نموذج التكامل – لاهوت الطبيعة والتوليف النظامي – العلم والدين – الحلقة 11

video

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.

إخوتي وأخواتي/

انتهيت في الحلقة السابقة عند الكلام عن بعض خصائص ما أسماه إيان بربور Ian Barbour النُسخة أو الإصدار الأول من نموذج التكامل بين العلم والدين، وهي النُسخة المُتعلقة باللاهوت الطبيعي. وقلنا إن مُنطلق اللاهوت الطبيعي هو العلم، وليس النص الديني أو الكتابي.

الآن أفضى الحديث إلى النُسخة أو الإصدار الثاني من التكامل، الذي هو لاهوت الطبيعة Theology of nature، ليس اللاهوت الطبيعي، لاهوت الطبيعة! على عكس اللاهوت الطبيعي نُقطة انطلاق لاهوت الطبيعة هي الخبرة الدينية، عبر العصور، لدى المُتدينين، وخاصة طبعا الكبار منهم، المشاهير، المرجعيات! والنص الديني، أو الوحي الإلهي، على عكس اللاهوت الطبيعي، نُقطة انطلاقه العلم، كما قلنا. لاهوت الطبيعة ينطلق من الوحي الإلهي، ومن الخبرات الدينية للمُتدينين.

ماذا يُريد، ماذا يروم، في ماذا يطمع لاهوت الطبيعة؟ باختصار – مُهم جدا أن نفهم هذه العناوين وخلاصات البحث فيها – لاهوت الطبيعة يطمح إلى إعادة فهمنا، على الأقل إن لم يكن لكل، لكن لمناطق ونُطق وموضوعات، في اللاهوت النظامي، الذي هو لاهوت الوحي، اللاهوت الوحياني، أي ال Revealed! وفق ما انتهى إليه العلم. 

ستقول لي العلم أم الفلسفة؟ العلم؛ لأن الكلام كله عن علاقة العلم بالدين، ليس الدين بالفلسفة! الكلام كله عن الموضوع هذا، وليس عن موضوع الحقائق الدينية من كل الجوانب، لا! فقط من هذه الجنبة، من جهة علاقة الدين بالعلم والعلم بالدين، انتبه! حتى لا تخلط، أي ليس موضوع بحث علمي مفتوحا، لا! بحث مُحدد.

الذي يرومه ويطمح إليه لاهوت الطبيعة أن نُعيد فهمنا للاهوتنا النظامي المُتمثل في فهمنا للوحي الإلهي، للنص الكتابي، ولخبرات المُتدينين! للخبرات الدينية الشخصية، خاصة الاستثنائي منها طبعا، والذي ترك بصمة واضحة وعميقة في تاريخ اللاهوت وتاريخ الدين، وفق ما انتهى إليه العلم. 

ستقول لي هذا مسعى مفتوح؟ بلا شك مسعى مفتوح! لأن العلم مسعى مُستمر. معناها لاهوت الطبيعة اليوم لن يكون كلاهوت الطبيعة بعد أربعين أو خمسين أو حتى ربما عشرين سنة؟ أكيد، أكيد! ستحدث اختلافات كثيرة! 

لو وُجد لاهوت للطبيعة في القرن التاسع عشر، حتما سيندهش هذا اللاهوت من لاهوت مطلع القرن العشرين، أو النصف الأول، بعد فيزياء الكم! لاهوت مُختلف تماما. 

ستقول لي نعم، بدأت أفهم الآن! هو هذا، بدأت تضح الصورة. بحسب استيعابنا لنتائج ومُعطيات العلم الحديث والمُعاصر، تختلف تصوراتنا لطبيعة العلاقة بين الله وبيننا، وبين الله وبين الطبيعة أو العالم المخلوق، وبيننا وبين الطبيعة أو العالم المخلوق، تختلف! أكيد تختلف!

لذلك قلت لكم لو أتينا برجل اشتغل في هذا المبحث، في أواخر القرن التاسع عشر، وقارناه أو قارنا خلاصاته وما انتهى إليه، بما يُمكن أن ينتهي إليه رجل آخر، يشتغل في المجال ذاته، لكن من أهالي النصف الثاني من القرن العشرين، لوجدنا فارقا كبيرا جدا! 

ما أدراني أن الذي أوحى إلي قبل ثلاثين سنة، حين كنت أخطب في مسجد الهداية – وهذا بداية مقدمي، أي في أول سنواتي، في النمسا -، أن الذي أوحى لي أو أغراني بفكرة المحو والإثبات ليس الآية بحد ذاتها، على أنها مُصرحة به؟

الآية مُصرحة! يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ *، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ *، في آخر الرعد، الآية واضحة! والنصوص حاضرة! لكن لا الآية، ولا الآيات أيضا! ليس آية الرعد! 

أنا الآن أُعطيكم نموذجا واضحا مُجسدا، من حقلنا الإسلامي، على لاهوت الطبيعة! كيف سنُعيد فهمنا لبعض العقائد، بعض اللاهوتيات، الخاصة بنا، في ضوء العلم الحديث؟ هو هذا! غير موضوع إثبات وجود الله، استنادا إلى مُعطيات علمية، هذاك اللاهوت الطبيعي، لا! هذا موضوع ثان! 

ستقول لي هذا مسعى أوسع؟ طبعا! هذا مسعى أوسع، وأصعب، وأكثر تعقيدا واشتباكا، وسيكون فيه طبعا مواطن للاختلاف والإنكار حساسة جدا، أي ستكون Very very critical، أكيد! ليس عند المسلمين، وعند المسيحيين، وعند اليهود، خاصة في هذه النُسخ التوحيدية الثلاثة من الدين الإسلامي؛ لأن الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ *.

فهناك آيات أُخرى! هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ *، تتحدث عن أجلين الآية! وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ۚ *، واضحة! و: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ *، واضحة وإن تأولوها! واضحة وإن تأولوها على طريقة عندي درهم ونصفه! وهو درهم واحد! لا، هذه الطريقة لا تُساعد عليها القراءة النظامية للآيات كلها!

فضلا عن الأحاديث المُصرِّحة باختلاف الأعمار والآجال، زيادة ونقصا، وهي مُصرِّحة، وهي في الصحاح! فضلا عن بعض الأمثال التي ضربها الرسول، وهي أكثر تصريحا من مُجرد تقرير ديني، أو Statement هكذا! لا يزيد في العمر إلا كذا: هذا Statement، لكن رأيت ملك الموت، جاء إلى شاب؛ ليقبض روحه، فجاءه بره بوالديه، فأخّر عنه ملك الموت: واضح، واضح! النبي يُريد أن يُثبّت هذه العقيدة لدينا. 

الأمة لم تلتفت إلى هذا، ولم تُبال به، فيما عدا السادة الماتريدية، ولم تجد هذا كثيرا، حين تحدثوا عن القضاء المُعلّق والقضاء المُبرم! تحدثوا عن أقضية مُعلّقة، مُعلّقة! إن حصل كذا، يحصل كذا. إن لم يحصل، فلن يحصل. عجيب! هذا في الفهم اللاهوتي البسيط والخطي غير مقبول، وغير مُستوعب أصلا! كيف هو مُعلّق؟ 

أنت تتحدث عن قضاء! إذا كنت تتحدث عن قضاء وسبق تقدير للأشياء، فالأشياء كلها حاضرة في علم الله، وواضح كل شيء! لا يُوجد شيء سيتوقف! يتوقف على ماذا؟ هذا إن ساغ أن ينطبق على علم الإنسان، وعلى تقدير الإنسان، فلا يسوغ أن ينطبق على ماذا؟ على تقدير الله! هذا سيُفكر العقل اللاهوتي الخطي الواحدي البسيط! مع أن النص واضح!

النص يتحدى هذه البداهة الدينية، أو التي أصبحت بداهة دينية! أصبحت بداهة دينية! وطبعا هي ليست بداهة أصلانية، بل بداهة ناهضة على أُسس تم الاعتقاد أنها أُسس نهائية! فيما يتعلق بماذا؟ بعلم الله تبارك وتعالى، وإحاطته بالأشياء، وتقديره من ثم للأشياء، وكتبه ذلك، إلى آخره! 

ولذلك تم التواصي تقريبا بعدم إثارة هذا الموضوع، فيما خلا رسائل بسيطة، كتبها مرعي الحنبلي الكرماني – رحمة الله عليه -، والإمام الشوكاني، وفلان، وعلان! رسائل بسيطة! عشر أو عشرون صفحة وانتهى الأمر! 

لا يتم؛ لأنه موضوع لا أقول مُصدِّع، مُزلزِل! هذا لا يتقولب في القالب هذا، هذا لا يتموضع في مكانه، ضمن نظام اللاهوت الخاص بنا النظامي، ليس له مكان! لذلك لا بُد أن يُطرد من النموذج، أو يُتواصى بالسكوت عليه!

ما الذي جرأني قبل نحو ثلاثين سنة، أو رُبع قرن على الأقل، أن أفتح هذا الموضوع – وأعدت فتحه هنا في الشورى، مع بسط وتوسع أكثر -، ربما إلا قراءاتي في الفيزياء المُعاصرة؟ قراءاتي في فيزياء الكم! تأثرت بها، لفترة، استبطنتها لسنين! لكن مثل أي شيء تقرأه أو تطلع عليه أو يمر بك، لا بُد أن يكون له مفاعيله الشعورية واللا شعورية، يظل يعتمل في باطنك، في هامش وعيك، في عُمق وعيك، ثم يُوحي إليك بأفكار قد تبدو مجنونة أو حمقاء أو خارجة عن ال Mainstream! 

وكان هذا الذي حصل معي، ليس الآيات نفسها هي التي أوحت! مع أن الآيات واضحة في بابها على الأقل، أي تتميز بدرجة صادمة من الوضوح! يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ *، عجيب! ما معنى محو وإثبات؟ ألم يُفرغ من كل شيء؟ ألم يُجمل الكتاب على كل شيء سيكون إلى يوم القيامة؟ أين موضع المحو إذن؟ شيء مُخيف مُرعب! لكن الذي يدرس فيزياء الكم يستوعب هذا بنوع من الجمالية، ويقول لك طبعا هذا شيء جميل! العلم نفسه يقول هذا. 

ولذلك الآن تجد في لاهوت الطبيعة مُنظّرين لاهوتيين غربيين، مسيحيين في العموم طبعا – أكثر شيء: مسيحيون، وبعضهم يهود. اليهود أقل نوعا ما عدديا -، يقولون لك نحن على المُستوى اللاهوتي نؤمن، نعتقد، نُصدّق، نتقبل، نتعاطف مع فكرة أن اللا تحديد، اللا حتمية، اللا تعين، في العالم الفيزيائي، على الأقل لحد الآن ال Subatomic world هذا، حقيقي! وليس انعكاسا للتقييد البشري.

أي هي ليست Limitations! أن وعيي غير كاف، آلياتي غير كافية، لو طورت آلياتي وتقنياتي، لكان من المُمكن كذا! لا، هو بطبيعته كذلك، هو بطبيعته غير مُحدد.  

والرب في هذا اللاهوت؛ لاهوت الطبيعة، الرب هو المُحدِّد النهائي الأخير، أي ال Ultimate، لكل اللا تحديدات! وهذا تعبيرهم! ال Ultimate determiner! لماذا؟ Of the indeterminees. Indeterminees! indeterminees: كل مظاهر اللا تحديد في الطبيعة! ال Determiner ال Ultimate لها، هو الله!

عجيب! دون أن يُشكّل ذلك انتهاكا لقوانين الطبيعة. قوانين الطبيعة لا تحديدية، الله أرادها كذلك. هي هذه الفكرة، أي ببساطة. الله هو الذي أرادها أن تكون كذلك، وهذا معني أنه المُحدِّد النهائي الأخير للا تحديدات! هو أرادها كذلك.

القرآن مُتعاطف جدا جدا مع هذا النموذج، في آية المحو والإثبات، وآية الأجلين، وآية زيادة العمر ونُقصان العمر! غريب! والنصوص النبوية الصحيحة كلها في هذا الباب! لذلك الآن في هذا القرن، وفي أواخر القرن السابق، كثير من أهل الدين التقليديين الأرثوذوكسيين، أي المُستقيمين على الطريقة التقليدية، صُدموا، وهالهم ذلك جدا! أن تُمرر مثل هذه الأفكار، ذات الأصول الفيزياء كمية، إلى اللاهوت! 

لأنها في ظنهم تنتقص من ماذا؟ من قدرة الله المُطلقة، وعلم الله المُطلق. فالله عندهم كُلي العلم، وكُلي القدرة. بقيت كُلية واحدة: كُلية كُلي الخيرية! أرأيت؟ فقال لك هذا ينتقص، ينتقص من كُلية علمه، وأيضا بالتبع من كُلية قدرته! نعم، طبعا! معناها إذا الشيء في ذاته غير مُحدد، فإذن هو في علم الله غير مُحدد. الله أراده كذلك! وبالتالي، القدرة لم تتعلق بأن تجعله مُحددا، وهذا تحديد للقدرة! 

لكن جواب هذه الشُبهة أو الشغب سهل جدا جدا! إذا كان الله أراد ذلك، فهذا لا يُعتبر تحديا أو تحديدا للقدرة؛ لأنه تابع لإرادته، هو أراده كذلك! تماما كما أراد الله أن يخلق الإنسان، وأن يُطلق حريته. وبمُقتضى هذه الحرية المُطلقة – طبعا من قيود نسبية، لا يُوجد شيء مُطلق -، يكفر الإنسان، يكفر! فلا يُقال الله غير قادر على أن يجعل كل خلقه مؤمنين به! هو أراد ذلك، هو أراد ذلك.

ستقول لي أرادهم أن يكونوا أحرارا، أو يكونوا كفارا؟ الاثنان! أرادهم أولا أن يكونوا أحرارا، وبالتبع أراد كل ما انجر عن حريتهم. هل هذه الإرادة كونية؟ وهنا طبعا يدخل اللاهوت الإسلامي! قال لك هذه الإرادة الثانية، وهي إرادة كل ما انجر – أي ما نتج ونجم، كل ما انجر – عن حريتهم، إرادة كونية! 

طبعا كونية، وليست إرادة شرعية؛ لأن الله، لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن، أراد الكفر، وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ *.

ولذلك فرّق اللاهوت بينهما! ستقول لي وهذه التفرقة ماذا عنها؟ هذا هو الفهم البشري! كما أقول دائما نحن لا نستطيع أن نُفكر إلا بعقولنا، وفي نهاية المطاف أنا أمامي نصوص، ولا بُد أن أُعمل فيها عقلي. هذه كلها ابتكارات عقلية! هل تشهد لها النصوص؟ بقدر أو بآخر. هو هذا، هذه معركة، صراع! صراع التأويلات.

أي قضية أنه إرادة شرعية وإرادة قدرية نعم عليها شواهد! وسنُحضر لك شواهد من النصوص، ونقول لك هذه الإرادة مثلا قدرية! إذن لماذا سميتها قدرية؟ أقول لك لأن في آيات أُخرى الله تبارك وتعالى ينفي أن يرضى هذه الأشياء. إذن كيف هنا أرادها؟ نعم، هذه إرادة قدرية، وهذه إرادة شرعية! 

الإرادة الشرعية تُجامع وتُساوق المحبة، والرضا، والأمر بها. أما الإرادة القدرية، لا تُساوق المحبة، والرضا، بالعكس! تُساوق حتى اللعنة، والغضب، وعدم الرضا! وهذا معقول.

طريقة العقل هذه في التصرف! إنسان أُمي بسيط لا يستطيع أن يفهم القرآن بهذه الطريقة! تحتاج إلى عقول! وهذه عقول مُعتزلة وأشعرية وإمامية وزيدية وإباضية، عقول ضخمة! ناس كبار! وفلاسفة وابن سينا وابن رُشد والفارابي والغزّالي! شُغل كبير! هو هذا! هذا الذي نملكه، الله يُريد هذا! هو أراد ذلك طبعا! وإلا كان ربنا لا يُعجزه أن يُنزل لك نصوصا تُوضح مقاطع الحقائق بوضوح تام، كالحساب! كقواعد الحساب! 

ستقول لي حتى هذا فيه موضع نظر. أوافقك، فيه موضع نظر! لماذا؟ لأنه قد يكون من مُراد الله ألا تكون الحقائق بهذه الديجيتالية، بهذه الرقمنة! لا، الحقائق ليست واحدا، ثنتين، لا! العالم الحقيقي على فكرة، العالم الحقيقي هو عالم أنالوجي، عالم تناظري، ليس عالما رقميا! 

العالم الرقمي عالم من صُنعنا، نحن صنعناه! نحن صنعنا الحواسيب، وال Calculators، والأشياء هذه! نحن! وهذه مهما أدهشتك وأعجبتك، هي دون العالم التناظري بمراحل! وكم تقطع لكي تصل إلى العالم التناظري؟ 

على فكرة الذين تكلموا، والذين كتبوا، والذين تناقشوا، عن موضوع العقل والحاسوب، بعضهم إلى الآن لم يستوعب أعظم الفروق على الإطلاق، وهو الفرق الذي لا يُوجد أمل في ردمه! ما رأيك؟ لا يُوجد أمل في ردمه! أن العقل البشري تناظري، الحاسوب رقمي. 

بلا شك الحواسيب، مهما كانت دقيقة وعملاقة وجبارة ومُقتدرة، تشتغل رقميا، وتُحدد الأشياء دائما في حدود صُلبة نهائية! صفر، وواحد! جميل؟ العالم التناظري، يختلف، انس! بين الصفر والواحد، ما لا يتناهي! لا يتناهي! تستطيع أن تظل تضع قيما لن تنتهي، على الإطلاق! 

المُخ يشتغل تناظريا! لذلك أصعب، شُغله أصعب بكثير من الحاسوب، وأكثر دقة، وأكثر حميمية بالواقع وبطبيعة الواقع وبطبيعة الوجود! الوجود تناظري على فكرة، ليس رقميا، انس! هذه الرقمية نحن فرضناها في تعاطينا. 

حين أشرح لكم اليوم – إن شاء الله – مبدأ التتامية، أو التكاملية، لنيلز بور Niels Bohr، ربما سأُعمق أيضا فهم هذه النُقطة أكثر وأكثر – بإذن الله تعالى -، بعد قليل. 

تخيل! فهذا هو الفرق الأصيل! فأقول ما يُدرينا أن الله تبارك وتعالى أراد العالم والوجود، والمعرفة بالتالي – التعاطي مع هذا العالم والوجود -، أن تكون تناظرية؟ ما معنى تناظرية؟ أي ليست تُحدد بقيم مُحددة تفصل وتضع خطوط فصل واضحة، أبدا! إنما هي مُتصلات لا نهائية، مُتصلات لا نهائية! وهذا أقرب إلى العدل. 

انظر، مثل هذه الطريقة في التفكير على فكرة ضد المنطق الصوري؛ ال Formal logic، ضد المنطق الصوري! الذي هو أقرب إلى الحساب. برتراند راسل Bertrand Russell وألفريد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead لما اشتغلا عملهما الجبار هذا؛ البرنكيبيا أو البرنشيبيا ماثماتيكا Principia Mathematica في ثلاثة أجزائه، فقط برهنا أن كل أصول الرياضة هي منطق!

فقط هذه هي! كل أصول ال Mathematics هي Logic، ليس أكثر من هذا! جميل! العالم ليس كذلك طبعا، العالم ليس أصوله Logic، أصوله تناظرية، تستعصي على ال Logic هذا، أكثر مرونة، بكثير!

لذلك لما استوعب التربويون، خاصة في الغرب – عندنا العالم الإسلامي لا يزال مُتأخرا عن هذا – لما استوعبوا هذا، قالوا لك نعم، إذن قضية العلامات، والذي يحصل على واحد وخمسين ناجح، وتسع وأربعين راسب، كله كلام فارغ هذا! دعونا نبطل حكاية علامات في المدارس هذه، نعمل قضية لها علاقة بالمنطق الاتصالي. 

أجمل بكثير هذه! وأرحم بالطلاب وأرحم بعطاءاتهم وأرحم بإبداعهم! لا نزال نحن بيننا وبينها مسافات فلكية للأسف! الشرق العربي والإسلامي المُتخلف! الشرق الذي يعشق التصنيف، مُباشرة! يعشق! يعشق التصنيف الظالم؛ لأن من المُمكن أن يلمح في الظاهرة أو حتى في الشخص تسعين وجها يجعله ينتمي إلى ألف، لكنه لأمر ما، يُحب أن يجعله من مجموعة باء؛ بسبب عشرة وجوه، أو حتى في بعض المرات وجهين، وأحيانا وجه موهوم وغير حقيقي! هذا عالمنا، قمة الظلم، وقمة البُعد عن روح الوجود نفسه! 

ولذلك الذي يتعاطى مع هذه المفاهيم، يجد نفسه أصبح أكثر حميمية مع الطبيعة. على فكرة، علاقة لاهوت الطبيعة بما يُسمى بأخلاق البيئة، أو الأخلاق البيئية، أكثر من قوية! علاقة قوية جدا جدا جدا! من مباحث لاهوت الطبيعة الأخلاق البيئية، تخيل! والتأصيل لها، علميا ودينيا، في الوقت ذاته! 

لماذا إذن؟ لأن فعلا مثل هذا اللاهوت، الذي يُعيد قراءة اللاهوت النظامي، أو بعض مباحثه، في ظل آخر مُعطيات العلم كما قلت، سيجعلنا أكثر شعورا بروح ونبض الوجود والعالم والطبيعة! فكيف بإخوتنا في الإنسانية؟ ستقول لي مثل هذا اللاهوت سيكون لاهوتا مُنفتحا على الأديان؟ طبعا! على الأديان والمِلل والطروحات الأُخرى، وليس عنده مفهوم كافر ومؤمن وإخلاص وانتهينا، لا! أكثر مرونة بكثير على فكرة! 

وبالتالي سيكون أقرب إلى روح العدالة الإلهية أصلا، أقرب إلى الرحمة الإلهية. قد تدخل أنت المدخل، ولا تعرف! فتجد نفسك انتهيت إلى هذه الساحة، ساحة لا حدود لها، من المنطق الرحماني الإلهي المُستوعب! فتجد نفسك قد جللت وارتفعت على منطق إصدار الأحكام، ومُغاصبة حقوق الله! هؤلاء ناجون، هؤلاء سعداء، هؤلاء أشقياء، هؤلاء مؤمنون، هؤلاء كافرون، هؤلاء في الجنة، هؤلاء في النار! انس! هذا العبث الصبياني ستتعالى عليه تماما، رُغما عنك! بطبيعة الشُغل، طبيعة هذا الاشتغال، تخيل! طبيعة هذا الاشتغال!

لذلك كما قلت لكم مرة أُخرى مدى وكيفية استيعابنا لمُعطيات وحقائق العلم، في الفترة التي نعيش، تنعكس مُباشرة على تصورنا لهذه العلاقات المُتداخلة! علاقة الله بخليقته، علاقة الله بالطبيعة، علاقة الله بالإنسان، علاقة الإنسان بالطبيعة، إلى آخره! علاقة الكل بالكل! رُغما عنا، شئنا أم أبينا. وضربنا مثلا بموضوع التحديد واللا تحديد، موضوع التحديد واللا تحديد! 

على فكرة، لاهوت الطبيعة – حتى إيان بربور Ian Barbour أنا لم أجده تنبه إلى هذه النُقطة! ما هي؟ – أنا أجد، حسب فهمي له وحسب كذا، بمعنى ما يُمكن أن يدخل فيه النُسخة الثالثة والأخيرة، وهي التي تبناها إيان بربور Ian Barbour نفسه! يتبناها ويُبشر بها! وسنقول أين يُمكن أن نتفق وأين يُمكن أن نختلف. 

وهي نُقطة ماذا؟ نُقطة التوليف المنهجي أو النظامي. النُقطة الأخيرة! أنا أعتبر أن من المُمكن أن تكون أحد مباحث لاهوت الطبيعة. لكن ربما لأنها مبحث مُتسع، وعنده أيضا منطق خاص، جعلوها نُسخة بحيالها، مشغلة غير المشغلتين الأوليين، لا بأس! وسنفهم هذا حين نفهم ما معنى التوليف النظامي أو التوليف المنهجي. 

الآن أعود إلى موضوع التحديد مثلا واللا تحديد، موضوع التحديد واللا تحديد! انظر، ماذا لو تم استيعاب هذه المسألة مثلا؟ هذه مُقاربة، هذه إحدى المُقاربات؛ لأن هناك مُقاربات فلسفية، طرحتها أنا مثلا في خُطبة اللغز قديما وكذا، وأظن أنها مُريحة وتُريح أيضا، وتصل بك إلى حل أكيد مُقنع! فلسفية، ميتافيزيقية هي! 

هذه مُقاربة علمية، أو مُقاربة فلسفية علمية، على أُسس علمية! إذا استوعبتها، بحيث تُعيد النظر في مبحث القضاء والقدر، القضاء والقدر والتسيير والتخيير! فستصل إلى نُقطة جديدة، لم تكن في بالك، ولم تكن في بال اللاهوتيين عبر القرون السابقة، تخيل! وكما قلنا تتآزر وتتعاطف معها نصوص المحو والإثبات وما إلى ذلك، شيء جميل هذا أيضا! لِمَ لا؟

بمعنى سيكون عندك مؤمن جديد، ومؤمنة جديدة، تقول نعم، أنا أؤمن بعلم الله الكُلي، وبقُدرة الله الكُلية، وخيرية الله الكُلية، وفي الوقت ذاته، بحسب مفاهيمنا الجديدة هذه في لاهوت الطبيعة، أؤمن بأن مصيري ليس محسوما، مفتوح! مصيري مفتوح، ولا يزال مفتوحا! 

على فكرة، ستقول لي هذا بالذات ما يُفسر لنا بطريقة مفهومة ومعقولة نصوصا أُخرى كثيرة جدا جدا جدا! سوء الخاتمة، حُسن الخاتمة! طبعا، الحكاية ليست لعبا، ليست تمثيلا هي، حقائق هذه! الحرص على مواصلة الهداية، مواصلة التقوى، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ *، أليس كذلك؟ دائما! 

لأن لو الأمر محسوم ومُغلق، فهو منته! انتهى، اذهب ونم، الذي في الجنة في الجنة، والذي في النار في النار! لا يا حبيبي، لآخر لحظة الأمر مفتوح. ولذلك – نفس الشيء – هذا مقعدك من النار، أبدلك الله به خيرا منه! مقعدك في الجنة. عندك مقعدان أنت! Oh! عجيب! 

لا يُوجد معنى أصلا ضمن اللاهوت القديم الصارم والديجيتال هذا – ديجيتال، والله! واحد، Zero، Zero، واحد! – لموضوع مقعدين! مقعدان لماذا، وهي معروفة، ومكتوب وكذا؟ لا يا حبيبي، مَن قال لك؟ لا إله إلا الله! تحيرنا! طبعا سيكون عندك نوع من القلق، نوع من الرفض أيضا الارتيابي! أي كيف هذا؟ إذن ما موقع العلم الإلهي؟ الله لم يكن كذا؟ 

هناك جواب، قبل قليل نحن طرحناه، هذا جواب إجمالي، جُملي! أنه مُحدِّد كل اللا تحديدات، حلو! جيد! لكن هذا لا يُخرجنا من ورطة أن مُحدِّد كل اللا تحديدات، أيتناول علمه ما يصير إليه الشيء حين يتحدد؟ أي بلُغة شرودنغر Schrödinger لما تنهار الدالة الموجية! لما تنهار! انتهي! لما تصير قطة شرودنغر Schrödinger في حالة واحدة! عرفناها، انتهى الأمر، إما حية أو ميتة! ألا يكون هذا داخلا في العلم؟ 

انظر، هذه لن أقول لك مُعضلات، هذه من عوائص أو من عويصات هذه المباحث، والتي لا بُد أن تجعلنا نُفكر! وعلى فكرة، وتجد لها إشارات في القرآن الكريم، إذا أخذتها بظواهرها! بظواهرها من غير تأويل! إشارات واضحة إلى ذلك! وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ *، لام التعليل! أصابكم؛ لكي يعلم، أراد أن يعلم! لا إله إلا الله! وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ *…إلى آخره! 

تقول لي ما هذه الآية؟ وَلِيَعْلَمَ *؟ نعم، وَلِيَعْلَمَ *. لا إله إلا الله! أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ *، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّٰبِرِينَ *. ما هذه؟ آيات بظواهرها تقول لك هذا! تعال إليها!

طبعا فيزيائيي كمي يفرح جدا، ويقول لكم هذا هو، تفضلوا! ها هو اللاهوت الخاص بكم، المُوحى به؛ ال Revealed theology، يؤيدنا، ويقول العالم غابة من الاحتمالات وعالم مفتوح، ليس مُحدد المصائر! وتحدد مصائره شيئا فشيئا! وفق طبعا عوامل أُخرى، تعز على الإحصاء طبعا والمُراقبة! كثيرة جدا! في كل حالة! لكن هو هكذا، طبيعة العالم هكذا!

معناها العالم يا إخواني ليس عالما طينيا، عنده صورة أرسطية، مثل صورة كرسي الخشب عند أرسطو Aristotle! وها هي مادته، وها هو تحالف الصورة مع المادة، وها هي الغاية، وانتهينا! لا، واضح أن العالم عالم ديناميكي، مُتطور، تخيل! في حالة سيرورة. 

لذلك قلت لكم لاهوت الطبيعة مُباشرة واحدة من أكبر اهتماماته أو انشغالاته، وواحد من أكبر مباحثه؛ مبحث التوليف المنهجي! كما سأشرحه بعد قليل. التوليف المنهجي! هو هكذا! 

معناها العالم هذا لا يزال غير ناجز، العالم وُلد وها هو يكبر ويتحصل، شيئا فشيئا! هنا يُوجد شيء خطير طبعا! وهذا اللاهوت الغربي يقبله. أنا أقول لكم إلى الآن لا أقبل هذا، وعندي موقف آخر. 

أحد أحبابي، وهو الآن مُقيم في السويد – بارك الله فيه! هو مُهندس، ورياضياتي، وشخص مُنير وطاهر، كما أحسبه، وذكي -، الآن له تقريبا – الآن نحن في ألفين وثنتين وعشرين، أي من المؤكد أن له تقريبا رُبع قرن، أي هناك عشرون سنة على الأقل – عشرون سنة يشتغل على نظرية عقدية رياضية، تخيل! هو يُريد – أي كما صرح لي أكثر من مرة – أن يُثبت بها هذه النتائج! أن هناك أشياء، دعونا نحكيها ببساطة – هكذا هو يقول – مُختلفة! ليست حكاية أن الله لا يعلمها، هي أصلا غير داخلة في حيز العلم أو كذا، هي هكذا بطبيعتها! 

عشرون سنة يشتغل في الموضوع هذا، على أُسس علمية وفلسفية ورياضية، مسألة صعبة وعويصة! طبعا واضح أنه تأثر بفيزياء الكم، واضح جدا جدا! هذا في اللاهوت الغربي الآن، عند قطاعات وكذا، يقبله بعضهم، يقبلونه! عادي! ليس عنده مُشكلة. نحن لا! تصورنا لله أكثر تحسسا. 

هم يقبلون أن الله ينمو أيضا بنمو الكون – أستغفر الله العظيم -! قال لك كما ينمو الكون! على فكرة، إن قبلت هذه الأشياء، تقبل هذه النتيجة، طبعا! لأن إذا علمه لم يتعلق بأشياء، إلا بعد وقوعها – أي الأمر أُنف، مثلما قال القدرية الأول -، فحتما هو سينمو بنمو الكون أيضا! علمه وكذا، طبعا! وتعلقاته! 

هذا لا يقبله اللاهوت الإسلامي التقليدي. وأنا لا أطرح هذه الأشياء لكي أقول لكم إنها جيدة أو كذا كذا! فقط أُعطيكم نماذج، لكن تحتاج شُغلا، تحتاج شُغلا عميقا! وعلى فكرة ولا يكفي لنقدها أو اتخاذ موقف منها أن تسمع مثل هذا الكلام، أي بعشر أو عشرين جُملة!

لا بُد أن تقرأ كل أو أحسن ما كُتب في هذا الباب، وهو مئات الصفحات طبعا! اقرأ هذا تماما، واستوعبه جيدا، بلُغته الأصلية، وبعد ذلك قل لي ماذا تقول أنت في الأخير! 

هذه الأشياء كلها…ماذا أقول لكم؟ مهام جديدة أمام العقل الديني في العالم. واضح أن الغربيين طبعا أخذوا الأمر بجد، وأخذوا التحدي بقوة، وهم ماضون. أما نحن، فلا نزال نُغرق في النوم! العقل الإسلامي، حتى بمؤسساته الرسمية، لا يزال نائما! يصدر منه شخير مُزعج، صدقوني! لا يُوجد أي نوع من الجدية! 

وقال لك التجديد! وأكثر ناس، أكثر ناس تُجعجع بالتجديد والتجديد وتجديد الخُطب وإصلاح الخُطب، هم! هم العرب والمسلمون! وما من تجديد ولا مُجددين، ولا شُغل بالمرة، بالمرة! بالمرة! نوم! يُوجد عندنا تبديد طبعا، ومُقاربات سخيفة وطفولية، لبعض الناس! ويظن أنه مُجدد ومُفكر كبير، وهو تحطيم! مثل، أي كما أقول دائما هذا، فيل في خُم دجاج! يدخل ويُحطم، ويقول لك أنا مُجدد ومُصلح. اذهب وروح! 

دائما، مثل كل المساعي الفكرية، لا بُد أن نبدأ من حيث انتهى غيرنا. لا يُمكن أن تُقنعني أنك مُجدد، وعندك أوهام أو عندك طموحات تجديدية حقيقية، وأنت غائب عن المشهد العالمي، ولا تعرف شيئا! مُجدد كيف؟ اذهب وروح! 

انظر إلى غيرك؛ لأن في الأخير الدين واحد! أليس كذلك؟ الدين واحد، والأصول العقدية الأصلية مُشتركة، والتحديات تحديات للعصر كله، اذهب وانظر كيف كان غيرك من العباقرة، الذين يحملون نوبل Nobel، وحياتهم كلها في الفلسفة والفكر والعلم!

ناس مُذهلون على فكرة! ناس جادون! أنا أحترم فيهم هذا الجانب على فكرة، أحترم هذه الجدية في العمل، ولا أحترم العبث والادّعاء الإسلاموي الذي عندنا هذا! شيء مُضحك ومُخجل، والله العظيم! مُضحك ومُخجل! مُقاربات طفولية، وصاحبها يظنها مسألة كبيرة، وهو لم يأت بشيء!

فنرجع، هذه الموضوعات حساسة وخطيرة! نرجع ونقول ماذا؟ نفس الشيء: كيف نفهم علميا العالم، ينعكس هذا على لاهوت الطبيعة، شئنا أم أبينا! وعدتكم أن أشرح لكم علاقة مبدأ التتامية، أو التكاملية، لنيلز بور Niels Bohr، بقضيتنا اليوم. طبعا هناك علاقة كبيرة جدا جدا! 

مبدأ التتامية لنيلز بور Niels Bohr باختصار الذي بعثه عليه ما هو؟ هنا كان مثلما، قال إنريكو فيرمي Enrico Fermi مرة، مُتأثرا بالفلسفة. قال هذه فلسفة زائدة قليلا! هذا ليس علما – قال -، هذا فلسفة! دخلنا في الفلسفة. قال! وصح، ونيلز بور Niels Bohr كان واعيا أنه هنا يُمارسها! لكن ليست فلسفة مُصرّحة، فلسفة تستوحي العلم، أبدا! تستبطن وتستوحي! تستلهم العلم، واضح!

هايزنبيرغ Heisenberg خط، إرفين شرودنغر Erwin Schrödinger خط آخر! هايزنبيرغ Heisenberg صاحب مبدأ اللا تعيين: ال Uncertainty principle، كان ينظر إلى الجُسيمات الذرية ودون الذرية على أنها جُسيمات، ولها مسارات. هو هكذا! 

شرودنغر Schrödinger كان يأبى ذلك، وعقله الرياضياتي الفيزيائي الكمي يقول لك لا، هي ليست جُسيمات ومسارات، هي موجات احتمالية! غيمة احتمالات! هي هذا! وهنا تأتي المُعادلة القبيحة الخاصة به، مُعادلة ذكية جدا جدا وعملاقة، لكن قبيحة! هي نفسها! عكس مُعادلة أينشتاين Einstein! ليس فيها جمال بالمرة! 

والجمال على فكرة أحد المعايير للحُكم على النظرية العلمية. علماء كثر اعتمدوه! ليس مُتفقا عليه، لكن هناك ناس اعتمدوه، بما فيهم أينشتاين Einstein، ولوي – أي الذي هو لويس! لوي – دي برولي Louis de Broglie الفرنسي، الذي كان حاملا لنوبل Nobel أيضا، قال لك الجمال! مُعادلة جميلة، يترجح أن تكون صحيحة. مُعادلة قبيحة، صعب أن تكون صحيحة. مُعادلة شرودنغر Schrödinger صحيحة، لكن قبيحة، تطورت بعد ذلك طبعا! طوروها! غيره!

هذا يرى أنه جُسيم وله مسار، هذا يرى أنه موجة احتمالات! جاء نيلز بور Niels Bohr، قال لك الاثنان معا! نعم، هذا مبدأ التتامية، التكاملية! هو هذا وهذا، الاثنان! لكن انتبه، ليس الاثنان كما قلت الآن معا في الوقت نفسه، لا! الاثنان معا في وقتين! في هذا الوقت هو هذا، في هذا الوقت هو هذا. ولا يُمكن أن يكونا الاثنين في الوقت نفسه. هذا معنى التتامية، الخاصة بنيلز بور Niels Bohr.

دعونا نأخذ مثالا أشهر، ومعروف للجميع! مثال فوتونات Photons الضوء. بطريقة هايزنبيرغ Heisenberg الفوتون Photon جُسيم، انتهينا! وله مسار، وله مسار ويُمكن أن تحدد زخمه بدقة وتفقد مكانه، أو تُحدد مكانه بدقة وتفقد زخمه، لا تُوجد مُشكلة! شرودنغر Schrödinger يقول لا، هو فقط موجة احتمالات، ليس أكثر من هذا! إذن يا سيدي هذه القضية تُجنن! كيف هو موجة احتمالات؟ 

هنا طبعا دخل نيلز بور Niels Bohr بعقله الفيزيائي الفلسفي، قال لك انتبه، إياك أن تتعامل مع الفيزياء المُعاصرة بالعقلية القديمة، التي كانت تظن أن الحقيقة ناجزة وموجودة، فقط هي رهن الكشف عنها! صباح الخير، مساء الخير، أيتها الحقيقة، كيف حالك اليوم؟ كيف أنت؟ لا، قال لك هذا العالم أفهمنا أنه لا يُمكن مُقاربة الواقع بهذا المنطق البسيط! الذي أحبه مَن؟ ألبرت أينشتاين Albert Einstein.

ألبرت أينشتاين Albert Einstein كان يؤمن بأن الواقع موجود، ويُمكن أن نكشف عنه، بغض النظر عن مدى نسبيته، موجود! بور Bohr قال له لا، غير موجود. أي غير موجود في ذاته؟ لا نعرف، بالطريقة الكانطية أكيد هناك نوع وجود له، أكيد! لكن أنا لا يُمكن أن أصل إليه، لا يُمكن! بطبيعة هذا العالم نفسه! وخاصة الدون ذري، لا يُمكن أن أصل إليه!  

كل ما يُتاح لي، كل ما هو مُمكن، تعرف ما هو؟ قضية معرفية، بحسب نماذجي وسعيي المعرفي يُمكن أن أقترب أنا معرفيا، بحسب نماذجي أنا! لا بحسب الواقع هو في ذاته! هذا الذي أوحى إليه بمعنى التتامية! فقال لك الآن تعال، انظر إلى تجربة مثلا الشق المُزذوج؛ ال Double-slit experiment هذه. 

إذا أنت راقبت الجُسيمات الدقيقة، سواء الإلكترونات Electrons أو الفوتونات Photons، التي تنزل من الفتحة، على الجدار الآخر، أو ال Screen، إذا راقبتها، تنزل بطريقة. موجات مثلا! إذا لم تُراقبها وتركتها، تنزل لك مثلا جُسيمات! أو العكس! 

وفعلا يظهر هناك ما يؤكد أنها مارست الحيود، والحيود صفة الموجة وليست صفة الجُسيم، طبعا! لكي يكون عندي حيود، وتداخل موجات، قمم وقيعان، لا بُد وأن تكون موجة! فأنت سوف ترى أن في هذه الحالة فعلا هي موجات، عجيب! في الحالة الثانية لا تكون كذلك، جُسيمات! تقع في نقاط مُحددة! 

هل هو موجة أو جُسيم؟ قال لك الاثنان! ليس في الوقت ذاته. يستحيل أن يُمارس النشاطين في الوقت ذاته، فيُعطيك النمطين في الوقت ذاته! مُستحيل! مرة يُعطيك النمط الموجي، ومرة يُعطيك النمط النُقطي الجُسيمي، عجيب! هذا معنى التكامل.

ولذلك التكامل في عُمقه، مثلما قال فريمان دايسون Freeman Dyson، Exclusion؛ إقصاء! التكامل إقصاء! كيف؟ طبعا! ما دام هناك تكامل، هناك إقصاء. إذا وجد هذا، يمتنع الثاني. إذا وجد الثاني، يمتنع الأول. فالتكامل ليس جمعا، وليس Integration، هو Exclusion. وصح! 

وفريمان دايسون Freeman Dyson على فكرة يقبل ال Integration بين الدين والعلم بالمعنى التكاملي. لذلك موقه على فكرة عميق قليلا، وليس سهلا أن تفهمه بسرعة! ما موقف دايسون Dyson من القضية هذه؟ لا! موقفه تكاملي، لكن ليس فلسفيا ولاهوتيا، فيزيائيا! بطريقة نيلز بور Niels Bohr.

ولذلك ضرب مثلا فريمان دايسون Freeman Dyson، قال لك الكيان A يستبعد الكيان B، والكيان B يستبعد الكيان A. جميل! الآن لو حاول الكيان C أن يجمع بينهما، فستكون مُغامرة باستبعاد الاثنين معا!  

إذن لا يُوجد Integration بمعنى الدمج الذي أنت تتخيله في اللاهوت أو الفلسفة، غير صحيح! في الفيزياء لا يشتغل هذا. لذلك التكاملية النيلز بورية هي تكاملية ماذا؟ استبعادية، إقصائية. إن وجد هذا، يمتنع هذا. إن وجد هذا، يمتنع هذا. تماما! 

العجيب أن نيلز بور Niels Bohr مشى خطوات إلى الأمام، وحاول أن يُطبق هذا في ميادين أُخرى، فيها ميدان القانون والعدالة! عجيب! وقال لك طبعا! قال لك مبدأ التكاملية يشتغل على مفهومي الرحمة والعدالة. تُحب أن ترحم؟ لن تعدل! تُحب أن تعدل؟ لن ترحم! لا يُمكن الجمع بينهما، لا يُمكن! 

واحد قتل، تريد أن تعمل العدالة، وفق نظامك الجزائي العقابي، الذي يقول إنه يُقتل؛ القاتل يُقتل، القاتل عمدا، العدالة أن يُقتل، هذه العدالة، وهذا منصوص عليه. أردت أن ترحمه – سواء ولي الدم أو القاضي -، لأي سبب من الأسباب، لن تتحقق العدالة، ولن تجتمع الرحمة والعدالة، انس! الرحمة أن يُعفى عنه، العدالة أن يُقتص منه. فقال لك الرحمة والعدالة مفهومان تكامليان! بالمعنى النيلز بوري! هذا مَن؟ نيلز بور Niels Bohr نفسه.

ثانيا: الجوهر والشكل لا يُمكن أن يجتمعا، لا يُمكن! إذا أردت أن تُراعي الجوهر، ضحيت بالشكل. هذا أين؟ في الأدب؛ ال Literature، دخل في الأدب نيلز بور Niels Bohr! تعال وانظر إلى الأدب! 

العرب على فكرة بشكل عام في أدبهم، من القديم إلى اليوم، يُراعون الجوهر أم الشكل – كنظرية عامة هكذا -؟ الشكل. بصراحة! وهذا مُزعج. لذلك أنا لا أتمتع كثيرا بالأدب العربي، لا أكذب عليكم، لا يُمتعني كثيرا. يُمتعني الأدب الأجنبي الغربي هذا أكثر بكثير؛ لأنه عميق، عميق جدا جدا جدا! مضامين هائلة عندهم!

أنا تقريبا لم أقرأ في حياتي ربما رواية عربية واحدة، كنت وأنا صغير أقرأ لنجيب الكيلاني وكذا؛ تأثرا بالإسلاميات. بعد ذلك حتى نجيب محفوظ قرأته قليلا جدا جدا، وقرأت مُعظم الأدب الغربي، خاصة الروسي، عميق جدا جدا جدا! نحن أدبنا العربي عموما، عموما، يُبدي الشكل على المضمون، طبعا! بدءا من الشعر والقافية والروي وكذا وقواعد العروض الكثيرة جدا، انس! 

فقال لك نيلز بور Niels Bohr عندك الشكل، وعندك المضمون، لا يُمكن أن يجتمعا. إذا راعيت الشكل، ضحيت بالمضمون. إذا أردت أن تُراعي المضمون، ضحيت بالشكل. استبعاد! تكاملية استبعادية! وهلم جرا! هناك أشياء كثيرة، حتى في فلسفة العلم! قال لك الإطار والمضمون! Framework، الإطار يُسمونه! إطار النظرية ومضمون النظرية! التكامل يشتغل بينهما، هذا هو! شيء غريب!

فإذن الذي أُريد أن أقوله إن استيعاب مثل هذه المفاهيم، التي في أصلها علمي، وأخذت قليلا بُعدا ميتافيزيقيا وفلسفيا، استيعابها، تصديقها، الاقتناع بها، ينعكس مُباشرة على تصورات ثيولوجية، مُباشرة! علاقة الله بالكون، كيف يُديره، كيف بكذا، كيف كذا، إلى آخره! كل هذا يُصبح لدينا.

طبعا موضوع السببية هذا، طبعا لن أخوض فيه الآن؛ لأن هذا أيضا كُتب فيه كُتب كثيرة! آرثر بيكك أو بيكوك – أي الطاووس – Arthur Peacocke، هذا لاهوتي كبير، وفيلسوف خطير أيضا، طوّر مفهوم كامل! Top-down causality؛ السببية النازلة. Top-down causality، أي Causalitate، Causality! السببية النازلة. 

وطبقها على الله! واعتبر أن الله سببا أو مُسبِّبا نازلا! قصة كبيرة! كلها ضمن مشاغل ماذا؟ لاهوت الطبيعة. أرأيت؟ فانظر أنت، كل المساعي إعادة بناء تصورات جديدة إذن، لكل ما ذكرت، في الشؤون هذه! كله يدخل في ماذا؟ في لاهوت الطبيعة. 

أظن أنني أعطيتكم فكرة سريعة في هذا الموضوع، أختم الآن بآخر شيء، وهو النُسخة الثالثة، وهي التوليف أو التركيب أو التركيبية أو التوليفية – أي Synthesis – المنهجية أو النظامية. Systematic synthesis؛ التوليفية المنهجية، التوليفية الناظمية! ما هي؟ هذه التي يتبناها بربور Barbour ويؤمن بها ويُبشر بها! 

أي في الأخير نُريد أن نقول إيان بربور Ian Barbour هذا من أي نموذج؟ هو من النموذج الثالث، هو يؤيد نموذج التكامل، مع أنه مُتعاطف جدا مع الحوار، لكن هو ليس حواريا في الأخير، هو تكاملي أكثر منه حواريا. وفي نُسخ التكامل الثلاثة مع ماذا هو؟ مع النُسخة الأخيرة؛ مع التوليف النظامي، التوليف المنهجي.

ما المقصود بالتوليف المنهجي؟ فهمنا الآن اللاهوت الطبيعي، لاهوت الطبيعة! الآن التوليف النظامي، ما هو؟ ما المقصود به في هذا الباب؟ المقصود بالتوليف النظامي باختصار أن يتعاون اللاهوت والعلم على خلق أو إيجاد أو ابتكار قاعدة، تصورات، خُطة عمل ميتافيزيقية، تمتح من الاثنين، تمتح من الاثنين! أي عندها جنبة لاهوتية، وعندها جنبة علمية! تحتاج إلى شُغل، وهذا سيكون جبارا! كيف سنؤلف بينهما وكذا؟ شيء عجيب! 

بحيث يُمكن أن تُستخدم بعد ذلك هذه ال Table، هذه اللوحة، الميتافيزيقية، لفهم العالم، وتفسير ظاهراته، بما فيها الظاهرة الدينية، وظاهرة الخبرة البشرية، والظواهر الطبيعية، بشكل عام، ضمن هذا المنظور الكبير. أف! مسألة كبيرة هذه! طبعا هذه هي! 

إيان بربور Ian Barbour هو نفسه فيزيائي كبير كما قلنا، ولاهوتي، فيزيائي عظيم! أي كاد يدخل كما قلنا المشروع الذري الأمريكي أصلا، طلبوه؛ لأنه فيزيائي نابغة! وبعد ذلك عمل دكتوراة في اللاهوت، لكن هو ليس فيلسوفا كبيرا. 

لذلك هو هنا عالة على مَن؟ على فيلسوف كبير! فيلسوف وشبه عالم؛ لأنه كان رياضيا، ذكرناه عدة مرات حسبما أعتقد في هذه الحلقات! الذي هو مَن؟ الأمريكي البريطاني ألفريد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead! أي أبيض الرأس! ألفريد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead!

وايتهيد Whitehead كان عنده الفلسفة – الآن سنُلخصها ونُكمل بها المُحاضرة – المُسماة بفلسفة الحدث؛ Process Philosophy، أو فلسفة – كما أُسميها – السيرورة! ليس صيرورة، سيرورة! Process! فلسفة الحدث! 

وستقول لي هناك لاهوت الحدث؛ Process theology؟ بالضبط! لاهوت الحدث هو استلهام لفلسفة الحدث! وداخل في ماذا؟ داخل في التوليف المنهجي. هو هذا، هو هذا بالضبط! عندي أنا في الناحية التي لها علاقة بالعلم ومُعطيات العلم فلسفة وايتهيد Whitehead، في الناحية التي لها علاقة باللاهوت مُباشرة عندي لاهوت الحدث.   

ما فلسفة الحدث؟ باختصار تقول هذه الفلسفة – وعندها الحق على فكرة إلى حد بعيد أيضا – العالم ليس كما اعتدنا على النظر إليه عبر القرون! من قبل الميلاد! عالم كيانات، أو جواهر! Elements أو Substances! عالم عناصر، أو جواهر، أو كيانات؛ Entities، مُنفصلة، أو مُستقلة! أي ليس بمعنى الانفصال الكُلي، لا! بمعنى مُتعينة في حدودها! هذا الشيء هو كذا، وهذا الشيء هو كذا.

ستقول لي هذا مبدأ الهوية؟ نعم، طبعا! مبدأ الهوية لا يشتغل هكذا! وهو على فكرة أساس الفكر البشري كله! اضرب مذهب الهوية، يُضرب كل شيء، بما فيه مبدأ التناقض! طبعا! وذكرت هذا قبل سنة أيضا في خُطبي ومُحاضراتي. 

لولا مبدأ الهوية وتثبيته وعدم إمكانية التشكيك فيه، لما أمكن القول باستحالة اجتماع النقيضين، وارتفاع النقيضين، وأن الثالث مرفوع، ليس موجودا، أي Excluded! لماذا؟ لأن لو مبدأ الهوية غير شغال، يُمكن أن يجتمع الشيء وضد الشيء! لأن الشيء يُمكن أن يكون هو هو، وهو ضده، هو نقيضه! يجتمعان! لا، مبدأ الهوية يمنع هذا. لذلك المهاد الأساسي مبدأ الهوية، ثم التناقض، في الفكر البشري! واضح؟ 

مُشكلة هنا! مُشكلة مع وايتهيد Whitehead! لماذا؟ قال لك لا، أنا أرى أن العالم والوجود ليس عناصر وجواهر، بقدر ما هو علاقات. العالم Relations؛ علاقات! تآثرات! نرجع مرة ثانية، أو كرة أُخرى، إلى مفهوم التناظري والرقمي. نحن قلنا العالم تناظري، العقل البشري تناظري! طيف مُمتد إلى ما لا نهاية! 

فعلا أنت خُذ العالم، أي عالم، حتى العالم الاجتماعي، الهيئة البشرية! خُذه كعالم تآثري، تره مُعقدا جدا جدا، يتأبى على الرياضيات أحيانا، وقوانين الحساب البسيطة، والنماذج الساذجة في التفكير. خُذه مُنفصلا، تره أقرب إلى الرقمنة، طبعا! لأنه مُنفصل! الانفصال يشتغل مع الرقمية، مئة في المئة! الانفصال هذا! تعيين الحدود والتخوم وال Bounders وكذا! إي من الداخل ومن الخارج. 

لماذا أحكي الكلام هذا؟ أحكيه؛ لأن طفر إلى ذهني هكذا فجأة – سُبحان الله – مثل! مُبرهنة – أي ال Theorem -؛ مُبرهنة أرو للاستحالة Arrow’s impossibility theorem! مُبرهنة! 

مَن هو أرو Arrow هذا؟ هذا عالم اقتصاد كبير، وأخذ نوبل Nobel سنة ألف وتسعمائة وثنتين وسبعين – على ما أذكر -! كينيث أرو Kenneth Arrow اسمه! أي السهم! ماذا تقول هذه المُبرهنة؟ طبعا لن أشرحها، هذه علم كامل! الآن هناك علم كامل، وهناك كُتب ومُجلدات، عن الشيء هذا! يُسمونه الاختيار! لكن هي في الأصل – النُسخة الأساسية لها – في الستينيات، اسمها مُبرهنة أرو Arrow للاستحالة! جميلة ومُدهشة! وهي التي جعلته يفوز بجائزة نوبل Nobel! تخيل!

ماذا قال هو؟ وطبعا تُستخدم هذه في النظام السياسي والنُظم الاقتصادية والاجتماعية. قال لك حين تكون كفرد – فرد وحدك – مُستقلا، خياراتك يُمكن حسمها وحسابها بسلاسة. 

بمعنى أنا الآن فرد، أنا عدنان، عندي واحد، اثنان، ثلاثة! ثلاثة كيانات، ثلاثة أشياء! أُريد أن أُفاضل بينها. فضلت واحدا على اثنين! ثم فضلت اثنين على ثلاثة! عندي احتمال أن أفضل ثلاثة على اثنين، أليس كذلك؟ لا، أنا فضلت أيضا اثنين على ثلاثة. حتما أنا مُفضل لواحد على ثلاثة، لا يُوجد كلام! لا أحد يقدر على أن يُناقش! حتما! أنت فضلت اثنين على ثلاثة.

ستقول لي ما هذا؟ كلام أطفال صغار هذا! لا، من هنا تبدأ المُصيبة. هذا كلام أطفال صغار فعلا؛ لأن الطفل ابن سبع سنوات سوف يفهم الكلام هذا، ويقول لك طبعا! إذا أنت فضلت واحدا على اثنين، واثنين على ثلاثة، فحتما أنت مُفضل لواحد على ثلاثة، لا يُوجد نقاش يا أبي! تقول له صحيح يا بُني! وهنا ستبدأ المشاكل! هذا في الميدان الفردي!

ولذلك عقلانية الخيارات والتفضيلات مُمكنة بسلاسة في الميدان الفردي. عدد الجماعة، بدل أن يكون واحدا، خله اثنين، ثلاثة، أربعة، عشرة، أحد عشر شخصا! هم ضربوا مثلا بأحد عشر. أي مثل تُريده، أي لا تُوجد مُشكلة. عندنا أحد عشر شخصا، وعندنا الكيانات الثلاثة: واحد، اثنان، ثلاثة! والمطلوب المُفاضلة والترتيب التفاضلي.

نفترض خمسة منهم فضلوا واحدا على اثنين، أربعة منهم فضلوا اثنين على ثلاثة، اثنان منهم فضلوا ثلاثة على واحد. أنا الآن لست مُستحضرا لها، لكنني أقدر على أن أكتبها، وأنت تعملها وحدك على ورقة! ستأتي مثلا وتجد أن ستة فضلوا واحدا على ثلاثة. وتجد بعد ذلك مثلا أربعة فضلوا ثلاثة على واحد. يُمكن أن تجد سبعة فضلوا ثلاثة على واحد. ستقول لي يُوجد تناقض هنا! ما الذي يحصل هنا؟ 

هو هذا! لذلك قال لك في الخيارات الجماعية يختلف الأمر. طبعا هو اقتصادي، مُفكر اقتصادي هذا! كينيث أرو Kenneth Arrow! وأول ما فكر، قال لك لا يُمكن، مهما كان حس العدالة لدينا مصقولا مشحوذا، أن نُوزع الخيرات، أن نُوزع الدخل، بطريقة عادلة، مع اختلاف تفضيلات البشر وتوقعاتهم ومُتطلباتهم، مهما حاولت! لا يُمكن أن تُحقق هذه الحالة من المثالية أو العدالة!

طبقها في السياسة، قال لك في الديمقراطية نفس الشيء، لا يُمكن! الديمقراطية في جوهرها ستكون في الأخير غير عقلانية! والاقتصاد في جوهره غير عقلاني! ويُضحي بالعدالة وبالعقلانية! لذلك هناك نظرية الاختيار الخاصة بأرو Arrow هذه، مُسلّمة أرو Arrow للاستحالة!

قال لك مُستحيل، انس! وأخذ عليها نوبل Nobel! طبعا مئات الصفحات كتب فيها، شيء مُعقد جدا! قال لك لا يُمكن الجمع بين عدم الديكتاتورية، والحرية، والعدالة، والاستقلال. عندك أربعة عناصر في تكوين المُجتمع السياسي، فضلا عن غيره! يستحيل أن تجتمع الأربعة!

على فكرة أذكر الكلام هذا وأنا كلي مرارة من الداخل! ومألوم جدا! ولم أُحب أن أُعلق بالتعليق هذا! تعرفون لماذا؟ أستحضر دائما الحالة العربية والإسلامية، في مُناظرة الأفكار والحُكم عليها! بلا مُبالغة حالة أقل من طفولية، صبيانية! الفكر الإسلاموي هذا، الذي حكمنا تسعين سنة، ما شاء الله عليه يا أخي! جبار! يأتي ويقول لك لا يا أخي، يُمكن الجمع بين العدالة والرحمة، نجمع هذا وهذا – بعون الله تعالى -، وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا *، خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ *، نحن الأمة الوسط، ولا تُوجد مُشكلة يا أخي، نحن نجمع بين كذا وكذا! 

مساكين، أي شيء عجيب مدى الانتحار التنظيري والفكري الذي يُمارس علينا! لأنه قبل أيام أحد الإخوة العلماء، من أحبابي، بعث لي منشورا، قال لي يا فلان هذا المنشور الآن يُوزع على نطاق واسع! كم يُكلفهم القمار في الغرب هنا؟ كم تُكلفهم الخمور من كذا؟ كم كذا وكذا وكذا؟ قال لك وهذه تُكلف كذا تريليون! الحمد لله، الحل الإسلامي واضح، حرّم الخمر، انتهينا! حرّم القمار كذا، حرّم بيوت الدعارة، الحل الإسلامي!

ما شاء الله! لو الأمور بهذه الصبيانية، وبهذه الطفولية، لحللتم – ما شاء الله – ليس مشاكلكم يا عالم إسلامي، مشاكل الكون! كل مشاكل الدنيا في بلادنا، وعندنا! وفي كل تشكيلاتنا تقريبا الاجتماعية، حتى في المساجد! تخيل! والمنابر! شيء غير طبيعي! 

طريقة طفولية، لا تستوعب حتى أي عُمق للتحديات المطروحة، تخيل! لأنها طفولية، ليست طريقة جادة! لو مشوا خطوات إلى الأمام، لرأوا حجم التحدي الحقيقي الذي يُحملق فيهم، يُبحلق في عيونهم! أن المسألة أصعب مما يتخيلون! تخيل! 

فلماذا أنا حكيت الكلام هذا؟ لما تُدرك العالم والطبيعة والمُجتمع والكون، على أنه تآثرات Interactions، واعتمادات مُتبادلة، وتفاعلات مُستمرة – تخيل -، تُدرك كم هو صعب على أن يُقولب، وعلى أن يُنمذج! تعمل له نماذج أو Typology أو كذا! صعب جدا جدا جدا، يتأبى! 

وهنا يبرز جُزء من عبقرية نيلز بور Niels Bohr، لما قال ما ذكرنا! انس! انس! حلم معرفة الواقع والكشف عن الواقع ومُجابهة الواقع! انس! كل ما لديك نماذج معرفية، أنت تبنيها؛ لتُحاول أن تفهم! أنت تفهم! ما مدى مُطابقة هذا الفهم الآن للحقيقة في ذاتها وكذا؟ موضوع ثان – قال – هذا! وحلم بعيد! المسألة أصعب مما تتخيل!

لذلك نحن أبناء النماذج، ولا بُد أن نشتغل على النماذج، ولا بُد أن نُعيد فحص النماذج باستمرار، وأن نُقارن بين النماذج، مُقارنة مُستمرة! وعلى فكرة، نيلز بور Niels Bohr فلسفته ضد فلسفة توماس كون Thomas Kuhn، التي لم تكن موجودة، لم تكن مخلوقة أيامها! 

توماس كون Thomas Kuhn في الستينيات، أول الستينيات نشر كتابه! لكن كتابه موجود. من ضمن توالي نظريته مبدأ عدم القابلية للمُقارنة! بحسب توماس كون Thomas Kuhn لا يُمكن مُقارنة Two paradigms! ممنوع! لا تُوجد إمكانية أصلا. لا، بحسب بور Bohr لا، تُوجد! تُوجد، تُوجد، تُوجد دائما! قصة ثانية هذه على كل حال!

فالذي نُريد أن نقوله إن مُلخص موضوع التوليف – أو التركيب المنهجي هو -وروحه فلسفة السيرورة لألفريد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead، التي تقول إن العالم علاقات وتفاعلات، أكثر منه جواهر وعناصر، وليس عناصر وجواهر! وهذا العالم في حالة نمو مُستمر! يُسمونه Evolutionary dynamic world؛ العالم الديناميكي التطوري! هو هكذا اسمه في فلسفته! هذا العالم ينمو!

طبعا النُقطة الخطيرة، من منظورنا نحن، لكن هذه فلسفته! قال لك هذا العالم علاقة الخالق به ما هي؟ لأن وايتهيد Whitehead مؤمن، مؤمن بالله، لكن عنده تصور آخر، لا يزال غير اللاهوت النظامي القديم! قال لك الخالق بحسب فلسفة السيرورة هو مُحايث، وليس مُتعاليا!  Immanentهو، Immanent! وبالأحرى هو مُحايث أكثر منه مُتعاليا! 

كأنه لم يُنكر أن الله في الأخير شيء في ذاته، لا إله إلا هو! لكن قال لك هذا الذي أقدر على أن أفهمه. وطبعا واضح أن الكانطية حاضرة هنا، الكانطية واضحة! انتبه! لأن بحسب كانط Kant أن تتناول الله بذاته، كشخص، كذا، مُستحيل، مسدود الباب. 

وايتهيد Whitehead قال لك أنا سأتناوله ضمن الكون. لا يُمكن تفسير الظاهرات وفهم اعتلاقاتها وتآثراتها، إلا بالحضور الإلهي، فليكن الله Immanent؛ مُحايثا! هل هي وحدة Pantheism؟ لا، موضوع ثان، لا يزال أعقد! 

فلسفته كبيرة على فكرة، وكُتبت فيها رسائل كثيرة! حاول أن تبحث عنها! فلسفة عميقة جدا جدا، يتبناها إيان بربور Ian Barbour هذا، ويعتبر أنها مخلص كبير، وأنها النُسخة الأحسن من نموذج التكامل في العلاقة بين العلم والدين، وأن الله ليس مُتعاليا ومُتساميا، بل هو مُحايث، وأنه يتطور وينمو بنمو الوجود نفسه! هو يقول ذلك! 

على فكرة، نظرية أن الوجود غير ناجز – الوجود موجود ولكنه آخذ في التكامل، وآخذ في النمو والتطور، ومفتوح – أشار إليها سانت أوغسطين Saint Augustine! هذا العقل الجبار على فكرة! هذا عقل غير سهل! كيف أنت كعقل في القرن الرابع والقرن الخامس الميلادي وصلت إلى هذه الطروحات؟ بلا شك هذا عقل مُذهل وكبير جدا! سانت أوغسطين Saint Augustine! لذلك دائما يُقتبس! عنده هذه البذرة!

أكتفي بهذا القدر، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. 

 

   

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: