النماذج الثلاثة بين المعيارية والوصفية – العلم والدين – الحلقة 5

video

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وفقها.

إخوتي وأخواتي/

قبل أن أُدلف إلى موضوعي اليوم، وهو كما وعدت في المُحاضرة الأخيرة، سأكسره أو أُخصصه للكلام عن نموذج الانفصال، أو نموذج الاستقلال! Separation أي انفصال، Independence؛ استقلال. بعضهم يُسميه نموذج التوازي! خطان مُتوازيان، لا يلتقيان، أليس كذلك؟ المُسلمة الخامسة، لمَن هذه؟ لإقليدس Euclid! التي حيرت العالم!

أنا أعضلت عليكم في آخر المُحاضرة أيضا، عن البداهة؛ ال Common sense، عن البداهة! لكي أُشير أو ألفت إلى حقيقة أن العلم في مُعظمه، مُعظم مساعيه، يُضاد البداهة، يمضي ضدا على البداهة. 

العلم ليس بدهيا، العلم ليس بدهيا! وأتيتكم بلُغز، بازل Puzzle هو، ليس مُعضلة، بازل Puzzle، لُغز رياضي، له علاقة بمُحيط الأرض، والحزام الذي يلفه، إلى آخره! تذكرون.

حله أسهل مما تتصور! حله يستطيعه أي طالب إعدادية، الذي عنده ثالث إعدادي، لا بُد أن يعرف كيف يحله، لكن اليوم قد تجد رياضيا كبيرا، لا يحله! ويقول لك لا، لا يُحل، ومُستحيل! لأنه ضد البداهة. 

لكن لو هو فهم المعلومات والنظريات التي درسها فهما عميقا جدا، مُباشرة تهديه إلى الحل في لحظات. هذا الفرق بين مَن ذهب إلى الغور والعُمق، وبين مَن ظل سابحا على السطح. اللهم اجعلنا من أهل الأعماق، هو هذا!

يُعجبني في اللُغة الإنجليزية كلمة Understanding؛ الفهم! انظر، انظر: Stance، وStanding، أي موقف، وقوف، Under، شيء لا يزال تحتا، تخيل! كأنها تُشير إلى ماذا؟ الموقف التحتاني. شيء تحتاني! 

دائما الشيء الفوقاني هذا لا يُعتمد عليه كثيرا، العلم لا يعتمد على الشيء الفوقاني هذا. تسعون في المئة على الأقل في مساعي العلم ضد البداهة. البداهة شيء، والحقيقة الواقعية التي يكشف عنها العلم شيء آخر مُختلف إلى حد بعيد، بل إلى حد مُحير أحيانا! واضح؟

فنرجع، أول ما أُريد أن أتكلم عنه اليوم، أي حتى لا يفوتني، أن بعض الناس يتساءل، يقول أين موقع المسلمين، أين موقع الفكر الإسلامي، الفلسفة الإسلامية، المُعالجة النظرية الإسلامية للموضوع؟ أنت تتكلم لي عن فلان وعلان ونظريات كلها غربية! 

انظر قبل أن أُجيب، والجواب في نُقطتين:

النُقطة الأولى هذه المسألة؛ مسألة علاقة العلم بالدين، بلا شك أنها من حيث هي، من حيث هي، علاقة ذات طابع اشتباكي، أكيد! ليست علاقة فيها تناغم وانسجام بالاتفاق، لا! فيها اشتباك، ولذلك تعددت فيها المواقف! 

بعضهم يقول حقيقة العلاقة بين العلم والدين أنها علاقة صدام وصراع وعدائية. بعضهم يقول لا، غير صحيح، بل هي هارموني Harmony وتساعد واندماج؛ Integration وتراسل وتواصل. عجيب! هذا أقصى اليمين، وهذا أقصى اليسار!

وبعضهم يقول في الحقيقة ليس هكذا، لا ينبغي أن تكون لا صراعا ولا اندماجا، بل هي علاقة تواز، وانفصال. هذا يعمل في ساحة، وهذا يعمل في ساحة مُختلفة تماما. هذا له أغراضه، وهذا له أغراضه. هذا له أسئلته، وهذا له أسئلته. هذا له أساليبه ومناهجه، هذا له أساليبه ومناهجه. 

رأي مُختلف تماما هذا تقريبا، أليس كذلك؟ وبعضهم يقول العلاقة مزج – Mixture هكذا -؛ فيها شيء من الصراع، مع شيء من التعاون، مع شيء من الامتياز والتوازي. علاقة مُعقدة، هذا نموذج التعقيد، اسمه نموذج التعقيد! لولا أن العلاقة، بما هي، علاقة اشتباكية والتباسية، لما تعدد فيها هذه المواقف، أليس كذلك؟ لذلك اختلفوا.

فأقول لك هذه المُشكلة بهذا الطابع الاشتباكي مُشكلة غربية، نشأت في السياق الغربي، الديني والعلمي، وإلى اليوم هي مُستمرة وموجودة، وألقت بظلالها، وخاصة في عصر العولمة طبعا، أي الآن قل أن تجد أي مُثقف حول العالم، ليس عنده إلمام، بدرجة ما، بالغرب، وفكر الغرب، ومُعتقدات الغرب، وفلسفات الغرب وعلم الغرب، وأديان الغرب. موجود! لأن الغرب هو المُتسيد تقريبا، وهو المُهيمن، وهو الحضارة المُسيطرة في عصرنا هذا، والله أعلم إلى كم؟ وإلى متى؟

إذن موضوع موقف المسلمين والفكر الإسلامي والنظرية الإسلامية في علاقة العلم بالدين، نعم مطلوب بلا شك، مطلوب! لكن لماذا لا تُطرح؟ والطروحات الموجودة لا تزال ماذا؟ باهتة، وضعيفة، وفطيرة. ما معنى فطيرة؟ غير ناضجة، لم تنضج بعد! لن أقول جهيضة! لا، ولكن فطيرة، تحتاج إلى شُغل طويل وكثير. تعرفون لماذا؟ لأسباب موضوعية! أننا من قرون بعيدة لا نُنتج العلم. 

إذا تكلمنا عن نشأة العلم الحديث في قرنه، وهو القرن السابع عشر، فنحن من القرن السابع عشر إلى اليوم لا نُنتج العلم. الأمة الإسلامية لا تُنتج العلم، ولا تُساهم في الإنتاج العلمي العالمي، لا نُساهم! ودعك، دعك مما نُدغدغ به عواطفنا، لكن بطريقة غير ناضجة أيضا! أن فلانا يا أخي هذا عالم عربي، وهناك فلان والدكتور فلان! نعم، كم عددت؟ أي كم واحدا؟ 

أنت اليوم كأمة إسلامية قريب من مليارين، ولا تقترب حتى…وهذا الشيء بالنسبة لنا مُخز. دعني أقولها كما هي عارية، كلمة عارية هكذا، مؤذية! مُخز! Shame! شعور بالخزي! قريب من مليارين! ونحن لا نقترب حتى من الإنتاج اليهودي للعلم! لا أتحدث عن التفسير أنا؛ لأن اليهود مُعظمهم كذا، والنازيون، والحضارة الغربية! هذا صحيح، لكن بغض النظر، يظلون في الأخير أقلية، أليس كذلك؟ بضعة عشر مليونا. 

اذهب واختبر جوائز نوبل Noble في الشؤون المُختلفة، وخاصة في العلم، وعدد لي عدد اليهود الذين حظوا بها، شيء مُذهل! ودعك من نظرية المؤامرات، دعك من نظرية المؤامرات! يستحيل أن الغرب جامل اليهود على حساب نفسه، وعلى حساب أبنائه الغربيين المسيحيين أو الملاحدة، من أجل أن يغيظك أنت أيها العربي! 

(هذه طريقة هوسية في التفكير، محدوبة بنوع من الهوس، Obsession هكذا، هوس هكذا أننا مقصودون! ليس إلى هذه الدرجة الهوس، الهوس لا ينبغي أن يبلغ بنا هذه الدرجة! أي أنهم جاملوهم ونافقوهم وأعطوهم الجوائز العُظمى في العلم، من أجل – قال – أن يغيظونا نحن! كلام فارغ، هذه لا يقول بها أي رجل عنده أي درجة من درجات الوعي! لكن للأسف قد تجد أُناسا كثيرين يصدرون عن مثل هذا المنطق الهوسي! يقول لك لأن هذه مؤامرات! ليست مؤامرات. هذا كلام فارغ.) 

ثم، ثم سل نفسك عن هؤلاء العلماء اليهود، الذين أخذوا نوبل Noble، في العلوم بالذات، سل عن إسهاماتهم؛ هل هي إسهامات حقيقية ومُقتدرة وخطيرة وتُشكل اختراقات حقيقية في حقل العلوم وغيرها، أم أي كلام؟ لا والله، هي الأولى، هي الأولى! اختراقات حقيقية وعميقة وجبارة! 

تضع يدك هكذا، يخرج لك يهودي. ألبرت أينشتاين Albert Einstein يهودي! ما اسمه هذا؟ أوبنهايمر Oppenheimer؛ باني القنبلة الذرية، لوس ألاموس Los Alamos! أوبنهايمر Oppenheimer يهودي. إنريكو فيرمي Enrico Fermi؛ العالم الكبير، أول مفاعل ذري أو مُعجل! إنريكو فيرمي Enrico Fermi الإيطالي يهودي. ليو زيلارد Leo Szilard؛ هذا المسؤول الذي أقنع العالم؛ طبعا العالم الغربي، والذي أقنع روزفلت Roosevelt، بالقنبلة الذرية! ليو زيلارد Leo Szilard المجري يهودي. تقول لي ماذا؟ ماذا؟ ماذا؟ نعم! يهود، يهود، يهود، يهود، يهود! 

هم علموا، علموا أن العلم طريق ملكية للمجد، طريق ملكية! تُريد مالا؟ العلم. تُريد مجدا وقوة؟ العلم. ذكرت لكم مرة في خُطبة أن حاييم وايزمان Chaim Weizmann كان كيميائيا كبيرا! الأسيتون Acetone وعلاقته بالمُتفجرات وكذا! قال لك هذا الذي بنى الدولة. الذي أكسب العالم الغربي تعاطفا حقيقيا، في الحرب العالمية الأولى، الرجل هذا، بأبحاثه الكيميائية. 

وإلا بريطانيا نفسها، كانت لها سياسات من أردأ وأسوأ السياسات ضد اليهود، ما رأيك؟ قانون العودة هذا، مَن الذي وضعه، في مطلع القرن العشرين؛ ألف وتسعمائة وخمسة أو سبعة؟ اللورد بلفور Lord Balfour! هو نفسه الذي أعطاهم الوعد بأرضنا، ما رأيك؟ هو نفسه! 

أي أنت في ألف وتسعمائة وخمسة، سننت قانونا يمنعهم من الهجرة ودخول بلادك، وقمت بالتضييق عليهم! أنت بعد ذلك مَن أعطيتهم هذا الوعد؟ نعم. قال لك عندهم إسهام رهيب، إسهام رهيب في الحضارة، في العلم، لا يُستغنى عنهم. إذن هو هذا! 

فنحن للأسف، من غير استطراد، نحن لا نُنتج العلم. وعلى فكرة هذا كلام لا يُقال هكذا، أي مُلقى على عواهنه، نحن يُمكن أن نرجع إلى المصادر الدقيقة، ونسألها؛ كم يُساهم العرب بأوراق وأبحاث علمية في المجلات العلمية المُحكمة حول العالم؟ كم إذن؟ واحدا في المئة؟ اثنين في المئة؟ إذن إسرائيل هذه؛ دولة الاحتلال، كم تُساهم؟ تُساهم بنسبة بعيدة جدا، بعيدة جدا عن حجمها، هي دويلة صغيرة، وعدد بسيط من السُكان! تُساهم بنصف واحد في المئة. نصف واحد، ليس واحدا! وهذا كثير جدا جدا جدا! نصف واحد في المئة! 

العالم العربي؛ أربعمائة مليون، وليس قريبا أصلا من عُشر واحد في المئة، ما رأيك؟ والله العظيم! تقول لي ماذا؟ نعم والله، وليس قريبا، لا يُوجد عُشر واحد في المئة، لا يُوجد، لا يُوجد! شيء لا يُذكر. قال لك! شيء لا يُذكر. أي لا تُوجد نسبة.

لأننا، إخوتي وأخواتي، لا نُنتج ولا نُساهم في إنتاج العلم، هذه المسألة ليست مطروحة لدينا! إشكالية العلم والدين! تعرفون من أي زاوية تُطرح للأسف الشديد؟ من زاوية تلفيق أو توفيق أو مُلاءمة – أي Accommodation، التلفيق هذا، أو التوفيق -، مُلاءمة مواقفنا كأهل فكر إسلامي، وأهل علم إسلامي، وأهل وعظ حتى إسلامي، ببعض مُنتجات وكشوف العلم الحديث! ما رأي الإسلام في الاستنساخ؟ ما حُكم الإسلام في الخلايا الجذعية؟ ما حُكم الإسلام في الهندسة الجينية؛ Genetic engineering؟ ما كذا؟ وما كذا؟ 

وما هذا؟ هذا هو للأسف الشديد! لذلك هي ليست مُشكلتنا، ليس لأننا برآء، برآء من جريمة العلم! طبعا نحن برآء! وإن كان هو جريمة، فنحن فعلا برآء منها، لا علاقة لنا بالعلم. نحن لا نُنتجه، ولا نُساهم في إنتاجه! فليس لدينا مُشكلة مع العلم، العلم غير مُتوطن في بلادنا للأسف الشديد، غير مُتوطن، غير مُتبيئ لدينا إلى الآن، إلى الآن! 

عقليتنا بشكل عام عقلية لا علمية إلى حد مُزعج، لا علمية إلى حد مُقلق، طبعا! أساليبنا في التفكير وفي المُناظرة والنقاش لا علمية تقريبا إلى حد أكثر إزعاجا. فلذلك بدهي وطبيعي ألا تجد ماذا؟ ألا تجد طروحات نظرية قوية ومُحترمة في موضوع العلم والدين في السياق الإسلامي. نحن ليس عندنا سياق علمي حقيقي! بسبب هذا!

لماذا؟ الآن مثلا في المشهد الإسلامي حول العالم، هل يُوجد طرح إسلامي يُتداول عالميا، حول قضية العلم والدين، العالم كله مهتم به؟ واحد، طرح واحد فقط، لشخص هو فيلسوف، ومُعترف به في الدوائر الغربية كفيلسوف؛ أنه فيلسوف، ومُفكر كبير، ومن طراز فريد، مُفكر جاد! 

وهو الدكتور سيد حُسين نصر – أمد الله في عُمره -. الآن ربما هو سبع وثمانون سنة – ما شاء الله -. لا زال في شبابه الفكري، يُحاضر ويُناقش ويكتب وكذا، شخص جميل وعميق! وهو فيلسوف.

هو تلميذ محمد حُسين الطباطبائي، الفيلسوف الإيراني الكبير، هو تلميذه الشخصي، وهو الذي طلب منه أن يكتب كتابه العظيم في الفلسفة؛ أُسس الفلسفة وطريقة الواقعية، أو أُسس الفلسفة والمنهج الواقعي، أي Realism، هو الذي طلب هذا! كان في شبابه، في أوائل العقد الثالث من عُمره، البروفيسور Professor سيد حُسين نصر!

لماذا أنا سأذكر وربما أقتصر حتى على سيد حُسين نصر من المُعاصرين؟ لأنه فيلسوف، وعنده طرح نظري مُتكامل وجدي، وغريب قليلا عن الطروحات النظرية حول العالم. سيد حُسين نصر يؤمن بالعلم المُقدس؛ ال Sacred Science. يؤمن بماذا؟ بجنبة مُقدسة للعلم. ما نظريته هذه التي أفرغها في كتاب كامل – اسمه العلم المُقدس، أو الحاجة إلى علم مُقدس، اسمه الحاجة إلى علم مُقدس -؟ هذا سأشرحه – إن شاء الله – بالتفصيل، وأُعرب عن موقفي أيضا ووجهة نظري في هذا الموضوع! هل فعلا هناك علم مُقدس؟ 

لكن انتبهوا، بعد أن نفرغ مما نحن فيه، ستكون الأرض مُهدت؛ لكي تفهموا مثل هذه الطروحات! لأن سيصير عندكم إلمام لا بأس به بطبيعة العلم، وكيف يشتغل العلم، وما الفرق بين المنهج الميتافيزيقي والمنهج الديني والمنهج العلمي! مرة على مرة، مرة على مرة، سيصير عندكم – إن شاء الله – هذا، فتُصبح المسألة أيسر وأهون – بإذن الله تبارك وتعالى -.

فهذه إذن النُقطة الأولى – بعون الله -؛ لكي لا يتكرر السؤال! متى ستتكلم عن العلم الإسلامي، وموقف الإسلام، وموقف المسلمين؟ سيأتي – إن شاء الله – في وقته – بإذن الله -. 

نُقطة أُخرى أيضا تنبيهية إلفاتية، وهي: 

قد يثور سؤال في أذهان بعضكم، أحبتي، عن هؤلاء الذين يتبنون هذه المواقف المُختلفة؛ فمن مُتبن لموقف الصراع، ومن مُتبن لنموذج التكامل والاندماج والتعاون، ومن مُتبن لنموذج الفصل، ومن قائل بنموذج الحوار، مثل إين بربر Ian Barbour! هو أتى بهذا النموذج الرابع أيضا، وهو صاحب الفضل على فكرة! صاحب الفضل في نمذجة العلاقة في نماذج أربعة، هي التي ذكرتها للتو، وقد فعل هذا مُبكرا. وقد سبق أيضا الإلفات إلى أن هذا الرجل هو الذي دشن هذا ال Field أو الحقل الجديد في العلم، في مُنتصف الستينيات، كما أشرت في السابق.

وهذا الرجل هو فيلسوف فعلا، أي مُفكر، ولاهوتي، تحصل على شهادة عُليا في اللاهوت، لكنه قبل أن يصير لاهوتيا، كان فيزيائيا كبيرا، لغاية أنه تقريبا أوشك أن يدخل في المشروع الفيزيائي للنُخبة في اليو إس أيه USA، النُخبة الكبيرة من العلماء الذين نسمع عنهم، هؤلاء الكبار! إينIan ! لأنه فيزيائي نابغة! قال لا، أنا لن أُكمل هنا، أنا سأدرس اللاهوت. درس اللاهوت، وتحصل على شهادة عُليا؛ دكتوراة.

ولذلك هو لاحظ بذكاء في كتاب له اسمه Religion in an Age of Science؛ الدين في عصر علمي، هكذا! ليس في عصر العلم، في عصر علمي. الدين في عصر علمي؛ Religion in an Age of Science، في عصر علمي! إذن لاحظ ماذا؟ لاحظ أن هذه النماذج تتطلب منك تسلحا معرفيا مُتعدد التخصصات! بمعنى ماذا؟ 

بمعنى أنه لا يصلح ولا يجوز ولا يسوغ ولا يجمل أن تتكلم في موضوعة العلم والدين، وأنت لا تعرف ما العلم مثلا، ليس عندك إلمام مُحترم بالعلم، وكيف يشتغل العلم، عندك فقط إلمام باللاهوت، رجل دين، لا ينفع! أو تكون عالما كبيرا خطيرا، ولا علم لك بماذا؟ باللاهوت. لا تعرف كيف يشتغل اللاهوت! ممنوع. 

ستقول لي مثل ريتشارد دوكينز Richard Dawkins وأمثاله؟ طبعا، يتكلمون في أشياء أكبر منهم بكثير، في أشياء لا علاقة لهم بها، ولا يعرفون ABC فيها. هذه حالة مُزرية بصاحبها على فكرة، في الغرب قبل الشرق، هذا الشيء شيء غير مُحترم. 

لذلك حتى في الطروحات، ترى أن هناك طروحات مُحترمة، تُذكر هذه فعلا في المؤتمرات، وفي الاشتغالات – في الحقل -، المُحترمة! وهناك طروحات فقط يُمثل بها للهُزء بها، للتنبيه عليها، لكي يجعلك تزور عنها ولا تتورط في مثلها، مثل مواقف دوكينز Dawkins وأمثاله! سام هاريس Sam Harris وأمثال هؤلاء! انتبهوا! 

فلذلك قال أنا تسلحت في خوضي لموضوع العلم والدين بالآتي! انظر، من أواسط العقد السابع، أي ألف وتسعمائة وخمس وستين، العقد السابع من القرن العشرين المُنصرم. قال تسلحت بالعلم – وهو عالم فيزيائي كبير، إين بربر Ian Barbour فيزيائي خطير -، وتسلحت باللاهوت، وتسلحت بالفلسفة – خاصة الميتافيزيقية طبعا، وفلسفة العلم -. 

وماذا عن التاريخ؟ لا، التاريخ فارض نفسه، فارض نفسه! لكن هو أسهل له على فكرة، أي بالنسبة له أسهل! أنت في التاريخ يُمكن أن تستعين بمؤرخين ثقات، لكن في العلم والفلسفة واللاهوت، لا بُد أن يكون لك تدريبك الخاص فيها، بناؤك المعرفي الخاص، الذي يُثبت أنك تفقه وتعي ما تقول، لا تُردد كلام الآخرين. قال فهذه مُقارباتي! أنا تسلحت بهذه الخلفية المعرفية.

سؤالي، سؤالي: حين يصدر باحث أو مُفكر أو مُؤرخ أو فيلسوف، أيا كان، أو لاهوتي، عن موقف مُعين، هل يصدر عنه بروح وضعية، أي Positive، أم بروح معيارية؛ Normative؟ ستقول لي لم أفهم! 

باختصار؛ الروح الوضعية هي الروح العلمية، روح العلم الطبيعي – روح العلم الطبيعي أساسا طبعا، هناك علوم أُخرى تُحاول أن تكون وضعية -! بمعنى ماذا؟ بمعنى أنه مُكتف بتوصيف الشأن والأمر كما هو! في الواقع العلاقة هي هكذا، عبر التاريخ العلاقة كانت هكذا! ماذا نعمل؟ طبيعتها هي هكذا! هذا اسمه موقف ماذا؟ وضعي. 

أم يصدر عن موقف معياري؛ Normative؟ أنه مُتعاطف مع نموذج الصراع، فلا بُد وأن يثبت لك أن المسألة مسألة صراع. أو مُتعاطف مع نموذج الانفصال والاستقلال، فلا بُد أن يُثبتها لك! 

انظر؛ هو سؤال بسيط، لكن على فكرة ليس حرجا، سؤال لا بُد منه. تعرف لماذا؟ لأن إذا ذهبت تدرس هؤلاء الذين يصدر كل منهم عن نموذج مُعين، أي يُعرب عن تبنيه لنموذج مُعين، فنعم، الأمر ليس بتمام الوضوح في كل الحالات، ما رأيك؟ أي بعضهم إذا درست حالته الفردية هكذا، تعلم أن موقفه معياري؛ Normative stance. بمعنى ماذا؟ ليس موقفا علميا هذا في الأخير! موقف معياري، مثل مَن؟ 

مثل سام هاريس Sam Harris هذا، عالم الأعصاب الأمريكي، الذي قال لك أبدا! محكومة المسألة ومحسومة! العلم لن يلتقي بالدين، الدين لن يلتقي بالعلم، صراع ومعروف مَن المُنتصر ومَن المُنكسر؛ العلم دائما مُنتصر والدين دائما مُنكسر، والنهاية واضحة؛ سيزول الدين من حياتنا، ونشفى من هذا ال Headache ووجع الرأس!

يا سلام؟ مُتأكد؟ قال لك هذا هو، هذا هو! ويأتي لك بأدلة طبعا! قصص وحكايات! هذا موقف Normative؛ معياري. ولذلك هذا الموقف لا يحترمه المؤرخون، ولا العلماء الدارسون، ولا الذين يكتبون حتى أوراقا علمية في الموضوع. لا يحترمونه، ويقولون لك هذا كلام فارغ، انس، انس، لا تُعول عليه. 

لماذا أحكي الكلام هذا؟ لأنني أرى أن عندنا بعض الشباب، خاصة الذين يُلحدون، ويصيرون شكوكيين ولاأدريين وربوبيين، يُعولون كثيرا على مُساهمات سام هاريس Sam Harris وريتشارد دوكينز Richard Dawkins وأمثالهما!

هؤلاء يا أخي ليسوا ثقة في هذا المجال، مواقفهم معيارية لا وضعية، أي ليست علمية، مواقف معيارية! والغرض مرض، هم يُحبون، يُحبون أن يُقنعوا الناس أن الموقف هكذا! هل تُسعفهم شواهد التاريخ؟ لا. كيف إذن؟ أي شواهد التاريخ التي تشهد لنموذج الصراع أقل بكثير من الشواهد التي تشهد لنموذج التعاون مثلا، أو نموذج الانفصال. 

نموذج الانفصال قديم، قديم! حتى أن ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould في كتابه صخرتا الزمان – طبعا هذا مرفوع على الحكاية، ليس صخرتي، الكتاب اسمه هكذا: صخرتا الزمان. هذا في كتابه، وحدثتكم عنه في حلقة سابقة! في كتابه صخرتا الزمان – قال لك هذا عليه اتفاق الأغلبية عبر القرون. 

أنا سأُوضح هذا بعد قليل، أي أقول كيف عبر القرون، سنذكر كيف، أي من أين بدأ بالضبط؛ لأن العلم عمره قصيره، العلم من القرن السابع عشر، أليس كذلك؟ لكن أُسس الموقف قديمة فعلا، أُسس الموقف قديمة فعلا؛ لأن الصراع في البداية كان مع الفلسفة؛ أم العلوم، وليس مع العلم، ووضحنا هذا. 

فما أُريد أن أقول إن الشواهد التي تخدم نموذج الصراع وال Clash أقل بكثير من التي تشهد وتُزكي نموذج الانفصال مثلا، أو نموذج الحوار والتعاون والتراسل والتداخل، Intersection and interaction! وطبعا أكيد كل Intersection لا بُد وأن يقتضي Interaction. إذا صار هناك تداخل؛ Intersection، فلا بُد وأن يصير هناك تآثر؛ لأننا تداخلنا طبعا الآن! فيصير هناك Interaction، أي مبدئيا.

فإذن هؤلاء مواقفهم معيارية. ستقول لي وإين بربر Ian Barbour مثلا، وهاريسون Harrison، وأمثال هؤلاء؟ لا، هؤلاء أقرب إلى الجد الأكاديمي، الصرامة الأكاديمية. ستقول لي بلا تحيزات؟ صعب، انس، انس! حتى في العلم الطبيعي المادي الإمبريقي التحيزات الموجودة. إياك، إياك تظن أن هذه ال Objectivity؛ هذه الموضوعية، تامة! لن أقول لك أسطورة، لا، ليست أسطورة، لكن أمل لا يتحقق تماميا. 

تقترب من الموضوعية، بنسبة سبعين وثمانين في المئة، جيد! أحسن من الاقتراب بنسبة أربعين وخمسين وستين، أنت سبعين وثمانين وتسعين، لكن لا تُوجد موضوعية كاملة مئة في المئة، انس! هذه أصبحت الآن من أساطير الماضي! أن الموضوعية كاملة! وخاصة مع فيزياء الكم؛ ال Quantum physics، أو ميكانيكا الكم. أنت بمُجرد أن تتدخل كمُراقب؛ لكي تُمارس فعل المُراقبة، تتأثر الكيانات المُراقَبة نفسها، وتتبدى بوجه آخر. 

وتعرفون قصة الشق المُزدوج، وقصة قطة شرودنغر Schrödinger، لن نُفصل، تعرفون! هذه فيزياء الكم، أبدا! أي كأنك تُساهم في خلق الظاهرة، أنت! وحتى دالة شرودنغر Schrödinger الموجية هذه! معروفة هي! والسحابة الاحتمالية، قصة! فيزياء الكم قالت لك لا تُوجد.

ولذلك فيرنر هايزنبيرغ Werner Heisenberg شبهها تشبيها جميلا! تشبيها جميلا جدا! قال لك الكيانات التي نُمارس عليها فعل الرقابة؛ لكي نُدرسها، تماما مثل قطعة الثلج، حين نضعها في يدنا. أنت لكي تلمسها، لكي تستشعر حرارتها بيدك، مُباشرة تُكسبها ماذا؟ من حرارة بدنك! فتعمل على مُضيها في اتجاه ماذا؟ في اتجاه الذوبان. مُباشرة! بمُجرد أن تضعها في يدك، تشتغل الإنتروبيا، أليس كذلك؟ هذه الإنتروبيا! تشتغل مُباشرة. 

فلا تستطيع أن تُمارس فعل ماذا؟ تحسسها! أي Sensory، لمسيا مثلا! وفي نفس الوقت أن تبقى كما هي! لا تستطيع. لا يُوجد خط يفصل، أبدا! هناك اندماج حاصل. هذه صارت فلسفة جديدة!

يُوجد مثل للعالم الكبير، وأيضا إلى حد ما له مُساهمات في فلسفة العلم، آرثر إدينغتون Arthur Eddington! سير Sir هو، فارس! 

السير آرثر إدينغتون Sir Arthur Eddington عنده مثل يُصادفكم كثيرا في كُتب فلسفة العلم، حتى أن السير بيتر مدور Sir Peter Medawar، في كتابه الذي ناقش فيه كارل بوبر Karl Popper في الاستقراء، أعجبته كثيرا هذه الحكاية! قال هذه الحكاية تروق لي كثيرا! حكاية ماذا؟ الصياد الذي تخيله أو افترضه السير آرثر إدينغتون Sir Arthur Eddington.

قال لك صياد خرج من بيته إلى بُحيرة قريبة من منزله؛ لكي يصطاد، ويقوم بتجربة علمية. هذا الصياد باحث علمي أيضا! ماذا عمل هو؟ أعد الشبكة. تُريد أن تصيد سمكا، لا بُد أن تُعد شبكة! شبكته ثقوبها من مقاس ثلاث بوصات! الوتر في كل ثقب هكذا ثلاث بوصات! نفترض. 

وذهب، ألقى بالشبكة، سحبها بعد مُدة من الزمن، ثم كتب في تقريره – Statement هكذا، Statement؛ بيان -، كتب هذه البُحيرة لا يُوجد فيها أسماك أقل من ثلاث بوصات! طبعا لأن كل السمك الذي خرج عنده أكثر من ثلاث بوصات. السمك الأصغر من ثلاث بوصات كله ينفذ من الثقوب. 

هل هذا البيان؛ ال Statement، علمي سليم؟ ليس علميا، وليس سليما! ليس دقيقا! طبعا السير آرثر إدينغتون Sir Arthur Eddington هذا، ليس مُغفلا هو، عالم كبير، وعنده نظريات في الرياضيات والفيزياء الفلكية، ورجل خطير! قال لك مثل هذه الحالة تحصل معنا كعلماء، على جميع المُستويات. 

في نهاية المطاف، رُغما عنك، كما لاحظ أيضا هايزنبيرغ Heisenberg، السؤال الذي تطرحه يحكم الجواب الذي سيؤول إليك، ستظفر به. السؤال نفسه! لو سألت سؤالا على نحو مُختلف، فسيأتي الجواب على نحو مُختلف. أي يُوجد تحيز حتى على مُستوى السؤال، أليس كذلك؟ فضلا عن التحيز على مُستوى المُراقبة. 

ثم المُراقبة نفسها، قرار المُراقبة، قد يكون مسبوقا بماذا؟ بفرضية مُعينة! هذه الفرضية تُوجب تحيزا مُراقبتيا! هو هكذا! هذا الإنسان، ليس إلها، لا يستطيع أن يُتابع الظاهرة، أي ظاهرة، أو أن يدرس كيانا من الكيانات، أيا كان الكيان، إلا هكذا. 

طبعا نقول كيان. تُحب مثلا الكون؟ كيان. تُحب المجرة؟ كيان. النجم، الكذا، الجسم الإنساني، القلب، الخلية، إلكترون Electron، بروتون Proton، ميزون Meson، كوارك Quark: كلها كيانات، كلها Entities. لما أقول لك كيان، هذا هو الكيان، واضح؟ من الكوارك Quark، إلى الكوزموس Cosmos، كلها كيانات، أي بلُغة العلم. فلا تقدر على أن تدرس أي كيان بغير أن تأتي لي بماذا؟ بمفروضات! أليس كذلك؟ مفروضات! من البداية. 

سوف تقول لي معناها هذا هو الجانب الميتافيزيقي في العلم. بالضبط، هو هذا الجانب الميتافيزيقي في العلم. العلم لا يستطيع أن يتطهر، يُطهر نفسه، يُخلص نفسه، كما يزعم بعض العلمويين السُذج! ستقول لي وهل هناك علموي ساذج؟ طبعا. حدثتكم في درس مضى عن العالم الإنجليزي الكبير، وعنده اختراقات في علم الأحياء الجُزيئية؛ لويس ولبرت Lewis Wolpert.

لويس ولبرت Lewis Wolpert يقول بعض كبار علماء فيزياء الكم معرفتهم بالفلسفة، وبفلسفة العلم، لا تزيد عن معرفة ميكانيكي سيارات. هذه حقيقة! قال لك أنا عالم! ومشهور عالميا طبعا ولبرت Wolpert! وعنده اختراقات في الحقل الخاص به، أي عالم لا يُستهان به، ليس أي عالم. قال لك أنا أعرف! تجده عالما كبيرا، ولا يعرف ABC! 

ليس لازما لكي تكون عالما كبيرا وناجحا وتُحقق اختراقات، أن تكون ماذا؟ فيلسوف علم، أو فيلسوفا! ليس لازما! لكن انتبه، يُمكن أنا أقرأ هذا من زاوية أُخرى. انظروا، تعلموا! هذا التفكير المُركب، والتفكير النقدي. يُمكن أن أقرأ نفس العبارة هذه من زاوية أُخرى! 

أي عبارة؟ عبارة أنه عالم كبير، وفيلسوف ضعيف، كما أقول دائما أنا! هذا تعبيري: عالم خطير، وفيلسوف ضعيف. واضح؟ مثل ستيفن هوكينج Stephen Hawking، عالم خطير، بلا شك! وفيلسوف صغير، ولن نقول كلمة ثانية! صغير، صغير جدا جدا، لا يعرف مبادئ الفلسفة. 

إلى الآن ليس عندنا مُشكلة، أين تبدأ المُشكلة؟ تبدأ المُشكلة في الإبستمية أو نظرية المعرفة، التي يصدر عنها هذا العالم، الذي هو طبعا – واضح أنه كذلك -علموي، أي طبيعاني، أي Naturalist، هو عالم طبيعاني! هذه الإبستمية أو المنهج المعرفي يكون اختزاليا، يكون اختزاليا! هنا تُوجد خطورة. 

إذن ستقول لي على أي مُستوى هو اختزالي؟ الاختزالية تشتغل على مُستويين، مبدئيا طبعا: 

هناك اختزالية على المُستوى المنهجي، أنني أدرس الطبيعة، فأكتفي فقط بالوسائل الطبيعية والتفسيرات الطبيعية! ليس عندنا مُشكلة، هذا الذي يُسمى ماذا؟ يُسمى المذهب الطبيعي المنهجي. طبيعي، عادي! نُوافق عليه، ولا نملك إلا أن نُوافق، ليس عندنا أي مُشكلة، مع أن هناك اختزالية معرفية طبعا، واضح! اختزالية معرفية! الطبيعة لا تُعرف إلا بالطبيعي: اختزالية! لا تُعرف بالروحاني ولا بالكذا، بالطبيعي! لا بأس. 

هناك اختزالية أخطر من هذه بكثير: اختزالية أنطولوجية، أو يُسمونها اختزالية ميتافيزيقية! حين يمضي العالم الطبيعاني خُطوة إلى الأمام، لكي يُطلق دعاوى من طبيعة فلسفية ميتافيزيقية تقول كل الحقيقة، الحقيقة كل الحقيقة، وكل ما عداها فهو Superstition! خرافة، أو وهم، أو خداع، Delusion، أو Illusion، أو كذا، أو كذب! إلى آخره! هي الواقع المادي، المادة، المادة ولا شيء غير المادة. هذه Claim أو دعوى ماذا؟ في قضية أنطولوجية! أليس كذلك؟ في قضية ميتافيزيقية! دخلنا في شيء خطير. 

هل تملك أنت كعالم أن تُطلق دعوى كهذه أصلا؟ أصلا عندك صلاحية أن تُطلقها؟ ثم إذا أطلقتها، هل تملك العُدة الفلسفية؛ لكي تُدافع عنها؟ طبعا لا، طبعا! ولا تستطيع أن تمضي معنا خُطوة واحدة، مع الفلاسفة! انتبه! هذه هي الخطورة، ولذلك انظروا إليها.

انظر؛ كلمة واحدة، جُملة واحدة، يُمكن أن تقرأها من زاوية، وتكون القراءة صحيحة. عالم كبير ولا يعرف في الفلسفة شيئا. صحيح! إذن العلم لا يحتاج إلى الفلسفة. صحيح! صحيح! وإلى الآن صحيح، وليس عندنا مشاكل! متى تبدأ المشاكل؟ حين يُغادر العالم الطبيعاني الاختزالية المعرفية، أي الطبيعانية المنهجية! إلى حقل الأنطولوجيا وال Metaphysics! ويُطلق دعاوى أنطولوجية وميتافيزيقية! 

نعم، هنا دخلنا في مشاكل كبيرة على فكرة! ويبدأ المسكين! مثل دوكينز Dawkins وأمثاله، أي يكون مُلحدا Militant؛ مُناضلا، هو عمل قضية! مؤدلج! كل هذا سعي في خزي، سعي فاشل، يأتي من رجل غير مؤهل، يتكلم فيما لا يُحسن.

هذا مُهم أن أقوله بالذات لشبابنا وبناتنا وأخواتنا الملاحدة وال Agnostics وأمثال هؤلاء! لكي لا تغتروا بهؤلاء. وهذا ليس كلامي، هذا كلام كل الدارسين في العالم الغربي، الذين يبحثون في هذه الموضوعات بجدية حقيقية. هذا الذي يُقال في الأوراق العلمية، والمؤتمرات، وحين تلتقي العقول الضخمة، علماء وفلاسفة! غير هذا غير مقبول؛ لأنه كلام فارغ، كله عبث! عبث صبياني. فهمتم ما قصدت يا إخواني؟ 

جميل! إذن نرجع ونقول، ونقول السؤال هذا كما قلت لكم جيد أنه يُطرح، جيد أنه يُطرح وهو ليس بالوضوح الذي يُظن، ليس بالوضوح الذي يُظن! سؤال ماذا؟ أن الذين يتبنون المواقف بعضهم يصدر عن منطق أو روحية معيارية، ليست روحية علمية، فيجب أن نأخذ حذرنا منهم، انتبهوا! يجب أن نأخذ حذرنا منهم. 

إذن الآخرون، الذين يُحاولون أن يكونوا علميين وضعيين، هل هم بارئون؟ هذا هو كلامي، هكذا الكلام تسلسل! هل هم بارئون من التحيز؟ قد قلنا الموضوعية التامة أسطورة، لا يُوجد أحد يبرأ من التحيز إطلاقا، إطلاقا! لا بُد من وجود نوع من التحيز الخفي، لكن كلما ضعف التحيز وبهت، يكون أفضل في العمل العلمي!

نعم، أكيد! العمل العلمي، النظرية المطروحة، التي فيها أقل قدر من التحيز وأكبر قدر من الصرامة العلمية، حظوظها في النجاة والنجاح والدفاع عن نفسها، قطعا أكبر من غيرها، أليس كذلك؟ أكيد! أما تلك الملغومة بالأثقال والأوهاق الأيديولوجية والأغراض المعيارية – هو يُحب أن يكون هكذا؛ من أجل كذا -، فهذه مُباشرة تسقط مع أول درجة في النقاش. واضح يا إخواني؟

ولذلك نحن في هذه الحلقات – بفضل الله تبارك وتعالى – نولي اعتبارا للدراسات الجادة، التي قام بها عبر حوالي – إلى الآن تقريبا – ستين سنة أُناس جادون، مُسلحون بخلفيات معرفية تؤهلهم لخوض المجال، وقد أنتجوا أعمالا عبر هذه الستين سنة مُحترمة، على نطاق عالمي! وهي الأعمال التي ألهمت غيرها! ولّدت غيرها، عبر إلهامها لغيرها، من الأعمال. 

هذا الشغل العلمي، هذا شغل مُهم ومُفيد! يُمكن أن تتكئ عليه وأنت واثق، ما رأيك؟ أي يُمكن أن تذهب، إذا سمحت لك الظروف، وتُناقش في أي مؤتمر علمي، أو تقف تسأل، أو تُباحث علماء ودارسين، وأنت كما أقول دائما في قلب المشهد، وتفهم ما الحاصل تماما. العُمد الأساسية كلها بين يديك، أنت تفهم تخوض في ماذا وتقول ماذا وتعتمد على ماذا وما الطروحات وما المُبررات والتسويغات! كلها أمامك – بفضل الله تبارك وتعالى -، جميل؟ 

إذن تركنا هذا السؤال، وقد وضح – بفضل الله تبارك وتعالى -. نأتي الآن إلى موضوع نموذجنا؛ نموذج الانفصال أو الاستقلال. نموذج الانفصال أو الاستقلال جميل! سنسمع كلاما جميلا في هذا النموذج! 

أولا هذا النموذج، كما يزعم مُناصروه، من أكثر النماذج موفقية واتفاقية عليه. أي أكثر نموذج دُعم! أي لو أردنا أن نعمل – قال لك – تصويتا على النماذج؛ أي النماذج الثلاثة أو الأربعة حظيَ بدعم أكبر عبر القرون الأخيرة هذه؟ فسيخرج معنا نموذج الانفصال. أكثر نموذج دُعم!

أول شيء – قبل أن نبدأ ونأتي بالحالات طبعا، الشواهد – ما معنى نموذج الانفصال؟ ما الذي يعنيه نموذج الانفصال؟ باختصار، وبتبسيط – إن شاء الله – غير مُخل؛ نموذج الانفصال يرى أن العالم والوجود على النحو الآتي، وخاصة إذا تعلق الأمر بنا كبشر! لأن في نهاية المطاف نحن الذين نتكلم، ونحن الذين نبحث، ونحن الذين نتنازع ونتناقش ونتجادل، أليس كذلك؟ 

هذا العالم أكثر تركبا، وأكثر تعقيدا، من أن يُقارب من زاوية واحدة، من حقل واحد، بآلات مُحددة، بمناهج مُعينة، أبدا! ستقول لي هنا مُباشرة هذه ضربة للعلموية. ضربة قاضية لأي نزعة علموية! 

النزعة العلموية ما هي؟ أن العلم هو المنهج الوحيد لمُقاربة المعرفة، أي معرفة! هناك روبرت بارك Robert Park، الفيزيائي الأمريكي المُلحد، عنده كتاب اسمه Superstition: Belief in the Age of Science! الاعتقاد أو الإيمان في عصر العلم. ختمه بجملة – آخر عبارة! ختامية، أنا سميتها ختام علموي! خاتمة علموية – يقول فيها ماذا؟ 

إن العلم هو الطريق الوحيدة – الطريق تُذكر وتؤنث. يُقال هو طريق وهي طريق. نفس الشيء! وإن كان الأفصح تأنيثها – للمعرفة. العلم الطريقة الوحيدة – يقول The only way to knowing – للمعرفة، للمعرفة! أن تعرف أي شيء! انظر، قال ال Knowing. لم يقل كلمة أُخرى. قال لك ال Knowing! كله! نعم! 

وقال Everything else is just superstition. نُقطة، أنهى الكتاب. كتاب من ثلاثمائة وخمسين صفحة، ختمه بسطرين! إن العلم هو الطريق الوحيدة للمعرفة! 

وهو في الحقيقة لم يقل حتى للمعرفة، قال طريق المعرفة الوحيد! Of knowing. قال! هكذا قال Of knowing. طريق المعرفة! أي المعرفة عندها طريق وحيد، لا يُوجد غيره. أي هذه حتى أفصح من To، قال Of. 

وبعد ذلك قال كل شيء آخر – Everything else. قال! أي شيء آخر – خُرافة. ما معنى أي شيء آخر؟ يُوجد عندنا الفن، يُوجد عندنا الأدب، يُوجد عندنا الفلسفة، الفلسفة الميتافيزيقية! يُوجد عندنا الدين. قال لك كله خُرافة؛ Superstition.

واضح أن هذا الإطلاق أو هذه الخاتمة العلموية مُتبجحة جدا! جدا جدا! نموذج التبجح! هذه الغطرسة، هذه الغطرسة! غطرسة وتبجح، أو ما يُسميه ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould الإمبريالية العلمية. إمبريالية! تعرف الإمبريالية كيف تكون! التوسع خارج الحدود، توسع خارجي، أي إمبراطورية. هذا تفكير علمي إمبراطوري. العلم يقوم باجتياح الفضاءات الأُخرى كلها، يُلغيها، لمصلحته! هذا كلام فارغ.

هذا طبعا – واضح! مثل بارك Park هذا – لا يُمكن أن يؤمن بنموذج ماذا؟ الانفصال. يقول لك انفصال ماذا؟ لا يُوجد! هذه كلها خُرافات. يُوجد عندي طريقة وحيدة للمعرفة، وانتهينا! وهي العلم! Science – Science – Science! انتهينا! انتهى الأمر! 

هؤلاء ضد طبعا نموذج الانفصال، وأكيد ضد نموذج الحوار والتعاون. قال لك حوار مع مَن؟ مع الخُرافة؟ إذن هم مع نموذج ماذا؟ الصراع! والعدائية، حتى نقضي على آخر معاقل ماذا؟ الدين.

المُشكلة ليست فقط الدين! إذن ماذا تعمل في الفن، وفي العمارة، وفي علوم اجتماعية كثيرة لا تُعتبر علوما Solid – أي مثل الفيزياء والكيمياء والرياضيات -، وخاصة طبعا في الدين والأدب والفنون؟ ماذا تعمل فيها؟ مُشكلتك ليست مع الدين فقط، مع الأدب والفن!

انظر إلى الموقف الآخر، سُبحان الله! انظر، هذا عالم، لكن ليس له حتى عُشر شُهرة فريمان دايسون Freeman Dyson، الذي مات سنة ألفين وعشرين، تقريبا عن سبع وتسعين سنة، ما شاء الله! حدثتكم عنه حديثا سريعا في المُحاضرة السابقة، أحد الثعالب، أحد ثعالب العلم؛ لأنه شخص Polymath! كان فيزيائيا خطيرا، خطير جدا! من أذكى فيزيائيي القرن العشرين على الإطلاق هذا الرجل! ولكنه كان مُثقفا ثقافة واسعة. 

قال لك لا. قال لك أنا أقول لكم مُشكلتكم ليست فقط مع الدين؛ لأن في الواقع علاقة العلم بالدين جد حديثة، عمرها ثلاثمائة سنة فقط. متى وُلد العلم الحديث؟ في القرن السابع عشر. وبدأت المشاكل، أو بدأت العلاقة، أيا تكن! بدأت العلاقة. أما علاقة الفن، والأدب، والعمارة، بالدين، فهي قديمة، تقريبا قدم الدين! يوم كان هناك دين، كان هناك فن. 

لذلك كلمة بلوتارك Plutarch – العرب يُسمونه بلوطرخس – مُهمة! بلوتارك Plutarch عنده كتاب اسمه العظماء، كتاب مُمتاز! ماذا يقول فيه؟ يقول وجدت مُدن بلا أسوار، بلا مؤسسات من نوع كذا وكذا. لم تُوجد مدينة في التاريخ بلا معابد – Temples -. 

معناها مُذ كانت البشرية، ومُذ كان المُجتمع البشري، ومُذ كانت المدنية، كان الدين. دين وتمدين، من أول يوم، هذا هو، طبعا! من أول يوم. ومع الدين معبد، والمعبد ماذا؟ عمارة، عمارة! فن العمارة. 

فقال دايسون Dyson علاقة العلم بالدين جد حديثة. مُنذ الأمس فقط، بالأمس وُلدت! لكن علاقة الدين بالأدب، علاقة الدين بالفلسفة، علاقة الدين بالفن، قديمة جدا، جدا! 

فالدين أثرى مما تظنون، ولا يتوقف مصيره وتقييمه على ماذا؟ على موقف العلم والعلماء منه! أي ما طبيعة موقفك؟ حدد موقفك أيها الدين؟ يقول لك ما هذا؟ أنا أكبر من هذا أصلا! أي لا تظن أنك ستهزني لما أحدد موقفي! سأُحدد موقفي! لكن هذه ليست قضية كبيرة عندي، أنا وُلدت قبلك بكثير، بكثير! 

أنا موجود مُذ كان الإنسان! تحالفاتي من الصعب فكها، أنا مُتحالف مع العمارة، أنا مُتحالف مع الفن، مُتحالف مع الرواية، مع القصة، مع القصيدة، مع الشعر، مع الفلسفة الميتافيزيقية والعقلية، مُتحالف مع التصوف والنزعات الروحانية، مُتحالف مع أشياء كثيرة جدا جدا!

لذلك فريمان دايسون Freeman Dyson قال لك الدين أكثر تشاركية بمراحل من العلم. أي كم الذين يتشاركون العلم؟ قلة قليلة. ذكرت لكم الآتي في مُحاضرة سابقة، لكن هذا بحسب لويس ولبرت Lewis Wolpert! قال في الشعب الأمريكي نسبة الذين يتفهمون مبادئ العلم خمسة في المئة! مع أن أمريكا بالذات من بين العالم أكثر دولة تضع موازنات للعلم والبحث العلمي والتقني، ومع ذلك خمسة في المئة فقط من كل سُكانها يتفهمون ما هو العلم وكيف يشتغل العلم ومبادئ العلم! ما رأيك؟ خمسة في المئة! لكن في الدين؟ تفضل، بلد الأصوليات أمريكا! بلد الأصوليات! أكبر بلد ولّد أصوليات ويُولّد أصوليات! واضح؟ 

هذه مُلاحظات مُهمة! فكون الدين أكثر تشاركية، أكثر تجذرا، أقدم من العلم، لا يجعل هذا الملف بالخطورة على الدين، هو بحد ذاته ملف خطر ومُهم، من أي حيثية – وأختم مُحاضرة اليوم -؟ من حيثية أن العلم بلا شك مع أنه وليد حديث، بعمر ثلاثمائة سنة الآن، لكن هذا العلم في هذا الوقت الضيق حقيقة، حقق اكتساحات وأنجز نجاحات مُذهلة! أدارت عقل العلماء أنفسهم، فضلا عن أنها أدارت عقولنا، عقول العامة. 

الصورة الكونية، أي كما يُسمونها، أو صورة العالم، أو الرؤية الكونية تأثرت للأسف الشديد في العصر الحديث بالعلم، أكثر مما فعل أي شيء آخر.

أكتفي بهذا القدر، على أن نُكمل – إن شاء الله – في المُحاضرة المُقبلة، والحمد لله رب العالمين.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: