحسنةً شمال جبال البرانس Pyrenees يُعتبَر بذاته وبنفسه رذيلةً ومقبحةً جنوبها، يُشير بسكال Pascal إلى الحقائق التي تمهَّر بشكل وسيع ورحيب في درسها والتصدي لتسجيلها علماء وباحثو الأنثروبولوجيا Anthropology الاجتماعية والثقافية، أي علماء الأناسة، الأناسة الثقافية والأناسة الاجتماعية، الذين يتصدون بالدرس والرصد والتسجيل لمئات بل لألوف العادات والتقاليد والمُنتحَلات التي تتفاوت وتتباين وتتناشز وتتناقض وتتعارض من بيئة إلى بيئة، من مُجتمَع إلى مُجتمَع، ومن ثقافة إلى ثقافة.

من الجميل جداً ما سجَّله المُؤرِّخ الشهير هيرودوت أو هيرودوتس Herodotus في كتابه الشهير المنسوب إليه من أن دارا أو داريوس Darius – الملك الفارسي في القرن الخامس قبل الميلاد أيضاً – فعل يوماً الآتي، خطر له أن يقوم بهذه التجربة المُثيرة، دعا يوماً – أي داريوس الأول Darius I – جماعة من الأغارقة الذين يعيشون في مملكته، وكان من عادة الاغارقة أنهم يحرقون جُثث موتاهم، آبائهم وأمهاتهم وقراباتهم، بعد أن يموتوا، هكذا يُكرِّمونهم بإحراق جُثثهم، وهي عادة لا تزال تُمارَس إلى اليوم في كثير من دول الغرب الأوروبي، وحتى في الولايات المُتحِدة والعالم الجديد.

وسألهم الملك الفارسي الكبير ما الثمن الذي ترتضونه أن يُدفَع لكم لقاء أو مُقابِل أن تأكلوا جُثث آبائكم وأمواتكم بعد أن يموتوا؟ ففزعوا وضجوا وقالوا لا ثمن، لا ثمن يُمكِن أن يُغرينا بهذه المقبحة، بهذا الفعل القبيح، الظاهر القباحة!

لكنه أمرهم بالبقاء بين يديه، واستدعى جماعة من الكالاتيين، أي الــ Callatians، استدعاهم! وكان من عادة هؤلاء أن يأكلوا جُثث آبائهم وأمهاتهم وقراباتهم بعد أن يموتوا، يُكرِّمونهم بهذه الطريقة، هذا هو الطقس، طقس التكريم لهؤلاء الموتى.

فسألهم عن الثمن الذي يرتضونه مُقابِل أو كفاء أن يحرقوا جُثث آبائهم وأمهاتهم بعد أن يموتوا، فضجوا يُناشِدونه بالآلهة وبكل ما هو عزيز ومُقدِّس لديه ألا يُعيد على مسامعهم هذا القول الفظيع، هل نحرق جُثث الآباء والأمهات بعد أن يموتوا؟! لكنهم يرون أكلهم شيئاً طبيعياً جداً، بل شيئاً مطلوباً، تكرمةً لهم.

إذن نفس الشيئ، هؤلاء أرادوا أن يُكرِّموا موتاهم، وهؤلاء يظنون أنهم يُكرِّمونهم، لكن كل منهم يفعل هذا على نحو مُختلِف تماماً، نحوان مُتعارِضان مُتناقِضان على طول الخط!

ولذلك حين يتورَّط – وكلنا ذلك المُتورِّط – الإنسان الناشئ في ثقافة أو الرابي في ثقافة مُعيَّنة وفي بيئة مُعيَّنة في الحُكم على الآخرين باستسهال وببساطة أنهم كذا وكذا وكذا يظن دائماً أنه يستند إلى قانون طبيعي، إلى قانون نهائي مُطلَق ولا يقبل النقاش، وهو غير واعٍ وغير مُدرِك أنه ربما يستند فقط إلى عادات وتقاليد، إلى ثقافة نسبية ومحدودة، ليست قانوناً كونياً، لا تجد مُصادَقة عليها لدى كل أبناء النوع البشري أو الإنساني، لا يظن هذا.

لذلك من أكثر الأشياء التي نتورَّط فيها باستسهال هي تخطئة الآخرين ودمغ الآخرين، غير مُدرِكين مرة أُخرى أنهم يتورَّطون بنفس الطريقة وعلى نفس النحو أيضاً في تخطئتنا وفي دمغنا وباستسهال، إذن لا امتياز، لا امتياز لنا حين نُصدِر هذه الأحكام على الآخرين، ولا امتياز لهم حين يُصدِرونها علينا، المسألة مسألة جهالة مُركَّبة، يجهل أحدنا حقيقة الأمر، ويظن أنه يعلم، وأنه يعلم العلم النهائي والأخير.

ميشيل دي مونتين Michel de Montaigne – أيضاً الفرنسي – في القرن السادس عشر قال ما من فضيلة – هكذا أطلقها وأرسلها إرسال المُسلَّمة – في مُجتمَع ما وفي ثقافة ما إلا ويُمكِن أن يُنظَر إليها في ثقافة أُخرى على أنها رذيلة، الفضيلة ذاتها أو نفسها! في مكان آخر لن تكون فضيلة، ستكف عن أن تكون فضيلة.

ولذلك – إخواني وأخواتي – أعتقد أن الذي يتشبَّع ولو إلى حد ما من بعض مُعطيات الدرس الأناسي أو الأنثروبولوجي تحدث له زعزعة في موثوقية كثير من العادات والتقاليد والمُنتحَلات، فيبدأ يتساءل.

ثمة درس مُثير أيضاً في التاريخ الأوروبي، في أواخر الوسيط ومطالع أو طوالع الحديث، هذا الدرس هيَّأه الكشف الجغرافي أو هيَّأته الكشوف الجغرافية، وما تلاها من كثرة الترحال والأسفار إلى بلاد جديدة ومُطالَعة شعوب جديدة وعادات جديدة وأديان جديدة وثقافات جديدة، فحصل نوع من القلق والزعزعة والرجة الفكرية في المُجتمَعات الأوروبية.

حين زاروا الصين وطالعوا فلسفاتها وأديانها عادوا مصدومين تماماً، قالوا ما كنا نظن في يوم من الأيام أن هناك بحراً موّاجاً بالبشر كبلاد الصين لم يسمعوا يوماً بالمسيح المُخلِّص، وأنه لقيَ حتفه على الصليب من أجل أن يُخلِّصهم من خطيئتهم الأصلية، لم نكن نظن للحظة واحدة أن مثل هذا المُجتمَع لديه منظومة قيمية، تعمل على توشيج علائقه، هذا المُجتمَع يعرف معنى احترام الكبير، احترام الأب والأم، احترام الحكمة والحُكماء والمُسِنين، والرحمة بالضعفاء، لم نكن نظن!

ماذا كانوا يظنون إذن؟ بل ماذا كانوا يعتقدون؟ كانوا يعتقدون أن لا مكان للفضائل والقيم ووجوه البر والخير إلا ضمن المنظور المسيحي، ضمن عقيدتهم وديانتهم.

كونوا معنا بعد هذا الفاصل أحبتي، بارك الله فيكم.

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي، لاحظ جماعة من المُؤرِّخين والدارسين أن البشر والناس الذين يعيشون بالقُرب من الموانئ البحرية يتسمون في العادة بقدر كبير من الانفتاح والمرونة الفكرية، على الأقل أكثر من غيرهم بلا شك، وأعتقد أنه بات واضحاً لديكم السبب، لأن الذين يعيشون بالقُرب من الموانئ البحرية تُتاح لهم فرصة أن يلتقوا بأجناس وأعراق مُختلِفة، كثيرة الاختلاف، من البشر، بأُناس قادمين من أربع جهات المعمورة، على اختلاف أديانهم وثقافاتهم ومُتبنياتهم، لذلك مع الزمن يكتسب هؤلاء البحرنيون – إن جاز التعبير – والعائشون بالقُرب من الموانئ، يكتسبون هذه المرونة وهذه السماحة الفكرية.

يُدرِكون بكلمة أن ثمة شركاء في العالم، ليسوا وحدهم، المشهد الفكري عريض، الطيف الفكري طويل جداً، وهم قسمة من قسماته، مُكوِّن – مُجرَّد مُكوِّن – من مُكوِّناته، ليس إلا! وهذا في نهاية المطاف يطبع الإنسان بطابع القُرب وتوطئ الأكناف والتواضع، وكلها صفات عالية، يتسم بها الحكماء من البشر، يتسم بها طلّاب المعرفة الجادون في الطلّاب، وليس الطلّاب المُدّعون، وليس الطلّاب المُدّعون وإنما الجادون في الطلب.

بعض كبار المُؤرِّخين أو فلاسفة التاريخ أراد وبذكاء أن يصوغ هذه الحقيقة بشكل أكثر تعقيداً وتركيباً، وذلك من خلال تركيزه على وجوه التنافر في الثقافة الواحدة، حتى الثقافة الواحدة أحياناً يُوجَد فيها هذا، كما نقول الثقافة العربية – مثلاً -، أو الثقافة الإسلامية، وهذا مُصطلَح أوسع بكثير، ضمن الثقافة العربية هناك قسمات مصرية، مغربية، عراقية، وشامية، كلها ثقافة عربية، ويُوشِك أن تكون ثقافات عربية إذن، كيف لو جرى الحديث عن الثقافة الإسلامية؟! هي ثقافات إسلامية.

في الوقت الذي حدث فيه الآتي، وفي الحقيقة هذا ما صنعه باقتدار فيلسوف التاريخ الألماني الشهير أوسفالد شبينغلر Oswald Spengler في كتابه اضمحلال الغرب، اسمه The Decline of the West، أي اضمحلال أو تدهور كما تُرجِم إلى العربية الغرب، شبينغلر Spengler ركَّز بذكاء – كما شرحت لكم أحبتي – على وجوه التنافر في الثقافة الواحدة، ضمن الثقافة الواحدة!

لكنه بالإزاء ركَّز مُتعمِّداً – وهذا يشهد بذكائه وبإنسانية مُقارَبته أيضاً، على الأقل بهذا الاعتبار أو نظراً لهذا الصنيع – على المشابه بين الثقافات المُختلِفة، ركَّز على المشابه! هناك مشابه وهناك المُشترَك الإنساني في نهاية المطاف بين الثقافات المُختلِفة، يُريد أن يلفت نظرنا إلى شيئ لا نلتفت إليه في العادة، بحُكم ماذا؟ بحُكم النسبية الثقافية، بحُكم ما صار يُدعى بالنسبية الثقافية.

النسبية الثقافية بكلمة واحدة تعني صعوبة فهم أي ثقافة من خارجها، لكي تفهم ثقافة ما لا مناص ولا مندوحة من أن تصير مغموراً فيها، تسبح في غمار وتمخر عُباب هذه الثقافة، وهذا طبعاً لا يتسنى حتى لدارس خارجي إلا بعد مُدة مُتطاوِلة جداً من الزمان.

وبإزاء صعوبة أن تُفهَم ثقافة من خارجها تمثل أيضاً وتحضر صعوبة أن تُتجاوَز ثقافة من داخلها، فمن الصعب علينا أيضاً أن نتجاوز الثقافة من داخلها، لماذا؟ هناك مُصطلَح في علم الاجتماع، وهو مُصطلَح التنشئة الاجتماعية، الــ Socialization، أي التنشئة الاجتماعية، والتي تعني بكلمة أيضاً مُبسَّطة وسهلة الآليات التي يستخدمها المُجتمَع من أجل أن يُطبِّع أفراده بالآتي، والمقصود هنا بالأفراد ماذا؟ الأطفال الجُدد في هذا المُجتمَع، أو الأفراد المُستجِدين في هذا المُجتمَع، كالذين يطلبون اللجوء الإنساني واللجوء السياسي، ليعيشوا بقية أعمارهم في هذا المُجتمَع، هنا يُمارِس المُجتمَع آليات التنشئة الاجتماعية في حق هؤلاء وهؤلاء، لكي يُطبِّعهم على أفكاره، على أُطره الفكرية أيضاً، على عاداته، على تقاليده، وعلى ثقافته.

وطبعاً هناك مُفرَدات لهذه الآلية، أي آلية التنشئة الاجتماعية، يُطلَب تفصيلها من كُتب علم الاجتماع المعروفة، لذلك يصعب على الفرد أن يتجاوز الثقافة من داخلها، وبالإزاء يصعب عليه أن يفهمها من خارجها، فالمسألة أصبحت تميل إلى تعقيد زائد.

لذلك عالم الاجتماع الفرنسي الشهير ذو الأصول الشرقية جورج گورڤتش Georges Gurvitch في آخر حياته أو في الشطر الأخير من حياته بدأ يرفض الحديث عن علم اجتماع، يُشكِّك في جدوى المُصطلَح نفسه، علم الاجتماع، أي السوسيولوجيا Sociology، يقول هذا غير موجود، ليس ثمة علم اسمه علم الاجتماع، لكن هناك علم المُجتمَعات، يُمكِن أن نقول علم المُجتمَعات، هناك مُجتمَعات بنظم ثقافية مُتباينة إلى حد بعيد، لكن أن يُقال علم اجتماع هذا يتطلَّب أن نُقِر وأن نُسلِّن وأن نُبرهِن طبعاً قبل ذلك وبعد ذلك على وجود ما يُسوِّغ التعميم، وهذا غير موجود تقريباً، لأنها ثقافات مُختلِفة، نُظم وأُطر فكرية مُختلِفة إلى حد بعيد.

كليفورد غيرتز Clifford Geertz – أيضاً عالم الاجتماع الشهير – في آخر حياته الأكاديمية عبَّر يائساً عن انقطاع أمله بل عن نضوب أمله في إمكان إنجاز التعميم الاجتماعي، قال هذه عملية تقريباً أصبحت غير مُمكِن، لا يُمكِن أن نُعمِّم، بمعنى التنظير الاجتماعي مسألة أصبحت في حيز أو في قيد الشك أو التشكيك، مسألة مُشكَّكة أن نُعمِّم، هل يُمكِن أن نُعمِّم؟ كيف يُمكِن أن تُعمِّم مع وجود كل هذه الفوارق الهائلة والعديدة والكثيرة جدا؟!

سأنتقل الآن إلى مرحلة مُتقدِّمة أيضاً من إضاءة هذه النُقطة، وأنا أعرف أنني ربما بهذا الطرح طبعاً سأستجلب كثيراً من الاعتراضات، وهذا واضح، لكن علينا أن نتأمَّل طويلاً في هذه المفهومات وفي هذه المُعطيات التي قد تبدو جديدة على بعض الناس.

في نهاية المطاف لسنا عدميين ولا ندعو إلى نسبية مفتوحة في الفهم أبداً أبداً، هذا شيئ آخر، لكن نلفت إلى شيئ واقع، كلنا نعيشه وكلنا نُمثِّله، كلنا أبطاله وفي الوقت ذاته كلنا ضحاياه.

المرحلة المُتقدِّمة التي أُريد أن أخطو إليها هي مرحلة تكشف – إخواني وأخواتي – عن كيفية التغرير، كيفية التلبيس والاشتباه، وكيفية الخداع، الذي نُمارِسه حتى على أنفسنا، وليس على غيرنا من الناس، لكن لعمر الحق وبالله عن أي خداع تتحدَّث؟ سيُقال لي، كيف نخدع أنفسنا؟ كيف يخدع المرء نفسه؟ نعم! نحن نخدع أنفسنا لكي نظل مُتسِقين مع أنفسنا ومع ذواتنا الاجتماعية، وحتى ذواتنا الفردية التي لا تعرف استقلالاً لها خارج إطار المُجتمَع وخارج الشرط الاجتماعي، في نهاية المطاف الإنسان كما قال أرسطو Aristotle حيوان اجتماعي، كائن اجتماعي، لا يتحدَّد خارج المُجتمَع على النحو الذي نفهمه عليه وبه.

قبل زُهاء أربعمائة سنة تحدَّث الفيلسوف الإنجليزي التجريبي فرانسيس بيكون Francis Bacon في كتابه الآلة الجديدة – أي الــ Novum Organum – حديثاً ذكياً جداً، عما صار يُدعى في القرن العشرين بالتحيزين: تحيز التأكيد، وتحيز التشكيك، لكن هو دون أن يستخدم هذين المُصطلَحين بعبارة بسيطة قال ذهن الإنسان يعمل وفق هذه الكيفية، لديه مفاهيم أو مفهومات مُسبَقة، يعتقد بها ويتبناها، يبدأ هذا الذهن بعد ذلك يبحث ويلتقط ويلتفت إلى كل ما يُعزِّز ويُؤكِّد هذه المفاهيم وتلكم القناعات، في الوقت الذي يتغافل فيه ويعمى فيه أو يتعامى – هنا الخديعة – عن كل ما من شأنه أن يُشكِّك في هذه المفهومات، أن يهز القناعة في تلكم المُتبنيات أو المفروضات، يتعامى عنه! كأنه غير موجود، وفعلاً كأنه غير موجود.

هذا – كما قلت لكم – ما صار يُدعى في القرن العشرين بتحيز – هذا Bias – التأكيد، وتحيز التشكيك، أي الــ Confirmation bias، والــ Disconfirmation bias، ما معنى تحيز التأكيد؟ سأضرب مثالاً بسيطاً من كلامنا، هناك بيت شعر في العربية:

وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ                       وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا.

حين تكون راضياً عن صاحبكَ، سواء أكان هذا الصاحب زوجتكَ – أو زوجكِ – أو صديقكَ أو مُعلِّمكَ أو شيخكَ أو جاركَ أو شريككَ في العمل والتجارة، إلى آخره! حين تكون راضياً عنه لا ترى إلا حسناته، هو أحسن الناس، وآمن الناس، وأكرم الناس، وحين تُنبَّع على بعض سيئاته وبعض انحرافاته دائماً تُصغِّرها، كأنها غير موجودة، قُبته حبة لأنه حبيبك، قُبته حبة، تراها حبة مع أنها قُبة لأنه حبيبك.

وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ                       وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا.

الجديد – إخواني وأخواتي، وهذا ما سأُشير إليه ربما بُعيد قليل – في المسألة أننا لا نفعل هذا من باب الخداع الواعي لأنفسنا، بالعكس! نحن مخدوعون حتى النُخاع، حتى الأعصاب، وحتى الدماغ، بمعنى أن أدمغتنا فعلاً ترى الأمور على هذا النحو، لا أننا نراه ثم نخون ضميرنا فنراها قُبة، ثم ندّعي أنها حبة، هذه خيانة، لا! نرى القُبة حبة، أدمغتنا وعقولنا نرى القُبة حبة، لكن هذا إلى حين.

فحين نغضب ونسخط وترتفع المودة أو تتلاشى أو تتضمحل نغدو نرى الحبة قُبة، قد تكون قُبة ونراها قُبة، لكن دائماً ستكون أعظم مما هي، وقد تكون في الواقع حبة، لكننا سنراها قُبة، والمُصيبة – إن جاز التعبير – حتى في هذه المرة نحن ربما – ربما وليس بالتأكيد دائماً – لا نكذب على أنفسنا ولا نخون ضمائرنا، نحن نراها قُبة، ونُقسِم بالله غير حانثين أنها قُبة.

فهذا معنى تحيز التأكيد، حين تقنتع بشيئ أو توده وتُحِبه ترى كل شيئ يدعم هذه القناعة، وتعمى عن كل شيئ يُقوِّض أُسس هذه القناعة أو يهزها حتى مُجرَّد هز، يُشوِّش عليها! وعكسه تحيز التشكيك، تحيز التشكيك عكسه تماماً.

من التجارب اللافتة – إخواني وأخواتي – والمُثيرة إلى أبعد الحدود في هذا الصدد تجربة أجراها العلماء في الولايات المُتحِدة الأمريكية سنة ألفين وأربع، وذلك أيام الانتخابات، في حُمى الانتخابات – على الرئاسة طبعاً – بين الحزبين: الحزب الجمهوري ومُرشَّحه جورج بوش George Bush الابن، والحزب الديمقراطي ومُرشَّحه جون كيري John Kerry، الذي صار الآن وزيراً للخارجية.

ما الذي حصل؟ أوتيَ بمجموعتين: مجموعة مُؤيِّدة للمُرشِّح الجمهوري بوش Bush، ومجموعة أُخرى مُؤيِّدة للمُرشَّح الديمقراطي كيري Kerry، وعُرِض على المجموعة الأولى أقوال واضحة يُناقِض فيها المُرشَّح بوش Bush نفسه، يقول الشيئ مرة وضده مرة أُخرى، كما عُرِض على المجوعة الثانية الشيئ ذاته، مجموعة أقوال وتصريحات لجون كيري John Kerry يُناقِض فيها نفسه بشكل صارخ.

وطبعاً الجديد في هذه التجربة أنها تستخدم أحدث وأعلى التقنيات – إخواني وأخواتي – في دراسة الدماغ وعمل الدماغ، تقنية لن أُصدِّعكم بها، لكنها تقنية في التصوير، تُمكِّن العلماء تقريباً من أن يروا ماذا يحدث داخل المُخ الإنساني، واسمها تقنية MRI “الرنين المغناطيسي”، تقنية غريبة جداً! نستطيع أن نرى المراكز والأجزاء في حال نشاطها أو اشتغالها، نعلم ما الذي يشتغل الآن وفي أي درجة تقريباً وما الذي لا يشتغل.

عُرِض على المجوعة الأولى من مُؤيِّدي جورج بوش George Bush الجمهوري هذه الأقوال المُتناقِضة له والتصريحات المُتشاكِسة المُتعارِضة، والعجيب أنهم لم يروا تناقضاً، دائماً هناك تبرير لهذه التناقضات، سيقول أحدكم والله هذا يحدث معنا دائماً، يحدث دائماً وفي كل يوم، بل ربما في كل موقف وفي كل ساعة، أنت ستعمى عن أن ترى كل ما يُسيء وكل ما يُشين إلى ما تُحِبه ومَن تُحِبه، ما رأيك؟ هذا هو، ستعمى حقيقةً، وهذه هي المُشكِلة، كما قلت لن تخدع نفسك، ولن تخون ضميرك الآن، أنت مخدوع، لكنك لا تُمارِس هذا بوعي، هذا يُمارَس عليك تقريباً، تركيبك يفعل هذا، شيئ غريب جداً ومُحيِّر هذا، وإلى الآن هو غير واضح، على كل حال كل شيئ كان مُبرَّراً ولم يروا تعارضاً ولا تناقضاً، ونفس الشيئ يتكرَّر مع مُؤيِّدي المُرشَّح الديمقراطي جون كيري John Kerry.

الجديد والمُثير يا إخواني أنه بهذه التقنية – تقنية التصوير للدماغ أو للمُخ – وضح للعلماء وبان لهم أن المكان أو المركز الذي كان ينشط حين تُعرَض عليهم الأقوال المُتعارِضة ليس هو المركز الذي يقوم بالتقويم المنطقي الاستنباطي العقلي والمُحاكَمة العقلية أبداً، وإنما المركز الذي كان ينشط مركز العواطف والانفعالات، فطبعاً هذا حبيبنا ومُرشَّحنا، ولذلك نحن لا نرى التناقضات، بالعكس! لكل مقام مقال، هو قال كل شيئ في مقامه، وقاله على أحسن ما يكون!

ولذلك لم يروا تناقضاً، لكن ماذا لو أن المركز الذي اشتغل وتنشَّط هو مركز المُحاكَمات العقلية والمنطقية؟! طبعاً لرأوا كما يرى أعداؤهم أو أخصامهم الديمقراطيون التناقضات واضحة جداً، بوش Bush يتناقض مع نفسه بشكل صارخ، وهذا تكرَّر أيضاً على النحو نفسه مع المجموعة الأُخرى، في حين رأى الجمهوري بوش Bush تناقضات جون كيري John Kerry واضحةً، وهنا التصوير أثبت لنا أن الذي اشتغل في هذه اللحظة هو مركز المُحاكَمات العقلية والاستنباط، الآن يشتغل! لكن يشتغل إزاء ماذا؟ إزاء تناقضات خصمنا الديمقراطي أو خصمنا الجمهوري، أما إذا تعلَّق الأمر بمُرشَّحنا فهذا المركز يضمحل عمله، يتراجع، يتلاشى، ويبدأ يعمل مركز العواطف والانفعالات، إنه حبيبنا!

إذن هؤلاء مخدوعون، دون أن يدروا أنهم مخدوعون، ويُمكِن لأي منهم أن يحلف وأن يُقسِم بأغلظ الأيمان وأوثقها أنه صادق مع ضميره وصادق مع نفسه، لا يخون عقله ولا قناعاته، هذه هي الحقيقة، وهذا هو الواقع، مُستعِد أن يُباهِل ومُستعِد أن يدخل النار من أجل ذلك، شيئ غريب يا إخواني! هذا يحدث مع الجميع، وسيبدو لنا أننا في ورطة حقيقية لا منجى منها إلا باستهداء الله – تبارك وتعالى -، هذا بالنسبة لي كمُسلِم، كرجل مُسلِم، وأرجو أن أكون مُؤمِناً صادق الإيمان بحول الله، أنا أرى أنه لا منجى إلا باستهداء الله – تبارك وتعالى -.

ولعل هذا هو بعض السر في أننا نبتهل إلى الله في كل ركعة من ركعات صلواتنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩… اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩… اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩… لأنه:

إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى                               فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ.

لذلك لم يبق لي في نهاية هذه الحلقة – وقد أشرفت على النهاية – إلا أن أبتهل إلى الله – تبارك وتعالى – لي ولكم إخواني وأخواتي بأن يمدنا بمدد من عونه الدائم، حتى لا نضل ولا يغضب، وأن يُرينا بفضله وكرمه الحق حقاً، وأن يرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً، وأن يرزقنا اجتنابه.

وإلى أن ألقاكم في حلقة جديدة من برنامجكم (آفاق) أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: