التأثير العلمي بين المنطق والسيكولوجيا – العلم والدين – الحلقة 9

video

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.

إخوتي وأخواتي/

سأُعقب في هذه الحلقة تعقيبات سريعة، اقتضاها المقام؛ مقام التوضيح والتبيين، على الحلقات الأخيرة، التي أدرتها على موضوع نموذج الانفصال أو الاستقلال أو التوازي بين العلم والدين. 

طبعا تكلمنا – أي أعتقد بقدر مُناسب؛ بما يُناسب مقام هذه السلسلة – عن هذا النموذج، وعن أبرز الشخصيات العلمية واللاهوتية والفكرية، التي تتبنى هذا النموذج وتدعو إليه بطريقة أو بأُخرى. 

وقد يكون من أشهرهم كما قلنا العالم الإحاثي – أي ال Paleontologist – الشهير الأمريكي ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould، الذي خص هذا النموذج بكتاب كامل، يُدافع عنه ويدعو إليه ويُبرره.

وهو صاحب المُصطلح الشهير بال NOMA، أي Non-overlapping magisteria، أي التخصصات أو الصلاحيات – المقصود التعليمية طبعا – غير المُتداخلة. وشرحنا هذا المُصطلح، وما معناه. 

فهذا الكاتب طبعا في رأس الذين يُدافعون عن هذا النموذج ويدعون إليه، وعنده طرح خاص مُسهب، يُمكن أن يُرجع إليه، للوقوف عليه، في كتابه المذكور؛ صخور أو صخرتا الزمان. 

أيضا من المُعاصرين الأحياء – لأن ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould ارتحل قبل أكثر ربما من بضع عشرة سنة. هذا من المؤرخين الأحياء، ذكرته أكثر من مرة – بيتر هاريسون Peter Harrison. 

مؤرخ أسترالي مشهور جدا، وهو أحد الذين ألقوا ربما ست مُحاضرات تقريبا – على ما أذكر – عام ألفين وأحد عشر، ضمن سلسلة مُحاضرات جيفورد Gifford! المشهورة هذه في المملكة المُتحدة، والتي أُلقيَ أول ربما مُحاضرة منها عام ألف وثمانمائة وثماني وثمانين! ربما اختاروا هذا الرقم مُتعمدين؛ حتى لا يُنسى. 

وكان من ضمن مَن ألقاها من المشاهير ويليام جيمس William James، جون ديوى John Dewey. أيضا ألقاها أرنولد توينبي Arnold Toynbee، المؤرخ الكبير! فيما له علاقة بموضوعنا، مِمَن ألقى أيضا هذه كُثر. 

طبعا هذه المُحاضرات في شؤون فكرية مُتعددة، لكن هذه الشؤون الفكرية المُتعددة ليست مفتوحة بالكامل، إنما تُعنى بقضايا الروح والفكر، أو العلم والدين بطريقة أو بأُخرى.

أي قريبة من مؤسسة تمبلتون Templeton الشهيرة في الولايات المُتحدة الأمريكية وجائزتها وأنشطتها المُختلفة؛ لأن السيد الذي بمُبادرة منه كانت هذه المُحاضرات كان رجلا Polymath! 

كان قاضيا كبيرا، من قضاة العهد الفيكتوري، وكان رجلا مُتعدد الثقافة، موسوعي الثقافة، Polymath كما يُقال! وكان يُحبذ ويُشجع ويُحفز على العمل المُشترك بين العلماء والفلاسفة واللاهوتيين؛ لكي يتوفر الناس على منظور أكثر تركيبا في هذه القضايا، وهذا مسعى حميد، ومسعى طيب. 

إلى الآن هذه طبعا المُحاضرات تُلقى وموجودة، أي سارية، وهي تُعتبر مُنتدى فكريا! أي مُحاضرات جيفورد Gifford هذه مُنتدى فكري عالمي، من أشهر المُنتديات الفكرية العالمية!

فيما يخص موضوعنا؛ هناك إيان بربور Ian Barbour، نفس الشيء! ألقى أيضا سلسلة مُحاضرات، أكيد أكثر طبعا مما ألقى بيتر هاريسون Peter Harrison، بين ألف وتسعمائة وتسعة وثمانين وألف وتسعمائة وأحد وتسعين.

وهي الأساس الذي بنى عليه كتابه When Science Meets Religion؛ حين يلتقي العلم بالدين، هذا الكتاب في الأصل كان مُحاضرات جيفورد Gifford! نفس الشيء بيتر هاريسون Peter Harrison! مُحاضراته الست كانت أساس كتابه مناطق أو أقاليم الدين والعلم، أي Territories، طبعا شرحت هذا ربما في المُحاضرات التمهيدية الأولى! 

لأنه يرى أننا حين نذهب نوصّف العلاقة بين العلم والدين، ينبغي ألا نغفل عن حقيقة الإزاحات الدلالية المفهومية، التي نالت المُصطلحين وطالتهما في القرون الأخيرة. أي قبل أربعمائة سنة لم يكن الدين يعني ما يعنيه اليوم، الدين حتى – ال Religion – لم يكن كما تفهمه الآن أنت! في السياق الغربي طبعا. 

لم يكن العلم أصلا كمُصطلح موجودا، كان هناك فلسفة طبيعية! وكمُصطلح جاء في أواخر القرن التاسع عشر، العالم ويويل Whewell عالم مشهور، هو أول مَن أطلق هذا المُصلطح؛ أطلق مُصطلح عالم، الذي ساد في مطلع القرن العشرين. 

فهو يقول إذا غفلت عن هذه الإزاحات، فأنت تتورط، كما يُمكن أن يتورط شخص مثلا يدّعي أنه قبل مئتي أو ثلاثمائة أو أربعمائة سنة قام نوع من النزاع والعراك بين – هو المثال الذي أتى به – دولة إسرائيل ودولة مصر! 

كلام لا معنى له! قبل مئتي سنة، قبل مئة سنة، لم يكن هناك شيء اسمه إسرائيل. الحيز الجغرافي الذي قامت فيه هذه الدولة المُحتلة موجود بلا شك، لكن هذا الكيان السياسي أو الجيوسياسي لم يكن موجودا أصلا، فكيف تتحدث عنه وتقول هذا؟

كذلك لما تتحدث عن العلم والدين، بالفهم الحالي لما يعنيه علم ودين، توصّف علاقات قبل أربعمائة سنة! وخاصة مع مطلع عصر العلم، وربما حتى قبل بزوغ العلم! هذا الكلام يُعتبر خلطا منهجيا وكلاما غير مُحكم بالمرة أكاديميا. 

فكتابه يقوم على توضيح هذه المسألة، اسمه أقاليم – أي Territories -؛ أقاليم العلم والدين، عجيب! وهي أقاليم مُختلفة ومُتمايزة. وهو بشكل عام مُنحاز إلى نموذج الفصل، لكن غير مُكتف به، بالعكس! هو يُحاول أن يُطور عبر قراءة أو عبر قراءة مُتعمقة في سائر النماذج أيضا منظورا أكثر مرونة، من أن يجعله مُقتصرا على الفصل.

بيتر هاريسون Peter Harrison ربما يكون الاسم الأكثر أهمية الآن بعد إيان بربور Ian Barbour، فلا بُد أن يُقرأ هذا الرجل بتمعن، وتُقرأ أعماله أيضا بتفحص؛ لأنها أعمال مُهمة، وفيها إضافات حقيقية في هذا الباب الذي نتحدث فيه.

أُريد أن أُوضح شيئا تطرقت إليه في المُحاضرات الأخيرة، لكن أعتقد أنني ضاق عني الوقت؛ لكي أُبينه وأُلقي عليه مزيدا من الضوء، وهو:

فكرة الفيلسوف الإنجليزي الكبير والتر ستيس Walter Stace في أن العلم بذاته، والعلم كما حصل وكما وقع، لم يكن ليكون عدوا للدين، أو في حالة مُجافاة، أو مُنافاة أو مُنابذة للدين، فضلا عن أن يدعم منظورات إلحادية للوجود، أبدا!

وهذا طبعا أعتقد أنه واضح، ودققنا فيه أكثر من مرة! ولكن يقول ستيس Stace الذي حصل أن الانتقالات كانت تحدث لا بشكل منطقي، وإنما بشكل تداعي أفكار سيكولوجي، تداعي نفسي لبعض الأفكار.

هذه الفكرة عميقة كما قلت، وهي أهم فكرة يُمكن أن تخرج منها كقارئ لكتاب والتر ستيس Walter Stace الدين والعقل الحديث! هي أهم ما في الكتاب! وهي جوهر الكتاب! الفكرة المحورية التي أتى بها كتاب ستيس Stace، وهو كتاب مُهم جدا في هذا الباب أيضا، هي هذه الفكرة! لكن لا بُد أن نُوضحها، أي كيف؟

باختصار، أُحب أن أُبسط، الآن مثلا نفترض أننا أخذنا نيوتن Newton؛ إسحاق نيوتن Isaac Newton، ميكانيكا نيوتن Newton! ميكانيكا نيوتن Newton أو فيزياء نيوتن Newton عموما تولي القوانين الطبيعية أهمية مركزية. نيوتن Newton هو الذي كما قال شاعر عصره الكبير ألكسندر بوب Alexander Pope، قال كان الكون ظلاما، فخلق الله إسحاق نيوتن Isaac Newton – أي قال له كن فيكون -، فأضاء كل شيء. 

هذان البيتان من الشعر مكتوبان على شاهدة قبر نيوتن Newton! طبعا نيوتن Newton مدفون في وستمنستر آبي Westminster Abbey، وإلى جانبه، عند رجليه، تشارلز داروين Charles Darwin! وكان هذا تكريما كبيرا جدا لداروين Darwin، وطبعا في كاتدرائية؛ آبي Abbey! 

معناها: تؤكد لك أن حتى الروح الدينية عموما رُغم ردة فعلها المبدئية في زمن داروين Darwin استطاعت أن تستوعب الطرح التطوري، ولم تر فيه من حيث هو عاملا يضطر أو يقود إلى الإلحاد بالضرورة، أبدا! لذلك وافقوا أن يُدفن تشارلز داروين Charles Darwin في هذا المكان، أي المُقدس عندهم، كاتدرائية! وعند مَن؟ عند قدمي إسحاق نيوتن Isaac Newton! أعظم عقلية علمية على الإطلاق تفخر بها بريطانيا. 

المُهم، فهذان البيتان لألكسندر بوب Alexander Pope مكتوبان على شاهدة قبر نيوتن Newton! كان الكون ظلاما، فخلق الله نيوتن Newton، فأضاء كل شيء. فهمنا! أصبح كل شيء واضحا. طبعا بلا شك تأثير فيزياء وعلم نيوتن Newton عموما على مَن تلا، حتى من الفلاسفة واللاهوتيين، كبير للغاية!

بعضهم، مثل إيمانويل كانط Immanuel Kant، كان يرى فيه العالم – أي الباحث الطبيعي طبعا، الفيلسوف الطبيعي – النموذجي، الذي يتمنى كل أحد أن يصل إلى درجته في فهم الطبيعة، من حيث الدقة، ومن حيث الوضوح، ومن حيث النجاعة التفسيرية.

تشارلز داروين Charles Darwin – على ما أذكر – في أكثر من موضع من أصل الأنواع صرح – لم يُعط إشارة أو Hint أو كذا، وإنما صرح، وهذا في خواتيم حتى أصل الأنواع – بأنه يطمح إلى المُساهمة في بناء ال Biology أو علم الأحياء بالطريقة النيوتنية، بطريقة فيزياء نيوتن Newton! لأنها طريقة مُحكمة ودقيقة وعلمية بلا شك. فلو نحن استطعنا أن نأخذ الأحياء لكي تكون شيئا مُشابها، فسيكون تقدما هائلا! 

إذن تشارلز داروين Charles Darwin كان ينطوي على نفس الفكرة! إسحاق نيوتن Isaac Newton كما تعلمون جميعا كان عميق الإيمان بالله تبارك وتعالى، بل هو أقرب حتى إلى التزمت الديني، أي قليلا! أي الرجل فيه نوع من التزمت ونوع من التعصب الديني! مع أنه كان مُوحدا طبعا، لم يكن مُثلثا، لا علينا! فلم ير في علمه، لا في فيزيائه ولا في ميكانيكه السماوية، ما يقتضي أو حتى يوحي، بماذا؟ بالإلحاد وبإضعاف الإيمان بالله! أبدا!

إذن قضية العلم بما هو، أيها الإخوة، وعلاقته بالإلحاد واضح أنها كانت انحدارا أو انزلاقا نفسيا! كيف تم هذا؟ هذه فكرة ستيس Stace. أنا أُريد أن أوضحها الآن، أي بشكل – بعون الله – أشبه أن يكون ملموسا، بشكل واضح تماما:

البداية كانت طبعا مع كوبرنيكوس Copernicus، حين حاول أن يُبرهن على أن الشمس هي مركز العالم، وليست الأرض. من هنا كانت البداية! إذن ما علاقة هذا؟ الله تبارك وتعالى يبقى هو الخالق، وهو المُدبر المُدير للأكوان، بغض النظر أكان المركز الشمس أم كانت الأرض. 

طبعا ما لا يعلمه كوبرنيكوس Copernicus ومُجايلوه ومُعاصروه ومَن تلاه حتى، أي مَن تلاه إلى وقت ليس بالبعيد، أنه لا الأرض ولا الشمس مركز العالم، أبدا! العالم ليس له مركز، العالم الآن ليس له مركز! المُهم، وهو من الشساعة والسُحق والبُعد بما يفوق كل خيال!

على كل حال، فيبقى الله هو الرب الخالق المُدبر، سواء أكان المركز الشمس أم الأرض! لماذا أثر هذا تأثيرات سلبية؟ نعم، هنا الموضوع كان إلى حد ما مفهوما! كون هذا التقرير العلمي أو هذه النظرية العلمية تتعارض فيما يبدو مع الظواهر الواردة في الكتاب المُقدس، وخاصة في سفر التكوين! 

الظواهر هذه تؤكد أن الإنسان مركز هذا العالم. وهذا العالم، الذي هو الأرض، مركز العوالم. ومن أجل الإنسان افتدى الله البشرية بابنه الوحيد، الذي مات على الصليب! تأتيني بعد ذلك وتقول لي لا، إن القضية هامشية، والإنسان وضعه هامشي، والأرض كلها هامشية! هذا شيء أشبه بالإنكار! شيء أشبه بالإنكار! 

لكن في عُمقه، لو أردنا أن نُحاكمه؛ هل هو إنكار لله؟ أبدا! ليس له علاقة! لكن كونه يتعارض مع ظواهر الكتاب المُقدس، نعم، أوجب الشك! أن العلم ماذا؟ يذهب في الاتجاه المُعارض والمُضاد للإيمان. 

المسألة تطورت مع إسحاق نيوتن Isaac Newton! ميكانيكا نيوتن Newton أو فيزياء نيوتن Newton عموما جعلت دور الله تبارك وتعالى، فيما ظن الناس – نيوتن Newton لم يفهم هذا، فيما ظن الناس -، جعلت دور الله هامشيا تدخليا. الله يتدخل أحيانا! 

أي متى يظهر في الصورة الله تبارك وتعالى؟ حين تتراكم بعض الأخطاء في نظام الكون والطبيعة. فحين تتراكم هذه الأخطاء، لا بُد من تصحيحها، Correction! نعمل تعديلا، تصحيحا! فهنا يتدخل الله إعجازيا، وليس قانونيا. نيوتن Newton قبل بهذه الطريقة للأسف! وطبعا هذا كان خطأ رهيبا.

ما مصدره؟ مصدره فلسفي، أو لاهوتي، أم علمي؟ علمي. نظريات ومُعادلات نيوتن Newton، التي صورت العالم كساعة، لم تكن بتلك الدقة التي لا تسمح بوجود هامش خطأ يتراكم مع الزمن، كانت تسمح! 

من الذين عارضوه مُعاصره ومُنافسه غوتفريد فيلهيلم لايبنتز Gottfried Wilhelm Leibniz الألماني. لايبنتز Leibniz عارضه وسخر منه! سخر من هذه الفكرة ومن إله الساعة هذا! الآن يُسمونه الإله السمكري، المُصلّح! Tinkerer. يقول لك هذا مُصلّح، أخطاؤه يتدخل ويُصلّحها. 

قديما كان يُسمونه إله نموذج الساعة، أو إله ساعاتي! ساعاتي الكون! وحُق للايبنتز Leibniz أن يسخر. لايبنتز Leibniz كان مؤمنا بالله أيضا، ليس حتى له علاقة بالإلحاد واللاأدرية، كان مؤمنا، ولكن سخر من هذا النموذج.

بدوره لابلاس Laplace؛ بيير لابلاس Pierre Laplace الفرنسي المُلحد، سخر من التصور النيوتني للعالم، جميل؟ بغض النظر عن مواقف العلماء والفلاسفة، كيف يُمكن أن نفهم أن فيزياء نيوتن Newton أخذت موضوع العلم بحيث صُور بأنه مُتحالف مع الإلحاد أو الشكوكية أو اللاأدرية؟ من أي جهة؟ 

نعم، من جهة اختلاف هذا التصور الجديد العلمي للعالم، للكون، عن التصور الساذج البسيط الذي كان لدى عموم المؤمنين في الأعصار الخالية الوسيطة. على فكرة، اليوم المسلم حتى، في القرن الحادي والعشرين، تصوره لعمل الله وفاعلية الله في الكون، يُشبه تصور القرون الوسطى أيضا! ما رأيك؟ لأنه ليس مُتعلما! 

حدثتكم أكثر من مرة عن مفهوم مُعين في ال Sociology أو علم الاجتماع، يُسمى المخروط الاجتماعي. وفقا للمخروط الاجتماعي التغير يطال وينال فقط فئة قليلة جدا في رأس المخروط؛ العلماء والمُفكرين والفلاسفة والمُثقفين الكبار. 

أما قاعدة المخروط، فهي مُعظم الشعب، ومُعظم الناس! هؤلاء لا يمسهم التغير، إلا الشكل الظاهري! في لباسه، في يركب ماذا، يأكل كيف، في بعض التقنيات! لكن جوهر التفكير، عُمق التفكير، الرؤية الكونية التي لديه، تقريبا تبقى كالتي كانت قبل الأجيال السابقة! قبل خمسين سنة، ومئة سنة، ومئتي سنة، وأربعمائة سنة، ومرات أكثر أيضا! من غير تغير! نفس الشيء! شيء غريب هذا! 

هذا في علم ال Sociology، وهو صحيح إلى حد بعيد، هذا صحيح إلى حد بعيد! التغير لا يطال إلا فقط الفئة العالمة والمُفكرة والمُثقفة، والذي يُحاول أن يشحذ دائما ذهنه بمعلومات ومُقاربات جديدة، ويُتابع المشهد الفكري، هذا يصير عنده تغير! وهذه فئة قليلة جدا.

ولذلك الناس كانت تعتقد أن الله يفعل بطريقة آنية، أول شيء! كن فيكون. الذي يُريده، يصير مُباشرة. مع أن الكتاب المُقدس، والقرآن، قال لهم ستة أيام. من أين جئتم بها هذه؛ أي حكاية كن فيكون أنها آنية؟ ليس شرطا! 

ثانيا وأنه يفعل بنفسه، أو بذاته، بطريق مُباشرة! وهذا غير صحيح. قبل العلم غير صحيح، بصراحة! أي اليوم نحن عملنا خُطبة وبدأنا بسورة الذاريات. ما الذاريات هذه؟ في أرجح التفاسير ملائكة، تذرو الريح. 

وكل المُقسم بها ملائكة، أو أشياء أُخرى، بغض النظر أقسم الله بالملائكة، أقسم ببعض الكيانات الطبيعية، الله له أن يُقسم بما شاء، الله أقسم بالشمس وبضحاها وبالقمر وبالليل وبالنهار وبالأرض، يُقسم! نحن ممنوع نُقسم إلا بالله، لكن هو يُقسم بما شاء، وهذا القسم له دلالة.

معناها بحسب الظواهر النصية المُقدسة الإلهية الله تبارك وتعالى يفعل ويُدير الكون ويُدبره، عبر ماذا؟ وسائط! كيانات وسيطة، سمها ملائكة، سمها أرواحا، سمها قوانين طبيعية، ليس مُهما، بعد ذلك يأتي هذا! 

ليس هذا المُهم! المُهم أن هناك توسطيات. واضح يا إخواني؟ هناك توسط! الله لا يفعل هكذا. العوام لا يفهمون هذا، يفهمون أن الله هو المسؤول المُباشر، أو شبه المُباشر. العلم قال لك لا. قال لك هناك قوانين. 

الآن المُشكلة: التصوير النيوتني للعالم والميكانيكا السماوية ضربت هذا الاعتقاد الساذج البسيط الغُفل الخام في مقتل. فالعوام الآن سيتصورون مُباشرة أن الله حُرك من المركز إلى الأطراف، واستُغني عنه. مَن الذي يقوم بالمهام والوظائف كلها؟ القانون، القوانين. 

بحسب نيوتن Newton الله لا يعود يظهر في المشهد إلا لتصحيح الأخطاء المُتراكمة! هذا بلا شك أثر على موثوقية الصورة الدينية الساذجة البسيطة لدى عامة الناس، للأسف ولدى أيضا مَن سيصيرون علماء وحتى مُفكرين، أثر! لكن لا بطريقة منطقية، إنما بطريقة ماذا؟ بطريقة نفسية. Association، أي تداع، هذا تداع، تداعي أفكار! 

لكن هذا التداعي ليس مربوطا دائما بقواعد المنطق، أكثر ما يتم نفسيا! وكلمة Association على فكرة مُصطلح غير منطقي، مُصطلح في ال Psychology. وكلمة Association أو تداعي الأفكار تُحيل إلى النفسي، لا إلى المنطقي، هو يحدث هكذا! ليس بالمنطق.

الآن إذا درسنا ظاهرة الخواف أو الفوبيا Phobia – والفوبياز Phobias يوجد منها مئات الأنواع -، علمنا أنه لا يوجد أي جانب عقلاني فيها، مُستحيل! وتعال، ناقش المُصاب، المرهوب هذا بالفوبيا Phobia، ناقشه بالعقل، لا تستطيع أن تتقدم معه واحد سم، إطلاقا! الموضوع مُختلف. 

وطبعا عنده تفسير عصبي الآن، له علاقة باللوزة، أو اللوزتين بالأحرى؛ الأميجدالا Amygdala، موضوع ثان تماما! يفرض نفسه عليه رُغما عنه، فلا يُعالج في مُستوى المنطق والسبب والنتيجة، أبدا! 

هذا الذي حصل في هذه القضية! الآن نتقدم خُطوة إلى الأمام، نصل إلى تشارلز داروين Charles Darwin، هذه اللحظة هي الأخطر على الإطلاق! أخطر لحظة في علاقة العلم بالدين هي لحظة داروين Darwin؛ تشارلز داروين Charles Darwin! لماذا؟ 

لأن النظرية التطورية أتت، أو ظُن أنها أتت، على ما ظل يُعتقد أنه أحد أقوى وأوضح وأجمل البراهين على وجود الله وتدبيره للخليقة، وهو بُرهان التصميم، الآن يُسمى هكذا! كان يُسمى البُرهان الغائي، بُرهان العلة الغائية، الآن الطراز أو ال Version الحديث – النُسخة الحديثة أو الإصدار الحديث – يُسمونه بُرهان ماذا؟ التصميم. 

ويُوجد منه طبعا تنويعات؛ بُرهان مثلا ال Fine-tuning هذا! هذا من بُرهان التصميم، من بُرهان العلة الغائية. المبدأ الإنساني عموما؛ ال Anthropic principle هذا، هو تنويع على البُرهان الغائي، أو على بُرهان التصميم، ليس أكثر!

للأسف هذا البُرهان ظن الناس أن تشارلز داروين Charles Darwin بنظريته ضربه في مقتل! أي ما كان يُظن أنه مُصمم Designed، صممه الله، خلقه وصممه، لاءم وناسب بين أجزائه، بحيث تؤدي في نهاية المطاف غرضا مُعينا، تصل إلى غاية مُعينة، إلى هدف مُعين، في هذا الخلق، أو في هذه الخليقة، تشارلز داروين Charles Darwin أثبت أنه ليس مُصمما، إنما هو نتيجة التجربة والخطأ في الزمانية الطويلة، عمر الحياة! الذي يُقدّر الآن بنحو ثلاثة ملايير وخمسمائة مليون سنة! 

الحياة ظهرت قبل ثلاثة ونصف مليار سنة! داروين Darwin لم يكن يعرف هذا طبعا، لم يكن يعرف أن هذا هو عُمر الحياة، موضوع ثان هذا على فكرة! الناس كانوا يظنون أن الأرض عمرها أقل بكثير، داروين Darwin كان يصر على أنها بالملايين، بالملايين! وكان أقرب إلى الحق. 

اللورد كلفن Lord Kelvin؛ الفيزيائي العظيم، قال لا، غير صحيح. وناقض داروين Darwin، وقال أنا أثبت لك أن عمرها فقط مئة ألف سنة. لكن طبعا ليس أيضا العمر الكتابي، أي ال Biblical age، بحسب تفسيرات اليهود والمسيحيين للكتاب المُقدس، سفر التكوين بالذات.

على فكرة، في بعض الإصدارات من الكتاب المُقدس، مكتوب على الهامش تفسيرات طبعا للاهوتيين تؤكد أن عمر الأرض كذا وكذا! أي أربعة آلاف وأربع قبل الميلاد خُلقت الأرض، أي تقريبا ستة آلاف سنة، ستة آلاف سنة! يُكتب هذا، مع أن هذا لم يرد في النص نفسه. فهوم، فهوم اللاهوتيين عبر العصور، أنه هكذا، وخاصة في العصور المُتأخرة. وطُبع هذا على النُسخة الرسمية، أي بعض النُسخ الرسمية المُعتمدة، للأسف الشديد! 

فاللورد كلفن Lord Kelvin قال لا. قال عمر الأرض لا يزيد على مئة ألف سنة. وكان عنده نظرية، ثبت خطؤها بعد ذلك طبعا! عمل حسابات فيزيائية دقيقة، لكن كانت خاطئة! لها علاقة بتبرد الأرض، تبرد الأرض! هو فهم أنها مُنفصلة من نجم ومن جسم مُلتهب، وحصل لها تبرد. بحسب معيار التبرد، يتضح أن عمر الأرض عند اللورد كلفن Lord Kelvin، وهو من كبار الفيزيائيين – اللورد كلفن Lord Kelvin فيزيائي ذكي جدا جدا، عبقري -، يتضح أنه مئة ألف سنة. 

غير صحيح! عمر الأرض الآن تقريبا أربعة ونصف مليار سنة. أكثر مما ظن داروين Darwin نفسه حتى بكثير جدا. وعمر الحياة ثلاثة ونصف مليار سنة. هذه الآن المعلومات المُعتمدة في المُجتمع العلمي حول العالم.

على كل حال، فما يبدو لك مُصمما، ليس مُصمما، إنما هو نتيجة التجربة والخطأ، في الزمانية الطويلة. هذا هز الإيمان هزة عنيفة جدا! مع أن تشارلز داروين Charles Darwin، كما سأذكر حين أُفضي إلى نموذج التكامل؛ ال Integration، حين تفهم مُقاربته وفهمه هو لنظريته، تجد أن نظريته لا تقتضي الإلحاد ونفي وجود الله تبارك وتعالى، ما رأيك؟ كيف؟ سأذكر هذا لما أتكلم – إن شاء الله -، ربما في الحلقة المُقبلة، عن موضوع التكامل. 

هنا للأسف الشديد هذه اللحظة كانت حرجة جدا جدا! مع أن – مرة أُخرى – هناك إسحاق نيوتن Isaac Newton، وروبرت بويل Robert Boyle؛ عصري إسحاق نيوتن Isaac Newton، وأحد طبعا المؤسسين للجمعية الملكية بلندن، روبرت بويل Robert Boyle! 

إن كانا أوليا القوانين الطبيعية أهمية كبيرة في التفسير وفي فهم الظاهرات الطبيعية، ومع ذلك كانا مؤمنين، راسخي القدم في الإيمان، فبالمنطق نفسه يُمكن أن نفهم أن تشارلز داروين Charles Darwin كشف عن أسلوب جديد، عن طريقة جديدة، فهم بها نشوء الحياة وتطورها، وبالأحرى ليس النشوء، أي هي نظرية ليست في النشوء، نظرية في التطور؛ تطور الحياة. 

لماذا تُقربنا إلى الإلحاد؟ نفس الشيء! هذه طريقة الله في الخلق، مثل ما القوانين التي كشف عنها بويل Boyle ونيوتن Newton وهوك Hooke وأمثالهم طريقة الله في إدارة الكون والعالم، أي ما المُشكلة؟ قوانين! تشتغل هنا وهنا وهنا.

ستقول لي لا، مُشكلة النظرية التطورية تختلف. الآن سأُعطيكم ملمحا! فما أُريد أن أقوله إن نظرية التطور ليست كذلك. أوحت لهؤلاء بالإلحاد وبنفي الله تبارك وتعالى، من حيث أن التطور يشتغل على مفهومين أساسيين؛ ال Varieties أو التغايرات، التغايرات والانتخاب الطبيعي. 

لا يُوجد تطور من غير أن يكون هناك تغايرات، ومن غير أن يقع بعد ذلك انتخاب! لأن من غير التغاير، تبقى الحياة كما هي، تبقى صورة الحياة كما هي، أبدا! لأن هناك آلية مُعينة، لم يكن يفهمها داروين Darwin في تلك الأيام، التي هي الوراثة! أنه كيف؟ لماذا يأتي الجيل مُشابها لوالديه؟ وهكذا! لم يكونوا يعرفون! كلها كانت حدوسا علمية، ونظرية مزجية – ال Blending theory هذه -، أو كذا!

المُهم، لكن هناك تغايرات، مع أن فعلا الأبناء، الأولاد، يشبهون الأبوين، مع اختلافات! توجد اختلافات، سُبحان الله! هذه الاختلافات مُهمة في التطور، وفي بعض المرات تكون اختلافات درامية، أي Dramatic changes، تغيرات درامية، قوية جدا! مُهمة جدا للتطور. 

المُشكلة أن التغايرات أو التباينات – أي ال Varieties هذه – عشوائية. النظرية التطورية تُصر أنها عشوائية، هذه ليست محكومة بقانون! تحدث بمحض الصدفة، عشوائيا. أما الانتخاب الطبيعي، فهو ليس عشوائيا. ودعك طبعا من كلام أُناس لم يقرأوا حتى عشرين صفحة في التطور! يظنون أن الانتخاب الطبيعي، يظنون أنه عشوائي! 

الذي قرأ عشرين صفحة، يفهم أن هذا الكلام غير صحيح. العشوائي هو التغايرات. أما الانتخاب، غير عشوائي. الانتخاب عنده منطق مُعين، هو لا ينتخب إلا ما يُساعد على التكيف أكثر للبيئة، والاستجابة للضغوط التطورية بشكل تكيفي، أي Adaptive.

إذن عندك أنت ماذا؟ عنصران رئيسان؛ تغايرات عشوائية، وانتخاب طبيعي غير عشوائي. لن يُنقذنا هذا، لن يُنقذ قضية الإيمان! لماذا؟ لأنك تقول لي إنك تنطلق أو نُقطة الانطلاق عندك – ال Start point هذه – أن التغايرات عشوائية! أين ربنا عز وجل، الذي قدّر كل شيء، وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا *؟ 

إلى الآن لم أف بوعدي، أنا أُريد أن أُعطيكم الآن تلميحا بسيطا، ولن أُناقشه، لكن لكي تُفكروا فيه، وسوف تقولون لي صح! كيف غابت عنا؟ كيف غابت عنا؟

الآن رجال الدين، سواء كانوا مسلمين، يهودا، مسيحيين، الذين يُعادون التطور، ويعتبرون أنه فرضية أو نظرية إلحادية، ولا بُد أن يُقضى عليها، ولا بُد كذا! من خلال استنكارهم نُقطة بدايته، التي هي ماذا؟ التغايرات العشوائية، التي يشتغل عليها الانتخاب بطريقة قانونية ومنطقية ومعقولة، أي Plausible! ماذا سيكون موقفهم من فيزياء الكم؟ 

أنت عندك فيزياء القرن العشرين الحقيقية، التي هي فيزياء الكم، يا سيدي! هذه فيزياء تتحدث عن ماذا؟ عن اللا تحديد، واللا حتمية، وعن عالم من الاحتمالات! ما رأيك؟ ماذا إذا أردت أن تُنكر التطور على أُسس دينية (وطبعا واضح أنها ليست أُسسا دينية خاما، لا! هي أُسس فهم، أُسس فهم للنص الديني! هذا فهمك أنت، هذا مقدار ما فهمت أنت! وهل تظن أنك بما حصلت من علم وثقافة وفهم، سواء في اللاهوت، في الفلسفة، في أي شيء! أنك قادر تستوعب حقيقة فاعلية الله، وكيفية الفاعلية الإلهية، في العوالم والخلق، بثقافتك المحدودة هذه، أيا كانت؟ مَن قال لك؟

ماذا لو سألتك سؤالا؛ هل النبي نفسه، أعظم الأنبياء محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -، هل النبي نفسه استوعب، أو قادر يستوعب، أو قريب من أنه يستوعب أصلا، مثل هذه الأمور، التي تتعلق بالله عز وجل؟ هناك بعض الناس، من غير أن يسأل نفسه، وهذه طبعا قمة ال…ماذا أقول لكم؟ السذاجة والطفولية، التي تقترب من الإلحاد في أسماء الله وصفاته! يظن أن النبي صورة بشرية من رب العالمين!

بالمرة! هذا أقرب إلى الباطل منه إلى الحق. النبي في الأخير بشر، الله هو رب العالمين، لا إله إلا هو! ليس رب محمد فحسب، رب العوالم كلها! محمد وعالمه وأرضه ذرة في الكون، انس! ولذلك ماذا الله قال له؟ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا *. محمد عاش ومات وهو يستزيد، وطبعا ومات وهو يستزيد، وأخذ الذي قُدّر له. هذا الذي قُدّر له، أو قُدّر لغيره من الأنبياء والمُرسلين، قطرة في مُحيط علم الله، قطرة في مُحيط الحقيقة الإلهية، ما رأيك؟ 

وهو ما صرح به الحديث المُخرج في الصحاح، وهو حديث موسى والخضر – عليهما السلام -، لما كانا في السفينة، كانا في السفينة وجاء عصفور، وقف على حافة السفينة، ثم نقر نقرة، شرب من ماء البحر، قطرات! ثم حلق طائرا. 

فقال له يا موسى أرأيت هذا العصفور؟ ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من ماء البحر. هذا الصحيح، لا تقل لي محمد وموسى وعيسى! انس! محمد وموسى وعيسى والعالمون فهمهم لهذه القضايا الإلهية نُقطة في بحر الله، لا إله إلا هو! مسألة أصعب مما نتخيل يا جماعة.

فإياك أن تُقيم لي من فهمك أنت، وطريقتك في العقائد، وكيف تفهم الأمور، على أنها الحُجة النهائية في فهم فاعلية الله، وكيفية هذه الفاعلية والإدارة، وبالتالي حتما وقطعا ولازما يتعارض هذا مع كذا وكذا! كُن أكثر تواضعا، ما أدراك أنها تكون، أي النظرية التطورية، أقرب بمراحل إلى الكشف عن جانب من فاعلية الله، من تصورك الطفولي البسيط هذا؟ ما أدراك؟ 

الآن كما قلنا عندنا تحدي فيزياء الكم. فيزياء الكم عالم اللا تحديد، عالم اللا تعيين، عالم الاحتمالات، عالم المُفارقات المنطقية، المُناقضات المنطقية الكاملة التامة المحض! ماذا ستفعل بها؟ في الأول عليك أن تُواجه مُشكلة فيزياء الكم، ثم تنكص إلى مُشكلة التطور؛ لكي تكون أكثر مرونة، وتعرف أن الأمر لا يُغلق بمُجرد مُقاربة واحدة، ومن جهة واحدة، موضوع حساس وخطير!)

فإذن هذه الأمثلة التي ضربتها تؤكد لنا يا أحبتي أن الذي حصل لم يحصل على نحو منطقي، اقتضاه العلم بطبيعته، وطبيعة مناهجه، أو طبيعة تقصياته وتبصراته، والحقائق التي انتهى إليها، والتفسيرات التي قدمها، أبدا! لا، تم بطريقة نفسية! 

لماذا؟ لأنه أوجب أيضا زحزحة وخلخلة وتغييرا في الصورة المُعتقدية للعالم، وكيف يُدار، وكيف يتحرك، مع مُفارقة هذه الصورة، قليلا أو كثيرا، للصورة القديمة. السؤال الآن؛ تصورك القديم هل هو تصور إلهي حقيقي، أم تصور بشري ساذج – العلم نفسه أثبت أنه ساذج وغير دقيق وغير صحيح -؟ المعرة الآن تلحق الدين من حيث هو، تلحق الاعتقاد بالله من حيث هو كاعتقاد، أم المعرة تلحق القصور البشري، التصور البشري، السذاجة البشرية في فهم الدين؟

هو هذا يا أخي! لكن تبقى عقيدة الله كمُنشئ وخالق ومُبدع الوجود أكبر بكثير وأعمق بمراحل من أن تنقضها مثل هذه الصور، ومثل هذه النظريات، انس، انس! الموضوع أصعب بكثير.

أنا أعجبني، ولعلي نبهت على هذا في حلقة سابقة، لا أدري أي حلقة! أعجبني روبرت بويل Robert Boyle! هذا الكيميائي والعالم العظيم جدا، المُعاصر كما قلت يوم لنيوتن Newton! روبرت بويل Robert Boyle حين تكلم عن قوانين الطبيعة، صرح بأن الصورة المُعتقدية لإله يُدير العالم عن طريق قوانين، أعظم وأمجد وأفضل، من صورة إله يفعل هذا مُباشرة، وبطريقة مُستقلة في كل حالة! 

أي نحن عندنا قانون الجاذبية، تفهمونه تماما وتفهمون كل لوازمه. إن لم يُوجد قانون جاذبية، وكنت لا تؤمن به، فما الذي سوف يحصل؟ الذي سوف يحصل أن الله بطريقة مُنفصلة، في كل حالة حالة، هو الذي سوف يتعقب الظاهرات هذه، في كل حالة حالة! ليس فيها مجد، ليس فيها عظمة، مثل الحالة الأولى، أعظم بكثير! بويل Boyle قال هذا، أكد هذا، جميل! لكنه مضى خُطوة إلى الأمام أكثر عُمقا! لماذا؟

لأن تعزيز فكرة أن الظاهرات الكونية والطبيعية محكومة بقوانين طبيعية، هذه يُمكن أن تقودنا إلى تصور ميكانيكي آلي للكون، وكأن القوانين فعلا تفعل بنفسها ذلك! لا، لم يسقط روبرت بويل Robert Boyle في هذه الميكانيكية، أبدا! وكتب في فقرة موالية، كتب ومع ذلك لا يزال الكون كله، كله! في الكبير والصغير! مُحتاجا إلى الرب الجليل – لا إله إلا هو -! 

إذن لماذا وأنت تقول قوانين؟ هنا وصل إلى فكرة في مُنتهى الاستبصار والعُمق على فكرة! هذه اليوم من أكثر الأفكار العميقة التي نحن بلغناها في القرن الحادي والعشرين، كلاهوت وكذا، هو وصل إليها – انظر – في القرن السابع عشر! روبرت بويل Robert Boyle! ماذا قال؟ وخُلاصته كما شرحت أنا في حلقة سابقة أن القوانين بحد ذاتها أعجز من أن تفعل. هي دائما تقتضي وتحتاج Operator أو مُشغل، هذا المُشغل هو الرب – لا إله إلا هو -.

أي هل روبرت بويل Robert Boyle يؤمن بتدخل Intervening – intervention هذا الاسم! هذا المصدر، التدخل المصدري، Intervening -؟ نعم، ولكنه ليس تدخلا إعجازيا بين الفينة والفينة، أبدا! تدخل دائم مُحايث مُلازم لفعل القوانين. 

شيء من أجمل ما يكون! يا سلام! مُخ كبير هذا الرجل! هو أراح نفسه، فاهم! فاهم أنه لو أراد أن يُعوّل على القانون بحد ذاته، فالقانون ليس تفسيرا نهائيا، لن تفهم! لماذا؟ لماذا الموضوع هكذا؟ وكيف يتم وكذا؟ لن تفهم. 

قال لك في الأخير وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى *. الله هو الذي حاضر باستمرار، وهنا صار عندنا تدخيل، أو دمج، أو استسلاف لفكرة جديدة، تختلف مع اللاهوت المسيحي التقليدي، عبر القرون! وهو لاهوت التسامي؛ Transcendence. ما التسامي؟ التعالي. يقول لك الله عز وجل. هذا معناها، التعالي! ما معنى التعالي؟ أي أن الله غير كونه. 

الكون شيء، ورب الكون شيء ثان – لا إله إلا هو -. أي هناك مسافة، ليست مكانية Spatial، لا! مسافة فكرية، فلسفية، لاهوتية. هناك مسافة حقيقية، بين الخالق والمخلوق. هناك انفصال، نوع من الانفصال. هذا الذي يُسمونه لاهوت التعالي، والله وفق هذا اللاهوت دائما هو مُتعال مُتسام؛ Transcendent. 

فروبرت بويل Robert Boyle قد يكون مَن أوائل مَن أشاروا إلى المفهوم الذي بعد ذلك سيؤسس فلسفة جديدة، سأشرحها – إن شاء الله – في الحلقات المُقبلة، عند نموذج التكامل، وهي فلسفة الحدث. أنا أُسميها فلسفة السيرورة؛ Process philosophy، الخاصة بألفريد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead. 

فلسفة الحدث التي تصور الله على أنه مُحايث أكثر منه مُتعاليا؛ Immanent. ال Immanence؛ المُحايثة، الشيء يكون مع الشيء، في قلب الشيء، هو والشيء مع بعض. Immanence؛ مُحايثة. Transcendence؛ سمو، عكس المُحايثة. فمن أوائل الإشارات إلى هذا المفهوم؛ مفهوم المُحايثة، إشارة روبرت بويل Robert Boyle. لم يُصرح بهذا اللفظ هو، لكن كلامه يتضمنه بشكل واضح. 

لذلك التدخل الإلهي عند روبرت بويل Robert Boyle دائم، لا ينقطع. أي كأنه الصورة الأُخرى للقانون، كأنه يقول لك الآتي، وهذا الشيء جميل! أي هذا أدهشني! هذا شيء جميل، أنه إنسان في القرن السابع عشر فهم هذا! فعلا تقدر على أن تقول إنه أصاب كبد الحقيقة، أو اقترب من جوهرها. 

هو فهم أن القانون وحده، ومهما فكرت، لا يُمكن أن يكون تفسيرا نهائيا، لا يُمكن، لا يُمكن، لا يُمكن! إذن لكي يرتاح هو، قال لك معناها الأمر الإلهي، إرادة الله. وهذا أيضا كما يقولون انفصال أو خروج من تبعة شُبهة…أي ماذا يُمكن أن أُعبّر عنه؟ 

هناك شُبهة؛ شُبهة وحدودية. لا توجد وحدودية هنا، هذه ليست وحدوية، شيء مُختلف تماما! وهناك شُبهة الضرورة، أن القوانين ليست ضرورية، طبعا! وكما قلنا مُعظم المُجتمع العلمي على الإطلاق يؤمنون بأن القوانين ليست ضرورية، وكان يُمكن أن تكون عكسها تماما. لماذا كانت كذلك؟ ونتائجها نحن! الكائن الوعي، الذي يطرح هذه المُعضلات وهذه المُشكلات. 

بويل Boyle قال لك لأن الله أرادها كذلك. انتهينا، هو هذا، انتهى! وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى *، هو! هو الذي اختارها أن تكون كذلك! ليست مفروضة عليه، القوانين ليس لها طابع الضرورة. وفعلا ليس لها طابع الضرورة. 

نفي الضرورة عن القانون استخدمه بويل Boyle لتثبيت الإيمان بالله، ضمن مُستوى أعمق من البرهنة. نفي الضرورة استخدمه ديفيد هيوم David Hume بعد ذلك، بحوالي مئة سنة، لنفي الله، أو التشكيك في وجوده، أرأيتم؟ أي يُمكن أن تفهم أنت الفكرة الواحدة بطريقة تدعم بها توجها، وتفهمها بطريقة ثانية تدعم توجها ثانيا! لذلك انتبه، الفكرة لا تقول هذا، توظيفها هو الذي يُنتج هذا.

فهو يُريد أن يكون هناك صراع بين هذه المفاهيم التوظيفية، بين هذه الطروحات والمُقاربات التوظيفية! لا تستسلم، ولا تقل لي ها هو ديفيد هيوم David Hume! ديفيد هيوم David Hume وظفها بالطريقة هذه، أنا لا أفعل، أنا عندي توجه آخر، مُتعاطف فيه مع نيوتن Newton، ومع ٤٣:٣٠ ****؛ زميل نيوتن Newton، ومع بويل Boyle. شيء جميل! 

لكن هذا الذي حدث كما قلنا للأسف الشديد، أي تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. واضح أن البشر، وخاصة المجموعات كما قلت في مُحاضرة سابقة، لا يتحركون بالمنطق، تُحركهم دواع نفسية، وتداعيات أفكار، أكثر مما تُحركهم قواعد المنطق الصارم الواضحة.

قبل أن أختم، وهذا كله تعقيب أو وصل لنموذج الانفصال والاستقلال والتوازي، أُحب أن أذكر الآتي عن صموئيل ويلبرفورس Samuel Wilberforce! هذه الشخصية الدينية الهائلة المشهورة جدا! والتي أصبح العالم كله الآن يعرفها؛ بسبب ال Debate أو المُناظرة التي وقعت بينه وبين توماس هكسلي Thomas Huxley. ال Debate المشهور جدا! ألف وثمانمائة وستين تقريبا! 

حين طبعا قام صموئيل ويلبرفورس Samuel Wilberforce، وتكلم. والعجيب أن الحاضرين – هذا كان في الجمعية الملكية؛ ال Royal Society – كانوا تقريبا أكثر من ألف شخص! والجو كان حارا، هناك اهتمام! انظر هكذا المُجتمعات التي تكون مُجتمعات مُتقدمة. نظرية مُعقدة، لا تزال غير مفهومة، نزلت في ثمانمائة صفحة، مسألة صعبة! ومع ذلك يوجد اهتمام في المُجتمع العلمي، القُضاة، رجال الدين، الصحفيون، الفلاسفة، المُفكرون، كله! وجاء يُريد أن يُشارك، ويُريد أن يفهم ويدلو بدلوه. صموئيل ويلبرفورس Samuel Wilberforce كان أُسقفا – ال Bishop هذا -؛ أُسقف أكسفورد Oxford، شخصية مُهمة جدا! وجرى النقاش. 

قام بعد ذلك ويلبرفورس Wilberforce وقال على سبيل المُداعبة – يُريد أن يُداعب توماس هكسلي Thomas Huxley، وقال له هذا – أنا أسأل السيد توماس هكسلي Thomas Huxley، هو مُنحدر من قرد، من أي جهتيه؛ من جهة جده لأبيه، أو جده لأمه؟ أي من أين هو قرد؟ أي مَن جده القرد؟ 

فلم يأخذها توماس هكسلي Thomas Huxley على سبيل المُداعبة والمُمازحة، بل أخذها بجد، واحمر وجهه، وقام، وقال أوقعه الله بين يدي! وقال عبارته الشهيرة، أي التي أصبحت مثل عبارة أيقونية هكذا! يوجد تشكيك الآن فيها ودراسات، لا يعنينا! المُهم، قال أنا لا يعنيني، أو لا يسوءني، أو لا ينقصني، لا يزري بي، أن أكون مُنحدرا من قرد، من جهة جدي لأبي أو جدي لأمي، هذا لا يعنيني! 

الذي يزري أن يقوم رجل يستخدم ذكاءه – عن ويلبرفورس Wilberforce – وقدراته ال Rhetoric؛ البلاغية، الخطابية؛ لكي يسخر من طروحات علمية مُحترمة، يجري النقاش حولها في مكان مُحترم. قال هذا ليس موضعا للسخرية، وليس موضعا للتندر. قال مثل هذا الشخص هو أسوأ من قرد – أي هذا معناها -. فكانت عبارة مؤثرة وجارحة وصادمة جدا للأُسقف الكبير!

الآن الذي حصل نوع من الاختزال، ونوع من الكركتة، للأسف الشديد! وقال لك إن هذا؛ ويلبرفورس Wilberforce، رجل دين مُتعصب وما إلى ذلك. أبدا! ويلبرفورس Wilberforce يُمكن أن ترى أنت مُراجعته. 

عنده مُراجعة؛ Review، مُراجعة مكتوبة لأصل الأنواع. وهذا شيء جميل! أن أُسقف أكسفورد Oxford يقرأ أصول الأنواع! قرأه! ويكتب له مُراجعة! نعم في دورية كانت مُتحفظة، لكن مُراجعة تدل على الأقل على أنه قرأ الكتاب. 

ثم لم يقف موقفا دينيا من الكتاب، وهذا الشيء في مُنتهى الإثارة! وقال، قال لا ينتظرن أحد مني أن أحكم على نظرية السيد داروين Darwin من خلال الكتاب المُقدس. ليس من الحكمة – هكذا قال ليس من الحكمة – ولا العدل، أن يُحكم على نظرية علمية بعبارات من الكتاب المُقدس. 

إذن هذه العبارة بالذات لويلبرفورس Wilberforce تؤكد أنه كان مُتعاطفا مع نموذج ماذا؟ الانفصال. ولو إلى حين! العلم – قال – عنده منهجه، عنده طرائقه، وبالتالي هناك معايير للحُكم عليه! التي هي تتلاءم مع ماذا؟ مع منهجه وطرائقه. والدين عنده منهجه، وعنده طرائقه، إلى آخره! معناها مبدئيا فعلا هو مع نموذج الانفصال، الذي حُسب عليه أيضا توماس هكسلي Thomas Huxley، قيل محسوب عليه! وأنا ناقشت هذا في آخر حلقة.

المُهم، ثم في ذلك ال Review أو المُراجعة، ماذا عمل؟ قال أنا أعترض على نظرية تشارلز داروين Charles Darwin على أُسس علمية. وقدّم! طبعا، الرجل كان واعيا، وعنده خلفية علمية، أي لا بأس بها، ومُحترمة، أي هذه الخلفية، بصراحة! منطق علمي. أنا سأجتزئ فقط بنُقطتين من النقاط التي ذكرها ويلبرفورس Wilberforce:

النُقطة الأولى قال أنا عالة فيها على عالم التشريح الكبير ريتشارد أوين Richard Owen. طبعا ريتشارد أوين Richard Owen هذا كان أشهر عالم تشريح في ذلك العصر؛ الفيكتوري، وهو بمثابة أستاذ لهكسلي Huxley وداروين Darwin وأمثال هؤلاء، كلهم تربوا على أفكاره! 

وهو على فكرة أول مَن صك مُصطلح ديناصور، كلمة ديناصور! هو؛ ريتشارد أوين Richard Owen! كان عالما كبيرا، وعارض نظرية داروين Darwin من جهات كثيرة. 

قال أنا أعتمد على مُداخلاتي ومُقارباتي التي أكدت هذا. وهو أخبر بها – قال – مني! هو رجل عنده علم بال Fossils هذه، الحفريات، وعنده علم بالمورفولوجيا، وعلم بالتشريح وكذا. أفهم منا – قال – هو. هذا الأوين Owen أكد انعدام الحلقات التوسطية. 

ألا يقول داروين Darwin أن هناك أنواعا تتطور إلى أنواع أُخرى، وليس بطريق القفز؟ الطبيعة لا تعرف القفزات، صحيح! وإنما بطريقة ماذا؟ تدرجية. تأخذ لها ألوف، مئات ألوف، أو ملايين السنين. 

جميل! بين الأصل الأبوي كما يُسمونه، وبين النوع الجديد بعد نصف مليون أو مليون سنة، قطعا هناك توسطيات، حلقات انتقالية، أي Transmitional intermediates، كثيرة جدا! ائتوا لنا بها! أين؟ 

ريتشارد أوين Richard Owen قال غير موجود. وهذا الكلام كان صحيحا في زمن داروين Darwin وكذا. الآن إياك أن تُردد الكلام هذا! التوسطيات هذه كثيرة جدا، فيما يتعلق بالإنسان نفسه، بالإنسان وتطور الإنسان، لدينا أكثر من ثمانية آلاف Fossils! ثمانية آلاف حفرية! كلها تتعلق بتطور الإنسان وحده! شيء مُذهل على فكرة! هذا أصبح علما آخر! أيام داروين Darwin لم يكن هذا موجودا، فهمتم؟ فقال أنا هذا أقول به. 

معناها ويلبرفورس Wilberforce من حيث المبدأ لم يقل إن هذه الفكرة مُستحيلة، أو مُتناقضة ذاتيا، أو غير معقولة بالمرة! أبدا! أعطاها معقولية! لو أضاءها الدليل، لو عززها الكشف! قال ليس عندنا حلقات انتقالية! لماذا نؤمن بهذه الفكرة؟ شاهدها الأكبر ليس موجودا! هذا أولا.

ثانيا – وأيضا فكرة ذكية وقوية، أي إلى حد ما، في ذلك العصر – تشارلز داروين Charles Darwin من مجموعة الأدلة الكثيرة التي نوّر بها نظريته أو فرضيته، أنه كان يحتج بالانتخاب الصناعي، أي ال Artificial selection.

هناك انتخاب طبيعي، تقوم به الطبيعة، في زمانية طويلة، وهناك انتخاب صناعي، يقوم به ال Breeders؛ مربو الماشية والطيور وكذا، معروف! نعرف نحن كيف يتم هذا التهجين، وكيف تأتي عندنا أصناف – أي Kinds يُسمونها أو Varieties – جديدة! ماذا قال؟ 

وطبعا أطال النفس داروين Darwin، أي ضغط وركز على موضوع الانتخاب الصناعي، وقال لك ها هو، ويتم في عمر الفرد منا، وتطلع لنا أصناف كثيرة، وخاصة في ال Pigeons، أو الحمام. وأتى بصور للحمام وأنواع الحمام، منها الصغير، ومنها الكبير، ومنها المُنتفخ، ومنها غير ذلك! وقال لك هذا كله في الأصل من شيء واحد، وكأنها شبه أنواع، وهي ليست أنواعا، لكن كلها Kinds أو أصناف!

ماذا قال صموئيل ويلبرفورس Samuel Wilberforce؟ قال ومع ذلك بقيَ الحمام حماما، والكلاب كلابا. نقد علمي قوي، في ذلك الوقت، اليوم لا موضع له ولا معنى له طبعا، طبعا! الذي درس النظرية ودرس براهينها، يعرف مسألة يُسمونها ال Ring species؛ الأنواع الحلقية، وكثيرة الأمثلة عليها، الأنواع الحلقية! 

أي هو يأتي لك بنوع مثلا من ال Lizards؛ السحالي، العظايا – أحكي عن مثال حقيقي -! وبعد ذلك هذه تجري عليها كل الآليات التطورية، بما فيها ال Varieties هذه، أي يكون فيها أصناف جديدة، والانتخاب الطبيعي، مع ال Isolation؛ العزل. 

التطور لا يشتغل إلا في العزل. لا يوجد عزل، لا يوجد تطور، انس! فتُعزل، إما بحواجز طبيعية، من جبال أو مُحيطات أو مياه أو كذا، أو بحواجز يُسمونها تكاثرية، Reproductive barriers؛ حواجز تكاثرية، وهذه منها أنواع! منها ثلاثة أو أربعة أنواع، قصة!

إذن تعال وانظر – قال لك -، سوف تجد هذه العظايا الأبوية – ضمن الشروط التي ذكرناها هذه -، وبعد ذلك هناك عظايا أُخرى، تختلف عنها في أشياء مُعينة، وتبدأ تلف، تلف، تلف! الآن آخر شيء في الحلقة لا يتهاجن ولا يتكاثر مع الأبوين. هذا أحد المعايير المُهمة في ال Biology لتحديد مفهوم النوع. 

كيف نعرف نحن أن هذا نوع، وهذا نوع مُختلف؟ كيف نعرف؟ قصة كبيرة، ومُعقدة جدا! لكن من ضمن المُقاربات التي حظيت على قبول ومقبولية واسعة جدا جدا تلك التي قدمها عالم الأحياء أو عالم الطيور الشهير جدا، التطوري طبعا، إرنست ماير Ernst Mayr، من أصل ألماني. 

هذا من أعمدة النظرية التطورية الحديثة، بلا شك! إرنست ماير Ernst Mayr! وعالم طيور كبير جدا! هو الذي قدم مفهوم النوع البيولوجي، وقال لك يُعتبر النوع نوعا، مع ما يُظن أنه ربما ينتمي إلى نفس النوع، وفي الحقيقة هو نوع آخر، إذا امتنع التكاثر بينهما. انتهى، لم يعد هناك تكاثر. وإن كان هناك تلقيح، فلن تكون هناك ذُرية. هذا نوع آخر! كلام جميل في هذه الحدود!

الأنواع الحلقية هذه موجودة، موجودة بنسبة لا بأس بها! اسمها ال Ring species. فموضوع يبقى الحمام حماما والكلاب كلابا، كلام قوي وجميل، في عهده، في وقته. في المُستوى الذي وصلت إليه النظرية اليوم مع أدلتها، هذا كلام غير مقبول، لا يقوله إلا مَن نام مئة وخمسين سنة! لم يقرأ ولم يقف على تتابع العلم مئة وخمسين سنة! وهذا يحصل على فكرة من بعض مَن يتنطع للكلام في شيء لم يُحكمه ولم يفهمه، ويُردد مثل هذه الأدلة! ويظن أنها أدلة – ما شاء الله – قوية.

على كل حال، هذا مثال جميل، أنا أتيت به؛ لكي أُشير به إلى نُقطتين:

النُقطة الأولى أن صموئيل ويلبرفورس Samuel Wilberforce مُشايع لنموذج الفصل بين العلم والدين، ويحترم حدود كل منهما، وهذا شيء جيد!

والشيء الثاني أنه لم يكن ذلك الرجل اللاهوتي المُغلق، الذي يُعارض على أسس لاهوتية بحتة، دون حتى أن يفهم النظرية. 

واضح أنه فهمها، بحسب ما سمحت به قدراته، لياقاته، مؤهلاته العلمية. وحاول أيضا، ونجح في ذلك، أن يُناقش علميا، ليس لاهوتيا، نظرية علمية بطبيعتها، وليست لاهوتية، وهذا شيء جميل!

أكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. 

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: