السرهندي وحسن البنا

video

https://www.youtube.com/watch?v=AdfXVqRRE9I

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سُبحانه ومخالفة أمره، لقوله جل من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.

ثم أما بعد/

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/

يقول الله جل مجده في كتابه العزيز، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُواْ غُزّٗى لَّوۡ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجۡعَلَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ حَسۡرَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ * وَلَئِن قُتِلۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوۡ مُتُّمۡ لَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحۡمَةٌ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ * وَلَئِن مُّتُّمۡ أَوۡ قُتِلۡتُمۡ لَإِلَى ٱللَّهِ تُحۡشَرُونَ * فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ * إِن يَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن يَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِۦۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ * وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ * أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَ ٱللَّهِ كَمَنۢ بَآءَ بِسَخَطٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ * هُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ * لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ * أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ *

صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.

إخوتي وأخواتي/

نتنسم في هذه الأيام المُباركة، والليالي الزُهر، أرواح ذكرى ميلاده – عليه الصلاة وأفضل السلام – الميمون المُبارك، الذي وَسِع العالم رحمة وتسامحا وخيرا وعطاء وإسعادا وإكراما! فصلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، صلاة وسلاما دائمين كاملين أتمين، إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين، في كل لمحة وحين، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته.

لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ *: هذا إعلان! إعلان الفضل، إعلان المنّ، إعلان الكرامة الكُبرى، لهذه الأمة. هذه الأمة ما كان لها أصلا أن تكون بغيره – عليه الصلاة وأفضل السلام -. وإنما كان مَن كان قبله أُناسٌ من العرب، أُناسٌ من العرب مُتفرقين أيادي سبأ، يأكل قويهم ضعيفهم، ويجور غاشمهم على مهضومهم. ما من قانون، وما من تُقاة، تمنع الضعيف من القوي، وتمنع القليل من الكثير العزيز، والعزة عندهم كانت للكاثر!

فجاء هذا الإسلام، ولا أُريد أن أقتص عليكم أطرافا مما تعلمون، من معالم ثورته الكُبرى، التي أحدثها، في العرب أولا، ثم انبسطت وانداحت أنوارها، في العالمين! ولا تزال، وستبقى إلى يوم الدين – بإذن الله، الذي تأذّن بذلك -.

على أنه يعن للمرء أن يُعلق مُلاحظة – أيها الإخوة -، لا بُد منها في مثل هذه الذكرى العاطرة، وهي أن هذه الأمة المرحومة، ليست أوضاعها اليوم في أحسن حال، ولا على ما يُرام، والعجيب أنها كانت كذلك تقريبا في مُعظم دوراتها التاريخية! في مُعظم دوراتها التاريخية!

قد توالى عليها من الخُلفاء والسلاطين ما يُناهز الخمسين والمئة، وربما أكثر من ذلك، لكن لنأخذ بالقدر المُتيقن؛ زُهاء مئة وخمسين خليفة وسُلطانا، في الأنحاء المُختلفة، وفي السلطنات والخلافات؛ لأنها صارت خلافات بعد أن كانت خلافة واحدة، وسلطنات بعد أن توحدت سلطنة واحدة!

توالى عليها هذا الجماء الغفير، وهذا العدد الكبير، من الخلفاء والسلاطين، الذين كانوا في جُملتهم، على شيء كثير، أو قليل، من الظلم، ومن العسف، ومن عدم إقامة عمود العدل في هذه الأمة المرحومة.

العجب أن هذه الأمة بقيت! وهي باقية إلى اليوم! لم تدثر، لم تبد! والعجب العاجب، في المُقابل أيضا، أن هذه الأمة أنجحت وأفلحت واستطاعت أن تُشيّد بناء ومعمارا حضاريا مُعجبا مُذهلا، يدين له العالم، لو أنصف! يدين له العالم، لو أنصف!

ثم تُجيل النظر وتُغلغله، في جنبات تاريخ هذه الحضارة المُسلمة العريقة، لتجد أن الأشطار الأكبر، والأجزاء الأعظم، من الفضل الذي يُعزى في تأسيسها وتشييدها وإمدادها ورعيها، إنما تُعزى إلى الأمة، لا إلى الحُكام والسلاطين! الأمة!

الأمة هي التي بنت حضارتها، بينما كان مُعظم خلفائها وسلاطينها سادرين في غيهم، حاطبين في حبال شهواتهم، لا يلوون على شيء! وكأنهم، كأنهم، من أقل وأوضع طبقة، من طبقات هذه الأمة! قيّضت لهم الأقدار أن يتحكموا في رقابها، وأن يسوسوها!

لكن كيف أفلحت الأمة أن تُنتج وأن تُعطي، وإن جاز التعبير، كيف تمكنت خلاياها من أن تُعسِّل؟ ولا زالت خلية الإسلام تُعسِّل، اليوم، وإلى يوم الدين – بإذن الله تبارك وتعالى -. هذه هي عجيبة الإسلام! هذه هي عجيبة الإسلام!

العلماء الأيقاظ، والنُصحاء الألباء، من علماء هذه الأمة، فسَّروا، أو حاولوا تفسير، هذه الظاهرة، فعزوها إلى جهود البررة، من أبناء وبنات هذه الأمة! وفي مُقدمهم العلماء! علماء هذه الأمة، الذين قطعوا إياسهم من الحُكام والسلاطين، أغفلوهم تقريبا، بالكُلية! ثم مضوا على طيتهم، في سمتهم، يقرأون ويُقرئون، يَدرسون ويُدرِّسون، يَحفظون ويُحفِّظون، يَفهمون ويُفهِّمون!

فإذا بتُراثات الإسلام غنية، خصبة، في كل الأبواب! وليس في علوم الدين وحدها، وإن كان لعلوم الدين تميز كبير في هذا الباب! العلماء كانوا من وراء ذلك! على أن من هؤلاء العلماء مَن لم يسلم من عسف هؤلاء الحُكام، وجور أولئكم السلاطين.

فبعضٌ لقيَ حتفه شهيدا، في سجونهم، وبعضهم دُس له السُم، فقضى على عجل، وبعضهم عاش مُهجّرا غريبا مُغرَّبا عن أهله ودياره وأُناسه، وبعضهم قضى حياته في السجن! يُوجد عددٌ له بأس به! على أنهم لم يُعطوا الدنية، ولم يلتووا – أيها الإخوة -، وهكذا حُفظ الإسلام أيضا! حُفظ الإسلام أيضا! شيء عجيب!

اليوم سأقص عليكم، وأسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُمدني وإياكم بتوفيق من عنده، حتى أُلم بأطراف هذه القصة الطويل، المُسهبة، وهي قصة – كما وصفتها للتو – من أعجب العجب!

قصة فصل من الفصول الطويلة، في تاريخنا الإسلامي، في الهند! في الهند المغولية! في الهند المغولية! نحن طبعا، وأنا أُكلِّم مَن لم يقرأ التاريخ، ولا دراية له بالتاريخ، نحن طبعا نسمع – أيها الإخوة – بتاريخ المغول، والحملة الدهماء الطخياء، التي حملوها وشنوها على عالم الإسلام، فدمروه، إلا قليلا! فدمروه، إلا قليلا، وأودوا بحضارتنا، إلا قليلا!

على أن هذا القليل الباقي – كما قلت لكم – مُعجب، وكثير، وفوق الكفاية! وفوق الكفاية! أي يبدو أن هناك ملايين الكُتب، قد أُحرقت – أيها الإخوة -، وأُلقيت في مياه الأنهار، دجلة والفرات وغير ذلك! ملايين، فيما يُقدر المؤرخين، وملايين الأرواح أُزهقت!

ولكن، كما يُسجل المؤرخون، مُتعجبين، مُندهشين، لأول مرة في تاريخ البشرية، وعلى غير قانون التاريخ وسُنة الله في المُجتمعات، يدخل الغالب في دين المغلوب! ابن خلدون في مُقدمته يُحاول أن يُجلي وجه هذا القانون، الفاعل في كل دورة تاريخية، والذي هو أن المغلوب أبدا مُولع بتقليد الغالب! هذا هو القانون!

أما أن الغالب، الذي انتصر سيفه، ولم ينكسر، يدخل في دين المغلوب، يُصبح على دينه، فلأول مرة في تاريخ البشرية، تتفق هذه الحادثة! والذين دخلوا ليسوا أُناسا قليلين، بل هم شعوب كثيرة، كثيرة العدد، شديدة الوطأة والبأس، مُرعبة! أفلحوا من قبل أن يُشيدوا أعظم إمبراطورية في التاريخ!

لو سألك أحدهم، وقال لك ما هي أعظم الإمبراطوريات – طبعا من حيث ماذا؟ من حيثية ماذا؟ من حيثية أخلاقيتها؟ من حيثية عدالتها؟ لا! من حيثية اتساع رقعتها -؟ قل له الإمبراطورية المغولية. ليست الإسلامية طبعا، المغولية! أيام جنكيز خان Genghis Khan، الجد الأكبر لهؤلاء، الجد الأكبر لهؤلاء!

أوسع إمبراطورية! أوسع من الرومانية، وأوسع من الإسلامية! أوسع من كل الإمبراطوريات! شيء مُخيف! هؤلاء دخلوا في الإسلام، طائعين، مُختارين! ثم إن هذا الإسلام الحنيف العظيم، قلب طبيعتهم، وأعاد جوهرتهم! كان لهم جوهر، مقدود من البأس والشدة والقسوة والخشونة – أيها الإخوة – والغلظة، فأصبحوا من ألطف الناس، معشرا ومظهرا ومخبرا وفنا وشعرا وتعبيرا وإنشاء!

إذا ذَكرنا المغول، ذُكر تاج محل Taj Mahal! دُرة العمارة – أيها الإخوة – العالمية، وبالذات طبعا المغولية! هذا بناه السُلطان، صاحب لقب: صاحب القرن الثاني، شاه جهان Shah Jahan. شاه جهان Shah Jahan بن جهانكير Jahangir بن جلال الدين محمد أكبر Jalaluddin Muhammad Akbar! وأكبر Akbar بن همايون Humayun، همايون Humayun بن بابر  Babur! هذه هي الأسرة كلها!

بابر Babur هو الذي قضى على الأسرة اللودهية، التي كانت تحكم الهند الإسلامية، قضى عليها – على ما أذكر – سنة ثنتين وثلاثين وتسعمائة، محمد بابر Muhammad Babur! ثم جاء ابنه همايون Humayun، ثم جاء أكبر Akbar، ولنا اليوم حديث مُوسع عن أكبر Akbar هذا.

جهانكير Jahangir: شاه جهان Shah Jahan! شاه جهان Shah Jahan بنى تاج محل Taj Mahal؛ تخليدا لذكرى زوجته الثالثة، التي دلهه حُبها! كان يعشقها عشقا عجيبا! ثم عودوا إلي المواقع والمظان؛ لتعلموا قصة هذه البناية، وكيف أراد، من خلالها، أن يُخلد ذكرى زوجه الحبيبة، التي قضت وهي تضع طفلهما الرابع – رحمة الله تعالى عليها -؛ مُمتاز محل Mumtaz Mahal! اسمها مُمتاز محل Mumtaz Mahal! لذلك تاج محل Taj Mahal؛ نسبة إليها! إلى مُمتاز محل Mumtaz Mahal. هؤلاء؟ هؤلاء! 

أكبر Akbar، الذي الآن سنسوق أطرافا من حديثه، هذا الإمبراطور الذي نشأ أُميا، واستعصى تعليمه على أبيه! حاول أبوه أن يُعلمه، أنفذ إليه كبار المُعلمين، أفاضل المشايخ المُربين، دائما يلتوي عليهم، لم يُفلحوا! حتى أيس منه أبوه، وقال اتركوه. بقيَ أُميا، لا يكتب ولا يقرأ! لكنه كان واسع العقل، يُحب السؤال، ويُحب المُباحثة، ويُحب الاطلاع، وكان سليم الدين، مُستقيم السيرة، مُحبا لله ورسوله، مُعظما للعلماء والأئمة.

حتى أنه مرة قدّم الحذاء، وهو سُلطان الهند، جلال الدين أكبر Jalaluddin Akbar، قدّم الحذاء، أو النعلين، لأحد العلماء الكبار، بيديه! وهو صدر الصدور Sadr-us-Sudur، الشيخ عبد الغني Abdul Ghani، الذي كان يُلقب بصدر الصدور Sadr-us-Sudur! وكان من علماء الشريعة، بلا شك!

بعد ذلك، الشيخ عبد الغني Abdul Ghani هذا، سيلتقي بحافظ الإسلام والفقيه الشافعي الكبير ابن حجر الهيتمي، في الحجاز، ويُحسن وفادته وإكرامه العلّامة الإمام ابن حجر الهيتمي، الذي يعود إليه نصف الفضاء الشافعي – أيها الإخوة -، في وقته، وإلى الآن! مكة واليمن، ابن حجر! وهناك – المُهم – فضاء آخر.

على كل حال، قدّم إليه الحذاء، السُلطان يفعل هذا! لكن، للأسف الشديد، وهذا ربما أيضا نُريد أن نعود إليه، لم يُقابل هذا العالم الجليل، تواضع السُلطان العظيم المُعظم، بلا شك! وهو سُلطان كبير، لم يُقابله بما ينبغي، من إجلال السُلطان!

على فكرة، حتى لا أنسى، وأنا اليوم – سُبحان الله – أستحضر هذه الآيات الكريمات، من سورة آل عمران، أيضا خطر ببالي، ولأول مرة في حياتي:

لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ * أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ *.

شعرت كأن الله – تبارك وتعالى – يُريد أن يُنفذ إلينا رسالة، أن يُوصِّل إلينا رسالة، ويا لها من رسالة! ليس وجوده – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وأصحابه -، ليس وجوده بين ظهرانينا، والمعنيون هنا الصحابة؛ لأنه هو الذي وُجد بين ظهرانيهم، هم الذين وُجد بين ظهرانيهم! ليس وجوده بين ظهرانيكم عصمة لكم من الزلل، ولا من الانكسار والهزيمة.

عجيب! ليس وجوده! ليس حتى دعاؤه لكم عصمة! مبروك ومُبارك ومقبول، بلا شك، دعاؤه، بلا شك! وأي شيء أبرك من دعائه؟ ولكن لا يُشكل عصمة. قضاء الله نافذ!

إذن إن كان ثمة عصمة، أو ما يُشبه أن يكون عصمة، ففي ماذا؟ في اتباعه. ليس في مُجرد الانتساب إليه؛ أنني مُسلم، وهذا نبيي! حسن، جميل! ولكن هذا لا يكفي، ليكون خُطة للاهتداء، وخُطة فيها العصمة من الزلل والخطل، ومن الهزيمة والفشل.

ولذلك جاءت الآية على الولي، عقّب الله مُباشرة! وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ * أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ *، أي في أُحد! هزيمة المُسلمين في أُحد. قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا *، أي في بدر. وفعلا أصابوا مِّثۡلَيۡهَا *، أصابوا ضعفيها. قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ *.

طبعا مُحال أن القرآن يُحيل هنا على القدر، وإن كان كل شيء بقدر، لكن القدر لا يُحتج به، لا يُحتج به في الخطل! القدر يُعتزى إليه في الخير والبركة، تقول هو من عند الله، هو من فضل الله. فإن أخطأت، وجنفت، وجنجت، قل هو من نفسي، ومن شيطاني. ولا تنسبه إليه.

ولذلك كان من دعائه – صلوات ربي وتسليماته عليه – الخير كله بين يديك، والشر ليس إليك. انتبهوا، أن تنبسوا الشر إلى الله! لماذا يا ربي يُصيبنا هذا؟ لماذا فعلت بنا؟ نحن فعلنا بأنفسنا، نحن الذين أحللنا ما حل بنا وحاق بنا بأنفسنا. يجب أن نتأدب مع الله، وأن نتأدب مع كتابه. أما أن نظل هكذا، فلا.

ولذلك العصمة في اتباعه. نعم، الآن سوف نرى إذن، هل اتبعت هذه الأمة، هل اتبع خلفاؤها، سلاطينها؟ لماذا؟ انظر، المُعادلة بسيطة، وأيضا مُدهشة! هذا الدين باق! انتبهوا! هذا الدين باق! لو تمالأت عليه أمم الأرض، وأوشكت أن تفعل، في فترات، هذا الدين باق! أبدا!

تُركيا الكمالية؛ كمال أتاتورك Kemal Atatürk! كمال أتاتورك Kemal Atatürk ضيّق كثيرا على الإسلام والمُسلمين، حتى منع النداء أن يكون – الأذان – بالعربية، ممنوع! ومنع الحجاب، ومنع أشياء كثيرة! وطارد العلماء، فهجر تُركيا أعاظم علمائها!

آخر شيخ إسلام كان فيها العلّامة الكبير الشيخ مُصطفى صبري – رحمة الله عليه، رضوان الله عليه -، صاحب الكتاب العجيب في علم العقيدة؛ موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المُرسلين! في أربع مُجلدات! أُعجوبة! هذا الرجل في علمه وتحقيقاته الكلامية العقدية أُعجوبة – رضوان الله عليه -! والشيخ زاهد الكوثري أيضا، وكيل المشيخة الإسلامية، هرب إلى مصر! هربوا هكذا!

وأما بديع الزمان، العلّامة سعيد النورسي، فكُردي الأصل! وهذه عظمة الإسلام! هذا كُردي، وهذا تُركي من أصل كُردي، وهذا مغولي، وهذا عربي، وهذا مالاوي، وهذا فارسي! شيء عجيب! شيء عجيب! والكل يعمل بجد واجتهاد؛ لحفظ مُهجة الدين، ويفدونها بالمُهج والأرواح والنفس والنفيس! والنفس والنفيس! ويعيش هذا الدين!

هذا الدين باق، عائش – بإذن الله – أبدا! وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ *، ومُغالب الغلّاب مغلوب! لييأس كل مَن يُريد أن يجتث شأفة هذا الدين! لكن أمة هذا الدين، الأمة المُسلمة، لا تكون دائما في أحسن أحوالها، ولا فيما يُرجى لها، ولا فيما يصبو دينها لها، من الأحوال والعز والكرامة، أبدا!

وهذا إنما يكون بتقصيرها هي، وبإجرامها هي! لا نُغفل ولا نُسقط دور العوامل الخارجية؛ العدو الخارجي دائما، ولسنا في هذا، ومن هذه الناحية، بدعا من الأمم! كل الأمم، تعيش صداقات وعداوات، لسنا بدعا! لسنا بدعا! ولا بُد دائما، لا بُد دائما، أن يُوجد مَن يتربص بنا، ومَن يُجاهرنا بالعداوة، هذا موجود!

ولكن التعويل كله علينا نحن، علينا نحن! كيف نعتصم بحبل الله حقا، إزاء كل هذا المكر؛ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ *؟ كيف نعتصم؟ ما هي الخُطة؟ خُطبة اليوم، مُحاضرة اليوم، مُحاولة للجواب عن هذا السؤال، وربما من زاوية جديدة، وبمُقاربة لا تخطر على بال كثيرين، لا تخطر على بال كثيرين! وسنسمع أشياء في المُحاضرة، ربما تصدمنا؛ لأننا لم نسمعها من قبل، ولم نتعود أن نُصارَح بها.

ولا بُد أن نُصارِح أنفسنا بالحقيقة، والناصح مؤتمن؛ إما أن تنصح بأمانة، وإما أن تُمسك! لكن أنت تتكلم، وتُجمجم، وتتردد، وتعمل حسابات، تُجري حسابات! الله سائلك عن ذلك كله. والله أكثر ما نحتاجة يا إخوتي وأخواتي الصدق، أولا مع أنفسنا، أي مع ربنا – تبارك وتعالى -، ثم مع بعضنا البعض.

ولذلك لو طالب أحدنا أخاه بشيء، فعليه ألا يُطالبه بالتزام الحقيقة. الحقيقة شأن خلافي كثير، وتتعدد فيها وجهات النظر، للأسف الشديد! وما كل أحد يُصيبها، على الأقل من أول مرة! لكن عليه أن يُطالبه بماذا؟ بالصدق. يقول له تُعطيني عهد الله، أنك تكون صادقا معي.

إن أعطاك هذا العهد، انتهى! على الأقل تُصبح المُباحثة والمُناقشة مُريحة جدا! لكن إن لم يلتزم الصدق، وأدخل في مُباحثته حسابات كثيرة، هذا هلك وأهلك، وهو مسؤول عن هذا أمام الله يوم القيامة.

ولذلك لست أستبعد، لست أستبعد، أن نرى أُناسا يوم القيامة، نطقوا بالحق، لكن بُعثوا هالكين! وأن نرى آخرين، نطقوا بحق مشوب بباطل، وربما حتى في بعض الحالات بباطل، على أنهم يُبعثون ناجين! لماذا؟ كيف؟ أين هذا من العدل؟ هذا هو العدل نفسه! لأن هؤلاء نطقوا بما نطقوا، وكانوا صادقين. وأما هذا، فنطق بما نطق، وافق الحق، لكن لا عن رغبة في الحق، ولا ولاء للحق، وإنما عن مصلحة وحسابات.

النبي يُشير إلى هذا المعنى اللطيف العجيب، بقوله في حديث الفتن تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عُودا عُودا، وضُبط عَودا عَودا، قال حتى تصير القلوب على مثل قلبين، وذكر القلب الأسود المرباد، كالكوز مُجخيا!

الكوز المقلوب! لا يُمكن أن يُمسك ماء، يُوضع فيه! لأنه مقلوب! كالكوز مُجخيا! مهما تكلمت، مهما وعظت، حتى ولو نطق أمامه الأنبياء، لن يُفيده، لن يُفيده شيئا، لن يُجديه شيئا! لماذا؟ لأن القلب أسود – والعياذ بالله -، غلبت عليه ظُلمة الهوى، ظُلمة الشهوات، ظُلمة حُب الباطل وحُب المصلحة والمنفعة.

يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله وأصحابه – لا يعرف معروفا، ولا يُنكر مُنكرا، إلا ما أُشرب من هواه. أي في حالات مُعينة، نعم، سيعرف المعروف! يقول نعم، أنا مع هذا، وأنا أؤيد هذا! لا لأنه من أولياء المعروف، ولا لأنه من الذين انحازوا إلى أهل المعروف، ولكن لأنه وافق هواه، وافق مصلحته! هذا يُبعث يوم القيامة هالكا. فنسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُحققنا بصدق الباطن، قبل صدق الظاهر. هذا أهم شيء يا إخوتي، والله العظيم، هذا أهم شيء على الإطلاق!

لا أُريد أن أُطوِّل بالمُقدمات، أُريد فقط فيما بقي – إن شاء الله، ولا أُطيل – أن أقتص عليكم، على ما وعدت، قصة الإسلام في الهند المغولية! فصل من أعظم فصول البلاء التي حلت بجانب أمة محمد! بلاء عظيم! كيف؟ أي بلاء؟

مع السُلطان أكبر Akbar، الذي ذكرت لكم طرفا من شخصيته، جلال الدين أكبر Jalaluddin Akbar ثالث سلاطين الدولة المغولية في الهند، ومن أعظمهم! وحكم فترة طويلة، وحكم فترة طويلة! قريبا من خمسين سنة! وهو في الحُكم!

هذا الرجل – كما قلت لكم – نشأ نشأة ساذجة، للأسف بعيدا عن العلم والكتاب، إلا أنه كان مُحبا للدين، لله وللرسول، للعلماء والأولياء والصُلحاء، مُعظما لهم. عالم الدين الأكبر في إمبراطوريته كان يُلقب بمخدوم الملك Makhdum-ul-Mulk! ليس خادم الملك، مخدوم الملك Makhdum-ul-Mulk! أي الملك يخدمه، تخيلوا! الشيخ عبد الله السُلطانفوري Abdullah Sultanpuri.

الشيخ عبد الله السُلطانفوري Abdullah Sultanpuri كان يُلقب بمخدوم Makhdum! هذا لم يحدث على الأقل في الفضاء العربي! لم يُلقب عالم على الإطلاق بماذا؟ بمخدوم الملك Makhdum-ul-Mulk! الملك في خدمته، الملك يخدمه، عجيب! هذا هو! السُلطانفوري Sultanpuri! لأنه عالم، من علماء الدين.

صدر الصدور Sadr-us-Sudur هو الرجل الثاني بعد السُلطانفوري Sultanpuri، صدر الصدور Sadr-us-Sudur! الشيخ عبد الغني Abdul Ghani؛ صدر الصدور Sadr-us-Sudur! الذي قرّب إليه نعليه مرة السُلطان بيديه!

للأسف الشديد بدأ الخرق – أيها الإخوة -، الذي اتسع على الأيام، من المشايخ، من علماء الدين! الذين لم يتقوا الله فيما خولهم من أمر الأمة وسُلطانها. الله – تبارك وتعالى – هو الذي قيّض لك هذه المحبة، هذه المهابة، هذه المكانة، وجعلك بهذه المثابة! فهلا راعيتها، ووافيت بحقوقها؛ نُصحا للدين وللأمة؟ لم يفعلوا!

السُلطانفوري Sultanpuri هذا، مخدوم الملك Makhdum-ul-Mulk – أيها الإخوة -، كان وكده وسعيه واجتهاده، في تحصيل ماذا؟ الذهب والفضة والأموال! حتى أنهم وجدوا في مقابر عائلته صناديق من الذهب! كان يدفنها، بحيلة من الحيل، مع الأموات! صناديق! ماذا تفعل بها يا رجل؟ ماذا تفعل بها يا عالم الدين، يا رجل الدين؟ ماذا تفعل بالذهب؟ تدفنه مع الموتى! لمَن؟ ستموت عما قريب! شيء غريب!

ثم انتبه السُلطان أن هذا العالم، مخدوم الملك Makhdum-ul-Mulk، تحيّل على أمة محمد في الهند، فأسقط عنهم فريضة الحج، بذريعة أن المياه تعترضهم! وإذن، شرط الاستطاعة غير متوفر؛ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا *!

قال نحن لا نستطيع. ثم يتبين الناس والملك أنه فعل ذلك؛ لئلا يحج هو! مُقصر في الحج، قال لك أحج لماذا وأتعب نفسي؟ نطلع فتوى للكل! ما شاء الله على نُصح العلماء أمثاله لأمة محمد! نُصح عجيب! في سبيل ماذا كله؟ في سبيل الأموال، واكتناز الأموال!

لم يكن الشيخ عبد الغني Abdul Ghani؛ صدر الصدور Sadr-us-Sudur، أفضل منه حالة، بل كان مثله! ومما زاد الطين بِلة، أن نزاعا واختصاما شجر بينهما، وانتقل إلى أتباعهم وحواشيهم، فأحدث رجة وقلقلة، والملك يقف على التفاصيل! وكل يوم يكبر الغضب في صدره.

الشيخ عبد الغني Abdul Ghani هذا؛ صدر الصدور Sadr-us-Sudur، بلغت به الجراءة أن هتك حجاب الحشمة، وخرق حدود الأدب، التي ينبغي أن تُراعى مع السلاطين! اليوم ذكرت لكم، قُبيل قليل، إذا أردنا العصمة، علينا أن نتبع محمدا – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وأصحابه -، أليس كذلك؟ وبدقة! وبدقة! وسوف ترون نموذجين مُتباعدين مُتقابلين، تقابل الطرفين الأقصوين! المشرق والمغرب! المشرق والمغرب!

النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أخبرنا وأنهى إلى علمنا أن من إجلال الله – إذا أردت أن تُجل الله، وهو الجليل الأجل، لا إله إلا هو، أن تُجله – إجلال السُلطان، المُقسط! العادل! وهذا سُلطان عادل مُحب! هذا يخدم! وربما كنس المسجد بيديه! السُلطان أكبر Akbar، كان يكنس المساجد مرات! كان مُتواضعا! كان نموذجا للسُلطان المُسلم التقي البسيط الصادق في تواضعه وتقواه.

الشيخ عبد الغني Abdul Ghani هذا؛ صدر الصدور Sadr-us-Sudur، أتى والملك يحتفل ذات مرة، وطبعا دعا إلى القصر أُناسا من العلية والهيئات، وكان يلبس لباسا أصفر مُعصفرا، وهذا ورد النهي عنه طبعا، في الأحاديث، والملك لا يدري، هو جاهل بعلوم الدين!

فيأتي الشيخ عبد الغني Abdul Ghani، ويُقرّعه أمام الحاشية والبطانة والضيوف! هذا لا يجوز، وهذا باطل، وهذا معصية! فهلا علمته؟ هلا انفردت به؟ هلا ذكرت له ذلك قبلا؟ أمام الناس! يتقوى بما له من منزلة ومثابة عند السُلطان!

ثم إنه رفع عصاه! على جلال الدين أكبر Jalaluddin Akbar! حتى مس بها حاشية ثوب السُلطان! فانكسر السُلطان، مُغضبا! قال له لا بأس. دخل إلى أمه – رحمة الله عليه -. انظر، هذه أمة طيبة، فيها الخير! آخ، آخ! مرة البلاء من العلماء، ومرة البلاء من الأُمراء، ومرة البلاء من العامة، لسنا برآء أيضا! للأسف!

وكانت سيدة صالحة، وامرأة تقية، قال لها يا أماه، انظري كيف فعل هذا الشيخ بي، أمام الناس، وأمام ضيوفي، وأنا سُلطان البلاد! فهدأت من روعه، وكسرت من حدة غضبه وثورته، وقالت له يا ابني، والله لئن صبرت وكظمت غيظك، لله – تبارك وتعالى -، ليُكتبن هذا في سجل تاريخك، منقبة لا مثلبة. سُتذكر بهذا! يُقال سُلطان احتمل هذا، لعالم! لأنه عالم، يُمثِّل الدين. فهدأ ورضيَ المسكين! وخرج إلى الشيخ، وإلى الناس، وقد نزع عنه لباسه ونضاه، ولبس لباسا آخر! إلى هذه الدرجة؟

الآن انتبهوا، طبعا هناك مَن يتربص، هناك مَن يتربص! هناك فئات حاقدة، فئات زنديقة! الهند انتقلت إليها فرقة باطنية زنديقة من إيران، اسمها النُقطية! من النُقطة، نسبة إلى النُقطة! لأنهم – المُهم – النُقطة بلُغتهم تعني الطين، يرون أن كل شيء خُلق من طين.

المُهم، وهذه الفرقة الضالة النُقطية وأتباعها النُقطويون، عندهم رجل إيراني – كما قلت لكم -، بسخاني Pasikhani؛ محمود بسخاني Mahmoud Pasikhani، هو الذي أسسها! زنديقة! ترى أن شريعة الإسلام آن لها أن تُنسخ! لماذا؟ لأن الله – تبارك وتعالى – يبعث إلى العالم، كل ثمانية آلاف سنة، نبيا يأتي بشرع جديد!

وقد مر، في هذه الحقبة – يقول محمود بسخاني Mahmoud Pasikhani -، مر على البشرية، ثمانية آلاف سنة بتمامها، فدين مُحمد أصبح منسوخا، لا وزن له، ولا عمل به، وينبغي أن يُترك، ولم يعد مُناسبا للمرحلة!

واقتنع بهذا للأسف جُملة مِمَن يدّعون العلم والفلسفة والحكمة، وأصحاب النفوس المُنحلة! هناك ناس عندها انحلال، هناك ناس تُحب أن تتحلل طبعا، طبعا! من المُسلمين!

الآن يخرج لك أي واحد، باسم التنوير، باسم التجديد، باسم الإصلاح، يقول لك لا، لا، الصلاة غير واجبة! على الأقل الصلاة الحركية هذه! أول مرة نسمع هذا: الصلاة الحركية! وهل تكون الصلاة إلا حركية؟

هل نحن نُصلي، هذه الصلاة طبعا؛ ركوع وسجود وقيام، هل نُصلي هذه الصلاة؛ لأننا قرأناها في البُخاري ومُسلم؟ مَن منكم فعل هذا؟ نحن نُصلي هذه؛ لأننا أخذناها عن آبائنا وأمهاتنا. إلى أن ننتهي بسيد الكل – عليه الصلاة وأفضل السلام -! هذا اسمه تواتر طبقي، ليس تواتر رواية! تواتر طبقي، لا يُشكك فيه مغلوب على عقله، أو مجنون، أو زنديق.

الآن يسخرون من الصلاة الحركية! هذا تجديد – ما شاء الله -؟ هذا دين؟ الناس، بعض الناس، تُحب هذا، يؤيدون! لأنه لا يُحب أن يُصلي، ولا أن يتوضأ، ولا أن يتطهر، ولا أن يقوم في الليل، والليالي الباردة الزمهرير! ما شاء الله عليك! إذن انتهى، أمامك حساب – إن شاء الله -، وأمامك سؤال.

بعضهم يُفهمك باسم التجديد أن المُساكنة حلال! ماذا؟ يقول لك هذه مُساكنة، مُعاشرة، هذا غير الزنا! الزنا الذي هو السفاح شيء، والمُساكنة شيء آخر! ويبدأ يلعب بكتاب الله! عادي! مثل هؤلاء المغلوبين على عقولهم وعلى أديانهم، موجودون دائما، في كل حقبة! لو تقرأون تاريخ الزندقة والزنادقة، والأقاويل التي قالوا بها واحتملوها، تقشعر منها الجبال، وليست الجلود! لا الجلود! الجبال تقشعر منها، والله العظيم!

فدائما يتجدد لهذه الأمة المرحومة أمثال هؤلاء! لكن دائما يطويهم التاريخ – بفضل الله -، ويبقى، يبقى الاتجاه العام، لهذه الأمة، هو اتجاه الاستقامة، وإن عصت! فتأتي إلى مُسلم عاص، سكّير شرّيب، كذا! يقول لك ولكن أعلم، هذا بلاء عظيم، ادع الله لي، والله أعلم أنه حرام، لعنة الله على الخمر، وعلى الساعة التي كذا! يبدأ هكذا يتحدث بلُغة عامية! يعلم أنها حرام هو، لكن يأتيك مُجدِّد مُصلِح، ويقول لك لا، الخمر ليست حراما، الخمر حلال!

المُحزن أنك ترى بعض الناس، يتلقفون مثل هذه الزندقات! يقولون لك هذا تجديد وإصلاح! وهذا الكلام الآن سيُغضب أُناسا كثيرين، مِمَن – قال – يُحبون هذه الطريقة في الإصلاح والتجديد! ما شاء الله! طبعا طريقة مُريحة جدا لأصحاب الشهوات!

على فكرة، كما سجل غير واحد من علمائنا، دائما الزنادقة الكبار يضربون على هذا الوتر! يضربون على هذا الوتر! وتر ماذا؟ التحلل والشهوات! لأن الذي يكون – والعياذ بالله – ضعيف العُقدة، كما يُقال، ضعيف العُقدة، مُندلع وراء شهواته، هشا، لا يتمالك، يُحب أمثال هذه الأفكار! يقول لك يا أخي مُقنعة، مُقنعة وأدلة، ردوا عليهم! أين في كتاب الله أن الله قال حُرمت عليكم الخمر؟ مثل هذه البلاهة! هذه بلاهة! هذا لا هو علم، ولا هو استنباط، هذا اسمه هبل! هذا ليس علما.

أين في كتاب الله أن الله قال حُرم عليكم الشرك؟ هيا، ائتني بآية واحدة أن الشرك مُحرم، آئتني بآية واحدة أن عبادة الأوثان مُحرم، هيا! لكن الله قال فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ *. قال وَاجْتَنِبُوا *! إذن فهمنا الآن! لم يقل حُرّم عليكم عبادة الأوثان، الرجس من الأوثان.

قال وَاجْتَنِبُوا *! علمنا أنها صيغة من أشد الصيغ على الإطلاق، لا أُحب أن أقول هي أشدها، وقد تكون أشد الصيغ؛ لأنه لا يُقول حُرّم، حُظر، مُنع، اترك، لا تفعل! لا، يقول اجتنب! اجعله في جانب، وكُن أنت في جانب آخر مُقابل.

مثل نهر، له جنبتان، له ضفتان، اجعل هذا الشيء المنهي عنه في تلك الضفة، وأنت هنا، بعيدا جدا! حتى إذا أردت أن تتناوله، لم يُمكنك هذا إلا بسعي جاهد، إلا بسعي جاهد! أن تعبر إليه سباحة وما إلى ذلك، فيطول الأمر، تتعنى، فلعلك تُراجع نفسك. صيغة مُشددة! الله لما قال اجتنبوا، عن الخمر، ليس معناها لأن الخمر ليس حراما! ما الاجتهاد هذا – ما شاء الله – والفقه؟

لا نُريد أن نُطوِّل، على كل حال، هذه الفرقة النُقطوية للأسف، جاءت وجاء بعض أعلامها الكبار من إيران إلى المملكة المغولية السُنية في الهند، وبدأوا يتسللون إلى بلاط الملك، شيئا فشيئا! علماء آخرون كانوا مُتسعي الدائرة في العقليات وعلم الفلك والحيل والهيئة والميكانيك والمنطق والفلسفة والأدب والشعر والإنشاء، مثل المُلا مُبارك الناكوري Mulla Mubarak Nagauri.

مُلا مُبارك الناكوري Mulla Mubarak Nagauri كان واسع الدائرة جدا، وكان له ابنان عجبٌ من العجب! أبو الفيض فيضي Abul Faiz Faizi، وأبو الفضل علّامي Abul Fazl Allami، اثنان! أبو الفضل Abul Fazl، وأبو الفيض فيضي Abul Faiz Faizi!

لو سألت الآن دارسي الأدب، أعظم شعراء الفارسية، الذين شعروا بالفارسية: خسرو Khusrow، وفيضي Faizi! هذا فيضي Faizi، هو هذا! هذا تسلل إلى بلاط السُلطان أكبر Akbar، وكان علّامة مُنقطع النظير وعقلية!

وأخوه أبو الفضل العلّامي Abul Fazl Allami، لم يكن دونه، لكنه كان في الإنشاء! كان في الإنشاء والكتابة، والعلوم طبعا! والتفسير. وللأسف كان الرجلان كأبيهما، ضاغنين على الإسلام! بسبب مواقف اتفقت للأب مع الشيوخ الكبار! مع مخدوم الملك Makhdum-ul-Mulk، ومع صدر الصدور Sadr-us-Sudur. انتبهوا! ولذلك، والله يا إخواني، هذه نصيحة، وأقولها لنفسي أولا، ثم لكم ثانيا، خاصة لأبنائي وأحبابي وبناتي:

حتي حين تدخل على الفيسبوك Facebook، أو في وسيلة من وسائل التواصل، إياك أن تُعلق بطريقة تستفز بها الطرف الآخر، بحيث تحمله على أن يركب رأسه، وتأخذه العزة بالإثم، فربما زاد إلحادا أو كفرا أو كرها لله ورسوله! والله لتبوءن بإثم هذا.

انتبهوا! تقريبا كلكم يفعل هذا، إلا ما رحم ربي! الكل يفعل هذا! وتبدأون بالسباب وبالشتائم، وأنت يا مُلحد، يا مُعفن، يا ناتن، أنت لا عقل لك! إياكم أن تفعلوا هذا! خُذوا بطريقة مُحمد في الهداية، بطريقة مُحمد في الدعوة.

واعتبر نفسك مسؤولا عن ردة الفعل، التي سيُحدثها خطابك في هذا الطرف الآخر، سواء كان مُلحدا، أو زنديقا، أو أيا كان! أو على دين آخر! والله العظيم! أقول هذا على منبر رسول الله، وأعلم ما أقول، انتبهوا! كل مَن يسمع كلامي هذا، بعد اليوم سيُصبح عند الله غير معذور، لزمتك الحُجة! لزمتك!

ولذلك وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ *، مَن؟ قلتها مرة على هذا المنبر، الله لا يتحدث عن أبي لهب، وعن صفوان، وعن أبي جهل، وعن أُمية! عن مَن؟ يتحدث عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومُعاذ، وطلحة، والزُبير! عن شامات الأُمة، عن أماثل الأُمة، عن أكارم الأُمة!

يقول حتى هؤلاء، ليسوا استثناء. لو كنت غليظا، قاسيا، فظا، لتركوك! أي الآية تقول لنا بلُغة علمية قوية وصادمة البشر لا يتحركون، أكثر ما يتحركون، بالبراهين والأدلة والإثباتات العقلية! هذا حال البشرية! هؤلاء فقط الفلاسفة تقريبا إذن، الفلاسفة! وليسوا مُستثنين بالكامل، وفي كل الحالات! الفلاسفة!

لكن مُعظم الناس، على الإطلاق، وليسوا بفلاسفة، ليسوا عقولا روبوتية، ليسوا عقولا مُجردة، ليسوا زومبي Zombie فلسفي! الزومبي Zombie الفلسفي يُمكن نعم أن تتكلم معه، فلا يتفاعل إلا عقلانيا، فقط! نحن لسنا زومبي Zombie فلسفيا، نحن بشر، من طين وماء. بمعنى ماذا؟ فقط استفزني، سبني، اشتمني، فذلك وحده كفيل بأن أرد الحق كله منك، جُملة وتفصيلا! وألتوي على كل بُرهان تأتي به! تخيل! وأنت السبب.

لذلك الدعوة غير النقاش الفلسفي، غير المُكايدات السياسية. الدعوة إلى الله، الشأن الديني، غير كل المُكايدات، علمية وفلسفية وحزبية، غير! الشأن الديني دائما يختلف. مَن يُريد أن يقف موقفا لله، أو يدّعي أنه من أهل الله ومن أهل الدعوة ومن أهل النصيحة، دائما لا بُد أن يجعل وجهه لله، وقلبه مع الله، ونيته لله، رضيَ الناس أم غضبوا!

وطبعا يستحيل أن تُرضي كل الناس، دائما لا بُد أن تُغضب، على الأقل شطرا، أو أشطارا، من الناس، لكن التزم بالصدق، مع نفسك، وأمام الله – تبارك وتعالى -، واتق الله في هذه الأشياء دائما، وإياك أن تنتصر لنفسك! إياك! وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ *.

لا أُريد أن أُطيل، هؤلاء – المُهم – أحدقوا بالملك، السُلطان أكبر Akbar، للأسف الشديد! وبدأوا يفتلون له بين الذروة والغارب، كما تقول العرب بين الذروة والغارب، فأفسدوا عليه عقد دينه! تطرقت الزندقة والانحلال إلى نفس أكبر Akbar!

وأبو الفضل العلّامي Abul Fazl Allami هذا، على السنين، دائما كان يُفهم أكبر Akbar أنك أذكى الأذكياء! أنك أذكى منا جميعا! ما من مسألة يتم التداول حولها، أو المُباحثة فيها، إلا ورأيك هو الأمتع ميزانا، والأوضح بُرهانا! فصدّق ذلك مَن؟

والناس تُحب ذلك! ليس الملوك حتى بالذات، حتى الناس، أي واحد! حاول أن تنفخ فيه، ينتفخ! الناس يُحبون مَن يُكبِّر فيهم! فكيف إذا كان سُلطانا؟ وكيف إذا كان يتعانى كما يُقال – أي يُعاني -، يتعانى عُقدة نقص؟ الـ Inferiority complex هذه! لأنه يعرف نفسه، أُمي هو، لا يقرأ ولا يكتب، وحوله فلاسفة وعلماء وشعراء ومنشئون وأدباء وكُتّاب! فطبعا هذا يلقى منه قبولا عظيما، يحل منه بمحل الرضا! يحل منه بمحل الرضا! فصدّق ذلك أكبر Akbar.

صدّق ذلك أكبر Akbar! وبعد سنين، بعد سنين، قال أنا سأُنشئ دينا جديدا، لم يعد يُرضيني دين مُحمد. دين مُحمد هذا منسوخ! ومُحمد نبي العرب، والعرب بدو جهلة قُساة وغُزاة، لا قيمة لهم!

ثم أخذ على رسول الله جُملة أمور، أُنزه لساني عنها، مما ورد في السيرة، ومما ضاق عنه عقله الصغير. وهذه جناية حتى الدين – أيها الإخوة – بغير علم رجيح، وبغير فهم صحيح! مهما كان دينك قويا، ومتينا، لكن من غير علم، من غير فهم، مُصيبة عظيمة! ولذلك الإمام البُخاري – رضوان الله عليه – في صحيحه، يُبوّب، يقول باب العلم قبل العمل، قال – تبارك وتعالى – فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ *. قبل!

فرق بين إنسان يقول لا إله إلا الله عن غير علم، تقليدا وتأثرا! وبين إنسان يقولها عن علم واستدلال وبُرهان! مُختلف! عُقدة إيمانه تكون أقوى، أليس كذلك؟ أكبر Akbar لم يكن كذلك، للأسف الشديد! فأتى بدين، عُرف بالدين الإلهي!

الدين الإلهي؛ مزيج من أديان، وإن كان أهمها الإسلام والهندوسية، ولكن فيه المسيحية، وفيه البوذية، وفيه السيخية، أديان كثيرة! أديان كثيرة! وحَّد الله، قال الله موجود، وهو واحد أحد. عجيب! واحد أحد، لكن الشمس تُعبد، والكواكب تُعبد – والعياذ بالله -. أباح عبادة الشمس والنجوم والكواكب، على أنه يُوحِّد الله – تبارك وتعالى -.

أسقط عن أمة الإسلام، ويزعم أنه أخذ أشياء من الإسلام، لكن أسقط عنهم، الصلاة والطهارة والختان والحج والصيام! قال هذا ليس واجبا! ثم كرّه، ولم يُحرِّم، كراهة شديدة، زواج بنت العم وبنت الخال، القريبات! وأوشك أن يمنع تعدد الزوجات، لكنه لم يفعل! لكنه زهّد فيه كثيرا! تعدد الزوجات! وأدخل احتفالات كثيرة، لغير مُسلمين. احتفالات رسمية صارت في السلطنة، لغير المُسلمين، وخاصة الهنادكة، خاصة الهنادكة!

وأباح زواج المُسلمة من الهندوسي، زواج المُسلمة من الهندوسي! وزواج المُسلم أيضا من هندوسية! على غير ما عليه اتفاق العلماء، في وقته وقبله وبعده. وهناك أشياء كثيرة فاحشة جدا – والعياذ بالله -! وبدأ يضطهد المُسلمين والمساجد، ويفتك كثيرا من المساجد، ويجعلها في أيدي الهنادكة! خُذوها لكم! معابد لكم! مساجد، كان يُوحَّد فيها الله. لا، للهنادكة!

ثم سطا الآن بأكبر عالمين في بلاطه: بمخدوم الملك Makhdum-ul-Mulk، وصدر الصدور Sadr-us-Sudur. دعاهما إليه بعد أن لزما بيتيهما فترة. علما أنه انتهى الأمر، انقطع الرزق وكل شيء! في البيت!

الآن الدولة لمَن؟ للعلّامي Allami؛ أبي الفضل العلّامي Abul Fazl Allami، وأخيه الشاعر فيضي Faizi، وبقدر أقل أبيهما مُلا مُبارك الناكوري Mulla Mubarak Nagauri. الدولة لهؤلاء صارت! هؤلاء هم المُقربون، هم المُقربون المحظيون.

بعث إليهما مرة، فجاء مخدوم الملك Makhdum-ul-Mulk، وصدر الصدور Sadr-us-Sudur، فأمرهما أن يجلسا في صف الأحذية! قال هناك، عند الأحذية! إمعانا في إهانة علماء المُسلمين! لكن هما جرّا ذلك على نفسيهما، وعلى الأُمة! يا ويحهما، ويا ويلهما، عند الله – تبارك وتعالى-، بما فعلا!

انظر، العالم فعلا ليس كذلك. تذكر قصة:

مرة شاب لطيف ظريف، غُلام صغير، مر به عالم. فالشاب يكاد يقع، لا أدري في كذا، فقال له احذر أن تقع. لا عليك يا سيدي – قال -، أنا إن وقعت، وقعت وحدي، احذر أنت أن تقع! إن وقعت أنت، وقعت بوقوعك الأُمة!

أنت تختلف – قال له -، أنا شاب عادي، أقع وأتكسر، عادي! لكن أنت عالم، زلتك تزل بها أُمة، تشقى بها أُمة، تُعذَّب بها أُمة، تهلك بها أُمة! أحيانا! وفعلا، كان هذا الشاب حليما، لقنا، زكنا، فطنا، وما أحسن ما أجاب به!

المُهم، ثم سيرهما إلى الحجاز، في أوقات شبه مُتقاربة. سار الأول، ثم عاد المسكين، حن إلى بلده، فلما عاد، دُس له السُم، ومات! قتله! والآخر أيضا ذهب إلى الحجاز، وعاد بعد فترة، فسجنه! قيل مات في سجنه. وقيل مات مخنوقا. وقيل خنقه أبو الفضل العلّامي Abul Fazl Allami! مع أن هذا فيلسوف وعالم كبير! لكن انتهى، بأمر السُلطان! هذا الصراع – والعياذ بالله – بين هؤلاء!

بقيت هذه الحالة السيئة جدا، وما أحد يستطيع أن يفتح فاه! لا عالم، لا جاهل! سُلطان! أكبر Akbar هذا كان سُلطانا قاسيا، وجبارا، وفتح فتوحا كثيرة، وامتدت وانبسطت على ربوع الهند مملكته! كان شُجاعا جدا، وكان مُخيفا مهيبا!

في هذه الفترة – بفضل الله تبارك وتعالى – تأذّن القدر الرباني، بأن يُولد غُلام، سيُلقَّب بعد ذلك مُجدد الألف الثاني في الإسلام! الله أكبر! ليس مُجدد مئة، مُجدد الألفية! مُجدد الألف الثاني! هكذا لقبوه! مُجدد الألف الثاني! وهو الشيخ الإمام أحمد بن عبد الأحد الفاروقي السرهندي!

سرهند هذه بلدة في الهند، تُسمى رأس الهند، أي سرهند! المُهم، وأما أنه فاروقي، فبينه وبين سيدنا عمر الفاروق – رضوان الله عليه -، إحدى وعشرون واسطة فقط! هو ابن سيدنا عمر، ابن سيدنا عمر بن الخطاب.

يُمكن أن تعودوا إلى سيرة حياته، أوفى كتاب أُلف في سيرة هذا الرجل الصالح والإمام المُجدد، هو كتاب العلّامة، أيضا الشيخ الصالح، وإن شاء الله من المُجددين، أبي الحسن الندوي – رحمة الله تعالى عليه -! الرجل العالم الصالح الزاهد! أبو الحسن الندوي!

الحلقة الثالثة في سلسلته الرائعة، التي أُهيب بكم أن تقرأوها؛ لكي تنتفعوا ببركاتها – إن شاء الله -، سلسلة مُباركة عظيمة؛ رجال الفكر والدعوة في الإسلام! رجال الفكر والدعوة في الإسلام! ولو تعلمون الباعث الذي بعث مولانا أبا الحسن الندوي على وضعها، لعجبتم!

حين كان في الثاني والعشرين، ألّف كتابا، شرّق وغرّب في الهند، وأثّر كثيرا! وطار له صيت وذياع! كتاب عن ماذا؟ أو عن مَن؟ عن الإمام أحمد الشهيد: ابن عرفان الشهيد، المعروف بالشهيد! هذا الرجل الصالح المُجاهد! أُعجوبة أيضا هذا من الأعاجيب!

على كل حال، لكن ما الذي حصل؟ أبو الحسن الندوي في كتابه عن أحمد بن عرفان الشهيد – رضوان الله عليه -، صدر عن منطق يرى أن الإسلام تقريبا برنامج لحكومة! برنامج سياسي! حكومة الناس! نحكم الناس، الحاكمية! نُراقبهم، كذا!

هو كان يؤمن بهذا! يؤمن بهذه الفكرة! ثم لم يلبث، يقول كنت صغيرا، في بداية شبابي، في شرخ الشباب، ولم أكن نضجت، ولا تعمقت في العلم والفهم، ثم أدركت أن هذه الفكرة، التي صدرت عنها في كتابي، جناية على الإسلام! جناية! ولها آثار مُخيفة سوداء! فأراد أن يُكفِّر عن هذه الفكرة!

كيف يُكفِّر عنها؟ ألّف هذه السلسلة! ألّف هذه السلسلة؛ لكي يضع أيدينا على مكمن الداء، وعلى جوهر الدواء، ولكي يُفهمنا أن هذا الدين لا يحيا، ولا يُبعث، ولا ينتعش – بإذن الله تبارك وتعالى -، إلا بماذا؟ إلا بروح الدين!

وروح الدين ليست هي برنامج سياسي، وبرنامج حاكمية ورقابة وسُلطوية! أبدا! روح الدين شيء مُختلف تماما عن هذا. وإن كان هذا من الدين، فليس له الصدارة. كما فعل مَن؟ مَن أول مَن جاء بهذه الفكرة، وجعل لها الصدارة، واتبعه خلائق إلى اليوم؟ الشيخ أبو الأعلى المودودي – رحمة الله عليه -! صديقه، صديق عُمره! لأبي الحسن الندوي! ولكن المودودي عاش ومات وهو يؤمن بهذه الفكرة، التي أخذها منه الشهيد سيد قطب – رحمة الله عليه -، وأثرت في ملايين!

الندوي أدرك، هذه خطيرة جدا جدا! هذه تُدمر الإسلام! كيف؟ ألّف رسالة، وبعثها إلى المودودي، قال له يا أخي وصديقي، وأنت حبيبي، انتبه! أنت وقعت في خطيئة فكرية كبيرة! وتكلم معه بالتفصيل.

المودودي كان رجلا طيبا مُتواضعا – رحمة الله عليه -، لم يغضب، لم تحتمله الحمية. تعرفون ماذا كان جوابه؟ قال له سأُرسل لك كامل مؤلفاتي، وأرجوك يا أبا الحسن، ما كان لك من نقود ومن تصحيحات ومؤاخذات، فاكتبها، فلست بفوق النقد! لست كبيرا على أن أُنقد! أبدا! أنا أُنقد! اكتب لي بكل مُلاحظاتك.

طبعا ولست أعدك بأنني سآخذها من عند آخرها، ولكن أُريد أن أنظر فيها. لماذا؟ لأن نقدات المودودي لفكرة الحاكمية وكذا، Oh، وقعت منه موقعا! معقول؟ معقول أنا الذي قلت هذا؟ أي مَن، مَن يُريد أن يتهم نية المودودي – رحمة الله عليه -؟ حاشا لله! لكن معقول أنني قضيت عُمري، وأثرت في الملايين؟ وخاصة في العرب!

على فكرة، فكرة الحاكمية أثرت في العالم العربي أكثر بكثير مما أثرت في الباكستان والهند! أثرت فينا تأثيرا، إلى اليوم على فكرة! وهي فكرة طبعا اجتمع معها التكفير، واجتمع معها ما يُعرف بالقتال المُسلح، وأشياء مُخيفة مُرعبة، على فكرة! سنُفكك هذا بطريقة – إن شاء الله – تكون قريبة وسهلة، في الدرس – بإذن الله تبارك وتعالى -. فالمودودي تقبل هذا.

على كل حال، الإمام الندوي ألّف هذه السلسلة الماتعة المُباركة؛ لكي يُكفِّر عن خطيئته، حين فهم الإسلام بهذه الطريقة الاختزالية! أنه برنامج سياسي، برنامج سُلطة، برنامج حُكم! لا، لا، لا! الإسلام المُحمدي شيء مُختلف.

على فكرة، انظر الإمام المودودي – رحمة الله عليه -، رجل له مؤلفات، ربما مؤلفاته أكثر من مئة وعشرين مؤلفا! وعاش حياته كلها يخدم في الإسلام، المسكين! لكن إذا أسست على غلط، يظل الغلط يتناسل، يتناسل هنا وهنا، ودون أن تدري! لكن النية، النية تشفع لصاحبها – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

المودودي لكثرة وقوة سيطرة هذه الفكرة عليه، غمز – دون أن يدري – من قناة الأنبياء، لكن تصريحا! تصريحا، لا تلويحا! كيف؟ الآن إذا سألنا أنفسنا قرآنيا، مَن هو أبو الأنبياء؟ تقول لي إبراهيم – عليه السلام -. أليس كذلك؟ مَن هو المُسلم الأول الكامل؟ إبراهيم. مَن هو الذي أتى بهذه التسمية العجيبة؟ إبراهيم. هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ *. إبراهيم الحنيف المُسلم الأول!

المودودي يقول بالنسبة للبرنامج الكامل للدين – أي حقيقة الدين، جوهر الدين، الغاية الأعظم من الدين -، الأنبياء يتفاوتون في الموقف منها! نعم؟ فبعضهم – قال – مهدوا وهيأوا لها الأرضية! لكن لم يُنجزوا هذا المشروع، ولا قاربوه! مثل الخليل إبراهيم!

لا إله إلا الله! كلام يقشعر له البدن! يا رجل، هذه كلمة مُخيفة ومُرعبة! قال لك هو هكذا! إبراهيم لم يعمل دولة. أليس كذلك؟ لم يحكم ناسا، لم يحكم إدارات ودستورا! إذن انتهى! إذن هو لم يحظ بالدين الكامل، أن يُطبِّقه وأن يُنفِّذه! شيء مُخيف!

وبعضهم قارب، ولكن لم يُوف عل الغاية! مثل سيدنا المسيح. يقول! حاول، لكن لا! وبعضهم بلغ محل النُجح – النجاح -! مثل موسى ومحمد – عليهما الصلوات والتسليمات -.

وهذه الفكرة الخطيرة الجريئة جدا جدا على جناب الأنبياء، جرته أيضا لكي يتنقص كل مُجددي الأمة! الأمة فيها ألوف المُجددين، أليس كذلك؟ خاصة، إذا أخذنا بأن مَن يُجدد لها ليس واحدا! هذه (مَن): لفظ من ألفاظ العموم، وخلنا نُعمم، ولا نُخصص، المُجدد لا يكون واحدا فقط! وإنما جماعة، كلٌ يُجدد في ناحية!

المودودي يُصرِّح – رحمة الله عليه – بهذا في كتابه موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه. على فكرة، الطبعة العربية مُختصرة جدا! الطبعة الأردية موسعة، وهي التي يُحيل إليها الإمام الندوي – رضيَ الله عنهما -. يقول مَن أجال نظره في التاريخ – تاريخ المُسلمين -، علم أنه لم يُوجد مُجدد كامل، بملء معنى الكلمة!

يا رجل، النبي بشّر بماذا إذن؟ لما قال إن الله يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مئة عام مَن يُجدِّد لها دينها، بشّر بماذا؟ بُعشر مُجدد؟ بكسور مُجددين؟ ما الذي تُريد أن تقوله؟ طبعا كان في باله – رحمة الله تعالى عليه – أن مشروعه لأول مرة، هو المشروع التجديدي الكامل، الذي حتى الأنبياء لم يبلغوه!

تعرفون، مَن الذي أفرغ عن هذا المنطق أيضا، بهذه الطريقة، بكلام تقشعر له الأبدان؟ الخُميني. نفس الشيء! يبدو العقلية هذه الأصولية واحدة! الخُميني! الخُميني له تصريحان من أشد ما يُمكن أن تسمع! ومُوثق كل شيء. في المُحاضرة – إن شاء الله – سأقول أين قال هذا، وبأي تاريخ؛ حتى يعود مَن أراد أن يتوثق.

الخُميني بضرس قاطع يقول، يقول لم ينجح الأنبياء، ولا محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -، في إقامة الحكومة الإلهية العادلة! لم ينجح! وصرّح أيضا بأنه مما يحزنه ويسوءه أن أحدا لم ينجح في تحقيق مثل هذه الحكومة! ولن ينجح إلا الإمام المهدي، صاحب الزمان! وطبعا معروف، الخُميني هو – ولاية الفقيه – يُعتبر كأنه ماذا؟ كأنه مندوب، أو المُتكلم باسم صاحب الزمان!

عقلية أصولية مُخيفة، تُريد أن تُفهمك: الإسلام كُله عندي، الدين كُله عندي، البرنامج الأصح والأكمل والأتم عندي، كل شيء غير هذا لا. لذلك لما تسمع كلاما مثلا للشهيد سيد قطب، تتساءل كيف كتبه في الظلال؟ كتبه، عادي! كيف كتبه هناك؟ كتبه، عادي! طبعا أتباعه يقولون لك لا، غير صحيح! هذا صحيح، الكتاب مطبوع، والله يرحم الدكتور القرضاوي – رحمة الله عليه -، هو أول مَن أثار هذا الموضوع، بشكل قوي، على فكرة! فأغضبهم جدا!

الدكتور القرضاوي أغضبهم! لماذا؟ الدكتور القرضاوي كان عضوا في التنظيم الدولي للإخوان المُسلمين، وطلبوا إليه – رحمه الله – مرة الآتي! طبعا هو مُكلف بأعمال علمية، كعالم! إذن المرة هذه راجع لنا ظلال القرآن لسيد قطب. في ظلال القرآن، نقّه من الأشياء التي ينبغي أن يُنقى منها.

فشرع – رحمة الله عليه – في القراءة، ثلاثة أشهر كاملة، يقرأ! ثم عاد إليهم، وقال لهم بالحرف ما الذي يُمكن أن أُنقيه؟ أُراجع ماذا؟ وأُنقِّح ماذا؟ الكتاب يرشح تكفيرا! ماذا؟ يرشح. قال لهم! ينقط! ليس مرة ومرتين وعشرة وعشرين وثلاثين وأربعين! الكتاب كتاب تكفيري!

تكفيري! يُكفِّر الأمة، ليس فقط الحُكّام، والأمة! ويُعلن الهجوم؛ الجهاد الهجومي، على الأمة، ووجوب الانعزال عن الأمة، وترك الأمة! ولماذا؟ لأن الأمة هذه لم تعد مُسلمة، وإن زعمت أنها مُسلمة. هو يُصرِّح بهذا، على فكرة! وإن استعلنت بالأذان خمس مرات في اليوم أنها مُسلمة! ليست مُسلمة!

ستقول لي نعم، من هنا هذه الأفكار، وتكفير الناس، وقتل الناس، وتفجير المساجد. تأسيس! تأسيس خطير! هذه هي العقلية التي ترى أنها استبدت بماذا؟ بفهم الدين وجوهره. ولذلك ماذا إذا سألت الشهيد سيد قطب: يا أستاذ، وأنت لست عالم دين؟ أنت رجل أديب، شاعر وكاتب! لم تقرأ أي علم دين على أهله.

ومعروف! لم يكن مُبرِّزا، لا في الأصول، ولا في الفقه، لا يعرف هذا الشيء! ولا في التفسير! لو قرأتم كتابه مشاهد القيامة في القرآن، آخر صفحة: مراجع هذا الكتاب، يقول كان مرجعي الوحيد، أي الفذ، المُصحف الشريف. أما كُتب التفسير، والتي قرأت الكثير منها، ففي الحقيقة، لا أستطيع أن أُثبتها هنا؛ لأنها ليست لي مراجع! أي كأنه يقول لك أنا لم أستفد، ولا يُمكن أن أرجع إلى أي كتاب تفسير! أي ما شاء الله، منك ومن لدنك، يبدأ العلم، يبدأ الفهم، يبدأ الدين! يبدأ الدين!

لذلك لو قلت له يا أستاذ، يا أستاذ أنت وُلدت سنة ألف تسعمائة وستة تقريبا، قبلك لم يكن هناك إسلام؟ تُريد أن تُفحمه مثلا، ولو بطريقة جدلية! يقول لك لا، طبعا! من قرون! وصرَّح بهذا! يقول لك من قرون توقف الإسلام عن العمل! الإسلام غير موجود!

يا رجل، وعلماء الأمة، أولياء الأمة، عبّاد الأمة، آباؤنا، أمهاتنا، أجدادنا، الصُلحاء، العُرفاء، الحجّاج، المُعتمرون، المُجاهدون، الفرقة السنوسية، الفرقة كذا، الشيخ شامل النقشبندي، الشيخ عُمر المُختار، المُجاهدون؟ ما الكلام هذا؟ ما هذا الكلام؟ هذا الكلام!

فالله يرحم الشيخ الدكتور القرضاوي، قال لهم لا، لا، لا، لا! أنا لا أستطيع أن أُنقِّح هذا الكتاب، ولا أن أعمل على طبعة جديدة، الكتاب يرشح تكفيرا! غضبوا منه! وكيف تقول هذا؟ قال لهم ليس في موضع واحد، مواضع كثيرة جدا! وبدأ يُناضل عن نفسه ويُدافع، ويُثبت لهم أن الشهيد سيد قطب، الذي يترحم عليه طبعا، ويعتبره عظيما وكاتبا وكذا، لكنه تكفيري، بلا مثنوية! والكتاب يُعلِّم التكفير.

سيد قطب – رحمة الله عليه -، فيما حكى علي عشماوي في مُذكراته، وأختم بهذا، لم يكن يُصلي الجُمعة، ولا الجماعات! ولا الجماعات! لماذا؟ لأنه حين ذهب يُفسِّر قوله – تبارك وتعالى – من سورة يونس وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ *، تكلَّم كلاما يُفهَم منه الآتي في المُجتمعات الجاهلية! وعنده بضرس قاطع، كل المُجتمعات المُسلمة اليوم مُجتمعات جاهلية، ولا مُجتمع منها مُجتمع مُسلم، وكف الإسلام فيها عن الظهورعن التجلي!

في هذه المُجتمعات على الإنسان أن يلزم، كما أمر الله موسى وهارون، بأن يجعلا بيوتهم قِبۡلَةٗ *، فلذلك ترك كثير من القطبيين الصلاة في المساجد! لا يُصلون! قال لك هذه مساجد الجاهلين! ويُسمونها مساجد الضرار! المساجد عموما مساجد الضرار.

ولذلك المرحوم القرضاوي في الجُزء الأول، من موسوعته فتاوى مُعاصرة، صدر منها على الأقل أربع مُجلدات كبيرة، في المُجلد الأول، في فتوى طويلة: حُكم الصلاة في مساجد المُسلمين! أنت حين تقرأ العنوان، تقول ما هذا؟ أنا لا أفهم! السؤال عن ماذا؟ الصلاة في المساجد؟ طبعا يا أخي! الله يُحب هذا! وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ *، صد الناس عنها! قال لك لا، ليس صدا هنا، عندنا تأويل، عندنا اجتهاد! أشياء مُخيفة مُرعبة!

الله يرحم الشيخ الندوي، فهَّم مُبكِّرا – رحمة الله عليه -، أن هذه الطريقة في فهم الإسلام، هذه الطريقة الأُصولية المُسيسة في جعل الإسلام برنامجا سياسيا، ضيقا، يستهدف الحُكم والرقابة وإلى آخره! هذه الطريقة، بتعبير الإمام الندوي، تمنع المُسلم من أن يبني علاقة حقيقية مع الله – تبارك وتعالى -، وتحرمه من كل الكيفيات الإيمانية، التي يصطبغ بها المؤمن حقا!

قال لهم الشيخ الندوي شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله عليه – كان أصدق فهما منكم، وأعمق فهما منكم، للإسلام! حين تكلَّم في كتابه العبودية، وذهب عرَّف العبادة والعبودية تعريفا جيدا جدا! ابن تيمية قال لك العبودية هي ماذا؟ ليست فقط مُنتهى الذُل. نعم! المودودي وسيد قطب – رحمة الله عليهما – قال لك هي مُنتهى الذُل والطاعة والانصياع الكامل للحاكم، السُلطان الوحيد، رب العزة، لا إله إلا هو! قال لهم ابن تيمية من زمان فهم الكلام هذا، أحسن منكم، وأعمق منكم!

ابن تيمية قال قد تكون ذليلا لأحد، ولا تكون عبدا له. لماذا؟ لأنك تُبغضه، وتكرهه وتلعنه! لكن تُعطي الدنية والذِلة؛ لأنك تخافه، مُسلَّط غشوم! قال لهم ليست هذه العبودية. العبودية بكلمتين – انظر شيخ الإسلام، رحمة الله عليه، العبودية بكلمتين – مُنتهى الذِلة، أو الذُل، بمُنتهى المحبة! أحسنت! بمُنتهى المحبة!

ولذلك الإسلام ليس فقط علاقة حاكم بمحكوم، لا يا حبيبي! علاقة مربوب برب، عبد بخالق كريم لطيف رحيم معطاء جوّاد منّان حنّان! قصة كبيرة! أين قصة الأسماء الحُسنى؟ أين قصة أسماء الله وصفاته – لا إله إلا هو – في القضية هذه؟ كل هذا رُكن على جانب، وبقينا فقط مع موضوع الحاكم، و: إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ *؟ قضية كبيرة!

إن شاء الله، بعد صلاة العصر، نختم، نُكمل قصة الإمام أحمد بن عبد الأحد الفاروقي السرهندي، وكيف قيّضه الله؛ لكي تعود الهند المغولية مُسلمة مُوحدة، وعلى رأسها سُلطان، وهو أورنكزيب عالمكير Aurangzeb Alamgir – رحمة الله عليه -.

هذا السُلطان حين مات، وحكم أيضا زُهاء نصف قرن، حين مات – رحمة الله عليه -، في وصيته أن يُتصدَّق بأربع روبيات ونصف الروبية، في تجهيزه وتكفينه ودفنه، وهي من ماله الخاص، ويُتصدَّق بثمانمائة وخمس روبيات، وهي التي كسبها من نسخه للمصاحف! تخيلوا! سُلطان الهند كان يعف عن أموال المُسلمين، لا يأخذ شيئا من بيت المال، وإنما يعيش من ماذا؟ من نسخ المصاحف.

بقيَ وتحصل من نسخ المصاحف ثمانمائة وخمس روبيات، قال هذه ضعوها في الفقراء والمساكين، صدقة عن روحي. لا إله إلا الله! أين أكبر Akbar؟ وأين أورنكزيب Aurangzeb؟ عجيب! ومُجرد فقط: أكبر Akbar، ثم جهانكير Jahangir، شاه جهان Shah Jahan، أورنكزيب Aurangzeb! فقط، انتهي!

والبركة لمَن؟ كما سأتلو عليكم – إن شاء الله تعالى – لمولانا أحمد الفاروقي السرهندي. الشيخ الصوفي العابد العالم الذاكر، الذي ما رفع لا سيفا، ولا رفع صوتا حتى، إنما – أيها الإخوة – دعا إلى الله، بكل المودة، وبكل الحُب، وبالهدوء، والنية الخالصة لوجه الله – تبارك وتعالى -. فأتى الله بالبركة، من أطرافها، وأعاد للإسلام أُنسه.

ونحن نُكامع ونُصارع ونُخاصم أكثر من تسعين سنة إلى الآن! ومن خيبة إلى خيبة، ومن فشل إلى فشل، ومن مذبحة إلى مذبحة، ومن عذاب إلى عذاب! ولم نَتعلَّم الدرس! نُريد أن نتفكر في هذا الدرس، ما هو الدرس الذي يجب أن نَتعلَّمه، وأن نُعلِّمه؟

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.

 

الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وعظيمنا محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ *. اللهم أبرم لهذه الأمة المرحومة أمر رشد، تُعز فيه أولياءك، وتُذل فيه أعداءك، يُعمل فيه بطاعتك، يُتآمر فيه بالمعروف، ويُتناهى فيه عن المُنكر وتأمن فيه بلاد وسُبل المؤمنين، بعزتك وقوتك، يا عزيز، يا جبّار، يا قهّار، يا رب العالمين.

اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغارا، اجزهم بالحسنات إحسانا، وبالسيئات مغفرة ورضوانا. واغفر اللهم للمُسلمين والمُسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله/

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *، وأقِم الصلاة.

(7/10/2022)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: