توافق لا صراع – العلم والدين – الحلقة 3

video

 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

إخوتي وأخواتي/

نُكمل ما ابتدأناه اليوم – إن شاء الله تعالى – في هذه الحلقة من سلسلة العلم والدين، والمعنية بإعادة استكشاف وتقييم العلاقة بين العلم والدين، بالذات وبشكل خاص في السياق الغربي؛ لأسباب طبعا موضوعية!

أولا لأن العلم الطبيعي، العلم التجريبي، العلم بالمعنى الحديث الذي شاع في العالم، نستطيع أن نقول إنه لم يُعرف كمؤسسة على الأقل إلا في الغرب الحديث، إلا في الغرب الحديث! أي لم يكن لدى الإغريق علم بهذا المعنى المؤسساتي، لم يكن لدى الصينيين علم بهذا المعنى، لم يكن لدى الفراعنة والمصريين القدماء علم بهذا المعنى، انتبه! 

ستقول لي كيف يا أخي؟ أي فرانسيس بيكون Francis Bacon ذكر مرة أن النهضة الأوروبية – الرينيسانس Renaissance؛ النهضة الأوروبية – تدين في تقدمها لثلاثة اختراعات؛ البارود – ال Gunpowder هذا -، والبوصلة المغناطيسية – ال Compass هذه، ال Magnetic compass -، والمطبعة أو الطباعة – ال Printing -! 

صحيح، هذه الأشياء كان لها دور درامي كبير جدا جدا في دفع النهضة خطوات فسيحة إلى الأمام. اللافت أن الثلاثة، وثلاثتها، صينية. أي لا البوصلة اختراع أوروبي، ولا البارود اختراع أوروبي، ولا الطباعة.! هناك المطبعة، الخاصة بغوتنبرغ Gutenberg، هذه شيء ثان، لكن الطباعة كفكرة، هي فكرة صينية.

فكلامه غير صحيح؟ لا، كلام صحيح. لماذا؟ هذا موضوع آخر، لكن جوابه المفتاحي في كلمة واحدة؛ العلم ليس هو التكنولوجيا. العلم غير التكنولوجيا. ستقول لي لا يا حبيبي؛ لأن التكنولوجيا أصلا مبنية على العلم. غير صحيح بالمرة، التكنولوجيا أقدم بكثير من العلم، التكنولوجيا كل الحضارات المشهورة المؤرخ لها عرفتها، عرفت التكنولوجيا كثيرا أو قليلا! أما ارتباط التكنولوجيا بالعلم على النحو الذي نعيشه ونعرفه، لم يتم إلا في القرن التاسع عشر، قبل زُهاء مئة أو مئة وخمسين سنة، ليس أكثر! 

تاريخيا التكنولوجيا كانت نوعا من المهارات الفنية واليدوية، حتى القرود تُمارس التكنولوجيا بدرجة من درجاتها! حين يأتي القرد، ويأخذ عصوين؛ ليصيد بهما بعض الحشرات، هذه تكنولوجيا! ويكسر حتى العصا وكذا، ويجعلها صالحة، نوع من التكنولوجيا! صناعة وصب وصهر المعادن، في أواخر العصر الحجري، تكنولوجيا! 

لكن هذه التقنيات كلها لم تكن قائمة على العلم، العلم لا بُد أن يكون وراءه ماذا؟ مسعى نظري، تنظيري! نظريات، وفروض قابلة للاختبار بطبيعتها. لم يكن الأمر كذلك، كل ما هنالك تجربة وخطأ، تجربة وخطأ! كما حصل مع القرد، حصل مع الإنسان، قبل التأريخ، وفي عصور التأريخ.

المُهم أن مؤرخي العلم والتكنولوجيا في العالم شبه مُتفقين – وهناك مَن شذ – على هذه الحقيقة، انتبه! العلم شيء، والتكنولوجيا شيء آخر. لم يرتبطا ارتباطا عضويا ببعضهما، إلا في القرن التاسع عشر لأول مرة، لأول مرة! لكن طبعا لكي نفهم عُمق الجواب، لا بُد أن نُعيد تعريف العلم، ونُعيد تعريف التكنولوجيا، هذا موضوع آخر، يُخرجنا عن غرض المُحاضرة اليوم. يحتاج إلى كلام وحده هذا، لكنه موجود، يُمكن أن تعودوا إلى الدراسات في هذا الباب. 

إذن فالعلم كمؤسسة لم يُعرف إلا في الغرب، ولذلك ازدهر! ظل يزدهر، وإلى الآن يُمارس صعوده وازدهاره، في حين أن هناك مُحاولات بدئية وابتدائية، كانت في هذا النطاق أو ذاك النطاق الحضاري، لكن قُضيَ عليها، بشكل أو بآخر، وهو النموذج المعروف بالازدهار ثم الخمول Boom-Bust pattern! نموذج الازدهار والخمول، الازدهار والانكسار. 

ال Boom-Bust pattern؛ نمط ازدهار، انكسار! عاشه الصينيون، الهنود، المصريون، والمسلمون العرب. أما في الحالة الغربية، وذكرت هذا اختصارا أيضا في المُحاضرة السابقة، العلم ازدهر وظل يُوصل ازدهاره، رُغم ما عاناه من بعض العقبات في البداية، وخاصة مع الكنيسة، لكنه تغلب عليها، وصفى حساباته، وما زال يزدهر، بل بدأ يتغول. 

هذا موضوع آخر، سوف نرى الآن مَن الذي يتغول على الآخر؛ الدين يتغول على العلم، أم العلم الآن بدأ يُمارس تغوله على الدين؟ طبعا الشيء الثاني للأسف هو الحاصل! لكن هذا ربما يكون في آخر المُحاضرات.

إذن أقول هذا الموضوع – أيها الإخوة – نحن قدمنا له في الحلقات السابقة؛ حلقتين تقريبا، بمُقدمات عامة سريعة، أردت من خلالها أو رُمت من خلالها أن أُحيطكم علما ببعض عناصر الموضوع الرئيسة. الآن سنبدأ نتكلم كلاما أكثر تحديدا وأكثر تخصيصا.  

ذكرت لكم في الحلقات السابقة أن النماذج المشهورة الآن والمدروسة لعلاقة العلم بالدين ثلاثة أو أربعة، بعضهم بلغ بها ثمانية! نحن يُستحسن لأغراض أيضا اقتصادية مع الوقت أن نقف بها عند ثلاثة أو أربعة؛ نموذج الصراع، نموذج الفصل أو الانفصال أو الاستقلال، نموذج التكامل، الذي يُمكن أن يُترجم بالاندماج، Integration! اندماج، أو نُترجمه بالتكامل، أحسن من كلمة اندماج، عندها إيحاءات أُخرى. اندماج، تكامل، وتعاون. 

النموذج الرابع أفضل ربما أن أُسميه أنا النموذج الخليط، هو اسمه نموذج التعقيد Complexity model! نموذج التعقيد! هو الخليط، الذي يرى أن العلاقة تقريبا في كل الأحقاب التاريخية الحديثة لم تكن شيئا واحدا بامتياز أبدا، مزيجا من الصراع والانفصال والتكامل والتعاون، يقل هذا حظه ويكثر حظ هذا في فترة، والعكس، وهكذا! وهذا نموذج أعتقد أنه مرن، وقادر أن يثبت أمام تحديات واعتراضات أكثر من النماذج الأُخرى. 

دائما كلما كنت أكثر مرونة، كلما كنت أكثر استيعابا، أليس كذلك؟ وكما يقول الأجانب مرونة أكثر تعني تحكما أكثر. فلا يخرج شيء عن سيطرة نموذجك تفسيريا. حتى لا نُطوّل بالمُقدمات، أُريد وأُحاول أن أعصر ذهني، فقط أُعالج النقاط التي تجعلنا في قلب فهم نموذج الصراع؛

أولا – في شكل نقاط – هل نموذج الصراع مُهيمن وسائد؟ نموذج الصراع هيمن وساد في القرن التاسع عشر، فيما يبدو، انتبهوا! هذا التحفظ مُهم جدا! لأن يبدو أنه على الأرض وعمليا، لم يكن هو السائد، عجيب! لكن لدى العلماء والمؤرخين، الذين لم يُدققوا إعادة درس الملف بالتفصيل. كالمؤرخين الآن الذين يفعلون هذا بتجويد يُحسدون عليه، ظنوا أنه هو الذي ساد. ستقول لي عجيب! التاسع عشر! وماذا قبل القرن التاسع عشر؟ 

لا، كل الدلائل كانت تؤكد أن النموذج لم يكن هو نموذج الصراع. طبعا هذا مثلما لاحظ المؤرخ الكبير، وهو الآن من الحُجج في هذا الحقل حول العالم؛ بيتر هاريسون Peter Harrison، قال ولكن هذا لا يعني أنه لم تحدث هناك وقائع صراع. هناك وقائع، طبعا! حصلت هنا وهنا وهنا، ومشهورة! وكما نقول دائما أهم وقائع الصراع على الإطلاق لحظتان، لحظتان مفصليتان وتاريخيتان؛ لحظة غاليليو Galileo، ولحظة داروين Darwin. على الإطلاق! 

ستقول لي والله إذا كانت المسألة لحظتين، فسهلة! المسألة ليست بالعدد، المسألة بحجم ماذا؟ بحجم التأثير! والعقابيل التي نجمت عن هذا العراك وعن هذا الاصطدام كبيرة عقابيل كبيرة وحرجة وحساسة جدا، مُخيفة! تؤثر على بُنيان كامل، لاهوتي أو فلسفي، في النظر إلى المسألة.

ما الذي حصل إذن؟ الذي حصل كما قلت لكم أن في القرون الحديثة بزغ العلم في القرن السابع عشر، المعروف بالثورة العلمية، بقرن الثورة العلمية! ستقول لي الثورة العلمية؟ نعم، في القرن السابع عشر. كان رمزها الأكبر طبعا إسحاق نيوتن Isaac Newton؛ لأنه من أهالي القرن السابع عشر، لكن سبقه طبعا غاليليو Galileo، وبلا شك من المؤسسين العظام، ومن آباء العلم الحديث، لكن يبقى الرمز الأكبر للثورة العلمية إسحاق نيوتن Isaac Newton. سواء إسحاق نيوتن Isaac Newton أو غاليليو غاليلي Galileo Galilei أو روبرت بويل Robert Boyle، أو صموئيل كلارك Samuel Clarke، نجوم العلم الكبار!

حتى سابقا، أي حتى في القرن نفسه؛ في ألف وستمائة وخمسين، رينيه ديكارت René Descartes! الفيلسوف الكبير، المُنحاز للعلم، والذي طبعا انحاز، ربما حتى دون أن يكون واعيا تماما بانحيازه هذا، لكن نحن واعون به، إلى أن الدين يعمل في حقل، والعلم يعمل في حقل آخر، نموذج الانفصال. وحدد؛ حدد مجال عمل الدين، ومجال عمل العلم. ويُعتبر أيضا من الفلاسفة الذين أسسوا للعلم الحديث، بفلسفته! 

مثله مثل فرانسيس بيكون Francis Bacon. فرانسيس بيكون Francis Bacon مارس العلم أكثر مما فعل ديكارت Descartes، ولكنه في النهاية هو فيلسوف أكثر منه عالما بالمعنى الذي سيُعرف في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ لأنني ذكرت في المُحاضرة قبل السابقة كلمة عالم لم تُصك – أي Scientist لم تُصك – إلا في القرن التاسع عشر، في أواخره، ولم تُتداول على نطاق واسع إلا في مطلع القرن العشرين. قبل ذلك كانوا يستخدمون لفظة العالم الطبيعي Naturalist، العالم الطبيعي! هذه بمعنى العالم اليوم. يُسمونه الفيلسوف الطبيعي أو العالم أو الباحث الطبيعي، أي الطبيعي، Naturalist هكذا، الباحث الطبيعي، وفيلسوف طبعا! فيلسوف طبيعي.

إذن ما الذي حدث؟ كل هؤلاء تُوجد لهم أدبيات مُهمة، في كتبهم، أدبيات مُهمة جدا جدا جدا! هذه الأدبيات تؤكد أن علاقتهم بالدين مُمتازة، على ما يُرام. بالنسبة لحالة غاليليو Galileo، فصلت فيها في الحلقة السابقة، وذكرت مبادئه الأربعة، مبادئه الأربعة في رسالته إلى الدوقة العُظمى كريستينا Christina، لن أعود إليها. 

بالنسبة لروبرت بويل Robert Boyle، مُعاصر نيوتن Newton وسابق عليه في السن، هو أسن منه، وهو أحد مؤسسي جمعية لندن الملكية لتنمية البحث العلمي، الجمعية الملكية! ال Royal Society، المشهورة، جميل! في ألف وستمائة وستين. هذا الرجل عنده كتاب اسمه الكيميائي المُتشكك. أي ال Skeptical، الكيميائي المُتشكك. يذكر فيه عبارة من أجود ومن أروع ما يكون! 

لماذا أفعل هذا؟ لكي أؤكد لكم بالملموس أن العلاقة لم تكن صراعية، لم تكن صراعية أبدا! كانت إما تُداور وتُحاور بين الانفصال والاستقلال، أو الاندماج والتعاون والترابط والتراسل. لم يكن الصراع هذا! ولحظة غاليليو Galileo؟ قلنا لكم الصراع في جُزء مُهم منه لم يكن صراع علم ودين، كان صراع علم وعلم، وأثبتنا لكم ذلك، صراع علم وعلم!

الجميل الآن أن هناك بعض العلماء الثقات، الذين لديهم حس تأريخي في فهم هذه الموضوعات، مثل الراحل الكبير ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould، وهذا رجل عجيب! أي أنا أستغرب! طبعا قدرته العلمية مُذهلة، وتبسيطه للعلوم حتى للعامة من أجمل ما يكون! أي هو أجمل بكثير حين يكتب حتى من ريتشارد دوكينز Richard Dawkins، بلا شك! وأوسع باعا فيما يتعلق بلغويات العلم وأدبياته وتاريخياته.

وعنده كتاب – طبعا من ضمن مراجعي في كتابي عن التطور – كلما نظرت فيه، أشعر بالاندهاش! كتاب لو طُبع في حجم عادي، فلن يكون أقل من ثلاثة آلاف صفحة! اسمه بنية النظرية التطورية. شيء مُذهل مُرعب مُخيف! في حوالي ألف ومئتي صفحة، بخط دقيق جدا جدا، وورق خفيف. لو طُبع طباعة عادية، فلن يكون أقل من ثلاثة آلاف صفحة! 

أشعر أنه لم يترك أي أدبية تتعلق بالتطور، من أيام داروين Darwin إلى عهده، إلا ووقف عليها، ما هذه الجدية؟ ما هذا الجبروت في العمل؟ أنا أحترم أمثال هؤلاء الناس! هذا الراحل ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould! 

هذا الرجل خصص كتابا كاملا، أدعوكم إلى قراءته – كتاب لطيف وجميل، ولا يخلو من فوائد كثيرة -؛ لكي ينصر فيه نموذج الانفصال والاستقلال بين العلم والدين، وهو الذي يُسميه بلُغته ماذا؟ 

طبعا هو كما قلت لكم مُتميز جدا في استخدام اللُغة! يستخدم دائما في كل أعماله ألفاظا، قد لا يستخدمها غيره، في مثل هذه السياقات والمعاني. يأتي بها من بطون التاريخ والكتب والمصادر البعيدة عن اطلاع العامة ومُعظم الأكاديميين، عجيب! عنده اطلاع واسع جدا الرجل، فيبدو أنه قضى حياته في القراءة، منهوم بالمعرفة والعلم. يُسمي هذا النموذج ماذا؟ هو نموذج ماذا؟ يُسميه Non-overlapping magisteria. ويختصره NOMA!

Non-overlapping magisteria! Magisteria جمع Magisterium باللاتينية، وهي من الحقل الكاثوليكي! أخذها من حقل أدبيات الكاثوليكية! وكان يُعنى بها في العصور الوسطى وبداية العصر الحديث، ما يُمكن أن يُرادف في السياق الإسلامي الإجازة. أنت مُجاز بالقراءات السبع، أنت مُجاز بعلم المُصطلح، مُجاز بعلم الفقه، مُجاز! إجازة! 

الإجازة مُفيدة في ماذا؟ في أنها بمثابة إذن لك أن تُدرّس ما أُجزت فيه، دونما لم تُجز فيه. عندك إجازة في الأصول، درّسه. ليس عندك في العقيدة، لا تُدرّس. في السياق الكاثوليكي، عندهم نفسي الشيء! Magisterium معناها الإجازة العلمية، يُعطونها للراهب أو الكاهن أو طالب العلم الديني، في حقل مُعين، تسمح له بالمُمارسة.

هو ماذا قال إذن؟ Non-overlapping. هو صك هذا المُصطلح! Non-overlapping أي ليس مُتداخلا. لا يُوجد تداخل، أي يُوجد انفصال. Non-overlapping magisteria أي الإجازات، أو بتعبير ثان التخصصات، غير المُتداخلة. فالدين Magisterium وحده، والعلم Magisterium وحده، وNon-overlapping، لا يُوجد بينهما تداخل، وسماها NOMA. حين تقرأ كتابه أنت، تجد أنه دائما ما يقول لك NOMA…NOMA…NOMA! ووقفوا مع NOMA، ضد NOMA! تفهم ما ال NOMA! Non-overlapping magisterial.

فهذا الرجل لاحظ أنه في العصور الوسطى فعلا العلاقة كانت سمنا على عسل، أو سمنا مع عسل! وكانت أقرب إلى التناغم، أي الهارموني Harmony، كانت أقرب إلى الهارمونية أو التناغم والانسجام، منها إلى الاحتكاك وكذا. ومن ضمن الأشياء التي أحسن أنه قام بها في كتابه هذا الآتي! ما اسم هذا الكتاب إذن – نحن لم نقل -؟ اسمه Rocks of Ages. صخرتا الزمن! 

هناك الدكتور محمد عصفور، لما ترجمه – والكتاب تُرجم الحمد لله – ترجمه ماذا؟ طبعا المجلس القومي للترجمة في مصر ترجموه صخور الزمن، أنا أرى أن ترجمة الدكتور عصفور أفضل؛ صخرتا الزمن. هو لا يتحدث عن صخور كثيرة، يتحدث فقط عن Two rocks؛ العلم والدين. وهو يرى أن الحياة لا يُمكن أن تستمر، وليس لها قيمة، ولا تستحق أن تُعاش، إلا بصخرتيها؛ العلم والدين. 

ستقول لي عميق الإيمان؟ لا، هو كان لا أدريا Agnostic. هناك أُناس يتهمونه بأنه مُلحد، وهو ليس مُلحدا، هو عاش ومات وهو لا أدري، وكان يقول هذا، وحتى في كتابه هذا في موضعين صرح بأنه Agnostic. قال أنا لا أدري، ولا أُمارس الدين ولم أُمارسه، لكن أعي تماما أن الحياة لا تستحق أن تُعاش بغير دين.

ريتشارد دوكينز Richard Dawkins موقفه من توصيف العلاقة بين العلم والدين لم يحظ لا بقبول علماء كبار، وإن كانوا ملاحدة، فضلا عن أن يحظى باحترام فلاسفة مُتخصصين، فضلا عن أن يحظى باحترام مؤرخي العلم. أي أذكر حتى أنني مرة قرأت لقاء – إن شاء الله أذكره جيدا – مع فريمان دايسون Freeman Dyson. 

ودايسون Dyson طبعا أحد كبار الفيزيائيين في القرن العشرين، صديق وتلميذ إلى حد ما لريتشارد فاينمان Richard Feynman، وصاحب مشروع أوريون Orion وكذا، قصة كبيرة! وكرة دايسون Dyson هذه! لا نُريد أن نتحدث عنه، لكن من أروع ما يكون! وله كتب – بفضل الله -. أنا عندي عدد من كتبه بالإنجليزية. له كتب رائعة تتحدث عن العلم والموقف والرؤية العلمية في قضايا كثيرة! 

لماذا إذن؟ لأن فريمان  Freeman Dyson كان ثعلبا Fox. ثعلبا بمعنى ماذا إذن؟ هو عنده مُقاربة جميلة، أخذها من كتاب إيزيا Isaiah – أي أشعيا – برلين Berlin. عنده كتاب اسمه ماذا؟ اسمه القنفذ Hedgehog وال Fox. هو مبني على مقولة لشاعر يوناني قديم، جميلة هذه المقولة! 

كان يقول هذا الشاعر القنفذ له طريقة واحدة وتكتيك واحد، يُمارس به الدفاع عن نفسه. تعرفون ما هو؟ أن يتقنفذ – على قولة الإخوة التوانسة -، أن يتقنفذ ويجعل رأسه في بطنه، فلا ينال المُعتدي عليه منه إلا الأذى. لا تستطيع لا أن تلتهمه، ولا أن تقترب منه. وعنده طرق أُخرى لا أُريد أن أتكلم عنها، في علم الأحياء. المُهم، لكن هذه الطريقة المشهورة؛ التقنفذ. أما الثعلب، فله تكتيكات وطُرق كثيرة، يُمارس بها الدفاع عن حياته وعن نفسه واقتناص ما يُريد. وصحيح! الثعلب واسع الحيلة، ولذلك يُقال الثعلب المكار. الثعلب واسع الحيلة!

إذن استُخدم هذا كمجاز وكاستعارة لتوصيف ضربين من ضروب المُفكرين، ومن ثم العلماء. من المُثير أن ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould – الآن فرغت من الحديث عنه – عنده كتاب أيضا اسمه ماذا؟ القنفذ والثعلب. مثل كتاب مَن؟ أشعيا برلين Isaiah Berlin. يتحدث فيه عن طُرق التقاء العلم؛ العلم الطبيعي، والإنسانيات Humanities؛ الاجتماع والفلسفة والاقتصاد والأشياء الأُخرى! أي أين تلتقي؟ أين يلتقي وأين يفترق العلم الطبيعي عن الإنسانيات؟ 

فدايسون Dyson؛ فريمان دايسون Freeman Dyson هذا، كان يعتبر نفسه ثعلبا، بمعنى ماذا؟ أنه لا يكتفي بالمنظور العلمي فقط؛ فيزياء ورياضيات وما إلى ذلك، لا! يُحب أن يقرأ في التاريخ والاجتماع والأدب والدين، وفي أشياء أُخرى كثيرة. نفس الشيء، نفس ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould! قال لك الحياة نُطل عليها من نوافذ. هو يُسميها أحيانا النوافذ! ال Windows هذه، Metaphor! أعظم نافذتين على الإطلاق؛ العلم والدين. والدين أهم من العلم. 

مَن الذي يحكي الكلام هذا؟ ليس لاهوتيا، ليس البابا، وليس أنا وأنت، فريمان دايسون Freeman Dyson! عالم الفيزياء الخطير، من أكبر علماء الفيزياء، رجل ليس عاديا بالمرة، عبقري من العباقرة هذا! يقول لك الدين أهم، الدين أوسع تشاركا. أي الناس تتشارك العلم أكثر أم الدين؟ لا طبعا، الدين، الدين!

هناك لويس ولبرت Lewis Wolpert! أيضا هذا عالم، وسأقول موقفي منه. هذا عالم كبير في علم الأحياء الجُزيئية، وخاصة في المعلومات الخلوية الموضعية، عنده إبداعات سُجلت باسمه! عالم كبير. عنده كتاب اسمه ماذا؟ تُرجم هذا الكتاب، وعنده كُتب أُخرى كثيرة! كتاب اسمه ماذا؟ طبيعة العلم اللا طبيعية The Unnatural Nature of Science. طبيعة العلم غير الطبيعية. 

المُهم، يذكر فيه ولبرت Wolpert أن خمسة في المئة فقط من الشعب الأمريكي يتفهمون العلم، وخمسة وتسعون في المئة لا علاقة لهم به! لا يفهمونه، ولا لهم علاقة به! يقول ولبرت Wolpert؛ لويس ولبرت Lewis Wolpert، مع أن الموازنة التي تُخصص للأبحاث العلمية والتكنولوجيا أرفع موازنة في العالم. مليارات، مليارات! ومع ذلك خمسة في المئة! إذن كلام فريمان دايسون Freeman Dyson في مُنتهى الدقة.

على فكرة، تُعجب بدايسون Dyson حين تقرأ له! كم هو دقيق الرجل هذا! دقيق جدا حين يقول! وفعلا يتكلم في موضوعات يستوعبها جيدا. يقول لك الدين أكثر تشاركية من العلم. فعلا! لأن خمسة في المئة في أمريكا، أكبر موازنة للعلم والبحث العلمي والتكنولوجيا، خمسة في المئة! لكن انظر كم عندهم مليون أصولي! ثمانون أو تسعون مليونا! أصولية دينية. فالدين أوسع تشاركا من ماذا؟ من العلم.

لذلك حذار – أقول هذا للملاحدة، وأعداء الدين -، حذار من الاستخفاف بقوة الدين وأهمية الدين، وإدارة الظهر للدين! كأنك تُدير الظهر لإصلاح الحياة، لتطييب الحياة. نحن نُريد أن نُصلح، أن نُطيب، أن نُقدم شيئا إيجابيا. الحكاية ليست بالعناد وتسجيل المواقف. لا، نُريد أن نكون فاعلين إيجابيين حقيقيين. إذا أردت أن تكون كذلك، فعليك أن تكون مُتواضعا أمام الحقائق الصُلبة! أن الدين في التاريخ، وفي الواقع، إلى اليوم، لا يزال الأكثر تشاركية. 

إذن من باب التشاركية والانتشار، هو قضية مُهمة جدا جدا، لا يُمكن إدارة الظهر لها. احذر، حذار! لا تظن أن المسائل مسائل فقط نظرية. لا، نحن نُريد مسائل ليست معيارية، نُريد مسائل توصيفية واقعية وضعية، كما هي.

فنرجع، نرجع إلى ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould. لاحظ أن العلاقة سمنة على عسل. وسأُعطيكم بعض الأمثلة المُهمة والجميلة، ستستغربون! أعتقد الفصل الأول من كتاب ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould – الذي هو ماذا؟ Rocks of Ages؛ صخرتا الزمن. يتحدث فقط عن الدين والعلم! صخرتا الزمن -، كان اسمه ماذا؟ A Tale of Two Thomases؛ قصة توماوين. إذا قلنا اسمه توما، فإذن هو يُثنى على توماوين. إذا قلنا توماس، فإذن قصة توماسين. 

توماس الأول توماس الشكاك؛ Skeptious Thomas هذا، الحواري، قصته معروفة! يُمكن أن نتكلم عنها في حلقة أُخرى. توماس الثاني مَن هو؟ توماس بيرنت Thomas Burnet. توماس بيرنت Thomas Burnet هذا قل أن نسمع به! هذا رجل لاهوتي، من خلفية دينية محضة، ولكن كان يُمارس العلم كما بدأ يُعرف بهواية وشغف كبير، Passion كبير! وألف كتابا عجيبا، له اسم باللاتينية، تُرجم بالإنجليزية، اسمه النظرية المُقدسة عن الأرض The Sacred theory of the earth! النظرية المُقدسة حول كوكب الأرض، حول الأرض.

هذا ألهم بعض الكتب المُهمة في العلم بعد ذلك، اليوم يُنظر إليه على أنه علم زائف أو علم مريض أو علم هرائي. قال لك هذا كله هراء وكلام فارغ! أي كتابه؛ النظرية المُقدسة عن الأرض، أو حول الأرض. توماس بيرنت Thomas Burnet هذا كان صديقا لإسحاق نيوتن Isaac Newton. 

العجيب أن ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould في هذا الفصل المُهم – حكاية توماسين، أو قصة توماسين – يؤكد لك أن بيرنت Burnet المُتدين اللاهوتي أكثر وفاء بمُتطلبات ومُقتضيات المنهج العلمي من إسحاق نيوتن Isaac Newton. وقال لك صراع! العلم والدين دائما في صراع! 

ليس صحيحا، هذه أكبر أُكذوبة، أُكذوبة كبيرة، أنا خُدعت بها سنوات طويلة من عمري للأسف. كنت أقرأ لهؤلاء الذين تبنوا هذا النموذج، في الشرق والغرب! وسوف في الأخير أُعلق على الوضع الإسلامي، الفكر الإسلامي كيف تعاطى؟ للأسف تبنى نموذج الصراع، عبر تسعين سنة للأسف الشديد! الآن بدأ التصحيح، أي ربما.

المُهم، فباختصار؛ حتى لا أُطوّل، بيرنت Burnet هذا؛ توماس بيرنت Thomas Burnet، في كتابه هذا؛ النظرية المُقدسة عن الأرض، رفض أن يُتعاطى مع أي قضية طبيعية، في عالم الطبيعة، في عالم الخلق هذا، بمنطق ديني ماورائي، حتى وإن ورد في الكتاب المُقدس. قال لك ممنوع. عجيب! 

والرجل علمي طبعا، علمي بدرجة عميقة جدا جدا، ومُتعصب في دينه، هو مُحب جدا للدين. قال لك هو هكذا، بما أن الرب الجليل أقام هذا العالم على قوانين ونواميس، فإذن لا بُد أن نحترم نحن هذه النواميس. وهو لا يلعب. 

لماذا أنا ذكرت الكلام هذا؟ قلت لكم هناك روبرت بويل Robert Boyle، أحد مؤسسي الجمعية الملكية، ومُعاصر نيوتن Newton أيضا، وعالم كبير، تعرفون قانون بويل Boyle في الغازات وغيرها، عالم كبير! روبرت بويل Robert Boyle عنده عبارة في كتابه – ها قد رجعنا لها، ومنها نفذنا إلى توماس بيرنت Thomas Burnet – الكيميائي – أي ال Chemist – الشكاك – ال Sceptical! ال Sceptical Chymist – جميلة جدا! لعلي ذكرتها مرة واحدة قبل ذلك، ربما في خطبة داروين وجحا.

يقول فيها بويل Boyle أيهما أدل على عظمة الرب؛ أن يخلق الكون، ويظل بين الفينة والفينة، يتدخل؛ لكي يُصلح أعطابه وأخلاله – هذا نموذج ماذا؟ نموذج الكون كساعة. نيوتن Newton تبنى هذا النموذج! أن الله مثل ساعاتي عظيم، يعبئ الساعة ويتركها، تشتغل وحدها، لكن بعد ذلك قد تتأخر وتعطب الزنبركات، فيرجع ويُصلح. بويل Boyle لم يؤمن بهذا -، أم أن يخلقه، ويدعه يعمل وحده؟ 

قال أيهما أعظم في الدلالة على قدرة الله؛ أن الرب يتدخل في الخلق بشكل دائم – يخلق هذا ويخلق هذا ويخلق هذا ويخلق هذا، ويرتب هذا على هذا وهذا على هذا، باستمرار، باستمرار -، أم يخلق العالم مثل ماكينة كبيرة – مثل ماكينة، هنا اقترب من نيوتن Newton، أكيد! لكن هو مُبتعد عنه، وسوف ترون لماذا، مهُمة هذه الأشياء، دقيقة هذه في فلسفة العلم -، كآلة كبيرة، يُحكمها، أو يُحكم تشغيلها – أي ال Operation الخاص بها – بقوانين دقيقة هو يعلمها، هو يعلمها! ثم يتركها لحال سبيلها، بحيث تشتغل بدقة مُتناهية، من غير أن تُحوجه إلى التدخل فيها – يتركها وحدها -؟ 

ستقول لي ماذا عمل هنا؟ هو تجاوز نيوتن Newton في النزعة الميكانيكية! النزعة الميكانيكية خدمت الإلحاد! صح، خدمت الإلحاد، لا من حيث ذاتها، من حيث سوء توظيفها، من حيث سوء تأويلها، من حيث سوء فهمها.

العجيب أن مؤرخي العلم وفلاسفة العلم لاحظوا أن روبرت بويل Robert Boyle فهم الآتي، مع أن هذه الأطروحة التي طرحها فعلا ميكانيكية مادية في ظاهرها، إلا أنه أبى – مُسجل في كتابه هذا؛ الكيميائي المُتشكك أو الكيميائي الشكاك -، أبى أن يُنظر إليها على أنها نموذج ميكانيكي يُعوض عمل الله. إذن كيف وأنت قلت هذا وانتهى الأمر؟ قال لك لا. عنده شيء من أروع ما يكون، والله العظيم! هذه عقول جبارة فعلا، هؤلاء أسسوا العلم! بويل Boyle هذا!

قال لك لأنك إذا نظرت بدقة – دقة فلسفية طبعا الآن، ليست علمية -، فستجد أن القوانين من حيث هي، من حيث ذاتها، أعجز من أن تُشغّل شيئا. Oh! هو فهم كأنه القوانين بحد ذاتها مظهر للعناية الإلهية، مظهر للفاعلية الإلهية. الله لم يُرد تبارك وتعالى أن يُظهر إعجازه وقدرته عبر شيء لا يُفهم أبدا! إنما جعله مفهوما. تقول ها هو، واحد زائد واحد يُساوي اثنين، هذا وهذا! وتظن أنك فهمت الفهم النهائي، لا! الفهم النهائي في الأخير لا بُد أن يُسلمك إلى ساحة الله. شيء جميل جدا! 

أي هو فهم – أول شيء – أن القوانين غير ضرورية، من فعل الله الحُر، وأنها بذاتها، من ذاتها، لا عمل لها، حتى تُشغّل. مَن الذي يُشغّلها؟ وكما نقول دائما قانون واحد زائد واحد؛ هذا قانون، أليس كذلك؟ يُساوي اثنين. إذن هل هذا يشتغل وحده، ويُنمي لي الألف يورو التي عندي، فتصير ألفي يورو! والألفان تصيران ثلاثة! وهكذا؟ أبدا، أبدا! لا بُد أن تُشغّل القانون، لا بُد أن تُوظفه وتُشغّله.
هذه الفكرة تأخذ عُمقها الأكثر مع الفكرة الثانية! ما هي؟ 

دوستويفسكي Dostoevsky في يوم من الأيام عبّر عن خوفه من أن التقدم المُتسارع للعلم قد يُفضي به – في وقت قد لا يكون بعيدا. يقول دوستويفسكي Dostoevsky -، بحيث أن العلم يصير مُتمكنا من التنبؤ بكل شيء. واضح أن دوستويفسكي Dostoevsky كان مُتأثرا بمَن هنا؟ مُتأثر بلابلاس Laplace؛ بيير دو لابلاس Pierre de Laplace. والقصة معروفة مع نابليون بونابرت Napoleon Bonaparte! 

لابلاس Laplace كان يقول أعطني الشروط البدئية لأي شيء، أعطني كل المعلومات عنه، عن بداية الكون مثلا، وأنا أُخبركم بما سيؤول إليه الكون في أي لحظة. هو كان هكذا يرى! فيبدو أن دوستويفسكي Dostoevsky خاف! أن العلم عنده القدرة هذه؛ إذا علم كل الشروط البدئية، فأنه يتبأ بكل شيء إلى النهاية؟

قال وأتصور – فيودور دوستويفسكي Fyodor Dostoevsky – أن العلم بعد ذلك سيضع لنا جداول، مثل جداول اللوغاريتمات، بحيث يكون كل شيء فيها محسوبا بدقة! معروف أين ستذهب وأين ستصل وبماذا ستذهب وبأي دافع، إلى آخره! كله مكتوب، أي كأنك آلة. قال وحينئذ لا مُعاناة، ولا مُغامرة، ولا مُقامرة. تفقد الحياة كل طعمها، كل زخمها، كل روعتها. حياة بلا مُغامرة! وطبعا هو حياته كلها مُغامرات، دوستويفسكي Dostoevsky! في كتابته، وفي قماره، وفي علاقاته، شيء رهيب! 

طبعا هذا الذي خاف منه دوستويفسكي Dostoevsky، هل أقره عليه العلماء، الذين يعرفون كيف يشتغل العلم؟ بالذات هم الذين قالوا لا، تخوفك يا سيد دوستويفسكي Dostoevsky ليس في موضعه بالمرة. إذن لماذا علميا؟ 

علميا قالوا لأن ثمة فرقا رهيبا بين نجاحنا في اكتشاف القانون الحاكم على ظاهرة، وبين إدراك تفاصيل وتركيب الظاهرة حين تكون In action؛ قيد الشغل. قال له هذا موضوع أكثر تعقيدا مما تظن، ولا نظن أننا سنصل يوما من الأيام إلى أن ننجح في إدراك كل هذا الغنى من التعقيد والتركيب. 

قلت لم نفهم! قال لك سهلة. تستطيع أنت بقوانين نيوتنية، ميكانيكية نيوتنية، أن تتحدث في شكل مُعادلات Equations عن علاقة أجسام ثلاثة ببعضها، حين تتحرك – القانون موجود، عادي -، أما حين تتحرك حقا – تُحركها -، وأين ستؤول، هذا يُساوي ماذا؟ بلُغة الرياضيات: حل المُعادلة، ال Solution الخاص بال Equation. حل المُعادلة أصعب بكثير مما تظن طبعا. اذهب وحل يا حبيبي! 

فحل المُعادلة غير وضع القانون. توفر القانون غير تشغيل القانون. هؤلاء هم العلماء الذين يعرفون عن ماذا يتحدثون. لذلك الآن انظر؛ أنت عندك بعض الظواهر شديدة الحساسية لأي تدخل، مهما كان ضئيلا، وخاصة في الشروط البدئية، مثل ظاهرة ماذا؟ الطقس. أليس كذلك؟ وتعرفون نظرية الفراشة، وتعرفون فيزياء الكاوس Chaos، أو الكيوس – أي بالإنجليزية -، فيزياء الفوضى. انس! نحن بعيدون جدا جدا جدا من أن نُدرك. وأشياء أُخرى كثيرة في هذا الباب.

نرجع إلى ما كنا فيه، لماذا ذكرت أنا روبرت بويل Robert Boyle؟ لأن توماس بيرنت Thomas Burnet اقتبس تقريبا نفس المعنى، دون أن يُشير، لم يقل إن هذه كلمة روبرت بويل Robert Boyle، لكن روبرت بويل Robert Boyle مُتقدم قليلا على مَن؟ على بيرنت Burnet. في عمله، وكتاباته، وفي حياته!

توماس بيرنت Thomas Burnet نفس الشيء! قال أنا أرى يا سيد إسحاق نيوتن Isaac Newton – وهو يُناقشه طبعا – أن الرب يكون أروع وأبدع وأدل على قدرته، حين يترك القوانين التي اختار لها أن تُشغّل، تشتغل بنفسها، دون أن يتدخل. روبرت بويل Robert Boyle! هذا نفس روح روبرت بويل Robert Boyle! من غير أن يذكر، كأنه سرق المعنى أو أخذه.

لماذا؟ لأنه حصل نقاش بين نيوتن Newton وبين السيد توماس بيرنت Thomas Burnet. نيوتن Newton كان أقرب إلى المنطق الديني، نيوتن Newton كان مُتساهلا مع المُعجزات وقضية التدخل الإلهي، من هذا الراهب أو رجل الدين. هذا ليس كذلك أبدا، ممنوع! وأُعطيكم مثالا واحدا فقط، الأمثلة كثيرة! وصار بينهما نقاش طويل! 

قضية الطوفان؛ ال Flood، طوفان نوح! قضية الطوفان، بالنسبة للسيد توماس بيرنت Thomas Burnet: قال لك مُستحيل – هكذا كان يتوقع هو – أن مياه الأرض تكفي لإحداث طوفان يعم الجبال. بحسب الجينيسيس Genesis؛ سفر التكوين، لما الطوفان وقع، عم الجبال. والقرآن قال ماذا؟ مَوْجٍۢ كَٱلْجِبَالِ *. جميل! قال ولا يُمكن لعاقل أن يستوعب هذا، إلا إذا استوعب أن الرجل منا يُمكن أن يغرق في بُصاقه. هو فكر هكذا! في الحقيقة لا، ماء الأرض أكثر بكثير مما ظن هذا الرجل المُتدين الوفي للعلم، أكثر بكثير!

إذن ماذا تقترح؟ قال هم يقترحون – مَن؟ رجال الدين. وإسحاق نيوتن Isaac Newton اقترح هذا أيضا مع رجال الدين – أن الله خلق كمية هائلة من الماء خلقا إعجازيا – كُن فَيَكُونُ *، أتى بماء من العدم، قال لها هيا تعالي. خلقا إعجازيا -، حتى إذا أتم مُراده، من عقاب البشرية الضالة التائهة، أفناها – كميات رهيبة! أين ستذهب؟ -، أفناها إعجازيا أيضا – عودي إلى الفناء -.

نيوتن Newton قال لك أنا أقبل هذا، معقول، لِمَ لا؟ عادي! الله على كل شيء قدير. هذا قال له لا، إياك! أنا أُخالفك تماما. إذن أنت تُخالفه، وتقول مياه الأرض هذه غير كافية، إذن كيف هذا؟ قال لا، أنا أقترح أن الرب الجليل يوم خلق الأرض، حين خلقها في البداية، كانت ملساء – قشرتها كانت ملساء -، ولم تكن سميكة جدا، وكانت تُخفي تحتها كمية هائلة من المياه. طبعا البحار والمُحيطات تقع على القشرة الملساء البسيطة، أما المياه الجوفية – إن جاز التعبير – هذه أو الباطنية، فبكميات مهولة. هو هكذا افترض! يُريد ويُحاول أن يُقدم تفسيرا علميا طبيعيا.

نعم! قال وبعد ذلك هذه القشرة في البداية كانت رطبة، ثم بدأت بتبخر المياه منها أيضا والرطوبة تجف، وحين جفت بدأت تشقق، وحين بدأت تشقق بدأ يخرج منها كميات من الماء، هذا الذي سمح في اللحظة المُناسبة أن تكون كميات هائلة علت رؤوس الجبال. تفسير طبيعي، كله من الطبيعة، لا يُوجد شيء إعجازي، لا يُوجد ماء أتى من العدم! في باطن الأرض. 

المُهم، حوار شيق ولطيف وعجيب طبعا! يُناسب ذلك العصر. المُثير فيه أن إسحاق نيوتن Isaac Newton كان أقرب إلى المنطق الديني الإعجازي، وأن رجل الدين – ولم يكن عالما برُتبة إسحاق نيوتن Isaac Newton طبعا -؛ توماس بيرنت Thomas Burnet، لم يكن كذلك، كان أقرب إلى الوفاء بالمنطق العلمي، المنهجية العلمية. ستقول لي عجيب!

مايكل فاراداي Michael Faraday تعرفونه، وأبحاثه في الكهرباء وما إلى ذلك معروفة! هذا الرجل كان عضوا في مُنظمة دينية أصلا لدراسة الكتاب المُقدس وفق مبادئ وطقوس مُعينة، كان مُتدينا جدا. إسحاق نيوتن Isaac Newton على فكرة كثير من الناس لا يعرفون أنه كتب في الدين، وفي تفسير يوحنا ودانيال أكثر مما كتب في الفيزياء والميكانيكا! 

طبعا! مُعظم حياة إسحاق نيوتن Isaac Newton قضاها في أبحاث وأمور دينية، وليس في أمور الفيزياء والميكانيكا. يا خسارة! هذا كيف لو أعطى كل حياته للفيزياء وما إلى ذلك؟ كان ربما سبق أينشتاين Einstein للنسبية. مُذهل إسحاق نيوتن Isaac Newton على فكرة! مُذهل مُذهل مُذهل! 

لا، مُعظم عمله كان في أبحاث دينية، خاصة تفسير يوحنا ودانيال. عنده – العجيب أيضا – أبحاث، ذكرتها مرة في خُطبة قديمة، أبحاث في طبوغرافية النار والجنة! ويُحاول أن يضع مسائل ومُعادلات وأشياء، شيء عجيب! فالرجل كان مُتدينا حتى الدروشة، حتى حد الدروشة! كان درويشا! 

فلا تقل لي العلم ضد الدين. أين العلم ضد الدين؟ ومايكل فاراداي Michael Faraday، روبرت بويل Robert Boyle، غاليليو Galileo، كيبلر Kepler! كوبرنيكوس Copernicus كان راهبا، كان راهبا أصلا في معبد، في Kloster! من الرهبان، هو راهب، راهب بولندي، عجيب! 

ومن آخرهم غريغور مندل Gregor Mendel، راهب نمساوي، مُكتشف ال Genetics كلها، الوراثة! كان راهبا، وأنجز عمله هذا في الرهبنة! كما قلنا في الحصة أو الدرس السابق أيضا ألبيرتوس ماغنوس Albertus Magnus، هذا من المؤسسين لبدايات العلم في العصر المدرسي! 

توما الأكويني Thomas Aquinas نفس الشيء، لم يكن ضد العلم، كان مع العلم! روجر بيكون Roger Bacon كان مع العلم، وهو راهب أيضا، تخيل! وكثيرون من هؤلاء كانوا مع العلم تماما، هم الذين رعوا العلم. 

علم الفلك في الغرب هنا الذي رعته الكنيسة، والذي وطدت له الكنيسة، وفي الديور، وليس في المُجتمعات العلمانية. هم كل شيء خارج الدير، كانوا يُسمونه علمانيا Secular، زمنيا! وكل شيء في الدير، وله علاقة بالدير، يُسمونه ماذا هذا؟ الديني. هذا معنى كلمة علمانية! 

علمانية؛ الناس الذين في الخارج، خارج الديور والرهبانات وخارج العمل الديني. هذا كله يُسمونه علمانيا، كله، كله! تدرس أدبا، طبا، هندسة، شعرا، في الخارج: هذا اسمه علماني. تأكل، تشرب، تُتاجر: كله علماني هذا، نشاطات علمانية. الدينية المحضة: نشاطات دينية Religious، وهكذا!

يُوجد عندنا شواهد كثيرة جدا تؤكد أن العلاقة فعلا كانت مُمتازة وتكافلية وتعاونية بين العلم والدين! أي أكثر مما يتخيل الناس! ما الذي حصل إذن؟ وبالعكس؛ ذكرت أنا في الحصة قبل السابقة أيضا أن هناك تطورا فريدا ومُتميزا حدث في القرن السابع عشر! قبل القرن السابع عشر لا يُطلق دعاوى لاهوتية إلا اللاهوتيون، أليس كذلك؟ رجال الدين! 

في القرن السابع عشر بدأنا نرى علماء، وفي رأسهم غاليليو Galileo، وبعد ذلك ها هو توماس بيرنت Thomas Burnet، وإسحاق نيوتن Isaac Newton، وروبرت بويل Robert Boyle – في القرن السابع عشر! ماذا؟ هؤلاء علماء، أي فلاسفة طبيعيون بلُغة عصرهم – يُطلقون دعاوى لاهوتية، تفسيرات لاهوتية، دعاوى ومزاعم لاهوتية. 

هذا لم يكن مسموحا به، ولم يكن مُتاحا. ما الذي أتاح هذا الشيء وأفرزه؟ هذه العلاقة المُتناغمة المُتكافلة بين العلم والدين. يُوجد تكافل، حصل هذا! طبعا في البداية ينزعج بعض رجال الدين، لكن هذا الذي حصل!

على ذكر الجمعية الملكية، ال Royal Society هذه، الجمعية الملكية! تعرف، هذه ضمن أهدافها المكتوبة – ضمن أهدافها، تخيل – توطيد المعاني الدينية وتسويغها بالفلسفة الطبيعية. هو هكذا! الجمعية الملكية هذه! هذه قال لك لتقدم العلوم والمعارف، وأصبحت إلى اليوم خطيرة جدا، هي! هذه في ميثاق تأسيسها، أنها معمولة من أجل أغراض، في رأسها تسويغ وتبرير والدفاع عن المفاهيم الروحية الدينية بلُغة الفلسفة الطبيعية. يتواصون بهذا، وقال لك الصراع! لا يُوجد صراع. إذن ما الذي حدث؟

باختصار يا أحبتي؛ إخوتي وأخواتي، الذي حدث أن في القرن التاسع عشر، تم صك أسطورة جديدة، أسطورة أنه صراع! صراع! وبرروها بطريقة أنا أُسميها الكركتة! ألفتها هكذا، مُصطلح من عندي! الكركتة هي تصوير الشيء كاريكاتيريا، أي تصوير اختزالي! كبر هذه، صغر هذه، امح هذه، وقل لي هذه الصورة! هذه كاريكاتير. هذا ليس صحيحا، أليس كذلك؟ تقول لي وقع كذا لغاليليو Galileo!

وتبلغ الكركتة مداها وسُخفها وأسخف مداياتها حين يقول لك ماذا؟ وقد أُعدم، وعلى الخازوق! تصحيحات بعض الجهلة، ليس لهم لهم علاقة لا بالعلم ولا بغيره. قال غاليليو Galileo أُعدم! لم يُعدم، ذكرنا كل شيء، كله كذب هذا، ليس له علاقة إطلاقا. هذه الكركتة حصلت، وتحصل إلى الآن، هناك بعض المُكركتين، للأسف وبعضهم محسوب على العلم، الذين ليس عندهم منطق تأريخ علمي دقيق للأسف الشديد ولا أمانة.

كيف إذن؟ نعم، طبعا لا بُد لها من معين ومن زاد ومن مادة تشتغل عليها، الكركتة هذه! الأسطورة بدأت مع ماذا؟ مع شكل الأرض، وطبيعة الأرض! هل هي مُسطحة مُنبسطة، مثل الصحن أو الكف، ولها حواف مَن بلغها، سيهوي في جهنم الحمراء – هناك مَن قال لك نعم، حين تذهب تُمعن، تقع، تقع أنت والسفينة! فإياك أن تبعد! لئلا تقع من الحواف -، أم هي كروية؟ 

الأسطورة تقول قدماء الإغريق؛ أرسطرخس Aristarchus، وأرسطو Aristotle، وإراتوستينس Eratosthenes – أمين مكتبة الإسكندرية، الذي قاس مُحيط بدقة، أي مُذهلة! قريبة إلى حد مُعجب مما هو الآن! وإن لم تُطابقه، لكن مُعجب! -، كل هؤلاء وأمثالهم تواطأوا على أن الأرض ماذا؟ كروية، وليست صحنا، وليست بساطا، كروية، ليست بساطا، والقبة السماوية الزرقاء تقف فوقها هكذا، لا. كلهم تواطأوا على ذلك. 

إذن قال لك هذه الحقيقة الجليلة والمُهمة والمُطابقة للحقيقة في الواقع تم إخفاؤها على يد المنحوسين المشؤومين من رجال الدين في الكنائس والديورات، وظل الأمر كذلك، وتُحارب نظرية كروية الأرض، إلى أن أطل بقرنه عصر النهضة، وبدأ العلماء الشجعان يُصرحون بأن الأرض كرة، وليست ماذا؟ وليست بساطا. 

وكان من ضمن الشجعان رجل غير عالم، لكنه بحارة مُغامر، ووفي وذكي، وهو كريستوفر كولومبوس Christopher Columbus، الذي أثبت العكس، وقبله طبعا ماجلان Magellan وماركو بولو Marco Polo! لكن كولومبوس Columbus عنده قصة كبيرة! 

لماذا كولومبوس Columbus بالذات؟ قال لك لأن هذا المسكين ذاق الأمرين في سلامنكا. سلامنكا طبعا بإسبانيا الآن. في سلامنكا! وهذه أسطورة سلامنكا! تسمع عن كولومبوس Columbus وسلامنكا، هذه سلامنكا! حيث عقد له رجال الدين محكمة أشبه بمحكمة التفتيش، وإن لم تكنها، لكن لوحوا بمحكمة تفتيش في آخرها، فتهامد الرجل وتهافت وكذا، إلى آخره!

قصص سخيفة من أقبح ما يكون، هذه القصة السخيفة؛ أسطورة أنه أُخفيت حقيقة كروية الأرض عبر تقريبا ألف سنة، إلى عهد النهضة، على يد رجال الدين، إلى أن نصرها العلماء والبحارة المُغامرون مثل كولومبوس Columbus، وما جرى له في سلامنكا، هذه الأسطورة قبل سنة ألف وثمانمائة وثمانين، تقريبا لا تكاد تقع عليها إلا لُماما، في الكتب المدرسية، في الكتب الرسمية المدرسية! بعد ألف وثمانمائة وثمانين لا يكاد يخلو كتاب مدرسي منها! لا إله إلا الله.  

طبعا هذا الكلام ليس من عندي، هذا كلام رجل مُؤرخ اسمه راسل Russell، ليس برتراند راسل Bertrand Russell، لا! مؤرخ علم، عنده كتاب كامل عن هذه القضية، رهيب! أعاد النظر في كل الموضوع. قال لك أسطورة سخيفة جدا جدا! هذه الأسطورة سوف طبعا نُثبت أنها أسطورة وأكذوبة وأزعومة من الأزاعيم والأفائك – إن شاء الله – في الحلقة المُقبلة، من هذه السلسلة، ثم نمضي إلى بقية حديثنا عن نموذج الصراع – إن شاء الله -.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: