نظرية التطور 

السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات

الحلقة الخامسة عشرة

التركيبية التطورية المعاصرة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.

إخواني وأخواتي: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أُكمِل معكم في هذه الحلقة الحديث عن الطفرة والطفرات وما يتعلَّق بها على سبيل العجلة والإيجاز إن شاء الله تعالى.
قد يسأل سائل هل يُمكِن أن تقع الطفرة في الخلايا البنائية أو الجسدية؟ نعم تقع، وهذه مصيرها الانتهاء والتلاشي ولا تُورَّث، فالطفرات المُهِمة التي يتحدَّث عنها العلماء والمُتخصِصون هى التي تُورَّث، أي التي تقع في الخلايا الجنسية – في الأمشاج – أما في الخلايا البدنية هذه لا اعتبار بها، وهذه تُسمى الطفرات الجسدية في مُقابِل الطفرات الجنسية، ويُمكِن أن تُقال التناسلية، أي الطفرات التناسلية، وهذا شيئ جميل، لكن هل الطفرات دائماً تأتي نافعة فتنفع الكائن وتُكسِبه ميزات أفضلية وتكيفية؟ لا بالعكس، مُعظمها لا يكون نافعاً خاصة في الحيوانات، فتقريباً في الحيوانات أكثر من سبعين في المائة من الطفرات تكون مُهلِكة وتكون ضارة عكس النباتات، فهى مُهلِكة ضارة، وهناك طفرات طفيفة تكون مُحايدة فلا تضره ولا تنفعه، وهناك طفرات قليلة جداً تكون مُفيدة.

نأتي الآن إلى تواتر الطفرات، أي مُعدَل وقوع الطفرات، ففي الكائنات حقيقة النواة البسيطة والبكتيريا أيضاً مُعدَل وقوع الطفرات يترواح تقريباً بين ثلاثة على ألف طفرة لكل جينوم Genome، وأنتم تعرفون الجينوم Genome، وهو مجموع الخُطة الوراثية كاملةً، ففي جينوم Genome – مثلاً – بعض الكائنات ثمانية كروموسومات Chromosomes، وكل كروموسوم عليه عدد من الجينات Genes، وفي بعضها أربعة كروموسومات Chromosomes، والإنسان – كما قلنا – عنده ستة وأربعون، وبعض الكائنات أكثر من ذلك وبعض الكائنات أقل من ذلك، وهذه قصة طويلة، فإذن مُعدَل الطفرات في هذه المذكورة ثلاثة على ألف طفرة لكل جينوم Genome، أي ثلاثة في الألف لكل جينوم Genome، وبالنسبة للإنسان يتراوح المُعدَل من بين واحد على مليون إلى واحد على مائة ألف طفرة لكل نوكليوتيد Nucleotide، علماً بأننا قد شرحنا النوكليوتيد Nucleotide عدة مرات، فهو قطعة من الحامض النووي منزوع الأكسجين وبها طبعاً التتابعات القاعدية.

الطفرات أيضاً تُقسَّم إلى طفرات صغيرة أو صغروية وطفرات كُبرى، والطفرات إن وقعت في الجينات Genes نفسها بخصوص تتابعها تُعتبَر طفرات جينية، أما إن وقعت في الكروموسوم Chromosome نفسه وفي هيئته وبنيته وانتظامه فإنها تُعتبَر طفرات كُبروية أو كُبرى، فهذا هو معنى طفرات صُغرى وطفرات كُبرى، وطبعاً هناك أنواع، فكل نوع من هذا تحته أنواع كثيرة لكن لا نُريد أن نُطوِّل بذكر هذه الأشياء.

هوجو دي فريس Hugo de Vries
هوجو دي فريس Hugo de Vries
جون سكوت هالدين John Scott Haldane
جون سكوت هالدين John Scott Haldane

نحن ذكرنا أن هيجو دي فريس Hugo de Vries أكَّد على أن الطفرة كامنة في أصول الكائن، وظل هذا مثل تبصر ليس أكثر إلى أن جاء العالم الأحيائي والتطوري الإسكتلندي الأصل الكبير جون هالدين John Haldane، وهو من مُؤسِّسي علم جديد إسمه علم وراثيات العشائر Population Genetics، فهو أسَّس علم وراثيات العشائر Population Genetics مع اثنين آخرين، الأول هو دونالد فيشر Donald Fisher، وأعتقد أن الثاني هو سيوال رايت Sewall Wright، فهؤلاء الثلاثة أنشأوا هذا العلم، وعلى كل حال أجرى جون هالدين John Haldane مع تلاميذه تجارب كثيرة على البكتيريا وعلى أنواع من الفيرس Virus تتسلَّط على البكتيريا وتلتهمها وتُدمِّرها، وهى المعروفة بالبكتريوفاج Bacteriophage، والبكتريوفاج Bacteriophage يُسميها العرب تقريباً بالعاثية، فهكذا ترجمها ربما إخواننا في سوريا بالعاثية والجمع على العاثيات، وهى أنواع من الفيرس Virus تتسلط على البكتيريا فتُهلِكها وتُدمِّرها، وفي أمعائنا مئات الملايين من البكتريوفاج Bacteriophage وهى تُفيدنا جداً، لأنها تُمكِننا من القضاء على البكتيريا الضارة، فهالدين Haldane – جون هالدين John S. Haldane – قام بتجارب على البكتيريا والبكتريوفاج Bacteriophage وانتهى منها – أي من هذه التجارب – إلى أن البكتريوفاج Bacteriophage مُجرَّد فقط عامل خارجي يستحث حدوث الطفرة، ولكن الطفرة كامنة في قلب البرنامج الوراثي للبكتيريا، مثل تماماً ما تنبأ هيجو دي فريس Hugo de Vries، وقد حدثتكم مرة عن كيف يُمكِن أن تتصدى البكتيريا في مرحلة لاحقة للمُضاد الحيوي الذي يُقاوِمها، – وهذا أمر معروف ويحدث دائماً باستمرار، ففي البداية من المُمِكن أن يتغلَّب عليها بالكامل، وأحياناً يتغلَّب على أكثرها حتى إذا أوشك أن يُنهيها من عند آخرها، وبالتالي حدثت طفرة، ولو طفرة في بكتيريا حتى واحدة، فيحدث لنا نُسخة جديدة من البكتيريا منيعة، ولكن ما معنى منيعة؟ ذات مناعة لهذا المُضاد الحيوي وبالتالي هو لا ينفع فيها، وطبعاً الآن يبدأ يشتغل الانتخاب الطبيعي، فالانتخاب الطبيعي يستبقي هذه الطفرة لأنها مُفيدة لهذا النوع الجديد أو لهذه النُسخة الجديدة من البكتيريا، وقد يقول لي أحدكم هل هذا ليس Macroevolution؟ طبعاً ليس Macroevolution، لأنه يعني في نهاية المطاف أن البكتيريا بقيت بكتيريا، فهذه بكتيريا وليست كائناً آخراً، ولكنها نُسخة جديدة من البكتيريا، وهى غير موجودة من قبل بالمرة، فهى لأول مرة تظهر في وجود هذه النُسخة الجديدة من البكتيريا، وطبعاً التطوريون يقولون الـ Micro – أي الـ Microevolution هو الطريق للـ Macroevolution، لأن هذا حصل في أيام أو في أشهر أو في سنوات، وبالتالي مُمكِن في ملايين السنين في نهاية المطاف أن يتحوَّل النوع إلى نوع آخر، فهذه هى القصة الثانية أو الفصل الثاني من الحكاية، لكن هذا هو الـ Microevolution، فواضح أن الـ Microevolution هو تطور صُغروي أو تطور صغير أو أصغر، والانتخاب الطبيعي يستبقي هذا النوع الجديد أو هذه النُسخة الجديدة من البكتيريا، فتهلك النُسخة القديمة وتبدأ هذه تتكاثر وتتكاثر وتتكاثر حتى تسود، إلى أن نهتدي إلى مُضاد حيوي جديد يُمكِن أن يقمعها وهكذا، فجون هالدين John Haldane اكتشف – كما قلت لكم – أن العوامل الخارجية مثل بكتريوفاج Bacteriophage أو غيره هى فقط عوامل خارجية وتأثيرها يأتي كنوع من الحث وكنوع من توفير الشروط، لكن برنامج الطفرة هو كامن في داخل الكائن، وطبعاً واضح – كما قلت لكم – أن هذه هى الطفرة التلقائية وليست الطفرة المُستحَثة، وأعتقد أنه وضح لنا الآن أن طفرة هيجو دي فريس Hugo de Vries والتي تنشأ كما قال في كل اتجاه ليست ودودة مع مبدأ التطور بالانتخاب الطبيعي، بل تُعاكِسه تقريباً في روحه، وروحه هى التدرجية، فلا تُوجَد هذه التدرجية، وقد آمن دي فريس de Vries بأن التطور ونشوء الأنواع الجديدة يُمكِن أن يُعزى إلى الطفرات وخاصة الطفرات الكُبرى، فهو آمن بهذا ولكن طبعاً مدى صحة هذا الاعتقاد وهذا الإيمان هذا أمرٌ آخر، وواضح أنه بعيد جداً عن الصحة، فلا يُمكِن لنوع جديد أن ينشأ بطفرة كُبرى، هذا إن جاز في بعض الحشائش مثل الحشيش الذي اشتغل عليه، لكن هذا ليس عندنا أي دليل على أنه سببٌ لنشوء نوع من أنواع الكائنات الحية المُعقَّدة، فهذا مُستحيل، وهو لم يحدث

أوغست وايزمان August Weismann
أوغست وايزمان August Weismann

ولا يحدث، لكن على كل حال هو آمن على هذا النحو، وسنترك هذا الآن ونأتي إلى العالم الطبيب وعالم الحيوان الألماني فايزمان Weismann الذي ذكرناه غير مرة وقلنا أنه أعظم ثاني مُنظِّر تطوري في القرن التاسع عشر بحسب إرنست ماير Ernest Mayr، فهذا الرجل سيُنعِش نظرية التطور وسُيساهِم في صياغة أو بلورة نُسخة مُعدَّلة منها ستستمر إلى يومنا هذا، مع أنه – ذكرت لكم هذا مرة ربما أو مرتين – في ألف وتسعمائة وتسعة تقريباً كان الانتخاب الطبيعي قد لفظ أنفاسه وتم التخلي عنه بالمرة ولم يبق يُؤمِن به إلا فايزمان Weismann وربما رجل آخر أو رجال محدودون قليلون، وقد ذكرت لكم هذا في موضوع الحفل الذي أُقيم للداروينية Darwinism في المتحف الطبيعي أو متحف التاريخ الطبيعي بلندن، فهذا حفل للداروينية Darwinism ولكن كان الغائب الأكبر الانتخاب الطبيعي، فلم يتحدَّثوا عنه بكلمة، لأنهم أيقنوا أنه أسطورة وخرافة، وعلى يد أوجست فايزمان August Weissman سوف يُعاد إحياء وابتعاث مبدأ الانتخاب الطبيعي، لكن كيف؟ وما الحكاية؟

Papilio Dardanus
Papilio Dardanus

الحكاية تبدأ مع فراشة مدارية – Tropical Butterfly- تعيش في جميع أرجاء أفريقيا تُسمى بالـ Papilio Dardanus، فالإسم العلمي لها هوPapilio Dardanus، وهى فراشة مدارية تعيش في كل أرجاء القارة، وهذه الفراشة قصتها وقصة فايزمان Weissman معها تمثل في أن إيناثها تُقلِّد إناث فراشة أخرى – أي نوع آخر من الفراش – من الفراش الذي طوَّر مواداً كيمياويةً تجعل طعمه كريهاً جداً حين يُؤكَل، وذلك من باب الدفاع عن نفس، وعبر تاريخ طويل تم تطوير هذه المواد الكيمياوية، وفعلاً بفضل هذه المواد الكيمياوية المُطوَّرة استمر هذا النوع من الفراش إلى اليوم، ولم تتمكن الطيور – أي المُفترِسات منها، Predators – من افتراس هذا النوع من الفراش بسبب هذه المواد، لكن الـ Papilio Dardanus ليس عندها هذا ولم يحدث معها هذا، فلم يُسعِدها الحظ الانتخابي في المسار الطويل أن تُطوِّر مثل هذه المواد الكيمياوية، فهى لم تُفلِح في هذا، وبالتالي ماذا تفعل؟ يبدو أيضاً أن هذه الفراشات من ألوف أوعشرات ألوف أو مئات ألوف أو ملايين السنين فعلت شيئاً، وطبعاً الانتخاب الطبيعي هو الذي فعل في الحقيقة وليس هى، وإنما الانتخاب الطبيعي، حيث راكم تغيرات وطفرات جُزئية صغيرة مكنتها من أن تقترب في شكلها من الفراشات التي طوَّرت هذه المادة الكيميائية هذه، وباستمرار كانت هذه تتراكم حتى انتهينا إلى ما انتهينا إليه، ويُمكِن أن تروا هذا في الكتب العلمية أو حتى في اليوتيوب YouTube، فقط اكتبوا Papilio Dardanus وسوف ترون النُسخة الأصلية المُقلَّدة والنُسخة المُقلِّدة، فهذا شيئ عجيب، وهو تقليد إلى حد مُثير ومُذهِل، فحين رأى فايزمان Weissman هذا وعايشه قال “الانتخاب الطبيعي حي ينبض بالحياة، فهو لم يمت” لأن هذا لم يتم مثلما يُمكِن أن يُقال بطفرة – طفرة دي فريس de Vries – طبعاً، فهذا مُستحيل، وإنما هذا تم في زمن طويل جداً جداً جداً، ولم يتم بضربة واحدة أو ضربتين أو عشرة أو عشرين، فتماماً هو الانتخاب الطبيعي كما يقول، وفعلاً عنده الحق، ففايزمان Weissman قال “هذا حدث بالانتخاب الطبيعي وهو يُراكِم التغيرات الصالحة فوق بعضها البعض لننتهي في نهاية المطاف إلى تقليد مُذهِل في إتقانه، فتنجو الـ Papilio Dardanus من أن تلتهمها الطيور بفضل هذه الحيلة التطورية الانتخابية”، فالآن دخل فايزمان Weissman بصدر قوي وحامي لكي يقول “كلا، فلا يحق لأحد أن يقول مات الانتخاب الطبيعي، وبالتالي ماتت نظرية داروين Darwin، فهى لم تمت، إنها حية تعمل، وسأُثبِت هذا” وطبعاً هذا كان رداً قوياً على طفرة دي فريس de Vries، لكن الطفرة ليس من شأنها أن تقتل نظرية التطور أو تقتل حتى مبدأ الانتخاب الطبيعي، وعلى كل حال طوَّر فايزمان Weissman أيضاً نظريته الخاصة ونُسخته الخاصة في علم الوراثة أو من علم الوراثة، فهو له نظرية خاصة في علم الوراثة سماها بنظرية البلازما الجرثومية Germ Plasm Theory، علماً بأن إسمها بالألمانية Keimplasmatheorie، وإسمها بالإنجليزية Germ Plasm Theory، أي نظرية البلازما الجرثومية، فماذا تقول هذه النظرية إذن؟ هى نظرية قوية أيضاً وكانت خُطوة فسيحة على طريق الوراثيات الحديثة، وفيها أيضاً تبصرات قوية جداً، وطبعاً واضح أن فايزمان Weissman قرأ أعمال مندل Mendel وتأثر بها، كما اطلع بتفصيل على أعمال هوجو – هيجو دي فريس Hugo de Vries – أيضاً، وقال “الصفات الوراثية – أي الصفات التي تُورَّث – تنتقل من جيل إلى جيل بواسطة وبفضل مادة جُزيئية موجودة في الخلايا، وذلك في النوىٰ داخل الخلايا” أي في أنوية الخلايا – إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ ۖ ۩ – تحديداً، فهو يقول ” هناك مادة جُزيئية موجودة في أنوية الخلايا”، وهذا كان رقم واحد، لكن أي خلايا؟ سوف نفهم هذا بشكل دقيق، لكنه في الخطوة الثانية قال “في الجسم نوعان من الخلايا”وهذا تفصيل دقيق ومُهِم طبعاً، فهو قال “في الجسم دائماً نوعان من الخلايا، أولاً الخلايا الجسمانية أو البدنية Somatic Cells، وهذه تكون وحدها ولا دخل لها في عملية التوارث – وهذا صحيح لذا قال الخلايا البدنية ليس لها علاقة بمسألة الوراثة،   إذن مرة أخرى يُؤكِد أن هذا ليس له علاقة بالـ Pangenesis والبُريعمات وما إلى ذلك، فلا تُوجَد علاقة هنا بهذه القصة – طبعاً، وثانياً خلايا التكاثر أو الخلايا الجرثومية Germ Cells” فالجرثوم هو هذا التكاثر، وجرثومة الشيئ هو أصله، وهذا أمر معروف، فقيقول لك أحدهم فلان جرثومته طيبة أي أن أصله طيب وأن جد جده مُمتاز، ولا يُقصَد أنه من الجراثيم، فالجرثومة هى أصل الإنسان، هذا هو معنى الجرثومة – Germ – في اللغة العربية الفصحي طبعاً، فهو تحدَّث إذن عن الخلايا الجرثومية Germ Cells، لكن ما معنى الخلايا الجرثومية Germ Cells هذه؟هى الخلايا الجبلية أو خلايا التكاثر التي تُنتِج الأمشاج Gametes، أي تُنتِج الحيوانات المنوية والبوييضات – Egg cells – عند المرأة، ثم قال أنها بحد ذاتها أيضاً معزولة عن الخلايا الجسمية، فهذه تكون وحدها، وهذه تكون وحدها، وهى المسؤولة عن التكاثر وعن التوارث وليس الخلايا البدنية، وطبعاً إذا كانت الخلايا الجسمية ليس لها علاقة بالتوارث بعكس الخلايا الجرثومية هل الصفات المُكتسَبة تُورَّث أو لا تُورَّث؟ هذا الأمر أصبح واضحاً، ولذلك قال لك “عندي المبدأ”، فالصفات المُكتسَبة لا تُورَّث وليس من شأنها أن تُورَّث، لأن الصفات المُكتسَبة تُؤثِر على البدن وعلى الخلايا البدنية، فأنت حين تستخدم عضلاتك تُصبِح هذه العضلات ضخمة وقوية، وكذلك الحال مع الحدّاد الذي يحدد دائماً، فهوعنده عضلات مُمتازة، لكن هل ضروري أن يكون عند ابنه عضلات قوية ما شاء الله، فيُولَد من بطن أمه وهو عنده عضلات ويكبر بها؟ لأ طبعاً، هذا ليس له علاقة أبداً، هذا كلام فارغ، ولكن – سبحان الله – كان يُقال مثل هذا الكلام، وهو كلام غير علمي، لكن كان هو المنفذ الوحيد لهم ربما، فلابد من شيئ ينتقل، لكنه قال بعد ذلك ليس من شأن الصفات المُكتسَبة أن تُورَث أو تُورَّث.

ذكرت لكم في حلقة سابقة أن فايزمان Weissman بصر بشيئ مُهِم جداً، وهو أن عند تكوين الأمشاج يحدث تقاطع عشوائي Random Crossing، وهذا التقاطع العشوائي – Random Crossing – يكون بين الكروموسومات Chromosomes كما قلت لكم، فهو تبصر بهذا وذكره وهذا مُهِم جداً، فهذا التقاطع العشوائي والتبادل – كما قلت – لأجزاء من الكروموسومات Chromosomes في الانقسام الميوسي Meiosis يُغني بمزيد من التشكيلات والتغيرات المُمكِنة، ولذا قال “هذا شيئ مُهِم جداً لعملية التطور”، فنحن يحدث عندنا هذا الـ Shuffling وهذا التخليط في مرتين، ولكن هل تعرفون ماذا يُسمى هذا الآن؟ يُسمونها بالتفنيط، كما يُقال لك فنط ورق اللعب، أي الشَدّة يعني، فنحن يحدث عندنا تفنيط أو Shuffling في مرتين، التفنيط الأول في الانقسام الميوزي – الميوسي – Meiosis، والتفنيط الثاني عند التلقيح، حين يأتي الحيمن ويُلقِّح بوييضة، فالحيمن من الرجل وهذه البوييضة من المرأة، فكيف الحال عندما تكون هذه المرأة غريبة عنه، فهى ليست بنت عمه أو بنت خاله وإنما بعيدة جداً عنه؟ يحصل طبعاً تنويع، فيحدث جمع لأشياء مُتباعَدة جداً وإعادة توليفها من أول وجديد، وفايزمان Weissman فهم هذا الشيئ، وطبعاً هذا مُهِم جداً لأنه سيسد الثغرات في نظرية داروين Darwin، فالآن بدأت تسّد الثغرات إذن، وبالتالي الآن سنُلخِص ونقول أن الثغرات بدأت تُسَد بشكل جميل وسلس، لكن طبعاً هذا اقتضى مُدة طويلة وصلت إلى سنوات وعقود كثيرة، ففي ألف وتسعمائة وتسع مرت خمسون سنة على أصل الأنواع، فهذا الحفل أُقيم بعد مرور نصف قرن، والنظرية مازالت تتعرض لقلاقِل ومتاعب Troubles، فالمسألة ليست سهلة، ولا تتم في سنة وسنتين وعشرة وعشرين، ولكن مر أكثر من خمسين سنة ومازال هناك قلائل، ولكن لم يُقض عليها، فهى بدأت الآن تستعيد عافيتها.

جريجور مندل
جريجور مندل

قلت لكم أيضاً في حلقة سابقة أن فايزمان Weissman أدرك بشكل أوضح من مندل Mendel نفسه الفرق بين المظهر الظاهري والمظهر الجيني، وهو عنده كلام طويل في هذا الباب، إذن سيتم توليف وتركيب بين ثلاثة أشياء أو أربعة أشياء، أولاً بين قوانين مندل مورجن Mendel , Morgan للوراثة، وسيُستفاد من هذه القوانين في التطور، ولكن قد يقول لي أحدكم كيف هذا؟ لأنها طبعاً هى التي تُوضِح كيف يتم توريث الصفات والمُتغايرات، فنحن عندنا علم الآن دقيق جداً جداً لم يعرف عنه داروين Darwin شيئاً، فهو كان يقول بالـ Pangenesis وبعد ذلك قال باللامالاكية Lamarckism وتوريث المُكتسَبات، لكن الآن وضح لدينا بالعلم كيف يتم توريث هذه الأشياء، إذن سنحتاج إلى مندل Mendel ومورجن Morgan، وثانياً سنحتاج إلى طفرة دي فريس de Vries، فهذه الطفرة مُهِمة جداً، وهذه الطفرة تُساهِم طبعاً بضخ أنواع جديدة وبضخ تغيرات جديدة، فالطفرة هى أحد مناشيء التغيرات الجديدة، وبالتالي نحن نحتاج الطفرة، فالتطور يُريد هذه الأشياء، وطبعاً هى ليست السبيل الوحيد ولكننا نحتاجها، وهذا كان ثانياً، أما ثلاثاً فيكون مع المبدأ الرئيس في التطور وهو مبدأ الانتخاب الطبيعي، فسوف نعمل توليفة بين هذه الطفرة وبين قوانين الوراثة وبين الانتخاب الطبيعي وأيضاً بين أفكار فايزمان Weissman التي شرحناها قُبيل قليل وهى افكار مُهِمة وعلى درجة كبيرة من الأهمية، ومن ثم نخرج بصيغة جديدة وبنُسخة مُعدَّلة من التطور الدارويني، وسوف نُسميها الداروينية الجديدة Neo-Darwinism، علماً بأن الداروينية الجديدة Neo-Darwinism هى المذهب الدارويني الجديد، فبعد قليل بزُهاء تقريباً عشرين سنة سوف يتم الاستغناء عن هذه التسمية، ولن نسمع كلمة الـ Neo-Darwinism، وسوف تحل تسمية جديدة مُطوَّلة إسمها Modern Evolutionary Synthesis، فكلمة Modern تعني مُعاصِر، وكلمة Evolutionary تعني تطوري، وكلمة Synthesis تعني التركيبية، أي التركيبية التطورية المُعاصِرة، وهى المعروفة بالنظرية التركيبية أو تُعرَف أيضاً بالتركيبية المُعاصِرة Modern Synthesis فقط، وهذه تشتعل إلى اليوم، والآن سنشرح لكم مبادئ التركيبية التطورية المُعاصِرة في عشر نقاط لكي نفهم ما هى، فمَن أراد أن يتحدَّث عن التطور لا ينبغي أن يُحدِّثني عن داروين Darwin وعن ما قاله في أصل الأنواع فقط، فاترك هذا كله واترك كل ما ذكرنا وابدأ تحدَّث في عشر نقاط فقط، فهذا هو التطور، وهذا الذي يُدافِع عنه علماء التطور حول العالم الكبار المُتعصِبون، وطبعاً هناك اتجاهات أخرى وهناك نظريات أخرى أيضاً، لكن هذا هو السائد وهذه هى الصيغة الأقوى إلى الآن، فمثلاً الآن دوكنز Dawkins هو أكبر عالم تطور مشهور في العالم، وهو يتبنى التركيبية المُعاصِرة في صيغتها الصلبة ويُدافِع عنها في كل كتبه ومُحاضَراته وفيديوهاته

دانيال دينيت
دانيال دينيت
جيري كوين
جيري كوين

باستمرار، فهو يُدافِع عن هذه الصيغة وليس عن أي صيغة ثانية، والفيلسوف الأمريكي الشهير دانيال دينيت Daniel Dennett مِن أحسن مَن يدافع عن التطور طبعاً، وهو يُعطيه تضمينات لاهوتية وفلسفية وما إلى ذلك، علماً بأن دانيال دينيت Daniel Dennett هو صاحب كتاب فكرة داروين Darwin العُظمى التي حُوِلَت على ما أعتقد إلى برنامج وثائقي يأخذ منها جزء بسيط، فهو كتاب كبير في زُهاء أربعمائة صفحة إلا قليل وهو كتاب عميق طبعاً، فدانيال دينيت Daniel Dennett ينطبق عليه نفس الشيئ، فهو يتبنى التركيبية التطورية المُعاصِرة، وكذلك الحال جيري كوين Jerry A. Coyne صاحب كتاب لماذا التطور حقيقة؟ Why Evolution Is True? وهكذا، وطبعاً يُوجَد أعلام كبار مثل جوليان هكسلي Julian Huxley وفايزمان Weissman نفسه مُؤسِّس للداروينية الحديثة وهى الأم والأصل للتركيبية المُعاصِرة، والثلاثة الذين ذكرتهم لكم – الإسكتلندي جون هالدين John Haldane مع رونالد فيشر Ronald Fisher مع سيوال رايت Sewall Wright – كلهم في نفس السياق يشتغلون، وعالم التطور الكبير مورجان Morgan – توماس هانت مورجان Thomas Hunt Morgan – وتلميذه الروسي ثيودوسيوس دوبجانسكي Theodosius Dobzhansky أيضاً من أعلام التركيبية المُعاصِرة، وإرنست ماير Ernest Mayr – كما قلت لكم – من أوثق العلماء في هذا الباب، فإرنست ماير Ernest Mayr من رؤوس هؤلاء، وغير هؤلاء كثير لكن هؤلاء الذين ذكرت لكم هم الأهم.

كتاب لماذا التطور حقيقة؟ Why Evolution Is True?
كتاب لماذا التطور حقيقة؟ Why Evolution Is True?
سيوال رايت
سيوال رايت
توماس هانت مورجان
توماس هانت مورجان

الآن نُريد أن نتعرض للمبادئ العشرة التي حاولنا أن نُلخِّص بها وفيها هذه النُسخة المُعدَّلة المُعاصِرة، أولاً ما هو التطور؟ طبعاً هذا إسم كتاب لإرنست ماير Ernest Mayr، فهو له كتاب إسمه ما التطور؟ What Evolution Is?، علماً بأنه مُترجَم إلى الألمانية أيضاً، والتطور – كما عرَّفناه في حلقة سابقة، لا أدري أكان ذلك في الحلقة الرابعة أو في غيرها – باختصار هو تغير في التردد Frequency، أي في تردد الجينات Genes أو في التردد الجيني في مُستودَع الجينات، وقد شرحت هذا بالتفصيل وبالأمثلة وبطريقة سهلة، وقلت لكم أيضاً عبر خمس خُطوات لابد أن يكون الحديث عن عشيرة أو جماعة أو أفراد من نوع مُعين من الحيوانات أو الكائنات، وهذه العشيرة – Population – تكون مُنعزِلة – Isolated – طبعاً،وسأتكلَّم عن الانعزال الآن وعن أنواع الانعزال، وتحديداً عن الاثنين الرئيسيين منه، فهو عنده أربعة أنواع ولكن النوعان الرئيسان مُهِمان جداً، فأهم شيئ هو أن نفهمهما، وعلى كل حال هذه الجماعة المُنعزِلة يحدث لها تزاوج – Mating – داخلي، فالعامل الثاني هو الـ Mating، والعامل الثالث بعد الـ Mating هو الطفرات Mutations، والعامل الرابع هو الانسياب الجيني، وذلك عندما يحدث انسياب جيني سواء بالهجرة إلى أو بالهجرة من، أو حتى بالأمور الوبائية أو بأي شيئ، فهذا هو الـ Flow أو الـ Genetic Flow كما يُقال، أما العامل الخامس فهو يستغل الأربعة عوامل ويشتغل عليها، وهو عامل الانتخاب الطبيعي Natural Selection، فهذا هو التطور، فعندما نتكلَّم عن التطور علمياً نُريد أن نتكلَّم بهذه الطريقة، فيجب أن تقول لي كيف يتم تغير تردد الجينات Genes أو التردد الجيني في المُستودَع الجيني، علماً بأننا شرحنا هذا وقلنا كيف يتم التغير بهذه الطريقة، وعلى كل حال هذه هى التركيبية المُعاصِرة، فيجب أن ننتبه إلى هذا عندما نتكلَّم عن التطور، فهذا كلام دقيق، وطبعاً هذا الكلام – كما قلت – بُنيَ بعضه فوق بعض كاستجابة للتحديات ورداً على النقود والآراء المُعارِضة، فهذه قصة وملحمة طويلة،وهى إلى الآن مُستمِرة.

هذا كان أولاً إذن، ثانياً يُوجَد تغير من التغيرات، فالتطور- كما قلنا – يشتغل على التغير، لكن كيف ينتج التغير؟ قُبيل قليل فرغنا من هذا وقلنا ما هو منشأ أو أصل التغير الذي ينشأ وقلنا أن عندنا الطفرات وأن هذه الطفرات إما أن تكون طفرات على مُستوى الجينات Genes فهى طفرات صغيرة أو طفرات على مُستوى الكروموسومات Chromosomes وهى طفرات كبيرة، فهذا مُهِم جداً، وأي تغير ينشأ في الفرد أو في الأفراد من البيئة وبتأثير البيئة لا علاقة له بالتطور، فمثلاً بعض الناس قد يتلوَّح لونه، فهو كان أبيضاً وأشقراً ولكن لونه الآن أصبح قريباً جداً إلى البني الغامق المحروق، وقد يحدث تغير في شكل أعضائه، فبعض الناس يُمارِس مهنة مُعينة من المُمكِن أن تُؤثِر في شكل بعض الأعضاء لديه، فمثل هذه التغيرات لا علاقة لها بالتطور ونحن لا نتحدَّث عنها، فالتطور لا يشتغل على النمط الظاهري وإنما يشتغل على النمط الجيني، وكذلك التطور لا يشتغل على الأفراد وإنما على الجماعة والعشيرة كلها، فمن المُستحيل أن يشتغل على فرد واحد، لأن لا يُمكِن أن تفهم التطور إلا إذا استحضرت دائماً مفهوم المُستودَع الجيني Gene Pool، علماً بأننا شرحنا هذا في الحلقة الرابعة تقريباً، فلكي يُوجَد لدينا Gene Pool لابد من وجود عشيرة Population، هذا أمر لازم، فالتطور لا يتكلَّم عن فرد مُعيَّن، فهو ليس له علاقة بالفرد، وإنما يتكلَّم عن جماعات، والتطور لا يتشغل على الفينو تايب Phenotype، فهو ليس له علاقة بالفينو تايب Phenotype، فالفينو تايب Phenotype سوف سيأتي فيما بعد، لكنه سوف يأتي وفق التطور الداخلي، لكن التطور يهتم بالجينات Genes وبالجينوم Genome وبالخطة الوراثية الكاملة، فهذا هو الذي يهتم به.

بعد ذلك عندنا المبدأ الثالث في التركيبية المُعاصِرة التطورية، فهم قالوا أن عندنا الانتخاب الطبيعي، أي أنهم رجَّعوه الآن، فمبدأ رقم ثلاثة هو الانتخاب الطبيعي، والانتخاب الطبيعي يشتغل في اتجاه تعزيز وتدعيم واستبقاء الصفات المُفضَّلة الجيدة التي تُساهِم في جعل الكائن أصلح، أي التي تُعطيه صلاحية أكبر، لكن ما معنى صلاحية؟ كما قلنا باختصار أن هذا لا يعني أنه الأقوى أو الأسرع أو الأجمل أو ما إلى ذلك أبداً، فالصلاحية باختصار هى أن يكون أكثر تكيفاً مع بيئته، ونحن عرَّفناها بطريقة علمية أدق من هذه الطريقة من قبل، ولكننا الآن نُلخِّص.

المبدأ الرابع هو الانعزال، وقد تحدَّثنا قُبيل قليل عن المبادئ الخمسة للتطور، وتحدَّثنا عن كيفية عمل التطور وعن تتغير التردد الجيني، وذكرنا أن هذا لكي يحدث لابد من مبدأ الانعزال Isolation، أي الانفصال، فلابد من أن يكون معزولاً أو مُنفصِلاً، وطبعاً لن نقول لكم لماذا مبدأ الانعزال Isolation يُعَد مُهِماً لأننا شرحناه في في المبادئ الخمسة وواضح لماذا هو مُهِم طبعاً من أيام داروين Darwin، فداروين Darwin كان يفهم أنه مُهِم، وهذا الانعزال يُوجَد منه ضربان رئيسان، أولاً الانعزال جغرافي Geographic Isolation، والانعزال الجغرافي يُنتِج لنا أكثر من موطن طبعاً – Allopatric – وليس موطناً واحداً، فنفترض وجود جزيرة واحدة شُقَّت بقدرة قادر إلى نصفين، فذهب نصف هنا في الماء وذهب نصف آخر هناك، لكن ما هو الحاجز؟ الحاجز هو الماء، وهو حاجز جغرافي فيزيقي، وبالتالي هذا انعزال، فإذن هذه الجزيرة معزولة أو مفصولة عن هذه بحاجز فيزيقي طبيعي مادي، وقد يكون جبلاً مثلاً وقد يقوم زلزال ما أو قد تفصل سلسلة جبال بيئتين وإلى آخره، فهذا حاجز فيزيقي مادي طبعاً، ثم أنك تُطبِّق فيما بعد المبادئ الخمسة، وكيف أن في هذه البيئة المعزولة بهذا الحاجز الفيزيقي عن البيئة تضطر الحيوانات هنا – أبناء العشيرة الواحدة – أن تتزاوج مع بعضها البعض وتتكيف مع بيئتها زمع شروط بيئتها ومع مُناخ بيئتها ومع طبيعة الغذاء في بيئتها، ومن المُمكِن أن تكون هذه الحيوانات لاحمة ومن المُمكِن أن تكون حيوانات عاشبة، فلو كانت حيوانات لاحمة ولم يكن هناك أي لحوم كافية سوف تضطر في نهاية المطاف أن تتحوَّل إلى عاشبة، وذلك في ألوف السنين وإلا سوف تهلك، فإذا لم تقدر على هذا سوف تنقرض أو تهلك، لأن انقراضها هذا يعني أنها لم تستطع أن تتكيف، وإذا لم تنقرض فهذا يعني أنها تكيفت، وهذه التي لم تنقرض وتلك التي انقرضت كانتا من أصل واحد، ولكنهما انقسما قسمين بحاجز كما قلنا، وكذلك الحال لو كان لدينا لحوم كثيرة، فسوف تبقى الحيوانات اللاحمة ولن تتحوَّل إلى عاشبة، علماً بأننا سوف نرى الفرق بين الحيوان اللاحم والحيوان العاشب، فهذا يُؤثِّر في حجم الجمجمة -Skull – طبعاً والعضلات والفكين وشكل الأسنان والأمعاء وطريقة الأمعاء وضخامتها والأعور – Cecum – وصمامات الأعور وما إلى ذلك، فهذه قصة كبيرة، والذين درسوا العلوم يعلمون قصة كبيرة ويعلمون أن هذا يحدث، واليوم – إن شاء الله – إذا كان عندنا وقت سوف تسمعون شيئاً عجيباً مُدهِشاً، وعلى كل حال هذه حقيقة، فهذا حدث ويحدث حقاً، وسوف نسمع هذا بالدليل بإذن الله.

نُكمِل إذن، فهذه القبيلة أو العشيرة – كما قلنا – يتزاوجون مع بعضهم ويتكيفون وإلى آخره، وبعد فترة قد تصل إلى مليون سنة أو اثنين مليون سنة أو أكثر أو أقل من المُمكِن أن ينتهي بهم المطاف إلى أن يُصبِحوا نوعاً آخراً يختلف عن هذا النوع ، بحيث أنك إذا هجنت بينهم لا يتكاثرون، فهما نوعان مُختلِفان إذن، وطريقة ظهور الأنواع الجديدة بسبب هذا الانعزال الجغرافي يُسمونها الانتواع في المواطن المُختلِفة Allopatric Speciation، فكلمة Patric مأخوذة من كلمة موطن، وكلمة Allo معناها مُختلِف وليس مُتشابِه أو مُتجانِس مثل الـ Sym، وأحياناً يكون عندنا الانفصال ليس جغرافياً، فتُوجَد حيوانات وعشائر تعيش في نفس البيئة وعلى نفس الأرض وفي نفس الرقعة وفي نفس الجزيرة ولكنها مُنعزِلة تكاثرياً، وهذا شيئ عجيب، لكنه يحدث لأسباب لن هنخوض فيها، ارجعوا للكتب الجامعية إذا أردتم أن تقرأوا الأسباب فهى أسباب كثيرة، لكن على كل حال هذا يحدث لأسباب، بعضها حتى أسباب ميكانيكية، فلأسباب مُعيَّنة هذه الحيوانات لا تتكاثر مع هذه مع أنها في الأصل نوع واحد، فبعضها يتكاثر مع بعض، والبعض الآخر مع البعض الآخر، لكنهما لا يتكاثران معاً مع أنهما في نفس البيئة، وبعد أيضاً فترة زمانية طويلة يتحوَّل هذا إلى نوع ويستقل هذا ليكون نوعاً جديداً، وهما قبل اثنين مليون سنة كانا في الأصل نوعاً واحداً، وهذا يُسمونه Sympatric Speciation، أي انتواع داخل الوطن الواحد، فكلمة Sympatric يُراد بها أنه في الوطن الواحد، وكلمة Speciation تعني انتواع.

إذن فهمنا قضية الانعزال والانعزال الجغرافي والانعزال التكاثري أو التناسلي، وطبعاً يُوجَد ضروب تنويعية من هذا الانعزال لكنها لا تهمنا كثيراً، فهى غير مهمة كثير فعلاً، فهذان هما أهم أنماط الانعزال، إذن التركيبية التطورية المُعاصِرة تُؤكِد على أهمية الانعزال، نأتي الآن على مسألة غامضة قليلاً – إن شاء الله سنُحاوِل أن نُوضِّحها – في مُعظم الكتب على الإطلاق، فأنا وجدتها غامضة حتى في بعض الكتب المُتخصِصة والمشهورة ولا أعرف لماذا، كأن الكاتب المسكين غير فاهم أو غير قادر على أن يُوضِّح أو أن الترجمة رديئة كما يحصل أحياناً مع بعض الكُتب عندما تكون مُترجَمة، لا أدري ما السبب، لكن – إن شاء الله – ستكون واضحة الآن أمامكم، حيث تُوجَد ظاهرة إسمها نيوتيني Neoteny، فما هى ظاهرة نيوتيني Neoteny المدعوة بهذا الإسم العجيب؟ باختصار هى الظاهرة التي يُمكِن أن يُعبَّر عنها بأن الكائن النيوتيني – أي الذي يُعرِب عن الظاهرة النيوتينية – الذي يكون أحد مصاديقها هو الذي لا ينضج من حيث الشكل، فباختصار نحن كبشر يُقال إننا كائنات نيوتينية، وهذا شيئ عجيب، بمعنى أننا حين نكبر وننضج فإننا ننضج جنسياً، أما بدنياً وخاصة فيما يخص الشكل فتقريباً لا ننضج، كأننا ننتفخ فقط ولا ننضج، لكن ما معنى هذا؟ سأتحدَّث باختصار لكي أبسط لكم ولكي أنجح فعلاً في أن أشرح ظاهرة النيوتيني Neoteny المُعقَّدة قليلاً، فهى فيها خلاف حتى بين التطوريين، فالألماني بولك Polk يُؤمِن بها وهو مُتعصِب لها، ويُوجَد آخرون يقولون عكس ذلك ويرون أنها غير دقيقة بنسبة مائة في المائة مع أنها أحد أدلة التطور عند مَن يُؤمِن بها مثل الألماني بولك Polk.

ltm_09خُذ أي كائن – حتى الكائنات الشبيهة بالإنسان كالشامبنزي Chimpanzee مثلاً – وانظر إليه حين يكون جنيناً قبل أن تضعه أمه وحين تضعه في أول أيامه أو في أول فترة، وافحص كيف يكون شكله، ثم انظر إلى شكله بعد سنوات حين ينضج ويُصبِح شامبنزياً Chimpanzee يافعاً، فسوف تشعر بوجود فرق كبير جداً بين الشامبنزي Chimpanzee اليافع والشامبنزي Chimpanzee الجنين أو الوليد، لكن االإنسان ليس كذلك، فالإنسان فعلاً وهو في آخر مراحله الجنينية وأول ما يكون وليداً يكون شكله مثل شكله وهو يافع، فنحن كبشر عندنا التسطح – Flatness – طبعاً، فنحن وجوهنا مُسطَّحة، فابنك – مثلاً – يُولَد بوجه مُسطَح وحين يكبر يظل وجه مُسطَّحاً، فكلنا كذلك طبعاً، فلن تُصبِح وجوهنا ضخمة ومُمتَدة إلى الأمام، لكن حين ترى صورة لجنين الشامبنزي Chimpanzee قبل أن يُولَد أو حتى وهو وليد في أول أيامه سوف تجد أن وجهه هو أقرب وجه إلينا تقريباً، لأنه يميل بنسبة ثمانين في المائة إلى التسطح لكن حين يكبر يختلف، وهناك صورة مشهورة في كتب التطور للشامبنزي Chimpanzee الصغير الوليد طبعاً، وهى صورة عجيبة له، فكأنه طفل بشري – بعض الناس وجوهها قد تكون بشعة هكذا – وكأنه إنسان لا إله إلا الله، فوجهه أقرب إلى التسطح، أي كأن وجهه مثل وجه طفل إنساني، لكن حين يكبر – كما قلت – يختلف تماماً، فالزاوية بين الرأس والجذع عند الشامبنزي Chimpanzee الكبير مُختلِفة كما تعرفون، ولذلك حتى العامود الفقري في الشامبنزي Chimpanzee يأخذ شكل حرف (C)، لكن عند الإنسان يأخذ شكل حرف S)) طبعاً، فالإنسان – كما قلنا – عكس هذا الحيوانات الشبيهة بالإنسان، فهو حين يكبر كأنه يأخذ معه صفاته الحدثية Juvenile، ولذا يٌسمون بالـ Juvenilization، فظاهرة النيوتيني Neoteny يُسمونها بالصبننة أو الصبيانية أو التصبن، فأنا لا أعرف أن أترجمها بدقة ولكن هذا هو معناها، فكلمة Juvenile تعني حدثي، والحدثي هو الصغير الصبياني أو البيبي Baby، كما يُقال لك هذا الشخص وجهه وجه صبياني، أي وجه إنسان حديث، وطبعاً لما نكبر يبقى تقريباً هذا الشكل وهذا المظهر الصبياني الحمد لله، فطبعاً الحمد لله أنه يبقى كما هو وإلا كانت مُصيبة وأصبحا مثل الشامبنزي Chimpanzee وكانت أشكال وجوهنا وأشكال الجمجمة ضخمة، فالشامبنزي Chimpanzee المسكين يُولَد كأنه إنسان ويظل في المرحلة الجنينية كأنه إنسان، لكن حين يبدأ يكبر الشامبنزي Chimpanzee يتحوَّل شكله، فحين تراه تعرف أنه فعلاً شامبنزي Chimpanzee، ويتحوَّل عموده الفقري – كما قلت لكم – إلى شكل حرف (C)، لكن نحن نظل كما نحن على شكل حرف (S) لأننا كائنات مُنتصِبة، علماً بأن حتى خيوط اتصال الجمجمة في جنين الشامبنزي Chimpanzee الوليد وجنين الإنسان إلى حد ما مُتشابِهة، لكن لما يكبر تبدأ تختلف، وهناك أشياء كثيرة طبعاً، فطبعاً أنت ترى هذا الإبهام في اليد يُقابِل الأصابع الأربعة، لكن إبهام الرِجل الكبير لا يُقابِل الأصابع وإنما يختلف شكله، لكن في الشامبنزي Chimpanzee إبهام يده لا يُقابِل الأصابع الأربعة على عكسنا نحن، فالإبهام لدينا يُقابِلها، لكن هو إبهام يده مثل إبهام الرجل لدينا، وكذلك يُوجَد اختلاف في كروية الجمجمة وحجم الدماغ، فالشامبنزي Chimpanzee الجنين في أول أيام ولادته يكون حجم دماغه معقولاً إلى حجم جسمه، ويكون قريباً من حجم دماغ الإنسان إلى حجم جسمه، ثم يكبر الإنسان ويكبر الشامبنزي Chimpanzee بعد ذلك ومن ثم يحدث الاختلاف، فالنسبة سوف تختلف كثيراً جداً بشكل واضح بيننا وبين الشامبنزي Chimpanzee، ولذلك يُقال نحن كائنات نيوتينية، لكن ما معنى هذا الكلام في نهاية المطاف؟ ماذا يُحِب أن يقول هؤلاء؟ سأُوضِّح لكم هذا، فنحن فهمنا الظاهرة حتى الآن لكننا لم نفهم دلالتها تطورياً، فما هو المقصود بالنيوتينية؟ كأنه يقول أن هذه الظاهرة النيوتينية – نسبة إلى نيوتيني Neoteny – تُؤكِد أن نحن والشامبنزي Chimpanzee فعلاً أتينا من أصل مُشترَك، وحتى الآن في آخر مراحل الاستجنان وأوائل مراحل الولادة كأننا شقيقان تقريباً أو توأمان، لكن الفرق في بضعة جينات Genes، فهناك جينات Genes مُعينة تُوجَد بعد ذلك هى المسؤولة عن تطوير شكل وبنية الشامبنزي Chimpanzee، فهى تجعله بالطريقة هذه فيبتعد عنا وتجعلنا نحن بالطريقة هذه فنبتعد عنه، وهذا يُؤكِّد أننا من أصل مُشترَك وأن هناك قصة تطورية، لكن قال حظنا أننا تطورنا نيوتينياً، فكيف هذا إذن؟ أصبح عندنا بالانتخاب الطبيعي جينات Genes تسمح بتشكيلنا بحيث نكبر ونُصبِح يافعين ونحن نحمل صفاتنا الحدثية، فنحن لا نتخلى عنها، ولذا هى تبقى عندنا، وباختصار – كما قلت لكم في الأول – نحن ننضج جنسياً ولا ننضج تقريباً بدنياً، فالبدن هو هو، نحن عندنا نفس الأشياء وعندنا نفس تسطيح الوجه، ولا يتغير شيئٌ كثير بحمد الله تبارك وتعالى، فشكل الأسنان – مثلاً – عند الطفل أول ما يُسنن مثل الكبير، لكن الشامبنزي Chimpanzee وضعه مٌختلِف، فأسنانه الصغير غير أسنان الكبير، وكذلك الشامبنزي Chimpanzee الصغير لا يكون عليه الكثير من الشعر، فيُوجَد شعر عليه ولكنه ليس كثيراً فتكون الكثير من الأماكن عارية أو شبه عارية، ثم يبدأ في أن يُشعِر بعد ذلك، لكن الإنسان ليس كذلك، فهو يبقى مثلما هو، يظهر عنده شعر بسيط لما يكبر – والله بعض الناس عنده شعر كثير نوعاً ما – فقط، لكن عموماً نبقى الكائن العاري من الشعر، فهذه هى الظاهرة النيوتينة إذن، وإن شاء الله أكون وُفِّقت في إيضاحها، لأنها بصراحة صعبة وغير واضحة.

النُقطة السادسة هى أن التطور لا يحدث بوتيرة تسارعية واحدة، وطبعاً من أكثر الاحتجاجات على التطور تُخالِف هذه النُقطة لأنها لا تفهمها، وهذا يُؤكِد لك أن الناس تحتج دائماً على شيئ لم تدرسه ولم تفهمه، وهذا غير جيد وغير لائق، لأنه الآن ستكون فضيحة طبعاً عندما تعمل مُحاضَرة أو تُؤلِّف كتاباً وأنت لا تفهم هذه النُقطة، لكن هذا يحدث كثيراً عند العرب، فتجد الواحد منهم يُؤلِّفاً كتاباً وهو غير دارس وغير فاهم، وعندما تقرأ له تجد أن كل كلامه يُعدَ كلاماً فارغاً لأنه لا يفهم النظرية، فليس هذا هو التطور، عن ماذا يحكي هو؟ هو يحكي عن شيئ ثانٍ، وعلى كل حال هذه جرأة غريبة، ولكنها تقع لعدم وجود نقد علمي قوي، فنحن ليس عندنا حتى حاسة نقد حقيقي لتُقيّم الكتاب، ولا يُوجَد عندنا عروض – Reviews – علمية حقيقية عندما يصدر أي كتاب، هذا الكلام غير موجود عندنا، لكن هنا في الغرب إما أن يُحطِّمونك أو يرفعونك عالياً، فهم يُعطونك حقك على كل حال، ويُوجَد عندهم حركة نقدية قوية في الأدب وفي العلم وفي كل شيئ على عكسنا نحن، فلا يُوجَد عندنا مثل هذا الكلام، فكما يُقال بالعامية “الطاسة ضائعة” للأسف، فلا علينا من هذا، إذن من أكثر النقود التي تُوجَه للتطور هو القول: إذا كان هذا الأمر على هذا النحو فلماذا الشامبنزي Chimpanzee موجود إلى الآن ولم يتحوَّل كله إلى بشر؟ وكأننا قلنا أن الإنسان أصله شامبنزي Chimpanzee، مَن قال هذا الكلام أصلاً؟ ولكنهم يقولون مثل هذا النقد، ويقولون أيضاً هذا النمل عمره ملايين السنين بشهادة علماء التطور وقد وجدوه في الكهرمان فلماذا لم يتطور أيضاً؟ وهذا السؤال غير صحيح، فلماذا يتطوَّر أصلاً؟ ومَن قال لك أنه لابد من أن يتطوَّر؟ ومَن قال لك أن هناك وتيرة واحدة للكائنات كلها من اللازم أن تتطور بها؟ هذا غير صحيح، فالتركيبية المُعاصِرة تقول لك أن التطور لا يحدث بسرعة واحدة، وهم واعون بهذا تماماً، فالإنسان مثلاً والحوت – الحيتان Whales – من أكثر الكائنات سرعةً في التطور، ففي خمسمائة ألف سنة فقط ظهرت أنواع بشرية – Humanoid – واختفت وظهرت غيرها، فما القصة إذن؟ هذا حدث بسرعة شديدة في نصف مليون سنة فقط، علماً بأننا سوف نأخذ هذه الموضوعة بالتفصيل فيما بعد عندما نتحدَّث عن موضوع تطور الإنسان، والحيتان أيضاً تطورت بسرعة، لكن عندك مثلاً السلحفاة كما هى من مئات ملايين السنين، فمن مائة وخمسين مليون سنة ومن مائتين وخمسين مليون سنة كما قال بعضهم هى كما هى، فهى لم تتطوَّر، وهى تعيش ببطء أيضاً لأنها من هذه الكائنة البطيئة، فهى تعيش ببطء وتتحرَّك ببطء وتتطوَّر ببطء، كأنها أقسمت يميناً أن تفعل كل شيئ ببطء، فهى تُحِب السكينة والهدوء، ولذا هى طوال حياتها وهى بطيئة جداً جداً، وقال العلماء أن تطورها كان بطيئاً جداً.

Ginkgo-Bilobaتُوجَد أشجار مشهورة في الصين إسمها الجنكو Ginkgo، وأشجار الجنكو Ginkgo الصينية ينطبق عليها نفس الشيئ، فهى بطيئة جداً جداً، وهى كما هى من ملايين السنين، فهناك أشجار ثانية تطورت لكن هى لم تتطوَّر.

سراطين حدوة الفرس – Horseshoe Crabs – ينطبق عليها نفس الشيئ، فتطورها بطيء جداً مثل الأشجار الصينية، لأنها تسير بوتيرة بطيئة، لكن الحيتان والإنسان تطوَّرا بسرعة شديدة كما لو كان الواحد منهم يجري جرياً نحو التطور.

حدثتكم في حلقة سابقة عن سمكة السيليكانت Coelacanth، وقلت لكم يُوجَد على اليوتيوب YouTube فيلم عنها، وهو فيلم وثائقي إسمه السمكة التي نسيها الزمان، وهذا الفيلم من أروع ما يكون،، فهذه السمكلة عندما توصَّل إليها العلماء لأول مرة كانت فتحاً كبيراً، فلم يُصدِّقوا أنفسهم، علماً بأنني سوف أتحدَّث عنها بالتفصيل لأنها حلقة وُسطى يجب أن تنتبهوا إليها، لأن هناك مَن يقول أين الـ Missing Link؟ رغم أن الـ Missing لم تعد Missing، فهذه حلقة وُسطى حية وتعيش كما هى كما كان يعيش أسلافها بنفس البنية ونفس الهيئة من زُهاء أكثر من مائتين وخمسين مليون سنة أيضاً، ولذلك سحرت العلماء هذه السمكة، لأه كل شيئ تطور وهى تعيش كما هى، ولذلك أسموها Living Fossil، أي الأحفورة الحية، فهى أحفورة ولكنها حية وموجودة الآن، فسبحان الذي خلقها!

فالتطور إذن ليس عنده وتيرة واحده يتسارع بها، إنما تُوجَد وتائر مُختلِفة تماماً بحسب الكائنات، لكن عموماً يكون التطور سريعاً إبان الانتواع، وهذا هو المبدأ الثامن تقريباً الآن، فالنوع الجديد حين في طريقه إلى الظهور تتسارع الوتيرة، أي أول ما يضع رجله على الطريق كما يُقال، فكأنه ينزلق في مُنزلَق تطوري سريع، فأول ما تظهر طفرة مُعيَّنة ويتكيف بها تكون الوتيرة هنا سريعة هنا إلى أن يظهر النوع الجديد، فإذا ظهر النوع الجديد وتكيف مع بيئته ترجع وتيرة التطور إلى البطء الشديد، كأنه قضى المُهِمة وانتهى الأمر، فهذا أيضاً مبدأ هام، وهو النُقطة الثامنة في التركيبية المُعاصِرة، فهم قالوا أن التطور يكون سريعاً إبان الانتواع، فلما يبدأ النوع الجديد في الظهور يكون سريعاً لكي يُكمِل العملية بسرعة، وحالما يتكيَّف هذا النوع الجديد مع بيئته تعود الوتيرة إلى التباطؤ الشديد، فإذن هذا مبدأ هام.

التطور- تطور الأنواع الجديدة – لا يعني أن هذه الأنواع تتطور دائماً من أنواع أكثر تقدماً، ونحن فهمنا كيف هذا، فمثلاً نحن ثدييات Mammals، والثدييات بأنواعها الثلاثة طبعاً – الثدييات عندها ثلاثة أقسام – تطوَّرت من الزواحف، فليس من الضروري أن تكون الثدييات تطوَّرت من أرقى الزواحف، لأن عندما نرجع للزواحف القديمة قبل سبعين وقبل مائة ومائتين وخمسين مليون سنة سوف نجد أن أرقاها هى الديناصورات Dinosaurs، فالديناصور Dinosaur حيوان زاحف رهيب، وهو راقٍ جداً وقوي، ولكننا لم نتطوَّر من الديناصورات Dinosaurs أبداً، وإنما تطوَّرنا من زواحف أكثر بساطة وأقل تعقيداً، فليس بالضرورة أن يكون الكائن تطوَّر دائماً من الكائن السابقة الأكثر تطوراً في تصنيفه طبعاً كزاحف مثلاً، كأن يكون الزاحف الأكثر تطوراً تطوَّر منه الثديي، هذا ليس شرطاً، فمن المُمكِن أن يأتي الثديي ويتطوَّر من زاحف أقل تطوراً، وهذا جميل جداً!

المبدأ العاشر والأخير هو أن ليس بالضرورة أن يتجه التطور دائماً وفي كل الحالات إلى الأكثر تعقيداً وتركيباً، ومن ثم قد تقول لي هذا تناقض مع المُصطلَح، فكيف يحدث هذا؟ وبدوري أقول أن كلمة Evolution لا تقتضي هذا، فكلمة Evolution لا تعني أبداً أنه يترقى دائماً إلى أعلى، فهذا ليس ضرورياً، وهذا إسمه مبدأ الـ Progress، فهذا ليس شرطاً، لأن من المُمكِن أن يكون التطور ارتدادياً، فهو قد يكون تدهورياً وقد يكون اختزالياً فيُفقِده بعض الأعضاء، فهل – بالله عليكم – عندما تطوَّر الحوت تطوَّر ارتقائياً أم تدهورياً؟ تطوَّر تدهورياً طبعاً، لأن الحوت تطوَّر عن كائن رباعي الأطراف، أي عنده زوجان من الأطراف، زوجان أماميان وزوجان خلفيان، والحوت الآن ليس عنده أي أطراف خلفية، فقط عنده هذه الزعانف الأمامية التي كأنها بمثابة أطراف أمامية له وفقد الخلفية، فهل هو تدهور أم ترقى؟ بهذا الاعتبار هو تدهور طبعاً.

عندك أيضاً الطفيليات – Parasites – التي تعيش مُتطفِلة على غيرها مثل الإسكارس Ascaris والبلهارزيا Bilharzia – نحن نسميها البلهارسيا – وغيرها، فهذه الكائنات الطفيلية تطوَّرت من كائنات أخرى كانت أرقى منها، فهى تطوَّرت من كائنات حرة غير مُتطفِلة، أي من كائنات كانت تعيش حياة حرة من غير تطفل على غيرها، وهذه الكائنات الراقية تطوَّر منها كائنات أقل رقياً وهى كائنات تتطفل على غيرها، إذن هذا تطور ارتدادي أو تدهور.

الثعابين عموماً – Snakes – كلها تطوَّرت من Lizards، أي من العظايا والسحالي، لكن مَن الأكثر تقدماً: السحلية أم الثعبان؟ السحلية طبعاً، فكون السحلية – Lizard – أصبحت في النهاية ثعباناً – Snake – فهذا يعني أنه تطور تدهوري، لأنها فقدت الأطراف الخاصة بها وما إلى ذلك، وهذا تدهور طبعاً.

فإذن المبدأ هو أن التطور لا يذهب دائماً نحو الأعقد ونحو الأكثر تقدماً، فمن المُمكِن أن يعود بشكل تدهوري، لكن لماذا يكون هكذا؟ بحسب ما يُفيد في التكيف وبحسب ما يُعطي صلوحية أكبر للتكيف مع البيئة، فلا بأس أن يحدث هذا حتى لو كانت هذه الصلوحية لا تتحقق إلا باختزال بعض الأعضاء وزويها واندثارها، فالحوت من الأفضل له أن يعيش بهذه الحالة لكي يحيا كحوت في الماء، وبالتالي هذا الذي حصل.

أعتقد أنا بهذه الطريقة نكون قد أنهينا عرض المبادئ أو العناصر العشرة التي تُوضِّح التركيبية التطورية المُعاصِرة، إلى أن ألقاكم في حلقةٍ مُقبِلة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

(تمت المُحاضَرة بحمد الله)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: