هزيمتنا

video

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وعظيمنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سُبحانه ومخالفة أمره، لقوله جل من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.

ثم أما بعد/

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/

يقول الله جل مجده في كتابه الكريم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:

فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ * إِن يَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن يَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِۦۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ * وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ * أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَ ٱللَّهِ كَمَنۢ بَآءَ بِسَخَطٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ * هُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ * لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ * أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ * وَمَآ أَصَٰبَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَلِيَعۡلَمَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ * وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْۚ وَقِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدۡفَعُواْۖ قَالُواْ لَوۡ نَعۡلَمُ قِتَالٗا لَّٱتَّبَعۡنَٰكُمۡۗ هُمۡ لِلۡكُفۡرِ يَوۡمَئِذٍ أَقۡرَبُ مِنۡهُمۡ لِلۡإِيمَٰنِۚ يَقُولُونَ بِأَفۡوَٰهِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يَكۡتُمُونَ *

صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.

إخوتي وأخواتي/

أبدأ هذه الخُطبة، التي أسأل الله أن يُباركها وينفع بها، بسؤال:

لِمَ قضى الله تبارك وتعالى، إلى جانب ما قضى به، من نصر عبده ورسوله – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – وإعزازه وإظفاره، لِمَ قضى إلى جانب هذا، بالهزيمة، في بعض المرات، كالذي حدث يوم أُحد، ويوم حُنين؟

سؤالٌ قد يبدو ميسورا، أو لا يزيد عن مُجرد استذكار واستعادة وقائع تاريخية، على أنه أكبر من هذا بكثير! وله تعلق عظيم أيضا، أو اعتلاق شديد، بواقع المُسلمين، وبتاريخهم جُملة.

الدرس الأول لهذا الذي أثرت السؤال حوله، هو أن الحق بذاته، وإن كان حقا في ذاته، إلا أنه لا ينتصر بذاته! الحق لا بُد له من حملة، وهؤلاء الحملة ليسوا آلهة، وليسوا ملائكة. إنهم بشر، فيهم ضعف البشر، وهشاشة البشر، وحرص البشر، وقصور البشر. فيهم كل ما في البشر من جوانب القوة والضعف.

والقرآن يُعلِّمنا أن حملة الحق، لا يُشكِّل وجود النبي الخاتم – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – بينهم وبين ظهرانيهم، ضمانة وعصمة لهم من الزلل، ولا ضمانة ولا عصمة من الهزيمة والانكسار، كالذي حدث – أيها الإخوة –!

ودعكم من أقاويل بعض المُعاصرين، الذين زعموا، ذهبوا يزعمون، أنه لا يجوز أن يُقال هُزم المُسلمون، ورسول الله بين ظهرانيهم، ولم تكن هزيمة! هي هزيمة، بل مُصيبة، بنص كتاب الله تبارك وتعالى.

لا يُمكن أن نُغالِط في الحقائق، ولا أن نُغالِط في الوقائع. هزيمة، وأي هزيمة! لكن لم يلتفت هؤلاء، وربما عن حُسن نية، إلى أن الذي انهزم ليس النبي. انهزم أصحابه، وانهزموا بما استحقوا به ومعه الهزيمة، قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ *.

في معركة أُحد – وهذا درس بليغ آخر، في معركة أُحد – كان سبب الهزيمة مُخالفة ظاهرية ملموسة؛ لا تتركوا الجبل، وإن رأيتمونا تتخطفنا الطير. تركوه! فحاقت بهم الهزيمة.

في معركة حُنين كان السبب سببا باطنيا معنويا؛ الإعجاب بالكثرة، الإدلال بالعدد! لن نُغلب اليوم من قلة. هكذا قالوا! إذا كانت المغلوبية، إذا كانت الهزيمة والانكسار، يتأتيان عن قلة، فنحن أعزة اليوم بكثرتنا، ولن نُغلب عن قلة! أي من قلة. فجاءت الهزيمة. ثم أبدلهم الله سريعا نصرا، لما وعوا الدرس. سبب معنوي، سبب باطني.

قضى الله بهذا على أصحاب رسول الله، وفيهم خيرته وخاتم أنبيائه ورُسله، ليكون درسا لهذه الأمة، إلى أن تقوم الساعة. درس الذنوب الباطنة، الآثام الباطنة، قد تجر الهزيمة، إلى أمة محمد.

ليس فقط نقص العُدة، أو نقص العدد، وقلة الاستعداد، لا، لا، لا! قد تكون العُدة تامة والعدد مُستوفى، والعدد مُستوفى والاستعداد الظاهر على أحسن ما يُرام، لكن ثمة ذنوب باطنية.

وهذه الذنوب الباطنية ليست من فواحش الذنوب، لكنها نوع من العُجب! وليس العُجب بالشخص، وبالفرد، أبدا! إنما العُجب بالجماعة، بالمجموع! أُعجبوا بأنفسهم، بكثرتهم. وهم حملة الحق، وفيهم رسول الله. فأوتوا من هذه الناحية، عجيب! القرآن يُعلِّم تعليمات عجيبة جدا جدا! أنا موقن أننا بعيدون كل البُعد عنها.

كلما تأملت حال أمتي اليوم، علمت يقينا أنها تقريبا مُستوفية لكل أسباب الهزيمة! حتى من ناحية دينية، الأسباب الإلهية! كل أسباب الهزيمة مُتوفرة في هذه الأمة الآن! ولذلك النصر منها بعيد كل البُعد، بعيد كل البُعد!

والله لا يُبالي مَن لم يُبال به، الله لا يُبالي مَن لم يُبال به! الله لا يعبأ بمَن ضيّع شرعه ودينه وهديه، أليس كذلك؟ هذا هديٌ، هذا هديٌ عظيم، لا يُمكن أن نقع على أعظم منه! ضيّعناه هكذا.

اليوم أُريد أن أتكلم معكم في هذه المسألة، من بعض الزوايا – لا يُمكن استيفاء زوايا البحث والكلام فيها جميعها، أبدا! وإنما من بعض الزوايا -.

ولا زلنا أيضا في ذكرى ميلاد الحبيب – صلوات ربي وتسليماته عليه -، الذي لا أُريد أن أُعلِّق على هذه المعركة الضروس الطاحنة، حول جواز الاحتفال بعيد ميلاده، أو بذكرى ميلاده، أو عدم الجواز!

لا أُريد أن أُعلِّق؛ لأن هذا يجلب إلى المرء الكُباد، والمُرار، والشعور حتى بالغثيان، موضوع آخر هذا، أتركه لمَن أراد أن يخوض فيه، للأسف الشديد، هدى الله هذه الأمة. أمة… على كل حال، هداها الله تبارك وتعالى، ونحن من بينها طبعا، بلا شك!

إخوتي وأخواتي/

لِمَ يُمكن أن ينهزم المُسلمون الصالحون – فيما يبدو -؟

لأسباب كثيرة كما قلت، لأسباب كثيرة! نُريد أن ندور على ما ورد في الكتاب والسُنة، نُريد هذه الحكمة الإلهية، الحكمة المُصطفوية – على صاحبها أفضل الصلوات والتسليمات -.

لأسباب كثيرة – إخواتي وأخواتي -! في رأسها مُصادرة الآراء، وإعجاب مَن بيدهم الزمام بأنفسهم وآرائهم. ما يُعرف باللُغة السياسية، وباللُغة المفهومة، بالاستبداد.

بعض الناس يظن أن الاستبداد هو الطُغيان والظلم، لا! ليس هذا الاستبداد. قد يكون المُستبد صالحا وعادلا وطيبا، لكنه يستبد برأيه، بمعنى ينفرد. يصدر عن رأيه هو، يظن أن رأيه هو الأخير، هو الأفضل، هو الأحكم، هو الأنفع، ويُهدِر رأي الجماعة.

هذا سبب من أعظم أسباب الخذلان – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، وهذه الآيات الكريمة من سورة آل عمران أشارت إلى هذه القضية، ولكن من زاوية بالغة العجب! وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ *.

سورة الأنفال أرّخت لوقائع بدر؛ معركة بدر. سورة آل عمران أرّخت لوقائع أُحد؛ معركة أُحد. معركة أُحد كانت فيها الهزيمة والدبرة على المُسلمين! كانت الهزيمة والدبرة على المُسلمين، للأسف الشديد! ولا نُريد أن نخوض في التفاصيل المعروفة للجميع.

السبب اللائح والظاهر، هو أن الخُطة لم تكن مُحكمة؛ خُطة مُلاقاة الأعداء لم تكن مُحكمة. من ناحية العدد والعُدة، وضع المُسلمين كان أفضل كثيرا، من وضعهم في بدر! في بدر انتصروا، في أُحد هُزموا! غريب! لماذا؟ وضعهم من ناحية العدد والعُدة كان أفضل، لكنهم هُزموا!

السبب اللائح المذكور في كتب السير، أن النبي – صلوات ربي وتسليماته عليه -، لما علم بتحرك جيوش الشرك إليه في المدينة، استشار أصحابه… هذا أول درس! النبي، وهو نبي، استشار. انتبهوا! النبي ليس قائدا، ليس مُصلحا، ليس فيلسوفا، هو أعظم من هذا بكثير، هو نبي رسول! يهمس مع السماء، تُخاطبه السماء، تُفضي إليه السماء، تُلقي إليه السماء، نبي!

ومع ذلك هو أوفر الناس عقلا وفطانة وزكانة، بلا شك! وأرجح الناس رأيا، بلا شك! الكل يعلم هذا. ومع ذلك، كما روى الإمام أحمد في مُسنده، والإمام الشافعي في مُسنده أيضا – مُسند الشافعي -، عن أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال لم يكن أحد أكثر مُشاورة لأصحابه من رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -.

شيء عجيب! بمعنى أبو هُريرة يقول أنا لم أر، لا أبا بكر ولا عمر ولا عليا ولا عثمان ولا مُعاذا ولا فلانا، ولا أي واحد! لم أر أحدا، أكثر استشارة، من رسول الله. عجيب! وهو رسول الله؟ وهو رسول الله.

هل تظنون أنه حقا يحتاج إلى شورى الناس؟ في الواقع، لا يحتاج. هو أوفر منهم عقلا جميعا! ثم إنه مؤيد معصوم، بالسماء! ولكن هو مُعلِّم. لذلك انتبهوا، صحيح أن المُسلمين هُزموا في معركتين، أو معركة ونصف معركة؛ لأن الدولة كانت في النهاية في حُنين للمُسلمين – بفضل الله تبارك وتعالى -، أي معركة ونصف، هزيمة ونصف، لكن انتبهوا! ليست نجاحات النبي المُحمَّد – صلوات ربي وتسليماته عليه – تقتصر على نجاحاته في حياته.

نجاحاته مُمتدة! طبعا إلى اليوم مُمتدة، نحن من نجاحاته، نحن من ثماره، جزاه الله عنا خير ما جزى نبيا عن أُمته، ورسولا في رسالته – صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا، إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين -.

نجاحاته امتدت مع أصحابه، امتدت مع هذه الثُلة القليلة – أيها الإخوة -، الذين لم يكونوا على كبير علم وثقافة، وليسوا مُنحدِرين من خلفية حضارية ومدنية مشهورة على مُستوى العالم، ولا حتى في الإقليم، أبدا!

هؤلاء هم الذين ثلوا عرش فارس، وهم الذين زعزعوا وقلقلوا عروش روما هنا وهناك، وهم الذين فتحوا زُهاء ثُلثي العالم، في تسعين سنة، فقط! تُسمى هنا، لدى المؤرخين الغربين، بمُعجزة الفتح الإسلامي! Miracle!

هم يرونها مُعجزة! هناك شيء غير مفهوم! معقول؟ معقول؟ مجموعة أُناس من الصحراء، أُميون، (غلابة)، صناعتهم الشعر والقول، ليس عندهم أكثر من هذا! فقط يُحسنون أن يتكلموا، شعرا ونثرا! أكثر من هذا، ليس عندهم! يفتحون العالم، يدكون حصون أعظم إمبراطورياتهم! شيء لا يكاد يُصدق! فعلا معجزة! شيء غريب! الجواب الإجمالي، الذي يحتاج إلى تفاصيل كثيرة؛ امتداد لنجاح محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

على فكرة، قد تجد، وإن كان على سبيل الندور – هذا نادر، ونادر جدا، لكن قد! ليس مُستحيلا – قد تجد قائدا، ينجح ويُسجِّل نجاحات مُتصلة، أو بعض نجاحات في حياته. فإذا ما أدبر وتولى، جر أتباعه ذيول الخيبة في كل موقعة.

لا أتحدث عن نجاحات عسكرية، نجاحات بشكل عام؛ عسكرية وغير عسكرية. لماذا؟ هذا يعود إلى القائد نفسه. هذا القائد، رُغم ما سجله من نجاح في حياته، هو فاشل كقائد، أبدا! فاشل كقائد! عوامل الفشل تحتاج توضيحا، وربما – إن شاء الله – يضح وجهها، من خلال ما سنستعرضه بُعيد قليل، من عوامل نجاح رسول الله.

النجاح الوقتي، والنجاح البَعدي! النجاح حين كان، وحين تولى سعيدا حميدا، واصل أصحابه نجاحات مُذهِلة! ببساطة؛ لأنه عرف كيف يُربي، خلق قادة حقيقيين، ترك رجالا حقيقيين، ترك أمما! لم يترك رجالا.

أبو بكر كان أُمة وحده، عُمر أُمة، علي أُمة، فلان أُمة! أُمم! كل واحد منهم أُمة – رضيَ الله تعالي عنهم وأرضاهم -. وبناهم البناء الذي يُنتج النجاح في مُعظم الأحوال والشؤونات. هو هذا! هذا نجاح رسول الله، على فكرة!

هذا نجاح رسول الله! وإلا رسول الله حين ارتحل إلى الرفيق الأعلى، ترك دويلة صغيرة وبسيطة، وكان يُمكن أن توأد في مهدها! لم يحصل – بفضل الله تبارك وتعالى -، مع أن العرب تقريبا من عند آخرها، إلا قليلا، رمت هذه الدويلة الناشئة، في مهدها، عن قوس واحدة!

لكنها خرجت كالعنقاء، كسرتهم جميعا وأذلتهم، وتوسعت واستبحرت، ثم اتخذت من هذا النطاق، الواسع نسبيا، قاعدة انطلاق، لغزو العالم كله تقريبا! شيء مُذهِل! هذا الذي حصل، هذا الذي حصل!

لماذا؟ ما السبب الرئيس – أسباب كثيرة، لكن السبب الرئيس -، بعد الإيمان طبعا واليقين، والثقة بالله، والإيمان بالأقدار؟

لم يكونوا أُناسا يهابون الموت، كانوا يعلمون أنه ما من شيء يُمكن أن يُقرِّب أجلا، أو ينقص رزقا، يقين مُطلق عندهم. هذا جعلهم يُلقون بأنفسهم في أفواه الموت، دون أن يخافوا، يقين! هذه عقيدة القدر، التي حركتهم – رضوان الله عليهم -، لكن بعد ذلك، وراء ذلك، كما قلت لكم الرسول صاغهم – صاغهم، ولا أقول قولبهم، صاغهم – أحرارا، ورجالا. أخرج من كل واحد فيهم، أحسن ما فيه!

كل إنسان فينا عنده لياقات، على فكرة! انظر، المُربي الفاشل، هو الذي يجتهد أن يُخرِّج نُسخا، يحفظون ويُكرِّرون المفاهيم والأقوال والسلوكات. فاشل، فاشل! التربية في جوهرها استقلال، التربية هي منهج لصوغ شخصية مُستقلة، يُمكن أن تتركها، فتواصل المسيرة. هذه هي التربية! غير هذا، ليست تربية.

النبي أحسن مُرب عرفته البشرية، وهؤلاء أعظم رجال عرفتهم البشرية، باستثناء النبيين – عليهم الصلوات والتسليمات أجمعين -. ولذلك كان أكثر الناس مُشاورة لأصحابه، فيما يقول أبو هريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -. ووقائع مشاوراته كثيرة جدا! في الدين، وفي السياسة، وفي العسكرية، وفي السلم، وفي الحرب! في كل شيء!

وكان لا يستنكف، ولا يستكبر، كان شخصية… ماذا أقول لكم؟ كما قلت مرة العظيم! كيف تعرف أن هذا شخص عظيم، وهذا شخص ليس عظيما؛ شخصا معياريا أو عاديا، أو قد يكون شخصا حتى مهزولا؟

بعض الناس قد يكون في موقع قيادة، على أنه شخص مهزول! والويل كل الويل، والفشل كل الفشل، لمَن دار في مداره! إنه يقمعك، بالطُرق الظاهرة وبالطُرق الباطنة، يُوحي إليك بالفشل دائما، يُوحي إليك بالصغار، يُوحي إليك بأنك العاجز، وبأنك لا تستطيع أن تُنتج، إلا العجز! لأنه صغير.

هو صغير، مُنطو على عُقد نقص، أو عُقد اضطهاد! يرى نفسه إلها صغيرا، أو ملاكا عظيما، أو شيئا… سُبحان الله! فلتة من فلتات القدر! هذه الشخصيات المُعقدة نكبة على أُمتها!

أما الشخص العظيم، هو الذي يُعطي كل فُرصة، لكل مَن عنده لياقة، أن يُخرِج أحسن ما فيه! وقد يُلفي كثيرين مِمَن حوله عظماء – سُبحان الله -! يُعطيهم هذه الفُرصة! هكذا كان رسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه -! نعم، نعم! أخرج من هؤلاء، أبناء الصحراء، وحتى أبناء المُدن السُذج البُسطاء، قادة عظاما!

معقول عُمر، إن صحت قصة العجوة، على أنها تصح مع جاهلي العرب عموما، معقول أن هذا الرجل بعد أقل من ثلاثين سنة – أيها الإخوة -، بالعكس؛ بعد عشرين سنة، بعد عشرين سنة! يحكم نصف العالم تقريبا؟ معقول؟ أو ثُلث العالم! وأحسن طريقة!

حتى أن مايكل هارت Michael Hart، في كتابه الذي شرَّق وغرَّب؛ العظماء، أو الخالدون، مائة، أعظمهم محمد، ذكر عُمر بن الخطاب منهم! في تاريخ البشرية كلها، عُمر واحد من مئة! من الأعظم، في تاريخ البشر! الهند والصين، ثم النُطق الأُخرى، واحد من مئة!

لماذا؟ طبعا! ابن الصحراء البسيط هذا، أو ابن مكة البسيط الساذج، أن يحكم ثُلث العالم بهذه الطريقة، غير معقول! ما الذي يحدث؟ فهمتم؟ حتما لم يكونوا يفهمون الدين، ولا يصدرون عن منطق كالذي نصدر عنه اليوم.

نحن اليوم أصغر بكثير من أن نفهم ديننا حقا، والله العظيم! نحن صغار للغاية، صغار كالنمال، لم نقترب حتى من أن نفهم عظمة الإسلام حقا، للأسف الشديد. نُعيد إنتاج فهم للإسلام، فقط يُعبِّر عن حاجات ضيقة، وعن أهداف صغيرة، جد صغيرة! ونبقى صغارا، للأسف الشديد! هذا هو، هذا هو! نبقى صغارا! هم لم يكونوا كذلك – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم -.

النبي لم يكن يستنكف أن يستشير، حتى في القضايا شديدة الخصوصية والحراجة، شباب الصحابة! دون العشرين! في حادثة الإفك، استشار أُسامة بن زيد، معقول؟ استشاره! ماذا ترى أنت؟ ماذا تُشير علي؟ في حادثة الإفك استشار عليا! علي بن أبي طالب – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، وكان شابا لا يزال! استشار! كان يستشير، حتى الشباب الصغار، الذين لهم عقل ورزانة وفهم، واضح؟

في شؤون الدين كان يفسح المجال، كما لاحظ العلّامة الإمام النووي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، حتى في الاعتقاد، في أصول العقيدة! هذه مسائل عقدية.

أم بشِّر – رضوان الله عليها -، فيما روى الإمام مُسلم في صحيحه، تقول سمعت رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، وهو عند حفصة. حفصة أم المؤمنين، بنت عُمر بن الخطاب – رضيَ الله تعالى عنهما -، أم المؤمنين! وهو عند حفصة، يقول لا يدخل النار – إن شاء الله تعالى – أحدٌ من أصحاب الشجرة، الذين بايعوا تحتها.

قال العلماء قوله إن شاء الله تبركا، لا تعليقا. هذا وعد من عند الله، خبر السماء، الله أخبره؛ هؤلاء، أصحابك – ونزل فيهم قرآن، في سورة الفتح -، هؤلاء مرضيون، رَضِيَ ٱللَّهُ * عنهم، لن يدخل أحدٌ منهم النار.

فقالت حفصة يا رسول الله بلى! بعضهم سيدخل النار. فانتهرها النبي! كيف تقولين هذا؟ قالت أليس قال الله تعالى وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا *. الله! أنا هنا سأشرح قبل أن أُكمل. طبعا النبي أجابها، قال لها أليس قال الله – عز وجل – ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا *.

قبل أن نشرح المقصود بالآية وكذا، موضع الشاهد ما هو – أيها الإخوة -؟ موضع الدرس هنا الذي نتعلمه، هو أن حفصة – رضوان الله عليها، وهي زوجه، أم المؤمنين -، هكذا رباها النبي، هكذا علمها! أنها لا تقبل شيئا، حتى لو أتى على لسان زوجها؛ رسول الله، حتى تستفصل وتفهم.

أنت تقول الآن لن يدخل أحدٌ منهم النار! الله يقول وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ *! لم يستثن أحدا! إذن لا بُد أن يردوا عليها. لا أن نُسلِّم! نحن اليوم، على فكرة، وجه من وجوه ضعفنا، وصغارنا العقلي: تتساكن وتتعايش النقائض في عقولنا! نقبل الشيء وضده، بل نقبل الشيء بضده! لذلك حتى ليس لدينا إنصاف.

نحن لا نُنصِف، على فكرة! لا نُنصِف. يرى أحدنا القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عين نفسه! هكذا! ويرى أنه مُنحاز للحق! شخصيات مُتناقِضة! لا، أيام رسول الله، إذا شيء، حتى على لسان رسول الله، لم تفهمه، لم تستوعبه، فقل. فقالت! فالنبي أجابها.

على كل حال، هذه الآيات الكريمة من سورة مريم، عرضتها مرة أنا ورجَّحت فيها تفسير الشيخ الإمام الطاهر بن عاشور – رضوان الله عليه -.

وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ *: ليس خطابا للمؤمنين. وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ *: خطاب للكفار المُشرِكين، الذين سينزع الله مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَٰنِ عِتِيًّا *، ثم قال وَإِن مِّنكُمْ *، يُحدِّث هؤلاء المُنتزعين، إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا *.

ولذلك قرأ ابن عباس، وهي قراءة عكرمة مولاه، وجماعة: وإن (منهم) إلا واردها، وهذا الصحيح! وهذا أسلوب بليغ، في كتاب الله! عودوا إلى التحرير والتنوير؛ لكي تفهموا سياق الآيات. هذه الآيات ليست في المؤمنين، ليست في المؤمنين! هي في المُشركين.

أما قوله ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا*، هذه ثُمَّ *، تُشير وتؤشِّر إلى ماذا – أيها الإخوة -؟ تُشير وتؤشِّر إلى معنى في الفضل والرُتبة، في الفضل والرُتبة! المؤمنون لهم مقام آخر. كما نقول مثلا، أو كما تقول – تُريد أن تُغيظ أحدا وتُحنقه، من أعدائك أو أخصامك – أنت لك مني كذا وكذا وكذا وكذا، ثم إن فلانا له مني كذا وكذا وكذا. هذا هو المقصود، هذا هو المقصود!

على كل حال، من وقائع مشاورته – عليه الصلاة وأفضل السلام – أُحد! فاستشار أصحابه، وكان من رأيه، أن يعتصم بمَن معه في المدينة. بلا شك، نكون في بيتنا ودارنا، مُتحصنين! ونعرف كل شيء! مخارجها، موالجها، مداخلها.

لكن جماعة من الصحابة، ومُعظمهم من شباب/ شبان، الصحابة، الذين تخلفوا عن بدر، حميت صدورهم، وأحبوا أن يُظهِروا لله ولرسوله، شجاعتهم وإقدامهم وبسالتهم، فقالوا بل نخرج إليهم يا رسول الله. لا ننتظرهم، حتى يأتوا ويدهمونا في مدينتنا، بل نخرج إليهم، ونُلاقيهم، وبإذن الله ننتصر.

فلما رأى النبي عددهم، عددا كبيرا، أرادوا هذا، نزل على رأيهم، وهو يعلم أن الخيرة فيما ارتاح إليه هو. ودخل داره، أو منزله؛ لكي يأخذ لأمته، أي عُدة الحرب، يتدرَّع ويضع على رأسه المغفر وهكذا!

فقالوا – كأنهم تلاوموا! تلاوموا وقالوا – النبي أراد شيئا، ونحن أردنا شيئا آخر، غير ما أراد النبي! فلو ذهبت يا حمزة – وحمزة سيُستشهد في هذه المعركة، عليه السلام، ورضيَ الله عنه وأرضاه -، فقلت لرسول الله، أمرنا لأمرك تبع. نحن نعتذر، نحن غلطنا.

فدخل حمزة، وقد أخذ النبي – أي لبس – لأمته؛ عُدة الحرب، قال يا رسول الله إن القوم تلاوموا، وقالوا أراد رسول الله أمرا، وأردنا أمرا! فيا رسول الله، أمرنا لأمرك تبع. نحن نصدر عن رأيك الآن. قال ما كان لنبي، أو قال لرسول، إذا لبس لأمته، أن يضعها، حتى يُقاتِل.

هناك سُنن روحية عجيبة! النبي يفهمها، نحن لا نفهمها! لماذا؟ النبي بالذات! انتهى. النبي إذا أخذ عُدة الحرب، ممنوع أن يعود. هذه أشياء تعز على الفهم الآن، لا نعرف! هذا عالم النبوة طبعا.

وخرج النبي، وكانت الهزيمة، وتعلمون ما الذي حدث في أُحد. ليس هذا الدرس، لا، لا، لا! الدرس يأتي بعد الآن، في هذه السورة الجليلة:

فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ *، تُريدون أعظم من هذا الليان؟ نبي، رسول، خاتم، ورئيس الدولة، سياسة وعسكرة، وينزل على آراء أصحابه، ينزل! عجيب! ليان عجيب! مُراعاة عجيبة!

فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ *، الدرس: وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ *. لا إله إلا الله! وما زال أيضا شَاوِرۡهُمۡ *؟ قال لك شَاوِرۡهُمۡ *. َشَاوِرۡهُمۡ *! هذه المرة لم تنفع، هذه المرة النتيجة كانت سيئة، لكن في عشر مرار أُخر، في مئة مرة، ستكون النتيجة أفضل بكثير! نعم، نعم! أكيد!

قد يصدر القائد عن رأي المجموعة، عن رأي الأغلبية، وتأتي النتيجة ليس على المُتوقع المأمول، لكن هذا يأتي نزورا وندورا، والنادر لا حُكم له، لكن:

رأي الجماعة لا تشقى البلاد به       رُغم الخلاف، ورأي الفرد يُشقيها

ورأي الفرد، إن أفلح مرة وأنجح، فإنه يُفشِل ويُعجِز – أيها الإخوة -، عشر مرار، ومئة مرة، وربما دهرا من الزمان، كالذي شهده المُسلمون في أزمان كثيرة. درس من أبلغ الدروس! درس من أبلغ الدروس!

في الحُديبية، في السنة السادسة من الهجرة، كان الصُلح، كما تعلمون، ولم يتمكن رسول الله، ومعه مَن معه من أصحابه، وقد ساقوا الهدي، أن يأتوا مكة، ويُنجزوا عبادتهم، لم يتمكنوا! فغاظهم ذلك جدا، ثم إن الشروط في الحُديبية كانت مُجحفة. تعلمون شروط الحُديبية!  

الآن النبي، وقد منعته وأصحابه قريش أن يأتي البيت، أصبح مُحصرا! هذا مُحصر – عليه الصلاة وأفضل السلام -. لا بُد أن يتحلل، ويذبح الهدي، وينتهي! يذبح الهدي، ويتحلل، ويعود. فأراد أن يفعل هذا، الصحابة لم يطيعوه!

شخصيات حُرة! لم يكونوا عبيدا، لم يكونوا روبوتات! لم يقم أحد منهم، فالنبي خشي عليهم الهلاك، عجيب! تمرد، حالة تمرد! فدخل حزينا، وفي نفسه موجدة، على أم سلمة – رضوان الله عليها -، أم المؤمنين!

هذه امرأة كانت تامة العقل! معروفة أم سلمة، تامة العقل – عليها السلام -! قالت يا رسول الله اعذرهم، فإنك تحملت من أمر الصُلح أمرا عظيما، وقد حيل بينهم وبين البيت، فهم مكروبون. أرى يا رسول الله أن تخرج إليهم، ولا تُكلم أحدا منهم، تعمد إلى ما أردت.

أنت تُريد النحر، تنحر أنت هديك. فإن هم رأوك فعلت ذلك، لم يسعهم إلا أن يفعلوا. امرأة عجيبة! امرأة لكن تامة العقل. أمة محمد لا تحفظ إلا ناقصات عقل ودين! دائما، ما شاء الله علينا! وتجد الذي يقول هذا قد يكون أُميا، لا يفك الخط، ويتحدث عن بروفيسورة في الجامعة: أليست امرأة؟ ناقصات عقل ودين! عرفنا مَن الناقص عقلا، ومَن الناقص دينا، عرفنا! واضح جدا، واضح!

على فكرة، هذه الطريقة في استدعاء النصوص، بمثل هذا الاستخفاف، من البلاء الذي مس الأمة اليوم! على فكرة، تجد الحالية والعاطلة، ومَن يعرف ومَن لا يعرف شيئا، مَن يعرف ومَن يهرف، يستدعون النصوص: الرويبضة، الرويبضة!

ولا يُوجد رويبضة، إلا أمثال هؤلاء بالذات، شيء عجيب! مرض عجيب! والجهلة الآخرون يُصدِّقون، يُصدِّقون! إذا سُب عالم كبير، قد يكون شيخا من شيوخ الإسلام، قد يكون شيخ الأزهر، مثل الشيخ شلتوت، إذا سُب بأمثال هذه العبارات، الذين أيضا يهرفون بما لا يعرفون، ولا يعرفون ما يسمعون، ولا يُميزون بين ما يسمعون، يُصدِّقون! يقولون لك نعم والله، كان من أعداء الإسلام، كان عالم سُلطان شلتوت. شيء عجيب! من البلاء الذي أُصيبنا به اليوم، هذا جُزء من البلاء.

والحل على فكرة، لو صدقنا، الحل في كتاب الله: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ *. لا تتشبع بما لم تُعط. إياك أن تجعل نفسا عالما، ولست بعالم! إياك أن تقضي بين العلماء، وأنت لا تعرف مبادئ العلم! احترم نفسك، واتق الله. وأنت مسؤول عن كل ما تفوه به.

لكن الأمة الآن لا تلوي على شيء، الكل يُحب أن يتكلم! الكل يُحب أن يكون له رأي، علمونا الرأي والرأي الآخر، ودمرونا ودمروا بلادنا، بالرأي الآخر! ولم نفهم لُعبة الرأي الآخر، إلى اليوم!

لم نفهم لُعبة الرأي الآخر، هذه لُعبة! نحن مع كل الحريات، مع تعزيز كل الحريات، لكن هذه لُعبة، ضُحك علينا؛ لأنه لا رأي لنا حقيقيا. ماذا لو كان لنا رأي حقيقي وفهم؟

والله من على هذا المنبر، قبل زُهاء عشرين سنة، لا أزال أذكر هذا جيدا، كنت أقول انتبهوا، هذه المنطقة، من بلاد الله، وهي العالم الإسلامي، وبالذات العالم العربي، هذه محل وموضع وموضوع، لخُطة جهنمية مُعلنة، من الستينيات! تُعرف باسم خُطة الأيدي النظيفة؛ الـ Clean hands.

وهي الخُطة التي وضعها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق إدوارد هيث Edward Heath، وهذه الخُطة استُحيت، وأنا علقت عليها، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. بعد أن غزا بوش الابن Bush Jr العالم الإسلامي، وفعل الأفاعيل – أيها الإخوة -، وحصل ما حصل، استدعيت أنا هذه الخُطة.

لماذا؟ لأن إدوارد هيث Edward Heath نفسه قال، قال أمريكا اليوم ترتكب حماقة كبيرة! معنى كلامه أنها ستُثير علينا العالم الإسلامي، ستُعيدنا إلى الصراعات المُرة مع العالم الإسلامي، وسنخسر، مصالحنا في بلادهم. قال على بوش Bush وعلى أمريكا والغرب، أن يستحيي خُطتي، التي وضعتها عام ألف وتسعمائة وواحد وستين، بعد الحرب العالمية بزُهاء خمس عشرة سنة.

قال خُطة الأيدي النظيفة! ما هي؟ تنسحب القوات الغربية، من بلاد المُسلمين، من بلاد العرب والمُسلمين، وتتركهم – انتبهوا، عودوا واقرأوا هذا بالإنجليزي وبالعربي -، وتتركهم لصراعات نُزكيها.

نحن الغربيين نُزكي هذه الصراعات! صراعات طائفية وإثنية وعرقية، مذهبية، دينية؛ هذا شيعي، هذا سُني، هذا كُردي، هذا عربي، هذا كذا، هذا كذا! واذبح! وما شاء الله، خُطة خب فيها وأوضع المشايخ والعلماء، من كل الأفراق، شيعة وسُنة.

ودائما كنا ضد هذا الخط، وما زلنا نُلعن؛ لأننا ضد هذا الخط! (صح النوم) يا أمة محمد، (صح النوم) يا أمة السياسة والفهم والمناهج! قال لك يفهمون في السياسة هم، وعندهم مناهج! دمرتمونا، ودمرتم بلادنا، ودمرتم كل شيء، واشتغلتم بأمانة عجيبة للمُستعمرين! وإلى الآن ما زلتم لا تفهمون، ولن تفهموا، إلا أن يشاء الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل!

خُطة مُشابهة فيما سُميَ بالحريق العربي. أنا أُسميه الحريق العربي. حتى الآن يدّعون أنهم لا يفهمون! ولن تفهموا، إلا أن يشاء الله. اتقوا الله في أنفسكم. سُبحان الله! صار فينا مثلٌ من الذين قال الله فيهم فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *.

تعرفون لماذا؟ لأنني وجدت أُناسا يُغرِّدون، على أساس هؤلاء أصحاب فكر وأصحاب رأي! ليس لهم علاقة بالفكر، على فكرة! ليس لهم علاقة بصناعة الفكر! أصحاب رأي، ورأي – بين قوسين – (خوّان أثيم). هذا الرأي المدفوع! يقول لك لا بأس أن يهلك مليون، ومليونان؛ ليعيش البقية!

طبعا المليون، والمليونان، ليسوا إخوته، وليسوا أهله، وليسوا أبناءه. هو يتمرأ بكم، يتمرأ بأهل البلد الفلانية العلانية، التي ليست بلده، يُريد أن يُحطِّمها، وقد فعل! ساهم في تحطيمها! يُريد أن يُدمِّرها، أن يُغرِقها في بحور وأنهار الدماء، وقد فعل! ولم يعتذر، وما زال يُغرِّد، ويتكلم بلُغة الملايين؛ ليمت الملايين! حسبنا الله ونعم الوكيل. ونحن أبناء دين، يهتم بالفرد الواحد، مهما كان!

يا جماعة، نحن أبناء دين، والله العظيم، العصفور حياته لها قيمة فيه! لماذا قلت لكم نحن ما فهمنا ديننا؟ ندّعي أننا فهمناه. ما فهمنا ديننا! البعض يصدر عن عصبية، عن غضب، عن حالة غضب، عن حالة حنق! وكلنا لدينا مصادر للغضب، أشياء كثيرة لا تُرضينا! لكن هذا ينبغي ألا يُفقِدنا حلمنا وعقلنا، أليس كذلك؟

ينبغي ألا يُفقِدنا فُرصة أن نستفيد من دروس المؤامرات، التي نُفِّذت – كما أقول دائما – كسكين في زبدة! متى نستفيد؟ متى نستيقظ؟ متى نرجع؟ طريق خاطئة، سلكنا فيها! نضع نُقطة، ثم نعود، ما العيب؟ لا! نُريد أن نُكمل عنادا! تعرفون لماذا؟

لأننا خسرنا ما خسرنا، الآن الخسارة مُنتظرة للآخرين؛ ليخسر الآخرون! تماما كما أشعر دائما، بل لست أشعر، هذا يُصرِّح به هؤلاء المجانين الخوّانون، هؤلاء خونة! يُصرِّحون بأنهم يتمنون أن يحصل في البلد الفلاني، ولنكن صريحين، مثلا في مصر، قلب العروبة والإسلام، أن يحصل فيها ما حصل في سوريا والعراق، ويدعون، ويستبشرون بذلك! حينئذ ستشفي غيظك؟ أن يموت مزيد من المُسلمين، مزيد من أهل الله! تُريد هذا؟ يُريد هذا! حسبنا الله ونعم الوكيل.

لكن؛ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ *. نسأل الله تبارك وتعالى أن يُفسد كل عمل فاسد، وأن يُخيّب فأل كل خوّان أثيم. كما قلت لكم هذا دين يحرص على حياة هرة، على حياة كلب – أعزكم الله -، على حياة عصفور.

ما من عصفور، إلا وله قيمة. النبي يقول العصفور يأتي يوم القيامة، يعج إلى الله تبارك وتعالى بدمه العبيط – عصفور، عصفور! ليس بشرا -، يقول يا رب سل فلانا فيم قتلني؟ لم يقتلني لمأكلة! يصيدني هكذا! اليوم البشر يُصادون!

وعن أبي هُريرة، في صحيح مُسلم، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا -، قال ليأتين على الناس – لم يقل حتى على أمتي، وهو يُريد أمته، أشفق منها! ليأتين على الناس – يومٌ، لا يدري القاتل في أي شيء قتل – لماذا تقتل أنت؟ يقول لك أتلقى أوامر! هناك أوامر، هناك حرب دائرة، هناك فتنة -، ولا يدري المقتول في أي شيء قُتل.

قال الصحابة كيف يا رسول الله؟ قالوا نحن لا نفهم! كيف يا رسول الله؟ قال الهرج. الهرج! ونحن الآن في الهرج. ما هو الهرج؟ الفتنة! اختلاط الأمور، اختلاط الآراء! اختلاط الأمور واختلاط الآراء!

ونرى جانبا من الصورة، ولا نرى الجوانب كلها. لا نرى جوانب التعاون مع المُستعمرين، التعاون! والاتفاقات التي خرجت بها الوثائق؛ وثائق المُستعمر نفسه، هذا إن كنا نقرأ، إن كانت أمة تقرأ. لا نقرأ ولا نفهم! الوثائق موجودة، وبأرقامها، وعلى ماذا تم الاتفاق.

وفي نهاية المطاف، معروف ما الذي يُريده المُستعمر! يُريد لك ديمقراطية؟ قسما بالله أنت واهم. يُريد لك حرية؟ بعزة الله أنت مُشتبِه. يُريد أن يُدمِّرك، يُريد أن يُمزِّقك، يا حبيبي، يا أخي، ويا أختي، افهم! افهم واتق الله في دينك وفي أمتك.

ولذلك، انتبهوا، أكثر من مرة، فيما ينبغي. انظر، هذا الذي ينبغي أن نتربى عليه، وأن نُربي أبناءنا عليه، أولادنا، بناتنا، عليه! ما هو؟ كما قلت لكم هذا الدين لا يُوجد أعظم منه في هذه الأبواب! لذلك هو دين أبي بكر وعُمر وعلي، وهؤلاء! الذي فتح العالم في تسعين سنة! دين عظيم، دين رجال أحرار.

هذا الدين يقول لك إن عطلت عقلك، وأجرته لغيرك، حتى إن كان قائدك أو سيدك، دخلت النار. لا إله إلا الله! نعم، ستدخل النار. لن يشفع لك أنك أخذت بالعمومات.

لا بُد أن أكون واضحا، ما هي العمومات؟ العمومات تقول أنا عبد مأمور، أنا جندي! أنا جندي أتلقى الأوامر. أليس كذلك؟ أتتني الأوامر بذبح الأبرياء، ذبح النساء، ذبح الركّع السجّد، فعلت! عبد مأمور! النبي أمرني أن أطيع الأمير، وقال مَن أطاع أميره، فقد أطاعني، ومَن أطاعني، فقد أطاع الله. أليس كذلك؟

لكن النبي نفسه – عليه الصلاة وأفضل السلام – علّمك: لا طاعة في معصية الله. إنما الطاعة في المعروف. ألم تقرأ حديث البُخاري ومُسلم، وطبعا رواه الترمذي والنسائي، حديث البُخاري ومُسلم في الصحيحين، عن الإمام علي – كرّم الله وجهه -، قال بعث رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – سرية، وأمّر عليها رجلا، وأمرهم أن يُطيعوه.

طبيعي! الأمير لا بُد أن يُطاع، له الطاعة، حق الطاعة! لكن ضمن ماذا؟ ضمن القاعدة المرعية المُتبعة؛ إنما الطاعة في المعروف. الطاعة ليست في المعصية، الطاعة لا تُبيح توقيف العقل، ولا تأجير العقل، ولا توقيف العقل.

على كل حال، حسنا، يقول الإمام علي فغضب. يبدو أن أحدهم أغضبه، فغضب! فقال لهم اجمعوا حطبا. فجمعوا. قال أوقدوا عليه النار. أي اشعلوه نارا، فأوقدوا فيه النار. قال ادخلوها. فهم بعضهم أن يدخلها! صحابة، وتعلموا أن يسمعوا كلام رسول الله، لكن هؤلاء الصحابة ليسوا من الذين فهموا الإسلام في عُمقه، ربما تأخر حتى إسلامهم.

وجعل بعضهم يُمسِك بعضا. لا، لا، لا تتدخل، لا تتدخل! يُمسِك بعضا. البعض يُريد أن يدخل، والبعض يُمسِكه. حتى خمدت! طفئت النار – بحمد الله -، وهدأ غضب الرجل؛ الأمير! انفثأت حدة غضبه.

فلما علم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بما وقع، قال – اسمعوا هذا جيدا، علِّموا أبناءكم هذا – والذي نفسي بيده، لو دخلوها، لم يخرجوا منها، إلى يوم القيامة.

يا رسول الله، ألست الذي أمرتنا أن نُطيع الأمير؟ قال إنما الطاعة في المعروف. لا طاعة في معصية الله. يأتيك: اذهب، فجِّر المسجد. لا أُفجِّر المسجد، وBye bye للجماعة والحزب والتنظيم، في ستين داهية.

اذهب، اقتل هذا. أقتل ماذا؟ أقتل ماذا؟ عالم على منبره، رجل حافظ لكتاب الله. اقتل؛ لأنه ضدنا. هذا لا يحمل سلاحا، كيف يُقتل؟ مُسلم مُوحِّد! قال لك اقتل. لا أقتل، وفي ستين داهية التنظيم. حتى لو قُتلت، تُقتل شهيدا. لا! يقتلون، ويذبحون! ليس عندهم مُشكلة! ولذلك هؤلاء الآن هكذا.

وربما أُتم الخُطبة الأولى بحديث، من أجمل الأحاديث! واقتبسته أيضا، مرات على هذا المنبر. أسأل الله أن يُعينني على تذكره بطوله. وسأذكره بطوله؛ لأن فيه فوائد. حديث عظيم! وموضع الشاهد منه – والله – من أعظم ما يكون! لا يقل عظمة عن حديث الشيخين.

وهو حديث أخرجه الإمام مُسلم في صحيحه، من حديث عياض بن حمار المُجاشعي – رضيَ الله عنه وأرضاه -، قال قام رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – مرة فينا خطيبا – بمعنى خطب الرسول فيهم مرة -.

فقال في خُطبته إن الله تبارك وتعالى أمرني أن أُعلِّمكم مما علَّمني يومي هذا. قال يُوجد عندي علوم، فتوح إلهية، أرزاق غيبية، أنا مأمور أن أُعلِّمكم. هيا يا رسول الله، يا أحسن المُعلِّمين، يا أفضل المُربين، يا أعظم الهُداة المُهتدين – صلوات ربي وتسليماته عليه -.

تتحدَّثون عن السُنة والمُتابعة؟ هذه السُنة والمُتابعة! أن تفقه حقيقة عُمق دينه، عُمق سُنته، عُمق تعاليمه.

قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – كل مال نحلته عبدا، فهو حلال. أي حلال له. الله يقول عز وجل! علّم النبي هذا، والنبي يُعلِّمنا. كل مال نحلته عبدا، فهو له حلال.

ثانيا؛ وإني خلقت عبادي حُنفاء كلهم. على الفطرة! كل مولود، يُولد على الفطرة. فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ *. وإني خلقت عبادي حُنفاء كلهم. ثم إن الشياطين اجتالتهم عن دينهم.

ما معنى اجتالتهم؟ اختدعتهم. اجتال الرجل الشيء: ذهب به. اجتال المال: أخذه وذهب به. بمعنى خدعتهم عن دينهم، حتى ذهبوا معها؛ مع الشياطين. صارت مسالكهم مسالك شيطانية! ممشاه ومسعاه، في مصبحه وممساه، كلها ماذا؟ شيطانية! هذا معنى اجتالتهم، تعبير عجيب!

ثم إن الشياطين اجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يُشرِكوا بي. وإن الله نظر الله إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم… الله! بمعنى تأتي أحوال كهذه على البشرية، في لحظات مُعينة. اللهم لا تجعلنا في مثل هذه الحالة. نحن الآن على أعتاب حرب عالمية، أليس كذلك؟ أنت ترى هكذا! على أعتاب حرب عالمية.

ظل المُسلمون عبر مئة سنة: بعون الله أُستاذية العالم، بعون الله العالمية الإسلامية الثانية، بعون الله نهدي العالم، نقود العالم! لم أقتنع بهذا يوما. تقود العالم بماذا؟ أنت لا تستطيع أن تقود مسجدا، أنت لا تستطيع أن تُدير خلافك مع أخيك في الله عز وجل! خلاف بسيط! انتهاك أعراض، وانتهاك ذمم وعصم ودماء! وتُريد أُستاذية؟ على ماذا؟ طوال عمري ما اقتنعت بهذا، وكنت أعلم – والله العظيم – أننا من بوار إلى بوار، حتى نُراجع أمر ربنا.

قال لك تنتهي القوى الغربية! لا، يا حبيبي. يبدو أن العالم الآن، كل العالم، على وشك الانتهاء، ونحن الأوضع والأذل في هذا العالم. ليس عندنا ذري، ولا نووي، ولا هيدروجيني، ليس عندنا شيء!

نحن سوف نكون محرقة، لا قدر الله، ونسأل الله أن يرفع البلاء هذا عن البشرية جمعاء، اللهم آمين، لكن هناك مكر رهيب، وهناك جنون مُنفلت الآن، هناك شيء أشبه بالجنون يُحيط بنا، الإنسان غير مُتفائل!

أرأيت كيف؟ على كل حال، حسنا، وأمرتهم أن يُشرِكوا بي. وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم – كرههم أشد الكره! الله كره البشرية – عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب. مَن هم هؤلاء؟ الرُهبان، العُبّاد، المُنقطعين عن فساد الأرض، عن هيمان وسدور أهل الأرض، يبتغون رضوان الله وحُسن جزائه، لا إله إلا هو!

ولذلك، على فكرة، في هذا المعنى، في صحيح مُسلم أيضا، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – عبادة، أو العبادة، في الهرج، كهجرة إلي. حينما يكون هرج وفتن، اعتزل، وكُن في بيتك، واشتغل بالعبادة والذكر، أحسن لك، أحسن لك! لأنه لن ينفع! ستكون إما قاتلا، وإما مقتولا. كُن كذلك، اشتغل بالعبادة؛ لكي تكون مِمَن لم يمقتهم الله. وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم – كرههم أشد الكُره – عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب.

وبعد ذلك؟ وإن الله تبارك وتعالى قال لي بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك. يقول لمحمد – صلوات ربي وتسليماته على محمد وآله – بعثتك لأبتليك؛ أنت ستُبتلى أيضا، ونرى كيف تقوم بحق الله؟ تقوم بحق الرسالة وافيا تاما كاملا، أم تُقصِّر – وحاشاه -؟ وهو النبي! داخل في امتحان!

نحن اليوم لسنا داخلين في امتحان! لماذا؟ لأننا أتباع محمد! بعض الناس، ليس لأنه من أتباع محمد، لأنه من أتباع الجماعة الفلانية، هو ليس داخلا في امتحان، هو على حق مُطلق، وأموره مُمتازة! جنون، حالة عُجب وغرور رهيبة!

النبي نفسه خاضع للابتلاء، ما رأيكم؟ اللهم علِّمنا ديننا، يا رب! اللهم أقدرنا على أن يكون لدينا بعض الصدق والإخلاص؛ حتى نفهم هذا الدين، ونعمل بما يُرضيك. نقِّنا من العُجب والغرور والانتفاخ.

قال له لأبتليك، وأبتلي بك. وأنزلت عليك كتابا، لا يغسله الماء، تقرأه نائما ويقظان. تقرأه نائما ويقظان! طبعا ممنوعة من الصرف يقظان، تقرأه نائما ويقظان. لماذا لا يغسله الماء؟ لأنه محفوظ في الصدور، وليس في السطور، وهيأ الله له الحملة. ولذلك الله تكفَّل بحفظه، لا إله إلا هو!

وإن الله تبارك وتعالى أمرني أن أُحرِّق قريشا، فقلت يا رب، إذن يثلغوا رأسي. يشدخوه! إذن يثلغوا رأسي، فيدعوه خُبزا! قال استخرجهم، كما أخرجوك. واغزهم، نُغزك – وفي رواية نُعنك -. وابعث جيشا، نبعث خمسا مثله. وأنفق، فسيُنفق عليك. وقاتل بمَن أطاعك مَن عصاك. الله!

قال له هذا هو! هذه دورتك يا حبيبنا، هذه دورتك وهذه مُهمتك. حسنا! ثم قال الآتي، حديث عجيب! حين تسمع الأحاديث، تشعر – سُبحان الله – ببعض الأحاديث، وتقول فعلا هذه عليها مسحة النبوة، طلاوة النبوة!

ثم قال وأهل الجنة ثلاثة. اللهم اجعلنا منهم. سيختم الحديث بذكر أهل الجنة، اللهم اجعلنا منهم، وذكر أهل النار، اللهم حاشنا عنهم، وباعد بيننا وبينها كما باعدت بين السماء والأرض، يا رب العالمين.

وأهل الجنة ثلاثة؛ ذو سُلطان مُقسِط، مُتصدِّق، مُوفَّق. رجل الله أعطاه سُلطانا، أي سُلطان، مهما كان! عظم أو ضؤل، فهو مُقسِط، وليس قاسطا! القاسط هو الظالم، المُقسِط هو ذا الذي رفع القسط، أي رفع الظُلم، من أقسط! لكن قسط: ظلم، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا *، قسط: ظلم. أقسط: رفع القسط. فهو إذن عادل!

حسنا، قال ذو سُلطان مُقسِط، مُتصدِّق، مُوفَّق. هذا من أهل الجنة، هنيئا لمَن كان علي هذا الوصف. اثنان: ورجل رحيم، رقيق القلب، على كل ذي قُربى ومُسلم. لا إله إلا الله! الرحمة؟ قال لك الرحمة. النبي ذكر ثلاثة أصناف، ثلاثة أصناف في هذا السياق، الصنف الثاني الرحمة! الذين ينطوون على رقة ورحمة، على كل ذي قُربى ومُسلم. عندهم رحمة، من أهل الجنة. اللهم اجعلنا منهم.

وأخيرا: عفيفٌ، مُتعفِّف، ذو عيال. رجل عنده عيال، مُعيل، بمعنى وضعه المادي (مش ولا بُد) كما نقول، لكنه عفيف، مُتعفِّف. هذا دين العزة والكرامة، يُحِب الأعفاء، المُتعفِّفين. يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ *.

إذن هؤلاء أهل الجنة. اللهم اجعلنا منهم.

وأهل النار خمسة. الشاهد في أولهم، أنا إنما أتيت بهذا الحديث المُبارك الطويل، من أجله. ولو لم يكن في الخُطبة – والله – كلها، إلا أننا سمعناه، والله يكفي، مع الآيات، والله يكفي! يكفي أن أُسرده، ثم أنزل، أُصلي بكم، هذا يكفي، خُطبة مُمتازة! حديث رسول الله هذا، حديث عظيم! وكله حكمة ونور وهُدى، وعليه من أنوار النبوة ما لا يخفى على ذي بصر.

قال وأهل النار خمسة. أولهم: الضعيف – رجل (غلبان) مسكين ضعيف – الذي لا زبر له. ضعيف! الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعا، لا يَتْبعون، أو لا يَتَّبعون، أو لا يَبْتغون – ثلاثة وجوه للمُحدِّثين في ضبطها: لا يَتْبعون، لا يَتَّبعون (التخفيف، التشديد)، لا يَبْتغون – مالا ولا ولدا.

هذا مُذهل! هذا مُذهل! هذا صدمني، هذا! هذا الجُزء من الحديث صدمني قبل سنوات، شرحته أكثر من مرة! عمَن يتحدَّث مولانا وسيدنا – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟ يتحدَّث عن الآن الذين هم وقود المعارك، ووقود الإرهاب.

أُناس بُسطاء مساكين (غلابة)، يُريدون الجنة، يُريدون الحور العين، يُريدون رضاء الله، لكنهم أدوات! مثل سكينة، مثل سوط، مثل قنبلة، تُفجِّرها أين شئت! تقول له فجِّر نفسك. يُفجِّر نفسه! اذبح. يذبح! اقتل. يقتل! النبي قال هؤلاء أهل النار. أول واحد من أهل النار هم هؤلاء. الله!

كما قلت لكم الصلة بيننا وبين عمر وأبي بكر وهؤلاء جد واهية، كانوا رجالا بعقول تامة. نحن اليوم حظنا من العقل قليل جدا، منزور يا إخواني! اجتيفت عقولنا ووعينا! قال ماذا؟ لأنه قال الله، قال الرسول، قال ابن تيمية، هيا! اذبح، على المذبحة، على القتل!

والله لو تقرأون تنظيرات هؤلاء الإرهابيين والقتلة، أُقسِم بالله تقشعر منها الأبدان؛ لأنها في غاية الغباء والبلادة! ثم يُقال لك مُفكِّر ومُنظِّر! غباء، بالله العظيم، وأنا أعرف ماذا أقول، غباء، علميا غباء!

النبي قال رقم واحد من أهل النار هم هؤلاء. الشخص الأداة، الشخص الأداة! الشخص الروبوت، الذي فقط يتلقى الأمر، ثم يُنفِّذ. النبي قال أهل النار، ورقم واحد هؤلاء.

الضعيف الذي لا زبر له. ما معنى لا زبر له؟ أي لا عقل يزبره. ما معنى يزبره؟ يردعه. ليس عنده عقل يردعه، عن الغلط والحرام والعيب، حتى وإذا قيل له. وعلى فكرة، ولا يُريد! لا يُريد ماذا؟ لا يسأل عن مال، ولا يسأل عن أهل!

هو فقط يُريد أن يُلبي التوقعات منه! أنا مُجاهِد، أنا مُقاتِل، أنا شُجاع، أنا أُدافِع عن ديني، هلم، هيا، حوِّلوني إلى قنبلة، حوِّلوني إلي لعنة! لا تُوجد مُشكلة عنده. النبي قال له مرحبا، في جهنم، من أقصر طريق.

واجعل مشايخك هؤلاء، الذين الله أعلم ما هم ومَن وراءهم، اجعلهم ينفعونك عند الله. لن ينفعك! إياك أن تظن أنهم سيشفعون فيك! هذا الدين، كما قلت لكم! لا شفاعة لمَن ألغى عقله. يا رجل أنت غير مُكلف بالإيمان، إلا بالعقل، افهم! بمعنى لو أُخذ منك عقلك، لا تُكلَّف بالإيمان! لا تصيرا كافرا، ولا مؤمنا، على الجنة هكذا؛ لأن لا يُوجد عقل، واضح؟ إياك أن تُلغي عقلك.

واحد إذن! اثنان: الخائن. نعوذ بالله من الخيانة، من كل أنواع الخيانة وتنويعاتها. الخائن، الذي لا يخفى له طمعٌ، وإن دق، إلا خانه. الله! كيف لا يخفى؟ كيف لا يخفى له طمع؟ بمعنى لا يظهر.

أي شيء فيه طمع، أهلا وسهلا! بمعنى يقدر على أن يسرق من المسجد مئة يورو؟ يأخذها! خمسة يورو؟ يأخذها! وقع منك شيء؟ يأخذه ويظل ماشيا! لا إله إلا الله! ما هذا؟ قال هذا خوّان.

الخائن، الذي لا يخفى له طمعٌ، وإن دق، إلا خانه. انظروا الثالث – والعياذ بالله -. يا أخي ما المُعلِّم هذا؟ ما هذا المُعلِّم – صلوات ربي وتسليماته عليه -؟ قسما بالله يُذهِلني رسول الله! دائما نذهل، ولا نستطيع إلا أن نذهل! لا إله إلا الله!

من أين؟ من أين أتيت يا سيد العالمين بكل هذا؟ أدبني ربي، فأحسن تأديبي. وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا *. يفهم هذا الفضل، مَن فهم هذه السُنة المُحمَّدية، بالطريقة الصحيحة.

حسنا، قال ماذا؟ الثالث: ورجلٌ لا يُصبِح ولا يُمسي، إلا وهو يُخادِعك عن أهلك ومالك. لا إله إلا الله! مُجرِم، يأتيك من جهات؛ عن اليمين يأتيك، وعن الشمال، ومن الأمام، ومن الخلف، مرة بداعي القرابة، مرة بداعي المودة، المحبة، الدين، المُساعدة، المُساندة، إلى ما لا تعرف! وهو عينه على زوجتك، عينه على ابنتك، عينه على أُختك – والعياذ بالله -.

ما البلاء هذا؟ ما اللعين هذا؟ النبي قال هذه الفئة الثالثة من أهل جهنم. دعه يذهب ليشبع صلاة وحجا وعُمرة، من أهل جهنم. المُخادِع! المؤمن الحق لا يكون مُخادِعا، أُقسم بالله. يا جماعة، يا جماعة انظروا رسول الله، والحديث في الصحيح.

الحديث في صحيح مُسلم: حُذيفة بن اليمان انطلق مع أبيه… والله نسيت اسمه، كأنه حُسيل! أبوه اسمه حُسيل – على ما أذكر، إن شاء الله لا أكون غلطت -. انطلق مع حُسيل، وهو أبوه، انطلق من مكة إلى المدينة، يُريد أن يلتحق برسول الله، قُبيل بدر.

سمع، قال لك نلتحق. فوجده الكفار في الطريق، قال آه. قالوا له تذهب إلى محمد؟ تُريد أن تنصره؟ قال لا، ما أُريد إلا المدينة، ما أُريد أن أُقاتِل معه. قالوا تُعطينا عهدك؟ تُعاهدنا بالله أنك لا تفعل؟ قال لهم أُعطيكم العهد. كان يُمكن أن يقتلوه!

فلما أتى النبي قص عليه؛ يا رسول الله حدث كذا، كذا، كذا! قال اعتزلنا، ولا تُقاتِل معنا، فِ لهم بعهدهم، ونستعين بالله عليهم. اقشعر بدني، أُقسم بالله! أين الخداع والكذب اليوم؟ نُظهر أنفسنا مُسالِمين طيبين، حتى إذا أمكنتنا فُرصة، قفزنا على مَن عاهدناهم وأعطيناهم الأمان! وتُريد أن الله ينصرنا؟ لا، والله العظيم، لن ينصرنا! والله العظيم، لن ينصركم!

يا جماعة اتقوا الله، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ *. هذا الدين دين أخلاقي، هذا الدين دين راق، أرقى بكثير مما أردنا أن نفهمه، وأن نُطوِّعه له. قال فِ لهم يا حُذيفة بعهدهم، ونستعين بالله عليهم. الله الذي ينصرنا – إن شاء الله -. والحديث في الصحيح، وهذا الذي حدث.

إذن رجل مُخادِع – والعياذ بالله -، لا يُصبِح ولا يُمسي، إلا وهو يُخادِعك عن أهلك ومالك. ارتفع الدولار، نشتري لك يورو؟ ارتفع اليورو، نُحضر لك كذا؟ نُحضر لك ذهبا؟ نُحضر لك بيتكوين؟ أعطني، عندي تجارة!

وهو يُريد ماذا؟ أن يتغول مالك. تبا! تبا لكل مُخادِع، خوّان، أثيم! قال لك هذا من أهل النار. لا يُريد النصيحة، يُريد فقط أن يتغول أي شيء، من عِرضك أو من مالك. اللهم باعد بيننا وبين هؤلاء، اللهم نجِّنا منهم ومن مكرهم ومن اختداعاتهم.

ثم ذكر الكذب، أو البُخل. يقول الراوي! الراوي شك، قال لا أدري، الخصلة الرابعة، الفئة الرابعة، من فئات الجهنميين – نعوذ بالله منهم ومن مصيرهم -، قال إما الكذب، وإما البُخل.

والخامسة؟ الشنظير. نعوذ بالله من الشنظرة. ما الشنظير؟ الشنظير هو الفاحش. المُسلم لا يكون فاحشا. اليوم – ما شاء الله – عندك مُسلمون هكذا، ويدّعون أنهم أصحاب قضية!

هناك قيادي إسلامي كبير، قيادي! عاش خمسين، بل ستين سنة، في جماعته، ثم تركها الرجل، بعد ستين سنة. أدرك أنه كان يسير في طريق خاطئة. حُر يا أخي، ترك الإسلام هو؟ مُسلم، مُسلم طيب. سبوه في أمه! رأيته في التلفزيون Television يبكي! والله بكيت عليه، أُقسم بالله!

قال هذه هي التربية؟ قال هذا هو العمل الإسلامي؟ هذا هو؟ لكن جميل! درسٌ له، ودرسٌ لنا! هؤلاء قالوا طالبين التمكين! إذا نوَّر الملح – كما يُقال -، إذا شاب الغراب – إن شاء الله -! إذا شاب الغراب، تتمكنون. اللهم لا تُمكِّن لهؤلاء، ولا لأمثالهم.

لأنهم هكذا! وعلى فكرة، هذا من لُطف الله. الله يرحمك يا شيخ محمد الغزّالي – وأختم بهذا -، شيخ الدُعاة! الشيخ الطيب المُبارك محمد الغزّالي، قل أمثاله – رضوان الله عليه، في عليين، إن شاء الله -.

محمد الغزّالي كان في الجزائر، وفي مؤتمر كبير، حضره عشرات العلماء! تكلم، تكلم وكان مألوما، ثم قال الحمد لله، الحمد لله أن الله تبارك وتعالى لم يُمكِّن للإسلاميين.

للإسلاميين! يقول الحمد لله أن الله لم يُمكِّن لهم. فضحك العلماء، وكذا، كذا! ثم بكى، الشيخ الغزّالي! وقال بألم (ليه كدا؟ ليه تظلموا الإسلام كدا؟ ليه الإسلام دين نظيف في أمة وسخة؟) وهو يعلم ماذا يقول! (ليه الإسلام دين نظيف في أمة وسخة؟)

يسب الدُعاة، ويسب علماء كبارا، وأناس أفنوا حياتهم في سبيل ما ظنوه حقا، مساكين، في أمهاتهم! وقال يُريد أن يتمكَّن. سوف تتمكَّن، أنا أُبشِّرك، إذا شاب الغراب، وإذا نوَّر الملح.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

(الخطبة الثانية) 

الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.

إخوتي/

حديثان أسردهما عليكم؛ لكي أُنير بهما زاوية جديدة، لم نعتد أن نُكلَّم فيها، ولا أن نُوعَظ، من خلالها! ما هي؟  

انظروا يا أحبتي؛ إخوتي وأخواتي، مثل هذا التجمع، والله العظيم، لن أوفق فيه كما ينبغي، ولن توفقوا فيه كما ينبغي، بمعنى إن كان في كلامي للفائدة، لن تقتطفوا هذه الفائدة كما يجب، ما دام يُوجد بينكم مَن نيته غير صالحة. أنا كذلك، وأنا أولى منكم، إذا كان نيتي في كلامي غير صالحة، لن أوفق، لن يُجري الله على لساني، من روحي، ممزوجة بنفسي، ما يُمكن أن ينتفع به بعضكم؛ لأن هناك خبثا! خبثا لدي، أو خبثا لدى بعضكم.

هذا لم نتعلَّمه على فكرة. سوف تقول لي هذه مُصيبة عظيمة! وعلى فكرة، هذه أحد أسباب الهزائم أيضا. وسأسوق لكم حديثين عجيبين غريبين جدا جدا!

لم نُحدَّث، ولم نتعوَّد أن نُحدَّث، عن أن الفتوحات الغيبية، الأرزاق العلوية المعنوية – وهي أهم ما يُمكن أن يُرزق به المؤمن والمؤمنة، أليس كذلك؟ ليس الأرزاق المادية، لا، لا، لا! الأرزاق الغيبية، العلوية، الربانية، من جنس ما يؤتى الأنبياء والرُسل والصدّيقون والصُلحاء والعُرفاء. اللهم اسلك بنا مسالكهم وسُبلهم -، هذه يُحرمها المرء – والعياذ بالله -، بماذا؟ بالخبث الذي يكون في النفس، بالنوايا والقصود غير البارءة، غير الطاهرة.

الحديث في صحيح مُسلم، عن عُبادة بن الصامت – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال خرج رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، في رمضان – ذات ليلة في رمضان -، خرج ليُخبِرنا بليلة القدر.

قال الحفّاظ أي بتعيينها. يقول لهم ليلة القدر هي ليلة كذا وكذا. الظاهر في الكلام أن ذلك مُمكن تلك السنة، أو ممكن على الدوام، لا ندري، لا ندري!

فتلاحى اثنان. أبو الخطاب بن دحية، العلّامة الحنبلي الكبير – رحمة الله عليه -، وله كُتب تفنن فيها جدا، في رسول الله وما يتعلق برسول الله، نعم! وشخصيته العظيمة! قال هما اثنان؛ هما كعب بن مالك، وابن أبي حدرد. الله أعلم! لم يذكر مُستنده في ذلك، لا يهمنا. المُهم، تلاحى اثنان من الصحابة.

ما معنى تلاحى؟ المُلاحاة هي المُنازعة والمُخاصمة. لا، أنت. لا، أنا. هذا حقي. لا، ليس حقك، وكذا. كلام! فتلاحا اثنان، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – كنت خرجت لأُخبِركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فارتفعت.

ذهبت ليلة القدر، لا تُوجد ليلة قدر، انتهت ليلة القدر الآن! هذا العام، أو إذا أراد تعيينها؛ من كل عام! نسيَ النبي، بشؤم المُلاحاة نسيَ! الله أخذ هذا من قلبه، من حافظته، لم يعرف! أين؟ ماذا قيل لي؟ ماذا؟ لا يعرف. قال وعسى أن يكون خيرا، فالتمسوها في التاسع والسابع والخامس – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

والحديث الأخير، الذي أسوقه إليكم، ويا له من حديث! حديث رواه الإمام أحمد في مُسنده، عن أحد أصحاب رسول الله. هكذا قال الراوي عنه؛ عن رجل. وجهالة الصحابي لا تضر؛ لأن الصحابة كلهم عدول. القاعدة! جهالة الصحابي لا تضر.

عن رجل، من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – صلى بهم الفجر – ركعتي الفجر، أي الصبح – بالروم – بسورة الروم -، فالتُبس عليه.

ما معنى التُبس عليه؟ القرآن! التبس عليه القرآن. يقرأ، يغلط، ينسى آية، يُدخل آية في آية، وعلى قلبه أُنزل! لا إله إلا الله! ما الالتباس هذا؟ فالتُبس عليه.

يقول الصحابي فلما صلى – أي فرغ، أو انصرف من صلاته، هذا معنى صلى، بمعنى أنهى الصلاة! فلما صلى، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين -، قال مَن الذين، أو مَن الذي، أتى الصلاة، ولم يتطهر؟ أولئك الذين يلبسون علينا قرآننا، أو قال صلاتنا. يلبسون علينا صلاتنا! فمَن أتى الصلاة، فليُحسِن الطهور.

لا إله إلا الله! ألهذه الدرجة يُوجد تراسل وتواصل وتفاعل وتآثر، بين نفسية الإمام والمأمومين؟ حتى لو كان الإمام النبي، كما لفت إليه العلّامة مُلا علي القاري، الحنفي – رحمة الله عليه -، في القرن الحادي عشر – في أوله – الهجري.

قال حتى لو كان هذا الإمام هو رسول الله! أعظم القلوب، بحر، مُحيط، مُحيطات، كون! مع ذلك تأثر، تأثر مُحيط الرحمات، مُحيط الطهارات تأثر، برجل من أصحابه، لم يُحسِن الطهارة! كيف برجل أحسن الطهارة الظاهرية، وجاء وقلبه كله مُلوَّث؟ هو جالس ويدعو على الإمام! يدعو على القارئ، يدعو على الخطيب؛ الله لا يوفقه، إن شاء الله يغلط، إن شاء الله ينسى! لماذا؟ لأنه حسد وحقد، أو خلافات حزبية وسياسية! حسبنا الله ونعم الوكيل.

اللهم أصلِحنا بما أصلحت به عبادك الصالحين. اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علما وفقها ورشدا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أغننا بالافتقار إليك، ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك. نسألك حُبك، وحُب مَن أحبك، وحُب العمل الذي يُقرِّبنا إلى حُبك. اللهم ما رزقتنا مما نُحب، فاجعله قوة لنا فيما تُحب، وما زويت عنا اللهم مما نُحب، فاجعله فراغا لنا فيما تُحب، واجعل حُبك أحب إلينا من أنفسنا وأولادنا وأهلينا وأموالنا وكل ما خولتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغارا، اجزهم بالحسنات إحسانا، وبالسيئات مغفرة ورضوانا. واغفر اللهم للمُسلمين والمُسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ *. اللهم لا ترفع يدك عنا، اللهم لا ترفع يدك عنا، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك. اللهم إنك إن تكلنا إلى أنفسنا، تكلنا إلى ضعف وعورة وعوزة وحاجة، وإنا لا نثق إلا برحمتك. لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين، نستغفرك ونتوب إليك.

عباد الله/

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْق ُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *، وأقم الصلاة.

(14/10/2022)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: