أسماء الله الحسنى l المهيمن 2/2 l الحلقة 15

video

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، يا ربي لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه، كما تُحِب وترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.

ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، ونشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمداً عبد الله، ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين المُنتجَبين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا وعليكم، والمُسلِمين والمُسلِمات، معهم بفضلك ورحمته أجمعين، اللهم آمين.

ربنا تقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا يا مولانا، إنك أنت التوّاب الرحيم. اللهم تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركعونا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا، وبلِّغنا مما يُرضيك آمالنا.

سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً.

هناك أُناس طبعاً يسألون، يقولون؛ نسمع ونقرأ عن كلمة عارف أو العارف بالله أو العرفان، فما معنى هذا؟ لماذا هو عارف؟ ها نحن عارفون بالله! صحيح، أنتم عارفون بالله، وكلنا عارفون بالله، ولكن العرفان على درجات، وعلى معانٍ. وله معنيان رئيسان؛ عرفان بالخبر، وعرفان بالخبرة. عرفان بالخبر، وعرفان بالأثر. عرفان بالعلم، وعرفان بالذوق. درجتان رئيستان!

عرفان بالخبر؛ هذا مُيسَّر ومُتيسِّر لنا جميعاً – الحمد لله -، ما شاء الله نحن الآن نجلس ونتحدَّث في الدرس عن أسماء الله الحُسنى. أي كلنا نعرف أن الله قوي، عزيز، جبّار، مُهيمن، قهّار، رقيب، واجد، ماجد، خالق، مُبدِع، رافع، واضع، مُعِز، ومُذِل، و… فنعرف، نعرف أشياء كثيرة، وهو قادر على كل شيء. ولكن كل هذا عرفان ماذا؟ عرفان خبر. سمعناه في الكتاب والسُنة، ونردده ونقوله. هل جربناه؟ هل نعيشه حقيقةً؟ هل هذا مخلوط في لحمنا ودمنا وعصبنا وأنفاسنا؟ هل سلوكنا وتصرفاتنا تُؤكِّد أننا مُوقِنون حقاً بهذه المعاني؟ هذه المُشكِلة طبعاً. لو كان ذلك كذلك، فهذا هو العرفان بالخبرة. أنك تعيش أن الله فعلاً رقيب، و: قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۩، وأنه مُهيمن، وأنه يرى ويسمع ويُبصِر – لا إله إلا هو -. حين تعيش هذا المعنى البسيط، تُصبِح من العارفين، تُصبِح من العارفين بالله – تبارك وتعالى -، أليس كذلك؟ وتختلف كل سلوكاتك، وكل أفعالك تختلف، تُصبِح إنساناً مُختلِفاً تماماً.

ولكن عرفان الخبر هذا شيء سهل جداً جداً، تُحصِّله من كتاب، تُحصِّله من درس أو من مُحاضَرة، لا تُوجَد أي مُشكِلة، وكلنا نعرف هذا، فهذا العرفان مُيسَّر للجميع، ولكن العرفان الثاني هو أن نعرف، فنسأل الله أن يُحقِّقنا به، وأن ينفحنا من نفحاته في هذه الأوقات الشريفة، اللهم آمين.

فقالت ماذا – أي العارفة بالله، في الدرس السابق؛ الرابع عشر – ؟ مَن عبد الله على المُشاهَدة، فهو العارف. ومَن عبد الله على المُراقَبة، فهو المُخلِص. وأيهما أشرف؟ العارف طبعاً، العارف أشرف من المُخلِص. أليس كذلك؟ وكل عارف مُخلِص، ولكن ليس كل مُخلِص عارفاً. ليس كل مُخلِص عارفاً، ولكن كل عارف مُخلِص! والله – تبارك وتعالى – أعلم.

جاء رجل، وسأل الإمام أحمد – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وقدَّس الله سره، ونوَّر ضريحه -، وقال له يا أبا عبد الله، الشِعر، ما تقول فيه؟ والإمام أحمد لا يُحِب الأشياء هذه، الشِعر والكلام الفارغ لا يُحِبه، كان يُحِب الكتاب والسُنة، في السُنة كان يحفظ مليون حديث، نعم! شيء عجيب، الإمام أحمد يحفظ ألف ألف حديث، وهو الذي قال هذا عن نفسه، قال أنا أحفظ ألف ألف حديث. يُعطونه السند، يُعطيهم المتن. يُعطونه المتن، يُعطيهم الأسانيد. ما هذا؟ أفضل وأحسن من الكمبيوتر Computer، هذا هو، وفي كل شيء! أي الله فتح عليه فتحاً كبيراً، وطبعاً هذا إمام ويستأهل، شيء عجيب هذا الرجل! ومات وهو يكتب ويتعلَّم، طيلة حياته وهو كذا، لم يقل في حياته مرة أنا عالم، أنا الإمام. أبداً! طيلة حياته يتعلَّم، وقالوا له يا إمام، إلى متى إذن؟ أنت الآن صرت شيخ الإسلام. كان أكبر حافظ في أمة محمد، في وقته كان أكبر حافظ! لم يكن هناك إنسان يحفظ مليون حديث، مُستحيل! فقال لهم من المحبرة حتى المقبرة. ما هذا؟ إلى أن نموت، نحن طلّاب علم، ولا يُمكِن غير هذا، سنظل نتعلَّم. عالم! وعنده الكثير، والله أعطاه الكثير، وكان يقول والله إني لأخشى ألا يأجرني الله في هذا العلم بشيء. أي بأي نوع من الأجر، هذا هو، يُمكِن ألا يُعطيني أي حسنة. لماذا يا أبا عبد الله؟ قال شيء حُبّب إلى نفسي. أي لأنني أُحِبه، أُحِبه! أي مثل شهوة لي. الناس شهوتها في الأكل والشرب والمال، وأنا شهوتي في العلم. ونحن نقول لا، إن شاء الله، سيُؤجره الله – إن شاء الله تبارك وتعالى -. لماذا إذن؟ لأن الذي حبَّب إليك العلم – تصوَّر-، هو الله – تبارك وتعالى -، لكرامتك على الله.

وخذوا هذه القاعدة واحفظوها، مُهِمة جداً جداً، وهي مُهِمة؛ لأنها – إن شاء الله – فيها فائدة، أي فيها فائدة لأرواحنا ونفوسنا وتربيتنا؛ إذا أردت أن تعرف مقامك عنده، فانظر فيما أقامك. سهلة وحلوة، أليس كذلك؟ إذا أردت أن تعرف مقامك عنده، فانظر فيما أقامك. يا الله! وهذه الكلمة لأحد العارفين بالله، وكلمة مُؤثِّرة جداً. تقول أنا أُريد أن أعرف حالي، ومكانتي عند الله، هل هو يُحِبني أو لا يُحِبني؟ هل لي قدر عند الله ولي وجاهة، أم أنني نازل؛ نازل القدر؟ فكيف تعرف؟ سهل؛ انظر فيما أقامك. وليست فيما أقامك على العموم هكذا، وإنما دائماً، في كل لحظة! فأنت تقول أنا في الساعة هذه، في ماذا يُقيمني الله؟ في ذكر. الحمد لله، يا ربي لك الحمد، اللهم زيادة يا ربي، اللهم لك الشُكر، وزِدني. في اللحظة هذه، في ماذا يُقيمني الآن؟ جالس أعطي علماً، أو أُعلِّم علماً، أو أتعلَّم علماً. اللهم يا رب ارزقني النية والإخلاص في ذلك، وباعد عني الرياء – تصوَّر – وزِدني. الحمد لله، هذا الشيء طيب جداً جداً، هناك أُناس الآن، الله لم يُعطهم هذا. هناك أُناس صلوا معنا الآن وعادوا إلى بيوتهم وكانوا مُتعبين، مَن بات كالاً من يده، بات مغفوراً له. فغفر الله لهم، هؤلاء مُجاهِدون! وهناك أُناس عادوا إلى بيوتهم، وعندهم – ما شاء الله – أنواع أُخرى من العبادات، زادهم الله. وهناك أُناس اعادوا إلى بيوتهم، لكي يُشاهِدوا التمثيليات، مساكين! في رمضان؟ في غير رمضان، قلنا يُمكِن هذا. وفي رمضان أيضاً؟ في الأوقات الشريفة؟ مُستعجل على التلفزيون Television. فللأسف هذا من المفروض أن يتساءل فيم يُقيمني الله الآن؟

إذا أردت أن تعرف مقامك عنده، فانظر فيما أقامك. وبشكل عام طبعاً كيف يكون هذا؟ بشكل عام هناك واحد أقامه الله طبيباً، علَّمه الطب وما إلى ذلك، وفتح عليه. والله هذا جيد؛ لأن هذا يُخفِّف آلام الناس وتباريح الناس، ويُواسي المرضى والجرحى، أليس كذلك؟ يُقدِّم خدمة مُمتازة عند الله. ومن أعظم العبادات، ومن أعظم ما يتقرَّب به المُتقرِّبون إلى الله إدخال السرور على قلب المُسلِمين. ومن أعظم السرور أن يكون هناك إنسان عنده ألم وأنت تُعالِجه وتشفيه ويرتاح، أليس كذلك؟ فلك أجر عظيم. هذه خدمة شريفة جداً جداً، أي الطب، من أشرف الخدمات، وهذا صحيح! آخر مُهندس، يبني للناس، يُكنهم من المطر ومن الحر ومن غير ذلك، مُمتاز والله، ويفعل أشياء طيبة، يُهندس مساجد وبيوتاً، مُمتاز! والحمد لله، هذا الشيء شيء شريف. وأي عمل قد يكون شريفاً – إن شاء الله تعالى -، ولكن هناك ما هو أشرف من كل هذه الأشياء، ما هو؟
(ملحوظة هامة) قال أحد الحضور مُجيباً: العلم. فقال الدكتور عدنان إبراهيم: العلم الشرعي بالذات، العلم الشرعي! وحتى العلم الدنيوي شريف جداً جداً، كالفيزياء والكيمياء والذرة والرياضيات، من أشرف الرياضيات، ولكن هناك أشرف علم، ولا يستطيع واحد أن يقول أبداً إن هناك علماً أشرف من هذا العلم، وهناك خطر عليه لو قال هذا؛ لأن شرف العلم تابع لشرف المعلوم. وما هو المعلوم بالعلم الشرعي؟ ما يتعلَّق بالله، بأسمائه، بصفاته، برضوانه، بقربانه، بأمره، بنهيه، بشرعه، بأنبيائه، بكلامه، وبوحيه. أف! أشرف شيء، فأحياناً يكون الله أقام بعض الناس هذا المقام. وهذا المقام وهذه الوظيفة، وظيفة مَن؟ الأنبياء والرُسل. طبعاً! أنت وظيفتك وظيفة أبُقراط Hippocrates أو جالينوس Galenus أو الرازي أو ابن النفيس، وهذا مُمتاز أيضاً، وهو علم، وكما قلنا الطب شيء مُمتاز، ولكن هذا العالم أو الداعية، وظيفته وظيفة مَن؟ نوح وإدريس ومحمد وإبراهيم وموسى وعيسى. أف! أشرف وظيفة على الإطلاق. فيا ليت كل داعية وكل طالب علم وكل شيخ وكل واعظ يفهم هذا الشيء فهماً حقيقياً، فيحترم نفسه ويُعزها ويُكرِمها، ولا يرى نفسه حقيراً وذليلاً.

أحد العلماء ذات مرة جاءه الملك، وهذا كان من علماء الهند أيضاً، وفيها علم كثير أي الهند – وفيها أئمة. وجاء الملك المغولي، وجلس عنده، وكان الملك تعباناً، كان مريضاً، فمد رجله، فقال له اقبض رجلك. مجلس علم – قال له – هذا، أجئت ووضعت رجلك هكذا؟ فقال له يا مولانا، والله تعب. قال له إذا علمت نفسك تعباً، فالمجلس ليس بحاجة إليك. أي تجلس في بيتك. أف! يا الله! ونقول لماذا كانوا أعزاء؟ ولماذا كانوا منصورين؟ كانوا يحترمون الشرع. وأول ناس يجب أن يحترموا شرع الله العلماء، أليس كذلك؟ أول ناس يجب أن يُعظِّموا وأن يُقدِّسوا وأن يُعلِّموا الناس كيف يُحترَم شرع الله وعلم الله هم العلماء.

هناك قصة حكاها لي أخ كردي، من مناطق الشمال. قال لي كان لدينا شيخ كبير في السن، واعظ كردي شافعي ورجل تقي، وهو معروف بالتقوى – ما شاء الله – والزُهد في الدنيا. فصدام حسين أو بالأحرى جماعة حسين والمُخابَرات العراقية، كانوا يُوزعون أحياناً خُطباً – وهذا أيام الحرب مع إيران -، ولا بد وأن يخطب بها الكل، وإلا يُمكِن أن تُقطع رأس الإنسان بسببها أو يُحرق حرقاً، هذا هو! لا بد وأن تخطب بها رغماً عنك. وهذا الشيخ لا يُمكِنه فعل ذلك، لا يقول كلمة لا تُرضي الله. قرأ الخُطبة، ووجد فيها فظاعة. وهم يُعطونهم إياها في أول الأسبوع أو في نصف الأسبوع، ويقولون لكل واحد في يوم الجُمعة اخطب بها. فذهب إلى طبيب الأسنان، وقال له يا ابني اخلع لي أسناني. والله قد متَّع هذا الشيخ الكردي بصحته. قال له ولكن يا مولانا، أسنانك في حالة جيدة، تُحسَد عليها، جيدة! قال له يا ابني، أنا أقول لك اخلع أسناني، أنا لا أُريدها، أتعبتني أسناني هذه، ولا أُريدها. قال يا رجل، أنت في عقلك؟ أنت محموم؟ أنت كذا؟ قال له لا، أنا لا أُريدها، اخلع أسناني. المُهِم، فعلاً اضطره رغماً عنه أن يخلع أسنانه، وأصبح أهتم، لا يعرف أن يتكلَّم أبداً، أهتم!

وبعد ذلك أتى يوم الجُمعة، ولم يذهب إلى الخُطبة، وصار المسجد في حيص بيص؛ وأين الإمام؟ وأين كذا؟ وجاء رجال الاستخبارات إلى البيت، وقالوا له تعال يا مُجرِم، (يا أخو كذا، ويا كذا)، تعال، لماذا لم تخطب؟ قال لهم والله أنا أسناني كلها سقطت مرة واحدة، وأنا ضعيف هكذا، وكانت أسناني تتعبني، وسقطت الأسنان، ولم أستطع أن أتكلَّم، وهذه هي. فتركوه. فقلت ما شاء الله، ضحى بشيء قليل – والله العظيم -، وفاز بشيء كثير، وكثير جداً! أرأيتم كيف يكون الرجال؟ أرأيتم أهل العلم؟ هؤلاء هم العلماء، هؤلاء هم العلماء!

بالأمس في الليل فكَّرت؛ لِمَ عبر التاريخ الإسلامي، وعبر الواقع الإسلامي يحصل الآتي؟ والله العظيم، يُوجَد – أيها الإخوة، والأخوات – مئات الآلاف من العلماء، وأنا مُتأكِّد أن أكثركم لم يسمع بمُجرَّد حتى أسمائهم، فأنتم الآن – وأنا مُتأكِّد – تعرفون من كل علماء الإسلام الأئمة الأربعة، الغزّالي، ابن تيمية، ابن القيم، ابن حجر، السيوطي، النووي، الشعراني – وليس الشعراوي، إنما الشعراني؛ عبد الوهاب الشعراني -، أي أسماء مشهورة، وتعرفونهم هؤلاء الناس، ولكن لا يزال هناك أسماء لم تسمعوا بها في حياتكم، وألَّفوا كُتباً بالمئات، مئات المُجلَّدات! وهم علماء وفطاحلة. وهنا يكمن سؤال خطر على بالي بالأمس، في الليل؛ لِمَ شاءت قدرة الله وحكمته أن يُشهَر علماء مخصوصون، وليسوا دائماً هم الأعلى؟ أي ليس من أجل الأعلمية، لا! هناك أُناس أعلى منهم، في بعض الحالات هناك أُناس أعلى من بعض المشهورين، هل تعرفون لماذا؟ وهناك أُناس آخرون طُويَ ذكرهم!

وفي الحقيقة الذي أوحى إلىّ بهذا الجواب – فهذه ليست شطارة مني، ولا حتى فتح من الله – كلمة كنت قرأتها لعالم أيضاً، قبل فترة – لا أدري كم -. استوحيتها، وقلت نعم، هذا هو. فهل تعرف ماذا يقول هذا العالم – ما شاء الله، وهو مُحدِّث كبير -؟ قال فلان أعلم من فلان بكثير، وكُتبه أجود من كُتب فلان تحقيقاً ورصفاً وأسلوباً ومادةً بكثير، لكن لا أدري لِمَ أقبل العلماء وطلّاب العلم على كُتب فلان عبر التاريخ… هذا هو، سُبحان الله! الله كتب القبول لكُتب فلان، ولم يُكتب القبول لكُتب فلان. قال لعل في الأمر شيئاً، يعود إلى النية. لعل نيته كانت مدخولة حين كتب ما كتب، لم يكن عنده قدر كافٍ من الإخلاص، مثل إخلاص الآخر، فالمسألة ليست بالأعلمية.

واحد مثل الشيخ كشك – رحمة الله عليه -، هل تظنون أنه كان عالماً كبيراً؟ بحسب ما سمعنا منه وقرأنا له، هو عالم مُتواِضِع جداً في علمه – رحمة الله عليه -، وطبعاً لأنه كان ضريراً، فلم يقرأ المسكين كثيراً. فهو عالم مُتواضِع في علمه! هو عالم طبعاً، ولكن مُتواضِع حقيقةً، أي هو ليس بعلّامة كبير، لا! ولا يُقاس بمئات العلماء في مصر الذين يُوجَدون الآن ولا الذين كانوا يوجدون في أيامه، لا يُقاس من الناحية العلمية! ولكن – سُبحان الله – كم انتفعت الأمة بالشيخ كشك – رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة -! ملايين انتفعوا بالشيخ عبد الحميد كشك، أليس كذلك؟ وهو واعظ، واعظ وخطيب جُمعة. ملايين! ملايين هداهم الله بفضل هذا الرجل الصالح – قدَّس الله سره الكريم -، أليس كذلك؟ ملايين من الرجال والنساء. كل مَن سمع الشيخ كشك، تأثَّر به، وهز أوتار قلبه، والله العظيم!

وأنا صغير لم أكن أُحِب أن أسمعه، كان يُخيفني. كنت صغيراً ولا أُحِب أسلوبه هذا، حين يصرخ قائلاً الله وما إلى ذلك، كنت أخاف وأقول لا، ما هذا؟ ولم أكن أسمعه، لا أُحِب هذا، لا أُحِب! المُهِم أنني بعد ذلك أصبحت شاباً، وقلت سأسمع لهذا الرجل. فهزني والله، وإلى الآن يهزني. يهزك حين تسمع له، وتتحدى نفسك؛ لأن هناك أُناساً يخافون من أنفسهم. تحد نفسك واسمع له، أُقسِم بالله يهز قلبك هزاً. والله حين يبدأ يُردِّد أسماء الله، والله العظيم يهز القلب هزاً، هل تعرفون لماذا؟ لأنه يقول بصدق. وطبعاً سمعنا خُطباء آخرين يُحاوِلون أن يقلدوه، وهذا كلام فارغ، ولا يهز الواحد منهم حتى شعر جلدك؛ لأنه تقليد! يصرخ قائلاً الله، يا الله. وكيف هذا؟ هل أنت تُقلِّد؟ اذهب، اذهب!

لكن الشيخ كشك من قرارة قلبه، ومن حُشاشة فؤاده، يهزك هزاً، كل كيانك يهتز، وتشعر أنك في حضرة رجل من أكبر أولياء الله، وفعلاً هو كان – إن شاء الله – من كبار أولياء الله، أليس كذلك؟ الشيخ كشك كان من كبار أولياء الله. ذات مرة أقسم في الخُطبة، قال والله الذي لا إله إلا هو، إني لأرى مَن بالمسجد جميعاً، وأرى مَن هم خارج المسجد، إلى الشارع الفلاني، أراهم جميعاً، واحداً واحداً. فما هذا؟ أليست كرامة هذه؟ ألم تنكشف بصيرته؟ وذات مرة قال والله الذي لا إله إلا هو، لو تعلمون من الله ما أعلم – أي الذي أعلمه -، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولكن سيظل سراً في نفسي إلى أن يأذن الله. أي لن أقول! كان يعرف أن هناك كوارث ستأتي إلى أمة طبعاً، وإلا ما معنى لبكيتم؟ معناها أن هناك كوارث ستأتي إلى أمة محمد. فكيف إذن؟ كيف عرف الشيخ هذا؟ وذات مرة قال كلمة هامة، وقد قلتها لكم – أي هذه الكلمة – من قبل، ولكنني أُحِب أن أقولها دائماً والله؛ لأنني أُحِب هذا الرجل، وأسأل الله أن يجمعني به – إن شاء الله -؛ لأنه من صالحي أمة محمد، ويا ليت كل علمائنا مثل الشيخ كشك – رحمة الله عليه -! هذا الواعظ الذي بعلمه البسيط حرَّك الأمة. والأمة دائماً حين تكون أمة ميتة أو نائمة أو مُتغافِلة، تحتاج إلى الصادقين، ليهزوها. وليس فقط إلى العلماء الذين يحفظون علماً كثيراً، لا! العلم الكثير لا ينفع، والله العظيم! إلى الصادقين. الصدق هو الذي يهز، وهو الذي يُحرِّك، وهو الذي يُغيِّر.

فهل تعرف ماذا قال الشيخ كشك – قدَّس الله سره – ذات مرة؟ قال هذه العمامة لن تسجد، لن تركع، إلا لله. تعلمون لماذا؟ قال لهم لأن الذي لفها، هو رسول الله بيديه. (يا عيني، يا عيني على الكرامات)، الرسول لف له عمامته بيده، هذه المشيخة، هذه المشيخة! هنا أصبحت شيخاً بنسبة مئة في المئة، معك كتاب ممهور – تصوَّر -، بمهر أو بختم رسول الله؛ أنت شيخ، أنت من علماء أمتي، انتهى! وطبعاً الإنسان الذي لف الرسول عمامته له – وهذا في المنام طبعاً -، كيف يُمكِن له أن يذل لغير الله؟ كيف يُمكِن له أن يخاف من غير الله؟ كيف يُمكِن له أن يرجو غير الله – تبارك وتعالى -؟ والله هذا لا يكون.

والله حدَّثني أخ بالآتي، وهذه القصص كلها حدَّثتكم بها في دروس قديمة، ولكن سنذكرها هنا؛ لأن جاءت مُناسَبة. هناك أخ هندي – ما شاء الله -، وهو عالم وصحفي وتاجر كبير، اسمه محمد يوسف نواب خان الهندي، حياه الله أينما كان. تعرفت عليه ربما من سبع عشرة سنة تقريباً أو من خمس عشرة سنة تقريباً، يعرف أربع عشرة لُغة، يُجيد أربع عشرة لُغة إجادة تامة، كالبلبل! يتحدث بطلاقة، ومنها العربية طبعاً، وهو مُثقف، ومكتبته بجميع هذه اللُغات؛ هناك ما هو بالفارسي، وهناك ما هو باليوناني، وهناك ما هو بالألماني – هذه اللُغة يعرفها طبعاً -، وهناك ما هو بغير ذلك، أف! أي هناك ما هو بالإيطالي، وهناك ما هو بالإسبانيولي، فظيع! وهناك ما هو بالبنغالي – يعرف اللُغة البنغالية أيضاً -، وهناك ما هو بالأوردو. فالمُهِم، قال لي بصوت خفيض يا أخي، الشيخ كشك (عبد الحميد كشك) هذا من أولياء الله. وهكذا كان يتكلَّم هذا هذا الهندي. فقلت له إن شاء الله، أنا أعتقد ذلك، ولكن لماذا؟ قال أنا أقول لك، أنا أُثبِت لك أنه من أولياء الله، الله أراني بُرهانين على أنه من أولياء الله. ولي!

قلت له كيف؟ قال لي أنت تعرف أن الرسول يقول الولي إذا رأيته، قلبك يقول الله الله الله. وهذا صحيح، والنبي قال مَن إذا رُؤوا، ذُكِر الله. الولي حين تراه، مُباشَرةً أنت تشعر بنوع من الرقة والخشوع ومحبة الله وأن قلبك يهفو إلى الله – عز وجل -، فتعرف أنك أمام ماذا؟ أحد أحباب الله. يُذكِّرك بالله، هو هذا، هكذا! هو هكذا. صحيح، وهناك العكس، وهذا يُعتبَر مثلا حقيراً، ولكن للأسف هناك أُناس حين ترى الواحد منهم – بمجرد أن تراه – يقسو قلبك، وتتذكر الدنيا، مُباشَرةً! وتقول يا ليتني مثله. وتبدأ تتماوج فيك الشهوات، حين تراه – سُبحان الله – تتحدَّث عن هذا الدبوس والأشياء الفاخرة جداً جداً، وعن السيارة التي ينزل منها، والعطر الذي يستخدمه، وعن هذه السيجارة، وكل هذا دنيا في دنيا، ويُذكِّرك بها، والله العظيم! وأحياناً يجذبك هذا، ويقسو قلبك، وتصير مثله. وتتصاغر نفسك أمام نفسك، وتقول يا ليتني مثله! يا ليتني بدأت في الطريق هذا وصرت على هذا النحو! لا، بالعكس، كل واحد بحسب مجاله؛ هذا مجاله دنيوي، وذاك مجاله إلهي رحماني.

فقلت له وماذا عن البُرهان الثاني؟ في الأول قال لي أنا حين رأيته قلبي كان يقول الله الله الله الله، حتى ذهبت من بيته – أي بيت الشيخ كشك، رحمة الله عليه -. فقلت له وماذا عن البُرهان الثاني؟ فقال لي البُرهان الثاني أعجب. قلت له كيف؟ قال لي أنا حين دخلت بيته – زاره في البيت، ما شاء الله -، وجدت أن أُناساً كثيرين في البيت، وهناك أُناس على الباب يقفون، يجلسون قليلاً ثم يخرجون، ويأتي غيرهم، والواقف يجلس. وهكذا. قال لي، كثيرون، ومن كل أنحاء العالم الإسلامي. وهذا هندي، انظر! سمع به وتأثَّر به.

قال فأنا جئت وجلست بين الناس، وهم كثيرون، جلسنا جميعاً. أُناس من كل أنحاء العالم الإسلامي! قال وجاء الخادم أو أحد تَلاميذه بالشاي – أي معه طبق عليه شاي هكذا -، فقام الشيخ كشك الضرير وقال هات. وهل هو ضرير؟ والله بصير، نحن المضرورون، والله نحن المضرورون في أبصارنا وبصائرنا، نحن المضرورن، وهو ليس ضريراً، والله! هو بصير. فقام الشيخ كشك – رحمة الله عليه – وقال هات، أنا أُعطي الشاي لهم. فقال له لا يا مولانا. لأنه ضرير، ولا يعرف أن يفعل ذلك. فقال له هات، أنا أعطي الشاي لهم. وهو يُريد هذا، هكذا هو مأذون له، يُريد!

قال جاء، وبدأ يُعطي، لا يُخطئ واحداً – أي لا يُعطي في النصف هكذا، عارف -، ثم وصل إلىّ. وطبعاً لا يحدث تعارف، لم يُعرَّف أحد بنفسه، الناس يقعدون فقط، يتكلَّمون ثم يخرجون، لا يُوجَد تعارف، ولا يُوجَد وقت للتعارف. قال لي والله يا أخ عدنان، حين جاء عندي، قال أهلاً بضيفنا الهندي، تفضَّل. قال أنا شعري هكذا صار واقفاً! كيف إذن؟ كيف رآه؟ وكيف عرفه؟ وكيف عرف أنه من الهند، من بين مئات الجالسين القاعدين؟ قال أتى عندي، وقال أهلاً بضيفنا الهندي، تفضَّل. رحمة الله تعالى عليه، أرأيتم العلم؟ هذا هو، هذا العلم الذي ينفع في الدنيا والآخرة – إن شاء الله -. فكثَّر الله من أمثال هذه النفوس الطاهرة، وأمثال هذه الأرواح المُقدَّسة العابدة لله – تبارك وتعالى -.

باختصار هذا هو، المُهِم – طوَّلنا عليكم، وإن شاء الله ينفع الكلام هذا – أن الإمام أحمد سألوه؛ يا أبا عبد الله، الشِعر، ما تقول فيه؟ وهو لا يُحِب الشعر. قال لهم مثل ماذا؟ فقال أي الشعر الذي يقول:

إذا ما قال لي ربي                                               أما استحييت تعصيني؟
وتُخفي الذنب من خلقي                                             وبالعصيان تأتيني؟

قال فدخل بيته مُباشَرةً – أي أبو عبد الله – وأغلق الباب. قال فسمعنا بكاءه وشهيقه. يبكي ويشهق، يبكي ويشهق! من البيتين هذين؛ لأن لهما علاقة بالمُراقَبة، أليس كذلك؟ وبالأدب مع الله.

إذا ما قال لي ربي                                               أما استحييت تعصيني؟
وتُخفي الذنب من خلقي… يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۩، في سورة النساء، هذا هو! هؤلاء هم.

وتُخفي الذنب من خلقي                                             وبالعصيان تأتيني؟

ألا تستحي؟ إذا قال لك الله هذا يوم القيامة، فكيف سيكون جوابك؟ معروف! قال لك سوف ينزل كل اللحم عن بدنك، ويُصبِح وجهك – تصوَّر – عظماً يتقعقع، يتقعقع من شدة الحياء من الله! حين يقول لك هذا، ألم تكن تستحي مني، وتستحي من البشر؟ وكل هذا ينزل، كله! أمام الله – تبارك وتعالى -.

قال الشاعر:

إذا ما خلوت الدهر يوماً، فلا تقل                        خلوت، ولكن قل علىّ رقيب.
إذا ما خلوت الدهر يوماً، فلا تقل خلوت… أي لا تقل هذا، لا تُوجَد خلوة! ولكن قل علىّ رقيب.

ولا تحسبن الله يغفل ما مضى                             ولا أن ما يخفى عليه يغيب.
ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب                                  وأن غدًا للناظرين قريب.

هذا هو! وبعد ذلك خرج أبو عبد الله، وقال لهم مَن قال الشِعر، فليقل شِعراً كهذا. إذا كان لا بد من الشِعر، فليكن هكذا، ذكِّروا الناس بالله. هذا الشِعر مُمتاز. قال لهم، هذا الشِعر نحن نُصادِق عليه. قال لهم، أرأيت الإمام أحمد – رحمة الله عليه -؟ أما أشعار الغزليات والكلام الفارغ، فلا.

الإمام أبو حامد على ما أذكر في كتاب المُراقَبة والمُحاسَبة – رحمة الله عليه -، من كتاب المُنجيات، من إحياء علوم الدين، ذكر هذه القصة، وهي قصة مشهورة، وتُحكى عن الإمام القُطب أحمد الرفاعي – قدَّس الله سره -، والله أعلم بحقيقتها.

قال أبو حامد – قدَّس الله سره – كان هناك رجل من أولياء الله والعلماء العاملين، وعنده مجموعة مُريدين، إلا أنه كان يُقرِّب واحداً هو من أصغرهم، أو كان أصغرهم. هناك واحد صغير، هو أكثر مَن كان يُقرِّبه ويحترمه ويُدنيه. فعتب عليه كبار مُريديه، وقالوا يا مولانا، أنت تُقرِّب هذا الصغير، ونحن أسن وأكبر منه؟ أي وما الميزة فيه؟ بماذا يمتاز عنا هو؟ قال لهم ميزته؟ إذن أنا سأُريكم هذا – إن شاء الله – في يوم من الأيام.

فبعد حين – حتى ينسوا القصة – دعا بهم، وقال لهم أُريد من كل واحد منكم أن يأخذ دجاجة – هو أحضر لهم دجاجاً – وسكيناً، على أن يذبح الدجاجة في مكان لا يراه فيه أحد. وعندي حكمة فيها، عندي سر! فقالوا سهلة، لا تُوجَد مُشكِلة. كلهم ذهبوا، أي هؤلاء الكبار (الختيارين) والكهول وما إلى ذلك، وذبحوا وذبحوا وذبحوا، ثم رجعوا. وجاء هذ الطفل الصغير – سُبحان الله، طفل! والله هكذا فتح بصيرته – ومعه الدجاجة والسكينةً، وهو ينكس رأسه. فقال له يا بُني، ألم تسمع أمري؟ قال بلى يا سيدي، ولكن حاولت، وبحثت في كل مكان، ولم أجد مكاناً لا يراني فيه الله. نعم! فأعجبتهم جميعاً هذه المُراقَبة، وقالوا حُق له الإكرام. والله يستأهل، أحسن منا. أي هذا الطفل، هذا فتح الله عليه. طبعاً  هذا هو! وطبعاً هو وهم حتى لم يسمعوا القصة من قبل، فأنتم الآن لو قلت لكم اعملوا مثل هذا، فسوف ترجعون جميعاً وتقولون أين هذا؟ لم نجد هذا يا أخي، الله في كل مكان. لا! هذا لا ينفع، هم لم يسمعوا القصة هذه قبل ذلك، ولذلك ذبحوا. هذا الطفل عنده حال إلهية مع الله، الله هكذا فتح عين البصيرة عنده، وحده هكذا من غير تعليم، من الله – تبارك وتعالى -، ويشعر بالرقابة بشكل دائم.

يقول عبد الله بن دينار، التابعي الجليل، كنت مع عمر بن الخطاب – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، فعرسنا من آخر الليل. وأنتم تعرفون التعريس. النزول في آخر الليل، اسمه التعريس. والمكان اسمه المُعرَّس. قال فعرسنا من آخر الليل، فانحدر إلينا راعٍ – أي راع للغنم – من أعلى الجبل، ومعه شويهات له. فقال له عمر – رضيَ الله عنه وأرضاه – يا راعي الغنم، بعني هذه الشاة. قال يا سيدي – وهو لا يعرف أن هذا أمير المُؤمِنين، لا يعرفه، يظن أنه إنسان عادي، لا يعرف -، هذه الشويهات ليست لي، وإنما أنا أجير. أنا أجير، وهذه لسيدي! قال فإن سيدك لا يراك. انظر، عمر يُريد أن يختبر رعيته، يُريد ان يرى، نعم! يُريد أن يطمئن عليهم، وهو قلبه عليهم طبعاً – قدَّس الله سره -.

قال له فإن سيدك لا يراك. يُمكِن أن تبيعها وتأخذ ثمنها! قال له والله يا سيدي، إنني في هذه الأيام، لأحوج ما أكون إلى ثمنها – صحيح أنني في هذه الأيام بالذات عندي ضائقة مالية -، ولكن أين الله؟ إذا كان سيدي لا يراني، فأين الله؟ فبكى عمر، قال أين الله؟ انطلق يا بُني راشداً.

فذهب، وقد أخذ عنه معلومات طبعاً وسأل وما إلى ذلك، ثم غدا من الصباح – أي سيدنا عمر – إلى سيده، تصوَّر! ودفع ثمنه. وهو كان عبداً في الحقيقة، أي هو حتى ليس أجيراً، هو كان عبداً مملوكاً، أستغفر الله. ودفع ثمنه، وأعتقه. انظر! كافأه، انظر، هذا هو، هذا الإمام، كافأه؛ لكي يُعلِّمه أن يكون دائماً على الإخلاص والمُراقَبة، لها أثر حميد في الدنيا والآخرة – إن شاء الله -.

وقال له يا بُني، لقد قلت كلمة – وهي ماذا؟ أين الله؟ – أعتقتك في الدنيا، وإني لأسأل الله أن تعتقك في الآخرة. اللهم آمين، انظر إلى هذا الموقف العجيب. لا يُمكِن – قال له -، لا أقدر، أين الله؟

أنتم تعرفون إبراهيم بن أدهم، أليس كذلك؟ أكيد سمعتم به. إبراهيم بن أدهم أحد الأولياء الكبار! هذا كان أبوه أميراً، أو ملكاً حتى كما يُقال، وبعد ذلك ترك كل شيء لوجه الله، هكذا! المُهِم، أصبح مسكيناً، وأصبح فقيراً زاهداً، لا يملك شيئاً في الدنيا، إلا ماذا؟ الأُنس بالله، وحُب الله – تبارك وتعالى -.

إبراهيم بن أدهم عمل يوماً أجيراً؛ لكي يعيش، وهو كان ابن ملك، أو ابن أمير كما يُقال. عمل أجيراً في بُستان، لرجل – صاحب هذا البُستان -، وهو بُستان كبير. فجاءه صاحب البُستان بعد أشهر من الخدمة، وقال له يا رجل – وهو لا يعرف أن هذا مَن؟ إبراهيم بن أدهم. لو كان يعرفه، لقبَّل رجليه. كان معروفاً في العالم الإسلامي كله، إبراهيم بن أدهم هذا كان قُطباً كبيراً – أو يا فلان، أو يا أيها الأجير، أعطني رمانة حلوة. رمانة حلوة؟ أعطاه رمانة، فإذا هي حامضة، (تعبانة). قال له قلت لك رمانة حلوة، تباً لك، أتأتيني بحامضة؟ قال يا سيدي، لا أعرف. وأعطاه رمانة ثانية، فإذا هي أسوأ من أختها، فتغيظ عليه. وقال له ما أحمقك! قال له يا سيدي، أنا لم أذقه. قال ماذا؟ لم… ماذا؟ لم تذقه؟ لك أشهر، وتزعم أنك لم تذقه؟ وهو مسكين ويتكلَّم بكل حُسن نية وصدق، لا يُوجَد غير هذا. لا أقدر على أن آكل شيئاً ليس لي.

فغضب عليه، ثم طرده من العمل. كذَّاب – قال له – أنت. أكبر كذّاب! أي أحمق وكذّاب أيضاً، ألا تعرف هذا؟ ومن المُؤكَّد أنك أكلته كله وتُنكِر. طرده! فأتى بعامل آخر، وبعد فترة قال له أعطني رمانة حلوة. فأحضر له رمانة هكذا، من أحسن ما يكون، عسل! وقال له خُذ يا سيدي. فقال له نعم، هكذا هو الأجير. أنت تعرف. قال له، الأحمق الذي قبلك – قال له – لم يكن يعرف. قال له أحمق يا سيدي؟ أحمق؟ قال له أحمق. قال له أتعلم مَن كان؟ قال له مَن؟ قال له إبراهيم بن أدهم. قال له إبراهيم بن أدهم؟ وجعل يبكي، وقال يا حسرةً، أضعت هذا العبد الصالح! يا ساتر! قال أكبر بركة كانت عندي، وكان يُمكِن أن أتعلَّم منه وأصل إلى الله. لأنه لا يُصدِّق أن هناك أُناساً صادقين إلى هذه الدرجة. لم أذقه، لم أذقه! لم آكل منه، ولا أعرفه. صدق! تخيَّل.

فنسأل الله أن يجعلنا من الصادقين، وأن ينفعنا بصدقنا – إن شاء الله تبارك وتعالى -، يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۩.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: